تفسير سورة مريم

اللباب
تفسير سورة سورة مريم من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ

اعلم أنَّ حروف المُعْجمِ على نوعين: ثُنائي، وثُلاثي، وقد جرت العادةُ - عادةُ العرب - أن ينطقُوا بالثنائيَّات المقطوعة ممالة، فيقولوا: بَا، تَا، ثَا، وكذلك أمثالها، وأن ينطقوا بالثلاثيَّات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة، فيقولون: دال ذال، صاد، ضاد، وكذلك أشكالها.
أما الرَّازي وحدُه من بين حُروف المعجم، فمعتادٌ فيه الأمران، ؛ فإنَّ من أظهر ياءَه في النُّطْق حتَّى يصير ثلاثيَّا، لم يُملُه، ومن لم يظهر ياءه في النطق؛ حتَّى يشبه الثنائيَّ، أماله.
واعلم أنَّ إشباع الفتحة في جميع المواضع أصلٌ، والإمالة فرعٌ عليه؛ ولذلك يجوزُ إشباعُ كُلِّ ممالٍ، ولا يجوز كُلُّ مُشْبَعٍ من المفتوحات.
والعامَّة على تسكين أواخر هذه الأحرفُ المقطعة، لذلك كان بعضُ القرَّاء يقفُ على كُلِّ حرفٍ منها وقفة يسيرة كبالغة في تمييز بعضها من بعض.
وقرأ [الحسن] «كافُ»«ها» ] وتفخيمهما، وبعضهم يُعبِّر عن التفخيم بالضمِّ، كما يعبِّر عن الإمالةِ بالكسر، وإنما ذكرته؛ لأنَّ عبارتهم في ذلك مُوهمةٌ.
وأزهر دال «صاد» قبل ذالِ «ذكرُ» نافعٌ، وابن كثير، واعاصم؛ لن الأصل، وأدغمها فيها الباقون.
والمشهورُ إخفاء نون «عَيْن» قبل الصَّاد؛ لأنها تقاربها، ويشتركان في الفمِ، وبعضها يظهرها؛ لأنها حروفٌ مقطعةٌ يقصدون تمييز بعضها من بعض.
قوله: ﴿ذِكْرُ﴾ : فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فيما يتلى عليكم ذكر.
الثاني: أنه خبر محذوف المبتدأ، تقديره: أو هذا ذكر.
الثالث: أنه خبر الحروف المقطَّعة، وهو قول يحيى بن زياد، قال أبو البقاء «وفيه بعدٌ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها».
و «ذِكْرُ» مصدرٌ مضافٌ؛ قيل: إلى مفعوله، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله، و «عَبدَهُ» مفعولٌ به، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً، والتقدير: أن ذكر الله ورحمته عبدهُ، وقيل: بل «ذِكْرُ» مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع، ويكون «عبدهُ» منصوباً بنفس الذِكْر، والتقدير: أن ذكرت الرحمة عبدُه، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً.
و «زكَرِيَّا» بدلٌ، أو عطفُ بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمار «أعْنِي».
وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريّ عن الحسن - «ذَكَّرَ» فعلاً ماضياً مشدداً، و «رحمة» بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ، قدمت على الأول، وهو «عَبْدُهُ» والفاعلُ: إما ضمير القرآن، أو ضمير الباري تعالى، والتقدير: أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذكَّر الله - عبده رحمتُه، أي: جعل العبد يذكرُ رحمته، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن «رحمةَ ربِّك» هو المفعول الأول، والمعنى: أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد، وقيل: الأصلُ: ذكَّر برحمةِ، فلما انتزع الجارُّ نصب مجروره، ولا حاجة إليه.
وقرأ الكلبيُّ «ذكر» بالتخفيف ماضياً «رَحْمَةَ» بالنصب على المفعول به، «عَبْدُهُ» بالرفع فاعلاً بالفعل قبله، «زَكريَّا» بالرفع على البيان، أو البدل، أو على إضمار مبتدأ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى.
وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدَّاني - «ذَكَّرْ» فعل أمرٍ، «رَحْمَةَ» و «عَبْدهُ»
4
بالنصب فيهما على أنهما مفعولان، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ، يجوز أن يكون المفعول الأول، أو الثاني، بالتأويلِ المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً.

فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة


قال ابنُ عباسٍ: هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادةُ: اسمٌ من أسماء القرآن.
وقيل: اسمٌ للسُّورة.
وقيل: هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس في قوله ﴿كهيعص﴾ قال: الكافُ من كريم وكبير، والماء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليهم، وعظيم، والصاد من صادق.
وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة، وعلى الحكيم أخرى.
وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل. قال ابنُ الخطيب: وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ، لا بالحقيقةِ، ولا بالمجازِ، لأنَّا إن جوَّزنا ذلك، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ أولي من دلالته على الكريم، والكبير، أو على اسم آخر من أسماء الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أو الملائكة، أو الجنَّة، أو النَّار، فيكون حملها على بعضها دون البعض تَحَكُّماً.

فصل في المراد بقوله تعالى: ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾


يحتملُ أن يكون المراد من قوله ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ أنه عنى عبدهُ زكريَّا، ثم في كونه رحمة وجهان:
أحدهما: أن يكون «رحْمة» على أمَّته؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة.
والثاني: أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وعلى أمَّته؛ لأنَّ
5
الله تعالى، لمَّا شرع لمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى، وصار ذلك لطفاً داعياً له، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة.
ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا.
قوله: ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾.
في ناصب إذ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ «ذِكْرُ»، ولم يذكُر الحوفيُّ غيره.
والثاني: أنَّه «رَحْمَة» وقد ذكر الوجهين أبو البقاء.
والثالث: أنَّه بدلٌ من «زكريَّا» بدل ُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليه، وسيأتي مثلُ هذا عند قوله ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ [مريم: ١٦] ونحوه.

فصل في أدب زكريا في دعائه


راعى سُنَّة الله في إخفاء دعوته؛ لأنَّ الجهر والإخفاء عند الله سيَّان، وكان الإخفاء أولى؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء، وأدخلُ في الإخلاص.
وقيل: أخفاه؛ لئلاَّ يلامُ على طلبِ الولدِ في زمان الشيخوخة وقيل: أسرَّهُ من مواليه الذين خافهم.
وقيل: خِفْتُ صوتهُ؛ لضعفه، وهرمه، كما جاء في صفةِ الشَّيْخ: صوتهُ خفاتٌ، وسمعهُ تارات. فإن قيل: من شرط النِّداء الجهر، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيًّ؟.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت؛ إلا أنَّ صوته كان ضعيفاً؛ لنهايةِ ضعفه بسببِ الكبر، فكان نداءً؛ نظراً إلى القصد، خفيًّا نظراً إلى الواقع.
الثاني: أنَّه دعاه في الصَّلاة؛ لأنَّ الله تعالى، أجابه في الصَّلاة؛ لقوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ [آل عمران: ٣٩] فتكُون الإجابةُ في الصَّلاة تدلُّ على كون الدُّعاء في الصّلاة؛ فوجب أن يكون النداءُ فيها خفيًّا.
وفي التفسير: «إذْ نَادَى» : دعا «ربَّه» في محرابِهِ.
قوله: ﴿نِدَآءً خَفِيّاً﴾ دعا سرًّا من قومه في جوف الليل.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ الآية.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ﴾ : لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لأنها تفسير لقوله «نَادَى ربَّهُ» وبيانٌ، ولذلك ترك العاطف بينهما؛ لشدَّة الوصل.
6
قوله: «وهَنَ» العامَّةُ على فتحِ الهاء، وقرأ الأعمشُ بكسرها، وقُرئ بضمِّها، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظة، ووحَّد العظم لإرادة الجنس؛ يعني: أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عمودُ البدنِ، وأشدُّ ما فيه، وأصلبه، قد أصابه الوهنُ، ولو جمع، لكان قصداً آخر: وهو أنه لم يهن منه بعضُ عظامه، ولكن كلُّها، قاله الزمخشريُّ، وقيل: أطلقَ المفردُ، والمرادُ به الجمعُ؛ كقوله: [الطويل]
٣٥٧٧ - بِهَا جِيفَ الحَسْرَى فأمَّا عِظَامُهَا فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ
أي: جلودُها، ومثله: [الوافر]
٣٥٧٨ - كُلُوا في بعضِ بَطْنكمُ تَعِفُّوا فإنَّ زمانَكُم زمنٌ خَمِيصُ
أي: بُطُونكُمْ.
و «مِنِّي» حالٌ من «العَظْم» وفيه ردٌّ على من يقول: إنَّ الألف واللام تكونُ عوضاً من الضمير المضافِ إليه؛ لأنه قد جمع بينهما هنا، وإن كان الأصل: وهن عظمي، ومثله في الدَّلالةِ على ذلك ما «أنشد شاهداً على ما ذكرتُ: [الطويل]
٣٥٧٩ - رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفيقةٌ بجَسِّ النَّدامَى بضَّةُ المُتَجَرِّدِ
ومعنى ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ : ضعف، ورقَّ العظم من الكبر.

فصل


قال قتادة: اشتكى سُقُوط الأضراس.
قوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ أي: ابْيَضَّ شعر الرَّأس شيباً.
وفي نصب»
شَيْباً «ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها - وهو المشهور -: أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصل: اشتعل شيبُ الرَّأسِ، قال الزمخشريُّ:»
شبَّه الشَّيب بشُواظِ النَّار في بياضهِ، وانتشاره في الشَّعْر، وفُشُوِّه فيه، وأخذه منه كُلُّ مأخذٍ باشتعالِ النَّار، ثم أخرجه مخرج الاستعارةِ، ثم أسند الاشتعال إلى مكانِ الشِّعْر، ومنبته، وهو الرَّأسُ، وأخرج الشَّيب مُمَيَّزاً، ولم يَضفِ لها بالبلاغةِ «انتهى، وهذا من استعارة محسُوسٍ لمحسُوسٍ، ووجه الجمع: الانبسَاطُ والانتشَارُ.
والثاني: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ، فإنَّ»
اشْتَعَلَ الرَّأسُ «معناه» شَابَ «.
7
الثالث: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ، شاَئِباً، أو ذا شيب.
وأدغم السِّين في الشِّين أبو عمرٍ.
وقوله:» بِدُعائِكَ «فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ المصدر مضافٌ لمفعوله، أي: بُدعائي إيَّاك.
والمعنى: عوَّدتني الإجابة فيما مضى، ولم تُخَيِّبْنِي.
والثاني: أنه مضافٌ لفاعله، أي: لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيَّا، أي: لما دعوتني إلى الإيمان، آمنتُ، ولم أشق.
قوله: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي﴾ : العامَّةُ على»
خِفْتُ «بكسر الخاء، وسكون الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلِّم، و» الموالِي «مفعولٌ به؛ بمعنى: أنَّ مواليهُ كانُوا شِرَارَ بني إسرائيل، فخافهم على الدِّين، قاله الزمخشريٌُّ.
قال أبو البقاء:»
لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، أي: عدم الموالي، أو جَوْرَ الموالي «.
وقال الزهريُّ كذلك، إلا انه سكَّن ياء»
المَوالِي «وقد تقدّضمَ أنَّه قد تُقدَّر الفتحةُ في الياء، والواو، وعليه قراءة زيد بن عليٍّ ﴿تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩].
وتقدَّم إيضاحُ هذا.
وقرأ عثمانُ بنُ عفَّان، وزيدُ بن ثابت، وابن عبَّاس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن العاص، ويحيى بنُ يعمر، وعليُّ بنُ الحسبن في آخرين: «خَفَّتِ»
بفتحِ الخاءِ، والفاءِ مشددةً، وتاء تأنيثٍ، كُسرتْ؛ لالتقاءِ السَّاكنين، و «المَوالِي» فاعلٌ به؛ بمعنى: دَرَجُوا، وانقرضُوا بالموتِ.
قوله: «مِنْ وَرَائِي» هذا متعلِّقٌ في قراءة الجمهور بما تضمَّنَهُ الموالي من معنى الفعلِ، أي: الذين يلون الأمْرَ بعدي، ولا يتعلَّق ب «خَفَّتِ» بالتشديد، فيتعلَّق يُرَادَ ب «وَرَائِي» معنى: خَلْفِي، وبَعْدِي، وأمَّا في قراءةِ «خَفَّتِْ» بالتشديد، فيتعلَّق الظَّرْفُ بنفس الفعل، ويكونُ «وَرَائِي» بمعنى قُدَّامي، والمعنى: أنهم خفُّوا قدَّامهُ، ودرجُوا، ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضادٌ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريُّ.
والمَوالِي: بنُو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشَّاعر لهم بذلك في قوله: [البسيط]
8
وقال آخر: [الوافر]
٣٥٨٠ - مَهْلاً، بَنِي عمِّنَا؛ مَهْلاً موالينَا لا تَنْبُشُوا بَيْننا ما كان مَدْفُوناً
٣٥٨١ - ومَوْلى قد دفعتُ الضَّيْمَ عَنْهُ وقَدْ أمْسَى بمنزلةِ المَضِيمِ
وهو قولُ الأصمِّ.
وقال مجاهدٌ: العَصَبَة.
وقال أبو صالحٍ: الكلالة.
وقال ابنُ عبَّاس والحسن والكلبيُّ: الورثة.
وعن أبي مسلمٍ: المولى يرادُ به النَّاصرُ، وابن العمِّ، والممالك، والصَّاحب، وهو هنا من يقُوم بميراثه مقام الولد، والمختار، أنَّ المراد من الموالي الذين يخلفُون بعده، إما في السِّياسة، أو في المال، أو في القيام بأمر الدِّين؛ وهو يدلُّ على معنى القُرْبِ والدُّنوِّ، ويقالُ: وليته اليه ولْياً، أي: دَنَوتُ منهُ، وأوليْتُهُ إيَّاهُ، وكُل ممَّا يليكَ، وجلستُ ممَّا يليهِ، ومنهُ الوَلْيُ، وهو المطرُ الذي يلي الوسميَّ، والوليَّة: البرذعةُ [الَّتي] تلي ظهْر الدَّابَّة، ووليُّ اليتيم، ووليُّ القتيل؛ لأنَّ من تولَّى أمراً، فقد قرُبَ منه.
وقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ [البقرة: ١٤٤] من قولهم: ولاه بركنه، أي جعله ما يليه، وأما ولَّى عنِّي، إذا أدبر، فهو من باب تثقيل الحشو للسلْب، وقولهم: فلان أولى من فلان، أي: أحق؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي، كالأدنى، والأقرب من الدَّاني، والقريب، وفيه معنى القرب أيضاً؛ لأنَّ من كان أحقَّ بالشيء، كان أقرب إليه، والمولى: اسمٌ لموضعِ الولي، مالمرمى والمبنى: اسمٌ لموضعِ الرَّمي والبناءِ.
والجمهورُ على «وَرَائِي» بالمدِّ، وقرأ ابنُ كثير - في رواية عنه - «وَرَايَ» بالقصر، ولا يبعدُ ذلك عنه، فإنه قد قصر ﴿شُرَكَايَ﴾ [النحل: ٢٧] في النَّحل؛ كما تقدَّم، وسيأتي أنَّه قرأ ﴿أَن رَّآهُ استغنى﴾ في العلق [الآية: ٧] ؛ كأنه كان يُؤْثِرُ القصْر على المدِّ؛ لخفَّته، ولكنَّه عند البصريين لا يجوزُ سعةً.
قوله: ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ أي: لا تَلِدُ، والعَقْرُ في البدن: الجُرح، وعقرتُ الفرس بالسَّيف، ضربتُ قوائِمهُ.
9
قوله «مِنْ لدُنْكَ» يجوز أن يتعلق ب «هَب» ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حال من «وليًّا» لأنه في الأصل صفةٌ للنكِرةِ، فقُدِّم عليها.
﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ﴾ : قرأ أبو عمرو، والكسائيُّ بجزم الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر؛ إذ تقديره: إن يهبْ، والباقون برفعهما؛ على انَّهما صفةٌ ل «وليًّا».
وقرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابنُ عبَّاسٍ، والحسن، ويحيى بن يعمر، والجحدريُّ، وقتادةُ في آخرين: «يَرِثُنِي» بياء الغيبة، والرَّفع، وأرثُ مسنداً لضمير المتكلِّم.

فصل فيما قرئ به من قوله: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ﴾


قال صاحب «اللَّوامح» :«في الكلام تقديم وتأخيرٌ؛ يرثُ نُبُوَّتِي، إنْ منُّ قبلهُ وأرِثُ مالهُ، إن مات قبلي». ونُقِلَ هذا عن الحسن.
وقرأ عليٌّ أيضاً، وابنُ عبَّاس، والجحدريُّ «يَرِثُني وارثٌ» جعلوه اسم فاعلٍٍ، أي: يَرثُنِي به وارثٌ، ويُسَمَّى هذا «التجريد» في علم البيان.
وقرأ مجاهدٌ «أوَيْرِثٌ» وهو تصغيرُ «وارِثٍ» والأصل: «وُوَيْرِثٌ» بواوين، وجب قلبُ أولاهما همزة؛ لاجتماعهما متحركين أول كلمةٍ، ونحو «أوَيْصِلٍ» تصغير «واصلٍ» والواوُ الثانيةُ بدلٌ عن ألفِ «فاعلٍ» و «أوَيْرِثٌ» مصروفٌ؛ لا يقال: ينبغي أن يكون غير مصروفٍ؛ لأنَّ فيه علتين: الوصفيَّة، ووزن الفعل، فإنه بزنة «أبَيْطِر» مضارع «بَيْطَرَ» وهذا ممَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير، لا يقالُ ذلك لأنه غلطٌ بيِّنٌ؛ لأنَّ «أوَيْرِثاً» وزنه فُويْعِلٌ، لا أفَيْعلٌ؛ بخلاف «أحَيْمِر» تصغير «أحْمَرَ».
وقرأ الزهريُّ: «وارثٌ» بكسر الواو، ويعنون بها الإمالة.
قوله: «رَضِيًّا» مفعولٌ ثانٍ، وهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ، وأصله «رَضِيوٌ» لأنه من الرِّضوان.

