ﰡ
نزولها: مكية بالإجماع.
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وإحدى وثمانون آية.
عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وأربع وثلاثون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ٤) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)التفسير:
قوله تعالى:
«الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»..
وعلى هذا، يكون: «الر» مبتدأ، وقوله تعالى: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ..»
خبر لهذا المبتدأ..
وقد أشرنا فى آخر سورة «الرعد» إلى أن بدء سورة «إبراهيم» هنا هو ردّ على قول المشركين والكافرين، الذي حكاه القرآن الكريم عنهم، فى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا»..
ففى قوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» - توكيد من الله سبحانه وتعالى لرسالة النبي، وأنه يحمل بين يديه كتابا أنزل إليه من ربّه، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وذلك بإذن ربه الذي يهدى من يشاء، ويضلّ من يشاء..
- وقوله تعالى: «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» بدل من «النور»..
والتقدير لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، إلى صراط الله العزيز الحميد، ذلك الصراط، الذي هو نور تستضىء به البصائر..
وفى وصف الله سبحانه بهاتين الصفتين الكريمتين: «العزيز الحميد» تهديد للكافرين بعزة الله، وسلطانه الغالب، وتذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم بالإيمان، وأنه المستحق للحمد، والحامد لعباده المؤمنين ما يقدّمون له من طاعات وقربات.
قوله تعالى: «اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ..» - هو من عطف البيان على قوله تعالى: «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».. فالعزيز الحميد، هو الله الذي له ما فى السموات وما فى الأرض، أوجدهما بقدرته وملكهما بعزته، واستولى عليهما بسلطانه..
- وفى قوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» تهديد للكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الشديد، الذي ينتظرهم يوم القيامة، من مالك الملك، الذي إليه كل شىء، وبيده كل شىء.
قوله تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» - هو كشف عن صفات أولئك الكافرين، الذين توعدهم الله بالعذاب الشديد، وتلك الصفات التي جرّتهم إلى الكفر، وأقامتهم عليه، وذلك أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأفرغوا لها جهدهم، وأذهبوا فيها طيباتهم، على حين غفلوا عن الآخرة، وزهدوا فيها، ولم يعملوا أي حساب لها.. وهم لهذا يصدّون عن سبيل الله.. يصدّون أنفسهم عن الإيمان، ويصدّون الناس كذلك عن أن يؤمنوا بالله، ويأبون إلا أن يركبوا طرق الضلال، وأن يركبها الناس معهم.
- «أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» لأنهم ضلوا، وأضلّوا، فكانت جنايتهم غليظة، وجرمهم شنيعا.
قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. هو بيان لحكمة الله فى إرسال الرسل، واختيارهم من بين أقوامهم، وذلك ليأنسوا إليهم،
والمراد بلسان قومه، جنسهم، ولغتهم التي يتعاملون بها، إذ كان اللسان هو أداة اللغة وترجمانها.. وإذ كانت اللغة هى التي تكشف عن وجه الإنسان، وعن الأمة التي ينتمى إليها.
- وفى قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» إشارة إلى الحكمة التي من أجلها جاء الرسول إلى كل أمة، منها، وبلسانها، حتى يفهموا عنه ما يقول حين يتحدث إليهم «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ما أمره الله به.. فببيانه ينكشف لهم الطريق إلى الله، وبغير هذا البيان يظل الطريق بينهم وبين الرسول مسدودا..
- وفى قوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إشارة أخرى إلى أن هذا البيان الذي يبيّنه الرسول لقومه، ليس فيه قهر لهم، أو إلجاء واضطرار إلى الإيمان بالله.. ذلك أن الإيمان بالله، هو بيد الله، فمن شاء الله له الإيمان، آمن، ومن لم يشأ له أن يكون فى غير المؤمنين بقي على كفره، ولن ينفعه هذا البيان الذي بيّنه الرسول شيئا.. وذلك هو حكم الله فى عباده، وسنّته فى خلقه.. يبعث رسله فيهم، ويقوم الرسل بتبليغ رسالة الله إليهم، وكشف الطريق إلى الله لهم.. ومطلوب من النّاس أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم إلى دعوة الله، وأن يستجيبوا لها، فمن كانوا ممن أراد الله لهم الهدى والإيمان، اهتدوا وآمنوا، وحسب ذلك لهم من كسبهم، ومن كانوا من أهل الكفر والضلال، جمدوا على كفرهم، وظلّوا على ضلالهم، وحسب ذلك من كسبهم أيضا..
فإذا ذهبت تسأل: ما أثر هذه الرسالات التي يحملها الرسل إلى النّاس،
إذا ذهبت تسأل هذا السؤال، جاء الجواب فى قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. العزيز الذي عزّت مشيئته، وغلبت إرادته، والحكيم الذي أقام العباد فيما أراد، ووضعهم حيث شاءت حكمته، وقضت إرادته.
وقد عرضنا مشيئة الله ومشيئة العباد فى مبحث خاص «١».
الآيات: (٥- ٨) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٥ الى ٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
التفسير:
فى الآية (٤) من هذه السورة، جاء قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ».. تطبيق لهذا الحكم، الذي قضى به الله سبحانه وتعالى، وهو ألا يرسل رسولا إلا يلسان قومه..
فها هو ذا موسى، عليه السلام، وهو من بنى إسرائيل، يبعثه الله- سبحانه وتعالى- رسولا إلى قومه، ليخلصهم من فرعون.. أولا، ثم يخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى والإيمان.. ثانيا..
وأيام الله التي يذكرهم موسى بها، هى تلك الأيام التي كانت لله سبحانه وتعالى، فيها نعم ظاهرة عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وخلصهم من البلاء الذي يلقونه تحت يد فرعون.. ففى هذه النعم آيات «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» إذ لا يرى فى تلك الآيات، آثار رحمة الله، وعظيم نعمته، إلا من كان قد وطّن نفسه على احتمال الضر، والصبر على المكروه، احتسابا لله، ورجاء فى العافية، واستشوافا للرحمة والإحسان من فضله- فإذا أذن الله بالفرج، وهبّت أرواح الرحمة والعافية، اتجهت القلوب المؤمنة بالله، إلى الله بالحمد والشكر، كما اتجهت إليه من قبل بالدعاء والتضرّع.
وقوله تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» - هو ما امتثل به موسى أمر ربّه، فى قوله تعالى له: «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» - وها هو هذا يذكرهم بأيام الله ونعمه التي أفاضها عليهم فى تلك الأيام.. فيقول لهم: «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» ثم بيّن لهم ما كانوا فيه، وهم تحت يد هذا
يقال: سامه على كذا، أي حمله عليه، وأورده إياه.. وسام فلانا الأمر:
كلفه إياه ومنه السائمة، وهى الأنعام التي يسوقها الراعي إلى المرعى..
- قوله تعالى: «وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» هو بيان لبعض ما كان يأخذ به فرعون بنى إسرائيل من بلاء.. إذ يذبّح أبناءهم، ويستأصل ذراريهم، ويستحيى نساءهم، أي يبيح حرماتهن، ويعرضهن لما تستحى الحرّة منه.
وقيل: «يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» أي يستبقونهن أحياء، فلا يقتلونهن، كما يقتلون الأبناء.. وبهذا يتضاعف البلاء على الأمهات.. إذ يلدن، ثم يذبح أمام أعينهن ما يلدن.. وفى هذا موت بطيء لهن، وعذاب أليم، تحترق به قلوب الأمهات.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» - وصفا كاشفا لتلك الحال التي أخذ بها فرعون بنى إسرائيل من عذاب ونكال.
قوله تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ».. تأذّن ربكم: أي أذن، وحكم، وقضى..
وما قضى الله به هو أنه- سبحانه- يزيد الشاكرين لنعمه وأفضاله، نعما وأفضالا.. أما من كفر بالله، وبنعمه، فله عذاب شديد، وبلاء عظيم، فى الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
- أي إنّ كفر الكافرين لا يضرّ الله شيئا، كما أن إيمان المؤمنين لا ينفعه، فهو الغنى عن خلقه.. إذ كيف يخلقهم، ثم يحتاج إليهم؟
تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غنى عن عباده، ومع غناه، فإنه يتقبل من المؤمنين إيمانهم، ويحمده لهم، ويجزيهم عليه.. فضلا منه وكرما، وتنويها بشأن الطيبات من الأعمال، وتكريما للصالحين من عباده.
الآيات: (٩- ١٧) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟» - يجوز أن يكون من كلام موسى، خطابا لقومه، وتذكيرا لهم بأيام الله، وما يجرى فيها على عباده.. ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، خطابا من الله- سبحانه وتعالى- للمخاطبين من أمة النبي «محمد» صلوات الله وسلامه عليه..
والنبأ: الخبر ذو الشأن، الذي يغطّى ذكره على ما عداه من الأخبار.
وفى هذا الاستفهام: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» - تهديد للمخاطبين، وإنذار لهم بأن يصيروا إلى مثل مصير هؤلاء الأقوام، الذين كذبوا رسلهم، ومكروا بهم، إذا لم يبادر هؤلاء المخاطبون، فيصدقوا برسول الله، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه، مما فيه رشدهم وخيرهم..
وقوله تعالى: «قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» - هو بيان لقوله تعالى: «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ».. فالذين من قبل هؤلاء المخاطبين، هم قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وأقوام كثيرون جاءوا بعدهم، وجاءهم رسل الله.. فكانوا جميعا على طريق واحد، من العناد والضلال، والتكذيب برسل الله، والكيد لهم.
ويلاحظ أنهم أدرجوا جميعا فى ثوب واحد، لا فرق بين سابقهم ولاحقهم، حتى لكأنهم جماعة واحدة، التقت برسول واحد.. وذلك لما كان منهم جميعا، من خلاف على رسلهم، وإعنات لهم، ومكر بهم.. وكذلك الرسل، هم أشبه برسول واحد، إذ كانت محامل رسالتهم واحدة، وهى الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستقامة على الهدى..
