تفسير سورة إبراهيم

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة إبراهيم
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك وهو الذي عليه الجمهور وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين وأخرج نحوه أبو الشيخ عن قتادة وقال الإمام : إذا لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام فنزولها بمكة والمدينة سواء إذ لا يختلف الغرض فيه إلا أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ فتظهر فائدته يعني أنه لا يختلف الحال وتظهر ثمرته إلا بما ذكر فان لم يكن ذلك فليس فيه إلا ضبط زمان النزول وكفى به فائدة هل في هذه السورة منسوخ أو لا قولان والجمهور على الثاني وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن فيها آية منسوخة وهي قوله تعالى :( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) فانه قد نسخت باعتبار الآخر بقوله تعالى في سورة النحل :( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ) وفيه نظر وهي إحدى وخمسون آية في البصري وقيل : خمسون فيه واثنان وخمسون في الكوفي وأربع في المدني وخمس في الشامي وارتباطها بالسورة التي قبلها واضح جدا لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان أنه مغن عما اقترحوه ما ذكر وافتتحت هذه بوصف الكتاب والإيماء إلى أنه مغن عن ذلك أيضا وإذا أريد ( بمن عنده علم الكتاب ) الله تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة وأيضا قد ذكر في تلك انزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك وصرح بها هنا وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله تعالى وتضمنت هذه الأخبار به من جهة الرسل عليهم السلام وأنهم قالوا : ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن الله وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن ( عليه توكلت ) وحكى هنا عن إخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في قوله سبحانه :( مثلا كلمة طيبة ) إلى آخره وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك ما ذكر وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ما ذكر أولا آيات وما ذكر ثانيا نعما وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة وذكر هنا أيضا وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك وأيضا قال الجلال السيوطي : إنه ذكر في
الأولى قوله تعالى :( ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم ) وذلك مجمل في أربعة مواضع الرسل والمستهزئين وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله سبحانه :( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح ) الآيات وقد اشتركت السورتان مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه بأن كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء وجمعا أيضا في آخر ما ختما به وبقى مناسبات بينهما غير ما ذكرنا لو ذكرناها لطال الكلام والله تعالى أعلم بما في كتابه الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ

﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم ألر ﴾ مر الكلام فيما يتعلق به ﴿ كتاب ﴾ جوز فيه أن يكون خبراً لألر على تقدير كونه مبتدأ أو لمبتدأ مضمر على تقدير كونه خبراً لمبتدأ محذوف أو مفعولاً لفعل محذوف أو مسروداً على نمط التعديد، وجوز أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي أخبر عنه بالر وأن يكون مبتدأ وسوغ به كونه موصوفاً في التقدير أي كتاب عظيم، وقوله تعالى :﴿ أنزلناه إِلَيْكَ ﴾ إما في موضع الصفة أو الخبر وهو مع مبتدآته قيل في موضع التفسير، وفي إسناد الإنزال إلى ضمي العظمة ومخاطبته عليه الصلاة والسلام مع إسناد الإخراج إليه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه :﴿ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ ما لا يخفى من التفخيم والتعظيم، واللام متعلقة ﴿ *بأنزلناه ﴾، والمراد من الناس جميعهم أي أنزلناه إليك لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند الله تعالى الكاشفة عن العقائد الحقة من عقائد الكفر والضلال وعبادة الله عز وجل من الآلهة المختلفة كالملاكئة وخواص البشر والكواكب والأصنام التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة إلى الحق المؤسس على التوحيد الذي هو نور بحت وقرىء ﴿ لّيُخْرِجَ ﴾ بالياء التحتانية في ﴿ يَخْرُجُ ﴾ ورفع ﴿ الناس ﴾ به ﴿ بِإِذْنِ رَبّهِمْ ﴾ أي بتيسيره وتوفيقه تعالى وهو مستعار من الاذن الذي يوجب تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود، ويجوز أن يكون مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم، وقال محيى السنة : إذنه تعالى أمره، وقيل : علمه وقيل : إرادته جل شأنه وهي ما قيل متقاربة، ومنع الإمام أن يراد بذلك الأمر أو العلم وعلله بما لا يخلو عن نظر. وفي الكلام على ما ذكر أولاً ثلاث استعارات. إحداها ما سمعت في الاذن والأخريان في ﴿ الظلمات ﴾ و ﴿ النور ﴾ وقد أشير إلى المراد منهما، وجوز العلامة الطيبي أن تكون كلها استعارة مركبة تمثيلية بتصوير الهدى بالنور والضلال بالظلمة والمكلف المنغمس في ظلمة الكفر بحيث لا يتسهل له الخروج إلى نور الايمان إلا بتفضل الله تعالى بإرسال رسول بكتاب يسهل عليه ذلك كمن وقع في تيه مظلم ليس منه خلاص فبعث ملك توقيعاً لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك فقيل : توقيعاً لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك فقيل :﴿ كِتَابٌ أنزلناه ﴾ إلى آخره، وكان الظاهر بإذننا إلا أنه وضع ذلك الظاهر موضع الضمير، وقيل :﴿ رَّبُّهُمْ ﴾ للإشعار بالتربية واللطف والفضل وبأن الهداية لطف محض، وفيه أن الكتاب والرسول والدعوة لا تجدي دون إذن الله تعالى كما قال سبحانه :
﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ] اه، وما ذكره من الاستعارة التمثيلية مع بلاغته وحسنه لا يخلو عن بعد، وكأنه للأنباء عن كون التيسير والتوفيق منوطين بالإقبال إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى :﴿ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مِنَ * أَنَابَ ﴾ [ الرعد : ٢٧ ] استعير لذلك الاذن الذي هو ما علمت، وأضيف إلى ضمير الناس اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه إليه، وشمول الاذن بذلك المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الإنزال لإخراجهم جميعاً، وعدم تحقق الاذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم ورداءة استعدادهم غير مخل بذلك، ومن هنا فساد قول القطبرسي : إن اللام لام الغرض لا لام العاقبة والإلزام أن يكون جميع الناس مؤمنين والواقع بخلافه، وذكر الإمام أن المعتزلة استدلوا بهذه الآية على أن أفعال الله تعالى تعلل برعاية المصالح، ثم ساق دليل أصحابه على امتناع ذلك وذكر أنه إذا ثبت الامتناع يلزم تأويل كل ما أشعر بخلافه وتأويله بحمل اللام على لام العاقبة ونحوها، ونقل عن ابن القيم. وغيره القول بالتعليل وأنه مذهب السلف وأن في الكتاب والنسة ما يزيد على عشرة آلاف موضع ظاهرة في ذلك وتأويل الجميع خروج عن الإنصاف، وليس الدليل على امتناع ذلك من المتانة على وجه يضطر معه إلى التويل، وللشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله كلام نفيس في هذا الغرض سالم فيما أرى عن العلة إن أردته فارجع إليه، والباء متعلقة بتخرج على ما هو الظاهر، وجوز أن يكون متعلقاً بمضمر وقع حالاً من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربهم، ومنهم من جوز كونه حالاً من فاعله أي ملتبساً بإذن ربهم. وتعقب بأنه يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه صلى الله عليه وسلم. ورود بما رد فتأمل. واستدل بالآية القائلون بأن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يخرج الناس من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وأجيب بأن الرسول عليه الصلاة والسلام كالمنبه وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل، واستدل بها أيضاً كل من المعتزلة وأهل السنة على مذهبه في أفعال العباد وتفضيل ذلك في تفسير الإمام.
﴿ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد ﴾ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى :﴿ إِلَى النور ﴾ وقال غير واحد : إن ﴿ صراط ﴾ بدل من ﴿ النور ﴾ وأعيد عامله وكرر لفظاً ليدل على البدلية كما في قوله تعالى :﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٧٥ ] ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير أجنبي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال.
واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لا يتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نوراً أولاً لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به، ثم جعل ثانياً جادة مسلوكة مأمونة لا كبنيات الطرق دلالة على تمام الإرشاد.
وفي الإرشاد أن إخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز وهو ظاهر، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقاً بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور ؟ فقيل :﴿ إلى صراط ﴾ إلى آخره، وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له، وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سالكه ويحمد سابله، وقال أبو حيان : النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه، وصفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر.
وقال الإمام : إنما قدم ذكر ﴿ العزيز ﴾ على ذكر ﴿ الحميد ﴾ لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه تعالى قادراً ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد اه ولم نر تفسير ﴿ الحميد ﴾ بما ذكر لغيره، وفي المواقف وشرح أسماء الله تعالى الحسنى لحجة الإسلام الغزالي وغيرهما أن ﴿ الحميد ﴾ هو المحمود المثنى عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلاً وبحمد عباده له تعالى أبداً، وبين هذا وما ذكره الإمام بعد بعيد، وأما ما ذكره في ﴿ العزيز ﴾ فهو قول لبعضهم ؛ وقيل : هو الذي لا مثل له.
وربما يقال على هذا : إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم : التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السميع البصير ﴾ [ الشورى : ١١ ] ولعل كلامه قدس سره بعد لا يخلو عن نظر.
( ومن باب الإشارة ) : في الآيات :﴿ الر كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ فيه احتمالات عندهم فقيل : من ظلمات الكثرة إلى نور الوحدة أو من ظلمات صفات النشأة إلى نور الفطرة، أو من ظلمات حجب الأفعال والصفات إلى نور الذات، وهو المراد بقولهم : النور البحت الخالص من شوب المادة والمدة. وقال جعفر : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات البدعة إلى نور السنة، ومن ظلمات النفوس إلى نور القلوب، وقال أبو بكر بن طاهر : من ظلمات الظن إلى نور الحقيقة وقيل غير ذلك ﴿ بِإِذْنِ رَبّهِمْ ﴾ بتيسيره بهبة الاستعداد وتهيئة أسباب الخروج إلى الفعل ﴿ إلى صِرَاطِ العزيز ﴾ الذي يقهر الظلمة بالنور
﴿ الحميد ﴾ [ إبراهيم : ١ ] بكمال ذاته أو بما يهب لعباده المستعدين من الفضائل والعلوم أو من الوجود الباقي أو نحو ذلك
وقوله تعالى :﴿ اللَّهِ ﴾ بالرفع على ما قرأ نافع. وابن عمر خبر مبتدأ محذوف أي هو الله والموصول الآتي صفته، وبالجر على قراءة باقي السبعة. والأصمعي عن نافع بدل مما قبله في قول ابن عطية : والحوفي. وأبي البقاء، وعطف بيان في قول الزمخشري قال : لأنه أجرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود بحق كما غلب النجم على الثريا، ولعل جعله جارياً مجرى ذلك ليس لاشتراطه في عطف البيان بل لأن عطف البيان شرطه إفادة زيادة إيضاح لمتبوعه وهي هنا بكونه كالعلم باختصاصه بالمعبود بحق وقد خرج عن الوصفية بذلك فليس صفة كالعزيز الحميد.
ثم أنه لا يخفى عليك أنه عند الأئمة المحققين علم لا أنه كالعلم، وعن ابن عصفور أنه لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان : أحدهما : أن تقدم الصفة وتبقيها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان : أحدهما : إعرابه نعتاً مقدماً. والثاني : أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً، والوجه الثاني : أن تضيف الصفة إلى الموصوف اه، وعلى هذا يجوز أن يكون ﴿ العزيز الحميد ﴾ [ ابراهيم : ١ ] صفتين متقدمتين ويعرب الاسم الجليل موصوفاً متأخراً، ومما جاء فيه تقديم ما لو أخر لكان صفة وتأخير ما لو قدم لكان موصوفاً قوله :
والمؤمن العائذات الطير يمسحها. . . ركبان مكة بين الغيل والسعد
فلو جاء على الكثير لكان التركيب والمؤمن الطير العائذات، ومثله قوله :
لو كنت ذا نبل وذا تشديب. . . لم أخش شدات الخبيث الذيب
وجوز في قراءة الرفع كون الاسم الجليل مبتدأ وقوله تعالى :﴿ الذى لَهُ ﴾ أي ملكاً وملكاً ﴿ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض ﴾ خبره وما تقدم أولى، فإن في الوصفية من بيان كمال فخامة شأن الصراط وإظهار تحتم سلوكه على الناس ما ليس في الخبرية، والمراد بما في السموات وما في الأرض ما وجد داخلاً فيهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما، ومن الناس من استدل بعموم ﴿ مَا ﴾ على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى كما ذكره الإمام، وقوله تعالى :﴿ وَوَيْلٌ للكافرين ﴾ وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور بالويل.
وهو عند بعض نقيض الوأل بالهمز بمعنى النجاة فمعناه الهلاك فهو مصدر إلا أنه لا يشتق منه فعل إنما يقال : ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال : ويل له كسلام عليك، وقال الراغب : قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر، وويس استصغتر، وويح ترحم، ومن قال : هو واد في جهنم لم يرد أنه في اللغة موضوع لذلك وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقراً من النار وثبت له ذلك، وقوله سبحانه :﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ في موضع الصفة لويل ولا يضر الفصل على ما في «البحر » وغيره بالخبر، وجوز أن يكون في موضع الحال على ما في الحواشي الهشابية و ﴿ مِنْ ﴾ بيانية، وجوز أن تكون ابتدائية على معنى أن الويل بمعنى عدم النجاة متصل بالعذاب الشديد وناشيء عنه، وقيل إن الجار متعلق : بويل على معنى أنهم يولولون من العذاب ويضجون منه قائلين يا ويلاه كقوله تعالى :
﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ *ثُبُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٣ ] ومنع أبو حيان وأبو البقاء ذلك لما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو لا يجوز، وقد مر قريباً في الرعد ما يتعلق بذلك فتذكر فما في العهد من قدم. وفي «الكشاف » أن ﴿ مِنْ عَذَابِ ﴾ الخ متصل بالويل على معنى أنهم يولولون إلى آخر ما ذكرنا، وهو محتمل لتعلقه به ولتعلقه بمحذوف، واستظهر هذا في «البحر ». وفي «الكشف » أن الزمخشري لما رأى أن الويل من الذنوب لا من العذاب كما يرشد إليه قوله تعالى :﴿ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ البقرة : ٧٩ ] وأمثاله أشار هنا إلى أن الاتصال معنوي لا من ذلك الوجه فإنه هناك جعل الويل نفس العذاب وهنا جعله تلفظهم بكلمة التلهف من شدة العذاب وكلاهما صحيح، ولم يرد أن هنالك فصلاً بالخبر لقرب ما مر في قوله تعالى :﴿ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [ الرعد : ٢٤ ] اه.
واعترض عليه بأنه لا حاجة لما ذكر من التكلف لأن اتصاله به ظاهر لا يحتاج إلى صرفه للتلفظ بتلك الكلمة، و ﴿ مِنْ ﴾ بيانية لا إبتدائية حتى يحتاج إلى ما ذكر، ولا يخفى قوة ذلك وأنه لا يحتاج إلى التكلف ولو جعلت ﴿ مِنْ ﴾ ابتدائية فتأمل، والظاهر أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الآخرة، وجوز أن يكون المراد عذاباً يقع بهم في الدنيا.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَوَيْلٌ للكافرين ﴾ المحجوبين ﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢ ] وهو عذاب الحرمان
﴿ الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الاخرة ﴾ أي يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليه من غيره، فالسين للطلب، والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والإيثار بعلاقة اللزوم في الجملة فلا يضر وجود أحدهما بدون الآخر كاختيار المريض الدواء المر لنفعه وترك ما يحبه ويشتهيه من الأطعمة اللذيذة لضرره، ولاعتبار التجوز عدى الفعل بعلى ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب بمعنى أجاب والفعل مضمن معنى الاختيار والتعدية بعلى لذلك ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ يعوقون الناس ويمنعونهم عن دين الله تعالى والإيمان به وهو الصراط الذي بين شأنه، والاقتصار على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لزوم الاختصار.
وقرأ الحسن ﴿ يَصِدُّونَ ﴾ من أصد المنقول من صده صدود إذا تنكب وحاد وهو ليس بفصيح بالنسبة إلى القراءة الأخرى لأن في صده مندوحة عن تكلف النقل ولا محذور في كون القراءة المتواترة أفصح من غيرها، ومن مجيء أصد قوله :
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم. . . صدود السواقي عن أنوف الحوائم
ونظير هذا وقفه وأوقفه ﴿ وَيَبْغُونَهَا ﴾ أي يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها ﴿ عِوَجَا ﴾ أي زيغاً واعوجاجاً وهي أبعد شيء عن ذلك أي يقولون لمن يريدون صده وإضلاله عن السبيل هي سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة، وقيل : المعنى يطلبون أن يروا فيها ما يكون عوجاً قادحاً فيها كقول من لم يصل إلى العنقود وليسوا بواجدين ذلك، وكلا المعنيين أنسب مما قيل : إن المعنى يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة. ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل كما قيل من ﴿ الكافرين ﴾ [ إبراهيم : ٢ ] فيعتبر كل وصف من أوصافهم بما يناسبه من المعاني المعتبرة في الصراط، فالكفر المنبىء عن الستر بإزاء كونه نوراً، واستحباب الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون مسلوكه محمود العاقبة، والصد عنه بإزاء كونه سالكه عزيزاً.
وقال الحوفي. وأبو البقاء : إنه صفة ﴿ الكافرين ﴾ ورد ذلك أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو ﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢ ] سواء كان في موضع الصفة لويل أو متعلقاً بمحذوف، ونظير ذلك على الوصفية قولك : الدار لزيد الحسنة القرشي وهو لا يجوز لأنك قد فصلت بين زيد وصفته بأجنبي عنهما، والتركيب الصحيح فيه أن يقال : الدار الحسنة لزيد القرشي أو الدار لزيد القرشي الحسنة، وقيل إذا جعل ﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢ ] خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية لا يضر الفصل بها وهو كما ترى، وجوز أن يكون محله النصب على الذم أو الرفع عليه بأن يقدر أنه كان نعتاً فقطع أي هم الذين، وجوز أن لا يقدر ذلك ويجعل مبتدأ خبره قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ فِى ضلال ﴾ أي بعد عن الحق ﴿ بَعِيدٍ ﴾ وهو على غير هذا الوجه استئناف في موضع التعليل، وفيه تأكيد لما أشعر به بناء الحكم على الموصول، والمراد أنهم قد ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل.
وفي الآية من المبالغة في ضلالهم ما لا يخفى حيث أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازاً كجد جده إلا أن الفرق بين ما نحن فيه وذاك أن المسند إليه في الأول مصدر غير المسند وفي ذاك مصدره وليس بينهما بعد.
ويجوز أن يقال : إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب إتصافه بما وصف به بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده وسبب بعده ضلاله لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه، فيكون كقولك : قتل فلاناً عصيانه، والإسناد مجازي وفيه المبالغة المذكورة أيضاً، وفي «الكشاف » هو من الإسناد المجازي والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله، ويجوز أن يراد في ضلال ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً، وكتب عليه في «الكشف » أن الإسناد المجازي على جعل البعد لصاحب الضلال لأنه الذي يتباعد عن طريق الضلال فوصف ضلاله بوصفه مبالغة وليس المراد إبعادهم في الضلال وتعمقهم فيه.
وأما قوله : فيجوز أن يراد في ضلال ذي بعد فعلى هذا البعد صفة للضلال حقيقة بمعنى بعد غوره وأنه هاوية لا نهاية لها، وقوله : أو فيه بعد على جعل الضلال مستقراً للبعد بمنزلة مكان بعيد عن الجادة وهو معنى بعده في نفسه عن الحق لتضادهما، وإليه الإشارة بقوله : لأن الضال قد يضل مكاناً بعيداً وقريباً، والغرض بيان غاية التضاد وأنه بعد لا يوازن وزانه، وعلى جميع التقادير البعد مستفاد من البعد المسافي إلى تفاوت ما بين الحق والباطل أو ما بين أهلهما وجاز أن يكون قوله : ذي بعد أو فيه بعد وجهاً واحداً إشارة إلى الملابسة بين الضلال والبعد لا بواسطة صاحب الضلال لكن الأول أولى تكثيراً للفائدة، ثم قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ فِى ضلال ﴾ دون أن يقول سبحانه : أولئك ضالون ضلالاً بعيداً للدلالة على تمكنهم فيه تمكن المظروف في الظرف وتصوير اشتمال الضلال عليهم اشتمال المحيط على المحاط وليكون كناية بالغة في إثبات الوصف أعني الضلال على الأوجه فافهم.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا ﴾ الحسية والصورية ﴿ على الاخرة ﴾ العقلية والمعنوية ﴿ وَيَصُدُّونَ ﴾ المريدين ﴿ عَن سَبِيلِ الله ﴾ طريقه الموصل إليه سبحانه :﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ [ إبراهيم : ٣ ] انحرافاً مع استقامتها
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا ﴾ أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إن شاء الله تعالى إجمالاً ﴿ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ ﴾ متلبساً ﴿ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ متكلماً بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولاً، وقيل : بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم، ولا ينتقض الحصر بلوط عليه السلام فإنه تزوج منهم وسكن معهم، وأما يونس عليه السلام فإنه من القوم الذين أرسل إليهم كما قالوه فلا حاجة إلى القول بأن ذلك باعتبار الأكثر الأغلب ولعل الأولى ما ذكرنا. وقرأ أبو السمال. وأبو الحوراء. وأبو عمران الجوني ﴿ بلسن ﴾ بإسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش، وقال صاحب اللوامح : إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب ابن عطية. وقرأ أبو رجاء. وأبو المتوكل. والجحدري ﴿ بلسن ﴾ بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرىء ﴿ بلسن ﴾ بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل ﴿ لِيُبَيّنَ ﴾ ذلك الرسول ﴿ لَهُمْ ﴾ لأولئك القوم الذين أرسل إليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشموله رسالته الأسود والأحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه صلى الله عليه وسلم عليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز مئنة لقدح القادحين، واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء المنافي للتكليف، وحصل البيان بالترجمة والتفسير اقتضت( ١ ) الحكمة المنبىء عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما فيه، ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين الأمم أجمعين، كذا قرره شيخ الإسلام الإسلام والمسلمين وهو من الحسن بمكان، بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي( ٢ ) صلى الله عليه وسلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم، والمراد من قومه صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم :
" انزل القرآن على سبعة أحرف " وفيه نظر ظاهر.
وقال ابن قتيبة : المراد منهم قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم، وقيل : إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : نزل القرآن بلغة مضر، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر سبعاً منهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش، وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نزل بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة فقيل : وكيف ؟ فقال : لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم ؛ وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال : نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن، ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن وسفى تميم يعني بني دارم، والذي يذهب مذهب السجستاني يقول : إن في القرآن ما نزل بلغة حمير. وكنانة. وجرهم. وأزد شنوءة. ومذحج. وخثعم. وقيس عيلان. وسعد العشيرة. وكندة. وعذرة. وحضرموت. وغسان. ومزينة. ولخم. وجذام. وحنيفة. واليمامة. وسبا. وسليم. وعمارة. وطي. وخزاعة. وعمان. وتميم. وأنمار. والأشعريين. والأوس. والخزرج. ومدين ؛ وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم، وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلاً لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط، والذاهب إلى ما ذهب إليه ابن قتيبة يقول : إن ما نسب إلى غير قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم، ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال : إنه نزل أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغتهم إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد، لكن أنت تعلم أن هذه الإباحة لم تستمر، وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة والسلام قريشاً مما لا أظن أن أحداً يمتري فيه ويليه في التبادر العرب. وفي «البحر » أن سبب نزول الآية أن قريشاً قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي ؟ وهذا إن صح ظاهر في العموم، ثم إنه لا يلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى الله عليه وسلم بهم، وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثة بالعرب لذلك، وحكمة إنزاله بلغتهم أظهر من أن تخفى، وقيل : الضمير في ﴿ قَوْمِهِ ﴾ لمحمد صلى الله عليه وسلم المعلوم من السياق فإنه كما أخرج ابن أبي عن سفيان الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه، وقيل : كان يترجم ذلك جبريل عليه السلام ونسب إلى الكلبي، وفيه أنه إذا لم يقع التبيين إلا بعد الترجمة فات الغرض مما ذكر، وضمير ﴿ لَهُمْ ﴾ للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة.
وفي «الكشاف » أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير ﴿ لَهُمْ ﴾ للقوم وهم العرب فيؤدي إلى أن الله تعالى أنزل التوراة مثلاً بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد.
وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم بدلالة السياق، والجواب كما في «الكشف » أنه لا يدفع عن الإيهام على خلاف مقتضى المقام. واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال : لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل، وقد دلت الآية على أن إرسال كل من الرسل لا يكون إلا بلغة قومه وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسول، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح انتهى.
وأجيب بأنا لا نسلم توقف التوقيف على إرسال الرسل لجواز أن يخلق الله تعالى في العقلاء علماً بأن الألفاظ وضعها واضع لكذا وكذا، ولا يلزم من هذا كون العاقل عالماً بالله تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علماً ضرورياً بأنه تعالى الواضع وأين هذا من ذاك، على أنه لا ضرر في التزام خلق الله تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء ؟ والقول بأنه يبطل التكليف حينئذٍ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيصه بالمعرفة مسلم وغير ضار ﴿ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء ﴾ إضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه، وقيل : يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف ﴿ وَيَهْدِى ﴾ يخلق الهداية أو يمنح الإلطاف ﴿ مَن يَشَآء ﴾ هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية إلى ذلك، والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما، والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى :﴿ فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت ﴾( ٣ ) [ البقرة : ٦٠ ] كأنه قيل : فبينوه لهم فأضل الله تعالى من شاء إضلاله وهدى من شاء هدايته حسبما اقتضته حكمته تعالى البالغة، والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من الفعلين على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان. وفي «الكشف » وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] على معنى أرسلنا الكتاب للتبيين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه، والفاء على هذا تفصيلية، والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم، وتقديم الإضلال على الهداية كما قال بعض المحققين إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتيب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء، وهذا محقق لما سلف من تقييد الإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ فلا يغالب في مشيئته تعالى ﴿ الحكيم ﴾ فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة، وفيه كما في «البحر » وغيره أن ما فوض إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه، وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات، وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع إليه.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ ﴾ أي بكلام يناسب حالهم واستعدادهم وقدر عقولهم والألم يفهموا فلا يحصل البيان، وعن عمر رضي الله تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ وفي أسرار التأويل لكل نبي وصديق اصطلاح في كلام المعرفة وطريق المحبة يخاطب به من يعرفه من أهل السلوك، وعلى هذا لا ينبغي للصوفي أن يخاطب العامة باصطلاح الصوفية لأنهم لا يعرفونه، وخطابهم بذلك مثل خطاب العربي بالعجمية أو العجمى بالعربية، ومنشأ ضلال كثير من الناس الناظرين في كتب القوم جهلهم باصطلاحاتهم فلا ينبغي للجاهل بذلك النظر فيها لأنها تأخذ بيده إلى الكفر الصريح بل توقعه في هوة كفر، كفر أبي جهل إيمان بالنسبة إليه، ومن هنا صدر الأمر السلطاني إذ كان الشرع معتنى به بالنهي عن مطالعة كتب الشيخ الأكبر قدس سره ومن انخرط في سلكه ﴿ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء ﴾ إضلاله لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها ﴿ وَيَهْدِى مَن يَشَاء ﴾ [ إبراهيم : ٤ ] هدايته ممن بقي على استعداده أو لم يرسخ فيه تلك الهيآت والاعتقادات
١ - قوله اقتضت الخ هكذا بخطه اهـ منه..
٢ - ادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم كل اللغات لعموم البعثة وإن كان لم يتكلم على خلاف بغير العربية فافهم ولا تغفل اهـ منه..
٣ - هكذا نظمها وجاء في أصل المؤلف (فانفلق) وهو غلط اهـ..
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى ﴾ شروع في تفصيل ما أجمل في قوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٤ ] الآية ﴿ بئاياتنا ﴾ أي ملتبساً بها وهي كما أخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد. وعطاء. وعبيد بن عمير الآيات التسع التي أجراها الله تعالى على يده عليه السلام، وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة ﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ ﴾ بمعنى أي أخرج فإن تفسيرية لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أو بأن أخرج فهي مصدرية حذف قبلها حرف الجر لأن أرسل يتعدى بالباء، والجار يطرد حذفه قبل أن وأن، واتصال المصدرية بالأمر أمر مر تحقيقه.
وزعم بعضهم أن ﴿ ءانٍ ﴾ هنا زائدة ولا يخفى ضعفه، والمراد من قومه عليه السلام كما هو الظاهر بنو إسرائيل ومن إخراجهم إخراجهم بعد مهلك فرعون ﴿ مِنَ الظلمات ﴾ من الكفر والجهالات التي كانوا فيها وأدت بهم إلى أن يقولوا :﴿ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ] ﴿ إِلَى النور ﴾ إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وسائر ما أمروا به، وقيل : أخرجهم من ظلمات النقص إلى نور الكماب ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ﴾ أي بنعمائه وبلائه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام، والعطف على ﴿ أَخْرَجَ ﴾ وجوز أن تكون الجملة مستأنفة، والالتفات من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنها والإشعار على ما قيل بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما يوهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم، وحاصل المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وعن ابن عباس أيضاً. والربيع. ومقاتل. وابن زيد المراد بأيام الله وقائعه سبحانه ونقماته في الأمم الخالية، ومن ذلك أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار. ويوم الفجار. ويوم قضة. وغيرها، واستظهره الزمخشري للغلبة العرفية وأن العرب استعملته للوقائع، وأنشد الطبرسي لذلك قول عمرو بن كلثوم :
وأيام لنا غرر طوال. . . عصينا الملك فيها إن ندينا
وأنشده الشهاب للمعنى السابق، وأنشد لهذا قوله :
وأيامنا مشهورة في عدونا. . . وأخرج النسائي. وعبد الله بن حمد في «زوائد المسند ». والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام في الآية بنعم الله تعالى وآلائه، وروى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس. ومجاهد، وجعل أبو حيان من ذلك بيت عمرو، واوظهر فيه ما ذكره الطبرسي.