فصل


معنى قوله: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ أعطني من أبناء.
واعلم أنَّ زكريَّا - عليه السلام - قدَّم السؤال؛ لأمور ثلاثة:
الأول: كونه ضعيفاً.
10
والثاني: أن الله تعالى ما ردَّ دعاءه.
والثالث: كونُ المطلُوب سبباً للمنفعة في الدِّين، ثم بعد ذلك صرَّح بالسُّؤال.
أمَّا كونه ضعيفاً، فالضَّعيف: إمَّا أن يكون في الباطن، أو في الظَّاهر، والضَّعْف في الباطن أقوى من ضعف الظَّاهر، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن، فقال: ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ وذلك لأنَّ العظم أصلبُ أعضاء البدن، وجعل كذلك المنتفعين:
الأولى: ليكون أساساً وعمداً يعتمد عليها بقيَّة الأعضاء؛ لأنَّها موضوعة على العظام، والحاملُ يجبُ أن يكون أقوى من المحمول عليه.
الثاني: أنَّها في بعض المواضع وقاية لغيرها.
واحتج أصحابُ القول الأوَّل أنَّه إذا... أوّلاً، ثم ردَّ بأنها تكونُ كغيرها من الأعضاء كعظام الصَّلف وقحف الرأس، وما كان كذلك، فيجبُ أن يكون صلباً؛ ليصبر على ملاقاة الآفاتِ، ومتى كان العظم حاملٌ لسائر الأعضاء، فوصولُ الضعف إلى الحامل موجبٌ لوصوله إلى المحمول، فلهذا خصَّ العظم بالوهْنِ من بين سائر الأعضاء.
وأما ضعف الظاهر، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته.
وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ، فوجه توسله به من وجهين:
الأول: أنَّه إذا قبله أوَّلاً، فلو ردَّه ثانياً، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه.
والثاني: أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء، فلو ردَّ بعد ذلك، لكان ذلك في غاية المشقَّة، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ، فكأنَّ زكريَّا - عليه السلام - قال: إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ألم] القلب، فقال: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾.
تقولُ العربُ: سعد فلانٌ بحاجته: إذا ظَفِر بها، وشَقِي بها: إذا خَابَ، ولم [يَبْلُغْهَا].
وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين، فهو قوله: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي﴾.

فصل في اختلافهم في المراد من قوله: ﴿خِفْتُ الموالي﴾


قال ابن عباس والحسن: الموالي: الورثة وقد تقدم.
11
واختلفوا في خوفه من الموالي، فقيل: خافهم على إفساد الدِّين.
وقيل: خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ، وغيره، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه.
وقيل: يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه، إذا لم يكن له ولدٌ، فسأل الله أن يهب له ولداً، يكونُ هو ذلك النبيِّ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.
وقوله: «خِفْتُ» خرج على لفظ أصل الماضي، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً؛ كقول الرجل: قد خفتُ أن يكون كذا، أي: «أنَا خَائِفٌ» لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه.
قوله: ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ أي: أنَّها عاقرٌ في الحال؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [أن تحبل في العادة]، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى، وأيضاً: فقد يوضعُ الماضي، أي: مكان المستقبل، وبالعكس؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين﴾ [المائدة: ١١٦].
وقوله: ﴿مِن وَرَآئِي﴾ قال أبو عبيدة: من قُدَّامي، وبين يديَّ.
وقال آخرون: بعد موتي.
فإن قيل: كيف علم حالهم من بعده، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم؟.
فالجوابُ: أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد.
وقوله: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ الأكثر على أنه طلب الولد، وقيل: بل طلب من يقُوم مقامه، ولداً كان، أو غيره.
والأول أقربُ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران؛ حكاية عنه ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: ٣٨].
وأيضاً: فقوله ها هنا «يَرُثُنِي» يؤيِّده.
وأيضاً: يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً﴾ [الأنبياء: ٨٩] فدلَّ على أنَّه سأل الولد؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ، وأنَّه غيرُ
12
منفردٍ عن الورثةِ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ.
واحتجَّ أصحابُ القول [الثالث] بأنَّه لما بشِّر بالولد، استعظمه على سبيل التعجُّب؛ وقال «أنَّى يكونُ لِي غلامٌ» ولو كان دعاؤُه لطلب الولد، ما استعظم ذلك.
وأجيبَ بأنَّه - عليه السلام - سأل عمَّا يوهب له، أيوهبُ له هو وامرأتهُ على هيئتهما؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن، يُولد لمثلهما؟! وهذا يُحْكَى عن الحسن.
وقيل: إنَّ قول زكريَّا - عليه السلام - في الدُّعاء «وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً» إنما سأل ولداً من غيرها أو منها؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ، فكأنَّه - عليه السلام - قال: أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ، فهبْ لي من لدنك وليًّا، كيف شئت: إمَّا بأن تصلحها للولادةِ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها، فلمَّا بُشِّر بالغلام، سأل أن يرزق منها، أو من غيرها، فأخبر بأنه يرزقه منها.

فصل في المراد بالميراث في الآية


واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ، فقال ابنُ عبَّاس، والحسنُ، والضحاك: وراثةُ المالِ في الموضعين.
وقال أبو صالح: وراثةُ النبوَّةِ.
وقال السديُّ، ومجاهدٌ، والشعبيُّ: يَرِثُنِي المال، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة.
وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس، والحسن، والضحاك.
وقال مجاهدٌ: يرِثُنِي العلم، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة. واعلم انَّ لفظ الإرث يستعملُ في جميعها: أمَّا في المال فلقوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب﴾ [غافر: ٥٣].
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ».
وقال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦] وهذا يحتملُ وراثة الملك، ووارثة النبوَّة، وقد يقال: أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً.
13

فصل في أولي ما تحمل عليه الآية


قال الزَّجاج: الأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ» ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا - وهو نبيٌّ من الأنبياء - أن يرث بنُو عمِّه مالهُ.
والمعنى: أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين، وقتل من قُتل من الأنبياء، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته، ويرثُ نُبوَّته وعلمه؛ لئلاَّ يضيع الدِّين.
قوله: ﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ ؛ الآلُ: خاصَّةُ الرجل الذي يئول أمرهم إليه، ثم قد يئوُل أمرهم إليه لقرابةِ المقربين تارةً؛ وبالصحابة أخرى؛ كآل فرعون، وللموافقة في الدِّين؛ كآل النبيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وأكثر المفسِّرين على أنَّ يعقوب هنا: هو يعقوبُ بنُ إسحاق بن إبراهيم - عليه السلام - لأنَّ زوجة زكريَّا - عليه السلام - هي أختُ مريم، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب، وأمَّا زكريا - عليه السلام - فهو من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق، وكانت النبوة في سِبْط يعقوب؛ لأنَّه هو إسرائيلُ - عليه السلام -.
وقال بعضُ المفسِّرين: ليس المرادُ من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم، بل يعقُوب بن ماثان، [أخو عمران بن ماثان]، وكان آلُ يعقوب أخوال يحيى بن زكريَّا، وهذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل.
وقال الكلبيُّ: كان بنُو ماثان رُءوس بني إسرائيل ومُلُوكهُم، وكان زكريَّا رئيس الأحبار يومئذٍ، فأراد أن يرثه حُبُورته، ويرث بنو ماثان ملكهم.

فصل في تفسير «رضيًّا»


اختلفوا في تفسير «رَضِيًّا» فقيل: برًّا تقيًّا مرضيًّا.
وقيل: مرضيًّا من الأنبياء، ولذلك استجاب الله له؛ فوهب له يحيى سيِّداً، وحصُوراً، ونبيًّا من الصَّالحين، لم يعصِ، ولم يهم بمعصية.
وقيل: «رَضِيًّا» في أمَّته لا يتلقَّى بالتَّكذيب، ولا يواجهُ بالرَّدِّ.

فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال


احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال؛ لأنَّ زكريَّا - عليه السلام - سأل الله
14
قوله :﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾.
في ناصب إذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ " ذِكْرُ "، ولم يذكُر الحوفيُّ غيره.
والثاني : أنَّه " رَحْمَة " وقد ذكر الوجهين أبو البقاء.
والثالث : أنَّه بدلٌ من " زكريَّا " بدل ُ اشتمالٍ ؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليه، وسيأتي مثلُ هذا عند قوله ﴿ واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ ﴾ [ مريم : ١٦ ] ونحوه.

فصل في أدب زكريا في دعائه


راعى سُنَّة الله في إخفاء دعوته ؛ لأنَّ الجهر والإخفاء عند الله سيَّان، وكان الإخفاء أولى ؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء، وأدخلُ في الإخلاص.
وقيل : أخفاه ؛ لئلاَّ يلامُ على طلبِ الولدِ في زمان الشيخوخة وقيل : أسرَّهُ من مواليه الذين خافهم.
وقيل : خِفْتُ صوتهُ ؛ لضعفه، وهرمه، كما جاء في صفةِ الشَّيْخ : صوتهُ خفاتٌ، وسمعهُ تارات.
فإن قيل : من شرط النِّداء الجهر، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيًّا ؟.
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت ؛ إلا أنَّ صوته كان ضعيفاً ؛ لنهايةِ ضعفه بسببِ الكبر، فكان نداءً ؛ نظراً إلى القصد، خفيًّا نظراً إلى الواقع.
الثاني : أنَّه دعاه في الصَّلاة ؛ لأنَّ الله تعالى، أجابه في الصَّلاة ؛ لقوله تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ] فتكُون الإجابةُ في الصَّلاة تدلُّ على كون الدُّعاء في الصّلاة ؛ فوجب أن يكون النداءُ فيها خفيًّا.
وفي التفسير :" إذْ نَادَى " : دعا " ربَّه " في محرابِهِ.
قوله :﴿ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾ دعا سرًّا من قومه في جوف الليل.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي ﴾ الآية.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ ﴾ : لا محلَّ لهذه الجملةِ ؛ لأنها تفسير لقوله ﴿ نَادَى ربَّهُ ﴾ وبيانٌ، ولذلك ترك العاطف بينهما ؛ لشدَّة الوصل.
قوله :﴿ وهَنَ ﴾ العامَّةُ على فتحِ الهاء، وقرأ١ الأعمشُ بكسرها، وقُرئ بضمِّها، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظة، ووحَّد العظم لإرادة الجنس ؛ يعني : أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عمودُ البدنِ، وأشدُّ ما فيه، وأصلبه، قد أصابه الوهنُ، ولو جمع، لكان قصداً آخر : وهو أنه لم يهن منه بعضُ عظامه، ولكن كلُّها، قاله الزمخشريُّ، وقيل : أطلقَ المفردُ، والمرادُ به الجمعُ ؛ كقوله :[ الطويل ]
بِهَا جِيفَ الحَسْرَى فأمَّا عِظَامُهَا فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ٢
أي : جلودُها، ومثله :[ الوافر ]
كُلُوا في بعضِ بَطْنكمُ تَعِفُّوا فإنَّ زمانَكُم زمنٌ خَمِيصُ٣
أي : بُطُونكُمْ.
و " مِنِّي " حالٌ من " العَظْم " وفيه ردٌّ على من يقول : إنَّ الألف واللام تكونُ عوضاً من الضمير المضافِ إليه ؛ لأنه قد جمع بينهما هنا، وإن كان الأصل : وهن عظمي، ومثله في الدَّلالةِ على ذلك ما " أنشد شاهداً على ما ذكرتُ :[ الطويل ]
رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفيقةٌ بجَسِّ النَّدامَى بضَّةُ المُتَجَرِّدِ٤
ومعنى ﴿ وَهَنَ العظم مِنِّي ﴾ : ضعف، ورقَّ العظم من الكبر.

فصل


قال قتادة٥ : اشتكى سُقُوط الأضراس.
قوله :﴿ واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ أي : ابْيَضَّ شعر الرَّأس شيباً.
وفي نصب " شَيْباً " ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها -وهو المشهور- : أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ؛ إذ الأصل : اشتعل شيبُ الرَّأسِ، قال الزمخشريُّ :" شبَّه الشَّيب بشُواظِ النَّار في بياضهِ، وانتشاره في الشَّعْر، وفُشُوِّه فيه، وأخذه منه كُلُّ مأخذٍ باشتعالِ النَّار، ثم أخرجه مخرج الاستعارةِ، ثم أسند الاشتعال إلى مكانِ الشِّعْر، ومنبته، وهو الرَّأسُ، وأخرج الشَّيب مُمَيَّزاً، ولم يُضفِ الرأس ؛ اكتفاء بعلم المخاطب : أنه رأس زكريا، فمن ثم، فصُحَتْ هذه الجملة، وشُهد لها بالبلاغة " انتهى، وهذا من استعارة محسوس لمحسوس، ووجه الجمع : الانبساط والانتشار.
والثاني : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ، فإنَّ " اشْتَعَلَ الرَّأسُ " معناه " شَابَ ".
الثالث : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ، شاَئِباً، أو ذا شيب.
وأدغم السِّين في الشِّين أبو عمرٍ.
وقوله :﴿ بِدُعائِكَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ المصدر مضافٌ لمفعوله، أي : بُدعائي إيَّاك.
والمعنى : عوَّدتني الإجابة فيما مضى، ولم تُخَيِّبْنِي.
والثاني : أنه مضافٌ لفاعله، أي : لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيَّا، أي : لما دعوتني إلى الإيمان، آمنتُ، ولم أشق.
١ ينظر في قراءتها: الشواذ ٨٣، البحر المحيط ٦/١٦٣ والدر المصون ٤/٤٩٠..
٢ تقدم..
٣ تقدم..
٤ تقدم..
٥ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٨٨..
قوله :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي ﴾ : العامَّةُ على " خِفْتُ " بكسر الخاء، وسكون الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلِّم، و " الموالِي " مفعولٌ به ؛ بمعنى : أنَّ مواليهُ كانُوا شِرَارَ بني إسرائيل، فخافهم على الدِّين، قاله الزمخشريٌُّ.
قال أبو البقاء١ :" لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، أي : عدم الموالي، أو جَوْرَ الموالي ".
وقال الزهريُّ كذلك، إلا انه سكَّن ياء٢ " المَوالِي " وقد تقدّر الفتحةُ في الياء، والواو، وعليه قراءة زيد بن عليٍّ ﴿ تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ].
وتقدَّم إيضاحُ هذا.
وقرأ عثمانُ بنُ عفَّان، وزيدُ بن ثابت، وابن عبَّاس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن العاص، ويحيى بنُ يعمر، وعليُّ بنُ الحسين في آخرين :" خَفَّتِ " بفتحِ الخاءِ، والفاءِ مشددةً، وتاء تأنيثٍ، كُسرتْ ؛ لالتقاءِ السَّاكنين، و " المَوالِي " فاعلٌ به ؛ بمعنى : دَرَجُوا، وانقرضُوا بالموتِ.
قوله :﴿ مِنْ وَرَائِي ﴾ هذا متعلِّقٌ في قراءة الجمهور بما تضمَّنَهُ الموالي من معنى الفعلِ، أي : الذين يلون الأمْرَ بعدي، ولا يتعلَّق ب " خِفْتُ " لفساد المعنى، وهذا يدل على أن يُراد ب " ورائي " معنى : خَلْفي، وبعدي، وأما في قراءة " خَفَّتِ " بالتشديد٣، فيتعلَّق الظرف بنفس الفعل، ويكون " وَرَائِي " بمعنى قُدَّامي، والمعنى : أنهم خفُّوا قدَّامهُ، ودرجُوا، ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضادٌ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريُّ.
والمَوالِي : بنُو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشَّاعر لهم بذلك في قوله :[ البسيط ]
مَهْلاً، بَنِي عمِّنَا ؛ مَهْلاً موالينَا لا تَنْبُشُوا بَيْننا ما كان مَدْفُوناً٤
وقال آخر :[ الوافر ]
ومَوْلى قد دفعتُ الضَّيْمَ عَنْهُ وقَدْ أمْسَى بمنزلةِ المَضِيمِ٥
وهو قولُ الأصمِّ.
وقال مجاهدٌ : العَصَبَة٦.
وقال أبو صالحٍ : الكلالة٧.
وقال ابنُ عبَّاس والحسن والكلبيُّ٨ : الورثة.
وعن أبي مسلمٍ : المولى يرادُ به النَّاصرُ، وابن العمِّ، والممالك، والصَّاحب، وهو هنا من يقُوم بميراثه مقام الولد، والمختار، أنَّ المراد من الموالي الذين يخلفُون بعده، إما في السِّياسة، أو في المال، أو في القيام بأمر الدِّين ؛ وهو يدلُّ على معنى القُرْبِ والدُّنوِّ، ويقالُ : وليته أليه ولْياً، أي : دَنَوتُ منهُ، وأوليْتُهُ إيَّاهُ، وكُل ممَّا يليكَ، وجلستُ ممَّا يليهِ، ومنهُ الوَلْيُ، وهو المطرُ الذي يلي الوسميَّ، والوليَّة : البرذعةُ [ الَّتي ]٩ تلي ظهْر الدَّابَّة، ووليُّ اليتيم، ووليُّ القتيل ؛ لأنَّ من تولَّى أمراً، فقد قرُبَ منه.
وقوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] من قولهم : ولاه بركنه، أي جعله ما يليه، وأما ولَّى عنِّي، إذا أدبر، فهو من باب تثقيل الحشو للسلْب، وقولهم : فلان أولى من فلان، أي : أحق ؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي، كالأدنى، والأقرب من الدَّاني، والقريب، وفيه معنى القرب أيضاً ؛ لأنَّ من كان أحقَّ بالشيء، كان أقرب إليه، والمولى : اسمٌ لموضعِ الولي، كالمرمى والمبنى : اسمٌ لموضعِ الرَّمي والبناءِ.
والجمهورُ على " وَرَائِي " بالمدِّ، وقرأ ابنُ كثير١٠ -في رواية عنه- " وَرَايَ " بالقصر، ولا يبعدُ ذلك عنه، فإنه قد قصر ﴿ شُرَكَايَ ﴾ [ النحل : ٢٧ ] في النَّحل ؛ كما تقدَّم، وسيأتي أنَّه قرأ ﴿ أَن رَّآهُ استغنى ﴾ في العلق [ الآية : ٧ ] ؛ كأنه كان يُؤْثِرُ القصْر على المدِّ ؛ لخفَّته، ولكنَّه عند البصريين لا يجوزُ سعةً.
قوله :﴿ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً ﴾ أي : لا تَلِدُ، والعَقْرُ في البدن : الجُرح، وعقرتُ الفرس بالسَّيف، ضربتُ قوائِمهُ.
قوله ﴿ مِنْ لدُنْكَ ﴾ يجوز أن يتعلق ب " هَب " ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حال من " وليًّا " لأنه في الأصل صفةٌ للنكِرةِ، فقُدِّم عليها.
﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ ﴾ : قرأ أبو عمرو١١، والكسائيُّ بجزم الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر ؛ إذ تقديره : إن يهبْ، يرث، والباقون برفعهما ؛ على انَّهما صفةٌ ل " وليًّا ".
وقرأ عليٌّ -رضي الله عنه- وابنُ عبَّاسٍ، والحسن١٢، ويحيى بن يعمر، والجحدريُّ، وقتادةُ في آخرين :" يَرِثُنِي " بياء الغيبة، والرَّفع، وأرثُ مسنداً لضمير المتكلِّم.