فالرسل قد جاءوا إلى أقوامهم بالآيات البينات، التي تحدّث عن صدق رسالاتهم، وأنها منزلة من عند الله، وأنهم رسل الله المأمورون بتبليغها إلى من أرسلوا إليهم.
أما المرسل إليهم- على اختلاف أزمانهم وأوطانهم- فإنهم ردّوا أيديهم فى أفواههم، وقالوا: «إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ..»
تلك هى قولة أولئك الأقوام، وذلك هو ردّهم على الدعوة التي دعوا إليها من رسلهم..
- «فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ» وذلك كناية عن أنهم سدّوا على الرسل منافذ القول، فلم يدعوهم يبلغون رسالات ربهم، بل قعدوا لهم بالمرصاد، كلما همّوا بأن ينطقوا بدعوة الحق، تصدّى لهم السفهاء، والحمقى من أقوامهم، يسخرون، ويهزءون، ويلغون ويصخبون، فكأنهم بهذا قد وضعوا أيديهم على أفواه الرسل، وحالوا بينهم وبين أن ينطقوا.
ويجوز أن يكون ردّ أيديهم إلى أفواههم كناية عن أنهم استقبلوا دعوة الرسل لهم إلى الإيمان بالله، بالصمت المطبق، استخفافا بهم، واستنكافا من الحديث معهم، كما فعل ابن مسعود- شيخ ثقيف وسيدها- حين جاء النبىّ ﷺ إلى ثقيف يدعوهم إلى الله، بعد أن يئس من قومه فى مكة، فقال له ابن مسعود: «والله لا أكلمك أبدا.. لئن كنت رسول الله كما تقول، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت كاذبا على الله، فما أنت أهل لأن أرد عليك..»
وعلى هذا التأويل، يكون قولهم: «إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» هو مما نطق به لسان الحال، وأنبأ عنهم صمتهم، وتجاهلهم لما يدعوهم إليه رسلهم، وعدّهم ذلك لغوا من القول، لا يستمع إليه، ولا يردّ على قائله! - «وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» - أي أنهم إذا حالوا بين الرسل وبين الكلام، تكلموا هم بالباطل من القول، والمنكر من الكلام، وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنّا لفى شك يبعث الريب والاتهام لكم أيها الرسل، فيما تدعوننا إليه.
قوله تعالى: «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» - أي إذا كنتم
- وفى قوله تعالى: «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» إشارة إلى أن هؤلاء المدعوّين، هم كتل متضخمة من الذنوب، وأنهم لن يستجيبوا جميعا لدعوة الرسل، وإنما الذي يستجيب منهم هو بعض قليل، وهم الذين يغفر الله لهم ذنوبهم.. فالذى سيغفر من ذنوب هؤلاء الأقوام، هو بعض من هذه الذنوب.. وعلى هذا، فليبادر كل واحد منهم إلى الإيمان بالله، ليكون فيمن يغفر الله لهم، وألا يكون فى المتخلفين الضالين..
«قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ».
هى قولة من فم واحد، تلقّاها القوم خلفا عن سلف: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» - فهذه أول تهمة يتهم بها الرسل من أقوامهم، وإنهم لن يكونوا
«قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» (٨٧: هود).
- «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ».. وبعد هذا الاتهام، يجىء التحدّى، بطلب المهلكات التي أنذروا بها، واستعجال العذاب الّذى حذّروا منه!.
والسلطان المبين. هو الحجة القاطعة، التي تسقط أمامها كل حجة! «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»..
ولم يكن للرسل أن يقولوا لأقوامهم غير هذا، ولا أبلغ ولا أقطع من هذا..
إنهم بشر.. مثل أقوامهم.. فما الذي فى هذا، مما ينكره المنكرون؟
وإنه الحسد لهؤلاء الرسل- وهم بشر مثلهم- أن يكونوا سفراء بين الله وبين الناس.. ولماذا يختارهم الله دونهم؟.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان مشركى قريش فى إنكارهم على النبي أن يكون هو المصطفى لرسالة الله إليهم: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟» وقد ردّ الله عليهم بقوله سبحانه: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (٣١- ٣٢: الزخرف).
بالنّاس، كما ينزل المطر، فيكون غيثا مدرارا فى موضع، وقطرات قليلة فى موضع آخر.. حسب تقدير الله، وحكمته.
- «وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي إن ما تقترحونه علينا من آيات، هو مما لا يدخل فى مضمون رسالتنا، ولا يخضع لمشيئتنا.. وإنما الآيات عند الله، وما أذن به لنا منها، قد جئناكم به..
- «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» أي إننا وقد بلغناكم ما أمرنا به، سنمضى لشأننا، متوكلين على الله، الذي عليه يتوكل المؤمنون به، ويفوّضون أمورهم إليه.
قوله تعالى: «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ»..
هو تقرير وتوكيد لتلك الحقيقة التي أعلنها الرسل، وهى أنهم قد توكلوا على الله، وأسلموا وجوههم له.. ولم لا يتوكلون عليه وقد اصطفاهم لأكرم رسالة، وجعلهم مصابيح هدى للناس؟ لقد هداهم الله إلى الحق، وأقامهم على صراطه المستقيم.. فكيف لا يسلمون أمرهم إليه، وهو سبحانه الذي أخذ بأيديهم، فأخرجهم من تلك الظلمات المطبقة على أقوامهم؟
- وفى قوله تعالى: «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» هو بعض ما يقدمه الرسل لله، وهو الصبر على الأذى الذي يلقونه فى سبيل تبليغ رسالته..
قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ
وإذا لم يكن فى السفاهة باللسان، والتطاول بالقول، ما يقطع الرسل عن الدعوة التي يدعون بها، فليكن التهديد بالرجم، أو الطرد من الوطن..
ذلك ما قدّره الضالون المعاندون، وهذا ما عملوا له: -- «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا».. هكذا يقولونها فى غير حياء، حتى لكأن الرسل غرباء عن هذه الأرض، لا حق لهم فيها مثلهم..!
- «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا».. الملّة، الدين، والعقيدة..
وعودة الرسل إلى ملّة قومهم، إنما هو باعتبارهم خارجين عليها، بالدّين الجديد الذي يدعون إليه.. وهذا غاية فى الضلال والعناد، إذ يجيئهم الرسل بالهدى الذي يحمله الدين الجديد إليهم، فيدعون الرسل إلى أن يعودوا إلى دينهم الفاسد الذين يدينون به.!
- «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ».. وإذا كان لهؤلاء الكافرين أرض، فإن لهؤلاء الرسل ربّا.. وقد أوحى إليهم ربهم، وأخبرهم بأنه سيهلك هؤلاء الظالمين، الذين دفع بهم الظلم إلى أن يخرجوكم من أرضكم..
إنهم هم الذين سيخرجون من هذه الدنيا كلها.. إنهم لمأخوذون بنقمة الله، وإنهم لهالكون..!
- «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» فأنتم أيها الرسل الذين سيرثون هذه الأرض بعد هلاك هؤلاء الظالمين، الذين أرادوا إخراجكم منها..
- «ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» أي إنّ ذلك الجزاء الحسن وهذا النصر العظيم، إنما هو لمن خاف مقام ربّه، وخشى بأسه، فوقّره وعظّمه، واتقى حرماته، وعظم شعائره.. والرسل من هذا فى المقام الأول، ثم من اقتفى أثرهم.
استفتحوا: أي طلبوا الفتح والنصر..
ويصحّ أن يعود الضمير على الرسل، أو على أقوامهم المكذّبين بهم..
بمعنى أن الرسل طلبوا من الله أن يحكم بينهم وبين أقوامهم، كما يقول تعالى على لسان شعيب والمؤمنين معه: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» (٨٩: الأعراف).. أو بمعنى أن الكافرين هم الذين طلبوا أن يأتيهم الرسل بالعذاب الذي توعدوهم به.. كما يقول الله تعالى فى مشركى قريش بعد معركة بدر: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» (١٩: الأنفال).
وسواء أكان الاستفتاح من الرسل، أو من أقوامهم المكذبين لهم، فإن العاقبة واحدة، وهى الخيبة والخسران للكافرين المكذبين: «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»..
قوله تعالى:
«مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ».
أي بعد هذا البلاء الذي ينزل بالجبارين المعاندين المكذبين برسل الله- بعد هذا البلاء الذي ينزل بهم فى الدنيا، سيجيئهم (من ورائه) أي من بعده عذاب جهنّم، حيث يلقون الأهوال ألوانا وأشكالا.. فهناك الصديد الذي يسقاه الجبارون.. مكرهين، يتجرعونه جرعة جرعة، وقطرة قطرة..
- «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» وهو توكيد لشناعة هذا الصديد، وأنه لا يساغ الشارب أبدا، ولا يكون على أية درجة من درجات الإساغة.. وهذا أبلغ من أن يقال: «ولا يسيغه» لأن نفى الإساغة لا يقطع بأن تكون هناك درجة من درجات الإساغة فى هذا الشراب، ولكن نظرا لقلتها، فقد شملها النفي.
أما قوله تعالى: «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» فهو نفى قاطع لأى احتمال من احتمالات
قوله تعالى:
- «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ».. إشارة إلى أن ما يحيط بهذا الجبار العنيد يومئذ، من بلاء ونكال، هو مما تزهق به الأرواح، وأن كلّ سوط من سياط هذا العذاب الذي ينوشه من كلّ جانب، هو موت زاحف إليه، ولكنه لا يموت، بل يظل هكذا أبدا، يذوق عذاب الموت، وما هو بميت..
«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (٥٦: النساء) وفى إفراد الضمير فى قوله تعالى: «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» بعد قوله:
«وَاسْتَفْتَحُوا».