وأنت تعلم أنه إن صح الحديث فعليه الفتوى، لكن ذكر شيخ الإسلام في ترجيح التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أولاً على ما روي ثانياً بأنه يرد الثاني ما تصدى له عليه السلام بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى بعد، وهو يبعد صحة الحديث، والقول بأن النقم بالنسبة إلى قوم نعم بالنسبة إلى آخرين كما قيل :
مصائب قوم عند قوم فوائد. . . مما لا ينبغي أن يلتفت إليه عاقل في هذا المقام. نعم إن قوله تعالى :﴿ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٦ ] ظاهر في تفسير الأيام بالنعم وما يستدعي غير ذلك ستسمع فيه أقوالاً لا يستدعيه على بعضها.
وزعم بعضهم أن المراد من قومه عليه السلام القبط ﴿ وَرَسُولِهِ والنور ﴾ الكفر والإيمان لا غير، وقيل : قومه عليه السلام القبط. وبنو إسرائيل وكان عليه السلام مبعوثاً إليهم جميعاً إلا أنه بعث إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله تعالى وأن لا يشركوا به سبحانه شيئاً، وإلى بني إسرائيل بذلك وبالتكليف بفروع الشريعة.
وقيل : هم بنو إسرائيل فقط إلا أن المراد من ﴿ الظلمات والنور ﴾ إن كانوا كلهم مؤمنين ظلمات ذل العبودية ونور عزة الدين وظهور أمر الله تعالى، ونحن نقول : نسأل الله تعالى أن يخرجنا وأهل هذه الأقوال من ظلمات الجهل إلى نور العلم ﴿ إِنَّ فِى ذَلِكَ ﴾ أي ذي التذكير بأيام الله تعالى أو في الأيام ﴿ لاَيَاتٍ ﴾ عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته، وهي على الأول الأيام، ومعنى كون التذكير ظرفاً لها كونه مناطاً لظهورها، وعلى الثاني كذلك أيضاً إلا أن كلمة ﴿ فِى ﴾ تجريدية أو هي عليه كل واحدة من النعماء والبلاء، والمشار إليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع، وجوز أن يراد بالأيام فيما سبق أنفسها المنطوية على النعم والنقم، فإذا كانت الإشارة إليها وحملت الآيات على النعماء والبلاء فأمر الظرفية ظاهر ﴿ لّكُلّ صَبَّارٍ ﴾ كثير الصبر على بلائه تعالى ﴿ شَكُورٍ ﴾ كثير الشكر لنعمائه عز وجل.
وقيل : المراد لكل مؤمن، فعلى الأول الوصفان عبارتان لمعنيين، وعلى هذا عبارة عن معنى واحد على طريق الكناية كحي مستوي القامة بادي البشرة في الكناية عن الإنسان، والتعبير عن المؤمن بذلك للإشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن الدال على ما في باطنه. والمراد على ما قيل لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الإيمان ويصير أمره إلى ذلك لا لمن اتصف به بالفعل لأن الكلام تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدي إلى تلك المرتبة، فإن من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على ما قبله من النعمة والنقمة وتنبه لعاقبة الصبر والشكر أو الإيمان لا يكاد يفارق ذلك وتخصيص الآيات بالصبار الشكور لأنه المنتفع بها لا لأنها خافية عن غيره فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل، وتقديم الصبر على الشكر لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر، وقيل : لأنه من قبيل التروك يقال : صبرت الدابة إذا حبستها بلا علف والشكر ليس كذلك فإنه كما قال الراغب تصور النعمة وإظهارها، قيل : وهو مقلوب الكشر أي الكشف، وقيل : أصله من عين شكرى أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه، وهو على ثلاثة أضرب : شكر القلب.
وشكر اللسان. وشكر الجوارح، وذكر أن توفية شكر الله تعالى صعبة، ولذلك لم يثن سبحانه بالشكر على أحد من أوليائه إلا على اثنين نوح( ١ ) وإبراهيم( ٢ ) عليهما السلام، وقد يكون انقسام الشكر على النعمة وعدم انقسام الصبر على النقمة وجهاً للتقديم والتأخير، وقيل : ذلك لتقدم متعلق الصبر أعني البلاء على متعلق الشكر أعني النعماء.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ﴾ وهي أيام وصاله سبحانه حين كشف لعباده سجف الربوبية في حضرة قدسية وأدناهم إلى جنابه ومن عليهم بلذيذ من خطابه :
سقياً لهم ولطيبها. . . ولحسنها وبهائها
أيام لم يلج النوى. . . بين العصا ولحائها
وما أحسن ما قيل :
وكانت بالعراق لنا ليال. . . سلبناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي. . . وعنوان المسرة والأماني
وأمره عليه السلام بتذكير ذلك لبثور غرامهم ويأخذ بهم نحو الحبيب هيامهم فقد قيل :
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى. . . يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
وجوز أن يراد بأيام الله تعالى أيام تجليه جل جلاله بصفة الجلال وتذكيرهم بذلك ليخافوا فيمتثلوا
﴿ إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [ إبراهيم : ٥ ] أي لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ الصبر والشكر على ما قيل مقامان للسالك قبل الوصول
١ - قال تعالى فيه (إنه كان عبدا شكورا) اهـ منه..
٢ - قال فيه (شاكرا لأنعمه اجتباه) اهـ منه..
﴿ وَإِذْ قَالَ موسى ﴾ شروع في بيان تصديه عليه السلام لما أمر به من التذكير للإخراج المذكور ﴿ وَإِذْ ﴾ منصوب على المفعولية عند كثير بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث لما مر غيره مرة أي اذكر لهم وقت قوله عليه السلام ﴿ لِقَوْمِهِ ﴾ الذين أمرناه بإخراجهم من الظلمات إلى النور ﴿ اذكروا نِعْمَةَ الله ﴾ تعالى الجليلة ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ وبدأ عليه السلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهي إليه أميل، وقيل : بدأ بهذا الأمر لما بينه وبين آخر الكلام السابق من مزيد الربط، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير أن يكون عليه السلام مأموراً بالترغيب والترهيب، أما إذا كان مأموراً بالترغيب فقط فلا سؤال، والظرف متعلق بنفس النعمة إن جعلت مصدراً بمعنى الإنعام أو بمحذوف وقع حالاً منها إن جعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم أو نعمته كائنة عليكم، و ﴿ إِذْ ﴾ في قوله سبحانه :﴿ إِذْ انجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ ﴾ يجوز أن يتعلق بالنعمة أيضاً على تقدير جعلها مصدراً أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائكم، ويجوز أن يتعلق بكلمة ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ إذا كانت حالاً لا ظرفاً لغواً للنعمة لأن الظرف المستقر لنيابته عن عامله يجوز أن يعمل عمله أو هو على هذا معمول لمتعلقه كأنه قيل : اذكروا نعمة الله تعالى مستقرة عليكم وقت إنجائكم، ويجوز أن يكون بدل اشتمال من نعمة الله مراداً بها الإنعام أو العطية المنعم بها ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ يبغونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وأصل السوم كما قال الراغب الذهاب في طلب الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والطلب فأجرى مجرى الذهاب في قولهم : سامت الإبل فهي سائمة، ومجرى الطلب في قولهم : سمته كذا ﴿ سُوء العذاب ﴾ مفعول ثاني ليسومونكم والسوء مصدر ساء يسوء، والمراد جنس العذاب السيء أو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك.
وفي «أنوار التنزيل » أن المراد بالعذاب ههنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى :﴿ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ ﴾ ههنا، وفيه إشارة إلى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة، وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك، والعذاب إن كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم السلام تنبيهاً على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس، وإن كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف، وقد جوز أهل المعاني أن يكونا بمعنى في الجميع وذكر الثاني للتفسير، وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى بالمراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضاً، وسبب هذا التذبيح أن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة.
أنه سيولد لبني إسرائيل من يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلم يغن عنهم من قضاء الله تعالى شيئاً. وقرأ ابن محيصن ﴿ وَيُذَبّحُونَ ﴾ مضارع ذبح ثلاثياً. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنه حذف الواو ﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ أي يبقونهن في الحياة مع الذل، ولذلك عد من جملة البلاء أو لأن إبقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :
ومن أعظم الرزي فيما أرى. . . بقاء البنات وموت البنينا
والجمل أحوال من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعاً لأن فيها ضمير كل منهما، ولا اختلاف في العامل لأنه وإن كان في آل فرعون من في الظاهر لكنه لفظ ﴿ أَنجَاكُمْ ﴾ في الحقيقة، والاقتصار على الاحتمالين الأولين هنا وتجويز الثلاثة في سورة البقرة كما فعل البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله لا يظهر وجهه.
﴿ وَفِى ذلكم ﴾ أي فيما ذكرنا من الأفعال الفظيعة ﴿ بَلاء مِّن رَّبّكُمْ ﴾ أي ابتلاء منه تعالى لأن البلاء عين تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل ﴿ فِى ﴾ تجريدية فنسبته إلى الله تعالى إما من حيث الخلق وهو الظاهر أو الإقدار والتمكين، ويجوز أن يكون المشار إليه الإنجاء من ذلك والبلاء الابتلاء بالنعمة فإنه يكون بها كما يكون بالمحنة قال تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] وقال زهير :
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم. . . فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وهو الأنسب بصدر الآية، ويلوح إليه التعرض لوصف الربوبية، وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاء أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربية له ونفع في الحقيقة ﴿ عظِيمٌ ﴾ لا يطلق حمله أو عظيم الشأن جليل القدر.
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ﴾ داخل في مقول موسى عليه السلام لا كلام مبتدأ، وهو معطوف على نعمة الله أي اذكروا نعمة الله تعالى عليكم واذكروا حين تأذن ربكم أي آذن إيذاناً بليغاً وأعلم إعلاماً لا يبقى معه شبهة لما في صيغة التفعل من معنى التكلف المحمول في حقه تعالى لاستحالة حقيقته عليه سبحانه على غايته التي هي الكمال، وجوز عطفه على ﴿ إِذْ أَنجَاكُمْ ﴾ أي اذكروا نعمته تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذن أيضاً نعمة من الله تعالى عليهم لما فيه من الترغيب والترهيب الباعثين إلى ما ينالون به خيري الدنيا والآخرة، وفي قراءة ابن مسعود ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ ﴾ ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ ﴾ ما خولتكم من نعمة الإنجاء من إهلاك وغير ذلك وقابلتموه بالإيمان أو بالثبات عليه أو الإخلاص فيه والعمل الصالح ﴿ لازِيدَنَّكُمْ ﴾ أي نعمة إلى نعمة فإن زيادة النعمة ظاهرة في سبق نعمة أخرى، وقيل : يفهم ذلك أيضاً من لفظ الشكر فإنه دال على سبق النعم فليس الزيادة لمجرد الاحداث، والظاهر على ما قيل إن هذه الزيادة في الدنيا، وقيل : يحتمل أن تكون في الدنيا وفي الآخرة وليس ببعيد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب، وعن الحسن. وسفيان الثوري أن المعنى لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من طاعتي، والكل خلاف الظاهر. وذكر الإمام أن حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه، وبيان زيادة النعم به أن النعم منها روحانية ومنها جسمانية والشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه وذلك يوجب تأكد محبة الله تعالى المحسن عليه بذلك ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين، ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يكون حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة وهذه أعلى وأغلى فثبت من هذا أن الاشتغال بالشكر يوجب زيادة النعم الروحانية، وكونه موبجاً لزيادة النعم الجسمانية فللاستقراء الدال على أن كل من كان اشتغاله بالشكر أكثر كان وصول النعم إليه أكثر وهو كما ترى ﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ ذلك وغمطتموه ولم تشكروه كما تدل عليه المقابلة، وقيل : المراد بالكفر ما يقابل الإيمان كأنه قيل : ولئن أشركتم ﴿ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ ﴾ فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم، ومن عادة الكرام غالباً التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد فما ظنك بأكرم الأكرمين، فلذا لم يقل سبحانه : إن عذابي لكم لأعذبنكم كما قال جل وعلا :﴿ لازِيدَنَّكُمْ ﴾.
وجوز أن يكون المذكور تعليلاً للجواب المحذوف أي لأعذبنكم، وبين الإمام وجه كون كفران النعم سبباً للعذاب أنه لا يحصل الكفران إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى ؛ والجاهل بذلك جاهل بالله تعالى والجهل به سبحانه من أعظم أنواع العذاب.
والآية مما اجتمع فيها القسم والشرط فالجواب ساد مسد جوابيهما، والجملة إما مفعول لتأذن لأنه ضرب من القول أو مفعول قول مقدر منصوب على الحال ساد معموله مسده أي قائلاً لئن شركتم الخ، وهذان مذهبان مشهوران للكوفية والبصرية في أمثال ذلك.
واستدل بالآية على أن شكر المنعم واجب وهو مما أجمع عليه السنيون والمعتزلة إلا أن الأولين على وجوبه شرعاً والآخرين على وجوبه عقلاً، وهو مبني على قولهم بالحسن والقبح العقليين، وقد هد أركانه أهل السنة، على أنه لو قيل به لم يكد يتم لهم الاستدلال بذلك في هذا المقام كما بين في محله.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٧ ] قال الجوزجاني : أي لئن شكرتم الإحسان لأزيدنكم المعرفة ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس، ويعم ذلك كله ما قيل : لئن شكرتم نعمة لأزيدنكم نعمة خيراً منها، وللشكر مراتب وأعلا مراتبه الإقرار بالعجز عنه.
وفي بعض الآثار أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك ؟ فأوحى الله تعالى إليه الآن شكرتني يا داود، وقال حمدون : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيلياً.
﴿ وَقَالَ مُوسَى ﴾ لهم :﴿ إِن تَكْفُرُواْ ﴾ نعمه سبحانه ولم تشكروها ﴿ أَنتُمْ ﴾ يا بني إسرائيل ﴿ وَمَن فِى الارض ﴾ من الناس وقيل من الخلائق ﴿ جَمِيعاً ﴾ لم يتضرر هو سبحانه وإنما يتضرر من يكفر ﴿ فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ ﴾ عن شكركم وشكرهم ﴿ حَمِيدٌ ﴾ مستوجب للحمد بذاته تعالى لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمده أحد أو محمود تحمده الملائكة عليهم السلام بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده، والحمد حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدل على كماله جل وعلا، وهو تعليل لما حذف من جواب ﴿ إِن تَكْفُرُواْ ﴾ كما أشرنا إليه، ثم إن موسى عليه السلام بعد أن ذكرهم أولاً بنعمائه تعالى عليهم صريحاً وضمنه بذكر ما أصابهم من الضراء، وأمرهم ثانياً بذكر ما جرى منه سبحانه من الوعد بالزيادة على الشكر والوعيد بالعذاب على الكفر وحقق لهم مضمون ذلك، وحذرهم من عند نفسه عن الكفران ثالثاً لما رأى منهم ما يوجب ذلك شرع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الدارجة فقال :
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ ليتدبروا ما أصاب كل واحد من حزبي المؤمن والكافر فيتم له عليه السلام مقصوده منهم. وجوز أن يكون من تتمة قوله عليه السلام :﴿ إِن تَكْفُرُواْ ﴾ [ إبراهيم : ٨ ] الخ على أنه كالبيان لما أشير إليه في الجواب من عود ضرر الكفران على الكافر دونه عز وجل، وقيل : هو من كلامه تعالى جىء تتمة لقوله سبحانه :﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٧ ] الخ وبياناً لشدة عذابه ونقل كلام موسى عليه السلام معترض في البين وهو كما ترى، وقيل : هو ابتداء كلام منه تعالى مخاطباً به أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد ما ذكر إرساله عليه الصلاة والسلام بالقرآن وقص عليهم من قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع أمته ولعل تخصيص تذكيرهم بما أصاب أولئك المعدودين مع قرب غيرهم إليهم للإشارة إلى أن إهلاكه تعالى الظالمين ونصره المؤمنين عادة قديمة له سبحانه وتعالى، ومن الناس من استبعد ذلك.
﴿ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ بدل من الموصول أو عطف بيان ﴿ وَعَادٌ ﴾ معطوف على قوم نوح ﴿ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ ﴾ أي من بعد هؤلاء المذكورين عطف على قوم نوح وما عطف عليه، وقوله تعالى :﴿ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله ﴾ اعتراض أو الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره وجملة المبتدأ وخبره اعتراض، والمعنى على الوجهين أنهم( ١ ) من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ومعنى الاعتراض على الأول ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها إن في ذلك لمعتبراً، وعلى الثاني هو ترق ومعناه ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى عددهم كأنه يقال : دع التفصيل فإنه لا مطمع في الحصر، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل ولذا جعله الزمخشري أول الوجهين، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : بين عدنان وإسماعيل عليه السلام ثلاثون أباً لا يعرفون، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمها عن العباد أظهر فيه على ما قيل.
ومن هنا يعلم أن ترجيح الطيبي الوجه الأول بما رجحه به ليس في محله : واعترض أبو حيان القول بالاعتراض بأنه لا يكون إلا بين جزئين يطلب أحدهما الآخر وما ذكر ليس كذلك، ومنع بأن بين المعترض بينهما ارتباطاً يطلب به أحدهما الآخر لأنه يجوز أن تكون الجملة الآتية حالاً بتقدير قد والاعتراض يقع بين الحال وصاحبها، فليس ما ذكر مخالفاً لكلام النحاة، ولو سلم أنها ليست بحالية فما ذكروه هنا على مصطلح أهل المعاني وهم لا يشترطون الشرط المذكور، حتى جوزوا أن يكون الاعتراض في آخر الكلام كما صرح به ابن هشام في «المغني »، مع أن الجملة الآتية مفسرة لما في الجملة الأولى فهي مرتبطة بها معنى، واشتراط الارتباط الإعرابي عند النحاة غير مسلم أيضاً فتأمل.
وجعل أبو البقاء جملة ﴿ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله ﴾ على تقدير عطف الموصول على ما قبل حالاً من الضمير في ﴿ مّن بَعْدِهِمْ ﴾. وجوز الاستئناف، ولعله أراد بذلك الضمير المستقر في الجار والمجرور لا الضمير المجرور بالإضافة لفقد شرط مجىء الحال منه، وجوز على تقدير كون الموصول مبتدأ كون تلك الجملة خبراً وكونها حالاً والخبر قوله تعالى :﴿ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم ﴾ والكثير على أنه استئناف لبيان نبئهم ﴿ بالبينات ﴾ بالمعجزات الظاهرة، فبين كل رسول منهم لأمته طريق الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور ﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به ﴿ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾ أي على زعمكم، وهي البينات التي أظهروها حجة على صحة رسالتهم.
ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم أو الكتب والشرائع، وحاصله أنهم أشاروا إلى جوابهم هذا كأنهم قالوا : هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق، وهذا كما يقع في كلام الخاطبين أنهم بشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه أو يقرونه قم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب، فضمير ﴿ أَيْدِيهِمْ ﴾ إلى الكفار، والأيدي على حقيقتها، والرد مجاز عن الإشارة وهي تحتمل المقارنة والتقدم والتأخر، وقال أبو صالح : المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك للرسل عليهم السلام أن يكفوا ويسكتوا عن كلامهم كأنهم قالوا : اسكتوا فلا ينفعكم الإكثار ونحن مصرون على الكفلا لا نقلع عنه :
فكم أنا لا أصغي وأنت تطيل. . . فالضميران للكفار أيضاً وسائر ما في النظم على حقيقته.
وأخرج ابن المنذر. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن المراد أنهم عضوا أيديهم غيظاً من شدة نفرتهم من رؤية الرسل وسماع كلامهم، فالضميران أيضاً كما تقدم، واليد والفم على حقيقتهما، والرد كناية عن العض، ولا ينافي الحقيقة كون المعضوض الأنامل كما في قوله تعالى :﴿ خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ ﴾ [ آل عمران : ١١٩ ] فإن من عض موضعاً من اليد يقال حقيقة إنه عض اليد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم تعجباً مما جاء به الرسل عليهم السلام، وهذا كما يضع من غلبه الضحك يده على فيه، فالضميران وسائر ما في النظم كما في القول الثاني، وجوز أن يرجع الضمير في ﴿ أَيْدِيهِمْ ﴾ إلى الكفار وفي ﴿ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ إلى الرسل عليهم السلام، وفيه احتمالان. الأول أنهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل عليهم السلام أن اسكتوا، والآخر أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل عليهم السلام منعاً لهم من الكلام.
وروي هذا عن الحسن، والكلام يحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون استعارة تمثيلية بأن يراد برد أيدي القوم إلى أفواه الرسل عليهم السلام عدم قبول كلامهم واستماعه مشبها بوضع اليد على فم المتكلم لاسكاته.
وظاهر ما في البحر يقتضي أنه حقيقة حيث قال : إن ذلك أبلغ في الرد واذهب في الاستطاله على الرسل عليهم السلام والنيل منهم، وان يكون الضمير في ﴿ أَيْدِيهِمْ ﴾ للكفار وضمير ﴿ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ للرسل عليهم السلام.
والأيدي جمع يد بمعنى النعمة أي ردوا نعم الرسل عليهم السلام التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والأحكام في أفواههم، ويكون ذلك مثلاً لردها وتكذيبها بأن بأن يشبه رد الكفار ذلك برد الكلام الخارج من الفم فقيل : ردوا أيديهم أي مواعظهم في أفواههم والمراد عدم قبولها، وقيل : المراد بالأيدي النعم والضمير الأول للرسل عليهم السلام أيضاً لكن الضمير الثاني للكفار على معنى كذبوا ما جاؤوا به بأفواههم أي تكذيباً لا مستند له، ﴿ وَفِى ﴾ بمعنى الباء، وقد أثبت الفراء مجيئها بمعناها وأنشد :
وأرغب فيها( ٢ ) عن لقيط ورهطه. . . ولكنني عن سنبس لست أرغب
وضعف حمل الأيدي على النعم بأن مجيئها بمعنى ذلك قليل في الاستعمال حتى أنكره بعض أهل اللغة وإن كان الصحيح خلافه، والمعروف في ذلك الأيادي كما في قوله :
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي. . . أيادي لم تمنن وان هي جلت
وبأن الرد والأفواه يناسب إرادة الجارحة، وقال أبو عبيدة الضميران للكفار والكلام ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للجرل إذا سكت عن الجواب وأمسك رديده في فيه، ومثله عن الأخفش.
وتعقبه القتبى بأنا لم نسمع أحداً من العرب يقول رد فلان يده في فيه إذا سكت وترك ما أمر به، وفيه أنهما سمعا ذلك ومن سمع حجة على من لم يسمع، قال أبو حيان : وعلى ما ذكراه يكون ذلك من مجاز التمثيل كأن الممسك عن اجلواب الساكت عنه وضع يده على فيه. ورده الطبري بأنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا :﴿ إِنَّا كَفَرْنَا ﴾ إلى آخره. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون مراد القائل أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضى الذي يقتضيه مجيء الرسل عليهم السلام إليهم بالبينات وهو الاعتراف والتصديق، وقال ابن عطية : الضميران للكفار ويحتمل أن يتجوز في الأيدي ويراد منها ما يشمل أنوا المدافعة، والمعنى ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي إلى ما قالوا بأفواههم من التكذيب، وحاصله أنهم لم يجدوا ما يدفعون به كلام الرسل عليهم السلام سوى التكذيب المحض، وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي إذ هي موضع أشد المدافعة والمرادّة.
وقيل : المراد أنهم جعلوا أيديهم في محل ألسنتهم على معنى أنهم آذوا الرسل عليهم السلام بألسنتهم نحو الإيذاء بالأيدي، والذي يطابق المقام وتشهد له بلاغة التنزيل هو الوجه الأول، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل عليهم السلام كل الإنكار جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول، ولذا أتى بالفاء تنبيهاً على أنهم لم يمهلوا بل عقبول دعوتهم بالتكذيب وصدروا الجملة بإن، ويلي ذلك على ما في الكشف الوجه الثاني ولا يخفى ما في أكثر الوجوه الباقية فتأمل ﴿ وَإِنَّا لَفِى شَكّ ﴾ عظيم ﴿ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ ﴾ من الإيمان والتوحيد، وبهذا وتفسير ﴿ مَا * أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾ بما ذكر أولاً يندفع ما يتوهم من المنافاة بين جزمهم بالكفر وشكهم هذا، وقيل في دفع ذلك على تقدير كون متعلقي الكفر والشك واحداً : إن الواو بمعنى أو أي أحد الأمرين لازم وهو أنا كفرنا جزماً بما أرسلتم به فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه ؛ وأياً ما كان فلا سبيل إلى الإقرار والتصديق، وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه فكفرنا بمعنى لم نصدق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك لا ينافي الشك. وفي البحر أنهم بادروا أولاً إلى الكفر وهو التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في شك وهو التردد كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد أو هما قولان من طائفتين طائفة بادرت بالتكذيب والكفر وأخرى شكت، والشك في مثل ما جاءت به الرسل عليهم السلام كفر، وهذا أولى من قرينه، وقرأ طلحة ﴿ مّمَّا تَدْعُونَا ﴾ بادغام نون الرفع في نون الضمير كما تدغم في نون الوقاية في نحو ﴿ أتحاجوني ﴾ [ الأنعام : ٨٠ ] ﴿ مُرِيبٍ ﴾ أي موقع في الريبة من أرابني بمعنى أوقعني في ريبة أو ذي ريبة من أراب صار ذا ريبة، وهي قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشيء، وهو صفة توكيدية.
١ - إلا أن مرجع الضمير في أنهم مختلف اهـ منه..
٢ - يعني بنتا له ولقيط اسم رجل ورهطه قبيلته وسنبس قبيلة أيضا اهـ منه..
﴿ قالت رُسُلُهُمْ ﴾ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقام كأنه قيل : فإذا قالت لهم رسلهم حين قابلوهم بما قابلوهم به ؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء :﴿ أَفِى الله شَكٌّ ﴾ بتقديم الظرف وإدخال الهمزة عليه للإيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيمن لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلاً، ولولا هذا القصد لجاز تقديم المبتدأ، والقول بأنه ليس كذلك خطأ لأن وقوع النكرة بعد الاستفهام مسوغ للابتداء بها وهو مما لا شك فيه، وكون ذلك المؤخر مبتدأ غير متعين بل الأرجح كونه فاعلاً بالظرف المعتمد على الاستفهام كما ستعلم إن شاء الله تعالى، والكلام على تقدير مضاف على ما قيل أي أفي وحدانية الله تعالى شك، بناء على أن المرسل إليهم لم يكونوا دهرية منكرين للصانع بل كانوا عبدة أصنام، وقيل : يقدر في شأن الله ليعم الوجود والوحدة لأن فيهم دهرية ومشركين. وقيل : يقدر حسب المخاطبين وتقدير الشأن مطلقاً ذو شأن، وفي عدم تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : أأنتم في شك مريب من الله تعالى مبالغة في تنزيه ساحة الجلال عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه تعالى شأنه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلى حتى تكونوا من قبله سبحانه في شك عظيم مريب، وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قولهم :﴿ إِنَّا كَفَرْنَا ﴾ [ إبراهيم : ٩ ] إلى آخره واقتصروا على بيان ما هو الغاية القصوى، وقد يقال : إنهم عليهم السلام قد اقتصروا على انكار ما ذكر لأنه يعلم منه إنكار وقوع الجزم بالكفر به سبحانه من باب أولى.
﴿ فَاطِرَ السماوات والارض ﴾ أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق ما أنتم في شك منه.
وفي الآية كما قيل إشارة إلى دليل التمانع. وجر ﴿ فَاطِرَ ﴾ على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له. وحيث كان ﴿ شَكٌّ ﴾ فاعلاً بالظرف وهو كالجزء من عامله لا يعد أجنبياً فليس هناك فصل بين التابع والمتبوع بأجنبي وبهذا رجحت الفاعلية على المبتدئية لأن المبتدأ ليس كذلك. نعم إلى الابتدائية ذهب أبو حيان وقال : إنه لا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ فيجوز أن تقول : في الدار زيد الحسنة وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ﴿ فَاطِرَ ﴾ نصباً على المدح. ثم إنه بعد أن أشير إلى الدليل الدال على تحقق ما هم في شك منه نبه على عظم كرمه ورحمته تعالى فقيل :﴿ يَدْعُوكُمْ ﴾ أي إلى الإيمان بإرساله ايانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهم قولكم
﴿ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ ﴾ [ إبراهيم : ٩ ] ﴿ لِيَغْفِرَ لَكُمْ ﴾ بسببه، فالمدعو إليه غير المغفرة. وتقدير الإيمان لقرينة ما سبق. ويحتمل أن يكون المدعو إليه المغفرة لا لأن اللام بمعنى إلى فإنه من ضيق العطن بل لأن معنى الاختصاص ومعنى الانتهاء كلاهما واقعان في حاق الموقع فكأنه قيل : يدعوكم إلى المغفرة لأجلها لا لغرض آخر. وحقيقته ان الأغراض غايات مقصودة تفيد معنى الانتهاء وزيادة قاله : في الكشف، وهذا نظير قوله :
دعوت لما نابني مسورا. . . فلبي( ١ ) فلبى يدي مسور
﴿ مّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم :«إن الإسلام يهدم ما قبله » أنه يرفع ما قبله مطلقاً حتى المظالم وحقوق العباد، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٧١ ] بدون من، و ﴿ مِنْ ﴾ هنا ذهب أبو عبيدة. والأخفش إلى زيادة ﴿ مِنْ ﴾ فيما هي فيه، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق، وقيل : هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي.
وجوز أيضاً أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعاً. ورد الإمام الأول بأن ﴿ مِنْ ﴾ لا تأتي للبدل، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبي عبيدة. والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر، ولو قال : إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى. وفي البحر يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعدا بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتاً عنه باقياً تحت المشيئة في الآية والحديث، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضاً على معنى إنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر واما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة، واستطيب ذلك الطيبي قال : والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه :﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ فَاطِرِ * السموات والارض *يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ كأنه قيل : أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له، وقد ورد
﴿ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] و ﴿ مَا ﴾ للعموم سيما في الشرط، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض، والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر، ويؤيده ما روى أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى فنزلت ﴿ قُلْ يا عِبَادِى * الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] الآية، وقصة وحشي مشهورة، وجرح ذلك القاضي فقال : إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر وإنما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث إنه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا يكون شيء منها مغفوراً، ثم قال : وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسي بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور إلا ما ذكره وتاب منه اه. ولو سمع الأصم هذا التوجيه لأحذ ثأره من القاضي فإنه لعمري توجيه غير وجيه ؛ ولو أن أحداً سخم وجه القاضي لسخمت وجهه، وقال الزمخشري : إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي ﴿ مّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ وفي المؤمنين ﴿ ذُنُوبَكُمْ ﴾ وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى في الميعاد بين الفريقين.