فصل فيما قرئ به من قوله :﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ ﴾


قال صاحب " اللَّوامح " :" في الكلام تقديم وتأخيرٌ ؛ والتقدير : يرثُ نُبُوَّتِي، إنْ منُّ قبلهُ وأرِثُ مالهُ، إن مات قبلي ". ونُقِلَ هذا عن الحسن.
وقرأ عليٌّ أيضاً، وابنُ عبَّاس، والجحدريُّ١٣ " يَرِثُني وارثٌ " جعلوه اسم فاعلٍٍ، أي : يَرثُنِي به وارثٌ، ويُسَمَّى هذا " التجريد " في علم البيان.
وقرأ١٤ مجاهدٌ " أوَيْرِثٌ " وهو تصغيرُ " وارِثٍ " والأصل :" وُوَيْرِثٌ " بواوين، وجب قلبُ أولاهما همزة ؛ لاجتماعهما متحركين أول كلمةٍ، ونحو " أوَيْصِلٍ " تصغير " واصلٍ " والواوُ الثانيةُ بدلٌ عن ألفِ " فاعلٍ " و " أوَيْرِثٌ " مصروفٌ ؛ لا يقال : ينبغي أن يكون غير مصروفٍ ؛ لأنَّ فيه علتين : الوصفيَّة، ووزن الفعل، فإنه بزنة " أبَيْطِر " مضارع " بَيْطَرَ " وهذا ممَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير، لا يقالُ ذلك لأنه غلطٌ بيِّنٌ ؛ لأنَّ " أوَيْرِثاً " وزنه فُويْعِلٌ، لا أفَيْعلٌ ؛ بخلاف " أحَيْمِر " تصغير " أحْمَرَ ".
وقرأ الزهريُّ١٥ :" وارثٌ " بكسر الواو، ويعنون بها الإمالة.
قوله :﴿ رَضِيًّا ﴾ مفعولٌ ثانٍ، وهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ، وأصله " رَضِيوٌ " لأنه من الرِّضوان.

فصل


معنى قوله :﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ﴾ أعطني من أبناء.
واعلم أنَّ زكريَّا -عليه السلام- قدَّم السؤال ؛ لأمور ثلاثة :
الأول : كونه ضعيفاً.
والثاني : أن الله تعالى ما ردَّ دعاءه.
والثالث : كونُ المطلُوب سبباً للمنفعة في الدِّين، ثم بعد ذلك صرَّح بالسُّؤال.
أمَّا كونه ضعيفاً، فالضَّعيف : إمَّا أن يكون في الباطن، أو في الظَّاهر، والضَّعْف في الباطن أقوى من ضعف الظَّاهر، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن، فقال :﴿ وَهَنَ العظم مِنِّي ﴾ وذلك لأنَّ العظم أصلبُ أعضاء البدن، وجعل كذلك لمنتفعين :
الأولى : ليكون أساساً وعمداً يعتمد عليها بقيَّة الأعضاء ؛ لأنَّها موضوعة على العظام، والحاملُ يجبُ أن يكون أقوى من المحمول عليه.
الثاني : أنَّها في بعض المواضع وقاية لغيرها.
واحتج أصحابُ القول الأوَّل أنَّه إذا. . . ١٦ أوّلاً، ثم ردَّ بأنها تكونُ كغيرها من الأعضاء كعظام الصَّلف وقحف الرأس، وما كان كذلك، فيجبُ أن يكون صلباً ؛ ليصبر على ملاقاة الآفاتِ، ومتى كان العظم صلبا، فمتى وصل الضعف إليه، كان ضعف ما عداه مع رخاوته أولى ؛ ولأنّ العظم حاملٌ لسائر الأعضاء، فوصولُ الضعف إلى الحامل موجبٌ لوصوله إلى المحمول، فلهذا خصَّ العظم بالوهْنِ من بين سائر الأعضاء.
وأما ضعف الظاهر، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً ؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته.
وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ، فوجه توسله به من وجهين :
الأول : أنَّه إذا قبله أوَّلاً، فلو ردَّه ثانياً، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه.
والثاني : أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء، فلو ردَّ بعد ذلك، لكان ذلك في غاية المشقَّة، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ، فكأنَّ زكريَّا -عليه السلام- قال : إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ ألم ]١٧ القلب، فقال :﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾.
تقولُ العربُ : سعد فلانٌ بحاجته : إذا ظَفِر بها، وشَقِي بها : إذا خَابَ، ولم [ يَبْلُغْهَا ]١٨.
وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين، فهو قوله :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي ﴾.

فصل في اختلافهم في المراد من قوله :﴿ خِفْتُ الموالي ﴾


قال ابن عباس والحسن : الموالي : الورثة١٩ وقد تقدم.
واختلفوا في خوفه من الموالي٢٠، فقيل : خافهم على إفساد الدِّين.
وقيل : خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ، وغيره، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه.
وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه، إذا لم يكن له ولدٌ، فسأل الله أن يهب له ولداً، يكونُ هو ذلك النبيِّ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك ؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.
وقوله :﴿ خِفْتُ ﴾ خرج على لفظ أصل الماضي، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً ؛ كقول الرجل : قد خفتُ أن يكون كذا، أي :" أنَا خَائِفٌ " لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه.
قوله :﴿ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً ﴾ أي : أنَّها عاقرٌ في الحال ؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [ أن تحبل في العادة ]٢١، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى، وأيضاً : فقد يوضعُ الماضي، أي : مكان المستقبل، وبالعكس ؛ قال الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين ﴾ [ المائدة : ١١٦ ].
وقوله :﴿ مِن وَرَآئِي ﴾ قال أبو عبيدة : من قُدَّامي، وبين يديَّ.
وقال آخرون : بعد موتي.
فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم ؟.
فالجوابُ٢٢ : أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد.
وقوله :﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ﴾ الأكثر على أنه طلب الولد، وقيل : بل طلب من يقُوم مقامه، ولداً كان، أو غيره.
والأول أقربُ ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران ؛ حكاية عنه ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [ آل عمران : ٣٨ ].
وأيضاً : فقوله ها هنا " يَرُثُنِي " يؤيِّده.
وأيضاً : يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء :﴿ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً ﴾ [ الأنبياء : ٨٩ ] فدلَّ على أنَّه سأل الولد ؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ، وأنَّه غيرُ منفردٍ عن الورثةِ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ.
واحتجَّ أصحابُ القول [ الثالث ]٢٣ بأنَّه لما بشِّر بالولد، استعظمه على سبيل التعجُّب ؛ وقال " أنَّى يكونُ لِي غلامٌ " ولو كان دعاؤُه لطلب الولد، م
١ ينظر: الإملاء ٢/١٠١..
٢ ينظر في قراءتها: المحتسب ٢/٣٧، والقرطبي ١١/٥٣ والبحر ٦/١٦٥، والدر المصون ٤/٤٩١..
٣ سقط من ب..
٤ البيت للفضل بن العباس، ينظر: المؤتلف والمختلف ٣٥، مجاز القرآن ١/١٢٥، الصاحبي ٣٤٢، الكامل ٤/٤٦، البحر ٦/١٦٤، القرطبي ١١/٥٣، الدر المصون ٤/٤٩١..
٥ البيت للبيد بن ربيعة. ينظر: ديوانه ١٨٤، البحر المحيط ٦/١٦٤، الدر المصون ٤/٤٩٢..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٨/٣٠٧) عن مجاهد وأبي صالح وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٦٧) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٨/٣٠٧) عن أبي صالح..
٨ ينظر: تفسير القرطبي (١١/٥٣)..
٩ في ب: لأنها..
١٠ ينظر: القرطبي ١١/٥٤، والبحر ٦/١٦٥، والدر المصون ٤/٤٩٢..
١١ ينظر: السبعة ٤١٧، والنشر ٢/٣١٧، والحجة ٤٣٧، والتيسير ١٤٨، والمحتسب ٢/٦٣٨ والحجة للقراء السبعة ٥/١٩١، وإعراب القراءات ٢/٩، ١٠، والإتحاف ٢/٢٣٣، والبحر ٦/١٦٥..
١٢ ينظر: البحر ٦/٦٥، والدر المصون ٤/٤٩٢، والكشاف ٣/٥..
١٣ ينظر: مصادر تخريج القراءة السابقة..
١٤ ينظر: البحر ٦/١٦٥، والدر المصون ٤/٤٩٢، وينظر: الكشاف ٣/٥ ونسبها إلى الجحدري..
١٥ ينظر: الدر المصون ٤/٤٩٢، والبحر ٦/١٦٥ وقد نسبها إلى الجحدري..
١٦ موضع النقط بياض في الأصل..
١٧ في أ: ضعف..
١٨ في ب: يذلها..
١٩ تقدم..
٢٠ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٥٥..
٢١ في أ: أن تكون وسودا..
٢٢ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٥٦..
٢٣ في ب: الثاني..
واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ، فقال ابنُ عبَّاس، والحسنُ، والضحاك : وراثةُ المالِ في الموضعين١.
وقال أبو صالح : وراثةُ النبوَّةِ٢.
وقال السديُّ، ومجاهدٌ، والشعبيُّ : يَرِثُنِي المال، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة٣.
وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس، والحسن، والضحاك.
وقال مجاهدٌ : يرِثُنِي العلم، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة٤. واعلم أن لفظ الإرث يستعملُ في جميعها : أمَّا في المال فلقوله تعالى :﴿ وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ﴾ [ الأحزاب : ٢٧ ] وأما في العلم، فلقوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب ﴾ [ غافر : ٥٣ ].
وقال -عليه الصلاة والسلام- :" العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ " ٥.
وقال تعالى :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [ النمل : ١٦ ] وهذا يحتملُ وراثة الملك، ووارثة النبوَّة، وقد يقال : أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً.

فصل في أولى ما تحمل عليه الآية


قال الزَّجاج : الأولى أن يحمل على ميراث غير المال ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- :" نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ -لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ " ٦ ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا -وهو نبيٌّ من الأنبياء- أن يرث بنُو عمِّه مالهُ.
والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين، وقتل من قُتل من الأنبياء، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته، ويرثُ نُبوَّته وعلمه ؛ لئلاَّ يضيع الدِّين.
قوله :﴿ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ ؛ الآلُ : خاصَّةُ الرجل الذي يئول أمرهم إليه، ثم قد يئوُل أمرهم إليه لقرابةِ المقربين تارةً ؛ وبالصحابة أخرى ؛ كآل فرعون، وللموافقة في الدِّين ؛ كآل النبيَّ -عليه الصلاة والسلام-.
وأكثر المفسِّرين على أنَّ يعقوب هنا : هو يعقوبُ بنُ إسحاق بن إبراهيم -عليه السلام- لأنَّ زوجة زكريَّا -عليه السلام- هي أختُ مريم، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب، وأمَّا زكريا -عليه السلام- فهو من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق، وكانت النبوة في سِبْط يعقوب ؛ لأنَّه هو إسرائيلُ -عليه السلام-.
وقال بعضُ المفسِّرين : ليس المرادُ من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم، بل يعقُوب بن ماثان، [ أخو عمران بن ماثان ]٧، وكان آلُ يعقوب أخوال يحيى بن زكريَّا، وهذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل٨.
وقال الكلبيُّ : كان بنُو ماثان رُءوس بني إسرائيل ومُلُوكهُم، وكان زكريَّا رئيس الأحبار يومئذٍ، فأراد أن يرثه حُبُورته، ويرث بنو ماثان ملكهم٩.

فصل في تفسير " رضيًّا "


اختلفوا في تفسير " رَضِيًّا " فقيل : برًّا تقيًّا مرضيًّا.
وقيل : مرضيًّا من الأنبياء، ولذلك استجاب الله له ؛ فوهب له يحيى سيِّداً، وحصُوراً، ونبيًّا من الصَّالحين، لم يعصِ، ولم يهم بمعصية.
وقيل :" رَضِيًّا " في أمَّته لا يتلقَّى بالتَّكذيب، ولا يواجهُ بالرَّدِّ.

فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال


احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال ؛ لأنَّ زكريَّا -عليه السلام- سأل الله تعالى أن يجعله رضيًّا ؛ فدلَّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى.
فإن قيل : المرادُ : أن يلطف به بضُرُوب الألطاف فيختار ما يصير به رضيًّا عنده، فنسب ذلك إلى الله تعالى.
فالجوابُ من وجهين :
الأول : لو حملناه على جعل الألطاف، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيًّا ؛ لكان ذلك مجازاً، وهو خلافُ الأصل.
الثاني : أنَّ جعل تلك الألطاف واجبةً على الله تعالى، لا يجوزُ الإخلال به، وما كان واجباً لا يجوزُ طلبهُ بالدُّعاء والتضرُّع.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٨/٣٠٨)..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٨/٣٠٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٦٧ وعزاه إلى ابن أبي حاتم..
٣ أخرجه الطبري (٨/٣٠٨) عن الحسن وأبي صالح..
٤ أخرجه الطبري (٨/٣٠٨)) عن مجاهد وينظر: تفسير الماوردي (٣/٣٥٦)..
٥ تقدم تخريجه..
٦ تقدم تخريجه..
٧ سقط من أ..
٨ ينظر: تفسير القرطبي (١١/٥٦) والماوردي (٣/٣٥٦)..
٩ ينظر: المصدر السابق..
تعالى أن يجعله رضيًّا؛ فدلَّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى.
فإن قيل: المرادُ: أن يلطف به بضُرُوب الألطاف فيختار ما يصير به رضيًّا عنده، فنسب ذلك إلى الله تعالى.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: لو حملناه على جعل الألطاف، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيًّا؛ لكان ذلك مجازاً، وهو خلافُ الأصل.
الثاني: أنَّ جعل تلك الألطاف واجبةً على الله تعالى، لا يجوزُ الإخلال به، وما كان واجباً لا يجوزُ طلبهُ بالدُّعاء والتضرُّع.
قوله
: ﴿يازكريآ
إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ﴾
.
اختلفُوا في المنادي، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى، ويسأله بقوله: ﴿رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي﴾، وبقوله: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ وبقوله: «فهب لي»، وبقوله بعده: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى، وإلاّ لفسد [المعنى و] النَّظْم، وقيل: هذا النداءُ من الملكِ؛ لقوله: ﴿فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى﴾ [آل عمران: ٣٩].
وأيضاً: فإنه لمَّا قال: ﴿عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: ٨، ٩].
وهذا لا يجوزُ أن يكونَ كلام الله؛ فزجب أن يكون كلام الملكِ.
ويمكنُ أن يجاب بأنه يحتملُ أنَّه يحصل النداءان: نداءُ الله تعالى، ونداءُ الملائكة.
ويمكنُ أن يكون قوله: ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ﴾ من كلام الله تعالى، كما سيأتي ببيانه - إن شاء الله تعالى -.
15

فصل


[في] الكلام اختصار، تقديره: استجاب الله دعاءهُ، فقال: ﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ﴾ : بولدٍ، ويقال: زكريَّا «بالمد والقصر»، ويقال: زكرَى أيضاً، نقله ابن كثيرٍ.
فإن قيل: كان دعاؤهُ بإذنٍ، فما معنى البشارة؟ وإن كان بغير إذنٍ؛ فلماذا أقدم عليه؟.
فالجوابُ: يجوز أن يسأل بغير إذن، ويحتمل أنَّه أذن له فيه، ولم يعلمْ وقته، فبُشِّر به.
قوله: «يَحْيَى» : فيه قولان:
أحدهما: أنه اسمٌ أعجميٌّ، لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهرُ، ومنعهُ من الصَّرف؛ للعلميَّة والعجمةِ، وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ، كما سمَّوا ب «يَعْمُرَ» و «يعيشَ» و «يَمُوتَ» وهو يموت بنُ المُزرَّع.
والجملة من قوله: «اسْمُهُ يَحْيى» في محلِّ جرِّ صفة ل «غُلام» وكذلك «لم نجعلْ» و «سَمِيًّا» كقوله: «رَضيًّا» إعراباً وتصريفاً، لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أن الاسم من السموِّ، ولو كان من الوسم، لقيل: وسيماً.