- فى هذا إشارة إلى أن العذاب الذي يساق إلى الكافرين، إنما يساق إليهم فردا فردا، حتى لكأن كل ما فى جهنم من بلاء ونكال، هو للفرد الواحد من أهل جهنم: «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ».. فهنا يجد هذا الجبار العنيد نفسه وقد أفرد وحده فى جهنم، يتجرع صديدها، ويحترق بنارها، ويشوى على جمرها، من غير أن يكون معه أحد، يشاركه هذا البلاء، ويقتسم معه هذا العذاب الغليظ.. وهذا ما لا تتحقق صورته لو جاء النظم القرآنى هكذا: «وخاب الجبارون المعاندون، من ورائهم جهنم ويسقون من ماء صديد، يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ومن ورائهم عذاب غليظ».. فشتان بين نظم ونظم، وبين قول وقول، وتصوير وتصوير!
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
التفسير:
قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» - هو جواب عن سؤال، يقع فى نفس من يسمع أو يرى ما يحلّ
والجواب: إن لهم أعمالا تحسب فى الأعمال الصالحة النافعة لو أنهم كانوا مؤمنين.. أما وقد عملوا هذه الأعمال وهم على الكفر بالله، فإن كفرهم يفسد كل صالح لهم، ويخبث كل طيب كان منهم.. ذلك أنهم وقد كفروا بالله لم يكن لهم عمل يتجهون به إلى الله، ويرجون به المثوبة عنده.. فبطل بهذا كل عمل لهم..
- وفى قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» - جمع بين الذين كفروا وأعمالهم، حيث شملهم هذا الوصف: «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ».. فالذين كفروا هم وأعمالهم يوم القيامة لا يلتفت إليهم، إلا كما يلتفت إلى رماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف.. إنهم وأعمالهم ريح خبيثة تهبّ على أهل الموقف محمّلة بهذا الرماد الثائر، الذي تتأذى به العيون، وتزكم الأنوف وتنقبض منه الصدور.. ولو جاء النظم هكذا: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح، فى يوم عاصف- لو جاء هكذا، لذهب هذا المعنى الذي كشف عنه النظم القرآنى، والذي جمع بين الكافرين وأعمالهم كما تجتمع النار ومخلفاتها من رماد!! وفى تشبيه أعمال الذين كفروا بالرّماد، دون التراب مثلا، الذي هو أكثر شىء تحمله الريح- فى هذا التشبيه إشارة إلى أن الأعمال التي يجدها الكافرون بيوم القيامة، هى مخلّفات تلك الأعمال التي كانوا يعدّونها من الأعمال الصالحة..
وأنها وإن كانت صالحة فى ذاتها، إلا أن كفرهم بالله قد أكلها كما تأكل النّار الحطب، ولم يبق منها إلا هذا الرماد، الذي ذهبت به العاصفة كل مذهب..
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» - يمكن أن تكون الإشارة فيه إلى حال هؤلاء الكافرين، وما هم عليه من ضلال، وهو ضلال قد بعد بصاحبه عن طريق الهدى والنجاة..
ويمكن أن تكون الإشارة إلى أعمال الكافرين يوم القيامة، وأنها ضلّت عنهم، وغابت وراء آفاق بعيدة، لا سبيل إلى الاهتداء إليها أبدا..
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ».
الخطاب هنا للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهو بعد هذا- خطاب عام، لكل إنسان، من شأنه أن يخاطب..
فى هذه الصورة التي تعرضها الآية الكريمة لقدرة الله، وأن الله سبحانه خلق السموات والأرض، خلقا مقصودا لحكمة يعلمها الله، وليس عبثا ولهوا، وأنه سبحانه كما خلق هذا الوجود قادر على أن يهلك الناس جميعا، وأن يأتى بخلق جديد غيرهم، من جنسهم أو من غير جنسهم، وأن ذلك ليس بالعزيز على الله،
قوله تعالى: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟» - «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» : أي انكشفوا بالعراء، وجاءوا مجردين من كل شىء.. عراة، حفاة.. لا مال، ولا ولد، ولا جاه، ولا سلطان! فهذا مشهد من مشاهد القيامة، وفيه يبرز النّاس جميعا لله، غير مستترين بشىء، لا يحتجب بعضهم عن بعض بجاه أو سلطان، أو حجّاب، وحراس، أو حصون وقصور.. إنهم جميعا عراة بالعراء..
وفى جانب من هذا المشهد يلتقى الضعفاء، وهم عامة الناس، وسوادهم- بالرؤساء، وأصحاب السيادة والسلطان، وقد كانوا قادتهم، وأصحاب الكلمة فيهم، وفى هذا اللّقاء يفزع هؤلاء المستضعفون إلى سادتهم هؤلاء، يسألونهم العون فى دفع هذا البلاء الذي أحاط بهم.. فهم كانوا مفزعهم فى الدنيا، فهلّا كانوا مفزعا لهم فى هذا اليوم العظيم؟ وبم استحقوا إذن أن يكونوا فى مكان القيادة والسيادة، إذا هم لم يكونوا لهم فى هذا الموقف؟
«إِنَّا- كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» ؟
إنه لعار على المتبوع ألا يخفّ لنجدة تابعه، وقد كنّا رعيّة لكم، وأداة طيعة فى أيديكم! فهيّا ادفعوا عنّا بعض هذا العذاب الذي نحن فيه! ويجىء الجواب: «قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ» !!
لقد أضلهم الله لأنهم أرادوا الضلال، واستحبّوا العمى على الهدى..
«سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ».. المحيص: المفرّ، والخلاص، وأصله الحيدة عن المكروه، يقال: حاص، يحيص حيصا، وحيوصا، أي حاد..
ويمكن أن يكون هذا من كلام الذين استكبروا، كما يمكن أن يكون من كلام الذين استضعفوا، تعقيبا على هذا اليأس الذي جاءهم من جواب المستكبرين لهم.. كما يمكن كذلك أن يكون صوتا مردّدا من هؤلاء وأولئك جميعا..!
فإن المتكبرين والمستضعفين قد أصبحوا فى قبضة العذاب، ولن يفلتوا أبدا..
سواء أجزعوا من هذا العذاب، أم صبروا له.. وهيهات الصبر على هذا البلاء المبين..!
قوله تعالى: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ.. وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ» وهذا طرف ثالث من أطراف الخصومة بين الضعفاء والمستكبرين..
فإنه حين انتهى الموقف بينهما إلى هذا اليأس القاتل.. تلفتوا جميعا إلى الشيطان، إذ كان هو الذي أغواهم، وأوقعهم فى شباكه، وكأن لسان حالهم يقول له: ما عندك لنا؟ لقد كنت أنت الذي دعوتنا إلى هذا الضلال الذي أصارنا إلى هذا المصير.. فهل تدعنا، وقد ألقيتنا فى هذا البلاء؟
ويجيئهم الجواب من الشيطان، مفحما موئسا..
إنّا إذا ما أتانا صارخ فزع | كان الصّراخ له قرع الظنابيب «١» |
«إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».. هو حكم من الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المتخاصمين جميعا.. من مستكبرين، ومستضعفين، وشياطين.. إنهم، جميعا ظالمون.. وليس للظالمين إلا أن يصلوا هذا العذاب الأليم الذي هم مساقون إليه..
قوله تعالى:
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.. تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» وفى الجانب الآخر من مشهد النار وأهلها هذا المشهد، تفتح أبواب الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيجدون فيها النعيم والرضوان، ويلقون فيها التحيّة والسلام.
- وفى قوله تعالى: «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى أن هذا الرضوان، وذلك النعيم الذي صار إليه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنما هو من فضل الله عليهم، ومشيئته فيهم، وليس ذلك لما كان منهم من إيمان، وعمل صالح، وحسب،
فالإيمان بالله، والعمل الصالح طريق إلى جنّة الله ورضوانه، ولكنهما لا يوصلان إليها إلّا بإذن الله، وعونه، وتوفيقه.. إنهما أشبه بالطّرقات التي يستأذن بها على ربّ الدار لدخول داره، وإنه لا يأذن إلا لمن يشاء ويرضى..!
الآيات: (٢٤- ٢٧) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
[الكلمة الطيبة.. والكلمة الخبيثة]
التفسير:
المراد بالاستفهام فى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا» هو الإلفات إلى هذا المثل، والوقوف عنده، وقفة تدبّر، وتذكر، واعتبار.. فالمراد
وضرب المثل: سوقه وعرضه.. والأصل فيه ضرب الشيء بالشيء ليخرج منهما شىء آخر، كضرب اللبن بالمخض ليخرج منه الزّبد.. ومنه الضّرب وهو عسل النحل الذي يكون من ضرب أخلاط رحيق الزهر بعضها ببعض.
والمثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى للكلمة الطيبة، هو الشجرة الطيبة:
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها..»
والشجرة الطيبة.. هى أية شجرة يحصّل منها الناس النفع، ويجنون الخير..
وأكثر الشجر الطيب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول فى تنميته وتثميره..
ولعل «النخلة» أطيب شجرة وأكرمها، وأقربها وفاء بهذه الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها تلك الشجرة الطيبة: «أَصْلُها ثابِتٌ.. وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها..»
فالنخلة أكثر الشجر ضربا فى أعماق الأرض، وأطولها امتدادا إلى أعنان السماء، وهى لهذا كانت من الأشجار المعمّرة.. ثم هى من جهة أخرى أقلّ الأشجار المثمرة حاجة إلى عناية ورعاية، وحراسة متصلة من الآفات.. فما هى إلا أن تعلق نواتها بالأرض حتى تضرب بجذورها فى أعماق الثرى، باحثة عن الماء، حتى تبلغه، وتقيم وجودها على مصدر دائم من الرىّ لا ينقطع.. وكما امتدت جذورها فى الأرض، طال فرعها فطاول السماء، باحثا عن الضوء
يؤكل ثمرها رطبا ويابسا، وعلى أصول شجره، ومختزنا، من غير أن يلحقه العطب، أو يسرع إليه التلف.. ثم من جهة رابعة.. لا شىء من النخلة إلا وفيه نفع وخير.. خوصها، وجريدها، وليفها، وعرجونها، وكربها.. فهى من أخمص قدمها إلى قمة رأسها، منافع متصلة، يمكن أن تقوم عليها وحدها حياة الإنسان، مستغنيا بها عن كل شىء.. ولعلّه من أجل هذا كانت النخلة من نبت الصحراء، حتى يكون ما فيها من ثراء وغنى، تعويضا لما فى الصحراء من جدب وفقر! ولعل فى قول رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-:
«أكرموا عماتكم النّخل فإنهن خلقن من طينة آدم» - لعل فى هذا القول ما يكشف عن وجه من وجوه الإعجاز النبوىّ، وأنه كما قال الله سبحانه وتعالى فيه: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى»، إذ يلتقى قوله هذا مع قوله تعالى: «ومَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» دالّا على الشجرة الطيبة، ومشيرا إليها..