وحاصلة على ما في الكشف أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضاً آخر لا يغفر فإنه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به، كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل واإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان. وفيه أيضاً أن هذا معنى حسن لا تكلف فيه.
واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجيء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الأنفال ( ٣٨ ) / في قوله سبحانه :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ وأجيب بأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لا مطلق ما كان بمعناه ولذا أسند الأمر إلى الاستقراء، ومثل الزمخشري لا يخفى عليه ما أورد ولا يلزم رعاية هذه النكتة في جميع المواد، وذكر البيضاوي في وجه التفرقة بين الخطابين ما حاصله لعل المعنى ذلك أنها لما ترتبت المغفرة في خطاب الكفرة على الإيمان لزمن فيه ﴿ مِنْ ﴾ التبعيضية لإخراج المظالم لأنها غير مغفورة، وأما في خطاب المؤمنين فلما ترتب على الطاعة واجتناب المعاصي التي من جملتها المظالم لم يحتج إلى ﴿ مِنْ ﴾ لإخراجها لأنها خرجت بما رتبت عليه، وهو مبني على خلاف ما صححه المحدثون، وينافيه ما ذكره في تفسير ﴿ مّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ في سورة نوح عليه السلام ( ٤ ) ؛ ومع ذا أورد عليه قوله تعالى :
﴿ قَالَ ياقوم إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ نوح : ٢ ٤ ] حيث ذكرت ﴿ مِنْ ﴾ مع ترتيب المغفرة على الطاعة واجتناب المعاصي الذي أفاده ﴿ اتقوا ﴾ وقوله تعالى :﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة ﴾ [ الصف : ١٠ ] الآية لعدم ذكر ﴿ مِنْ ﴾ مع ترتبها على الإيمان، والجواب بأنه لا ضمير إذ يكفي ترتيب ذلك على الإيمان في بعض المواد فيحمل مثله على أن القصد إلى ترتيبه عليه وحده بقرينة ذلك البعض وما ذكر معه يحمل على الأمر به بعد الإيمان أدنى من أن يقال فيه ليس بشيء، وبالجملة توجيه الزمخشري أوجه مما ذكره البيضاوي فتأمل وتذكر.
﴿ وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان ولا يعاجلكم بعذاب الاستئصال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمتعكم في الدنا باللذات والطيبات إلى الموت، ولا يلزم مما ذكر القول بتعدد الأجل كما يزعمه المعتزلة، وقد مر تحقيق ذلك ﴿ قَالُواْ ﴾ استئناف كما سبق آنفاً ﴿ إِنْ أَنتُمْ ﴾ ما أنتم ﴿ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ﴾ من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من الرسالة. والزمخشري تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك ﴿ تُرِيدُونَ ﴾ صفة ثانية لبشر حملاً على المعنى كقوله تعالى :﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ أو كلام مستأنف أي تريدون بما أنتم عليه من الدعوة والإرشاد ﴿ أَن تَصُدُّونَا ﴾ [ التغابن : ٦ ] بما تدعونا إليه من التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى ﴿ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ﴾ عما استمر على عبادته آباؤنا من غير شيء يوجبه. وقرأ طلحة ﴿ أَن تَصُدُّونَا ﴾ بتشديد النون، وخرج على جعل أن مخففة من الثقيلة وتقدير فاصل بينها وبينالفعل أي أنه قد تصدونا، وقد جاء مثل ذلك في قوله :
علموا أن يؤملون فجادوا. . . قبل أن يسألوا بأعظم سؤل
والأولى أن يخرج على أن ﴿ ءانٍ ﴾ هي الثنائية التي تنصب المضارع لكنها لم تعمل كما قيل : في قوله تعالى :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] في قراءة الرفع حملا لها على أختها ﴿ مَا ﴾ المصدرية كما عملت ﴿ مَا ﴾ حملا عليها فيما ذكره بعضهم في قوله :
أن تقرآن على أسماء ويحكما. . . مني السلام وأن لا تشعرا أحداً
﴿ فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ ﴾ أي إن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلاً من قبله تعالى كما تدعون فأتونا بما يدل على صحة ما تدعونه من الرسالة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد، أو على فضلكم واستحقاقكم لتلك المرتبة.
قال ابن عطية : إنهم استعبدوا إرسال البشر فأرادوا حجة عليه، وقيل : بل إنهم اعتقدوا محاليته وذهبوا مذهب البراهمة وطلبوا الحجة على جهة التعجيز أي بعثكم محال وإلا فأتوا بسلطان مبين أي إنكم لا تفعلون ذلك أبداً. وهو خلاف الظاهر، وهطا الطلب كان بعد إتيانهم عليهم السلام لهم من الآيات الظاهرة والبينات
١ - والمعنى دعوته فأجابني فكان مجابا دعا له بأن يكون مجابا كما كان مجيبا، وكتب ابن حبيب الكاتب لبى الأول بالألف للتمييز اهـ منه..
﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ ﴾ مجاراة لأول مقالتهم :﴿ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ﴾ كما تقولون وهذا كالقول بالموجب لأن فيه إطماعاً في الموافقة ثم كر إلى جانبهم بالإبطال بقولهم عليهم السلام :﴿ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ أي إنما اختصنا الله تعالى بالرسالة بفضل منه سبحانه وامتنان، والبشرية غير مانعة لمشيئته جل وعلا، وفيه دليل على أن الرسالة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئته تعالى، ولا يخفى ما في العدول عن ولكن الله من علينا إلى ما في النظم الجليل من التواضع منهم عليهم السلام، وقيل : المعنى ما نحن من الملائكة بل نحن بشر مثلكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله تعالى يمن على من يشاء بالفضائل والكمالات والاستعدادات التي يدور عليها فلك الاصطفاء للرسالة، وفي هذا ذهاب إلى قول بعض حكماء الإسلام : إن الإنسان لو لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصاً بخواص شريفة علوية قدسية فإنه يمتنع عقلاً حصول صفة النبوة فيه، وأجابوا عن عدم ذكر المرسلين عليهم السلام فضائلهم النفسانية والبدنية بأنه من باب التواضع كاختيار العموم، والحق منع الامتناع العقلي وإن كانوا عليهم السلام جميعاً لهم مزايا وخواص مرجحة لهم على غيرهم، وإنما قيل لهم كما قيل : لاختصاص الكلام بهم حيث أريد الزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك فيه تعالى فإنه عام وإن اختص بهم ما يعقبه ﴿ وَمَا كَانَ لَنَا ﴾ أي ما صح ما استقام ﴿ أن نأتيكم بسلطان ﴾ أي بحجة ما من الحجج فضلاً عن السلطان المبين الذي اقترحتموه بشيء من الأشياء وسبب من الأسباب ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ فإنه أمر يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا ﴿ وَعَلَى الله ﴾ وحده دون ما عداه مطلقاً ﴿ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل من الإيمان وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً، ويدل على ذلك قولهم :﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله ﴾
( ومن باب الإشارة ) :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ سلموا لهم المشاركة في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة ما من الله تعالى به عليهم مما يرشحهم لذلك، وكثيراً ما يقول المنكرون في حق أجلة المشايخ مثل ما قال هؤلاء الكفرة في حق رسلهم والجواب نحو هذا الجواب ﴿ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ [ إبراهيم : ١١ ] جواب عن قول أولئك :﴿ فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ] ويقال نحو ذلك للمنكرين الطالبين من الولي الكرامة تعنتاً ولجاجاً ﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ [ إبراهيم : ١١ ] لأن الإيمان يقتضي التوكل وهو الخمود تحت الموارد، وفسره بعضهم بأنه طرح القلب في الربوبية والبدن في العبودية، فالمتوكل لا يريد إلا ما يريده الله تعالى، ومن هنا قيل : إن الكامل لا يحب إظهار الكرامة، وفي المسألة تفصيل عندهم
﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله ﴾ ومحل الخلاف في دخول المتكلم في عموم كلامه حيث لم يعلم دخوله فيه بالطريق الأولى أو تقم عليه قرينة كما هنا. واحتمال أن يراد بالمؤمنين أنفسهم و ﴿ مَا لَنَا ﴾ التفات لا التفات إليه، والجمع بين الواو والفاء تقدم الكلام فيه( ١ ) و ﴿ مَا ﴾ استفهامية للسؤال عن السبب والعذر و ﴿ ءانٍ ﴾ على تقدير حرف الجر أي أي عذر لنا في عدم التوكل عليه تعالى، والإظهار لإظهار النشاط بالتوكل عليه جل وعلا والاستلذاذ باسمه تعالى وتعليل التوكل ﴿ وَقَدْ هدانَا ﴾ أي والحال أنه سبحانه قد فعل بنا ما يوجب ذلك ويستدعيه حيث هدانا ﴿ سُبُلَنَا ﴾ أي أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين.
وقرأ أبو عمرو ﴿ سُبُلَنَا ﴾ بسكون الباء، وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة. ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ على ﴾ و ﴿ فِى مَا ﴾ مصدرية أي إذائكم إيانا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه، وجوزوا أن تكون موصولة بمعنى الذيوالعائد محذوف أي الذي آذيتموناه، وكان الأصل آذيتمونا به فعل حذف به أو الباء ووصل الفعل إلى الضمير ؟ قولان ﴿ وَعَلَى الله ﴾ خاصة ﴿ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون ﴾ أي فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل، والمراد بهم المؤمنون، والتعبير عنهم بذلك لسبق اتصافهم به، وغرض المرسلين من ذلك نحو غرضهم مما تقدم وربما يتجوز في المسند إليه. فالمعنى وعليه سبحانه فليتوكل مريدو التوكل لكن الأول أولى.
وقرأ الحسن بكسر لام الأمر في ﴿ *ليتوكل ﴾ وهو الأصل هذا، وذكر بعضهم أن من خواص هذه الآية دفع أذى البرغوث. فقد أخرج المستغفري في الدعوات عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا آذاك البرغوث فخذ قدحاً من ماء واقرأ عليه سبع مرات ﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ *نَتَوَكَّلَ عَلَى الله ﴾ الآية وتقول : إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا ثم ترشه حول فراشك فإنك تبيت آمنا من شرها "
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي الدرداء مرفوعاً نحو ذلك إلا أنه ليس فيه «إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا » ولم أقف على صحة الخبر ولم أجرب ذلك إذ ليس للبرغوث ولع بي والحمد لله تعالى، وأظن أن ذلك لملوحة الدم كما أخبرني به بعض الأطباء والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
١ - في سورة يوسف عليه السلام اهـ منه..
﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ ﴾ قيل : لعل هؤلاء القائلين بعض المتمردين في الكفر من أولئك الأمم الكافرة التي نقلت مقالاتهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيب واضرابهم ولذلك لم يقل : وقالوا، ﴿ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ﴾ وجوز أن يكون المراد بهم أهل الحل والعقد الذين لهم قدرة على الإخراج والإدخال، ويكون ذلك علبة للعدول عن قالوا أيضاً، و ﴿ أَوْ ﴾ لأحد الأمرين، ومرادهم ليكونن أحد الأمرين إخراجهم أو عودكم، فالمقسم عليه في وسع المقسم، والقول بأنها بمعنى حتى أو إلا أن قول من لم يمعن النظر كما في البحر فيما بعدها إذ لا يصح تركيب ذلك مع ما ذكر كما يصح في لألزمنك أو تقضيني حقي، والمراد من العود الصيرورة والانتقال من حال إلى أخرى وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى، فيندفع ما يتوهم من أن العود يقتضي أن الرسل عليهم السلام كانوا وحاشاهم في ملة الكفر قبل ذلك.
واعترض في الرفرائد بأنه لو كان العود بمعنى الصيرورة لقيل إلى ملتنا فتعديته بفي يقتضي أنه ضمن معنى الدخول أي لتدخلن في ملتنا. ورده الطيبي بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان ﴿ فِى مِلَّتِنَا ﴾ صلة الفعل إما إذا جعل خبراً له لأن صار من أخوات كان فلا يرد كما في نحو صار زيد في الدار. نعم يفهم مما ذكره وجه آخر وهو جعله مجازاً بمعنى تدخلن لا تضمينا لأنه على ما قرروه يقصد فيه المعنيان فلا يدفع المحذور. وفي الكشف إن ﴿ فِى ﴾ أبلغ من إلى لدلالته على الاستقرار والتمكن كأنهم لم يرضوا بأن يتظاهروا أنهم من أهل ملتهم، وقيل : المراد من العود في ملتهم سكوتهم عنهم وترك مطالبتهم بالإيمان وهو كما ترى، وقيل : هو على معناه المتبادر والخطاب لكل رسول ولمن آمن معه من قومه فغلبوا الجماعة على الواحد، فإن كان الجماعة حاضرين فالأمر ظاهر وإلا فهناك تغليب آخر في الخطاب، وقيل : لا تغليب أصلاً والخطاب للرسل وحدهم بناء على زعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة كقولفرعون عليه اللعنة لموسى عليه السلام :﴿ وَفَعَلْتَ فَعلتَكَ التى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين ﴾ [ الشعراء : ١٩ ] وقد مر الكلام في مثل ذلم فتذكر ﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ ﴾ أي إلى الرسل عليهم البسلام بعد ما قيل لهم ما قيل ﴿ رَّبُّهُمْ ﴾ مالك أمرهم سبحانه ﴿ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين ﴾ أي المشركين المتناهين في الظلم وهم أولئك القائلون، وقال ابن عطية : خص سبحانه الظالمين من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة ناس فالتوعد باهلاك من خلص للظلم، و ﴿ أوحى ﴾ يحتمل أن يكون بمعنى فعل الإيحاء فلا مفعول له ﴿ *ولنهلكن ﴾ على إضمار القول أي قائلاً لنهلكن، ويحتمل أن يكون جارياً مجرى القول لكونه ضرباً منه ﴿ *ولنهلكن ﴾ مفعوله.
﴿ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارض ﴾ أي أرضهم وديارهم، فاللام للعهد وعند بعض عوض عن المضاف إليه ﴿ مّن بَعْدِهِمْ ﴾ أي من بعد اهلاكهم، وأقسم سبحانه وتعالى في مقابلة قسمهم، والظاهر أن ما أقسم عليه جل وعلا عقوبة لهم على قولهم :﴿ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] وفي ذلك دلالة على مزيد سناعة ما أتوا به حيث أنهم لما أرادوا إخراج المخاطبين من ديارهم جعل عقوبته إخراجهم من دار الدنيا وتوريث أولئك أرضهم وديارهم، وفي الحديث «من آذى جاره أورثه الله تعالى داره » وقرأ أبو حيوة ﴿ ليهلكن الضالمين ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] ﴿ وليسكننكم الأرض ﴾ بياء الغيبة اعتباراً لأوحى كقولك : أقسم زيد ليخرجن ﴿ ذلك ﴾ اشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المخاطبين ديارهم، وبذلك الاعتبار وحد اسم الإشارة مع أن المشار إليه إثنان فلا حاجة إلى جعله من قبيل ﴿ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] وان صح أي ذلك الأمر محقق ثابت.
﴿ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى ﴾ أي موقفي الذي يقف به العباد بين يدي للحساب يوم القيامة، وإلى هذا ذهب الزجاج فالمقام اسم مكان وإضافته إلى ضميره تعالى لكونه بين يديه سبحانه، وقال الفراء : هو مصدر ميمي أضيف إلى الفاعل أي خاف قيامي عليه بالحفظ لأعماله ومراقبتي إياه، وقيل : المراد إقامتي على العدل والصواب وعدم الميل عن ذلك.
وقيل : لفظ مقام مقحم لأن الخوف من الله تعالى أي لمن خافني ﴿ وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ أي وعيدي بالعذاب فياء المتكلم محذوف للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف. والوعيد على ظاهره ومتعلقه محذوف، وجوز أن يكون مصدراً من الوعد على وزن فعيل وهو بمعنى اسم المفعول أي عذابي الموعود للكفار : وفيه استعارة الوعد للإيعاد، والمراد بمن خاف على ما أشير إليه في الكشاف المتقون، ووقوع ذلك إلى آخره بعد ﴿ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارض مِن بَعْدِهِمْ ﴾ موقع ﴿ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ في قصة موسى عليه السلام حيث قال لقومه :﴿ استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الارض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ]
﴿ واستفتحوا ﴾ أي استنصروا الله تعالى على أعدائهم كقوله تعالى :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح ﴾ [ الأنفال : ١٩ ] ويجوز أن يكون من الفتاحة أي الحكومة أي استحكموا الله تعالى وطلبوا منه القضاء بينهم كقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] والضمير للرسل عليهم السلام كما روي عن قتادة وغيره، والعطف على ﴿ أوحى ﴾ ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس. ومجاهد. وابن محيصن ﴿ واستفتحوا ﴾ بكسر التاء أمراً للرسل عليهم السلام معطوفاً على ﴿ ليهلكن ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] فهو داخل تحت الموحى، والواو من الحكاية دون المحكى، وقيل : ما قبله لإنشاء الوعد فلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر مع أن مذهب بعضهم تجويزه، وأخر على القراءتين عن قوله تعالى :
﴿ لَنُهْلِكَنَّ ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] أو أوحى إليهم على ما الكشف دلالة على أنهم لم يزالوا داعين إلى أن تحقق الموعود من إهلاك الظالمين، وذلك لأن ﴿ لَنُهْلِكَنَّ ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] وعد وإنما حقيقة الإجابة حين الإهلاك، وليس من تفويض الترتب إلى ذهن السامع في شيء ولا ذلك من مقامه كما توهم. وقال ابن زيد : الضمير للكفار والعطف حينئذ على ﴿ قَالَ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] أي قالوا ذلك واستفتحوا على نحو ما قال قريش :﴿ عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ﴾ [ ص : ١٦ ] وكأنهم لما قوى تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ظنوا أن ما قيل لهم باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح :﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ [ الأعراف : ٧٠ ] وقوم شعيب ﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً ﴾ [ الشعراء : ١٨٧ ] إلى غير ذلك، وقيل : الضمير للرسل عليهم السلام ومكذبيهم لأنهم كانوا كلهم سألوا الله تعالى أن ينصر المحق ويهلك المبطل، وجعل بعضهم العطف على ﴿ أُوحِىَ ﴾ على هذا أيضاً بل ظاهر كلام بعض أن العطف عليه على القراءة المشهورة مطلقاً، وسيأتي إن شاء الله تعالى احتمال آخر في الضمير ذكره الزمخشري.
﴿ وَخَابَ ﴾ أي خسر وهلك ﴿ كُلّ جَبَّارٍ ﴾ متكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته، وقال الراغب : الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم ﴿ عَنِيدٍ ﴾ معاند للحق مباه بما عنده، وجاء فعيل بمعنى مفاعل كثيراً كخليط بمعنى مخالط ورضيع بمعنى مراضع، وذكر أبو عبيدة أن اشتقاق ذلك من العند وهو الناحية، ولذا قال مجاهد : العنيد مجانب الحق، قيل : والوصف الأول : إشارة إلى ذمه باعتبار الخلق النفساني والثاني : إلى ذمه باعتبار الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانباً منحرفاً عن الحق، وفي الكلام إيجاز الحذف بحذف الفاء الفصيحة والمنعطوف عليه أي استفتحوا ففتح لهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون ؛ فالخيبة بمعنى مطلق الحرمان دون الحرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق، هذا إذا كان ضمير ﴿ *استفتحوا ﴾ للرسل عليهم السلام، وأما إذا كان للكفار فالعطف كما في «البحر » على ﴿ *استفتحوا ﴾ أي استفتح الكفار على الرسل عليهم السلام وخابوا ولم يفلحوا، وإنما وضع ﴿ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ موضع ضميرهم ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك ولم تصبهم الخيبة، ويقدر إذا كان الضمير للرسل عليهم السلام وللكفرة استفتحوا جميعاً فنصر الرسل وخاب كل عات متمرد، والخبة على الوجهين بمعنى الحرمان غب الطلب، وفي إسناد الخيبة إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة.
﴿ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ﴾ أي من قدامه وبين يديه كما قال الزجاج. والطبري. وقطرب. وجماعة، وعلى ذلك قوله( ١ ) :
أليس ورائي إن تراخت منيتي. . . لزوم العصا نحنيي عليها الأصابع
ومعنى كونها قدامه أنه مرصد لها واقف على شفيرها ومبعوث إليها، وقيل : المراد من خلف حياته وبعدها، ومن ذلك.
قوله :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة. . . وليس وراء الله للمرء مذهب
وإليه ذهب ابن الأنباري، واستعمال ﴿ وَرَاء ﴾ في هذا وذاك بناء على أنها من الأضداد عند أبي عبيدة والأزهري فهي من المشتركات اللفظية عندهما. وقال جماعة : إنها من المشتركات المعنوية فهي موضوعة لأمر عام صادق على القدام والخلف وهو ما توارى عنك. وقد تفسر بالزمان مجازاً فيقال : الأمر من ورائك على معنى أنه سيأتيك في المستقيل من أوقاتك ﴿ ويسقى ﴾ قيل عطف على متعلق ﴿ مِّن وَرَائِهِ ﴾ المقدر، والأكثر على أنه عطف على مقدر جواباً عن سؤال سائل كأنه قيل : فماذا يكون إذن ؟ فقيل : يلقى فيها ما يلقى ويسقى ﴿ مِن مَّاء ﴾ مخصوص لا كالمياه المعهودة ﴿ صَدِيدٍ ﴾ قال مجاهد. وقتادة. والضحاك هو ما يسيل من أجساد أهل النار، وقال محمد بن كعب. والربيع : ما يسيل من فروج الزناة والزواني، وعن عكرمة هو الدم والقيح ؛ وأعربه الزمخشري عطف بيان لماء. وفي إبهامه أولاً ثم بيانه من التهويل ما لا يخفى، وجواز عطف البيان في النكرات مذهب الكوفيين. والفارسي، والبصريون لا يرونه وعلى مذهبهم هو بدل من ﴿ مَاء ﴾ أن أعتبر جامداً أو نعت أن أعتبر فيه الاشتقاق من الصد أي المنع من الشرب كأن ذلك الماء لمزيد قبحه مانع عن شربه، وفي «البحر » قيل : إنه بمعنى مصدود عنه أي لكراهته يصد عنه، وإلى كونه نعتاً ذهب الحوفي وكذا ابن عطية قال : وذلك كما تقول : هذا خاتم حديد، وإطلاق الماء على ذلك ليس بحقيقة وإنما أطلق عليه باعتبار أنه بدله، وقال بعضهم : هو نعت على إسقاط مفيد التشبيه كما تقول مررت برجل أسد، والتقدير مثل صديد وعلى هذا فإطلاق الماء عليه حقيقة، وبالجملة تخيص السقي من هذا الماء بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه.
١ - وقوله: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقوم تميم والفلاة ورائيا
عسى الكرب الذي أمسيت فـــيـــه يكون وراءه فرج قريب.

﴿ يَتَجَرَّعُهُ ﴾ جوز أبو البقاء كونه صفة لماء أو حالاً منه أو استئنافاً. وجوز أبو حيان كونه حالاً من ضمير ﴿ يسقى ﴾ [ إبراهيم : ١٦ ] والاستئناف أظهر وهو مبني على سؤال كأنه قيل : فماذا يفعل به ؟ فقيل : يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالة ؛ فإن السوغ انحدار الماء انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يفيد نفي ما ذكر جميعاً، وقيل : تفعل مطاوع فعل يقال : جرعه فتجرع وقيل : إنه موافق للمجرد أي جرعه كما تقول عدا الشيء وتعداه، وقيل : الإساغة الإدخال في الجوف، والمعنى لا يقارب أن يدخله في جوفه قبل أن يشربه ثم شربه على حد ما قيل في قوله تعالى :﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] أي ما قاربوا قبل الذبح، وعبر عن ذلك بالإصاغة لما أنها المعهودة في الأشربة. أخرج أحمد. والترمذي. والنسائي. والحاكم وصححه. وغيرهم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية :«يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره » يقول الله تعالى :﴿ وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ﴾ [ محمد : ١٥ ] وقال سبحانه :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل يَشْوِى الوجوه ﴾ [ الكهف : ٢٩ ] ويسيغه بضم الياء لأنه يقال : ساغ الشراب وأشاغه غيه وهو الفصيح وإن ورد ثلاثيه متعدياً أيضاً على ما ذكره أهل اللغة، وجملة ﴿ لاَ يَكَادُونَ ﴾ إلى آخره في موضع الحال من فاعل يتجرعه أو من مفعوله أو منهما جميعاً ﴿ وَيَأْتِيهِ الموت ﴾ أي أسبابه من الشدائد أي أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب فالكلام على المجاز أو بتقدير مضاف ﴿ مّن كُلّ مَكَانٍ ﴾ أي من كل موضع، والمراد أنه يحيط به من جميع الجهات كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال إبراهيم التيمي : من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره وروى نحو ذلك عن ميمون بن مهران. ومحمد بن كعب، وإطلاق المكان على الأعضاء مجاز، والظاهر أن هذا الاتيان في الآخرة.
وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا سماها موتاً لشدتها ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام في أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها ﴿ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ﴾ أي والحال أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابه على أتم وجه فيستريح مما غشيه من أصناف الموبقات ﴿ وَمِن وَرَائِهِ ﴾ أي من بين يدي من حكم عليه بما مر ﴿ عَذَاب غَلِيظ ﴾ يستقبل كل وقت عذاباً أسد وأشق مما كان قبله، وقيل : في ﴿ وَرَاء ﴾ هنا نحو ما قيل فيما تقدم أمامه، وذكر هذه الجملة لدفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما في عذاب الدنيا، وقيل : ضمير ورائه يعود على العذاب المفهوم من الكلام السابق لا على كل جبار، وروى ذلك عن الكلبي، والمراد بهذا العذاب قيل : الخلود في النار وعليه الطبرسي، وقال الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد هذا، وجوز في الكشاف أن تكون هذه الآية أعني قوله تعالى :
﴿ واستفتحوا ﴾ [ إبراهيم : ١٥ ] إلى هنا منقطة عن قصة الرسل عليهم السلام نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنينهم التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيب سبحانه رجاءهم ولم يسقهم ووعدهم أن يسنيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار، والواو على هذا قيل : للاستئناف، وقيل : للعطف إما على قوله تعالى :﴿ وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢ ] أو على خبر ﴿ أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ٣ ] لقربه لفظاً ومعنى، والوجه الأول أوجه لبعد العهد وعدم قرينة تخصيص الاستفتاح بالاستمطار ولأن الكلام على ذلك التقدير يتناول أهل مكة تناولاً أولياً فإن المقصود من ضرب القصة أن يعتبروا.
﴿ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي في الغرابة كالمثل كما ذهب إليه سيبويه، وقوله سبحانه :﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾ جملة مستأنفة لبيان مثلهم، ورجح ابن عطية كونه مبتدأ وهذه الجملة خبره، وتعقبه الحوفي بأنه لا يجوز لخلو الجملة عمار يربطها بالمبتدأ وليست نفسه في المعنى لتستغني عن ذلك لظهور أن ليس المعنى مثلهم هذه الجملة. وأجاب عنه السمين بالتزام أنها نفسه لأن مثل الذين في تأويل ما يقال فيهم ويوصفون به إذا وصفوا فلا حاجة إلى الرابط كما في قولك : صفة زيد عرضه مصمون وماله مبذول، قيل : ولا يخفى حسنه إلا أن المثل عليه بمعنى الفة، والمراد بالصفة اللفظ الموصوف به كما يقال : صفة زيد أسمر أي اللفظ الذي يوصف به هو هذا، وهذا وإن كان مجازاً على مجاز لكنه يغتفر لأن الأول ملحق بالحقيقة لشهرته وليس من الاكتفاء بعود الضمير على المضاف إليه لأن المضاف ذكر توطئة له فإن ذلك أضعف من بيت العنكبوت كما علمت.
وذهب الكسائي. والفراء إلى أن ﴿ مَثَلُ ﴾ مقحم وتقدم ما عليه وله، وقال الحوفي : هو مبتدأ و ﴿ كَرَمَادٍ ﴾ خبره وأعمالهم بدل من المبتدأ بدل اشتمال كما في قوله :
ما للجمال مشيهاً وئيدا. . . أجندلا يحملن أم حديدا
وفيه خفاء، ولعله اعتبر المضاف إليه. وفي «الكشاف » : جواز كونه بدلاً من ﴿ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ ﴾ لكن على تقدير مثل أعمالهم فيكون التقدير مثل الذي كفروا مثل أعمالهم كرماد، قال في «الكشف » : وهو بدل الكل من الكل وذلك لأن مثلهم ومثل أعمالهم متحدان بالذات، وفيه تفخيم اه، وقيل : إنه على هذا التقدير أيضاً بدل اشتمال لأن مثل أعمالهم كونها كرماد ومثلهم كون أعمالهم كرماد فلا اتحاد لكن الأول سبب للثاني فتأمل، والمراد معروف وعرفه ابن عيسى بأنه جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة وشذ جمعه على أفعلاء قالوا أرمداء كذا في «البحر » وذكر في «القاموس » أن الإرمداء كالأربعاء الرماد ولم يذكر أنه جمع، والمراد بأعمالهم ما هو من باب المكارم كصلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأساري وقرى الأضياف وإغاثة الملهوفين وغير ذلك، وقيل : ما فعلوه لأصنامهم من القرب بزعمهم، وقيل : ما يعم هذا وذاك ولعله الأولى، وجيء بالجملة على ما اختاره بعضهم جواباً لما يقال : ما بال أعمالهم التي عملوها حتى آل أمرهم إلى ذلك المآل ؟ إذ بين فيها أنها كرماد ﴿ اشتدت بِهِ الريح ﴾ أي حملته وأسرعت الذهاب به فاشتد من شد بمعنى عدا، والباء للتعدية أو للملابسة، وجوز أن يكون من الشدة بمعنى القوة أي قويت بملابسة حمله ﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ العصف اشتداد الريح وصف به زمان هبوبها على الإسناد المجازي كنهاره صائم وليله قائم للمبالغة، وقال الهروي : التقدير في يوم عاصف الريح فحذف الريح لتقدم ذكره كما في قوله :
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف( ١ ). . . والتنوين على هذا عوض من المضاف إليه، وضعف هذا القول ظاهر، وقيل : إن عاصف صفة الريح إلا أنه جر على الجوار، وفيه أنه لا يصح وصف الريح به لاختلافهما تعريفاً وتنكيراً، وقرأ نافع. وأبو جعفر ﴿ الرياح ﴾ على الجمع وبه يشتد فساد الوصفية، وقرأ ابن أبي إسحق. وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن ﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ على الإضافة، وذلك عند أبي حيان من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه والتقدير في يوم ريح عاصف، وقد يقال : إنه من إضافة الموصوف إلى الصفة من غير حاجة إلى حذف عند من يرى جواز ذلك ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ مِمَّا كَسَبُواْ ﴾ في الدنيا من تلك الأعمال ﴿ على شَىْء ﴾ ما أي لا يرون له أثراً من ثواب أو تخفيف عذاب.