فصل


قال ابن عباسٍ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، وعكرمةُ، وقتادةُ: إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ، وعطاء: لم نجعل له شبهاً ومثلاً؛ لقوله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥] أي: مثلاً.
والمعنى: أنه لم يكن له مثلٌ؛ لأنَّهُ لم يعصِ، ولم يهُمَّ بمعصية قط؛ كأنَّه جواب لقوله ﴿واجعله رَبِّ رَضِيّاً﴾ فقيل له: إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ، لم نجْعل له شبيهاً في الدِّين، ومنْ كان كذلك، كان في غايةِ الرضا.
16
وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله؛ كآدَمَ، ونوحٍ، وإبراهيم، وموسى، [وعيسى] ؛ وذلك باطلٌ.
وقيل: لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً.
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحة، عن ابن عبَّاس: لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ ولداً. وقيل: لأنَّ كُلَّ الناس، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود، فكان ذلك من خواصِّه.
وقيل: لأنَّه ولدُ شيخٍ، وعجوزٍ عاقرٍ.

فصل في سبب تسميته بيحيى


واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى، فعن ابن عبَّاس: لأنَّ الله أحيا به عقر أمه، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم، وزوجته، قالت: ﴿ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى.
وعن قتادة: لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا، والعاصِيَ ميِّتاً؛ بقوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢].
وقال: ﴿إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
وقيل: لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة؛ حتى لم يعص، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا» وفي هذا نظر؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى النبياء كلهم والأولياء ب «يحيى».
وقال ابن القاسم بن حبيب: لأنه استشهد، والشهداء أحياء عند ربهم، قال تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٩] وفي ذلك نظر؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى.
وقال عمرو بنُ المقدسيِّ: أوحى الله تعالى، إلى إبراهيم - عليه السلام - أنه قُلْ
17
لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى، فقال: هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً، فوهبته حرفاً من اسمها، فصار يَحْيَى، وكان اسمُها يسارة، فصار اسمها سارة.
وقيل: لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ.
وقيل: إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به، فاستقبلتها مريم، وقد حملت بعيسى، فقالت لها أمُّ يحيى: يا مريمُ، أحاملٌ أنت؟ فقالت: لم تقولين؟ فقالت: أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي: مِنْ أين يكُون لي غرمٌ، والغلامُ: هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع، ويكونُ في التلميذ، يقال: غلامُ ثعلبٍ.
﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾. أي: وامرأتي عاقرٌ، ولم يقل: عاقرةٌ؛ لأنَّ من كان على «فاعل» من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ.
قال الخليلُ: هذه صفاتُ المذكَّر، وصف بها المؤنَّث، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث؛ حيث قال: رجُلٌ نكَحةٌ، ورُبَعَةٌ، وغلامٌ نُفَعَةٌ.
قوله: «عِتيًّا» : فيه أربعةُ أوجه:
أظهرها: أنه مفعولٌ به، أي: بلغتُ عتيًّا من الكبرِ، فعلى هذا «مِنَ الكِبرِ» يجوز أن يتعلَّق ب «بَلغْتُ» ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من «عِتيًّا» لأنه في الأصلِ صفةٌ له؛ كما قدرته لك.
الثاني: أن يكون مصدراً مؤكَّداً من معنى الفعل؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه.
الثالث: أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل «بَلَغْتُ» أي: عاتياً، ذا عتيٍّ.
الرابع: أنه تمييزٌ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة «مِنْ» مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ: بزنة فعولٍ، وهو مصدر «عَتَا، يَعْتُو» أي: يَبِسَ، وصلُبَ، قال الزمخشريُّ: «وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ، والعظام؛ كالعُودِ القاحل؛ يقال: عَتَا العُودُ وجسَا، أو بلغتُ من مدارج الكِبرِ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا» يريد بقوله: «أوْ بلغْتُ» أنه يجوزُ أن يكون مِنْ «عَتَا يَعْتُو» أي: فسد.
والأصلُ: «عُتُووٌ» بواوين، فاستثقل واوان بعد ضمتين، فكسرتِ التاءُ؛ تخفيفاً، فانقلبت الواو الأولى ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواوُ ياءً، وأدغمت فيها الأولى، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا، والجمع: نحو: «عِصِيّ» إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح؛ كقوله: ﴿وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً﴾ [
18
الفرقان: ٢١] وقد يعلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ، وقد يصحَّحُ؛ نحو: «إنَّكُمْ لتنظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ» وقالوا: فُتِيٌّ وفُتُوٌّ.
وقرأ الأخوان «عتيًّا» و ﴿صِلِيّاً﴾ [مريم: ٧٠] و «بِكِيّاً» [مريم: ٥٨] و ﴿جِثِيّاً﴾ [مريم: ٧٢] بكسر الفاء للاتباع، والباقون بالضمِّ على الأصلِ.
وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من «عتيًّا» و «صَليًّا» جعلهما مصدرين على زنة «فعيلٍ» كالعجيجِ والرَّحيلِ.
وقرأ عبد الله وأبي بم كعبٍ «عُسِيًّا» بضم العين، وكسر السينِ المهملة، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف، وتصريفها.
والعُتِيُّ والعُسِيُّ: واحدٌ.
يقال: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا، وعتيًّا، فهو عاتٍ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ، والعَاسي: هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس. وليل عاتٍ: طويل، وقيل: شديدُ الظلمة.

فصل


في هذه الآية سؤالان:
أحدهما: لم تعجب زكريَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقوله: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ مع أنَّه هو الذي طلب الغلام؟.
والسؤال الثاني: قوله: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك، وذلك كفر، وهو غير جائز على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟.
فالجوابُ عن الأول: أمَّا على قول من قال: ما طلب الولد، فالإشكال زائلٌ، وأمَّا على قول من قال: إنَّه طلب الولد، فالجوابُ أن المقصود من قوله: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين، ثم يرزقهما، أو يتركهما شيخين، ويرزقهما الولد، مع الشيخوخة؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾
[الأنبياء: ٨٩، ٩٠].
وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة.
وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر، فقال: إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ
19
الشيطان، فقال: إنَّ هذا الصَّوت ليس من الله تعالى، بل من الشيطانِ يسخر منك، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال: «ربّ، أني يكُون لي غلامٌ»، وغرض السدي من هذا أن زكريا - عليه السلام - لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى، لما جاز له أن يقول ذلك، فارتكب هذا.
وقال بعضُ المتكلِّمين: هذا باطلٌ باتِّفاق؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان، لجوَّزوا في سائره، ولزالتِ الثقة عنهم في الوحي، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا.
ويمكنُ أن يجاب عنه: بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور، فحصل الشَّك هنا فيه دون ما عداها.
والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه:
الأول: أن قوله: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى﴾.
ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له، بل يحتمل أن يكون زكريَّا - عيله الصلاة والسلام - راعى الأدب، ولم يقل: هذا الغلام، هل يكون ولداً لي، أم لا، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة؛ حتى أنَّ تلك البشارة، إنْ كانت بالولد، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام، ويجعل الكلام صريحاً، فلمَّا ذكر ذلك، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا، لا شك أنه شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه.
الثاني: أنه ما ذكر ذلك للشك، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير، فيقول: أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك! تعظيماً وتعجُّباً.
الثالث: أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت ﴿قَالَتْ ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [هود: ٧٢] فأزيل تعجبها بقوله: ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله﴾ [هود: ٧٣]، وإما طلباً لالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير.
قوله: «كَذِلكَ» : في محلِّ هذه الكاف وجهان:
أحدهما: أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ كذلك، ويكون الوقفُ على: «كَذَلِكَ»، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى.
20
والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، فقدَّرهُ أبو البقاء ب «أفْعَلُ» مثل ما طلبتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه، فجعل ناصبه مقدَّراً، وظاهره أنه مفعولٌ به.
وقال الزمخشريُّ: «أو نصب ب» قَالَ «و» ذَلِكَ «إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره» هُو عليَّ هيِّنٌ «، ونحوه:
﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ [الحجر: ٦٦]. وقرأ الحسن «وهُوَ عليَّ هيِّنٌ»
، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ.
وجهٌ آخرُ: وهو أن يُشارَ ب «ذَلِكَ» إلى ما تقدَّم من وعد الله، لا إلى قولِ زكريَّا، و «قَالَ» محذوفٌ في كلتا القراءتين. يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ - أي: قال: هُوَ عليَّ هيِّنٌ، قال: وهُوَ عليَّ هيِّنٌ، وإن شئت لمْ تنوهِ؛ لأنَّ الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك، ووعدهُ وقوله الحقُّ «.
وفي هذا الكلام قلقٌ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ»
قال «الثانية هي الناصبةُ للكاف.
وقوله:»
وقَالَ محذوفٌ «يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند» قال ربُّك «ويبتدأ بقوله:» هُوَ عليَّ هيِّنٌ «. وقوله:» وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ «، أي: لم تَنْوِ القول المقدَّر؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك.
وظاهرُ كلام الطبريُّ:»
ومعنى قوله «قال كذلكَ» أي: الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك، ولكن قال ربُّك، والمعنى عندي: قال الملكُ: كذلك، أي: على هذه الحال، قال ربُّك، هو عليَّ هيِّنٌ «انتهى.
وقرأ الحسن البصري»
عَلَيَّ «بكسر ياء المتكلم؛ كقوله [الطويل]
٣٥٨٢ - أ - عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٍ لِوَالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ
أنشدوه بالكسر. وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة»
بمُصْرِخيِّ « [إبراهيم: ٢٢].
قوله:»
وقَدْ خلقْتُكَ «هذه الجملة مستأنفةٌ، وقرأ الأخوان» خَلقْنَاكَ «أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ، والباقون» خلقْتُك «بتاء المتكلِّم.
وقوله:»
ولَمْ يَكُ شَيْئاً «جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نفي كونه شيئاً، أي: شيئاً يعتدُّ به؛ كقوله: [البسيط]
21
٣٥٨٢ - ب -.................................. إذا رَأى غيْر شيءٍ ظنَّهُ رَجُلا
وقالوا: عجبتُ من لا شيءٍ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ.

فصل


قيل: إطلاق لفظ» الهَيِّن «في حق الله تعالى مجاز؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء، ولكن المراد؛ أنه إذا أراد شيئاً كان.
ووجه الاستدلال بقوله تعالى ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ فنقول: إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار، وأما الآن، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات، وإذا أوجده عن العدم، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد.

فصل


الجمهورُ على أنَّ قوله:»
قال: كذلِكَ قال ربُّكَ «يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله ﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ قول الله تعالى، وقوله ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ قول الله تعالى، وهذا بعيدٌ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى، فكيف يصحُّ إدرتجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين، والأولى أن يقال: قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى؛ كما أن الملك العظيم، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً، فيقول العبد: من أين يحصلُ لي هذا، فيقول: إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد، فكذا ههنا.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾.
أي: اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي.

فصل


قال بعضُ المفسِّرين: طلب الآية لتحقيق البشارة، وهذا بعيدٌ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول، وقال آخرون: البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ، وهذا هو الحق.
22
واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً، ثم اختلفوا على قولين:
أحدهما: أنه اعتقل لسانه أصلاً.
والثاني: أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله، ومن قراءة التوراة، وهذا القولُ عندي أصحُّ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ، وقد يكون من فعل الله، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام، مع القوم، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ، علم بالضرورة؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ، بل هو لمحض فعل الله، فيتحقق كونه آية ومعجزة، ومما يقوي ذلك قوله تعالى: ﴿آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ خص ذلك بالتكلم مع الناس؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم؛ أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس.
قوله: «سَوِيًّا» : حالٌ من فاعل «تُكَلِّمَ»، وعنابن عباس: أنَّ «سويًّا» من صفةِ الليالي بمعنى «كاملات»، فيكونُ نصبه على النعت للظرف، والجمهورُ على نصب ميم «تُكَلِّم» جعلوها الناصبة. وابن أبي عبلة بالرفع، جعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف، و «لا» فاصلةٌ، وتقدَّم تحقيقه.
وقوله: «أنْ سَبَّحُوا» : يجوز في «أنْ» أن تكون مفسِّرة ل «أوْحَى»، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء، و «بُكْرَةً وعشِيًّا» ظرفا زمانٍ للتسبيح، وانصرفت «بُكْرَةً» ؛ لأنه لم يقصدْ بها العلميَّةُ، فلو قُصِدَ بها العلميةُ امتنعت من الصَّرف، وسواءٌ قصد بها وقتٌ بعينه؛ نحو: لأسيرنَّ الليلة إلى بكرة، أم لم يقصد؛ نحو: بكرةُ وقتُ نشاطٍ؛ لأنَّ علميَّتها جنسيَّةٌ؛ كأسامة، ومثلها في ذلك كله «غُدوة».
وقرأ طلحة «سَبِّحُوه» بهاءِ الكناية، وعنه أيضاً: «سَبِّحُنَّ» بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكِّداً بالثقيلة، وهو كقوله: ﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ [هود: ٨]، وقد تقدَّم تصريفه.
قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب﴾، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه؛ أن يفتح لهم الباب، فيدخلون ويصلون؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه، فانكروه، فقالوا: ما لك يا زكريا ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ﴾.
قال مجاهدٌ: كتب لهم الأرض، ﴿أَن سَبِّحُواْ﴾، أي صلوا لله، ﴿بُكْرَةً﴾، غدوة، ﴿وَعَشِيّاً﴾، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً، فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقتُ حمل امرأته، ومنع الكلام خرج إليهم، فأمرهم بالصلاة إشارة.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يايحيى﴾، قيل: فيه حذف معناه: وهبنا له يحيى، وقلنا له: يا يحيى، ﴿خُذِ الكتاب﴾، يعني التوراة، وقيل يحتمل أن يكون كتابتً خصَّ الله به يحيى،
23
كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك، والأولى أولى؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى، ولا معهود إلا التوراة.
وقوله ﴿يايحيى خُذِ الكتاب﴾ يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك، فحذف ذكره؛ لدلالة الكلام عليه.
قوله: «بقُوَّة» حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوَّة؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد، فيجب حمله على معنى يفيد المدح، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به، والإحجام عن المنهيِّ عنه.
قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾.
قال ابن عبَّاس: الحكم: النُّبوة «صَبِيًّا» ؛ وهوابن ثلاث سنين وقيل: الحكمُ فهم الكتاب، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ.
وقيل: هوالعَقْل، وهو قولُ مُعَمَّر.
وروي أنه قال: ما للَّعبِ خُلِقْنا.
والأوَّل أولى؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه، وأوحى إليه، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وهما صبيَّانِ، لا كما بعض موسى ومحمَّداً - عليهما الصلاة والسلام - وقد بلغا الأشُدَّ.
فإن قيل: كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا.
فالجوابُ: هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ، أو لا يمنع منه، فإن منع منه، فقد سدَّ باب النبوات؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ، وإن لم يمنع منه، فقد زال هذا الاستبعادُ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر، وانفلاق البحر، و «صبيًّا» : حال من «هاء» آتيناه.
قوله «وحَنَاناً» : يجوز أن يكون مفعولاً به، نسقاً على «الحُكْمَ» أي: وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً. والحنانُ: الرحمةُ واللّينُ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب: [المتقارب]
24
قال: وأكثر استعماله مُثَنَّى؛ كقولهم: حَنَانَيْكَ، وقوله:
٣٥٨٣ - ب -............................ حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ
[وجوَّز] فيه أبو البقاء أن يكون مصدراً، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء؛ نحو: سَقْياً ورَعْياً، فنصبه بإضمار فعلٍ [كأخواته]، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر؛ نحو: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: ١٨] و ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأعراف: ٤٦] في أحد الوجهين، وأنشد سيبويه: [الطويل]
٣٥٨٣ - أ - تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا
٣٥٨٤ - وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ
وقيل لله تعالى: حنَّّانٌ، كما يقال له «رَحِيمٌ» قال الزمخشريُّ: «وذلك على سبيل الاستعارةِ».

فصل في المراد ب «حَنَاناً»


اعلم أن الحنان: أصله من الحنينن، وهو الارتياحُ، والجزع للفراق كما يقال: حنينُ النَّاقة، وهو صوتها، إذا اشتاقت إلى ولدها، ذكره الخليل.
وفي الحديث: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد، فلمَّا اتَّخذ المنبر، وتحوَّل إليه، حنَّت تلك الخشبةُ، حتَّى سُمِعَ حنينُها، وهذا هو الأصل، ثُمَّ يقال: تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ، إذا [تعطَّف] عليه ورحمهُ.
واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان، فأجازه بعضهم، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم، ومنهم من أباه؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة.
قالوا: ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى.
وإذا عرف هذا، فنقولُ: في الحنانِ ها هنا وجهانِ:
الأول: أن نجعله صفةً لله تعالى.
والثاني: أن نجعله صفةُ ل «يحيى»، فإن جعلناه صفة لله تعالى، فيكونُ التقديرُ: وآتيناهُ الحكم حناناً، أي: رحمةً منَّا.
ثم هاهنا احتمالات:
25
الأول: أن يكون الحنانُ من الله تعالى ل «يحيى»، والمعنى: وآتيناه الحكم صبيًّا حناناً [منَّا] عليه، أي: رحمة عليه، «وزكَاةً» أي: وتزكيةً، وتشريفاً له.
والثاني: أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا، والمعنى: أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك «وزَكَاةً» أي: تزكيةُ له عن أن يصير مردود الدُّعاء.
الثالث: أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى - عليه السلام - والمعنى: آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده.
وإن جعلناه صفةً ليحيى - عليه السلام - ففيه وجوهٌ:
الأول: آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم، كما وصف محمَّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقوله:
﴿حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ
بالمؤمنين
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
[التوبة: ١٢٨] وقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وقوله: «وزَكَاةً» أي: شفقةً، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله﴾ [النور: ٢] وقال: ﴿قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: ١٢٣] وقال: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاائم﴾ [المائدة: ٥٤].
والمعنى: أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق، والطَّهارة [عن المعاصي]، فلم يَعْص، ولم يَهُمَّ بمعصية.
الثاني: قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ: ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا﴾ : تعظيماً من لدنا.
والمعنى: آتيناهُ الحكم صبيًّا؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ، ولا تعظيم أكثر من هذا؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ، وهو يعذب، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء، وهو يقول: أحدٌ، أحدٌ، فقال: والذي نفسي بيده، لئنْ قتلْتُمُوه، لاتَّخذنَّهُ حناناً، أي: مُعَظَّماً.
قوله: «مِنْ لَدُنَّا» صفةٌ له.
قوله: «وَزَكاةً». قال ابن عباس: هي الطَّاعة، والإخلاص.
وقال قتادةُ والضحاك: هو العملُ الصَّالح.
26
والمعنى: آتيناهُ رحمةً من عندنا، وتحنُّناً على العبادِ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم، وعملاً صالحاً في إخلاص.
وقال الكلبيُّ: صدقة تصدَّق الله بها على أبويه، وقيل: زكَّيناه بحُسْن الثَّناء، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان. وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ.
قوله: ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ مُخْلِصاً مُطِيعاً، والتَّقيُّ: هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [فيجتنبه]، ويتقي مخالفة أمر الله، فلا يهمله، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله، ولا همَّ بمعصيةٍ، وكان يحيى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كذلك.
فإن قيل: ما معنى قوله ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ وهذا حين ابتداء تكليفه.
فالجوابُ: إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه.
قوله: «وبَرًّا» : يجوز أن يكون نسقاً على خبر «كان» أي: كان تقيًّا برًّا. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدَّر، أي: وجعلناه برًّا، وقرأ الحسن «بِرًّا» بكسر الباء في الموضعين، وتأويله واضحٌ، كقوله: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧] وتقدَّم تأويله، و «بِوالِدَيْهَ» متعلقٌ ب «بَرًّا».
و «عَصِيًّا» يجوز أن يكون وزنه «فَعُولاً» والأصل: «عَصُويٌ» ففعل فيه ما يفعل في نظائره، و «فَعُولٌ» للمبالغة ك «صَبُور» ويجوز أن يكون وزنه فعيلاً، وهو للمبالغة أيضاً.