والسؤال هنا هو: إذا كانت الشجرة الطيبة- نخلة كانت أو ما يشبهها- على تلك الصورة من الرسوخ والثبات، والعلوّ، وعلى تلك الصفة من البركة والنفع، فأين ما فى الكلمة الطيبة من هذا كله؟ وقبل هذا السؤال، سؤال آخر.. وهو: ما هى الكلمة الطيبة، التي شبهت بالشجرة الطيبة.. ؟
نقول: إن الكلمة الطيبة هى كل كلمة جاءت من واردات الحقّ والخير..
فكل كلمة تتسم بتلك السّمة، وتحمل ضوءة من أضواء الحق، ونفحة من نفحات الخير، هى من الكلم الطيب..
والكلم الطيب كثير: لا يكاد يحصر.. تختلف أشكاله، وتتعدد صوره، وتكثر أو تقلّ معطياته.. كما أن الشجر الطيب كثير، تتنوع ثماره، وتختلف
وكما قلنا: إن أكثر الشجر الطيّب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول فى تنميته- نقول إن أكثر الكلم الطيب طيبا هو ما كثر خيره. واتصل عطاؤه. وقلّ الجهد المبذول فى تحصيله وفهمه.
وإذا كانت النخلة- كما قلنا- هى الشجرة التي تتمثل فيها هذه الصفات، فإننا نستطيع أن نقول إن كلمة التوحيد. هى رأس الكلام الطيب كلّه، وأطيبه جميعه..
فكلمة «لا إله إلا الله» هى الكلمة الجامعة لكل خير، المشتملة على كل هدى، الموصلة إلى كل طيب، وبغير هذه الكلمة لا تثبت للإنسان قدم على طريق الهدى، ولا يطلع له نبت فى مغارس الخير..
وليست الكلمة فى ذاتها، من حيث هى كلمة، هى التي يكون لها هذا الوصف من الطيّب، أو تكون لها تلك الأوصاف من الخبث.. وإنما الكلمة- طيبة كانت أو خبيثة- لا يظهر طيبها، أو خبثها، إلا إذا التقت بعقل الإنسان، ونفذت إلى قلبه، وسرت فى مشاعره، وسكنت إلى وجدانه- عندئذ تخرج خبأها، وتصرّح عن مكنونها، وتعطى الثمر الطيب أو الخبيث الذي كان مستودعا فى كيانها- إنها أشبه بالنواة من الشجرة، والبذرة من النبات، لا ينكشف ما بها، حتى تعلق بالأرض، وتترعرع وتنمو، ثم تزهر، وتثمر..!
وكما أنه بالتجربة والاختبار، قد عرف- مقدما- ما تعطيه نواة هذه الشجرة أو تلك من ثمر، حلو أو مرّ، إذا هى غرست فى مغارسها وتهيأت لها أسباب
ونعود إلى كلمة التوحيد: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ».. باعتبارها الأمّ الولود لكل طيّب.. فماذا نجد فيها من ثمار طيبة؟.
ونعود فنؤكد مرة أخرى، أنّها من حيث هى كلمة، مجرد كلمة، يتلفظ بها اللسان، ثم لا يعقلها العقل، أو يمسك بها القلب، أو تنفعل بها المشاعر- هى على لسان المتلفظ بها، شبح كلمة، أو صدى صوت، لا مفهوم لها، ولا ثمرة ترجى منها.. تماما كنواة الشجرة الطيبة تلقى على حجر صلد.
أمّا إذا صادفت هذه الكلمة الطيبة المباركة، أذنا واعية، وعقلا ذاكرا، وقلبا حافظا، ومشاعر مستجيبة للخير، متجاوبة معه.. فقل ما تشاء فيما تعطى هذه الكلمة الطيبة المباركة من أكل مباركة طيبة..
فبكلمة «لا إله إلا الله» ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلام إلى النور، ومن الموت إلى الحياة.. بهذه الكلمة المباركة الطيبة يستفتح الإنسان أبواب الخير كلها، فى الأرض وفى السماء..!
وبهذه الكلمة المباركة الطيبة يرتفع الإنسان فوق هذا التراب الذي يدبّ عليه، إلى الملأ الأعلى، فإذا هو من أهل هذا الملأ، بل هو فى حضرة ربّ العزّة.. يناجيه، ويتلقّى منه ما يهنأ به، من فواضل كرمه، وسوابغ وجوده وإحسانه!.
وبهذه الكلمة المباركة الطيبة، وبهذا المقام الكريم الذي ارتفع إليه صاحبها، يشرف الإنسان من عل على هذا الوجود الأرضىّ، فيرى كل شىء فيه صغيرا.. الدنيا ومتاعها، والمال وشهوته، والسلطان وجاهه، والشباب
والكلمة- كما قلنا- مهما تكن طيبة محملة بكريم المعاني، وجميل الصفات لا تعطى شيئا من ذات نفسها، إلّا إذا صادفت النفس الطيبة التي تقبلها، والمشاعر الكريمة النبيلة التي تهشّ لها، وتتجاوب معها.. أما إذا صادفت نفسا كزّة، ووردت على مشاعر سقيمة، فإنها لا تؤثر أثرا، ولا تندّ بشىء من طيبها وحسنها.
وكذلك الكلمة الخبيثة.. لا تبيض، وتفرخ، حتى تلتقى بالنفس الخبيثة، وتخالط المشاعر الفاسدة!.
وشاهد هذا، وذاك، واقع فى الحياة.
فدعوات الرسل والمصلحين والقادة والعلماء والحكماء، ليست إلا كلمات، تحمل فى كيانها معانى الحق والخير، وترسم من مفاهيمها مناهج العدل والإحسان.. ثم تدع للناس أن يتناولوها كيف شاءوا، وأن يتعاملوا معها حسب ما أرادوا.. فمنهم من يجد فيها هداه، وصلاح أمره فى الدين والدنيا جميعا.. ومنهم من لا يقيم لها وزنا، ولا يرفع لها رأسا، ولا يمدّ نحوها يدا..
وبهذا تختلف حظوظ الناس من هذا الخير المتاح لهم.. فمنهم من يأخذ حظه كاملا، ومنهم من لا ينال شيئا.. وهكذا تتفرق السبل، بين مهتد وضال، ومستقيم ومنحرف، وسعيد وشقى.!
إن ما فى عقل الإنسان من مدركات وتصورات، وما فى كيانه من نوازع واتجاهات وميول، هو من عمل الكلمة، وإنه بقدر ما يتلقى العقل من كلمات، يكون حظه من العلم والمعرفة، وإنه بقدر ما فى هذه الكلمات من معانى الخير
والكلمات هى الرصيد الذي يملكه الإنسان، وينفق منه..
لهذا كان من تدبير الإسلام حراسة الإنسان، من أن تدخل عليه كلمات السوء، فتسكن فى كيانه، وتتحول إلى كائنات حيّة تعيش معه، وتوجه سلوكه..
يقول الرسول الكريم:
«لا يقولنّ أحدكم خبثت نفسى، ولكن ليقل لقست نفسى»..
واللفظان معناهما واحد، وهو غثيان النفس، وتهيّؤها للقىء، ولكن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- يأخذ المسلمين بأدب الكلمة، ويحمى ألسنتهم من أن تعلق بها هذه الكلمات السيئة، فتتخلّق منها مشاعر خبيثة..
فالكلمة- فى الواقع- ليست مجرد حروف مرسومة، أو أصوات مسموعة، وإنما هى رسل هدى ورحمة وخير، أو شياطين غواية وضلال وبلاء.!
ومن أجل هذا، كان احتفاء الإسلام بالكلمة، وتقديره لها، وحسابه لآثارها ومعطياتها.. فقد عرف الإسلام للكلمة قدرها وخطرها فى تفكير الإنسان، وفى سلوكه.. إذ كانت كل ثمرات تفكيره، من مواليد الكلمة، وكان سلوكه، من وحي هذا التفكير ومتطلباته..
ومن تدبير الإسلام فى هذا، أنه جعل القرآن الكريم المائدة التي يردها المسلمون، فيتزودون من كلماته وآياته، بالترتيل، والاستماع، فرضا فى الصلاة، ونافلة فى غير الصّلاة..
ويدعو الله سبحانه المؤمنين إلى أن يغشوا مجالس القرآن، وأن يستمعوا له فى صمت وخشوع، حتى تنفذ كلماته إلى قلوبهم، وتخالط مشاعرهم.. فيقول سبحانه: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (٢٠٤: الأعراف).
ويعرض القرآن الكريم صورة من صور الاستماع إلى آيات الله وكلماته، تتجلّى فيها قوة الكلمة الطيبة وأثرها، حين تصادف الأذن الواعية، والقلب السليم، حتّى فى عالم الجنّ، الذي من شأنه أن يزهد فى الخير، ويتكّب طرقه..
يقول الحق جلّ وعلا: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (٢٩- ٣١: الأحقاف).
وكم من الجنّ، والإنس، من سمع كلمات الله وآياته فلم يجد لها صدى فى نفسه، ولا أثرا فى وجدانه.. كما يقول سبحانه: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
(٧- ٨: الجاثية).