ويؤيد التعميم ما ورد في «الصحيح » عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين هل ذلك نافعه ؟ قال : لا ينفعه لأنه لم يقل ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وقيل : الكلام على حذف مضاف إي لا يقدرون من ثواب ما كسبوا على شيء ما والأول أولى، وقدم المتعلق الأول للا يقدرون على الثاني وعكس في البقرة لأهمية كل في آيته وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة، وحاصل التمثيل تشبيه أعمالهم في حبوطها وذهابها هباء منثوراً لابتنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والايمان به وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاطف وفرقته، وهذه الجملة فذلكة ذلك والمقصود منه، قيل : والاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوبات للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شعفاء لهم عند الله تعالى، وفيه تهكم بهم ﴿ ذلك ﴾ أي ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء ﴿ هُوَ الضلال البعيد ﴾ عن طريق الحق والصواب، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك غير بعيد.
١ - يريد كاسف الشمس اهـ منه..
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته الذين بعث إليهم، وقيل : خطاب لكل واحد من الكفرة لقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ والرؤية رؤية القلب، وقوله تعالى :﴿ أَنَّ الله خَلَقَ * السموات والارض ﴾ ساد مسد مفعوليها أي ألم تعلم أنه تعالى خلقهما ﴿ بالحق ﴾ أي ملتبسة بالحكمة والوجه الصحيح الذي يحق أن يخلق عليه. وقرأ السلمي ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ بسكون الراء ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، قال أبوحيان : وتوجيه آخر وهو أن ﴿ تَرَى ﴾ حذفت العرب ألفها في قولهم : قام القوم ولو تر ما زيد كما حذفت ياء لا أبالي وقالوا لا أبال فلما دخل الجازم تخيل أن الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في لا أبال لم أبل، تخيلوا اللام آخر الكلمة، والمشهور التوجيه الأول. وقرأ الأخوان ﴿ خالق * السموات والارض ﴾ بصيغة اسم الفاعل والإضافة وجر ﴿ الارض ﴾.
﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ يعدمكم أيها الناس كما قاله جماعة أو أيها الكفرة كما روى عن ابن عباس بالمرة ﴿ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي يخلق بدلكم خلقاً مستأنفاً لا علاقة بينكم وبينهم، والجمهور على أنه من جنس الآدميين، وذهب آخرون إلى أنه أعم من أن يكون من ذلك الجنس أو من غيره، أورد سبحانه هذه الشرطية بعد أن ذكر خلقه السموات والأرض إرشاداً إلى طريق الاستدلال فإن من قدر على خلق مثل هاتيك الأجرام العظيم كان على إعدام المخاطبين وخلق آخرين بدلهم أقدر ولذلك قال سبحانه :
﴿ وَمَا ذلك ﴾ أي المذكور من إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم ﴿ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ بمتعذر أو متعسر فإنه سبحانه وتعالى قادر بذاته لا باستعانة وواسطة على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. وهذه الآية على ما في «الكشاف » بيان لإبعادهم في الضلال وعظم خطبهم في الكفر بالله تعالى لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يؤمن به ويرجى ثوابه ويخشى عقابه.
﴿ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ أي يبرزون يوم القيامة، وإيثار الماضي لتحقق الوقوع أو لأنه لا مضي ولا استقبال بالنبسة إليه سبحانه، والمراد ببروزهم لله ظهورهم من قبورهم للرائين لأجل حساب الله تعالى، فاللام للتعليل وفي الكلام حذف مضاف، وجوز أن تكون اللام صلة البروز وليس هناك حذف مضاف، ويراد أنهم ظهروا له عز شأنه عند أنفسهم وعلى زعمهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابهم الفواحش سراً أنها تخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا له تعالى عند أنفسهم وعلموا أنه لا تخفى عليه جل شأنه خافية، وقال ابن عطية : معنى برزوا صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة فاستعير ذلك لمجمع يوم القيامة، وهذا ميل إلى التعليل والحذف. ونقل الإمام عن الحكماء في تأول البروز أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت مجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى وهو كلام تعده العرب من الأحاجي ولذا لم يلتفت إليه المحدثون.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ﴿ وَبَرَزُواْ ﴾ مبنياً للمفعول وبتشديد الراء، والمراد أظهرهم الله تعالى وأخجرهم من قبورهم لمحاسبته ﴿ فَقَالَ الضعفاء ﴾ جمع ضعيف، والمراد بهم ضعاف الرأي وهم الاتباع، وكتب في المصحف العثماني بواو قبل الهمزة، ووجه ذلك بأنه على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو، ونظيره ﴿ عُلَمَآؤُا بني إسرائيل ﴾ [ الشعراء : ١٩٧ ]. ورد ذلك الجعبي قائلاً : إنه ليس من لغة العرب ولا حاجة للتوجيه بذلك لأن الرسم سنة متبعة، وزعم ابن قتيبة أنه لغة ضعيفة، ولو وجه بأنه اتباع للفظه في الوقف فإن من القراء من يقف في مثل ذلك بالواو كان حسناً صحيحاً كذا ذكر فليراجع. ولعل من أنصف لا يرى أحسن من ترك التوجيه.
﴿ لِلَّذِينَ استكبروا ﴾ أي لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم ﴿ إِنَّا كُنَّا ﴾ في الدنيا ﴿ لَكُمْ تَبَعًا ﴾ في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كخادم وخدم وغايب وغيب أو اسم جمع لذلك ولم يذكر كونه جمعاً في «البحر ». أو هو مصدر نعت به مبالغة أو بتأويل أو بتقدير مضاف أي تابعين أو ذوي تبع ؛ وبه على سائر الاحتمالات يتعلق الجار والمجرور، والتقديم للحصر أي تبعاً لكم لا لغيركم.
وقيل : المعنى : إنا تبع لكم لا لرأينا ولذا سماهم الله تعالى ضعفاء، ولا يلزم منه كون الرؤساء أقوياء الرأي حيث ضلوا وأضلوا، ولو حمل الضعف على كونهم تحت أيديهم وتابعين لهم كان أحسن وليس بذاك.
﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا ﴾ استفهام أريد به التوبيخ والتقريع، والفاء للدلة على سببية الاتباع للإغناء، وهو من الغناء بمعنى الفائدة وضمن معنى الدفع ولذا عدى بعن أي إنا اتبعناكم فميا كنتم فيه من الضلال فهل أنتم اليوم دافعون عنا ﴿ مِنْ عَذَابِ الله مِن شَىْء ﴾ أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله تعالى بناء على ما قيل : إن ﴿ مِنْ ﴾ الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول للوصف السابق والأولى للبيان وهي واقعة موقع الحال من مجرور الثانية لأنها لو تأخرت كانت صفة له وصفة النكرة إذا قدمت أعربت حالاً، واعترض هذا الوجه بأن فيه تقديم من البيانية على ما تبينه وهو لا يجوز، وكذا تقديم الحال على صاحبها المجرور.
وأجيب بأن في كل من هذين الأمرين اختلافاً، وقد أجاز جماعة تقديم ﴿ مِنْ ﴾ البيانية وصحح ذلك لأنه إنما يفوت بالتقديم الوصفية لا البيانية، وكذا أجاز كثير كابن كيسان وغيرهم تقديم الحال على صاحبها المجرور فلعل الذاهب إلى هذا الوجه في الآية يرى رأي المجوزين لكل من التقديمين.
وقال بعض المدققين : جاز تقديم هذه الحال لأنها في الحقيقة عما سد مسده من شيء أعني بعض لا عن المجرور وحده، وفيه من البعد ما لا يخفى، وجوز أن تكون الأولى والثانية للتبعيض، والمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله تعالى ؛ والإعراب كما سبق، واختار بعضهم على هذا كون الحال عما سد مسده من شيء إذ لو جعل حالاً عن المجرور لآل الكلام إلى هل أنتم مغنون عنا بعض بعض عذاب الله تعالى ولا معنى له، وفيه أنه يفيد المبالغة في عدم الغناء كقولهم : أقل من القليل فنفي المعنى لا معنى له، ولا يصح الإلغاء إذ لا يصح أن يتعلق بفعل ظرفان من جنس دون ملابسة بينهما تصحح التبعية، وجعل الثاني بدلاً من الأول يأباه كما في «الكشف » اللفظ والمعنى ؛ وقد تعقب أبو حيان توجيه التبعيض في المكانين كما سمعت بأن ذلك يقتضي البدلية فيكون بدل عام من خاص لأن ﴿ مِن شَىْء ﴾ أعم من قوله :﴿ مِنْ عَذَابِ ﴾ وهذا لا يقال : لأن بعضية الشيء مطلقة فلا يكون لها بعض، ومما ذكرنا يعلم ما فيه.
وجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية صفة مصدر سادة مسده، والشيء عبارة عن إغناء ما أي فهل أنتم مغنون عنا بعض عذاب الله بعض الإغناء. وتعقب بأنه يلزم على هذا أن يتعلق بعامل ظرفان إلى آخر ما سمعت آنفاً، وفيه نظر لأن لكون أحدهما في تأويل المفعول به والآخر في تأويل المفعول المطلق صح التعلق ولم يكونا من جنس واحد، وقد يقال : إن تقييد الفعل بالثاني بعد اعتبار تقييده بالأول فليس العامل واحداً.
ونص الحوفي. وأبو البقاء على أن ﴿ مِنْ ﴾ الثانية زائدة للتوكيد وسوغ زيادتها تقدم الاستفهام الذي هو هنا في معنى النفي، و ﴿ عَذَابُ الله ﴾ أما متعلق بمغنون أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من ﴿ شَىْء ﴾ أي شيئاً كائناً من عذاب الله تعالى أو مغنون من عذاب الله تعالى غناء ما ﴿ قَالُواْ ﴾ أي المستكبرون جواباً عن توبيخ الضعفاء وتقريعهم واعتذاراً عما فعلوا بهم :﴿ لَوْ هَدَانَا الله ﴾ إلى الايمان ووفقنا له ﴿ لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ ولكن ضللنا فضللناكم أي اهترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا، وحاصله على ما قيل : إن ما كان منا في حكم هو النصح لكن قصرنا في رأينا، وقال الزمخشري : إنهم وركوا الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله تعالى وكذبوا في ذلك، ويدل على وقوع الكذب من أمثالهم يوم القيامة قوله تعالى حكاية عن المنافقين :
﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء ﴾ [ المجادلة : ١٨ ] وقد خالف في ذلك أصول مشايخه لأنهم لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فلا يقبل منه، وجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الايمان، ونقل ذلك القاضي وزيفه كما ذكره الإمام، وقيل : المعنى لو هدانا الله تعالى إلى الرجعة إلى الدنيا فنصلح ما أفسدناه لهديناكم وهو كما ترى، وقال الجياني. وأبو مسلم : المراد لو هدانا الله تعالى إلى طريق الخلاص من العقاب والوصول إلى النعيم والثواب لهديناكم إلى ذلك، وحاصله لو خلصنا لخلصناكم أيضاً لكن لا مطمع فيه لنا ولكم، قال الإمام : والدليل على أن المراد من الهدي هو هذا أنه الذي طلبوه والتمسوه.
﴿ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا ﴾ مما لقينا ﴿ أَمْ صَبَرْنَا ﴾ على ذلك و ﴿ سَوَآء ﴾ اسم بمعنى الاستواء مرفوع على الخبرية للفعل المذكور بعده لأنه مجرد عن النسبة والزمان فحكمه حكم المصدر والهمزة و ﴿ أَمْ ﴾ قد جردتا عن الاستفهام لمجرد التسوية ولذا صارت الجملة خبرية فكأنه قيل : جزعنا وصبرنا سواء علينا أي سيان، وإنما أفرد الخبر لأنه مصدر في الأصل، وقال الرضي في مثله : إن ﴿ سَوَآء ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأمران سواء ثم بين الأمر أن بقولهم :﴿ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ﴾ وما قيل : من أن ﴿ سَوَآء ﴾ خبر مبتدأ والجملة جزاء للجملة المذكورة بعد لتضمنها معنى الشرط، وإفادة همزة الاستفهام معنى إن لاشتراكهما في الدلالة على عدم الجزم، والتقدير إن جزعنا أم صبرنا فالأمران سيان فتكلف كما لا يخفى، والجزع حزن يصرف عما يراد فهو حزن شديد. وفي البحر هو عدم احتمال الشدة فهو نقيض الصبر، وإنما أسندوا كلاً من الجزع والصبر واستوائهما إلى ضمير المتكلم المنتظم للمخاطبين أيضاً مبالغة في النهي عن التوبيخ بإعلامهم أنهم شركاء لهم فيما ابتلوا به وتسلية لهم.
وجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين فهو مردود إلى ما سيق له الكلام وهم الفريقان، ولا نظر إلى القرب كما قيل في قوله تعالى :
﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ [ يوسف : ٥٢ ] وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه عن كعب بن مالك رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يظن أنه قال :«يقول أهل النار : هلموا فلنصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : هلموا فلنجزع فيبكون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا :﴿ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ﴾ الآية، وإلى كون هذه المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين في النار ذهب بعضهم ميلاً لظواهر الأخبار.
واستظهر أبو حيان أنها في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله تعال، ى وقول الاتباع :﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا ﴾ جزع منهم، وكذا جواب الرؤساء باعترافهم بالضلال، واحتمال أنه من كلام الأولين فقط خلاف الظاهر جداً، وقوله تعالى :﴿ مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾ جملة مفسرة لاجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة أو بدل منه، والمحيص من حاص حاد وفر، وهو إما اسم مكان كالمبيت والمصيف أو مصدر ميمي كالمغيب والمشيب، والمعنى ليس لنا محل ننجوا فيه من عذابه أولاً نجاة لنا من ذلك.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ ذكر بعضهم أن البروز متعدد فبروز عند القيامة الصغرى بموت الجسد. وبروز عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي وهو الخروج عن حجاب صفات النفس إلى عرصة القلب. وبروز عند القيامة الكبرى وهو الخروج عن حجاب الآنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية، وإن حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار إليه بقوله تعالى :﴿ فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا ﴾ [ إبراهيم : ٢١ ] الخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء.
﴿ وَقَالَ الشيطان ﴾ الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عندما عتباه وقرعاه على نمط ما قاله الاتباع للرؤساء ﴿ لَمَّا قُضِىَ الامر ﴾ أي أحكم وفرغ منه وهو الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيباً في محفل الأشقياء من الثقلين.
أخرج ابن جرير. وغيره عن الحسن قال : إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيباً على منبر من نار فقال :﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق ﴾ إلى آخره، وعن مقاتل أن الكفار يجتمعون عليه في النار باللائمة فيرقى منبراً من نار فيقول ذلك، وفي بعض الآثار ما هو ظاهر في أن هذا في الموقف، فقد أخرج الطبراني. وابن المبارك في الزهد. وابن جرير. وابن عساكر لكن بسند ضعيف من حديث عقبة بن عامر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أن الكفار حين يروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين يأتون إبليس فيقولون له قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد فيقول ما قص الله تعالى »
ومعنى ﴿ وَعْدَ الحق ﴾ وعداً من حقه أن ينجز أو وعداً نجز وهو الوعد بالبعث والجزاء، وقيل : أراد بالحق ما هو صفته تعالى أي أن الله تعالى وعدكم وعده الذي لا يخلف، والظاهر أنه صفة الوعد، وفي الآية على الأول إيجاز أي أن الله سبحانه وعدكم وعد الحق فوفاكم وأنجزكم ذلك ﴿ وَوَعَدتُّكُمْ ﴾ وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب ولئن كانا فالأصنام تشفع لكم ﴿ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ موعدي أي لم يتحقق ما أخبرتكم به وظهر كذبه، وقد استعير الإخلاف لذلك ولو جعل مشاكلة لصح ﴿ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن * سلطان ﴾ أي تسلط أو حجة تدل على صدقي ﴿ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ ﴾ أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة، وهذا وإن لم يكن من جنس السلطان حقيقة لكنه أبرزه في مبرزه وجعله منه ادعاء فلذا كان الاستثناء متصلاً، وهو من تأكيد الشيء بضده كقوله :
وخيل قد دلفت لها بخيل. . . تحية بينهم ضرب وجيع
وهو من التهكم لا من باب الاستعارة أو التشبيه أو غيرهما على ما حقق في موضعه، فإن لم يعتبر فيه التهكم والادعاء يكون الاستثناء منقطعاً على حد قوله :
وبلدة ليس بها أنيس. . . إلا اليعافير وإلا العيس
وإلى الانقطاع ذهب أبو حيان وقال : إنه الظاهر، وجوز الإمام القول بالاتصال من غير اعتبار الادعاء ؛ ووجه ذلك بأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه وهذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال : ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه ﴿ فاستجبتم لِى ﴾ أي أسرعتم إجابتي كما يؤذن بذلك الفاء، وقيل : يستفاد الإسراع من السين لأن الاستجابة وإن كانت بمعنى الإجابة لكن عد ذلك من التجريد وأنهم كأنهم طلبوا ذلك من أنفسهم فيقتضي السرعة وفيه بعد ﴿ فَلاَ تَلُومُونِى ﴾ بوعدي إياكم حيث لم يكن على طريق القسر والإلجاء كما يدل عليه الفاء، وقيل : بوسوستي فإن من صرح بالعداوة وقال :
﴿ لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ] لا يلام بأمثال ذلك. وقرىء ﴿ فَلا ﴾ بالياء على الالتفات ﴿ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ حيث استجبتم لي باختباركم الناشيء عن سوء استعدادكم حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل بل بمجرد تزيين وتسويل ولم تستجيبوا لربكم إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبينات والحجج، وليس مراد اللعين التنصل عن توجه اللائمة إليه بالمرة بل بيان أنهم أحق بها منه. وفي «الكشاف » أن في هذه الآية دليلاً على أن الإنسان هو الذي يختاره الشقاوة والسعادة ويحصلهما لنفسه وليس من الله تعالى إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله تعالى قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه، وليس قوله المحكي باطلاً لا يصح التعلق به وإلا لبين الله سبحانه بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل في النطق بالباطل في ذلك المقام، ألا ترى كيف أتى بالصدق الذي لا ريب فيه في قوله :﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ ﴾ إلى آخره. وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ ﴾ إلى آخره اه.
واعترض قوله : وإلا لبين سبحانه بطلانه بأنه ينقلب عليه في قول المستكبرين ﴿ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢١ ] إذ لم يعقب بالبطلان على وجه التوريك الذي ادعاه، وكذلك قوله : على أنه لا طائل إلى آخره.
والجواب أن الأول غير متعين لذلك الوجه كما سمعت، ومع ذلك قد عقب بالبطلان في مواضع عديدة، ويكفي حكاية الكذب عنهم في ذلك الموطن، وذلك في الموطن على توهم أنه نافع كما حكى الله تعالى عنهم، أما بعد قضاء الأمر ودخول أهل الجنة الجنة والنار النار فلا يتوهم لذلك طائل البتة ؛ لا سيما والشيطان لا غرض له في ذلك فافترقا قائلاً وموطناً وحكماً، بل الجواب أن أهل الحق لا ينكرون توجه اللائمة عليهم وأن الله تعالى مقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه سبحانه الحق، حيث أثبتوا للعبد القدرة الكاسبة التي يدور عليها فلك التكليف وجعلوا لها مدخلاً في ذلك فإنه سبحانه إنما يخلق أفعاله حسبما يختاره، وسلبهم التأثير الذاتي عن قدرته لا ينفي اللوم عنهم كما بين في محله، وما ذكره من أنه لو كان الأمر إلى آخره مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق الملقبين عنده بالمجبرة وبين مسلك المجبرة في الحقيقة والفرق مثل الصبح ظاهر، هذا واستدل بظاهر الآية على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان أو تعويج أعضائه وجوارحه أو على إزالة عقله لأنه نفى أن يكون له تسلط إلا بالوسوسة.
وأجاب من زعم القدرة على نحو ذلك بأن المقصود في الآية نفى أن يكون له تسلط في أمر الإضلال إلا بمحض الوسوسة لا نفي أن يكون له تسلط أصلاً والسياق أدل قرينة على ذلك. وانتزع بعضهم من الآية إبطال التقليد في الاعتقاد، قال ابن الفرس : وهو انتزاع حسن لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ولم يطلبوا منه برهاناً فحكى ذلك متضمناً لذمهم، ثم الظاهر أن هذه الدعوة من الشيطان أعني إبليس بلا واسطة، وهي إن كانت في وقت واحد لمتعددين مما يعسر تصوره، ولا يبعد أن يقال : إن له أعواناً يفعلون كما يفعل لكن لما كان ذلك بأمره تصدى وحده لما تصدى ونسبت الدعوة إليه، وللإمام الرازي في الآية كلام طويل ساقه لبيان كيفية الدعوة وإلقاء الشيطان الوسوسة في قلب الإنسان، وأكثره عند المحدثين والسلف الصالحين أشبه شيء بوساوس الشياطين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ذلك بعون الله تعالى القادر المالك ﴿ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ ﴾ أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، يقال : استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته، وأصله من الصراخ وهو مد الصوت، والهمزة للسلب كأن المغيث يزيل صراخ المستغيث.
﴿ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ ﴾ مما أنا فيه، وفي تعرضه لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذان بأنه أيضاً مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الإصراخ فكيف له بإصراخ الغير ولذلك آثر الجملة الاسمية، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وكذا يقال في التأكيد فكان ما مضى جواباً منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب استغاثتهم واستعانتهم به في دفع ما دهمهم من العذاب. وقرأ يحيى بن وثاب. والأعمش. وحمزة ﴿ بِمُصْرِخِىَّ ﴾ بكسر الياء على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وذلك أن الأصل بمصرخين لي فأضيف وحذفت نون الجمع للإضافة فالتقت ياء الجمع الساكنة وياء المتكلم والأصل فيها السكوت فكسرت لالتقاء الساكنين وأدغمت. وطعن في هذه القراءة كثير من النحاة، قال الفراء : لعلها من زعم القراء فإنه قل من سلم منهم من الوهم. وقال أبو عبيد. نراهم غلطوا، وقال الأخفش : ما سمعت هذا الكسر من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين، وقال الزجاج : إنها عند الجميع رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجيه ضعيف. وقال الزمخشري : هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول :
قال لها هل لك يا تافي. . . قالت له ما أنت بالمرضي( ١ )
وكأنهم قدروا ياء الإضافة ساكنة فحركوها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو عصاي فما بالها وقبلها ياء والقول بأنه جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل ذهاب إلى القياس وهو قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات اه.
وقد قل هؤلاء الطاغين جماعة، وقد وهموا طعناً وتقليداً فإن القراءة متواترة عن السلف والخلف فلا يجوز أن يقال فيها : إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من العلماء أنها لغة لكنه قل استعمالها.
ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع فإنهم يكسرون ياء المتكلم إذا كان قبلها ياء أخرى ويصلونها بها كعليه ولديه، وقد يكتفون بالكسرة وذلك لغة أهل الموصل وكثير من الناس اليوم، وقد حسنها أبو عمرو وهو إمام لغة وإمام نحو وإمام قراءة وعربيّ صحيح، ورووا بيت النابغة :
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة. . . لوالده ليست بذات عقارب
بكسر ياء على فيه، وأنشدوا لذلك أيضاً البيت السابق وهو للأغلب العجلي، وجهل الزمخشري به كالزجاج لا يلتفت إليه، وقوله : إن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة إلى آخره مردود بأنه روى سكون الياء بعد الألف، وقرأ به القراء في ﴿ محياي ﴾ [ الأنعام : ١٦٢ ] وما ذكره أيضاً قياس مع الفارق فإنه لا يلزم من كسرها مع الياء المجانسة للكسرة كسرها مع الألف الغير المجانسة لها ولذا فتحت بعدها للمجانسة وكون الأصل في هذه الياء الفتح في كل موضع غير مسلم كيف وهي من المبنيات والأصل في المبنى أن يبني على السكون. ومن الناس من وجه القراءة بأنها على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراءً لها مجرى هاء الضمير وكافة، فإن الهاء قد توصل بالواو إذا كانت مضمومة كهذا لهو وضربهو، وبالياء إذا كانت مكسورة نحو بهى، والكاف قد تلحقها الزيادة فيقال أعطيتكاه وأعطيتكيه إلا أنه حذفت الياء هنا اكتفاءً بالكسرة، وقال البصير : كسر الياء ليكون طبقاً لكسر الهمزة في قوله :﴿ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ ﴾ لأنه أراد الوصل دون الوقف والابتداء بذلك والكسر أدل على الوصل من الفتح وفيه نظر، وبالجملة لا ريب في صحة تلك القراءة وهي لغة فصيحة، وقد روي أنه تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بدء الوحي وشرح حاله عليه الصلاة والسلام لورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه فإنكارها محض جهالة، وأراد بقوله :﴿ إِنّى كَفَرْتُ ﴾ إني كفرت اليوم ﴿ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا اليوم يعني في الدنيا.
و ﴿ مَا ﴾ مصدرية و ﴿ مِنْ ﴾ متعلقة بأشركتموني أي كفرت بإرشراككم إياي لله تعالى في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله تعالى أعمال الخير، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها بإيقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه، والكفر مجاز عن التبري كما في قوله تعالى
١ - وقبله: أقبل في ثوب المعافري * عند اختلاط الليل والعشي * ماض إذا ما هم بالمضى اهـ منه..
﴿ وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خاالدين فِيهَا ﴾ بصيغة المضارع المسند إلى المتكلم. وأنت تعلم أنه إذا اعتبرت هذه القراءة مؤيدة لهذا القول فلتعتبر قراءة الجمهور ﴿ ادخل ﴾ بصيغة الماضي المبني للمفعول مؤيدة لما قبله فإن المدخلين الملائكة عليهم السلام فتأمل، وكأن الله تعالى لما جمع الفريقين في قوله سبحانه :﴿ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [ إبراهيم : ٢١ ] وذكر شيئاً من أحوال الكفار ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة ﴿ بِإِذْنِ رَبّهِمْ ﴾ أي بأمره سبحانه أو بتوفيقه وهدايته جل شأنه، والجار والمجرور متعلق بأدخل على قراءة الجمهور. وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار مزيد اللطف بهم، وعلقه جماعة على القراءة الأخرى بقوله تعالى :﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام ﴾ أي يحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري وفعل عليه وهو غير جائز لما أن ذلك في حكم تقديم جزء من الشيء المرتب الأجزاء عليه. ورد بأن الظاهر أنه هنا غير منحل إليهما لأنه ليس المعنى المقصود منه أن يحيوا فيها بسلام، ولو سلم فمراد القائل بالتعلق التعلق المعنوي فالعالم فيه فعل مقدر يدل عليه ﴿ تَحِيَّتُهُمْ ﴾ أي يحيون بإذن ربهم.
وقال العلامة الثاني : الأظهر أن التقديم جائز إذا كان المعمول ظرفاً أو شبهه وهو في الكلام كثير، والتقدير تكلف، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أول به، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة من الفعل لأن له شأناً ليس لغيره لتنزله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها اه، وبالجواز أقول، وإنما لم يجعله المحققون متعلقاً بأدخل على تلك القراءة مع أنه سالم من الاعتراض ومشتمل على الالتفات أو التجريد وهو من المحسنات لأن قولك : أدخلته بإذني ركيك لا يناسب بلاغة التنزيل، والالتفات أو التجريد حاصل إذا علق بما بعده أيضاً.
وفي الانتصاف الصارف عن هذا الوجه هو أن ظاهر ﴿ ادخل ﴾ بلفظ المتكلم يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة بل من الله تعالى مباشرة وظاهر الإذن يشعر بإضافة الدخول إلى الواسطة فبينهما تنافر، واستحسن أن يعلق بخالدين والخلود غير الدخول فلا تنافر، وتعقبه في «الكشف » بأن ذلك لا يدفع الركاكة وكأنه لما أن الأذن للدخول لا للاستمرار بحسب الظاهر، وكون المراد بمشيئتي وتيسيري لا يدفع ذلك عند التأمل الصادق، فما ذهب إليه ابن جني واستطيبه الشيخ الطيبي وارتضاه ليس بشيء لمن سلم له ذوقه.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام ﴾ [ إبراهيم : ٢٣ ] لم يذكر من يحييهم، وقد ذكروا أن منهم من يحييهم ربهم وهم أهل الصفة والقربة، ومنهم من يحييهم الملائكة وهم أهل الطاعات والدرجات، وما أطيب سلام المحبوب على محبه وما ألذه على قلبه :
أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس. . . تسيل من الآماق والاسم أدمع
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وقيل : لمن يصلح له والفعل معلق بما بعده من قوله تعالى :﴿ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً ﴾ أي كيف اعتمله ووضعه في موضعه اللائق به ﴿ كَلِمَةً طَيّبَةً ﴾ نصب على البدلية من ﴿ مَثَلاً ﴾ و ﴿ ضُرِبَ ﴾ متعدية إلى مفعول واحد كما ذهب إلى ذلك الحوفي. والمهدوي. وأبو البقاء، وهو على ما قيل : بدل اشتمال ولو جعل بدل كل من كل لم يبعد. واعترض عليه بأنه لا معنى لقولك ضرب الله كلمة طيبة إلا بضم ﴿ مَثَلاً ﴾ إليه فمثلاً هو المقصود بالنسبة فكيف يبدل منه غيره، ولا يخفى أن هذا بناءاً على ظاهر قول النحاة : إن المبدل في نية الطرح وهو غير مسلم، وقوله سبحانه :﴿ كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ﴾ صفة ﴿ كَلِمَةَ ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة، وجوز أن يكون كلمة منصوباً بمضمر و ﴿ ضُرِبَ ﴾ أيضاً متعدية لواحد أي جعل كلمة ظيبة كشجرة طيبة أي حكم بأنها مثلها والجملة تفسير لقوله سبحانه :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً ﴾ كقولك : شرف الأمير زيداً كساه حلة وحمله على فرس. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.