فصل في معنى الآية


قوله: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ﴾ أي: بارًّا لطيفاً بهما محسناً إليهما، «ولمْ يكُن جبَّاراً عصيًّا».
الجبَّار المتكبِّر.
وقال سفيان: الجبَّار الذي يضرب ويقتل على الغضب؛ لقوله تعالى: ﴿أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض﴾ [القصص: ١٩] ؛ ولقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٠] والجبَّارُ أيضاً: القهار، قال تعالى ﴿العزيز الجبار﴾ [الحشر: ٢٣].
والعَصِيُّ: العاصِي، والمراد: وصفة بالتواضع، ولين الجانب، وذلك من صفات المؤمنين؛ كقوله تعالى: ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٨] وقوله تعالى: {وَلَوْ
27
كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩].
وقيل: الجبَّار: هو الذي لا يرى لأحدٍ على نفسه حقًّا. وقيل غير [ذلك] وقوله: «عصيا» وهو أبلغُ من العاصي، كما أن العليمَ أبلغُ من العالم.
قوله: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾.
قال محمد بن جرير الطبريُّ ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ أي: أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين، كما تناولُ سائر بني آدم ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ أي: وأمانٌ عليه من عذاب القبر، ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ ي: ومن عذاب يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة: أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [الثلاثة يوم يُولَدُ]، فيرى نفسه خارجاً [مما كان فيه، ويوم يموتُ، فيرى يوماً، لم يكن عاينهُ، ويوم يبعثُ، فيرى نفسهُ] في محشرٍ عظيمٍ، لم ير مثله، فأكرم الله يحيى - عليه السلام - فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة.
قال عبدُ الله بن نفطويه: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ أي: أوَّل ما رأى الدُّنيا، ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ أي: أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار.

فصل في مزية السلام على يحيى


السلام يمكن أن يكون من الله، وأن يكون من الملائكة، وعلى التقديرين، فيدلُّ على شرفه وفضله؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله.
ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء؛ كقوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ﴾ [الصافات: ٧٩] ﴿سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: ١٠٩]. وقال ليحيى: ﴿يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾. وليس لسائر الأنبياء.
ورُوِي أن عيسى - عليه السلام - قال ليحيى - عليه السلام -: أنت أفضلُ منِّي؛ لأنَّ الله تعالى قال: سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على عيسى؛ لأن عيسى معصومٌ، لا يفعل إلا ما أمره الله به.
واعلم: أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيَّاً، عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّا فيجوزُ أن يكُون ثواباً؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم.
28

فصل في فوائد هذه القصة


في فوائد هذه القصَّة [أمورٌ] منها:
تعليمُ آداب الدعاء، وهو قوله: «نِدَاءً خفيًّا» يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى:
﴿ادعوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾
[الأعراف: ٥٥] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه.
ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها؛ كقوله: ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً﴾ ثم يذكر نعم الله تعالى؛ كقوله: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا، كقوله: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي﴾ وأن يكون الدُّعاء بلفظ: يا ربِّ.
كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا، ويحيى - عليهما السلام - أما زكريَّا؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة، وإجابة الله تعالى دعاءه، وأن الله تعالى بشَّره، وبشَّرته الملاشكةُ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح.
وأمَّا يحيى؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا، وقوله ﴿يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً، وتقيًّا، وبرًّا بوالديه، ولم يكن جبَّاراً، ولم يعص قطٌّ، ولا همَّ بمعصية، ثم سلَّم عليه يوم ولد، ويوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّا.
ومنها: كونُه تعالى قادراً على خلق الولد، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع.
ومنها: أن المعدوم ليس بشيءٍ؛ لقوله: ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾.
فإن قيل: المرادُ «ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً» كما في قوله: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان: ١].
فالجوابُ: أنَّ الإضمار خلافُ الأصل، وللخصم أن يقول: الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً، ونحنُ نقولُ به؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليس ثابتة في العدمِ، وإنَّما الثابتُ هو [أعيانُ] تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة، وهي ليست بالإنسان، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في «آل عمران»، وذكرها في هذه السورة، فلنعتبر حالها في الموضعين، فنقول: إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه، ولم يبين الوقت، وبينه في «آل عمران» بقوله
29
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ أي : مِنْ أين يكُون لي غلامٌ، والغلامُ : هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع، ويكونُ في التلميذ، يقال : غلامُ ثعلبٍ.
﴿ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً ﴾. أي : وامرأتي عاقرٌ، ولم يقل : عاقرةٌ ؛ لأنَّ من كان على " فاعل " من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ.
قال الخليلُ : هذه صفاتُ المذكَّر، وصف بها المؤنَّث، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث ؛ حيث قال : رجُلٌ نكَحةٌ، ورُبَعَةٌ، وغلامٌ نُفَعَةٌ.
قوله :﴿ عِتيًّا ﴾ : فيه أربعةُ أوجه :
أظهرها : أنه مفعولٌ به، أي : بلغتُ عتيًّا من الكبرِ، فعلى هذا " مِنَ الكِبرِ " يجوز أن يتعلَّق ب " بَلغْتُ " ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ ؛ على أنه حالٌ من " عِتيًّا " لأنه في الأصلِ صفةٌ له ؛ كما قدرته لك.
الثاني : أن يكون مصدراً مؤكَّداً من معنى الفعل ؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه.
الثالث : أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل " بَلَغْتُ " أي : عاتياً، ذا عتيٍّ.
الرابع : أنه تمييزٌ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة " مِنْ " مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء١، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ : بزنة فعولٍ، وهو مصدر " عَتَا، يَعْتُو " أي : يَبِسَ، وصلُبَ، قال الزمخشريُّ :" وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ، والعظام ؛ كالعُودِ القاحل ؛ يقال : عَتَا العُودُ وجسَا، أو بلغتُ من مدارج الكِبرِ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا " يريد بقوله :﴿ أوْ بلغْتُ ﴾ أنه يجوزُ أن يكون مِنْ " عَتَا يَعْتُو " أي : فسد.
والأصلُ :" عُتُووٌ " بواوين، فاستثقل واوان بعد ضمتين، فكسرتِ التاءُ ؛ تخفيفاً، فانقلبت الواو الأولى ياءً ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواوُ ياءً، وأدغمت فيها الأولى، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا، والجمع : نحو :" عِصِيّ " إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح ؛ كقوله :﴿ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢١ ] وقد يعلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ، وقد يصحَّحُ ؛ نحو :" إنَّكُمْ لتنظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ " وقالوا : فُتِيٌّ وفُتُوٌّ.
وقرأ الأخوان٢ " عتيًّا " و ﴿ صِلِيّاً ﴾ [ مريم : ٧٠ ] و " بِكِيّاً " [ مريم : ٥٨ ] و ﴿ جِثِيّاً ﴾ [ مريم : ٧٢ ] بكسر الفاء للاتباع، والباقون بالضمِّ على الأصلِ.
وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من " عتيًّا " و " صَليًّا " جعلهما مصدرين على زنة " فعيلٍ " كالعجيجِ والرَّحيلِ.
وقرأ عبد الله وأبي بم كعبٍ " عُسِيًّا " بضم العين، وكسر السينِ المهملة، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف، وتصريفها.
والعُتِيُّ والعُسِيُّ : واحدٌ.
يقال : عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا، وعتيًّا، فهو عاتٍ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ، والعَاسي : هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس. وليل عاتٍ : طويل، وقيل : شديدُ الظلمة.

فصل


في هذه الآية سؤالان٣ :
أحدهما : لم تعجب زكريَّا -عليه الصلاة والسلام- بقوله :﴿ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ مع أنَّه هو الذي طلب الغلام ؟.
والسؤال الثاني : قوله :﴿ أنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك، وذلك كفر، وهو غير جائز على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ؟.
فالجوابُ عن الأول : أمَّا على قول من قال : ما طلب الولد، فالإشكال زائلٌ، وأمَّا على قول من قال : إنَّه طلب الولد، فالجوابُ أن المقصود من قوله :﴿ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين، ثم يرزقهما، أو يتركهما شيخين، ويرزقهما الولد، مع الشيخوخة ؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [ الأنبياء : ٨٩، ٩٠ ].
وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة.
وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر، فقال : إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ الشيطان، فقال : إنَّ هذا الصَّوت ليس٤ من الله تعالى، بل من الشيطانِ يسخر منك، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال :" ربّ، أنّى يكُون لي غلامٌ "، وغرض السدي من هذا أن زكريا -عليه السلام- لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى، لما جاز له أن يقول ذلك، فارتكب هذا.
وقال بعضُ المتكلِّمين : هذا باطلٌ باتِّفاق ؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان، لجوَّزوا في سائره، ولزالتِ الثقة٥ عنهم في الوحي، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا.
ويمكنُ أن يجاب عنه : بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور٦، فحصل الشَّك هنا فيه دون ما عداها.
والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه :
الأول : أن قوله :﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى ﴾.
ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له، بل يحتمل أن يكون زكريَّا -عليه الصلاة والسلام- راعى الأدب، ولم يقل : هذا الغلام، هل يكون ولداً لي، أم لا، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة ؛ حتى أنَّ تلك البشارة، إنْ كانت بالولد، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام، ويجعل الكلام صريحاً، فلمَّا ذكر ذلك، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا، لا شك أنه شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه.
الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير، فيقول : أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك ! تعظيماً وتعجُّباً.
الثالث : أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه ؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام ؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت ﴿ قَالَتْ يا ويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ [ هود : ٧٢ ] فأزيل تعجبها بقوله :﴿ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ هود : ٧٣ ]، وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير.
١ ينظر: الإملاء ٢/١١١..
٢ ينظر في قراءتها: السبعة ٤٠٧، والنشر ٢/٣١٧، والحجة ٤٣٩، والإتحاف ٢/٢٣٤، والمحتسب ٢/٣٩، والحجة للقراء السبعة ٥/١٩١، ١٩٢، وإعراب القراءات ٢/١١..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٦٠..
٤ في أ: السورة ليس..
٥ في أ: المشقة..
٦ في أ: السورة..
قوله :﴿ كَذِلكَ ﴾ : في محلِّ هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ، أي : الأمرُ كذلك، ويكون الوقفُ على :" كَذَلِكَ "، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى.
والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ، فقدَّرهُ أبو البقاء١ ب " أفْعَلُ " مثل ما طلبتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه، فجعل ناصبه مقدَّراً، وظاهره أنه مفعولٌ به.
وقال الزمخشريُّ٢ :" أو نصب ب " قَالَ " و " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره " هُو عليَّ هيِّنٌ "، ونحوه :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ﴾ [ الحجر : ٦٦ ]. وقرأ٣ الحسن " وهُوَ عليَّ هيِّنٌ "، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول، أي : الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ.
وجهٌ آخرُ : وهو أن يُشارَ ب " ذَلِكَ " إلى ما تقدَّم من وعد الله، لا إلى قولِ زكريَّا، و " قَالَ " محذوفٌ في كلتا القراءتين. يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ -أي : قال : هُوَ عليَّ هيِّنٌ، قال : وهُوَ عليَّ هيِّنٌ، وإن شئت لمْ تنوهِ ؛ لأنَّ الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك، ووعدهُ وقوله الحقُّ.
وفي هذا الكلام قلقٌ ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ " قال " الثانية هي الناصبةُ للكاف.
وقوله :﴿ وقَالَ محذوفٌ ﴾ يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند " قال ربُّك " ويبتدأ بقوله :﴿ هُوَ عليَّ هيِّنٌ ﴾. وقوله :﴿ وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ ﴾، أي : لم تَنْوِ القول المقدَّر ؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك.
وظاهرُ كلام بعضهم : أنّ " قال " الأولى مسندة إلى ضمير الملك، وقد صرّح بذلك ابن جرير، وتبعه ابن عطية.
قال الطبريُّ :" ومعنى قوله ﴿ قال كذلكَ ﴾ أي : الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك، ولكن قال ربُّك، والمعنى عندي : قال الملكُ : كذلك، أي : على هذه الحال، قال ربُّك، هو عليَّ هيِّنٌ " انتهى.
وقرأ الحسن البصري٤ " عَلَيَّ " بكسر ياء المتكلم ؛ كقوله [ الطويل ]
٣٥٨٢ أ- عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٍ لِوَالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ٥
أنشدوه بالكسر. وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة " بمُصْرِخيِّ " [ إبراهيم : ٢٢ ].
قوله :﴿ وقَدْ خلقْتُكَ ﴾ هذه الجملة مستأنفةٌ، وقرأ الأخوان٦ " خَلقْنَاكَ " أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ، والباقون " خلقْتُك " بتاء المتكلِّم.
وقوله :﴿ ولَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾ جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نفي كونه شيئاً، أي : شيئاً يعتدُّ به ؛ كقوله :[ البسيط ]
٣٥٨٢ ب-. . . إذا رَأى غيْر شيءٍ ظنَّهُ رَجُلا٧
وقالوا : عجبتُ من لا شيءٍ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ.

فصل


قيل : إطلاق لفظ " الهَيِّن " في حق الله تعالى مجاز ؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء، ولكن المراد ؛ أنه إذا أراد شيئاً كان.
ووجه الاستدلال بقوله تعالى ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾ فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار، وأما الآن، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات، والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معا أولى أن يكون قادرا على تبديل الصفات، وإذا أوجده عن عدم، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد.

فصل


الجمهورُ على أنَّ قوله :﴿ قال : كذلِكَ قال ربُّكَ ﴾ يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله ﴿ يا زكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ ﴾ قول الله تعالى، وقوله ﴿ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ قول الله تعالى، وهذا بعيدٌ ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى، فكيف يصحُّ إدراجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين، والأولى أن يقال : قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى ؛ كما أن الملك العظيم، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً، فيقول العبد : من أين يحصلُ لي هذا، فيقول : إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك ؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد، فكذا ههنا.
١ ينظر: الإملاء ٢/١١١..
٢ الكشاف ٢/٥٠٢..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٥٠٢..
٤ الإتحاف ٢/٢٣٤..
٥ تقدم..
٦ السبعة ٤٠٨ النشر ٢/٣١٧ التسيير ١٤٨..
٧ عجز بيت للمتنبي وصدره:
وضاقـت الأرض حتى كان هاربهم
ينظر: ديوانه (١/٦٠)، وروح المعاني ١٦/٧٠، والكشاف ٢/٥٠٤، والدر المصون ٤/٤٩٤..

قوله :﴿ قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾.
أي : اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي.