ومن جهة أخرى، فإن الإسلام حذّر أهله من أن يستمعوا إلى زور الكلام وباطله، ونصح لهم أن يفرّقوا بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، فيستمعوا للطيب الحسن ويأخذوا به، ويتجنبوا الخبيث القبيح ويعرضوا عنه:
فقال تعالى: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» (١٧- ١٨: الزّمر).. ويقول جلّ شأنه فى وصف عباده المتقين: «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» (٧٢- ٧٣: الفرقان).. ويقول سبحانه: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» (٥٥: القصص).
فاللغو من القول، والزور من الحديث، آفة تدخل على الإنسان، وتندسّ فى مسارب تفكيره، وفى خلجات وجدانه، ثم إذ هى مع الزمن، ومع ما يرد عليها من كلمات السوء- نبتة فاسدة، لا تلبث أن تستغلظ وتستوى على سوقها، ثم تنداح وتمتد حتى تكون شجرة مشئومة تملأ كيان الإنسان، وتظلل وجوده، وتغذّى من ثمرها النكد الخبيث، ما فى الإنسان من أفكار، ومشاعر..
وإذا هذه الأفكار وتلك المشاعر أعمال وأقوال، تذيع السوء فى النّاس، وتمشى بالشرّ والفساد فيهم! وننظر فى هذه الحياة، فنجد أن كلّ ما يقع فى الناس من خير أو شر، هو فى الواقع أثر من آثار كلمة طيبة، أو كلمة خبيثة.. فكلمة واحدة ينطق بها صاحبها
فكم من الكلمات الطيبة، والحكم البالغة، تعيش فى الناس منذ أزمان، إذا ذكروها طلعت عليهم بوجهها المشرق الكريم، فكانت سكنا للنفوس، ودفئا للصدور، وشفاء من وساوس الشرّ، وخطرات السّوء..
وكم من كلمات خبيثة مشئومة، تعيش فى الناس، أزمانا متطاولة، فإذا ذكروها، خرجت عليهم بما فيها من شياطين، توسوس لهم بالشرّ، وترمى إليهم بمعاول الهدم والتدمير، فإذاهم نذر بلاء، ودعاة شقاق، وقذائف تدمير وتخريب.!
وهل الحرب والسلام، إلا مواليد كلمات خبيثة أوقدت حربا، أو كلمات طيبة أطفأت الحرب، وأقامت الناس على سلم وعافية؟
ونستمع مرة أخرى إلى قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ».
نستمع إلى كلمات الله هذه، وننظر إليها، فإذا هى منهج متكامل فى التربية العقلية والخلقية والروحية، بما تحقق للإنسان الذي يأخذ بهديها، ويتأدب بأدبها، من قوى مدركة للحق، ومتجاوبة مع الخير، متهدية إلى منازل الكمال والإحسان..
الآيات: (٢٨- ٣٤) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» - الاستفهام هنا يراد به التعجب من أمر هؤلاء الضالين الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وعرضهم فى معرض الازدراء لأحلامهم، والاستخفاف بأقدارهم، والتسفيه لتصرفاتهم..
وهؤلاء الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، هم سادة قريش، وأئمة الضلال والكفر فيهم.. والنعمة التي بدلوها كفرا، هى القرآن الكريم، الذي جاءهم بالهدى، ليخرجهم من ظلام الجاهلية وضلالها، إلى نور الحق والإيمان.. فأبوا إلا أن يردّوا هذه النعمة، بل وأن يجعلوها نقمة وبلاء عليهم..
ذلك أن الجاهليين كانوا قبل البعثة المحمدية من أهل الفترة، الذين لم تبلغهم رسالة سماوية.. فهم- والحال كذلك- واقعون تحت قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (١٥: الإسراء).. أي أنهم كانوا غير مبتلين بالتكاليف الشرعية، وغير محاسبين على ما يكون منهم.. فهم أشبه بالصغار الذين لم يبلغوا الحلم بعد.
فلما بعث الله سبحانه وتعالى فيهم رسوله بالهدى ودين الحق، وبلّغهم الرسول ما أنزل إليه من ربّه، انقطع عذرهم، ولم يكن لهم على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين، وفى هذا يقول تبارك وتعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (١٦٥: النساء)..
وبهذا فإن الذين لم يدخلوا فى دين الله، بعد بعثة النبي من الجاهليين، قد أصبحوا فى عداد الكافرين، إذ قد كشفت الدعوة الإسلامية عن هذا الداء
ويجوز أن تكون النعمة التي بدّلها هؤلاء المشركون كفرا، هى الفطرة السليمة التي أودعها الله فيهم، فهم بفطرتهم مؤمنون، ولكنهم بما أدخلوا على هذه الفطرة من أهواء وضلالات، قد أفسدوها، فلما التقوا بالقرآن الكريم، لم تستسغه فطرتهم الفاسدة، ولم يجدوا فى هذه النعمة العظيمة التي ساقها الله إليهم ما ينتفعون به، بل نصبوا الحرب لها، وحالوا بين الناس وبينها.. فكانت تلك النعمة بلاء عليهم، ألبستهم لباس الكفر، وهى التي جاءت لتخلع عليهم خلع الإيمان.
- وفى قوله تعالى: «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» إشارة إلى أن رؤساء القوم الذين تصدّوا للدعوة الإسلامية، وحجزوا أتباعهم عنها، هم الذين أنزلوا قومهم هذا المنزل الدّون، وأوردوهم هذا المورد الوبيل..
قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ».
الأنداد: جمع ندّ، وهو المساوى، والمعادل..
والمعنى: أن من سفه هؤلاء الضالّين، المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا لرسول الله- أنهم جعلوا لله أندادا، ونظراء، عبدوهم كما يعبد المؤمن ربه، ودانوا لهم بالولاء، كما يدين المؤمن لله ربّ العالمين!
- وفى قوله تعالى: «لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ» إشارة أخرى إلى أنهم اتخذوا هذه الآلهة، ليفتنوا بها الناس، وليمسكوا بهم على طريق الضلال، وليكون لهم بها دعوة يجمعون الناس عليها، ويأخذون بمقودهم منها: طلبا للسيادة والسلطان.. ولهذا جاء قوله تعالى: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» متوعدا لهم بهذا المصير السيّء، الذي هو فى حقيقته، الثمرة المرّة لهذا الجاه والسلطان الذي تمتعوا به فى دنياهم، وعاشوا معه فى مواقع الضلال والكفر..
قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ».
الخلال: المخلّة، والموادّة، والمواساة، التي تكون بين الصاحب وصاحبه، والخليل وخليله..
وسمّى الصاحب خليلا، لأن كلّا من الصاحبين يتخلل صاحبه، ويدخل إلى مشاعره، ويطّلع على ما لا يطلع عليه غيره..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت وعيدا للمشركين الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، فأبوا أن يقبلوا دين الله دينا، واتخذوا من دونه آلهة ليضلّوا الناس عن سبيل الله- فجاءت هذه الآية لتلفت المؤمنين الذين استجابوا لرسول الله، وآمنوا بالله، أن يؤدوا لهذا الإيمان حقّه، إذ ليس الإيمان مجرد كلمات تقال، وإنما هو دستور عمل، وشريعة واجبات وتكاليف. وعلى رأس هذه الأعمال، وتلك الواجبات: الصلاة، والزكاة..
- وفى قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» - عدول عن الخطاب إلى الغيبة، إذ كان من مقتضى النظم أن يجىء الأمر هكذا: «قل لعبادى الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناكم سرا وعلانية» فما سر هذا؟
السر فى هذا- والله أعلم- هو أنه لكمال العناية بالصلاة والزكاة، جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بهما متوجها منه جل شأنه إلى عباده، الذين شرّفهم بإضافتهم إليه بقوله: «قُلْ لِعِبادِيَ» ولم يشأ سبحانه أن يقطعهم عنه، وأن يجعل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هو الذي يتولى أمرهم بقوله:
«يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وإنما جعل الرسول ناقلا خطابه إلى عباده، كما يأمرهم ربّهم به! - وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ».. اليوم هنا، هو يوم القيامة، حيث لا عمل فى هذا اليوم.. وإنما هو يوم حساب على أعمال سلفت فى الدنيا.. حيث لا شفاعة لأحد فى أحد.. «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» (٤١: الدخان) قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة توعدت المشركين الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، وجعلوا لله أندادا، على حين نوهت بشأن المؤمنين، وأضافتهم إلى الله، وشرفتهم بالعبودية لله- فجاءت هذه الآية، والآيات التي بعدها لتحدّث عن قدرة الله، وجلاله، وعلمه، وفضله على عباده.. من المؤمنين، والكافرين جميعا.. وفى هذا العرض مجال لأن يراجع الكافرون أنفسهم، وأن يرجعوا إلى ربهم، بعد أن يعاينوا آثار رحمته وبدائع قدرته..
على حين يزداد المؤمنون إقبالا على الله، واجتهادا فى العبادة..
فالله سبحانه، هو الذي خلق السموات والأرض وما فيهن، وهو الذي أنزل من السماء هذا الماء الذي تتدفق به الأنهار، وتتفجر منه العيون، وتحيا عليه الزروع، وما يخرج منها من ثمر وحبّ.. وهو- سبحانه- الذي سخر الفلك، وأجراها مع الماء، وسخر الأنهار لتحمل الفلك على ظهرها.. وسخر الشمس والقمر تسخيرا منتظما، لا يتخلف أبدا، وسخر الليل والنهار، على هذا النظام البديع المحكم..
والمراد بالتسخير هنا.. التذليل، والإخضاع، والانقياد.. وذلك بإخضاع هذه المخلوقات لسنن وقوانين تحكمها، وتضبط موقفها بين المخلوقات، بحيث يمكن الإنسان إخضاع هذه المخلوقات والانتفاع بها، إذا هو عرف القوانين الكونية الممسكة بها..