وأجاب عنه السمين بما فيه بحث، وجوز أيضاً أن يكون ضرب المذكور متعدياً إلى مفعولين إما لكونه بمعنى جعل واتخذ أو لتضمينه معناه وكلمة أول مفعوليه قد أخر عن ثانيهما أعني ﴿ مَثَلاً ﴾ لئلا يبعد عن صفته التي هي ﴿ كَشَجَرَةٍ ﴾ قيل : ولا يرد على هذا بأن المعنى أنه تعالى ضرب لكلمة طيبة مثلاً لا كلمة طيبة مثلاً لأن المثل عليه بمعنى الممثل به والتقدير ذات مثل أولها مثلاً. وقرىء ﴿ كَلِمَةَ ﴾ بالرفع على الابتداء لكونها نكرة موصوفة والخبر ﴿ كَشَجَرَةٍ ﴾ ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف و ﴿ كَشَجَرَةٍ ﴾ صفة أخرى ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ أي ضارب بعروقه في الأرض. وقرأ أنس بن مالك ﴿ كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا ﴾ وقراءة الجماعة على الأصل وذكروا أنها أقوى معنى.
قال ابن جني : لأنك إذا قلت ثابت أصلها فقد أجربت الصفة على شجرة وليس الثبات لها إنما هو للأصل، والصفة إذا كانت في المعنى لما هو من سبب الموصوف قد تجري عليه لكنها أخص بما هي له لفظاً ومعنى فالأحسن تقديم الأصل عناية به، ومن ثم قالوا : زيد ضربته فقدموا المفعول عناية به حيث أن الغرض ليس ذكر الفاعل وإنما هو ذكر المفعول، ثم لم يقنعوا بذلك حيث أزالوه عن لفظ الفضلة وجعلوه رب الجملة لفظاً فرفعوه بالابتداء وصار ضربته ذيلاً له وفضلة ملحقة به، وكذلك قولك : مررت برجل أبوه قائم أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو الأب لا الرجل مع ما في التقديم هنا من حسن التقابل والتقسيم إلا أن لقراءة أنس وجهاً حسناً، وهو أن ﴿ ثَابِتٌ أَصْلُهَا ﴾ صفة الشجرة وأصل الصفة أن تكون اسماً مفرداً لأن الجملة إذا وقعت صفة حكم على موضعها بإعراب المفرد وذاك لم يبلغ مبلغ الجملة بخلاف ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ فإنه جملة قطعاً، وقال بعضهم : إنها أبلغ ولم يذكر وجه ذلك فزعم من زعم أنه ما أشير إليه من وجه الحسن وهو بمعزل عن الصواب.
وقال ابن تمجيد : هو أنه كوصف الشيء مرتين مرة صورة ومرة معنى مع ما فيه من الإجمال والتفصيل كما في ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [ الشرح : ١ ] فإنه لما قيل :﴿ كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ثَابِتٌ ﴾ تبادر الذهن من جعل ﴿ ثَابِتٌ ﴾ صفة لشجرة صورة أن شيئاً من الشجرة متصف بالثبات ثم لما قيل :﴿ أَصْلُهَا ﴾ علم صريحاً أن الثبات صفة أصل الشجرة وقيل : كونها أكثر مبالغة لجعل الشجرة بثبات أصولها ثابتة بجميع أغصانها فتدبر ﴿ وَفَرْعُهَا ﴾ أي أعلاها من قولهم : فرع الجبل إذا علاه، وسمى الأعلى فرعاً لتفرعه على الأصل ولهذا أفرد وإلا فكل شجرة لها فروع وأغصان، ويجوز أن يراد به الفروع لأنه مضاف والإضافة حيث لا عهد ترد للاستغراق أو لأنه مصدر بحسب الأصل وإضافته على ما اشتهر تفيد العموم فكأنه قيل : وفروعها ﴿ فِى السماء ﴾ أي في جهة العلو.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السماء * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا ﴾ [ إبراهيم : ٢٤، ٢٥ ] إشارة كما قيل إلى كلمة التوحيد التي غرسها الحق في أرض بساتين الأرواح وجعل سبحانه أصلها هناك ثابتاً بالتوفيق وفرعها في سماء القربة وسقيها من سواقي العناية وساقها المعرفة وأغصانها المحبة وأوراقها الشوق وحارسها الرعاية تؤتي أكلها في جميع الأنفاس من لطائف العبودية وعرفان أنوار الربوبية، وقال بعضهم : الكلمة الطيبة النفس الطيبة أصلها ثابت بالاطمئنان وثبات الاعتقاد بالبرهان وفرعها في سماء الروح تؤتي أكلها من ثمرات المعارف والحكم والحقائق وكل وقت بتسهيله تعالى
﴿ تُؤْتِى أُكُلَهَا ﴾ تعطى ثمرها ﴿ كُلَّ حِينٍ ﴾ وقت أقته الله تعالى لإثمارها ﴿ بِإِذْنِ رَبّهَا ﴾ بإرادة خالقها جل شأنه، والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله على ما أخرجه البيهقي. وغيره عن ابن عباس، وعن الأصم أنها القرآن، وعن ابن بحر دعوة الإسلام، وقيل : التسبيح والتنزيه، وقيل : الثناء على الله تعالى مطلقاً، وقيل : كل كلمة حسنة، وقيل : جميع الطاعات، وقيل : المؤمن نفسه، وأخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس وهو خلاف الظاهر، وكأن إطلاق الكلمة عليه نظير إطلاقها على عيسى عليه السلام، والمراد بالشجرة المشبه بها النخلة عند الأكثرين، وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود. ومجاهد. وعكرمة. والضحاك. وابن زيد.
وأخرج عبد الرزاق. والترمذي. وغيرهما عن شعيب بن الحبحاب قال : كنا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب فقال أنس لأبي العالية : كل يا أبا العالية فإن هذا من الشجرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه ﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ [ إبراهيم : ٢٤ ] وأخرج الترمذي أيضاً. والنسائي. وابن حبان. والحاكم وصححه عن أنس قال :«أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقال :﴿ مَثَلا * كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ * حتى * بَلَغَ * كُلَّ حِينٍ ﴾ قال : هي النخلة( ١ ).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أيضاً أنها شجرة في الجنة، وقيل : كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغي العدول عنه.
ووجه تشبيه الكلمة الطيبة بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله بهذه الشجرة المنعوتة بما ذكر أن أصل تلك الكلمة ومنشأها وهو الإيمان ثابت في قلوب المؤمنين وما يتفرع منها وينبني عليها من الأعمال الصالحة والأفعال الزكية يصعد إلى السماء، وما يترتب على ذلك من ثواب الله تعالى ورضاه هو الثمرة التي تؤتيها كل حين، ويقال نحو هذا على تقدير أن تكون الكلمة بمعنى آخر فتأمل. والذاهبون إلى تفسير الشجرة بالنخلة من السلف اختلفوا في مقدار الحين، فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب أنه شهران قال : إن النخلة إنما يكون فيها حملها شهرين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه سنة وقيل غير ذلك، واختلفت الروايات عن ابن عباس والأشهر أنه فسره بستة أشهر وقال : إن النخلة ما بين حملها إلى صرامها ستة أشهر، وأفتى رضي الله تعالى عنه لرجل حلف أن لا يكلم أخاه حيناً أنه لو كلمه قبل ستة أشهر حنث وهو الذي قال به الحنيفة، فقد ذكروا أن الحين والزمان معرفين أو منكرين واقعين في النفي أو في الإثبات ستة أشهر، وعللوا ذلك بأن الحين قد جاء بمعنى الساعة وبمعنى أربعين سنة وبمعنى الأبد وبمعنى ستة أشهر فعند عدم النية ينصرف إليه لأنه الوسط ولأن القليل لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والأربعون سنة لا تقصد بالحلف عادة لأنه في معنى الأبد، ولو سكت عن الحين تأبد فالظاهر أنه لم يقصد ذلك ولا الأبد ولا أربعين سنة فيحكم بالوسط في الاستعمال والزمان استعمل استعمال الحين ويعتبر ابتداء الستة أشهر من وقت اليمين في نحو لا أكلم فلاناً حيناً مثلاً، وهذا بخلاف لأصومن حيناً فإن له أن يعين فيه أي ستة أشهر شاء كما بين في محله، ومتى نوى الحالف مقداراً معيناً في الحين وأخيه صدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن كلاً منهما للقدر المشترك بين القليل والكثير والمتوسط واستعمل في كل كما لا يخفى على المتتبع فليتذكر ﴿ وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير المعاني العقلية بصور المحسوسات وبه يرتفع التنازع بين الحس والخيال.
١ - قال الترمذي الحديث الموقوف أصح اهـ منه..
﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ وهي كلمة الكفر أو الدعاء إليه أو الكذب أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى. وقرىء ﴿ وَمَثَلُ ﴾ بالنصب عطفاً على ﴿ كَلِمَةً طَيّبَةً ﴾ [ إبراهيم : ٢٤ ] وقرأ أبي ﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً * كَلِمَة خَبِيثَة ﴾ ﴿ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد، وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة، والمثل بمعنى الصفة الغريبة ﴿ اجتثت ﴾ أي اقتلعت من أصلها، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها ﴿ مِن فَوْقِ الارض ﴾ لكون عروقها قريبة من الفوق فكأنها فوق ﴿ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ أي استقرار على الأرض، والمراد بهذه الشجرة المنعوتة الحنظلة. وروي ذلك أيضاً مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الضحاك أنها الكشوث، ويشبه به الرجل الذي لا حسب له ولا نسب كما قال الشاعر :
فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق. . . ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر
وقال الزجاج وفرقه شجرة الثوم، وقيل : شجرة الشوك، وقيل : الطحلب، وقيل : الكمأة وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت، وقال ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف وفي رواية عن الحبر أيضاً تفسير هذه الشجرة بالكافر. وروى الإمامية وأنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير السجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم : وعلي كرم الله تعالى وجهه. وفاطمة رضي الله تعالى عنها وما تولد منهما، وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية.
فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله تعالى قلب العباد ظهراً وبطناً فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطناً فكان خير العرب قريشاً وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه :﴿ مَثَلُ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢٤ ] » لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق المخالف، والذي عليه الأكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل، وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة وإلا فهو نجم لا شجر، وكذا يقال في إطلاقه على الكشوث ونحوه.
وللإمام الرازي قدس سره كلام في هذين المثلين لا بأس بذكره ملخصاً وهو أنه تعالى ذكر في المثل الأول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها.
الصفة الأولى : كونها ﴿ طَيّبَةً ﴾ وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها، ويجب إرادة الجميع إذ به يحصل كمال الطيب.
والثانية : كون ﴿ أَصْلُهَا ﴾ وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الزوال فهو وإن كان يحصل الفرح بوجدانه إلا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله وأما إذ لم يكن كذلك فإنه يعظم السرور به من غير ما ينغص ذلك.
والثالثة : كون ﴿ فِى السماء ﴾ وهو أيضاً صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب.
والرابعة : كونها ﴿ *دائمة الثمر ﴾ لا أن ثمرها حاضر في بعض الأوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضاً إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذٍ.
ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه، والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته، وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة، أما في الأولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن، ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لا تحصى بين اللذتين، وأما في الصفة الثانية فثبوت الأصل في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء، وأيضاً مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلى جلال الله تعالى وهو من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلاً زواله وأما في الصفة الثالثة فلأن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني، والنوع الأول أقسامه كثيرة يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم :«التعظيم لأمر الله تعالى » ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفته سبحانه كأحوال العوالم العلوية والسفلية، وكذا محبة الله تعالى والتشوق إليه سبحانه والمواظبة على ذكره جل شأنه والاعتماد عليه وقطع النظر عما سواه جل وعلا إلى غير ذلك، والنوع الثاني أقسامه كذلك ويجمعها قوله عليه الصلاة والسلام، «والشفقة على خلق الله تعالى » ويدخل فيه الرأفة والرحمة والصفح والتجاوز عن الإساءة والسعي في إيصال الخير إلى عباد الله تعالى ودفع الشرور عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان إلى ما لا يحصى، وهي فروع من شجرة المعرفة فإن الإنسان كلما كان متوغلاً فيها كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى.
وأما في الصفة الرابعة فلأن شجرة المعرفة موجبة لما علمت من الأحوال ومؤثرة في حصولها والمسبب لا ينفك عن السبب، فدوام أكل هذه الشجرة أتم من دوام أكل الشجرة المنعوتة فهي أولى بهذه الصفة بل ربما توغل العبد في المعرفة فيصير بحيث كلما لاحظ شيئاً لاحظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيصير لا يرى شيئاً إلا يرى الله تعالى قبله، وأيضاً قد يحصل للنفس من هذه المعرفة الهامات نفسانية وملكات روحانية ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة، وفي قوله سبحانه :﴿ بِإِذْنِ رَبّهَا ﴾ [ إبراهيم : ٢٥ ] دقيقة عجيبة وذلك لأن الإنسان عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العلية قد يفرح بها من حيث هي هي وقد يترقى فلا يفرح بها كذلك وإنما يفرح بها من حيث أنها من المولى جل جلاله وعند ذلك يكون فرحه في الحقيقة بالمولى تبارك وتعالى ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد وقف بالساحل ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول.
وذكر بعضهم في هذا المثال كلاماً لا يخلو عن حسن، وهو أنه إنما مثل سبحانه الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ. وأصل قائم. وأغصان عالية فكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب. وقول باللسان. وعمل بالأركان، ولم يرتض قدس سره تفسير الشجرة بالنخلة ولا الحين بما شاع فقال : بعد نقل كلام جماعة إن هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية ألا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف شجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الكذائية يسعى في تحصيلها وادخارها لنفسه كل عاقل سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل، واختلافهم في تفسير الحين أيضاً من هذا الباب والله تعالى أعلم، وذكر تبارك وتعالى في المثل الثاني شجرة أيضاً إلا أنه تعالى وصفها بثلاث صفات.
الصفة الأولى : كونها ﴿ خَبِيثَةٍ ﴾ وذلك يحتمل أن يكون بحسب الرائحة وأن يكون بحسب الطعم وأن يكون بحسب الصورة وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة ولا حاجة إلى القول بأنها شجرة كذا أو كذا فإن الشجرة الجامعة لتلك الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعاً في المطلوب.
والثانية :﴿ اجتثت مِن فَوْقِ الارض ﴾ وهذه في مقابلة أصلها ثابت في الأول.
والثالثة : نفى أن يكون لها قرار وهذه كالمتممة للصفة الثانية، والمراد بالكلمة المشبهة بذلك الجهل بالله تعالى والإشراك به سبحانه فإنه أول الآفات وعنوان المخافات ورأس السقاوات فخبثه أظهر من أن يخفى وليس له حجة ولا ثبات ولا قوة بل هوداً حض غير ثابت ا ه، وهو كلام حسن لكن فيه مخالفة لظواهر كثير من الآثار فتأمل.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجتثت مِن فَوْقِ الارض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢٦ ] إشارة إلى كلمة الكفر أو النفس الخبيثة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار
﴿ يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت ﴾ الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة، والظاهر أن الجار متعلق بيثبت وكذا قوله سبحانه :﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم ﴾ أي يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم عنه كما جرى لأصحاب الاخدود. ولجرجيس. وشمسون وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم ﴿ وَفِي الاخرة ﴾ أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتعلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الأهوال. وأخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية : التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا له : من ربك ؟ قال : ربي الله. قالا. وما دينك ؟ قال : ديني الإسلام : قال : ومن نبيك ؟ قال : نبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالمراد من ﴿ الاخرة ﴾ يوم القيامة، وأخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية :﴿ يُثَبّتُ الله ﴾ الخ في الآخرة القبر » وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري. نعم اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض ؛ وكأن الداعي لذلك عموم ﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾ وشمولهم لمؤمني الأمم السابقة مع عدم عموم سؤال القبر، وجوز تعلق الجار الأول بآمنوا على معنى آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه سبحانه، وكذا جوز تعلق الجار الثاني بالثابت ومن الناس من زعم أن الثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة اجلنة والثواب لا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال، وأمر تعلق الجارين ما قدمنا وهذا عند بعضهم مثال إيتاء الشجرة أكلها كل حين ﴿ وَيُضِلُّ الله الظالمين ﴾ أي يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم الناشىء عن سوء استعدادهم، والمراد بهم الكفرة بدليل مقابلتهم بالذين آمنوا ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه، وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو حيث قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة، واضلالهم على ما قيل في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل. وأخرج ابن جرير.
وابن أبي حاتم. والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره فإذا دخل قبره أقعد فقيل له : من ربك ؟ فلم يرجع إليهم شيئاً وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له : من الرسول الذي بعث إليكم ؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً فذلك قوله تعالى :﴿ وَيُضِلُّ الله الظالمين ﴾ :﴿ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء ﴾ من تثبيت بعض واضلال بعض آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك، وفي إظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى مع ما فيه كما قيل من الإيذان بالتفاوت في مبادىء التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر، وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت فِى الحياة الدنيا وَفِى الاخرة ﴾ قال الصادق رضي الله تعالى عنه : يثبتهم في الحياة الدنيا على الإيمان وفي الآخرة على صدق جواب الرحمن، وجعل بعضهم القول الثابت قوله سبحانه وحكمه الأزلي أي يثبتهم على ما فيه تبجيلهم وتوقيرهم في الدارين حيث حكم بذلك في الأزل وحكمه سبحاه الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل ﴿ وَيُضِلُّ الله الظالمين ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] في الحياتين لسوء استعدادهم
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل أي ألم تنظر ﴿ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله ﴾ أي شكر نعمته تعالى الواجب عليهم ووضعوا موضعه ﴿ كُفْراً ﴾ عظيماً وغمطاً لها، فالكلام على تقدير مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو المفعول الثاني و ﴿ كُفْراً ﴾ المفعول الأول، وتوهم بعضهم عكس ذلك، وقد لا يحتاج إلى تقدير على معنى أنهم بدلوا النعمة نفسها كفراً لأنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبيها موصوفين بالكفر، وقد ذكر هذا كالأول الزمخشري، والوجهان كما في الكشف خلافاً لما قرره الطيبي وتابعه عليه غيره متفقان في أن التبديل ههنا تغيير في الذات إلا أنه واقع بين الشكر والكفر أو بين النعمة نفسها والكفر، والمراد بهم أهل مكة فإن الله سبحانه أسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا نعمة الله تعالى بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله تعالى بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين فكفروا نعمته سبحانه فضربهم جل جلاله بالقحط سبه سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فحصل لهم الكفر بدل النعمة وبقي ذلك طوقافي أعناقهم.
وأخرج الحاكم وصححه. وابن جرير. والطبراني. وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هؤلاء المبدلين : هما إلا فجران من قريش بنو أمية. وبنوا المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وأخرج البخاري في تاريخه. وابن المنذر. وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك( ١ ).
وجاء في رواية كما في جامع الأصول هم والله كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يريد أنها نزلت في جبلة ومن معه لأن قصتهم كانت في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وإنما يريد أنها تخص من فعل جبلة إلى يوم القيامة ﴿ وَأَحَلُّواْ ﴾ أي أنزلوا ﴿ *قوْمَهُمْ ﴾ بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال، ولم يتعرض لحلولهم لدلالة الاحلال عليه إذ هو فرع الحلول كما قالوا في قوله تعالى في فرعون :﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار ﴾ [ هود : ٩٨ ] ﴿ دَارَ البوار ﴾ أي الهلاك من باريبور بواراً وبوراً، قال الشاعر :
فلم أر مثلهم أبطال حرب. . . غداة الحرب إذ خيف البوار
وأصله كما قال الراغب فرط الكساد، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر به عن الهلاك.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله ﴾ من الهداية الأصلية والنور الفطري ﴿ كُفْراً ﴾ احتجاباً وضلالاً ﴿ وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ ﴾ من تابعهم واقتدى بهم في ذلك ﴿ دَارَ البوار ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] الهلاك والحرمان
١ - كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل (قل تمتعوا) الآية اهـ منه..
﴿ جَهَنَّمَ ﴾ عطف بيان للدار، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل، وأعربه الحوفي وأبو البقاء بدلاً منها، وقوله تعالى :﴿ يَصْلَوْنَهَا ﴾ أي يقاسون حرها حال من الدار أو من ﴿ جَهَنَّمَ ﴾ أو من ﴿ قَوْمَهُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] أو استئناف لبيان كيفية الحلول، وجوز أبو البقاء كون ﴿ جَهَنَّمَ ﴾ منصوباً على الاشتغال أي يصلون جهنم يصلونها وإليه ذهب ابن عطية، فالمراد بالاحلال حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والاسر، وأيد بما روي عطاء أن الآية نزلت في قتلى بدر، وبقراءة ابن أبي عبلة ﴿ جَهَنَّمَ ﴾ بالرفع على الابتداء، ويحتمل أن يكون ﴿ جَهَنَّمَ ﴾ على هذه القراءة خبر مبتدأ محذوف واختاره أبو حيان معللا بأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه ولا ما يجعله مساوياً، وجمهور القراء على النصب ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته بالرفع أرجح من زيداً ضربته فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في تلك القراءة راجحاً، وأنت تعلم أن قوله تعالى :﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ] يرجح التفسير السابق ﴿ وَبِئْسَ القرار ﴾ على حذف المخصوص بالذم أي بئس القرار هي أن جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها، وفيه بيان أن حلولهم وصليهم على وجه الدوام والاستمرار.
﴿ وَجَعَلُواْ ﴾ عطف على ﴿ أحلوا ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] أو ما عطف عليه داخل معه في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم ﴿ لِلَّهِ ﴾ الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو الواحد القهار ﴿ أَندَاداً ﴾ أمثالاً في التسمية أو في العبادة، وقال الراغب : ند الشيء مشاركة في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل وليس كل مثل ندا، وليس كل مثل نداً، ولعل المعول عليه هنا ما أشرنا إليه.
﴿ لِيُضِلُّواْ ﴾ قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا ﴿ عَن سَبِيلِهِ ﴾ القويم الذي هو التوحيد، وقيل : مقتضى ظاهر النظم الكريم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدى إلى إحلالهم دار البوار، ولعل تغيير الترتيب لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من هذه الهنات يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من الجموع، وله نظائر في الكتاب الجليل، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. ورويس عن يعقوب ﴿ لِيُضِلُّواْ ﴾ بفتح الياء، والظاهر أن اللام في القراءتين مثلها في قوله تعالى :﴿ فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ] وذلك أنه لما كان الاضلال أو الضلال نتيجة للجعل المذكور شبه بالغرض والعلة الباعثة فاستعمل له حرفه على سبيل الاستعارة التبعية قاله غير واحد ؟ وقيل عليه : إن كون الضلال نتيجة للجعل لله سبحانه أنداداً غير ظاهر إذ هو متحد معه أو لازم لا ينفك عنه إلا أن يراد الحكم به أو دوامه. ورد بأنهم مشركون لا يعتقدون أنه ضلال بل يزعمون أنه اهتداء فقد ترتب على اعتقادهم ضده، على أن المراد بالنتيجة ما يترتب على الشيء أعم من أن يكون من لوازمه أولاً وفيه تأمل ﴿ قُلْ ﴾ لأولئك الضلال المتعجب منهم ﴿ تَمَتَّعُواْ ﴾ بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة الله تعالى كفراً واستتباع الناس في الضلال، وجعل ذلك متمتعاً به تشبيهاً له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم بها، وفي التعبير بالأمر كما قال الزمخشري إيذان بأنهم لانغماسهم بالتمتع بما هم عليه وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه وهو آمر الشهوة ؛ وعلى هذا يكون قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ﴾ جواب شرط ينسحب عليه الكلام على ما أشار إليه بقوله : والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لآمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار، ويجوز أن يكون الأمر مجازاً عن التخلية والخذلان وأن ذلك الآمر متسخط إلى غاية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الآباء والتصميم حردت عليه وقلت : أنت وشأنك فافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر ولكنك كأنك تقول : فإذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك انتهى.
قال صاحب الكشف : إن الوجهين مشتركان في إفادة التهديد لكن الاداء إلى مختلف، والأول نظير ما إذا أطاع أحد عبيدك بعض من تنقم طريقته فتقول : اطع فلاناً، وهذا صحيح صدر من المنقوم أمر ومن العبد طاعة أو كان منه موافقة لبعض ما يهواه والقسم الأخير هو ما نحن فيه والثاني ظاهر انتهى.
وظاهر هذا أن التهديد على الوجهين مفهوم من صيغة الأمر، ويفهم من كلام بعض الأجلة أن ذلك على الوجه الأول من الشرطية وعلى الثاني من الأمر وما في حيز الفاء تعليل له، ولعل النظر الدقيق قاض بما أفتى به ظاهر ما في الكشف، وذكر غيرو احد أن هذا كقول الطبيب لمريض يأمره بالاحتماء فلا يحتمي : كل ما تريد فإن مصيرك إلى الموت ؛ فإن المقصود كما قال صاحب الفرائد التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول.
وجعل الطيبي ما قرر في المثال هو المراد من قول الزمخشري ان في ﴿ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ ﴾ إيذاناً بأنهم لانغماسهم الخ، وأنت تعلم أنه ظاهر في الوجه الثاني فافهم. والمصير مصدر صار التامة بمعنى رجع وهو اسم إن و ﴿ إِلَى النار ﴾ في موضع الخبر، ولا ينبغى أن يقال : إنه متعلق بمصير وهو من صار بمعنى انتقل ولذا عدى بإلى لأنه يدعو إلى القول بحذف خبر إن وحذفه في مثل هذا التركيب قليل، والكثير فيما إذا كان الاسم نكرة والخبر جار ومجرور. والحوفي جوز هذا التعلق فالخبر عنده محذوف أي فإن مصيركم إلى النار واقع أو كائن لا محالة.
ثم إنه تعالى لما هدد الكفار وأشار إلى أنهماكهم في اللذة الفانية أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر خلص عباده بالعبادة البدنية والمالية فقال سبحانه :
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا ﴾ من متاع الدنيا ومشتهياتها التي يحبونها كحب الله سبحانه ﴿ لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ] كل من نظر إلى ذلك والتفت إليه
﴿ قُل لّعِبَادِىَ الذين * ءامَنُواْ ﴾ وخصهم بالإضافة إليه تعالى رفعاً لهم وتشريفاً وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها، وترك العطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهم تهديداً وغيره، ومقول القول على ما ذهب إليه المبرد. والأخفش. والمازني محذوف دل عليه ﴿ يُقِيمُواْ ﴾ أي قال لهم : أقيموا الصلاة وأنفقوا. ﴿ يُقِيمُواْ * الصلاة *وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ والفعل المذكور مجروم على أنه جواب { قلذ عندهم. وأورد أنه لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام : أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا. ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا، ومن هنا قالوا : إن في ذلك إيذاناً بكمال مطاوعتهم يفعلوا. ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا، ومن هنا قالوا : إن في ذلك إيذاناً بكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال، ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام أنهم يفعلون من غير أمر، على أن مبنى الإيراد على أنه يشترط في السببية التامة وقد منع. وجعل ابن عطية قل بمعنى بلغ وأد الشريعة والجزم في جواب ذلك. وهو قريب مما تقدم.
وحكى عن أبي علي. وعزى للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف، وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين : الأول أن جواب الشرط لا بد أن يخالف فعل الشرط اما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فإذا اتحدا لا يصح كقولك : قم تقم إذا التقدير هنا إن يقيموا يقيموا. والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً. وقيل عليه : إن الوجه الأول قريب، وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول : قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال.
وعن أبي علي. وجماعة أن ﴿ يقيموا ﴾ خبر في معنى الأمر وهو مقول القول. ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لا تحذف، ومنه قوله تعالى :﴿ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم ﴾ إلى قوله سبحانه :﴿ تُؤْمِنُونَ ﴾ [ الصف : ١٠، ١١ ] إذ المراد منه آمنوا، والقول بأنه لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بنى الاسم التمكن في النداء على الضم في نحو يا زيد لما شبه بقبل وبعد وما لم يبن إنما لوحظ فيه لفظه مما لا يكاد يلتفت إليه، وذهب الكسائي. والزجاج. وجماعة إلى أنه مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الأعشى :
محمد تفد نفسك كل نفس. . . إذا ما خفت من أمر تبالا
وأنت تعلم أن اضمار الجازم أضعف من إضمار الجار إلا أن تقدم ﴿ قُلْ ﴾ نائب منابه ؛ كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك، والشيء إذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه، منه حذف الجار من أني إذا كانت بمعنى من أين، وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا ما في البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة، وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب.
قليل. وكثير. ومتوسط، فالكثير أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كما في الآية، والمتوسط ما تقدمه قول غير أمر كقوله :
قلت لبواب لديه دارها. . . تيذن فإني حمها وجارها
والقليل ما سوى ذلك. وظاهر كلام الكشف اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه : والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الاضمار، وان تقييد الجواب بقوله تعالى :﴿ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ ﴾ إلى ﴿ وَلاَ خلال ﴾ ليس فيه كثير طائل إنما المناسب تقييد الأمر به، وقال ابن عطية : ويظهر أن مقول القول ﴿ الله الذى ﴾ [ إبراهيم : ٣٢ ] الخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك، على أنه لا يصح حينئذ أن يكون ﴿ يُقِيمُواْ ﴾ مجزوماً في جواب الأمر لأن قول ﴿ الله الذى ﴾ [ إبراهيم : ٣٢ ] الخ لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً هذا، والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضاً كانت أو تطوعاً، وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الإنفاق بزكاة الأموال.