فصل


قال بعضُ المفسِّرين : طلب الآية لتحقيق البشارة، وهذا بعيدٌ ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول، وقال آخرون : البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ، وهذا هو الحق.
واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً، ثم اختلفوا على قولين :
أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلاً.
والثاني : أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله، ومن قراءة التوراة، وهذا القولُ عندي أصحُّ ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ، وقد يكون من فعل الله، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام، مع القوم، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ، علم بالضرورة ؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ، بل هو لمحض فعل الله، فيتحقق كونه آية ومعجزة، ومما يقوي ذلك قوله تعالى :﴿ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾ خص ذلك بالتكلم مع الناس ؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم ؛ أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس.
قوله :﴿ سَوِيًّا ﴾ : حالٌ من فاعل " تُكَلِّمَ "، وعن ابن عباس : أنَّ " سويًّا " من صفةِ الليالي بمعنى " كاملات "، فيكونُ نصبه على النعت للظرف، والجمهورُ على نصب ميم " تُكَلِّم " جعلوها الناصبة. وابن أبي عبلة بالرفع، جعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف، و " لا " فاصلةٌ، وتقدَّم تحقيقه.
وقوله :﴿ أنْ سَبَّحُوا ﴾ : يجوز في " أنْ " أن تكون مفسِّرة ل " أوْحَى "، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء، و " بُكْرَةً وعشِيًّا " ظرفا زمانٍ للتسبيح، وانصرفت " بُكْرَةً " ؛ لأنه لم يقصدْ بها العلميَّةُ، فلو قُصِدَ بها العلميةُ امتنعت من الصَّرف، وسواءٌ قصد بها وقتٌ بعينه ؛ نحو : لأسيرنَّ الليلة إلى بكرة، أم لم يقصد ؛ نحو : بكرةُ وقتُ نشاطٍ ؛ لأنَّ علميَّتها جنسيَّةٌ ؛ كأسامة، ومثلها في ذلك كله " غُدوة ".
وقرأ طلحة " سَبِّحُوه " بهاءِ الكناية، وعنه أيضاً :" سَبِّحُنَّ " بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكِّداً بالثقيلة، وهو كقوله :﴿ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ [ هود : ٨ ]، وقد تقدَّم تصريفه.
قوله تعالى :﴿ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب ﴾، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه ؛ أن يفتح لهم الباب، فيدخلون ويصلون ؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه، فأنكروه، فقالوا : ما لك يا زكريا ﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ ﴾.
قال مجاهدٌ : كتب لهم الأرض، ﴿ أَن سَبِّحُواْ ﴾، أي صلوا لله، ﴿ بُكْرَةً ﴾، غدوة، ﴿ وَعَشِيّاً ﴾، معنا ه أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً، فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقتُ حمل امرأته، ومنع الكلام خرج إليهم، فأمرهم بالصلاة إشارة.
قوله عز وجل :﴿ يا يحيى ﴾، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى، وقلنا له : يا يحيى، ﴿ خُذِ الكتاب ﴾، يعني التوراة، وقيل يحتمل أن يكون كتابا خصَّ الله به يحيى، كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك، والأولى أولى ؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى، ولا معهود إلا التوراة.
وقوله ﴿ يا يحيى خُذِ الكتاب ﴾ يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك، فحذف ذكره ؛ لدلالة الكلام عليه.
قوله :﴿ بقُوَّة ﴾ حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي : ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوَّة ؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد، فيجب حمله على معنى يفيد المدح، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به، والإحجام عن المنهيِّ عنه١.
قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً ﴾.
قال ابن عبَّاس : الحكم : النُّبوة٢ " صَبِيًّا " ؛ وهو ابن ثلاث سنين وقيل : الحكمُ فهم الكتاب، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ.
وقيل : هو العَقْل، وهو قولُ مُعَمَّر.
وروي أنه قال : ما للَّعبِ خُلِقْنا٣.
والأوَّل أولى ؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه، وأوحى إليه، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى -عليهما الصلاة والسلام- وهما صبيَّانِ، لا كما بعث موسى ومحمَّداً-عليهما الصلاة والسلام- وقد بلغا الأشُدَّ.
فإن قيل : كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا.
فالجوابُ : هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ، أو لا يمنع منه، فإن منع منه، فقد سدَّ باب النبوات ؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ، وإن لم يمنع منه، فقد زال هذا الاستبعادُ ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر، وانفلاق البحر، و " صبيًّا " : حال من " هاء " آتيناه.
١ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٦٣..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٧٠) عن قتادة وعزاه إلى أحمد في "الزهد" وابن أبي حاتم..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٧٠) عن معمر بن راشد وعزاه إلى أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي وابن عساكر وعن وقتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وعن ابن عباس مرفوعا وعزاه إلى الحاكم في "تاريخه" وعن معاذ مرفوعا وعزاه إلى ابن مردويه..
قوله ﴿ وحَنَاناً ﴾ : يجوز أن يكون مفعولاً به، نسقاً على " الحُكْمَ " أي : وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً. والحنانُ : الرحمةُ واللّينُ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب :[ المتقارب ]
٣٥٨٣ أ- تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا١
قال : وأكثر استعماله مُثَنَّى ؛ كقولهم : حَنَانَيْكَ، وقوله :
٣٥٨٣ ب-. . . حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ٢
[ وجوَّز ] فيه أبو البقاء٣ أن يكون مصدراً، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء ؛ نحو : سَقْياً ورَعْياً، فنصبه بإضمار فعلٍ [ كأخواته ]، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر ؛ نحو :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] و ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [ الأعراف : ٤٦ ] في أحد الوجهين، وأنشد سيبويه٤ :[ الطويل ]
وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ٥
وقيل لله تعالى : حنَّّانٌ، كما يقال له " رَحِيمٌ " قال الزمخشريُّ :" وذلك على سبيل الاستعارةِ ".

فصل في المراد ب " حَنَاناً "


اعلم أن الحنان : أصله من الحنين، وهو الارتياحُ، والجزع للفراق كما يقال : حنينُ النَّاقة، وهو صوتها، إذا اشتاقت إلى ولدها، ذكره الخليل.
وفي الحديث : أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد، فلمَّا اتَّخذ المنبر، وتحوَّل إليه، حنَّت تلك الخشبةُ، حتَّى سُمِعَ حنينُها٦، وهذا هو الأصل، ثُمَّ يقال : تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ، إذا [ تعطَّف ]٧ عليه ورحمهُ.
واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان، فأجازه بعضهم، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم، ومنهم من أباه ؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة.
قالوا : ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى.
وإذا عرف هذا، فنقولُ : في الحنانِ ها هنا وجهانِ :
الأول : أن نجعله صفةً لله تعالى.
والثاني : أن نجعله صفةُ ل " يحيى "، فإن جعلناه صفة لله تعالى، فيكونُ التقديرُ : وآتيناهُ الحكم حناناً، أي : رحمةً منَّا.
ثم هاهنا احتمالات :
الأول : أن يكون الحنانُ من الله تعالى ل " يحيى "، والمعنى : وآتيناه الحكم صبيًّا حناناً [ منَّا ]٨ عليه، أي : رحمة عليه، " وزكَاةً " أي : وتزكيةً، وتشريفاً له.
والثاني : أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا، والمعنى : أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك " وزَكَاةً " أي : تزكيةُ له عن أن يصير مردود الدُّعاء.
الثالث : أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى -عليه السلام- والمعنى : آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته ؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده.
وإن جعلناه صفةً ليحيى -عليه السلام- ففيه وجوهٌ :
الأول : آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم، كما وصف محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله :﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] وقوله :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وقوله :﴿ وزَكَاةً ﴾ أي : شفقةً، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب ؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب ؛ ألا ترى إلى قوله :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ [ النور : ٢ ] وقال :﴿ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] وقال :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ﴾ [ المائدة : ٥٤ ].
والمعنى : أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق، والطَّهارة [ عن المعاصي ]٩، فلم يَعْص، ولم يَهُمَّ بمعصية.
الثاني : قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ :﴿ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا ﴾ : تعظيماً من لدنا١٠.
والمعنى : آتيناهُ الحكم صبيًّا ؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ، ولا تعظيم أكثر من هذا ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ، وهو يعذب، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء، وهو يقول : أحدٌ، أحدٌ، فقال : والذي نفسي بيده، لئنْ قتلْتُمُوه، لاتَّخذنَّهُ حناناً، أي : مُعَظَّماً.
قوله :﴿ مِنْ لَدُنَّا ﴾ صفةٌ له.
قوله :﴿ وَزَكاةً ﴾. قال ابن عباس : هي الطَّاعة، والإخلاص١١.
وقال قتادةُ والضحاك : هو العملُ الصَّالح١٢.
والمعنى : آتيناهُ رحمةً من عندنا، وتحنُّناً على العبادِ ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم، وعملاً صالحاً في إخلاص.
وقال الكلبيُّ : صدقة١٣ تصدَّق الله بها على أبويه، وقيل : زكَّيناه بحُسْن الثَّناء، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان. وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ.
قوله :﴿ وَكَانَ تَقِيّاً ﴾ مُخْلِصاً مُطِيعاً، والتَّقيُّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [ فيجتنبه ]١٤، ويتقي مخالفة أمر الله، فلا يهمله، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله، ولا همَّ بمعصيةٍ، وكان يحيى -عليه الصلاة والسلام- كذلك.
فإن قيل : ما معنى قوله ﴿ وَكَانَ تَقِيّاً ﴾ وهذا حين ابتداء تكليفه.
فالجوابُ : إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه.
١ البيت للحطيئة. ينظر: ديوانه ٨٢، الطبري ١٦/٤٤، مجاز القرآن ٢/٣، البحر ٦/١٦٨، القرطبي ١١/٦٠، الكامل ٢/١٩٩، اللسان "حنن"، الدر المصون ٤/٤٩٥..
٢ تقدم..
٣ ينظر: الإملاء ٢/١١١..
٤ ينظر: الكتاب ١/١٦١..
٥ البيت لمنذر بن درهم الكلبي ينظر: الكتاب ١/٣٢٠، والمقتضب ٣/٢٢٥، شرح المفصل لابن يعيش ١/١١٨، الصاحبي ٤٢٨، الهمع ١/١٨٩، التصريح ١/١٧٧، الإنصاف ٣/٦، الدرر ١/٧١٦٣ التهذيب واللسان "حنن"، الدر المصون ٤/٤٩٥..
٦ أخرجه البخاري (٦/ ٦٩٦) كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام حديث (٣٥٨٣) من حديث ابن عمر..
٧ في ب: عطف..
٨ في ب: من لدنا..
٩ سقط من ب..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٨/٣١٦) عن عطاء..
١١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/١٩٠)..
١٢ أخرجه الطبري (٨/٣١٧) عن قتادة وابن جريج والضحاك..
١٣ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٩٠..
١٤ سقط من: أ..
قوله :﴿ وبَرًّا ﴾ : يجوز أن يكون نسقاً على خبر " كان " أي : كان تقيًّا برًّا. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدَّر، أي : وجعلناه برًّا، وقرأ١ الحسن " بِرًّا " بكسر الباء في الموضعين، وتأويله واضحٌ، كقوله :﴿ ولكن البر مَنْ آمَنَ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] وتقدَّم تأويله، و " بِوالِدَيْهَ " متعلقٌ ب " بَرًّا ".
و " عَصِيًّا " يجوز أن يكون وزنه " فَعُولاً " والأصل :" عَصُويٌ " ففعل فيه ما يفعل في نظائره، و " فَعُولٌ " للمبالغة ك " صَبُور " ويجوز أن يكون وزنه فعيلاً، وهو للمبالغة أيضاً.

فصل في معنى الآية


قوله :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾ أي : بارًّا لطيفاً بهما محسناً إليهما، " ولمْ يكُن جبَّاراً عصيًّا ".
الجبَّار المتكبِّر.
وقال سفيان : الجبَّار الذي يضرب ويقتل على الغضب ؛ لقوله تعالى :﴿ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض ﴾٢ [ القصص : ١٩ ] ؛ ولقوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٣٠ ] والجبَّارُ أيضاً : القهار، قال تعالى ﴿ العزيز الجبار ﴾ [ الحشر : ٢٣ ].
والعَصِيُّ : العاصِي، والمراد : وصفة بالتواضع، ولين الجانب، وذلك من صفات المؤمنين ؛ كقوله تعالى :﴿ واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٨٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ].
وقيل : الجبَّار : هو الذي لا يرى لأحدٍ على نفسه حقًّا. وقيل غير [ ذلك ] وقوله :﴿ عصيا ﴾ وهو أبلغُ من العاصي، كما أن العليمَ أبلغُ من العالم.
١ ينظر: الإتحاف ٢/٢٣٤، والبحر ٦/١٧٧، والدر المصون ٤/٤٩٥..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢١/١٦٥..
قوله :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ﴾.
قال محمد بن جرير الطبريُّ١ ﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ﴾ أي : أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين، كما تناولُ سائر بني آدم ﴿ وَيَوْمَ يَمُوتُ ﴾ أي : وأمانٌ عليه من عذاب القبر، ﴿ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ﴾ أي : ومن عذاب يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة٢ : أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [ الثلاثة يوم يُولَدُ ]٣، فيرى نفسه خارجاً [ مما كان فيه، ويوم يموتُ، فيرى يوماً، لم يكن عاينهُ، ويوم يبعثُ، فيرى نفسهُ ]٤ في محشرٍ عظيمٍ، لم ير مثله، فأكرم الله يحيى -عليه السلام- فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة.
قال عبدُ الله بن نفطويه :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ﴾ أي : أوَّل ما رأى الدُّنيا، ﴿ وَيَوْمَ يَمُوتُ ﴾ أي : أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة ﴿ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ﴾ أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار.

فصل في مزية السلام على يحيى


السلام يمكن أن يكون من الله، وأن يكون من الملائكة، وعلى التقديرين، فيدلُّ على شرفه وفضله ؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله.
ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء ؛ كقوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ على نُوحٍ ﴾ [ الصافات : ٧٩ ] ﴿ سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الصافات : ١٠٩ ]. وقال ليحيى :﴿ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ﴾. وليس لسائر الأنبياء.
ورُوِي أن عيسى -عليه السلام- قال ليحيى -عليه السلام- : أنت أفضلُ منِّي ؛ لأنَّ الله تعالى قال : سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على نفسي.
وأجاب الحسن عن هذا، فقال : هذا يجري مجرى سلام الله على عيسى ؛ لأن عيسى معصومٌ، لا يفعل إلا ما أمره الله به.
واعلم : أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى ؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيَّاً، فيجوزُ أن يكُون ثواباً ؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم٥.

فصل في فوائد هذه القصة


في فوائد هذه القصَّة [ أمورٌ ]٦ منها :
تعليمُ آداب الدعاء، وهو قوله :﴿ نِدَاءً خفيًّا ﴾ يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى :
﴿ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه.
ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها ؛ كقوله :﴿ وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ ثم يذكر نعم الله تعالى ؛ كقوله :﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا، كقوله :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي ﴾ وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ.
كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا، ويحيى -عليهما السلام- أما زكريَّا ؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة، وإجابة الله تعالى دعاءه، وأن الله تعالى بشَّره، وبشَّرته الملائكةُ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح.
وأمَّا يحيى ؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا، وقوله ﴿ يا يحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً ﴾، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً، وتقيًّا، وبرًّا بوالديه، ولم يكن جبَّاراً، ولم يعص قطٌّ، ولا همَّ بمعصية، ثم سلَّم عليه يوم ولد، ويوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّا.
ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع.
ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ ؛ لقوله :﴿ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾.
فإن قيل : المرادُ " ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً " كما في قوله :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ [ الإنسان : ١ ].
فالجوابُ٧ : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل، وللخصم أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً، ونحنُ نقولُ به ؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليست ثابتة في العدمِ٨، وإنَّما الثابتُ هو [ أعيانُ ]٩ تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة، وهي ليست بالإنسان، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في " آل عمران "، وذكرها في هذه السورة، فلنعتبر حالها في الموضعين، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه، ولم يبين الوقت، وبينه في " آل عمران " بقوله تعالى :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾ [ آل عمران : ٣٨ ] إلى أن قال :" هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء "، والمعنى أن زكريا -عليه السلام- لما رأى خرق العادة في حق مريم، طمع في حق نفسه، فدعا ربه، وصرح في " آل عمران " بأن المنادي هو الملائكة، بقوله :﴿ فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ]، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله :﴿ يا زكريا إنا نبشرك ﴾ هو الله تعالى، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما.
وقال في آل عمران ﴿ أنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ] فذكر أولاً كبر نفسه، ثم عقر المرأة وهاهنا قال :﴿ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً ﴾ وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب.
وقال في " آل عمران " :﴿ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ] وقال هاهنا :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً ﴾ وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته.
وقال في آل عمران :﴿ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر ﴾ [ آل عمران : ٤١ ].
وقال هاهنا ﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾.
وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ. والله أعلم.
١ ينظر: تفسير الطبري (٨/٣١٨)..
٢ ذكره الرازي (٢١/١٦٥)..
٣ سقط في ب..
٤ سقط في ب..
٥ ذكره الرازي (٢١/١٦٥)..
٦ سقط من: ب..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٦٦..
٨ في ب: المعدوم..
٩ في ب: الاعتبار..
تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ [آل عمران: ٧٨] إلى أن قال: «هنالك دعا زكريا ربه قال: ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء»، والمعنى أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خرق العادة في حق مريم، دمع في حق نفسه، فدعا ربه، وصرح في «آل عمران» بأن المنادي هوالملائكة، بقوله: ﴿فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب﴾ [آل عمران: ٣٩]، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله: «يا زكريا إنما نبشرك» هو الله تعالى، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما.
وقال في آل عمران ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] فذكر أولاً كبر نفسه، ثم عقر المرأة وهاهنا قال: ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً﴾ وجوابه: أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب.
وقال في «آل عمران» :﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر﴾ [آل عمران: ٤٠] وقال هاهنا: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً﴾ وجوابه: أن ما بلغك فقد بلغته.
وقال في آل عمران: ﴿آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر﴾ [آل عمران: ٤١].
وقال هاهنا ﴿ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾.
وجوابه: أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ. والله أعلم.
قوله
تعالى
: ﴿واذكر
فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾
القصة.
30
اعلم أن الله تعالى إنَّما قدَّم قصَّة يحيى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على قصَّة عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنَّ الولد أعني: لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقربُ إلى مناهج العاداتِ من خلق الولد من الأب ألبتَّة، وأحسنُ طُرُق التعليم والتفهيم الترقِّي من الأقرب فالأقرب، وإلى الأصعب فالأصعب.
قوله: ﴿إِذِ انتبذت﴾ : في «إذ» أوجهٌ:
أحدها: أنَّها منصوبةٌ ب «اذْكُر» على أنَّها خرجت على الظرفية؛ إن يستحيلُ أن تكون باقيةً على [مُضِيِّها]، والعاملُ فيها ما هو نصٌّ في الاستقبال.
الثاني: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم، تقديره: واذكر خبر مريم، أو نبأها؛ إذا انتبذت، ف «إذْ» منصوبٌ بذلك الخبر، أو النبأ.
والثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: وبيَّن، أي: الله تعالى، فهو كلامٌ آخرُ، وهذا كما قال سيبويه في قوله: ﴿انتهوا خَيْراً لَّكُمْ﴾ [النساء: ١٧١] وهو في الظرف أقوى، وإن كان مفعولاً به.
والرابع: أن يكون منصوباً من «مريمَ» بدلُ اشتمال، قال الزمخشريُّ: «لأنَّ الأحيان مشتملةٌ على ما فيها، وفيه: أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا؛ لوقوع هذه القصَّةِ العجيبةِ فيه».
قال أبو البقاء - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجه -: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الزمان إذا لم يكن حالاً من الجثَّة، ولا خبراً عنها، ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها» انتهى. وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يلزمُ من عدم صحَّةِ ما ذكر عدمُ صحَّة البدلية؛ ألا ترى نحو «» سُلِبَ زيدٌ ثوبُهُ «لا يصحُّ جعله عن» زَيْد «ولا حالاً منه، ولا وصفاً له، ومع ذلك، فهو بدل اشتمالٍ.
السادس: أنَّ»
إذ «بمعنى» أن «المصدرية؛ كقولك:» لا أكْرِمُكَ إذ لم تُكْرِمْنِي «أي: لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يحسنُ بدلُ الاشتمال، أي: واذكُرْ مريم انتباذهَا، ذكره أبو البقاء.
وهو في الضعف غايةٌ. و»
مكاناً «: يجوزُ ان يكون ظرفاً، وهو الظاهرُ وأن يكون مفعولاً به على معنى: إذ أتتْ مكاناً. قوله: ﴿انتبذت﴾ الانتباذُ: افتعالٌ من النَّبْذ، وهو الطَّرْح، والإلقاء، ونُبْذَة: بضمِّ النون، وفتحها أي: ناحيةٌ، وهذا إذا جلس قريباً منك؛
31
حتى لو نبذتَ إليه شيئاً، وصل إليه، ونبذتُ الشيء: رَمَيْتُهُ، ومنه النَّبِيذُ؛ لأنَّه يطرح في الإنَاءِ.
ومنه المَنْبُوذ، وهو أصله، فصرف إلى» فعيل «، ومنه قيل للَّقيطِ: منبوذٌ؛ لأنه رُمِيَ به.
ومنه النهيُ عن المُنَابذةِ في البيع، وهو أن يقول: إذا نبذتُ إيلك الثَّوب، أو الحَصَاة، فقد وجب البَيْعُ فقوله: ﴿انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ : تباعدتْ واعتزلتْ عن أهلها مكاناً في الدار، ممَّا يلي المشرق، ثم إنَّها مع ذلك اتَّخذت من دُون أهلها حِجاباً.
قال ابنُ عباسٍ: سِتْراً، وقيل: جلست وراء جدارِ، وقال نقاتلٌ: وراء جبل.