- وفى قوله تعالى: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ».. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد شمل العباد بلطفه، وأنزلهم منازل إحسانه وكرمه، فأقامهم
هذا، وليس المراد بقوله تعالى: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» أن كل إنسان قد أوتى سؤله، واستوفى كل مطلوبه من دنياه، فهذا- وإن بدا فى ظاهره أنه خير- هو فى حقيقته آفة تغتال مطامح الإنسانية، وتقتل آمالها، وتدفن ملكاتها.. إذ لو توفرت لكل إنسان حاجته، لما جدّ وسعى، ولما تفتق عقله عن هذه العلوم والمعارف، التي كشف بها أسرار الطبيعة، وأخرج المخبوء فى صدرها، وأقام له سلطانا على هذا الكوكب الأرضى، الذي جعله الله خليفة عليه..
وإنما المراد بقوله سبحانه: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» - هو الإنسانية كلها فى مجموعها، وأن ما سخر الله لها من عوالم السموات والأرض، وما أودع فيها من قوى التفكير والتدبير، هو بمنزلة إعطاء الناس كل ما أرادوا..
فبين أيديهم كل ما يحتاجون إليه.. وليس عليهم لكى يحصلوا على ما يريدون إلا أن يعملوا، ويجدّوا فى العمل، وأن يديروا عقولهم على هذه الموجودات، وأن يلقوا بشباكهم فى كل أفق، فتجيئهم ملأى، باللئالئ والأصداف، والدرّ والحصى! وهذا يعنى أن هذه الدنيا ليست للإنسان وحده، وإنما هى للإنسانية كلها، وأن الناس فى مجموعهم أشبه بالجسد الواحد، تتعاون أعضاؤه جميعا على حفظ هذا الجسد، وصيانته، وتوفير أسباب الحياة الطيبة له..!
الآيات: (٣٥- ٤١) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت مشركى قريش الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، فعبدوا الأصنام، واتخذوها آلهة من دون الله.. ولما كان هؤلاء المشركون هم من ذرية إبراهيم عليه السلام، الذي كان حربا على الأصنام وعبّاد الأصنام، والذي بنى هذا البيت الحرام، وأرسى قواعد البلد الحرام، فقد ناسب أن يذكّر هؤلاء المشركون بأبيهم هذا، حتى يروا فى دعوة الرسول الكريم لهم، دعوة مجددة لدين أبيهم إبراهيم، ولتسقط بهذا حجتهم التي يحاجّون بها النبي بقولهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (٢٢: الزخرف).. فإذا كان لهم فى آبائهم أسوة، فهذا هو إبراهيم أبوهم الأكبر، فليتأسّوا به، وليهتدوا بهديه! قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي
هو تذكير لهؤلاء المشركين، عبّاد الأصنام من قريش، بموقف أبيهم إبراهيم من الأصنام، وأنّه- صلوات الله وسلامه عليه- دعا ربّه أن يجعل هذا البلد الحرام- مكة- بلدا آمنا، مؤمنا بالله، وأن يجنّبه أي يبعده وبنيه عن عبادة الأصنام..!
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم دعوته فى البلد الحرام، فجعله آمنا فى الجاهلية وفى الإسلام.. أما فى بنيه. فقد استجاب له فى بعضهم ولم يستجب فى بعض آخر.. فكان منهم فى الجاهلية حنفاء يعبدون الله على دين إبراهيم، كما كان منهم- وهم الأكثرون- عبّاد أصنام، مشركون بالله.
وقد أخبر الله إبراهيم بأن دعوته هذه فى بنيه، ليست مجابة على إطلاقها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (١٢٤: البقرة).. فليس كلّ ذريّة إبراهيم ممن يتابعه، ويكون على دينه إلى يوم القيامة.. وإلا لكان ذلك ضمانا موثقا لكل من اتصل نسبه بإبراهيم أن يكون مؤمنا، وهذا من شأنه أن يرفع التكليف، والابتلاء، ويجعل مثل هذا الإيمان إيمان قهر وإلجاء. ليس للإنسان فيه كسب واختيار.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (١٢٦: البقرة) فإبراهيم- عليه السلام- إذ يدعو ربّه بما دعاه به، يعلم هذه الحقيقة، وأنه ليس كلّ بنيه إلى يوم القيامة، ممن يهدى الله.. ولهذا قال: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
.. فدعا بالرزق لمن آمن، دون من لم يؤمن.. وقد أجابه الله سبحانه، بأنه لن يحرم أحدا رزقه فى هذه الدنيا، فهو سبحانه سيرزق من آمن، ومن لم يؤمن، فهذا الرزق هو متاع قليل، هو متاع الحياة الدنيا..
ولن يحرم الكافر حظّه من هذا المتاع.. أما جزاء كفره فسيلقاه فى الآخرة:
«قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ففى أبناء إبراهيم إذن.. مؤمنون، ومشركون.. هكذا كان، وهكذا يجب أن يكون، تحقيقا لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ»..
وهنا سؤال.. وهو:
لماذا ذكر إبراهيم البلد الحرام مرة منكّرا هكذا: «بَلَداً آمِناً» ومرة معرفا «البلد آمنا» ؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أنه قد كان لإبراهيم- عليه السلام- كما يحدّث التاريخ- أكثر من رحلة إلى البيت الحرام: الرحلة الأولى حين هاجر بإسماعيل وأمه، وأنزلهما هذا المنزل، وأقام هو وإسماعيل قواعد البيت الحرام.. وفى هذا الوقت لم يكن البلد الحرام قد ظهر إلى جوار البيت الحرام، وإنما كان شيئا مطويا فى عالم الغيب لم يولد بعد، ولهذا كان دعاء إبراهيم له:
«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً».. أي اجعل هذا المكان بلدا آمنا.. ثم بعد زمن، عاد إبراهيم إلى هذا المكان مرة أخرى، فوجد حول البيت الحرام قبائل قد نزلت على ماء زمزم مع إسماعيل، ومنها قبيلة جرهم التي أصهر إليها إسماعيل وتزوج منها.. ولهذا كانت دعوته الثانية لهذا البلد فى مواجهة بلد قائم فغلا، فأشار إليه إبراهيم إشارة إلى شخص قائم أمام عينيه: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» !
أولا: خطاب الأصنام خطاب العقلاء: «إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» وفى هذا ما يكشف عن سفه المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام، وخفّة أحلامهم، وأنهم يتعاملون مع هذه الأحجار كما يتعاملون مع الآدميين العقلاء..
وهذا لا يكون إلا عن سفاهة أحلام، وسخف عقول، وصغار نفوس.. إن هؤلاء الرّجال الدين يشمخون بآنافهم، ويطاولون السماء بأعناقهم، ليسوا إلا أطفالا فى مساليخ رجال.. فكما يتلهّى الأطفال بالدّمى، ويخلعون عليها من مشاعرهم، أسماء يخاطبونها بها، كما يخاطب بعضهم بعضا، كذلك يفعل هؤلاء المشركون بتلك لدّمى التي يشكلونها من الأحجار، والأخشاب، ويزينونها بالملابس والحلىّ، كما يزبن الأطفال العرائس والدّمى!! وثانيا: فى قول إبراهيم: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة إلى ما عند إبراهيم من علم بما لله فى عباده من حكمة..
وأن ذريّة إبراهيم لن تكون جميعها على طريق سواء.. فهم بين مؤمن يتبعه، وكافر يخرج عن الدين الذي دعا إليه..
وثالثا: فى قول إبراهيم: «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» تظهر عاطفة الأبوة، كما تتجلّى تلك الصفة الكريمة التي حلّى الله سبحانه وتعالى بها إبراهيم، والتي ذكرها سبحانه فى قوله: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (٧٥: هود».. فهو- عليه السلام- يدع العاصين من ذريته لمغفرة الله ورحمته.. وفى مغفرة الله ورحمته، متسع للعاصين، ورجاء للمذنبين.
قوله تعالى: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
..
هو استكمال لما دعا به إبراهيم ربه لإسماعيل وذريته، إذ أسكنه فى هذا المكان القفر، وأنزله فى هذا الوادي الجديب..
فأول ما دعا به إبراهيم ربه، لإسماعيل وذريته فى هذا الموطن، هو الأمن:
«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً».. إذ كان الأمن هو ضمان الحياة، وسكن النفوس، والقلوب، وإنه لا حياة لإنسان، ولا نظام لمجتمع إلا فى ظل الأمن والسلام.. ثم كانت الدعوة الثانية بعد هذا، وهى الإيمان بالله، وذلك بعد أن يضمن الإنسان وجوده: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ».. ثم تجىء الدعوة الثالثة، التي تمسك الإيمان فى القلوب، ويمكّن له فى النفوس، وهى لقمة العيش، التي إن لم يجدها الإنسان، هلك، وطار صوابه، وذهب إيمانه.. وفى هذا يقول إبراهيم:
- «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي» أي بعض ذريتى، إذ كان ابنه الآخر وهو إسحق يعيش فى موطن غير هذا الموطن.. فإسماعيل الذي أسكنه فى هذا الوادي هو بعض ذريته، لا كلّ ذريته.. «بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» أي فى حمى بيتك المحرّم، وهذا هو السبب فى أن اختار إبراهيم لإسماعيل هذا المكان القفر المنعزل.. فإنه وإن كان قفرا جديبا، لا زرع فيه ولا ثمر، فإنه مأنوس خصيب، بنفحات الله، محفوف برحمته ورضوانه.
وحسب هذا الوادي أن يشرف بهذا الشرف العظيم، فيكون وعاء حاملا لبيت الله.. أول بيت وضع للناس! - «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» أي لكى تنتظم حياتهم، وتطمئن قلوبهم، ويؤدّوا ما فرض
وفى هذا إشارة إلى أن حياة الإنسان لا تنتظم إلا فى جماعة، ولا تكتمل إلا فى مجتمع، حيث كانت دعوة إبراهيم أن يعمر هذا البلد بالناس، وأن تتكاثر أعداد الوافدين عليه، وذلك خير من الزرع والخصب.. فحيث كان الناس كان الخير، وكان العمران!..