ولا يخفى عليك أن زكاة المال إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وان هذه السورة كلها مكية عند الجمهور، والآيتين ليست هذه الآية إحداهن عند بعض، ثم إن لم يكن هذا المأمور به في الآية مأموراً به من قبل فالأمر ظاهر وإن كان مأموراً به فالأمر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل ﴿ سِرّا وَعَلاَنِيَةً ﴾ منتصبان على المصدرية لكن من الأمر المقدر أو من الفعل المذكور على ما ذهب إليه الكسائي ومن معه على ما قيل، والأصل إنفاق سر وإنفاق علانية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه، ويجوز أن يكون الأصل إنفاقاً سراً وإنفاقاً علانية فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وجوز أن يكونا منتصبين على الحالية أما على التأويل بالمشتق أو على تقدير مضاف أي مسرين ومعلنين أو ذوي سر وعلانية أو على الظرفية أي في سر وعلانية، وقد تقدم الكلام في حكم نفقة السر ونفقة العلانية ﴿ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾ فيبتاع المقصر فيه ما يتلافى به تقصيره أو يفتدي به نفسه، والمقصود كما قال بعض المحققين نفى عقداً لمعاوضة بالمرة، وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقد إذ انتفاء البيع يستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه ربما يتصور مع تحقق الإيجاب من البائع انتهى، وقيل : إن البيع كما يستعمل في إعطاء المثمن وأخذا الثمن وهو المعنى الشائع يستعمل في إعطاء الثمن وأخذ المثمن وهو معنى الشراء ؛ وعلى هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم :«لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه » ولا مانع من إرادة المعنيين هنا، فإن قلنا بجواز استعمال المسترك في معنييه مطلقاً كما قال به الشافعية أو في النفي كما قال به ابن الهمام فذاك وإلا احتجنا إلى ارتكاب عموم المجاز فكأنه قيل : لا معاوضة فيه ﴿ وَلاَ خلال ﴾ أي مخالة فهو كما قال أبو عبيدة وغيره مصدر خاللته كالخلال، وقال الأخفش : هو جمع خليل كأخلاء وأخلة، والمراد واحد وهو نفي أن يكون هناك خليل ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدي به، ويحتمل أن يكون المعنى من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع والمخالة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى، فعلى الأول المنفي البيع والخلال في الآخرة، وعلى هذا المراد نفي البيع والخلال الذين كانا في الدنيا بمعنى نفي الانتفاع بهما، و ﴿ فِيهِ ﴾ ظرف للانتفاع المقدر حسبما أشرنا إليه، ولا يشكل ما هنا مع قوله تعالى :
﴿ الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين ﴾ [ الزخرف : ٦٧ ] حيث أثبت فيه المخالة وعدم العداوة بين المتقين لأن المراد هنا على ما قيل نفي المخالة النافعة بذاتها في تدارك ما فات ولم يذكر في تلك الآية أن المتقين يتدارك بعضهم لبعض ما فات.
وقيل : في التوفيق بين الآيتين : إن المراد لا مخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس وتلك المخالة الواقعة بين المتقين في الله تعالى، مع أن الاستثناء من الإثبات لا يلزمه النفي وإن سلم لزومه فنفى العداوة لا يلزم منه املخالة وهو كما ترى ؛ ومثله ما قيل : إن الإثبات والنفي بحسب المواطن. والظرف على ما استظهره غير واحد متعلق بالأمر المقدر، وعلقه بالفعل المذكور من رأى رأى الكسائي ومن معه بل وبعض من رأى غير ذلك إلا أنه لا يخلو عن شيء، وتذكير اتيان ذلك اليوم على ما في إرشاد العقل السليم لتأكيد مضمون الأمر من حيث أن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير معاوضة وتبرعاً وانقطاع آثار البيع والخلال والواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيل الله تعالى أو من حيث أن ادخار المال وترك انفاقه إنما يقع غالباً للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. وتخصيص أمر الإنفاق بذلك التأكيد لميل النفوس إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به. وفيه أيضاً أنه لا يبعد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضاً من حيث أن تركها كثيراً ما يكون للاشتغال بالبياعات والمخاللات كما في قوله تعالى :
﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ * تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا ﴾ [ الجمعة : ١١ ] وأنت تعلم بعده لفظاً بناء على تعلق ﴿ سِرّا وَعَلاَنِيَةً ﴾ بالأمر بالإنفاق، ثم إن ما ذكر من الوجهين في الآية هو الذي ذكره بعض المحققين، واقتصر الزمخشري فيها على الوجه الثاني، وكلامه في تقريره ظاهر في أن فائدة التقييد الحث على الإنفاق حسبما بينه في الكشف، وفيه تقرير الحاصل أن قوله تعالى :﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال ﴾ أي لا انتفاع بهما كناية عن الانتفاع بما يقابلهما وهو ما أنفق لوجه الله تعالى فهو حث على الإنفاق لوجهه سبحانه كأنه قيل : لينفقوا له من قبل أن يأتي يوم ينتفع بانفاقهم المنفقون له ولا ينفع الندم لمن أمسك، والعدول إلى ما في النظم الجليل ليفيد الحصر وإن ذلك وحده هو المنتفع به، وليفيد المضاة بين ما ينفع عاجلياً وما ينفع آجلياً، وذكر في آية البقرة ( ٢٥٤ ) ﴿ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ ﴾ أن المعنى من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع حتى تبتاعوا ما تنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به، وبين المدقق وجه اختصاص كل من المعنيين بموضعه مع صحة جريانهما جميعاً في كل من الموضعين بأن الأول خطاب عام فكان الحث فيه الإنفاق مطلقاً وتصوير أن الإنفاق نفسه هو المطلوب فليغتنم قبل أن يأتي يوم يفوت فيه ولا يدركه الطالب هو الموافق لمقتضى المقام وأن الثاني لما اختص بالخلص كان الموافق للمقام تحريضهم على ما هم عليه من الإنفاق ليدوموا عليه فقيل : دوموا عليه وتمسكوا به تغتبطوا يوم لا ينفع إلا من دام عليه، ولو قيل : دوموا عليه قبل أن يفوتكم ولا تدركوه لم يكن بتلك الوكادة لأن الأول بالحث على طلب أصل الفعل أشبه والثاني بطلب الدوام فتفطن له اه ولا يخلو عن دغدغة.
وقرأ أبو عمرو. وابن كثير. ويعقوب ﴿ لاَّ بَيْعٌ * فِيهَا وَلاَ *خلال ﴾ بفتح الاسمين تنصيصاً على استغراق النفي، ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابي هو على ما قيل وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال ؟ ثم إنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافر لنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكراً لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الانام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام حثاً للمؤمنين عليها وقريعاً للكفرة المخلين أتم اخلال بها فقال عز قائلاً :
﴿ الله الذي خَلَقَ * السموات والارض ﴾ الخ، وهذا أولى مما قيل : إنه تعالى لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء وكان حصول السعادة بمعرفة الله تعالى وصفاته والشقاوة بالجهل بذلك ختم الوصف بالدلائل الدالة على وجوده جل شأنه وكمال علمه وقدرته فقال سبحانه ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيز الصلة نعماً لا دلائل، والاسم الجليل مبتدأ والموصول خبره ولا يخفى ما في الكلام من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان، والمراد خلق السموات وما فيها من الإجرام العلوية والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السماء ﴾ أي السحاب ﴿ مَاء ﴾ أي نوعاً منه وهو المطر، وسمى السحاب سماء لعلوه وكل ما علاك سماء ؛ وقيل : المراد بالسماء الفلك المعلوم فإن المطر منه يتبدى إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض، وعليه الكثير من المحدثين لظواهر الأخبار.
واستبعد ذلك الإمام لأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى السحاب أسفل منه فإذا نزل رآه ماطراً، ثم قال : وإذا كان هذا أمراً مشاهداً بالبصر كان النزاع فيه باطلاً، وأول بعضهم الظواهر لذلك بأن معنى نزول المطر من السماء نزوله بأسباب ناشئة منها، وإياماً كان ﴿ فَمَنْ ﴾ ابتدائية وهي متعلقة ﴿ *بأنزل ﴾ وتقديم المجرور على المنصوب اما باعتبار كونه مبتدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك : أعطاه السلطان من خزائنه مالاً أو لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر ﴿ مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ ﴾ أي بذلك الماء ﴿ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ تعيشون به وهو بمعنى المرزوق مراداً به المعنى اللغوي وهو كل ما ينتفع به فيشمل المطعوم والملبوس، ونصبه على أنه مفعول ﴿ أَخْرَجَ ﴾ و ﴿ مِنَ الثمرات ﴾ بيان له فهو في موضع الحال منه، وتقدم ﴿ مِنْ ﴾ البيانية على ما تبينه قد أجازه الكثير من النحاة وقد مر الكلام في ذلك، واستظهر أبو حيان المانع لذلك كون ﴿ مِنْ ﴾ للتبعيض، والجار والمجرور في موضع الحال و ﴿ رِزْقاً ﴾ مفعول ﴿ أَخْرَجَ ﴾ أيضاً، وجوز أن تكون ﴿ مِنْ ﴾ بمعنى بعض مفعول أخرج و ﴿ رِزْقاً ﴾ بمعنى مرزوقاً حالاً منه فهو بيان للمراد من بعض الثمرات لأن منها ما ينتفع به فهو رزق ومنها ما ليس كذلك، ويجوز أن يكون ﴿ رِزْقاً ﴾ باقياً على مصدريته، ونصبه على أنه مفعول له أي أخرج به ذلك لأجل الرزق والانتفاع به أو مفعول مطلق لأخرج لأن أخرج بعض الثمرات في معنى رزق فيكون في معنى قعدت جلوساً على المشهور، وقيل : من زائدة ولا يرى جواز ذلك هنا إلا الأخفش و ﴿ لَكُمْ ﴾ صفة لرزقاً أن أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل : رزقاً إياكم، والباء للسببية.
ومعنى كون الإخراج بسببه أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة بإذنه في ذلك حسبما جرت به حكمته الباهرة مع غناه الذاتي سبحانه عن الاحتياج إليه في الإخراج، وهذا هو رأي السلف الذي رجع إليه الأشعري كما حقق في موضعه، وزعم من زعم أن المراد أخرج عنده والتزموا هذا التأويل في ألوف من المواضع وضللوا القائلين بأن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة مؤثرة في شيء ما حتى قالوا : إنهم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان، وأولئك عندي أقرب إلى الجنون وسفاهة الرأي. و ﴿ الثمرات ﴾ يراد بها ما يراد من جمع الكثرة لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض أو لأنه أريد بالمفرد جماعة الثمرة التي في قولك : أكلت ثمرة بستان فلان، وقد تقدم لك ما ينفعك تذكرة في هذا المقام فتذكر ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك ﴾ السفن بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك، وقيل : بأن جعلها لا ترسب في الماء ﴿ لِتَجْرِىَ فِى البحر ﴾ حيث توجهتم ﴿ بِأَمْرِهِ ﴾ بمشيئته التي بها نيط كل شيء، وتخصيصه بالذكر على ما ذكره بعض المحققين للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال، ويندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره( ١ ) وكذا تسخير الرياح ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار ﴾ جعلها معدة لانتفاعكم حيث تشربون منها وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم وما أشبه ذلك، هذا إذا أريد بالأنهار المياه العظيمة اجلارية في المجاري المخصوصة وأما إذا أريد بها نفس المجاري فتسخيرها تيسيرها لهم لتجري فيها المياه.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ الله الذي خَلَقَ * السموات ﴾ أي سموات الأرواح ﴿ والارض ﴾ أي أرض الأجساد ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السماء ﴾ أي سماء عالم القدس ﴿ مَاء ﴾ وهو ماء العلم ﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ ﴾ من أرض النفس ﴿ مِنَ الثمرات ﴾ وهي ثمرات الحكم والفضائل ﴿ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ في تقوى القلب بها ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك ﴾ أي فلك العقول ﴿ لِتَجْرِىَ فِى البحر ﴾ أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار ﴾ [ إبراهيم : ٣٢ ] أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم
١ - فيه استخدام فلا تغفل. اهـ منه.
﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ ﴾ أي دائمين في الحركة لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا.
أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر، والقول بجريانهما إذا غربا تحت الأرض مروى أيضاً عن الحسن البصري وهو الذي يشهر له العقل السليم وللأخباريين غير ذلك، وظاهر الآية إثبات الحركة لهما أنفسهما. والفلاسفة يثبتون لهما حركتين يسمون احداهما الحركة الأولى وهي الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب الحاصلة لهما بقسر المحدد لفلكيهما، والأخرى الحركة الثانية وهي الحركة على توالي البروج من المغرب إلى المشرق الحاصلة لهما بحركة فلكيهما حركة ذاتية، ولا يثبتون لهما حركة في ثخن الفلك على نحو حركة السمكة في الماء لصلابة الفلك وعدم قبوله الخرق أصلا عندهم.
وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته حركتهما على ذلك النحو، والفلك عنده مثل الماء والهواء.
ذكر بعض الأخباريين أنهما وسائر الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة يسيرونها كيف شاء الله تعالى وحيث شاء سبحانه، والافلاك ساكنة عند هذا البعض، وكذا عند الشيخ قدس سره على ما يقتضيه ظاهر كلامه، والأخبار في هذا الباب ليست بحيث تسد ثغر الخصم. وذكر النسفي أنه ليس فيهما ما يعول عليه، وكلام الفلاسفة ما لم يكن فيه مصادمة لما تحقق عن املخبر الصادق صلى الله عليه وسلم مما لا بأس به، وفسر بعضهم ﴿ دَائِبَينَ ﴾ بمجدين تعبين وهو على التشبيه والاستعارة، وأصل الدأب العادة المستمرة، ونصب الاسم على الحال، وتسخير هذين الكوكبين العظيمين جعلهما منيرين مصلحين ما نيط بهما صلاحه من المكونات، ولعمري أن الله سبحانه جعلهما أجدى من تفاريق العصا. وفي كتاب «المشارع والمطارحات » للشيخ شهاب الدين السهر وردي قتيل حلب أن تأثير الشمس والقمر أظهر الآثار السماوية، وتأثير الشمس أظهر من تأثير القمر، وأظهر الآثار بعد الشعاع التسخين الحاصل منه ولولا ذلك ما كان كون وفلا فساد ولا استحالة ولا ليل ولا نهار ولا فصول ولا مزاج ولا حيوانات ولا غيرها، وأطال الكلام في بيان ذلك وما يتعلق به، ولا ضرر عندي في اعتقاد أنهما مؤثران بإذن الله تعالى كسائر الأسباب عند السلف الصالح ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر ﴾ يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم، وأرجع بعض المحققين التسخير في المواضع الأربعة إلى معنى التصريف، وأصله سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهراً، وذكر أن في التعبير عن ذلك به من الإشعار بما في ذلك من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال ما لا يخفى، والظاهر أنه في المعنى المراد به هنا مجاز في تلك المواضع جميعاف، ونقل أبو حيان عن المتكلمين أنه مجاز في الأخير منها قال : لأن الليل والنهار عرضان والأعراض لا تسخر وفيه قصور، وفي إبراز كل من هذه النعم في جملة مستقلة تنويه لشأنها وتنبيه على رفعة مكانها وتنصيص على كون كل نعمة جليلة مستوجبة للشكر.
وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدم من الأمور مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة قيل : لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعى لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذي من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر نعمة واحدة، وقد تقدم نظيره آنفاً، وذكر بعضهم في وجه ذكر هذه المتعاطفات على هذا الأسلوب أنه بدأ بخلق السموات والأرض لأنهما أصلان يتفرع عليهما سائر ما يذكر بعد، وثنى بإنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به لشدة تعلق النفوس بالرزق فيكون تقديمه من قبيل تعجيل السمرة. ولما كان الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجواري في «البحر » وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع من ذلك وبالنقل يكثر الربح ذكر سبحانه تسخير الفلك التي ينقل عليها واقتصر عليها اعتناءً بشأنها، ولما ذكر أمر الثمرات وما به يكمل الانتفاع بها من حيث النقل ذكر تسخير الأنهار العذبة التي يشرب منها الناس في سائر الأحيان إتماماً لأمر الرزق وذكر تسخير الشمس والقمر بعد لأن الانتفاع بهما ليس بالمباشرة كالانتفاع بالفلك والانتفاع بالانهار، وأخر تسخير الليل والنهار لأنهما عرضان وما تقدمهما جوهر والعرض من حيث هو بعد الجوهر اه، وليس بشيء يعول عليه.
( ومن باب الإشارة ) :﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس ﴾ شمس الروح ﴿ والقمر ﴾ قمر القلب ﴿ دَائِبَينَ ﴾ في السير بالمكاشفة والمشاهدة ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس ﴾ ليل ظلمة صفات النفس ﴿ والنهار ﴾ [ إبراهيم : ٣٣ ] نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة
﴿ وءاتاكم * مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ أي أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة فمن كل مفعول ثان لآتى و ﴿ مِنْ ﴾ تبعيضية، وقال بعض الكاملين : إن ﴿ كُلٌّ ﴾ للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى :﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء ﴾ [ الأنعام : ٤٤ ] واعترض على حمل ﴿ مِنْ ﴾ على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى إخلاء لفظ ﴿ كُلٌّ ﴾ عن فائدة زائدة لأن ﴿ مَا ﴾ نص في العموم بل يوهم إيتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له.
ودفع بأنه بعد تسليم كون ﴿ مَا ﴾ نصاً في العموم هنا عمومان عموم الأفراد وعموم الأصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا، فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه، فإن الاحتياج بالذات إلى النوع/ والصنف لا لفرد بخصوصه، وفسر ﴿ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس إليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل، فلا ينفي إيتاء ما لا حاجة إليه مما لا يخطر بالبال، وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالاً له بلسان الحال وهو من باب التمثيل، وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في رأي في قوله تعالى :﴿ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] وقيل : الأصل وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما ألقى، ﴿ وَمَا ﴾ يحتمل أن تكون موصولة والضمير المنصوب في ﴿ سَأَلْتُمُوهُ ﴾ عائد عليها، والتقدير من كل الذي سألتموه إياه ؛ ومنع أبو حيان جواز أن يكون راجعاً إليه تعالى ويكون العائد على الموصول محذوفاً مستنداً بأنه لو قدر متصلاً لزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة من دون اختلاف وهو لا يجوز( ١ ) ولو قدر منفصلاً حسبما تقتضيه القاعدة في مثل ذلك لزم حذف العائد المنفصل وقد نصوا على عدم جوازه اه.
وذهب بعضهم إلى جواز كلا التقديرين مدعياً أن منع اتصال المتحدين رتبة خاص فيما إذا ذكرا معاً أما إذا ذكر أحدهما وحذف الآخر فلا منع إذ الاتصال حينئذٍ محض اعتبار وعلة المنع لا تجري فيه، وأن منع حذف المنفصل خاص أيضاً فيما إذا كان الانفصال لغرض معنوي كالحصر في قولك : جاء الذي أباه ضربت إذ بالحذف حينئذٍ يفوت ذلك الغرض، أما إذا كان لغرض لفظي كدفع اجتماع المثلين فلا منع إذ ليس هناك غرض يفوت، ويحتمل أن تكون موصوفة والكلام في الضمير كما تقدم، وأن تكون مصدرية والضمير لله تعالى والمصدر بمعنى المفعول أي مسؤولكم.
وقرأ ابن عباس. والضحاك. والحسن. ومحمد بن علي. وجعفر بن محمد. وعمرو بن قائد. وقتادة. وسلام. ويعقوب.
ونافع في رواية ﴿ مِن كُلّ ﴾ بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال، وجوز على هذه القراءة أن تكون ﴿ مَا ﴾ نافية والمفعول الثاني ﴿ مِن كُلّ ﴾ كما في قوله تعالى :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء ﴾ [ النمل : ٢٣ ] والجملة المنفية في موضع الحال أي أتاكم من كل غير سائليه، وهو إخبار منه تعالى بسيوغ نعمته سبحانه عليهم بما لم يسألوه من النعم ؛ وروي هذا عن الضحاك، ولا يخفى أن الوجه هو الأول ما أن القراءة على هذا الوجه تخالف القراءة الأولى والأصل توافق القراءتين وإن فهم منها إيتاء ما سألوه بطريق الأول.
﴿ وَإِن تَعُدُّواْ * نِعْمَتَ الله ﴾ أي ما أنعم به عليكم كما هو الظاهر.
وقال الواحدي : إن ﴿ نِعْمَتَ ﴾ هنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم إنعاماً ونعمة كما يقال أنفقت إنفاقاً ونفقة فالنعمة بمعنى الإنعام ولذا لم تجمع، والمعول عليه ما أشرنا إليه من أنها اسم جنس بمعنى المنعم به، والمراد بها الجمع كأنه قيل : وإن تعدوا نعم الله ﴿ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ وقد نص بعضهم على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة وما قيل : إن الاستغراق ليس مأخوذاً من الإضافة بل من الشرط والجزاء المخصوصين فيه نظر لأن الحكم المذكور يقتضي صحة إرادته منه ولولاه تنافيا، والمراد بلا تحصوها لا تطيقوا حصرها ولو إجمالاً فإنها غير متناهية، وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الأعشى :
ولست بالأكثر منهم حصى. . . وإنما العزة للكاثر
ثم استعمل لمطلق العد، وقال بعض الأفاضل : إن أصله أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتها وهو من الحسن بمكان إلا أنه ذهب إلى الأول الراغب وغيره، وأول الإحصاء بالحصر لئلا يتنافى الشرط والجزاء إذا ثبت في الأول العد ونفي في الثاني ولو أول ﴿ ءانٍ * تَعْدُواْ ﴾ بأن تريدوا العد يندفع السؤال على ما قيل أيضاً والأول أولى، وقال بعض الفضلاء : إن المعنى أن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه تعالى لا تطيقوا عدها.
وإنما أتى بإن وعدم العد مقطوع به نظراً إلى توهم أنه يطاق، قيل : والكلام عليه أبلغ منه على الأول لما فيه من الإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يمكن عد تفاصيلها، لكن أنت تعلم أن الظاهر هو الأول. وقد ذكر الإمام مثالين يستوضح بهما الوقوف على أن نعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى فقال :
الأول : أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان دماغية ونخاعية، والدماغية سبعة وقد أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحدة منها، ولا شك أن كل واحدة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحدة من تلك الشعب تنقسم أيضاً إلى شعب أدق من الشعر، ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء، ولو أن واحدة اختلت كيفاً أو وضعاً أو نحو ذلك لاختلت مصالح البنية، ولكل منها على كثرتها حكم مخصوصة، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والوضع والفعل والانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحراً لا ساحل له، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان فاعتبر في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجسام ؛ وإذا اعتبرت أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والمعدن والحيوان ظهر لك أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلاً واحداً وتأمل به الإنسان في حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل.
الثاني : أنه إذا أخذت لقمة من الخبز لتضعها في فمك فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، فأما الأول فأعرف أنها لا تتم إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائماً على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها ولا تنبت إلا بمعونة الفصول وتركب الطبائع وظهور الأمطار والرياح، ولا يحصل شيء من ذلك إلا بدور أن الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة، ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد لها من آلات الطحن ونحوه وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ؛ ثم تأمل كيف تكونت على الأشكال المخصوصة، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر حتى يمكن الطبخ، وأما الثاني فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق ذلك حتى يمكنه الانتفاع بتلك اللقمة، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل ؛ وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار فلا يمكنك أن تعرف القليل إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب على الوجه الأكمل، وأني للعقول بإدراك كل ذلك فظهر بالبرهان الباهر صحة هذه الشرطية اه.
وقال مولانا أبو السعود قدس سره بعد كلام : وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على ما جل من السر ودق فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لم انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر الصفات الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المبدىء الأول عز شأنه وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداءً ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي.
وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده، نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء، وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اه، ويتراءى منه أنه قد ترك الإمام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لاقتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم : إن الوجود نعمة نكذا كل ما يتبعه من الكمالات، وذلك موقوف على وجوده تعالى في الأزمنة الموهومة الغير المتناهية، وتحقق ما يتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة، فالنعم غير متناهية، ولك أن تقول في بيان ذلك : إنه ما من إنسان إلا وقد دفع الله تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الإمكان غير متناهية، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية، ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لا زال عذابهم بازدياد كما يرشد إليه قوله تعالى :﴿ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٠ ] وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك، فيكون كل مرتبة منه متناهياً في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم الله تعالى على المبتلي أيضاً لا تحصى.
وفي رواية ابن أبي الدنيا. والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن لله تعالى على أهل النار منة فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم. ثم الظاهر أن المراد بالنعمة معناها اللغوي أعني الأمر الملائم لا المعنى الشرعي أعني الملائم الذي تحمد عاقبته إذ لا يتأتى عليه عموم الخطاب، ولا يبعد إطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقاً، وظاهر ما تقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الإنسان لا يحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر.
وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك، وما أحسن ما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه : من لم يعرف نعمة الله تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وأخرج البيهقي في الشعب. وغيره عن سليمان التيمي قال : إن الله تعالى أنعم على العباد
١ - قال ابن مالك وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا أهـ منه..
والتفت إليه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سموات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الأجساد وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي سماء عالم القدس ماءً وهو ماء العلم فَأَخْرَجَ بِهِ من أرض النفس مِنَ الثَّمَراتِ وهي ثمرات الحكم والفضائل رِزْقاً لَكُمْ في تقوى القلب بها وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي فلك العقول لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ شمس الروح وَالْقَمَرَ قمر القلب دائِبَيْنِ في السير بالمكاشفة والمشاهدة وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ ليل ظلمة صفات النفس وَالنَّهارَ نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان الاستعداد فإن المسئول بذلك لا يمنع وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ السابقة واللاحقة لا تُحْصُوها لعدم تناهيها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ ينقص حق الله تعالى أو حق نفسه بإبطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء كَفَّارٌ لتلك النعم التي لا تحصى لغفلته عن المنعم عليه بها، وقيل: إن الإنسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى، كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية.
219
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ مفعول لفعل محذوف أي اذكر ذلك الوقت، والمقصود تذكير ما وقع فيه على نهج ما قيل في أمثاله رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعني مكة شرفها الله تعالى: آمِناً أي ذا أمن، فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا من إسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار، والفرق بين ما هنا وما في [البقرة: ١٢٦] من قوله: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً أنه عليه السلام سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا كذا في الكشاف، وتحقيقه أنك إذا قلت: اجعل هذا خاتما حسنا فقد أشرت إلى المادة طالبا أن يسبك منها خاتم حسن وإذا قلت: اجعل هذا الخاتم حسنا فقد قصدت الحسن دون الخاتمية، وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه بمنزلة الخبر، وإلى هذا يرجع ما قيل في الفرق أن في الأول سؤال أمرين البلدية والأمن وهاهنا سؤال أمر واحد وهو الأمن. واستشكل هذا التفسير بأن يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقا على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة.
قال في الكشف: والتقصي عن ذلك إما بأن المسئول أولا صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة، وثانيا إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا، وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول، وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسئول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف، وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد التي هي كذلك، ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه السلام بقوله: إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ اه.
وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم، واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين، فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى أولا، واقتصر هاهنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إذ المسئول هويها إليهم للمساكنة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية وقد حكى بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل، وهذه الآية وما تلاها أعني قصة إبراهيم عليه السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد.
وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه ﷺ ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفا لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ويهوى قلوب الناس إليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله تعالى أندادا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أي بعدني وإياهم أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي عن عبادتها، وقرأ الجحدري. وعيسى الثقفي «وأجنبني»
220
بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون: جنبه مخففا وأجنبه رباعيا وأما أهل الحجاز فيقولون: جنبه مشددا، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد، والمراد هنا على ما قال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى. وتعقب ذلك الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت؟ ثم قال: والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول أن عليه السلام وإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب، والثاني أن الصوفية يقولون: الشرك نوعان. ظاهر وهو الذي يقول به المشركون. وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى، فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى، ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوي يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم (١) :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهم السلام، وحيث بني الكلام على ما قرروه يقال: ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه؟ والجواب الصحيح عندي ما قيل: إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم، ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال لموسى عليه السلام: يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.
وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرا ما يسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها، ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليه السلام فتدبر، والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه، فلا يتوهم أن الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجودا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام.
وقال سفيان بن عيينة: إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد إسماعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت (٢)
بل يقال طاف به، وعلى ذلك أيضا حمل مجاهد البنين وقال: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنما وإنما عبد بعضهم الوثن، وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور، وليت شعري كيف ذهبت على هذين الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام. وقال الإمام بعد نقله كلام مجاهد: إن هذا ليس بقوي لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة، ومن هنا قيل عليه: إن فيما ذكره كرا على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضا: واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان
(١) هو ابن الفارض قدس سره اه منه.
(٢) ولا يخفى أن هذا من الآداب وإلا فقد ورد «دار» في بعض من الآثار كما قال النووي اه منه.
221
ليس إلا من الله تعالى لأنه عليه السلام إنما طلب التبعيد عن عبادة الأصنام منه تعالى، وحمل ذلك على الألطاف فيه ما فيه رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي تسببن له في الضلال فاسناد الإضلال إليهن مجازي لأنهن جماد لا يعقل منهن ذلك والمضل في الحقيقة هو الله تعالى، وهذا تعليل لدعائه عليه السلام السابق، وصدر بالنداء إظهارا للاعتناء به ورغبة في استجابته فَمَنْ تَبِعَنِي منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام فَإِنَّهُ مِنِّي يحتمل أن تكون من تبعيضية على التشبيه أي فإنه كبعضي في عدم الانفكاك، ويحتمل أن تكون اتصالية كما في
قوله ﷺ لعليّ كرم الله تعالى وجهه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
أي فإنه متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين، وتسميتها اتصالية لأنه يفهم منها اتصال شيء بمجرورها وهي ابتدائية إلا أن ابتدائيته باعتبار الاتصال كذا في حواشي شرح المفتاح الشريفي، يعني أن مجرورها ليس مبدأ أو منشأ لنفس ما قبلها بل لاتصاله، فإما أن يقدر متعلقها فعلا خاصا كما قاله الجلال السيوطي في بيان الخبر من أن مِنِّي فيه خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة بمعنى أنت متصل بي ونازل مني بمنزلة هارون من موسى، وإما أن يقدر فعل عام كما ذهب إليه الشريف هناك أي منزلته بمنزلة كائنة وناشئة مني كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام، وتقديره خاصا هنا كما فعلنا على تقدير جعلها اتصالية مما يستطيبه الذوق السليم دون تقديره عاما وَمَنْ عَصانِي أي لم يتبعني، والتعبير عنه بالعصيان كما قيل للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأن الدعوة لم تبلغه. وفي البحر أن بين الاتباع والعصيان طباقا معنويا لأن الاتباع طاعة فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي قادر على أن تغفر له وترحمه، وفي الكلام على ما أشار إليه البعض حذف والتقدير ومن عصاني فلا أدعو عليه فإنك إلخ، وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا إشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في شرح مسلم من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وإنما امتنعت في شرعنا.
واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك إلى السدي. ومنهم من ذهب إلى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عما تقتضيه المعادلة، وروي ذلك عن مقاتل. وفي رواية أخرى عنه أنه قال: إن المعنى ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب. ومنهم من قال:
المعنى ومن لم يتبعني فيما أدعو إليه من التوحيد وأقام على الشرك فإنك قادر على أن تستره عليه وترحمه بعدم معاجلته بالعذاب، ونظير ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: ٦] ومنهم من قال: إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله سبحانه لا يغفر الشرك، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا كما تقرر في الأصول لكن الدليل السمعي منع منها، ولا يلزم النبي أن يعلم جميع الأدلة السمعية في يوم واحد. والإمام لم يرتض أكثر هذه الأوجه وجعل هذا الكلام منه عليه السلام شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وأنه دليل لحصول ذلك لنبينا ﷺ فقال: إن المعصية المفهومة من الآية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو قبلها، والأول والثاني باطلان لأن مَنْ عَصانِي مطلق فتخصيصه عدول عن الظاهر، وأيضا الصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصم فلا يمكن اللفظ عليه فثبت أن الآية شفاعة لأهل الكبائر قبل التوبة، ومتى ثبتت منه عليه السلام ثبتت في حق نبينا عليه الصلاة والسلام لمكان اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النساء: ١٢٥] ونحوه، ولئلا يلزم النقص، وهو كما ترى، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فتذكر هداك الله تعالى.
رَبَّنا قال في البحر كرر النداء رغبة في الإجابة والالتجاء إليه تعالى، وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره
222
عليه السلام وذكر بنيه في قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في رَبِّ إِنَّهُنَّ إلخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد، فالوجه أن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادئ إجابته من قوله:
إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ متعلق بذريته، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسئول، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر ومِنْ في قوله مِنْ ذُرِّيَّتِي بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي ومِنْ تحتمل التبعيض والتبيين. وزعم بعضهم أن مِنْ زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى، والمراد بالمسكن إسماعيل عليه السلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي: لِيُقِيمُوا إلخ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز، وهذا الإسكان بعد ما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان.
وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسماعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم (١) قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت، وانطلق عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرون استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ- إلى- لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر، فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعا، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله سبحانه لا يضيع أهله، ثم إنه مرت رفقة من جرهم فرأوا طائرا عائفا فقالوا: لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه امرأة منهم وتمام القصة في كتب السير. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وهو وادي مكة شرفها الله تعالى، ووصفه بذلك دون غير مزورع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحا للزرع، ونظيره قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر: ٢٨] وكان ذلك لحجريته، قال ابن عطية: وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن الله تعالى لا يضيع إسماعيل عليه السلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد، وقال أبو
(١) وبهذا يبطل استدلال بعض غلاة المتصوفة بالآية على أنه يجوز للإنسان أن يضع ولده وعياله في أرض مضيعة اتكالا اه منه.
223
حيان بعد نقله وقد يقال: إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه، وقال بعضهم: إن طلب الماء لم يكن مهما له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بيانا لكمال الافتقار إلى المسئول فتأمل. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ظرف لأسكنت كقولك: صليت بمكة عند الركن، وزعم أبو البقاء أنه صفة واد أبو بدل منه، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره، فإنهم قالوا: معنى كون البيت محرما أن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقا على ما قيل (١)، وأبعد من قال إنه سمي محرما لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالا عليهم، وسماه عليه السلام بيتا باعتبار ما كان فإنه كان مبنيا قبل، وقيل: باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك.
رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي لأن يقيموا، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، والجار والمجرور متعلق- بأسكنت- المذكور، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك.
وهذا الحصر- على ما ذكروا- مستفاد من السياق فإنه عليه السلام لما قال: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ نفى أن يكون سكانهم للزراعة ولما قال: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أثبت أنه مكان عبادة فلما قال: لِيُقِيمُوا أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في رَبَّنا من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود.
وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر، فقد استدل بقوله تعالى: لِتَرْكَبُوها [النحل: ٨] على حرمة أكلها، وفي الكشف أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان، أخبر أولا أنه أسكنهم، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ثم صرح ثانيا بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل رَبَّنا ثانيا بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار رَبَّنا إلا من هذا الوجه اه، واختار بعضهم ما ذكرناه أولا في وجه الاستفادة وقال: إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويجعل النداء مؤكدا للأول يندفع ما قيل: إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق، ووجه الاندفاع ظاهر، وقيل: اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن
(١) وقيل: العتيق مقابل الجديد اه منه.
224
الجوزي: إن اللام متعلقة بقوله: اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وفي قوله: لِيُقِيمُوا بضمير الجمع على ما في البحر دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي أفئدة من أفئدتهم تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسرع إليهم شوقا وودادا- فمن- للتبعيض، ولذا قيل: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق. وروي عن ابن جبير أنه قال: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى.
وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإن عين الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى اه. وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروي وكون المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس، ومجاهد كما في الدر المنثور. وغيره، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت. فقد أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة. وطاوسا. وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية فَاجْعَلْ إلى آخره فقالوا: البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه، وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا نعم هو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون مِنْ للابتداء كما في قولك: القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل: أفئدة ناس، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس.
وتعقبه بعض الأجلة بقوله: وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله: إِلَيْهِمْ وفيه تأمل اه وكأن فيه إشارة إلى ما قيل: من أن الابتداء في مِنْ الابتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقا، وإن جعلناها متعلقة- بتهوى- لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاما لا يخلو عن بحث فقال: اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انتهاء مخصوص إذا كان المعنى لا يقتضي إلا المبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو.
وقد قيل: إن جميع معاني مِنْ دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: ٤] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضا منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للابتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من شراح الكشاف لكنه معنى غامض فتدبره، والأفئدة مفعول أول- لا جعل- وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في البحر. وغيره بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل: الأفئدة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة «تهوى» وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدى باللام كما في قوله:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها تبك
وإنما عدي بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله:
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمن الجن كأنجاسها
ولما كان ما تقدم كالمبادئ لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله: «فاجعل» إلى آخره وقرأ هشام «أفئيدة» بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله:
225
أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب
ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا: إن هشاما قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضا من الهمزة. وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك. وقرئ «آفدة» على وزن ضاربة وفيه احتمالان: أحدهما أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة فقلبت ألفا فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت الفاء فصار آدر.
وثانيهما أنه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة. وقرئ «أفدة» بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال، وهو إما صفة من أفد بوزن خشنة فيكون بمعنى آفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء.
قال الأولون: إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين، وقال صاحب النشر من الآخرين: الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤولا وأفئدة وقرآن وظمآن فيها وجه واحد وهو النقل وحكى فيه وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جدا وكذا قال غيره منهم، فما قيل: إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه. وقرأت أم الهيثم «أفودة» بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة لكني لا أعرف هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اه. وقال أبو حيان: يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب إذ الأصل أوفدة، وجمع فعل على أفعلة شاذ ونجد وأنجدة ووهى وأوهية، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إفادة» على وزن امارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: أشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ مسلمة بن عبد الله «تهوى» بضم التاء مبنيا للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية من هوى اللازم كأنه قيل: يسرع بها إليهم.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وجماعة من أهله.
ومجاهد «تهوى»
مضارع هو بمعنى أحب، وعدي بإلى لما تقدم وَارْزُقْهُمْ أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك. وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: ١٢٦] اكتفاء- على ما قيل- بذكر إقامة الصلاة.
مِنَ الثَّمَراتِ من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقا للحرم. وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعا ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة. وروي نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل، فلينظر ما وجه الحكمة فيه، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على
226
كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسئول، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من الحاجات وغيرها، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي أن مراده عليه السلام ما نخفي من حب إسماعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما، وقيل: ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء، وقيل: ما نخفي من كآبة الافتراق وما نعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها: إلى من تكلنا؟ وقولي لها: إلى الله تعالى، وما في جميع هذه الأقوال موصولة والعائد محذوف والظاهر العموم وهو المختار، والمراد بما نخفي على ما قيل ما يقابل ما نُعْلِنُ سواء تعلق به الإخفاء أو لا أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخظر بباله عليه السلام من الأحوال الخفية، وتقديم ما نُخْفِي على ما نُعْلِنُ لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن الا وهو قبل ذلك خفي فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية، وجعل بعضهم ما مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضا، ومن هنا قيل: أي تعلم سرنا كما تعلم علننا.
والمقصود من فحوى كلامه عليه السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل أياديك، وقيل: أراد عليه السلام أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكن ندعوك لإظهار العبودية إلى آخره، وقد أشار السهروردي إلى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله:
ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني عليل ومن أشكو إليه عليل
ويمنعني الشكوى إلى الله أنه عليم بما أشكوه قبل أقول
وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضمير الجماعة- كما قال بعض المحققين- لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم، وقال أبو حيان: لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم اهـ. ومما نقلنا يعلم وجه إضافة رب هنا إلى ضمير الجمع، ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى، وإنما قال عليه السلام: وَما يَخْفى إلى آخره دون أن يقول: ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقا لما عناه بقوله: تَعْلَمُ ما نُخْفِي من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات. وكلمة فِي متعلقة بمحذوف وقع صفة- لشيء- أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما، وجوز أن تتعلق- بيخفى- وهو كما ترى. وتقديم الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القرب والبعد من المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا. والمراد من السَّماءِ ما يشمل السموات كلها ولو أريد من الْأَرْضِ جهة السفل ومن
227
السماء جهة العلو كما قيل جاز (١)، والالتفات من الخطاب إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل، وعن الجبائي أن هذا من كلام الله تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: ٣٤] والأكثرون على الأول. ومِنْ على الوجهين للاستغراق الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي مع كبر سني ويأسي عن الولد- فعلى- بمعنى مع كما في قوله:
إني على ما ترين من كبري أعرف من أين تؤكل الكتف
والجار والمجرور في موضع الحال، والتقييد بذلك استعظاما للنعمة وإظهار الشكر لها، ويصح جعل «على» بمعناها الأصلي والاستعلاء مجازي كما في البحر، ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال: على رأس السنة، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقال بعضهم: لو كانت للاستعلاء لكان الأنسب جعل الكبر مستعليا عليه كما في قولهم: على دين، وقوله: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشعراء: ١٤] بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: ٤] نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكنا مستمرا على الكبر فهو الأنسب كاظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اه وفيه غفلة عما ذكرنا إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وهب له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، ووهب له إسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وفي رواية أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين، وإسحق لسبعين، وعن ابن جبير لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة إِنَّ رَبِّي ومالك أمري لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي لمجيبه فالسمع بمعنى القبول والإجابة مجاز كما في سمع الله تعالى لمن حمده، وقولهم: سمع الملك كلامه إذا اعتد به وقبله، وهو فعيل من أمثلة المبالغة وأعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه وفي أعمال سائر أمثلتها، وهو إذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل، وقيل: إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي أو الاستمرار، وجوز الزمخشري أن يكون مضافا لفاعله المجازي فالأصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعا، والمراد أن المدعو وهو الله تعالى سامع. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك إلا عند الفارسي حيث لا يكون لبس نحو زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدا ظالمين، وهاهنا فيه البأس لظهور أنه من إضافة المثال للمفعول انتهى، وهو كلام متين.
والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الإسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس إنما يشترط في إضافته إلى فاعله على القطع، وهذا كما قال بعض الأجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:
١٠٠] فاقترنت الهبة بقبول الدعوة، وذكر بعضهم أن موقع قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيدا للطلب بتذكير ما عهد من الإجابة، يتوسل إليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فإنك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولدا فأجبت دعائي وهبت لي إسماعيل وإسحاق ولا يخفى أن إسحاق عليه السلام لم يكن
(١) قيل وهو أوفق بافراد السماء اه منه.
228
مولودا عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لا يجعل ذلك اعتراضا بل يحمل على أن الله تعالى حكى جملا مما قاله إبراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الإيمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر، وقد ذكر هذا صاحب الكشف.
ومما يعضده ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ: قال هذا بعد ذلك بحين، ووحد عليه السلام الضمير في رب وإن كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ معدلا لها فهو مجاز من أقمت العود إذا قومته، وأراد بهذا الدعاء الديمومة على ذلك، وجوز بعضهم أن يكون المعنى مواظبا عليها، وبعض عظماء العلماء أخذ الأمرين في تفسير ذلك على أن الثاني قيد للأول مأخوذ من صيغة الاسم والعدول عن الفعل كما أن الأول مأخوذ من موضوعه على ما قيل، فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مجازيين، وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته عليه السلام لذريته أيضا حيث قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له فإن ذكرهم بطريق الاستطراد «ومن» للتبعيض، والعطف كما قال أبو البقاء على مفعول «اجعل» الأول أي ومن ذريتي مقيم الصلاة.
وفي الحواشي الشهابية أن الجار والمجرور في الحقيقة صفة للمعطوف على ذلك أي وبعضا من ذريتي ولولا هذا التقدير كان ركيكا، وإنما خص عليه السلام هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهته تعالى أن بعضا منهم لا يكون مقيم الصلاة بأن يكون كافرا أو مؤمنا لا يصلي، وجوز أن يكون علم من استقرائه عادة الله تعالى في الأمم الماضية أن يكون في ذريته من لا يقيمها وهذا كقوله: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: ١٢٨] رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ظاهره دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ولذلك جيء بضمير الجماعة، وقيل: الدعاء بمعنى العبادة أي تقبل عبادتي. وتعقب بأن الأنسب أن يقال فيه دعاءنا حينئذ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة عن حفص «دعائي» بياء ساكنة في الوصل، وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء.
وقال قنبل: إنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف رَبَّنَا اغْفِرْ لِي أي ما فرط مني مما أعده ذنبا وَلِوالِدَيَّ أي لأمي وأبي، وكانت أمه على ما روي عن الحسن مؤمنة فلا إشكال في الاستغفار لها، وأما استغفاره لأبيه فقد قيل في الاعتذار عنه إنه كان قبل أن يتبين له أنه عدو لله سبحانه والله تعالى قد حكى ما قاله عليه السلام في أحايين مختلفة، وقيل: إنه عليه السلام نوى شرطية الإسلام والتوبة وإليه ذهب ابن الخازن، وقيل: أراد بوالده نوحا عليه السلام، وقيل: أراد بوالده آدم وبوالدته حواء عليهما السلام وإليه ذهب بعض من قال بكفر أمه والوجه ما تقدم.
وقالت الشيعة: إن والديه عليه السلام كانا مؤمنين ولذا دعا لهما، وأما الكافر فأبوه والمراد به عمه أو جده لأمه، واستدلوا على إيمان أبويه بهذه الآية ولم يرضا ما قيل فيها حتى القول الأول بناء على زعمهم أن هذا الدعاء كان بعد الكبر وهبة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام له وقد كان تبين له في ذلك الوقت عداوة أبيه الكافر لله تعالى.
وقرأ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما. وأبو جعفر محمد. وزيد ابنا علي. وابن يعمر. والزهري. والنخعي «ولولدي» بغير ألف وبفتح اللام تثنية ولد يعني بهما إسماعيل وإسحاق. وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ونقل أن في مصحف أبي «ولأبوي» وفي بعض المصاحف «ولذريتي» وعن يحيى بن يعمر «ولولدي» بضم الواو وسكون اللام
229
فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد ويكون قد دعا عليه السلام لذريته، وأن يكون لغة في الولد كما في قول الشاعر:
فليت زيادا كان في بطن أمه وليت زيادا كان ولد حمار
ومثل ذلك العدم والعدم، وقرأ ابن جبير «ولوالدي» بإسكان الياء على الإفراد كقوله: واغفر لأبي وَلِلْمُؤْمِنِينَ كافة من ذريته وغيرهم، ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يثبت ويتحقق، واستعمال القيام فيما ذكر إما مجاز مرسل أو استعارة، ومن ذلك قامت الحرب والسوق، وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل، وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازا، وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التخليص مثل ضربه التأديب مما فيه الإسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله، وذكر السالكوتي أنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به في ترتبه عليه وفيه بحث.
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ خطاب لكل من توهم غفلته تعالى، وقيل للنبي ﷺ كما هو المتبادر، والمراد من النهي تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما هم عليه من عدم ظن أن الغفلة تصدر منه عز شأنه كقوله تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص: ٨٨] وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص: ٨٧] أي دم على ذلك، وهو مجاز كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء: ١٣٦] وفيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه، وجوز أن يكون المراد من ذلك على طريق الكناية أو المجاز بمرتبتين الوعيد والتهديد، والمعنى لا تحسبن الله تعالى يترك عقابهم للطفه وكرمه بل هو معاقبهم على القليل والكثير، وأن يكون ذلك استعارة تمثيلية أي لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب المحاسب على النقير والقطمير، وإلى هذه الأوجه أشار الزمخشري. وتعقب الوجه الأول بأنه غير مناسب لمقام النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتوهم منه عدم الدوام على ما هو عليه من عدم الحسبان ليثبت، وفيه نظر.
وفي الكشف الوجه هو الأول لأن في إطلاق الغافل عليه سبحانه وإن كان على المجاز ركة يصان كلام الله تعالى عنها، وفي الكناية النظر إلى المجموع فلم يجسر العاقل عليه تعالى عنه، ويجوز أن يكون الأول مجازا في المرتبة الثانية بجعل عدم الغفلة مجازا عن العلم، ثم جعله مجازا عن الوعيد غير سديد لعدم منافاة إرادة الحقيقة.
والأسلم من القيل والقال ما ذكرناه أولا من كون الخطاب لكل من توهم غفلته سبحانه وتعالى لغير معين، وهو الذي اختاره أبو حيان، وعن ابن عيينة أن هذا تسلية للمظلوم (١) وتهديد للظالم فقيل له: من قال هذا؟ فغضب وقال:
إنما قاله من علمه، وقد نقل ذلك في الكشاف فاستظهر صاحب الكشف كونه تأييدا لكون الخطاب لغير معين، وجوز أن يكون جاريا على الأوجه إذ على تقدير اختصاص الخطاب به عليه الصلاة والسلام أيضا لا يخلو عن التسلية للطائفتين فتأمل، والمراد بالظالمين أهل مكة الذين عدت مساويهم فيما سبق أو جنس الظالمين وهم داخلون دخولا أوليا، والآية على ما قال الطيبي مردودة إلى قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا وقُلْ لِعِبادِيَ واختار جعلها تسلية له عليه الصلاة والسلام وتهديدا للظالمين على سبيل العموم.
(١) وروي نحوه عن ميمون بن مهران اه منه.
230
وقرأ طلحة «ولا تحسب» بغير نون التوكيد إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم، وهو استئناف وقع تعليلا للنهي السابق أي لا تحسبن الله تعالى غافلا عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير إنما ذلك لأجل هذه الحكمة، وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم قيل: لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم، وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر، وللإيذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه، ولو قيل: إنما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك.
وقرأ السلمي والحسن والأعرج والمفضل عن عاصم، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو. وغيرهم «نؤخرهم» بنون العظمة وفيه التفات لِيَوْمٍ هائل تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولا أوليا أي تبقى مفتوحة لا تطرف- كما قال الراغب- من هول ما يرونه، وفي البحر شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه، والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فإنها يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه ما يقلقه كما في الأساس.
وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لما بعده والظاهر مما روي عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد. وغيره عنه أنه قال في الآية: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم، واختار بعضهم حمل «أل» على العموم قال: لأنه أبلغ في التهويل، ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما قيل فيه مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير. وقتادة، وقيده في البحر يقول: بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف، وقال الأخفش: مقبلين للإصغاء وأنشد:
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
وقال مجاهد: مديمين النظر لا يطرفون، وقال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذلّ وخشوع لا يقلع بصره، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه، وقيل: إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وإن كل المعاني تدور على الإقبال مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء، قاله ابن عرفة. والقتيبي.
وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلا ترعى أعلى الشجر:
يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحد الوقيع
وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال: فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضا وأنشد له قول زهير:
هجان وحمر مقنعات رؤوسها وأصفر مشمول من الزهر فاقع
ويقال: أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد، قال المبرد. وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه، وقيل: ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال: وقد يقال: إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناء على أنه يقال: شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء، وجوز أن يكون مُهْطِعِينَ منصوبا بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين ومُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ على هذا قيل: حال من المستتر في مُهْطِعِينَ فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالا وقال بعض الأفاضل: إن
231
في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولا ما لا يخفى من البعد والتكلف، والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالا مقدرة من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ وقوله سبحانه: تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ بيان حال عموم الخلائق. ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين مُهْطِعِينَ وتَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ على بعض التفاسير، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول، وقوله تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ بمعنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها. وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازا لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف، وقال الجوهري: الطرف العين ولا يجمع أنه في الأصل مصدر فيكون واحدا ويكون جمعا وذكر الآية، وفسره بذلك أبو حيان أيضا وأنشد قول الشاعر:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي... حتى يواري جارتي مأواها
وليس ما ذكر متعينا فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلا عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين، ولا ينبغي كما في الكشف أن يتخيل تعلق إِلَيْهِمْ بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعا هذا. وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين مُهْطِعِينَ ولا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأسا بين تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته. وفي إرشاد العقل السليم أن جملة لا يَرْتَدُّ إلخ حال أو بدل من مُقْنِعِي إلخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار، وفي انفهام- لا يزول- إلخ من ظاهر التركيب خفاء، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا، فاعتراض عليه بلزوم المنافاة، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وان أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرئ القيس:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل.
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه قيل للجبان، والأحمق: قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه، ومن ذلك قول زهير:
كأن الرحل منها فوق صعل... من الظلمان جؤجؤه هواء
وقول حسان:
ألا بلغ أبا سفيان عني... قأنت مجوف نخب هواء
وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة. وسفيان، وقال ابن جريج: صفر من الخير خالية منه، وتعقب بأنه لا يناسب
232
المقام. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال: أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه، والجملة في موضع الحال أيضا والعامل فيها إما يَرْتَدُّ أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل. وجوز أن تكون جملة مستقلة، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر هَواءٌ بفارغة، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبرا لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبرا عن جمع كما يقال: أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة، وقال مولانا الشهاب: الهواء مصدر ولذا أفرد، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح لحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير إعمال مروحة الفكر، ففي البحر بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة. ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة. وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وأنها تجيء وتذهب وتبلغ الحناجر. وهذا في معنى ما روي آنفا عن ابن جبير. وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضا حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولا: كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وقيل: عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل وَأَنْذِرِ النَّاسَ خطاب لسيد المخاطبين ﷺ بعد إعلامه أن تأخير عذابهم لماذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه فالمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب وإلى ذلك ذهب أبو حيان وغيره.
ونكتة العدول إليه من الإضمار على ما قاله شيخ الإسلام الإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم، وقال الجبائي: وأبو مسلم:
المراد بالناس ما يشمل أولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين، والإنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] والإتيان يعم الفريقين من كونهما في الموقف وإن كان لحوقه بالكفار خاصة، وأيا ما كان- فالناس- مفعول أول- لأنذر- وقوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعوله الثاني على معنى أنذرهم هوله وما فيه. فالإيقاع عليه مجازي أو هو بتقدير مضاف، ولا يجوز أن يكون ظرفا للإنذار لأنه في الدنيا، والمراد بهذا اليوم اليوم المعهود وهو اليوم الذي وصف بما يذهب الألباب وهو يوم القيامة، وقيل: هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة عليهم السلام بلا بشرى. وروي ذلك عن أبي مسلم، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وتعقب بأنه يأباه القصر السابق، وأجيب بما فيه ما فيه. فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي فيقولون، والعدول عنه إلى ما في النظم الجليل للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعليته لما ينالهم من الشدة المنبئ عنها القول وفي العدول عن الظالمين المتكفل بما ذكر مع اختصاره وسبق الوصف به للإيذان على ما قيل بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما أفضوا إليه من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبئ عنه صيغة اسم الفاعل، والمعنى- على ما قال الجبائي وأبو مسلم- الذين ظلموا منهم وهم الكفار، وقيل: يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية: رَبَّنا أَخِّرْنا أي عن العذاب أو أخر عذابنا، ففي الكلام تقدير مضاف أو تجوز في النسبة، قال الضحاك. ومجاهد: إنهم طلبوا الرد إلى الدنيا والإمهال إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد وحدّ من الزمان قريب، وقيل:
إنهم طلبوا رفع العذاب والرجوع إلى حال التكليف مدة يسيرة يعملون فيها ما يرضيه سبحانه.
والمعنى على ما روي عن أبي مسلم أخر آجالنا وابقنا أياما نُجِبْ دَعْوَتَكَ أي الدعوة إليك وإلى توحيدك
233
أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل عليهم السلام، ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم رسل الله سبحانه وتعالى.
وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما جاؤوا به أي نتدارك ما فرطنا به من إجابة الدعوة واتباع الرسل عليهم السلام، ولا يخلو ذكر الجملتين عن تأكيد والمقام حري به، وجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول ﷺ عصيانا لهم جميعا عليهم السلام، وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعا والمقصود بيان وعد كل أمة بالتوحيد واتباع رسولها على ما قيل.
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ على تقدير القول معطوفا على «فيقول» والمعطوف عليه هذه الجملة أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا: ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وسفها وجهلا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيدا وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلى هذه الأحوال والأهوال، وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال وانتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى: «وأقسما بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت» وروي هذا عن مجاهد، وأيّا ما كان «فمالكم» إلخ جواب القسم، و «من» صلة لتأكيد النفي، وصيغة الخطاب فيه لمراعاة حال الخطاب في «أقسمتم» كما في حلف بالله تعالى ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال- ما لنا- مراعاة لحال المحكي الواقع في جواب قسمهم، وقيل هو ابتداء كلام من قبل الله تعالى جوابا لقولهم: «ربنا أخرنا» أي ما لكم من زوال عن هذه الحال وجواب القسم لا يبعث الله من في القبور محذوفا وهو خلاف المتبادر.
وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار. فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون:
رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر: ١١] فيجيبهم الله عز وجل ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: ١٢] ثم يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: ١٢] فيجيبهم جل شأنه فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [السجدة: ١٤] الآية، ثم يقولون: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجيبهم تبارك وتعالى أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية، ثم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: ٣٧] فيجيبهم جل جلاله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:
٣٧] فيقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [المؤمنون: ١٠٦] فيجيبهم جل وعلا اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق، وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم، اللهم إنا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا.
وَسَكَنْتُمْ من السكنى بمعنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها إلا أنه عدي هنا بفي حيث قيل: فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جريا على أصل معناه فإنه منقول عن سكن بمعنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي، وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه، والمراد بهم- كما قال بعض المحققين- إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين، وإما أوائلهم من قوم
234
نوح وهود على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي ظهر لكم على أتم وجه بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وفاعل تَبَيَّنَ مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك، وكيف في محل نصب- بفعلنا- وجملة الاستفهام ليست معمولة- لتبين- لأنه لا يعلق، وقيل: الجملة فاعل «تبين» بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين.
وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل «كيف» لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم: على كيف تبيع الأحمرين وقولهم: انظر إلى كيف تصنع. وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني «ونبين» بنون العظمة ورفع الفعل، وحكى ذلك أيضا صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفا على تكونوا أي أو لم نبين لكم وَضَرَبْنا لَكُمُ أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين.
الْأَمْثالَ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على ما لهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، وجوز أن يراد من الأمثال ما هو جمع مثل بمعنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب: وروي هذا عن مجاهد، والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أَقْسَمْتُمْ أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال، وقوله سبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ حال من الضمير الأول في فَعَلْنا بِهِمْ أو من الثاني أو منهما جميعا، وقدم عليه قوله تعالى: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ لشدة ارتباطه على ما قيل بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم، والمراد بيان تناهيه في استحقاق ما فعل بهم، أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادئ البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله سبحانه قاله شيخ الإسلام، وهو ظاهر في أن هذا من تتمة ما يقال لأولئك الذين ظلموا، وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي، فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال: بلغني أن أهل النار ينادون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ إلخ فيرد عليهم بقوله سبحانه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ إلى قوله تعالى لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وذكره ابن عطية احتمالا، وقيل غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا. وظاهر كلام غير واحد أن استفادة المبالغة في مَكَرُوا مَكْرَهُمْ من الإضافة.