فصل


اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها، فقيل «إنها لمَّا رأت الحيضَ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ، وتعودَ، فلما طهرتْ، جاءها جبريل - عليه السلام -.
وقيل: طلبت الخلوة للعبادة.
وقيل: تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها.
وقيل: كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل؛ لتُفلِّي رأسها، فانفرج السَّقفُ لها، فخرجت في المشرقة وراء الجبل، فأتاها الملكُ.
وقيل: عطِشَتْ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستسقي، وكل هذه الوجوه محتملة.
واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس، أو شرقيَّ دارها.
قال ابنُ عبَّاسٍ - رضيالله عنهما -: إنِّي لأعلمُ خلق الله، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةٌ؛ لقوله: ﴿مَكَاناً شَرْقِياً﴾ فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً، وهو قول الحسنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -.
قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾.
الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من»
رُوحِنَا «وهو ما يَحْيون به، وقرأ أة حيوة، وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعبادِ، كقوله تعالى: ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ [الواقعة: ٨٩] وحكى النقاس: أنه قُرِئ» رُوحنَّا «بتشديد النُّون، وقال: هو اسمُ ملكٍ من الملائكة.
قوله:»
بَشَراً سويًّا «حالٌ من فاعل» تمَثَّل «وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً.
32

فصل في المراد بالروح


اختلفوا في هذا الرُّوح، فالأكثرون على أنَّه جبريل - صلوات الله عليه - لقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] وسُمِّي روحاً؛ لأنَّ الدِّين يحيى به.
وقيل: سُمِّي رُوحاً على المجازِ؛ لمحبته، وتقريبه، كما تقول لحبيبك: رُوحِي.
وقيل: المرادُ من الرُّوح: عيسى - صلوات الله عليه - جاء في صورة بشرٍ، فحملت به، والأول أصحُّ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد، حسن الوجه، جعد الشَّعْر، سويِّ الخلق وقيل: في صُورة تربٍ لها، اسمه يوسفُ، من خدم بيت المقدس.
قيل: إنما تمثَّل لها في صورة بشر؛ لكي لا تنفر منه، ولو ظهر في صورةِ الملائكة، لنفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه، وهاهنا إشكالات:
الأول: أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن، فحينئذ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس؛ لاحتمالِ أن الملك، أو الجنِّي تمثَّل بصورته، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ، ولا يقال: هذا إنَّما يجوز في زمانِ [جواز] البعثة، فأما في زماننا فلا يجوز.
لنا أن نقول: هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل، فالجاهلُ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ.
الثاني: أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل - صلوات الله عليه - شخصٌُ عظيمٌ جدًّا، فذلك الشخصُ - كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء، وهو محالٌ.
الثالث: أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل - صلوات الله عليه - في صورة الآدمي، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ؛ كالذُّباب، والبقِّ، والبعُوضِ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا، وهو باطلٌ.
الرابع: أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ، لم يكُن محمَّداً - صلوات الله عليه وسلامه - بل كان شخصاً يشبهه، وكذا القولُ في الكُلِّ.
والجوابُ عن الأوَّل: أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه، وإذا جوَّزنا ذلك، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي
33
شاهدناه بالأمْسِ، أم لا، ومن أنكر الصَّانع المختار، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب، وتشكُّلات الفلك، لزمه [تجويزُ] أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور.
وعن الثاني: أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ - عليه السلام - له أجزاءٌ أصليَّةٌ، وأجزاءٌ فاضلةٌ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا؛ فحينئذ: يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا، فإذا جعلناهُ روحانيًّا، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم، وأخرى بالهيكل الصَّغير.
وعن الثالث: أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع.
قوله: ﴿قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾.
أي: إن كان يرجى منك أن تتقي الله، فإنِّي عائذةٌ به منك؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى، فهو كقول القائل: إن كنت مُسْلماً، فلا تظلمني، أي: ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور.
كقوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٧٨].
أي: أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ.
وقيل: كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء، اسمه تقيٌّ، فظنَّت مريمُ انَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك، والأول أصحُّ. قوله: ﴿إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ جوابه محذوفٌ، أو متقدِّم.
قوله تعالى: ﴿لاًّهَبَ﴾ : قرأ نافعٌ، وأبو عمرو «ليَهَبَ» بالياء والباقون «لأهَبَ» بالهمزة، فالأولى: الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ، أي: ليهبَ الرَّبُّ، وقيل: الأصلُ: لأهَبَ، بالهمز، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ، فتتفِقُ القراءتان، وفيه بعدٌ، وأمَّا الثانية، فالضميرُ للمتكلِّم، والمراد به الملكُ، وأسنده لنفسه؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده: أن في بعض المصاحف: «أمرني أن أهب لك» ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف.
قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾.

فصل


لما علم جبريلُ - صلوات الله عليه - خوفها، قال: ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ﴾ ليزول
34
عنها ذلك الخوف، ولكن الخوف لا يزولُ بمجرَّدِ هذا القول، بل لا بدَّ من دلالةٍ تدلُّ على أنه كان جبريل - صلوات الله عليه -، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجزٌ، عرفت به أنَِّه جبريلُ - صلوات الله عليه -، ويحتمل أنَّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريَّا - صلوات الله عليه - فلمَّا قال لها: ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ﴾ أظهر لها من جسده ما عرفت به أنَّه ملكٌ؛ فيكونُ ذلك هو العلمَ، والذي يظهر أنَّها كانت تعرفُ صفة الملك بالأمارات، حين كان يأتيها بالرِّزْق في المحراب، وقال لها زكريَّا: ﴿يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾ [آل عمران: ٣٧].
قوله: ﴿غُلاَماً زَكِيّاً﴾ ولداً صالحاً طاهراً من الذُّنوب.
﴿قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً، وكيف، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة، ومن يكونُ كذلك، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.
فإن قيل: قولها ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ كافٍ في المعنى، فلم قالت: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى: ﴿مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٧] والزِّنَا، إنما يقال فيه: فجر بها، أو ما أشبهه.
والثاني: أن إعادتها؛ لتعظيم حالها؛ كقوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وقوله تعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨]. فكذا هاهنا: إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ، فأغلظ أحوالها، إذا أتت بولدٍ: أن تكُون زانيةً، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكرم؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه.
قوله تعالى: «بَغْيًّا» : في وزنه قولان:
أحدهما - وهو قولُ المبرِّد - أنَّ وزنه «فُعُولٌ» والأصل «بَغُويٌ» فاجتمعت الياء، والواو، [ففعل فيه ما هو معروفٌ]، قال أبو البقاء: «ولذلك لم تلحق تاءُ التأنيث؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور» ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه «التمام» أنها فعيلٌ، قال: «ولو كانت فُعولاً، لقيل: بغُوٌّ، كما يقال: فلان نهُوٌّ عن المنكر» ولم يعقبه بنكير، ومن قال: إنها «فَعِيْلٌ» فهل هي بمعنى «فَاعِل» أو بمعنى «مَفْعُول» ؟ فإن كانت
35
بمعنى «فاعل» فينبغي أن تكون بتاء التأنيث؛ نحو: امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ، وقد أجيب عن ذلك: بأنها معنى النَّسب؛ كحائضٍ وطالقٍ، أي ذات بغي، وقال أبو البقاء، حين جعلها بمعنى «فَاعِل» :«ولم تلحقِ التاءُ أيضاً؛ لأنها للمبالغةِ» فجعل العلة في عدم اللحاقِ كون للمبالغة؛ وليس بشيءٍ، وإن قيل بأنَّها بمعنى «مَفْعُول» فعدمُ الياءِ واضحٌ.
وتقدم الكلامُ على قوله: ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ وهو كقوله في آل عمران ﴿كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧] لا يمتنعُ عليه ما يريدُ خلقه، ولا يحتاجُ في إنشائه إلى الآلاتِ والموادِّ.
قوله: «ولنَجْعَلهُ» يجوز أن يكُون علَّةً، ومُعَلَّلُهُ محذوفٌ، تقديره: لنجعله آيةٌ للنَّاسِ فعلنا ذلك، ويجوز أن يكون نسقاً على علةٍ محذوفةٍ، تقديره: لنُبَيِّنَ به قدرتنا، ولنجعله آيةً، والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم «كان» مضمرٌ فيها، أي: وكان الغلام، أي: خلقه وإيجاده أمراً مقضياً: أي لا بُدَّ منه.
والمرادُ ب «الآية» العلامةُ، أي: علامة للنَّاسِ، ودلالةً على قُدْرتنا على أنواع الخلق؛ فإنه تعالى خلق آدم - صلوات الله عليه وسلامه - من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حوَّاءمن ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى - صلوات الله عليه - من أنثى بلا ذكرٍ، وخلق بقيَّة النَّاسِ من ذكرٍ وأنْثَى.
﴿وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ أي: ونعمةً لمنْ تبعه على دينه، ﴿وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾ محكوماً مفروغاً منه، لا يُرَدُّ، ولا يُبَدَّلُ.
قوله تعالى: ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت﴾.
قيل: إنَّ جبريل - صلوات الله عليه وسلامه - رفع درعها، فنفخ في جيبه، فحملتْ حين لبستْ.
وقيل: نفخ جبريلُ من بعيدٍ، فوصل الرِّيح إليها، فحملت بعيسى في الحالِ.
وقيل: إنَّ النَّفْخة كانت في فيها، فوصلت إلى بطنها.
وقيل: كان النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [التحريم: ١٢].
وظاهرهُ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى؛ ولأنه تعالى قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩].
ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: ٢٩] فكذا هاهنا، وإذا عرفت هذا، ظهر أن في الكلام حذفاً، تقديره: «فَنَفخَ فيها، فحملتهُ».
36
قيل: حملتْ، وهي بنتُ [ثلاثَ عشرة سنةً].
وقيل: بنتُ عشرين، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال.
قوله تعالى: ﴿فانتبذت بِهِ﴾ : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال، أي: انتبذتْ، وهو مصاحبٌ لها؛ كقوله: [الوافر]
٣٥٨٥ -................................ تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبا
والمعنى: اعتزلت، وهو في بطنها؛ كقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] أي: تنبتُ، والدُّهْنُ فيها.
﴿مَكَاناً قَصِيّاً﴾ : بعيداً من أهلها.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أقصى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج.
واختلفوا في علَّة الانتباذِ؛ فروى الثعلبيُّ في «العَرَائِسِ» عن وهب قال: إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى - صلوات الله عليه - كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى «يُوسُفَ النَّجَّار»، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند «جَبَلِ صُهْيُون»، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ، فتحير في أمرها، فكلَّما أراد أن يتَّهمها، ذكر صلاحها، وعبادتها، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ؛ فقال: إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ، فغلبني ذلك، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت: قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً.
قال: أخبرني يا مريمُ، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بِذْرٍ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ؟ وهَلْ يَكُونُ ولدق من غَيْرِ ذكرٍ؟ قالتْ: نَعَمْ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ.
ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجَرَةَ بغير غَيْثٍ، وبالقُدْرَةِ جعل الغَيْثَ حياةُ الشَّجرةِ، بعدمَا خَلَقَ الله كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ؟ أو تقُول: إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ، ولوْلاَ ذلكَ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها؟!.
قال يُوسفُ: لا أقُولُ هذا، ولكنِّي أقُولُ: إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ، فيقُول: كُنْ فَيَكُونَ، فقالت لهُ مريمُ: أو لَمْ تعلمْ أنَّ خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ، ولا
37
أنثى، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها؛ بسبب الحَمْلِ، وضيق القَلْبِ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ، وأدْركهَا النِّفاسُ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ، وذلك في زمانِ بردٍ، فاحتضنتها، [فوضعت] عندها.
وقيل: إنَّها استحيت من زكريَّا، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا، صلوات الله عليه -.
وقيل: لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا، وتشاجَّ النبياءِ في تربيتها، وتكفُّل زكريَّا بِهَا، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحيتْ من هذه الواقعةِ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ.
وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ لثمانية أشهر إلاَّ - عيسى - صلوات الله عليه -.
وقيل: لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا، وتشاحَّ النبياءِ في تربيتها، وتكفُّل زكريَّا بِهَا، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحْيتْ من هذه الواقعةِ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ.
وقيل: خافت على ولدها من القَتْل، لو ولدته بين أظهرهم. وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها.

فصل في بيان حمل مريم


اختلفُول في مدَّة حملها، فرُوي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّها تسعة أشهر؛ كسائر النسِّاء في الغالب.
وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى «صلوات الله عليه -.
وقال عطاءٌ، وأبو العالية، والضحاك: سبعةُ أشهر وقيل: ستَّةُ أشهر.
وقال مقاتلُ بنُ سليمان: ثلاثُ ساعاتٍ، حملت به في ساعةٍ، وصُوِّر في ساعةٍ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها.
وقال ابنُ عبَّاس: كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة، ويدلُّ عليه وجهان:
الأول: قوله: ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ﴾ ﴿فَأَجَآءَهَا المخاض﴾ ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾، والفاء: للتعقيب؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال: انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ؛ لأنَّا نقول: السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها.
الثاني: أنَّ الله تعالى قال في وصفه {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
38
ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: ٥٩]، فثبت أن عيسى - صلواتُ الله عليه - كما قال الله تعالى:» كُنْ «فكان، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة.
والقَصيُّ: البعيدُ.
يقال: مكانٌ قاصٍ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ؛ مثل: عاصٍ وعَصِيٍّ.
قوله تعالى: ﴿فَأَجَآءَهَا﴾ : الأصلُ في»
جَاءَ «: أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دلت عليه الهمزة، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين، قال الزمخشريُّ:» إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك لا تقول: جئتُ المكانَ، وأجاءنيه زيدٌ؛ كما تقولُ: بلغتهُ وأبلغنيه، ونظيرهُ «آتى» حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل: أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ «.
وقال أبو البقاء: الأصلُ»
جَاءَهَا «ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واستعمل بمعنى» ألْجَأها «.
قال أبو حيَّان: قوله: إنَّ»
أجَاءَهَا « [استعمل] بمعنى» ألْجَأهَا «يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ، فتصلحُ لما هو بمعنى» الإلْجَاءِ «ولما هو بمعنى» الاختيار «كما تقول:» أقَمْتُ زَيْداً «فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً، وأمَّا قوله:» ألا تراكَ لا تقُولُ «إلى آخره، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ، أجاز ذلك، وإن لم يسمعْ، ومن منع، فقد سمع ذلك في» جَاءَ «فيجيزُ ذلك، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب» أتى «فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية، وأنَّ أصله» آتى «بل» آتى «ممَّا بُنِي على» أفْعَل «ولو كان منقولاً من» أتى «المتعدِّي لواحد، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأوَّل، إذا عدَّيته بالهمزة، تقولُ:» أتى المالُ زيداً «و» آتى عمروٌ زيداً المالَ «فيختلفُ التركيبُ بالتعدية؛ لأنَّ» زَيْداً «عند النحويِّين هو المفعول الأول، و» المال «هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ، كان يكون العكس، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله، وأيضاً، ف» أتى «مرادفٌ ل» أعْطَى «، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى، وقوله:» ولمْ تَقُل: أتَيْتُ المكانَ، وآتانيه «هذا غيرُ مسلمٍ، بل تقول:: أتَيْتُ المَكَانَ» كما تقول: «جِئْتُ المكانَ» وقال الشاعر: [الوافر]
39
ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً، قال: «آتانيه» قال شهاب الدين: وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه ظاهرةُ الأجوبة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها.
وقرأ الجمهورُ «فأجَاءَهَا» أي: ألْجَأهَا وساقها، ومنه قوله: [الوافر]
٣٥٨٦ - أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا
٣٥٨٧ - وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة «فاجَأهَا» أي: ألْجَأهَا وساقها، ومنه قوله: [الوافر]
٣٥٨٧ - وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُم أجَأءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة «فاجَأهَا» بألفٍ بعد الفاء، وهمزة بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة «قابلها» ويقرأ بألفين صريحتين؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ.
والجمهورُ على فتح الميم من «المَخَاض» وهو وجعُ الولادةِ، ورُوِيَ عن ابن كثير بكسر الميم، فقيل: هما بمعنى، وقيل: المفتوجُ: اسمُ مصدر؛ كالعطاءِ والسلامِ، والمكسورُ مصدرٌ؛ كالقتال واللِّقاء، والفعالُ: قد جاء من واحد؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ، قاله أبو البقاء، والميم أصليةٌ؛ لأنه من «تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ».
و «إلى جذْعِ» يتعلق في قراءة العامَّة ب «أجَاءَهَا» أي: ساقها إليه.
وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من المفعول، أي: فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ.