وفى المجتمع الذي تتوافر للإنسان فيه وسائل العيش، ويجد فى كنفه الأمن والسلام- فى هذا المجتمع تخصب العواطف، وتزدهر المشاعر، وتتفتح البصائر إلى كثير من حقائق الوجود.. وهنا يجد الإنسان وجوده الذي يستطيع أن يصله بالله، وأن يوثق صلته به، حين يجد الجو الذي يسمح له بالنظر والتأمل، وهو مجتمع النفس، مطمئن القلب.. ومن هنا أيضا يستقيم للإنسان دينه، فيؤدى ما لله عليه من حقوق، لا تشغله عنها شواغل الحياة، ولا تدهله عنها مطالب العيش الملحّة، المهددة للحياة!.
- ففى قول إبراهيم: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».. تعليل كاشف عن أن إقامة الصلاة، وما معها من واجبات مفترضة على المؤمن، إنما تجىء بعد أن يجد الإنسان وجوده على هذه الأرض، ويضمن لهذا الوجود بقاء واطمئنانا..!
فالإنسان مع الحرمان الشديد، ومع الجوع المهدد بالهلاك، لا يجد العقل الذي يعقل، ولا القلب الذي يخفق خفقات الوجد والشوق..
فإذا عبد الله فى تلك الحال، عبده وهو شارد اللّب خامد الشعور.. ومثل هذه العبادة ولا يجد فيها العابد ريح ربّه، ولا ينسم أنسام جلاله، وعظمته..
ومن هنا كان هذا الدعاء: «اللهم أصلح لى دنياى التي فيها معاشى، وأصلح لى دينى الذي فيه معادى وعاقبة أمرى» كان دعاء جامعا لخير الدنيا والآخرة.
هذا وليست كثرة المال ووفرة المتاع، بالتي تقيم الإنسان دائما على طريق مستقيم مع الله، إذ كثيرا ما يكون المال ووفرته سببا فى صرف الإنسان عن طريق الحق، وركوبه طرق الغواية والضلال.. ولكن الفقر القاهر والحاجة القاسية، أكثر صرفا للإنسان عن الطريق السّوىّ.. إلا من عصم الله، وأمده بأمداد الحق والصبر.
وفى التعبير بكلمة «تهوى» إشارة إلى الدافع الذي يدفع الناس إلى هذا المكان القفر الجديب. وأن هذا الدافع لن يكون طلبا لمال أو متاع، وإنما هو إشباع لهوّى فى القلوب، وإرواء لظمأ فى النفوس، واستجابة لأشواق تهفو بالأرواح إلى هذا المكان.. وذلك لا يكون إلا استجابة لدعوة الله، وامتثالا لأمره، وتحقيقا لركن من أركان دينه.. فكانت فريضة الحجّ، هى دعوة الله إلى اجتماع المؤمنين فى هذا الوادي.. يجيئون إليه فى شوق، وحنين.. وكأنهم على ميعاد مع أمل محبوب طال انتظاره، وأمنية مسعدة، عزّ الوصول إليها.. وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» (٢٧- ٢٨: الحج)
تشير هذه الآية إلى أن تقوى لله، وشكره، ليس بأعمال الجوارح الظاهرة وحدها، وإنما بأن يسلم الإنسان لله وجوده كلّه، ظاهرا وباطنا، وأن يخلص له العبادة.. فالله سبحانه وتعالى: يعلم ما نخفى وما نعلن.. وحساب أعمالنا عنده، بما تحمل من صدق وإخلاص.. فإذا تلبس بتلك الأعمال رياء، أو نفاق، ردّت على صاحبها، وكانت وبالا عليه..
قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ»..
هو صلاة شكر وحمد لله، يرفعها إبراهيم لربّه، على النعمة التي أنعم بها عليه، إذ وهب له الولد بعد أن كبر، وجاوز العمر الذي يطلب فيه الولد.. فوهب الله له ولدين، لا ولدا واحدا، هما إسماعيل وإسحق..
وهكذا تجىء رحمة الله من حيث لا يحتسب الناس، ولا يقدّرون..
فهذا إبراهيم الذي بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد الذي
وهذا الوادي الجديب، الذي كانت تمتدّ العين، فلا ترى فيه إلا مواتا، لا تهبّ عليه نسمة حياة أبد الدهر- هذا الوادي قد عاد لله بفضله عليه، فإذا هو حياة زاخرة، تحتشد فيه الأمم، وتصبّ فيه أنهار الحياة، المتدفقة بالنعم من كل أفق..
وقد شكر إبراهيم ربّه على هذه النعمة، التي جاءته على غير انتظار.. ،
فليشكر أهل هذا الوادي ربّهم على هذا الخير الذي يفيض به واديهم.. من غير عمل منهم! قوله تعالى: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» فيه توكيد لدعوة إبراهيم التي دعا بها ربّه فى قوله: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».. وفى هذا ما فيه من تنويه بأمر الصّلاة، واحتفاء بشأنها.. ثم هو من جهة أخرى، إشارة إلى أن أداء الصلاة على وجهها والمحافظة على أوقاتها، وإخلاص القلوب لها، وإحلاء النفس من الشواغل التي تشغل عنها.. وذلك أمر يحتاج إلى إيمان قوى، وعزيمة صادقة، يستعان عليهما بالله، ويطلب إليه سبحانه العون والتوفيق فيهما.. ولهذا جاء قول إبراهيم- «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ» صلاة ضارعة إلى الله سبحانه أن يثبت قدمه على أداء هذه الفريضة، وأن يجعله من مقيميها على وجهها..
- وفى قوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» وفى التعبير بمن التي تفيد التبعيض- إشارة إلى أن دعاءه لذريته بأن يقيموا الصلاة، لا يشمل كل ذريته، بل بعضهم، ممن دعاهم الله إلى الإيمان به، فآمنوا، وأخبتوا، وكانوا من المتقين..
وقد كان إبراهيم- عليه السلام- مستجاب الدعوة عند ربّه.. وكان نبينا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- دعوة مستجابة من دعوات إبراهيم، حيث دعا إبراهيم ربّه بما حكاه القرآن الكريم عنه فى قوله تعالى: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (١٢٩: البقرة).. وفى هذا يقول النبي- صلوات الله وسلامه عليه-: «أنا دعوة إبراهيم.»
قوله تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» هو دعوة عامة، شملت المؤمنين جميعا، بعد أن بدأ إبراهيم بنفسه، ثم بوالديه..
وهذا أدب ربانىّ فى الدعاء، ينبغى أن يلتزمه المؤمن، وهو يدعو ربه..
ذلك، أن الدعاء، هو استمطار فضل من فضل الله، واستنزال رحمة من رحمته.. ومن الغبن للداعى أن يدعو بهذا الخير، ولا يأخذ نصيبه منه..
كما أنه من الأنانية والشحّ أن يحتجز الإنسان لنفسه هذا الخير المرتقب، ولا يشرك إخوانه المؤمنين فيه.. فرحمة الله واسعة، وعطاؤه جزل.. ودعوة مستجابة تسعد الناس جميعا..
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع وهو فى المسجد داعيا يدعو، فيقول: «اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا» فقال صلى الله عليه وسلم
وكذلك كان شأن إبراهيم عليه السلام، فإنه كان يستغفر لأبيه. على ما كان منه، من جفاء وغلظة، وعلى ما لقيه منه من عناد وإصرار على الكفر..
وذلك طمعا فى أن يهديه الله، وأن يشرح صدره للإيمان، فلما كشف الله له عن مصير هذا الأب، تبرأ منه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (١١٤: التوبة).
وسؤال آخر: لماذا وقّت إبراهيم غفران الله له ولوالديه وللمؤمنين، بيوم القيامة.. «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ؟
والجواب على هذا، هو أن يوم الحساب، هو يوم الإنسان، لا يوم له قبله، وأنه إذا ربح هذا اليوم، وظفر فيه بالنجاة من عذاب الآخرة- وهذا لا يكون إلا بمغفرة الله له، وتجاوزه عن سيئاته- فذلك هو الفوز العظيم حقّا..
أما إذا خسر هذا اليوم، ولم يكن فيمن شملهم الله بعفوه ومغفرته، فذلك هو الخسران المبين..
الآيات: (٤٢- ٤٥) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ..» هو خطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ثم هو بعد هذا خطاب عام لكل من هو أهل للخطاب، من المؤمنين والمشركين.. ثم هو تهديد للمشركين، وأخذ لهم وهم متلبسون بجرمهم، وبموقفهم العنادىّ اللئيم من النبي الكريم، ومن كلمات الله سبحانه، التي حملها إليهم..
فالله سبحانه وتعالى مطلع على كل ما يعملون، عالم بكل ما انطوت عليه صدورهم، من تدبير سيىء، ومكر خبيث.. برسول الله، وآيات الله..
- وفى قوله تعالى: «مهطعين» إشارة إلى أنهم يساقون سوقا عنيفا من قبورهم إلى ساحة المحشر.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» (٤٣: المعارج) وكما يقول جل شأنه:
«مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ.. يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (٨: القمر).
والمهطع: هو المسرع.
- وقوله تعالى: «مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ» أي مطأطئى الرءوس، ذلة، وانكسارا، وضعفا عن حمل هذا الهمّ الثقيل الذي ينوءون تحته، من بلاء هذا الهول العظيم.
- وقوله تعالى: «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» أي مأخوذة أبصارهم، إذا وقعت على هول من أهوال المحشر لصقت به، ولم تعد إلى أصحابها.. فذلك هو اليوم الذي تشخص فيه الأبصار!
قوله تعالى: «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟».
هذا نذير آخر من نذر يوم القيامة، يأتى فى صورة من صور تلك المحاولات الكثيرة، التي يحاولها أهل الشرك والضلال، ليفلتوا من عذاب هذا اليوم العظيم.