وفي الحواشي الشهابية أن مَكْرَهُمْ منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلخ لا لأن إضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن إضافته وأصله التنكير لإفادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف، وجوز أن لا يكون هناك مضاف محذوف، والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه، وأيا ما كان فإضافة مكر إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر، وقيل:
235
إنه مضاف إلى مفعوله على معنى عنده تعالى مكرهم الذي يمكرهم به وتعقبه أبو حيان بأن المحفوظ أن مكر لازم ولم يسمع متعديا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المكر متجوزا به أو مضمنا معنى الكيد أو الجزاء، والكلام في نسبة المكر إليه تعالى وأنه إما باعتبار المشاكلة أو الاستعارة مشهور، وذكر بعض المحققين أن المراد بهذا المكر ما أفاده قوله تعالى: كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ لا أنه وعيد مستأنف. والجملة حال من الضمير في «مكروا» أي مكروا مكرهم وعند الله تعالى جزاؤه أو هو ما أعظم منه. والمقصود بيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلا مع تحقق ما يوجب تركه وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة والمتانة، وعبر عن ذلك بكونه معدى لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلا في ذلك. وَإِنْ شرطية وصلية عند جمع، والمراد أنه سبحانه مجازيهم على مكرهم ومبطله إن لم يكن في هذه الشدة وإن كان فيها، ولا بد على هذا الوجه من ملاحظة الإبطال وإلا فالجزاء المجرد عن ذلك لا يكاد يتأتى معه النكتة التي يدور عليها ما في إن الوصلية من التأكيد المعنوي. وجوز أن يكون المعنى أنه تعالى يقابلهم بمكرهم، ولا يمنع من ذلك كون مكرهم في غاية الشدة فهو سبحانه وتعالى أشد مكرا، ولا حاجة حينئذ إلى ملاحظة الإبطال فتدبر. وعن الحسن وجماعة أن إِنْ نافية واللام لام الجحود كانَ تامة، والمراد بالجبال آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات والقصد إلى تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات. وجوز أن تكون كانَ ناقصة وخبرها إما محذوف أو الفعل الذي دخلت عليه اللام على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين. وأيد هذا الوجه بما روي عن ابن مسعود من أنه قرأ «وما كان» بما النافية، وتعقب بأن فيه معارضة للقراءة الدالة على عظم مكرهم كقراءة الجمهور، وأجيب بأن الجبال في تلك القراءة يشار بها إلى ما راموا إبطاله من الحق كما أشرنا إليه وفي هذه على حقيقتها فلا تعارض إذ لم يتواردا على محل واحد نفيا وإثباتا. ورد بأنه إذا جعل الحق شبيها بالجبال في الثبات كان مثلها بل أدون منها في هذا المعنى، فإذا نفى إزالته إياه انتفى إزالته جبال الدنيا وحينئذ يجيء الإشكال.
وتعقبه الشهاب بأن هذا غير وارد لأن المشبه لا يلزم أن يكون أدون من المشبه به في وجه الشبه بل فقد يكون بخلافه ولو سلم فقد يقدر على إزالة الأقوى دون الآخر لمانع كالشجاع يقدر على قتل أسد ولا يقدر على قتل رجل مشبه به لامتناعه بعدة أو حصن ولا حصن أحصن وأحمى من تأييد الله تعالى شأنه للحق بحيث تزول الجبال يوم تنسف نسفا ولا يزول انتهى، وإلى تفسير الْجِبالُ على هذه القراءة بما ذكرنا شيخ الإسلام ثم قال: وأما كونها عبارة عن أمر النبي لله وأمر القرآن العظيم- كما قيل- فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين. وإن خص الخطاب بالمنذرين وسيظهر لك قريبا إن شاء الله تعالى جواز ذلك على بعض الأقوال في الآية، والجملة حال من الضمير في مَكَرُوا لا من قوله تعالى وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وجوز أبو البقاء. وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى إن كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الآيات والشرائع والمعجزات، والجملة أيضا حال من الضمير المذكور أي مكروا مكرهم المعهود وأن الشأن كان مكرهم لإزالة الحق من الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الحق مانعا من مباشرة المكر لإزالته.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن وثاب والكسائي لِتَزُولَ بفتح اللام الأولى ورفع الفعل- فإن- على ذلك عند البصريين مخففة واللام هي الفارقة، وعند الكوفيين نافية واللام بمعنى إلا، والقصد إلى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أن في غاية الشدة. وقرئ «لتزول» بالفتح والنصب، وخرج ذلك على لغة جاءت في فتح لام كي. وقرأ عمر.
236
وعلي وأبيّ وعبد الله وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو إسحاق السبيعي وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ورحمهم «وإن كاد» بدال مكان النون و «لتزول» بالفتح والرفع، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونقل أبو حاتم عن أبي رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال وحمل ذلك بعضهم على التفسير لمخالفته لسواد المصحف مخالفة ظاهرة هذا ومن الناس من قال: إن الضمير في مَكَرُوا للمنذرين، والمراد بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: ٣٠] وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام: ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى: «وقد مكروا» إلخ حالا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الأقسام المذكور مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام الذي وبخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة. وقوله سبحانه: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ حال من ضمير مَكَرُوا حسبما ذكر من قبل. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا وضعيفا كما مرت الإشارة إليه، وعلى تقدير كون إِنْ نافية فهو حال من ضمير مَكَرُوا والجبال عبارة عن أمر النبي ﷺ وقد مكروا والحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة، وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه أيضا، على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض، والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها. وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ كما ذكر سابقا اه. ويجوز أن يراد بمكرهم شركهم كما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس، والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال.
وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام مع ما ينافيه بل اجترءوا على الشرك وقالوا: «اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا» وقد روي عن الضحاك أنه صرح بأن ما نحن فيه كهذه الآية، ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال، وهو الظاهر كما قيل، وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي. وفي البحر الذي يظهر أن زاول الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قريش وعظمه والجبال لا تزول، وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لا يخفى.
وأما ما روي أن جبلا زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبا مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فأركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان.
وما روي من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الأنسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة، وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الإسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم: هذا سحر، هذا شعر، هذا إفك فأقول ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جدا قصة الأنسر اه.
واستبعد ذلك أيضا- كما نقل الإمام- القاضي وقال: إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية إليه، ونعم ما قال في خبر النسور فإنه وإن جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه. وعن مجاهد. وابن جبير. وأبي عبيدة. والسدي. وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لا يخفى على من نقر.
237
وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر، ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ تثبيت له ﷺ على ما هو عليه من الثقة بالله سبحانه والتيقن بإنجاز وعده تعالى بتعذيب الظالمين المقرون بالأمر بانذارهم كما يفصح عنه الفاء، وقال الطيبي: واستحسنه التلميذ أنه يجوز أن يحمل الوعد على المفاد بقوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وقد جعله وجها آخر لما ذكره الزمخشري من تفسيره له بقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١] وكَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] وفيه نظر لأنه لا اختصاص لذلك- كما قيل- بالتعذيب لا سيما الأخروي، وإضافة مُخْلِفَ إلى الوعد عند الجمهور من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيدا، وهو لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل منهما فينصب ما تأخر، وأنشد بعضهم نظيرا لذلك قوله:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع
وذكر أبو البقاء أن هذا قريب من قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. وفي الكشاف أن تقديم الوعد ليعلم أنه تعالى لا يخلف الوعد أصلا كقوله سبحانه: لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: ٩، الرعد: ٣١] ثم قال جل شأنه: رُسُلَهُ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته.
ونظر فيه ابن المنير بأن الفعل إذا تقيد بمفعول انقطع احتمال إطلاقه وهو هنا كذلك فليس تقديم الوعد دالا على إطلاق الوعد بل على العناية والاهتمام به لأن الآية سيقت لتهديد الظالمين بما وعد سبحانه على ألسنة رسله عليهم السلام فالمهم ذكر الوعد وكونه على ألسنة الرسل عليهم السلام لا يتوقف عليه التهديد والتخويف. وقال صاحب الإنصاف: إن هذا النظر قوي إلا أن ما اعترض عليه هو القاعدة عند أهل البيان، كما قال الشيخ عبد القاهر في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: ١٠٠] أنه قدم شُرَكاءَ للإيذان بأنه لا ينبغي أن يتخذ لله تعالى شركاء مطلقا ثم ذكر «الجن» تحقيرا أي إذا لم يتخذ من غير الجن فالجن أحق بأن لا يتخذوا.
وتعقب بأنه لا يدفع السؤال بل يؤيده، وكذا ما ذكره الفاضل الطيبي فإنه مع تطويله لم يأت بطائل فالوجه ما في الكشف من أن ذلك الإعلام إنما نشأ من جعل الاهتمام بشأن الوعد فهو ما سيق له الكلام وما عداه تبع، وإفادة هذا الأسلوب الترقي كإفادة اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: ٢٥] الإجمال والتفصيل. نعم إن الظاهر من حال صاحب الكشاف أنه أضمر فيما قرره اعتزالا وهذه مسألة أخرى، وقيل: مُخْلِفَ هنا متعد إلى واحد كقوله تعالى: لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ فاضيف إليه وانتصب رُسُلَهُ بوعده إذ هو مصدر ينحل إلى أن والفعل وقرأت فرقة «مخلف» وعده رسله بنصب «وعده» وإضافة مُخْلِفَ إلى رُسُلَهُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى وأنه مما يتعدى «مخلف» هنا إلى مفعولين إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يماكر وقادر لا يقادر ذُو انتِقامٍ من أعدائه لأوليائه فالجملة تعليل للنهي المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عن تعذيبهم خاصة كما مرت إليه الإشارة لم يذيل- كما قال بعض المحققين- بأن يقال: «إن الله لا يخلف الميعاد» بل تعرض لوصف العز والانتقام المشعرين بذلك والمراد بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم إلى آخره أو معطوف عليه نحو فَارْتَقِبْ يَوْمَ [الدخان: ١٠] إلى آخره، وجعله بعض الفضلاء معمولا لا ذكر محذوفا كما قيل في شأن نظائره، وقيل: ظرف للانتقام وهو يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ بعينه ولكن له أحوال جمة بذكر كل مرة بعنوان
238
مخصوص، والتقييد مع عموم انتقامه سبحانه للأوقات كلها للافصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة المقتضية له.
وجوز أبو البقاء تعلقه بلا يخلف الوعد مقدرا بقرينة السابق، وفيه الوجه قبله من الحاجة إلى الاعتذار.
وقال الحوفي: هو متعلق- بمخلف- وإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ جملة اعتراضية، وفيه رد لما قيل: لا يجوز تعلقه بذلك لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعدها لأن لها الصدارة، ووجه أنها لكونها وما بعدها اعتراضا لا يبالى بها فاصلا.
وجوز الزمخشري انتصابه على البدلية من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ وهو بدل كل من كل، وتبعه بعض من منع تعلقه- بمخلف- لمكان ماله الصدر. والعجب أن العامل فيه حينئذ- أنذر- فيلزم عليه ما لزم القائل بتعلقه بما ذكر فكأنه ذهب إلى أن البدل له عامل مقدر وهو ضعيف، وقوله تعالى: وَالسَّماواتُ عطف على المرفوع أي وتبدل السموات غير السموات، والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: ٥٦] وقد يكون في الصفات كما في قولك: بدلت الحلقة خاتما إذا غيرت شكلها، ومنه قوله سبحانه: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: ٧٠] والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين نص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال تبدل الأرض يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها وتمد مد الأديم العكاظي وتصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وتبدل السموات بذهاب شمسها وقمرها ونجومها وحاصله يغير كل عما عو عليه في الدنيا. وأنشد:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعلم
وقال ابن الأنباري: تبدل السموات بطيها وجعلها مرة كالمهل ومرة وردة كالدهان.
وأخرج ابن أبي الدنيا. وابن جرير. وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه تكون الأرض كالفضة والسموات كذلك. وصح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: تبدل الأرض أرضا بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة. وروي ذلك مرفوعا أيضا، والموقوف- على ما قال البيهقي- أصح. وقد يحمل قول الإمام كرم الله تعالى وجهه على التشبيه.
وقال الإمام: لا يبعد أن يقال: المراد بتبديل الأرض جعلها جهنم وبتبديل السموات جعلها الجنة، وتعقب بأنه بعيد لأنه يلزم أن تكون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن والثابت في الكلام والحديث خلافه، وأجيب بأن الثابت خلقهما مطلقا لا خلق كليهما فيجوز أن يكون الموجود الآن بعضهما ثم تصير السموات والأرض بعضا منهما، وفيه أن هذا وإن صححه لا يقر به، والاستدلال على ذلك بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] وقوله سبحانه: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: ٧] في غاية الغرابة من الإمام فإن في إشعار ذلك بالمقصود نظرا فضلا عن كونه دالا عليه. نعم جاء في بعض الآثار ما يؤيد ما قاله، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال في الآية: تصير السموات جنانا ويصير مكان البحر نارا أو تبدل الأرض غيرها.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الأرض كلها نار يوم القيامة وجاء في تبديل الأرض روايات أخر. فقد أخرج ابن جرير عن ابن جبير أنه قال: تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه. وأخرج عن محمد بن كعب القرظي مثله. وأخرج البيهقي في البعث عن عكرمة كذلك.
وأخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب أن رجلا من يهود سأل النبي ﷺ فقال: ما الذي تبدل به الأرض؟
239
فقال: خبزة فقال اليهودي: درمكة بأبي أنت فضحك ﷺ ثم قال: قاتل الله تعالى بيهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز.
وقد تقدم
خبر أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وهو في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وحكى بعضهم أن التبديل يقع في الأرض ولكن تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، ففريق من المؤمنين يكونون على خبز يأكلون منه وفريق يكونون على فضة وفريق الكفرة يكونون على نار، وليس تبديلها بأي شيء كان بأعظم من خلقها بعد إن لم تكن.
وذكر بعضهم أنها تبدل أولا صفتها على النحو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم تبدل ذاتها ويكون هذا الأخير بعد أن تحدّث أخبارها، ولا مانع من أن يكون هنا تبديلات على أنحاء شتى.
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا أن الناس يوم تبدل على الصراط، وفيه من حديث ثوبان «أن يهوديا سأل رسول الله ﷺ أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هم في الظلمة دون الجسر»
ولعل المراد من هذا التبديل نحو خاص منه، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أمرا بالنسبة إلينا.
وَبَرَزُوا أي الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السياق كما قيل، والمراد بروزهم من أجداثهم التي في بطون الأرض.
وجوز أن يكون المراد ظهورهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرا ويزعمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك، ووجه إسناد البروز إليهم مع أنه على هذا لأعمالهم بأنه للإيذان بتشكلهم بأشكال تناسبها. وأنت تعلم أن الظاهر ظهورهم من أجداثهم، والعطف على تُبَدَّلُ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة وأن تكون حالا من الْأَرْضُ بتقدير يرقد والرابط الواو.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَبَرَزُوا بضم الباء وكسر الراء مشددة، جعله مبنيا للمفعول على سبيل التكثير باعتبار المفعول لكثرة المخرجين لِلَّهِ أي لحكمه سبحانه ومجازاته الْواحِدِ الذي لا شريك له الْقَهَّارِ الغالب على كل شيء، والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة لأنهم إذا كانوا واقفين عند ملك عظيم قهار لا يشاركه غيره كانوا على خطر إذ لا مقاوم له ولا مغيث سواه وفي ذلك أيضا تحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كون يَوْمَ تُبَدَّلُ بدلا من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ.
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ عطف على بَرَزُوا. والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار، وأما البروز فهو دفعي لا استمرار فيه وعلى تقدير حالية بَرَزُوا فهو معطوف على تُبَدَّلُ وجوز عطفه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونه ينجزه مثلا يَوْمَئِذٍ يوم إذ برزوا لله تعالى أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ ينجز وعده، والرؤية إذا كانت بصرية فالمجرمين مفعولها وقوله تعالى: مُقَرَّنِينَ حال منه، وإن كانت علمية فالمجرمين مفعولها الأول مُقَرَّنِينَ مفعولها الثاني.
والمراد قرن بعضهم من بعض وضم كل لمشاركه في كفره وعمله كقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: ٧] على قول، وفي المثل إن الطيور على أشباهها تقع، أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم كقوله تعالى:
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم: ٦٨] إلخ أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملكات الرديئة والأعمال
240
السيئة غب تصورها وتشكلها بما يناسبها من الصور الموحشة والأشكال الهائلة، أو قرنوا مع جزاء ذلك أو كتابه فلا حاجة إلى حديث التصور بالصور، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم وجاء ذلك في بعض الآثار والظاهر أنه على حقيقة.
ويحتمل- على ما قيل- أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم، وأصل المقرن بالتشديد من جمع في قرن بالتحريك وهو الوثاق الذي يربط به فِي الْأَصْفادِ جمع صفد ويقال فيه صفاد وهو القيد الذي يوضع في الرجل أو الغل الذي يكون في اليد والعنق أو ما يضم به اليد والرجل إلى العنق ويسمى هذا جامعة ومن هذا قول سلامة بن جندل:
وزيد الخيل قد لاقى صفادا يعض بساعد وبعظم ساق
وجاء صفد بالتخفيف وصفد بالتشديد للتكثير وتقول: أصفدته إذا أعطيته فتأتي بالهمزة في هذا المعنى، وقيل:
صفد وأصفد معا في القيد والإعطاء، ويسمى العطاء صفدا لأنه يقيد. ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا. والجار والمجرور متعلق- بمقرنين- أو بمحذوف وقع حالا من ضميره أي مصفدين، وجوز أبو حيان كونه في موضع الصفة لمقرنين سَرابِيلُهُمْ أي قمصانهم جمع سربال مِنْ قَطِرانٍ هو ما يحلب من شجر الأبهل فيطبخ وتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحدة الشديدة وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار حتى قيل: إنه أسرع الأشياء اشتعالا. وفي التذكرة أنه نوعان غليظ براق حاد الرائحة ويعرف بالبرقي، ورقيق كمد ويعرف بالسائل والأول من الشربين خاصة والثاني من الأرز والسدر ونحوهما والأول أجود وهو حار يابس في الثالثة أو الثانية، وذكر في الزفت أنه من أشجار كالأرز وغيره، وأنه إن سال بنفسه يقال زفت وإن كان بالصناعة فقطران، ويقال فيه: قطران بوزن سكران.
وروي عن عمر. وعلي رضي الله تعالى عنهما أنهما قرآ به، وقطران بوزن سرحان ولم نقف على من قرأ بذلك، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع النصب على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مُقَرَّنِينَ أو من مُقَرَّنِينَ نفسه على ما قيل رابطها الضمير فقط كما في كلمته فوه إلى في أو مستأنفة، وأيّا ما كان ففي سَرابِيلُهُمْ تشبيه بليغ وذلك أن المقصود أنه تطلى جلود أهل النار بالقطران حتى يعود طلاؤه كالسرابيل وكأن ذلك ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذعه وحرقه وإسراع النار في جلودهم واللون الموحش والنتن على أن التفاوت بين ذلك القطران وما نشاهده كالتفاوت بين النارين فكان ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعود وبكنفه الواسع نلوذ، وجوز أن تكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن تشبه النفس الملتبسة بالملكات الرديئة كالكفر والجهل والعناد والغباوة بشخص لبس ثيابا من زفت وقطران، ووجه الشبه تحلى كل منهما بأمر قبيح مؤذ لصاحبه يستكره عند مشاهدته، ويستعار لفظ أحدهما للآخر، ولا يخفى ما في توجيه الاستعارة التمثيلية بهذا من المساهلة وهو ظاهر، على أن القول بهذه الاستعارة هنا أقرب ما يكون إلى كلام الصوفية، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون القطران المذكور عين ما لا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب، عصمنا الله تعالى من ذلك بلطفه وكرمه. وأنت تعلم أن التشبيه البليغ على هذا على حاله. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وأبو هريرة. وعكرمة. وقتادة. وجماعة من «قطران» على أنهما كلمتان منونتان أولاهما «قطر» بفتح القاف وكسر الطاء وهي النحاس مطلقا أو المذاب منه وثانيتهما «آن» بوزن عان بمعنى شديد الحرارة.
قال الحسن: قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تعلوها وتحيط بها
241
النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران، وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: ٢٤] ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره، وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملؤوها بالجهالات أو لخلوها كما قيل: عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار، ووجهه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رؤوس الأشهاد. وقرئ برفع الوجوه ونصب «النار» كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا. وقرئ «تغشى» أي تتغشى بحذف إحدى التاءين، والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة.
وفي الكشف وأفاد العلامة الطيبي أن- مقرنين- سرابيلهم من قطران- تغشى- أحوال من مفعول تَرَى جيء بها كذلك للترقي ولهذا جيء بالثانية جملة اسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد، وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى: وَتَرَى لأن الثاني أهول والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار، والأخيرين لبيان حالهم بعد دخولها، وكأن الأول حرك من السامع أن يقول: وإذا كان هذا شأنهم وهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون؟
فأجيب بقوله سبحانه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا، وأكثر المعربين على عدم الانقطاع لِيَجْزِيَ اللَّهُ متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه كُلَّ نَفْسٍ أي مجرمة بقرينة المقام ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء أو وفاقا، وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم، وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب، مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل:
من عاش بعد عدوه... يوما فقد بلغ المنى
ويجوز على اعتبار العموم تعلق اللام- ببرزوا- على تقدير كونه معطوفا على تُبَدَّلُ والضمير للخلق ويكون ما بينهما اعتراضا فلا اعتراض أي برزوا للحساب ليجزي الله تعالى كل نفس مطيعة أو عاصية ما كسبت من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه لا يشغله سبحانه فيه تأمل وتتبع ولا يمنعه حساب عن حساب حتى يستريح بعضهم عند الاشتغال بمحاسبة الآخرين فيتأخر عنهم العذاب، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد سريع الانتقام، وذكر المرتضى في درره وجوها أخر في ذلك. هذا بَلاغٌ أي ما ذكر من قوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إلى هنا، وجوز أن يكون الإشارة إلى القرآن وهو المروي عن ابن زيد أو إلى السورة والتذكير باعتبار الخبر وهو بَلاغٌ والكلام على الأول أبلغ فكأنه قيل: هذا المذكور آنفا كفاية في العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع، وأصل البلاغ بمعنى التبليغ وبهذا فسره الراغب في الآية، وذكر مجيئه بمعنى الكفاية في آية أخرى لِلنَّاسِ للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم في قوله سبحانه: وَأَنْذِرِ النَّاسَ أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شمولهم أيضا وإن كان ما شرح مختصا بالظالمين على ما قيل: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على محذوف أي لينصحوا أو لينذروا به أو نحو ذلك فتكون اللام متعلقة بالبلاغ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف وتقديره ولينذروا به أنزل أو تلي، وقال الماوردي: الواو زائدة، وعن المبرد هو عطف مفرد على مفرد أي هذا بلاغ وإنذار، ولعله تفسير معنى لا إعراب. وقال ابن عطية: أي هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به فجعل ذلك خبرا لهو محذوفا، وقيل: اللام لام الأمر، قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله سبحانه: وَلِيَذَّكَّرَ فإنه منصوب لا غير،
242
وارتضى ذلك أبو حيان وقال: إن ما ذكر لا يخدشه إذ لا يتعين عطف لِيَذَّكَّرَ على الأمر بل يجوز أن يضمر له فعل يتعلق به، ولا يخفى أنه تكلف. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه. وأحمد بن يزيد السلمي وَلِيُنْذَرُوا بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له قالوا: ولم يعرف لنذر بمعنى علم مصدر فهو كعسى وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها، وقيل: إنهم استغنوا بأن والفعل عن صريح المصدر، وفي القاموس نذر بالشيء كفرح علمه فحذره وأنذره بالأمر إنذارا ونذرا ونذيرا أعلمه وحذره.
وقرأ مجاهد وحميد بتاء مضمومة وكسر الذال وَلِيَعْلَمُوا بالنظر والتأمل بما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاك الأمم وإسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما تضمنه ما أشار إليه أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له أصلا، وتقديم الإنذار لأنه داع إلى التأمل المستتبع للعلم المذكور وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ليتذكروا شؤون الله تعالى ومعاملته مع عباده ونحو ذلك فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم لديه عزّ وجلّ من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. وفي تخصيص التذكر بأولي الألباب إعلاء لشأنهم.
وفي إرشاد العقل السليم أن في ذلك تلويحا باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار إليه بهذا القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ما سيق للمؤمنين أيضا فإن فيه ما يفيدهم فائدة جديدة، وللبحث فيه محال، وفيه أيضا أنه حيث كان ما يفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمرا حادثا وبالنسبة إلى أولي الألباب الثبات على ذلك عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر وروعي ترتيب الوجود مع ما فيه من الختم بالحسنى. وذكر القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب. تكميل الرسل عليهم السلام للناس المشار إليه بالإنذار. واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها ما يتعلق بمعرفة الله تعالى المشار إليه بالعلم، واستصلاح القوة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى المشار إليه بالتذكر، والظاهر أن المراد بأولي الألباب أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم مطلقا، ولا يقدح في ذلك ما قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد ناسب مختتم هذه السورة مفتتحها وكثيرا ما جاء ذلك في سور القرآن حتى زعم بعضهم أن قوله تعالى: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ معطوف على قوله سبحانه: لِتُخْرِجَ النَّاسَ وهو من البعد بمكان، نسأله سبحانه عزّ وجلّ أن يمن علينا بشآبيب العفو والغفران.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً قال ابن عطاء: أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمنا من الفراق والحجاب، وقيل: اجعل بلد قلبي ذا أمن بك عنك وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ من المرغوبات الدنية والمشتهيات الحسية.
وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أراد عليه السلام لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة، وعنه أنه قال: أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة، وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمنا من عبادة الأصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان صنمه فاستعاذ من ذلك.
وقال الجنيد قدس سره: أي امنعني وبني أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار، وقيل: كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه، وجاء النفس هو الصنم الأكبر رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بالتعلق بها والانجداب إليها والاحتجاب بها عنك سبحانك فَمَنْ تَبِعَنِي في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك فَإِنَّهُ مِنِّي طينته من طينتي وقلبه من قلبي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربي وَمَنْ عَصانِي وفعل ما يقتضي الحجاب عنك فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلا أدعو عليه وأفوض أمره إليك. قيل: إن هذا منه
243
عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه إياه بافاضة الكمال عليه بعد المغفرة.
ومن كلام نبينا ﷺ «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون».
وفي أسرار التأويل أنه عليه السلام أشار بقوله: وَمَنْ عَصانِي إلى مقام الجمع ولذا لم يقل: «ومن عصاك» ويجوز أن يقال: إنما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن، وما من دابة إلا وربي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة، وسئل عبد العزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك؟ فقال لأنه عظم ربه عزّ وجلّ وأجله من أن يثبت أن أحدا يجترئ على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد ما مبلغ ما يليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال فَمَنْ تَبِعَنِي رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ قيل: إن من عادة الله تعالى أن يبتلي خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان، فلذا أمر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في وادي الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع إليه ولا يعتمد إلا عليه عزّ وجلّ، وناداه باسم الرب طمعا في تربية عياله وأهله بألطافه وإيوائهم إلى جوار كرامته رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ التي يصل العبد بها إليك ويكون مرآة تجليك فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تميل يوصف الإرادة والمحبة ليسلكوهم إليك ويدلوهم عليك، قال ابن عطاء من انقطع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في قلوبهم، وذلك من دعاء الخليل عليه السلام لما قطع أهله عن الخلق والأسباب قل: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ قيل: أي ثمرات طاعتك وهي المقامات الرفيعة والدرجات الشريفة.
وقال الواسطي: ثمرات القلوب وهي أنواع الحكمة ورئيس الحكمة رؤية المنة والعجز عن الشكر على النعمة وهو الشكر الحقيقي ولذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي يعلمون أنه لا يتهيأ لأحد أن يقوم بشكرك وثمرة الحكمة تزيل الأمراض عن القلوب كما أن ثمرة الأشجار تزيل أمراض النفوس. وقيل: أي ارزقهم الأولاد الأنبياء والصلحاء، وفيه إشارة إلى دعوته بسيد المرسلين ﷺ المعنى له بقوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا وأي الثمرات أشهى من أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء وأفضل أهل الأرض والسماء وحبيب ذي العظمة والكبرياء فهو عليه الصلاة والسلام ثمرة الشجرة الإبراهيمية وزهرة رياض الدعوة الخليلية بل هو ﷺ ثمرة شجرة الوجود. ونور حديقة الكرم والجود.
ونور حدقة كل موجود ﷺ عليه إلى اليوم المشهود رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ قال الخواص: ما نخفي من حبك وما نعلن من شكرك.
وقال ابن عطاء: ما نخفي من الأحوال وما نعلن من الآداب، وقيل: ما نخفي من التضرع في عبوديتك وما نعلن من ظاهر طاعتك في شريعتك، وأيضا ما نخفي من أسرار معرفتك وما نعلن من وظائف عبادتك، وأيضا ما نخفي من حقائق الشوق إليك في قلوبنا وما نعلن في غلبة مواجيدنا بإجراء العبرات وتصعيد الزفرات:
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
وإن هم كتموا تحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح
وقال السيد علي البندنيجي قدس سره:
244
كتمت هوى حبيه خوف إذاعة فلله كم صب أضر به الذيع
ولكن بدت آثاره من تأوهي إذا فاح مسك كيف يخفى له ضوع
وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فيعلم ما خفي وما علن وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ قيل: الظالم من تجاوز طوره وتبختر على بساط الأنانية زاعما أنه قد تضلع من ماء زمزم المحبة واستغرق في لجى بحر الفناء، توعده الله تعالى بتأخير فضيحته إلى يوم تشخص فيه أبصار سكارى المعرفة والتوحيد وهو يوم الكشف الأكبر حين تبدو أنوار سطوات العزة فيستغرقون في عظمته بحيث لا يقدرون على الالتفات إلى غيره فهناك يتبين الصادق من الكاذب:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وقوله سبحانه: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ شرح لأحوال أصحاب الابصار الشاخصة وهم سكارى المحبة على الحقيقة، قال ابن عطاء في: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ كهذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ طلبوا تدارك ما فات وذلك بتهذيب الباطن والظاهر والانتظام في سلوك الصادقين وهيهات ثم هيهات، ثم أجيبوا بما يقصم الظهر ويفصم عرى الصبر وهو قوله سبحانه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وذلك عند انكشاف أنوار حقيقة الوجود فيظهر هلاك كل شيء إلا وجهه.
وقيل: الإشارة في الآية إلى تبدل أرض قلوب العارفين من صفات البشرية إلى الصفات الروحانية المقدسة بنور شهود جمال الحق وتبدل سموات الأرواح من عجز صفات الحدوث وضعفها عن أنوار العظمة بإفاضة الصفات الحقة، وقيل: تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب، وسماء القلب بسماء السر، وكذا تبدل أرض النفس بأرض القلب، وسماء السر بسماء الروح، وكذا كل مقام يعبره السالك يتبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ بسلاسل الشهوات سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وهو قطران أعمالهم النتنة وَتَغْشى تستر وُجُوهَهُمُ النَّارُ في جهنم الحرمان وسعير الإذلال والاحتجاب عن رب الأرباب. هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وهم علماء الحقيقة وأساطين المعرفة وعشاق الحضرة وأمناء خزائن المملكة، جعلنا الله تعالى وإياكم ممن ذكر فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر بمنه سبحانه وكرمه.
245
الجزء الرابع عشر
247
Icon