وفى هذه الصورة يضرع الظالمون إلى الله أن يعيدهم مرة أخرى إلى الحياة الدنيا، ليصححوا أخطاءهم، وليكفّروا عن سيئاتهم، وليأخذوا طريقا غير الطريق الذي أخذوه.. إنه لو تحقق لهم هذا الرجاء لأجابوا دعوة الله، واتبعوا رسل الله.. وآمنوا كما آمن المؤمنون، وكانوا فى عباد الله الصالحين!!..
هكذا يقولون وهم كاذبون.
- وفى قوله تعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» تذكير للظالمين بما كان منهم فى دنياهم، وقراءة عليهم لصفحة من صفحات حياتهم المجللة بالسواد.. «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» لقد كنتم فى دنياكم- وقد غركم الغرور- على يقين بأنكم لن تخلوا مكانكم منها، ولن تتحولوا عنها أبدا.. هكذا كنتم مع الدنيا، ولو عدتم إليها لما كنتم أحسن حالا من حالكم الأولى معها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (٢٨: الأنعام).
فى هذه الآية ردّ على أولئك الذين ظلموا، وبأن عودتهم مرة أخرى إلى الحياة لن تغير من أحوالهم شيئا، وأنهم لن يرجعوا عما كانوا.. ذلك لأن النّذر لا نقع منهم موقع العبرة والعظة.. فلو أنهم كانوا يأخذون من النذر عبرة وعظة، لكان لهم فيما وقع تحت أبصارهم فى حياتهم الأولى، مزدجر عما اقترفوه من آثام، وفعلوه من منكرات.. فلقد سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ورأوا ما فعل لله بهم، وما أخذهم به من عذاب ونكال.. ومع هذا فإنهم ساروا على نفس الطريق الذي سلكه أسلافهم هؤلاء.. من ظلم، وبغى، وضلال، ولم يكن لهم فيما حلّ بهم نظر واعتبار.! فكيف ينفعهم هذا الموقف الذي وقفوه فى الآخرة، وعاينوا فيه ما أعد الله للظالمين من بلاء وهوان؟ إن هذا من ذاك، سواء بسواء! وإنه إذا كان فى عذاب الآخرة عبرة لمعتبر، فإن فى مصارع الظالمين فى الدنيا، وفيما يأخذهم الله به من بأساء وضراء، لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وفى هذا يقول تبارك وتعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ. لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (٣٦- ٣٧: فاطر).
الآيات: (٤٦- ٥٢) [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٦ الى ٥٢]
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ».
المكر: التدبير السيّء، والمراد به هنا، ما كان من المشركين من مواقف مع الدعوة الإسلامية، وما كانوا يبيتونه لها.
وعند الله مكرهم: أي أن هذا التدبير السيّء، وهذا الكيد الخبيث، هو مما علمه الله منهم، وسجله عليهم، وسيحاسبهم عليه..
والآية الكريمة، تعيد هؤلاء الضالين، إلى الحياة الدنيا، بعد أن عرضتهم الآيات السابقة على النار، وأشرفت بهم على أهوالها، وأرتهم اليأس من العودة إلى الحياة الدنيا، بعد الموت والبعث.. ثم هاهم أولاء يستيقظون من تلك الأحلام المزعجة على هذا الواقع، فإذا هم فى دنياهم لم يبرحوها بعد، وقد كانت أمنيتهم أن يعودوا إليها، ليصلحوا ما أفسدوا.. وها هم أولاء فى دنياهم تلك.. فماذا هم فاعلون؟ إنهم لن يفعلوا غير ما فعلوا، ولن يتحولوا عما هم فيه من كفر وضلال..
والمشركون وإن لم يقولوا بنسبة الولد إلى الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وكما قالت النصارى: المسيح ابن الله.. لكنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله.. كما يقول الله تبارك وتعالى عنهم: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً.. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» (١٩: الزخرف).
قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» - هو تثبيت للنبى الكريم، وتطمين لقلبه، بأن الله منجز وعده إياه، وهو النصر على كل قوى الشر والعدوان، المتربصة به.. فهذا حكم لله فيما بين رسله وأقوامهم، كما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» (٢١: المجادلة)..
فالله سبحانه وتعالى «عَزِيزٌ» يغلب ولا يغلب.. «ذُو انتِقامٍ» يأخذ
وقوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ».. أي فى هذا اليوم تتجلى عزة الله سبحانه وتعالى، ويتجلى انتقامه من الظالمين، حيث توفى كل نفس ما كسبت.. وأنه إذا كان منه سبحانه وتعالى إمهال للظالمين فى الدنيا، فإنهم إذا حشروا فى هذا اليوم، أخذوا بكل ما عملوا، وذاقوا وبال أمرهم، واستوفوا نصيبهم من العذاب الأليم..
- وفى قوله تعالى: «تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» إشارة إلى أنه فى هذا اليوم- يوم القيامة- تتغير معالم هذا الوجود الذي عرفه الناس فى حياتهم الدنيا..
فلا الأرض أرض، ولا السماء سماء، وذلك لما ترجف به الأرض من أهوال، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» (١٤: المزمل) وكما يقول سبحانه: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» (١- ٥: الانفطار)..
قوله تعالى: «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ»..
مقرنين: أي يقرن بعضهم إلى بعض، ومنه القرين، وهو الصاحب..
والأصفاد: جمع صفد، وهو القيد.. والسرابيل جمع سربال، وهو القميص..
القطران: «الزفت»..
والمعنى: أنه فى هذا اليوم يرى المجرمون وهم مقرنون فى الأصفاد، أي مقيدون بالأغلال، وقد قرن بعضهم إلى بعض.. فكانوا كيانا واحدا، مشدودا إلى سلسلة، قد شدّ كل واحد منهم إلى حلقة فيها.. إذلالا لهم،
وليس هذا فحسب، بل إنهم ليعرضون هذا العرض المهين، عراة حفاة..
قد طليت أجسادهم بالقطران، فكان هذا القطران لباسهم الذي يراهم الناس فيه، فى هذا اليوم العظيم.. «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ»..
وليس هذا فحسب أيضا، بل إن لهم من نار جهنم لفحات، تداعبهم بها، ضربا على وجوههم، ولطما على خدودهم: «وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» أي تغطى وجوههم بلهيبها!.
ذلك منظر تقشعر منه الأبدان، وتنخلع منه القلوب.. تتجلى فيه نقمة لله، حيث تنزل بالظالمين، وتأخذهم أحد عزيز مقتدر.. وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ».
هو تعليل لهذا البلاء العظيم، وهذا الهوان المهين، الذي يلقاه هؤلاء الظالمون يوم القيامة، فهذا بما كسبته أيديهم، وقد كان من عدل الله سبحانه أن يعاقب المذنبين الظالمين، وأن يثبت المحسنين المتقين. وهو سبحانه وتعالى يقول:
«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ؟ (٣٥- ٣٦: القلم) - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» إشارة إلى أن كثرة المحاسبين بين يدى الله تعالى، من محسنين ومسبئين، لا يكون منها إبطاء أو إمهال فى أن ينال كل عامل جزاء عمله، فالمحسنون يعجّل لهم جزاؤهم الحسن، حتى يسعدوا به، ويهنئوا بالعيش فيه، وحتى لا يستولى عليهم الفلق، وتهجم عليهم الوساوس، وهم فى انتظار كلمة الفصل فيهم.. وكذلك المسيئون، لن
قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ.. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ».
- «هذا» إشارة إلى ما جاء فى آيات الله من هدى، فيه بيان للناس، وبلاغ مبين. وحجة دامغة، تخرص كل مكابر، وتفحم كل معاند.. ففى كلمات الله التي حملها رسول الله إلى الناس، بلاغ لهم، وزاد طيّب، يتزودون به فى طريقهم إلى الله، ويبلغون به شاطئ الأمن والسلام.
- قوله تعالى: «وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» معطوف على محذوف، تقديره هذا بلاغ للناس، ليدلهم على ربهم، وليكون نذيرا لهم من عذابه، إذا هم صمّوا وعموا عن الاستماع إلى آياته، وليعلموا إذا تدبّروا هذه الآيات وعقلوها، أن إلههم إله واحد لا شريك له..
- وقوله تعالى: «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» معطوف على محذوف أيضا.. تقديره- فإذا لم يكن لهؤلاء الضالين أسماع تسمع، أو عقول تعقل، أو بصائر تستبصر وتتذكر- فليتركوا وشأنهم، وليذكر أولو الألباب، الذين ينبغى لهم ألا يمرّوا بآية من آيات الله، دون أن يلتقطوا منها عبرة، أو يأخذوا منها موعظة.
وننظر فى الآية الكريمة نظرة شاملة: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ».. ننظر فنجد:
أولا: أن القرآن الكريم هو بلاغ للناس جميعا، يحمل فى مضامينه أضواء مشعة، تكشف الطريق إلى لهدى والإيمان: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ».
وثانيا: أنه مع هذا البلاغ المبين، وذلك البيان الكاشف، فإن كثيرا
وكلّ حظهم من هذا البلاغ المبين أنه حجة عليهم، وإنذار لهم بالعذاب الأليم:
«وَلِيُنْذَرُوا بِهِ».
وثالثا: أن الذين نظروا فى آيات الله، وأعطوها آذانهم وقلوبهم، قد عرفوا بها طريقهم إلى الله، وعلموا أنه إله واحد، لا شريك له.. «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ»..
ورابعا: أن فى هذا الذي انكشف من أمر الناس، وموقفهم من آيات..
بين ضال لم يزده هذا البلاغ المبين إلا عمى وضلالا. وبين مهتد، زاده هذا البلاغ المبين هدى وإيمانا- فى هذا وذلك عبرة وعظة، فليعتبر بهذا أهل البصائر، وليتذكر أولو الألباب والعقول.. الذين هم أهل لهذا الخطاب المبين، من ربّ العالمين.