فصل في معنى الآية


المعنى: ألْجَأهَا المخاض، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة؛ لتستند إليها، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء، ولم يكُن لها سعفٌ، ولا خُضْرة، والتعريف فيها: إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة؛ كتعريف النّضجم [والصَّعق] أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس.
فإن قيل: جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ، أي: إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح، وإذا قُطِعَ رأسُها، لم تُثْمِرْ، فكأنَّ الله تعالى قال: كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر،
40
فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر.
﴿قَالَتْ
ياليتني
مِتُّ
قَبْلَ
هذا
تمنَّت الموت.
فإن قيل: كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل - صلوات الله عليه - ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين.
فالجوابُ من وجوه:
الأول: تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى - صلوات الله عليه -.
الثاني: أنَّ عادة الصَّالحين - رضي الله تعالى عنهم - إذا وقعُوا في بلاءٍ: أن يقُولُوا ذلك، كما رُوِيَ عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه [نظر إلى طائرٍ] على شجرة، فقال: طُوبى لَكَ، يا طَائِر؛ تقعُ على الشَّجرِ، وتأكُلُ من الثَّمَر، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ.
وعن عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه أخذ تبنة من الأرض، فقال: يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ، يا بَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً.
وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل: لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة.
وعن بلالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ.
فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم.
الثالث: - لعلَّها قالت ذلك؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به.
قوله تعالى: «نَسْياً» الجمهور على النون وسكون السين، وبصريح الياء بعدها، وقرأ حمزة وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسور «فِعْل» بمعنى «مَفْعُولٍ» كالذَّبح والطَّحن، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى؛ كالوتد، والحبلِ، وخرقةِ الطَّمْثِ، ونحوها. تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة.
قال ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى، كالنَّقص؛ اسمٌ لما ينقصُ، والمفتوحُ: مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف» وقال في الفرَّاء: هما لغتان؛ كالوَتْر والوِتْر، والكسرُ أحَبُّ إليَّ «.
41
وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ» نِسْئاً «بكسر النون، والهمزةُ بدل الياء، وروي عنه أيضاً، وعن بكر بن حبيب السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة، قالوا: وهو من نسأتُ اللَّبن، إذا صببت فيه ماءً، فاستهلك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك، والمفتوحُ مصدرٌ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ.
ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ»
نَساً «بفتح النون، والسين، والقصر؛ ك» عَصاً «، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض.
و «منْسِيًّا»
نعتٌ على المبالغة، وأصله «مَنْسُويٌ» فأدغم، وقرأ أبو جعفرٍ، والأعمشُ «مِنْسيًّا» بكسر الميم؛ للاتباع لكسرة السين، ولم يعتدُّوا بالساكن؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ؛ كقولهم: «مِنْتِنٌ» و «مِنْخِرٌ»، والمقبرة والمحبرة.
قوله تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾ : قرأ الأخوان، ونافع، وحفص بكسر ميم «مِنْ» وجرِّ «تحتها» على الجار والمجرور، والباقون بفتحها، ونصب «تحتها» فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في «نَادَى» مَكراً، وفيه تأويلان:
أحدهما: هو جبريلُ، ومعنى كونه «مِنْ تحتها، أنه في مكانٍ أسفل منها؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ ابن عبَّاس» فناداها ملكٌ من تحتها «فصرَّح به.
ومعنى كونه أسفل منها: إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ، وهناك مبدأ معيَّنٌ، وهو عند النَّخْلة، وجبريلُ بعيدٌ عنها، فكل من كان أقرب، كان فوق، وكُلُّ من كان أبعد، كان تحت، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى: ﴿إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٠].
ولهذا قال بعضهم: ناداها من أقصى الوادي.
وقيل: كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ، وجبريل أسفل؛ قاله عكرمة.
ورُوِيَ عن عكرمة: أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة.
و»
مِنْ تَحْتهَا «على هذا فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّقق بالنداء، أي: جاء النداء من هذه الجهة.
والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها، وهو تحتها.
وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، أيك فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها، والجارُّ
42
فيه الوجهان: من كونه متعلَّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على انه حالٌ، والثاني أوضحُ.
والقراءة الثانية: تكونُ فيها» مَنْ «موصولةً، والظرفُ صلتها، والمرادُ بالموصول: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
وقرأ زئرٌّ، وعلقمةُ:»
فَخَاطَبَهَا «مكان» فَنَادَاها «.

فصل في اختلافهم في المنادي


قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ: إنَّ المنادي هو عيسى - صلوات الله عليه - وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ، وقتادةُ، والضحاكُ، وجماعةٌ: إنَّه جبريل - صلوات الله عليه - وكانت مريمُ على أكمة [وجبريل] وراء الأكمةِ تحتها.
وقال ابن عيينة، وعاصمٌ: المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ:
الأول: أن قوله: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾ بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى - صلوات الله عليه - فوجب حملُ اللفظ عليه، وأما قراءة كسر الميم، فلا تقتضي كون المنادي»
جبريل «صلواتُ الله عليه.
الثاني: أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ.
الثالث: ان قوله»
فَنَدَاهَا «فعلٌ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل، وعيسى - صلوات الله عليهما -، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ؛ لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت﴾ والضمير عائدٌ إلى المسيح، فكان حمله عيله أولى.
الرابع: أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - لو لم يكُن كلَّمها، لما علمتْ أنه ينطقُ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام.

فصل في معنى الآية على القولين


من قال: المُنادِي: هو عيسى، فالمعنى: أنَّ الله تعالى أنطفه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها، وإزالةً للوحشة عنها؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشَرها به جبريل - صلوات الله عليه - من عُلُوِّ شأن ذلك الولد.
43
ومن قال: المنادي هو جبريلُ - صلوات الله عليه - قال: إنه أرسل إليها؛ ليناديها بهذه الكلمات؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة.
قوله: «ألاَّ تَحْزَنِي» يجوز في «أنْ» أن تكون مفسرةً؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول، و «لا» على هذا: ناهيةٌ، حذف النون للجزم؛ وأن تكون الناصبة، و «لا» حينئذٍ نافيةٌ، وحذفُ النُّون للنَّصْب، ومحلُّ «أنْ» إمَّا نصب، أو جرٌّ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ، أي: فَنَادَاهَا بكذا، والضميرُ في «تحتها» : إمَّا لمريم - صلوات الله عليها - وإمَّا للنَّخلة، والأول أولى؛ لتوافق الضميرين.
قوله تعالى: [ «سَرِيًّا» ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل، و «تَحْتك» مفعولٌ ثان؛ لأنها بمعنى صيَّر «ويجوز أن تكون بمعنى» خلق «فتكون» تَحْتَكِ «لغواً.
والسَّرِيُّ: فيه قولان:
أحدهما: إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر، من»
سَرُوَ يَسْرُو «ك» شَرُفَ، يَشْرَفُ «فهو سريٌّ، وأصله سَرِيوٌ؛ فأعلَّ سيِّدٍ، فلامهُ واوٌ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم - صلوات الله عيله -، ويجمعُ» سريٌّ «على» سراة «بفتح السين، وسُرَواء؛ كظرفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جمعه» أسْرِيَاء «كغَنِيِّ، وأغنياء، وقيل: السَّرِيُّ: من» سَرَوْتُ الثَّوبَ «أي: نزعتهُ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس، أي: نزعتهُ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه؛ بخلاف المُدَّثِّر، والمُتزمِّل، قاله الراغب.
والثاني: أنه النَّهْر الصغير، ويناسبه»
فكُلِي واشْرَبِي «واستقاقه من» سَرَى، يَسْرِي «لأن الماء يَسْري فيه، فلامه عهلىىهذا ياء؛ وأنشدوا للبيدٍ: [الرجز]
٣٥٨٨ - فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا

فصل


قال الحسن، وابن زيدٍ: السَّريُّ هو عيسى، والسَّريُّ: هو النَّبيلُ الجليلُ.
يقال: فلانٌ من سرواتِ قومه، أي: من أشرافهم، وروي أن الحسن رجع عنه.
وروي عن قتادة وغيره: أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾.
فقال: إن كان لسربًّا، وإن كان لكريماً، فقال له حميدٌ: يا أبا سعيد، إنما هو
44
الجدول، فقال له الحسنُ» مِنْ ثمَّ [تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ «].
واحتجَّ من قال: هو النَّهر «بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ عن السَّريِّ، فقال - صلوات الله عليه وسلامه - هو الجدولُ»
وبقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَكُلِي واشربي﴾ فدلَّ على أنَّه على أنَّه النَّهر؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب، فتأكل وتشرب.
واحتجَّ من قال: إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها، بل إلى جنبها، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها، ويقف بأمرها؛ لقوله: ﴿وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا﴾ [الزخرف: ٥١] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه، ولو حملناه على عيسى، لم يحتج إلى هذا المجاز.
وأيضاً: فإنَّه موافقٌ لقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠].
وأجيب: بما تقدَّم أن المكان المستوي، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّنٌ، فكلُّ من كان أقرب منه، كان فوق، وكل من كان أبعد منه، كان تحت.

فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر


إذا قيل: إنَّ السَّرِيَّ: هو النَّهْر، ففيه وجهان:
الأول: قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إنَّ جبرائيل - صلواتُ الله عليه وسلامه - ضرب برجله الأرض.
وقيل: عيسى؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ، وجرى.
وقيل: كان هناك ماءٌ جارٍ؛ والأول اقربُ؛ لأن قوله ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه.
وقيل: كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء، وحيث النخلة اليابسة، فأورقتْ، وأثمرتْ، وأرطبتْ.
45
قال أبو عبيدة والفَّراء: السَّريُّ: هو النَّهْرُ مطلقاً.
وقال الأخفشُ: هو النَّهْرُ الصَّغير.
قوله تعالى: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ : يجوز أن تكون الباءُ في «بِجِذْعٍ» زائدة، كهي في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] [وقوله] :
٣٥٨٩ -........................................... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وأنشد الطبريُّ - رحمة الله تعالى -: [الطويل]
٣٥٩٠ - بِوَادٍ يمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صدْرُهُ وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَانِ
أي: ينبت المرخ أي: هُزِّي جذْعَ النَّخلةِ.
أو حركي جذْعَ النَّخلة. قال الفرَّاء: العربُ تقول: هزَّهُ، وهزَّ به، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام، وزوَّجتُك فلانة، وبفُلانةٍ ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوف، تقديره: وهُزِّي إليك رُطباً كائناً بجذع النخلة، ويجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى؛ إذ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «أو افْعَلِي الهَزَّ» ؛ مقوله: [الطويل]
٣٥٩١ -................................... يَجْرَحْ فِي عَراقِيبِهَا نَصْلِي
قال أبو حيَّان: وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى: ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢] ما يردُّ على القاعدة المقرَّرةِ في علم النَّحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتَّصل إلى ضميره المتَّصلِ، إلاَّ في باب «ظنَّ» وفي لَفْظَتَيْ «فَقَدَ، وعدِمَ» لا يقالُ: ضربْتُكَ، ولا ضَرَبْتُني، أي: ضَربْتَ أنْتَ نَفْسَكَ، وضَربْتُ أنَا نفسي، وإنما يؤتى في هذا بالنَّفْسِ، وحكمُ المجرور بالحرف المنصوب؛ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هزَّ إليه؛ ولذلك جعل النحويُّون «عَنْ» و «عَلَى» اسمين في قول امرئ القيس: [الطويل]
٣٥٩٢ - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صيحَ في حُجُراتِهِ ولكِنْ حدياً ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ
وقول الآخر: [المتقارب]
٣٥٩٣ - هَوِّنْ عليمَ فإنَّ الأمُورَ بكَفِّ الإلهِ مقاديرُهَا
وقد ثبت بذلك كونهما اسمين؛ لدُخُولِ حرفِ الجرِّ عليهما في قوله: [الطويل]
46
٣٥٩٤ - غَدَتْ من عليْهِ بعدما تمَّ ظمؤهَا تَصِلُ وعن قَيْضٍ بِبَيْدَاءَ مَجْهَلِ
وقول الآخر: [البسيط]
٣٥٩٥ - فَقُلْتُ للرَّكْبِ لمَّا أن عَلا بِهِمُ مِنْ عَنْ يمينِ الحُبَيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وأمَّا «إلى» فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أن تكون اسماً؛ ك «عَنْ» و «عَلَى» ثم أجاب: بأنَّ «إليكِ» في الآيتين لا تتعلقُ بالفعل قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان، تقديره: «أعني إليك» قال: «كما تأولوا ذلك في قوله: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] في أحد الأوجه».
قال شهاب الدين - رضي الله تعالى عنه -: وفيه ذلك جوابان آخران:
أحدهما: أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل، إنما هو من حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضمير محلٌّ له؛ نحو: «دَعْ عنْكَ» و «هوِّنْ عليْكَ» وأمَّا الهزُّ والضمُّ، فليسا واقعين بالكاف، فلا محذور.
والثاني: أنَّ الكلام على حذف مضافٍ، تقديره: هُزِّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك.

فصل في المراد بجذع النخلة


قال [القفال] : الجِذْعُ من النَّخلة: هو الأسفل، وما دُون الرَّأس الذيىعليه الثَّمرة.
وقال قطربٌ: كُلُّ خشبة في أصل شجرة، فهي جذعٌ.
قوله: «تُسَاقِطْ» قرأ حمزةُ «تَسَاقَطْ» بفتح التاء، وتخفيف السين، وفتح القاف، والباقون - غير حفص - كذلك إلا أنَّهم شدَّدُوا السِّين، وحفصٌ، بضم التاء، وتخفيف السين، وكسر القاف.
فأصلُ قراءةِ غير حفص «تتساقطْ» بتاءين، مضارع «تَساقَطَ» فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفاً؛ نحو: ﴿تَنَزَّلُ﴾ [القدر: ٤] و ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، والباقون أدغمُوا في السِّين، وقراءة حفص مضارعُ «سَاقَطَ».
47
وقرأ الأعمش، والبراء [بنُ عازبٍ] «يَسَّاقَطْ» كالجماعة، إلا أنه بالياء من تحتُ، أدغم التاء في السِّين؛ إذ الأصلُ: «يتساقَط» فهو مضارعُ «اسَّاقَطَ» وأصله «يَتَساقَطُ» فأدغمَ، واجتلبتْ همزة الوصل؛ ك «ادَّارَأ» في «تَدَارَأ».
ونْقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ:
وافقهُ مسروقٌ في الأولى، وهي «تُسْقِطْ» بضم التاء، وسكون السين، وكسر القاف من «أسْقَطَ».
والثانية: كذلك إلا أنه بالياء من تحتُ.
الثالثةُ كذلك إلاّض أنه رفع «رُطَباً جَنِيًّا» بالفاعلية.
وقُرِئَ «تَتَسَاقَط» بتاءين من فوقُ، وهو أصل قراءة الجماعة، وتَسْقُط ويَسْقُط، بفتح التاء والياء، وسكون السين، وضمِّ القاف، فرفعُ الرطب بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة، ومن قرأ بالتاء من فوق، فالفعل مسندٌ: إمَّا للنَّخلة، وإمَّا للثمرةِ المفهومة من السياق، وإمَّا للجذْعِ، وجاز تأنيثُ فعله؛ لإضافته إلى مؤنَّث؛ فهو كقوله: [الطويل]
٣٥٩٦ -........................... كَمَا شَرقَتْ صَدْرُ القناةِ مِن الدَّمِ
وكقراءة ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠] ومن قرأ بالياء من تحت، فالضميرُ للجذْعِ، وقيل: للثَّمر المدلول عليه بالسيِّاق.
وأمَّا نصب «رُطَباً» فلا يخرجُ عن كونه تمييزاً، أو حالاً موطِّئة، إن كان الفعل قبله لازماً، أو مفعولاً به، إن كان الفعل متعدِّياً، [والذَّكِيُّ] يردُّ كلَّ شيءٍ إلى ما يليقُ به من القراءات، وجوَّز المبرِّد في نصبه وجهاً غريباً: وهو أن يكون مفعولاً به ب «هُزِّي» وعلى هذا، فتكون المسألةُ من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أن يكون الفعل فيها متعدِّياً، وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، للحذف من الأوَّل.
وقرأ طلحة بن سليمان «جنيًّا» بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون.
والرُّطبُ: اسم جنسٍ برطبة؛ بخلاف «تُخَم» فإنَّه جمعٌ لتخمة، والفرقُ: أنهم لزمُوا تذكيرهُ، فقالوا: هو الرطبُ، وتأنيث ذاك، فقالوا: هي التُّخَمُ، فذكَّرُوا «الرُّطَب» باعتبار الجنس، وأنَّثُوا «التُّخَمَ» باعتبار الجمعيَّة، وهو فرقٌ لطيفٌ، ويجمعُ على «أرطابٍِ» شذوذاً كربع وأرباع، والرُّطب: ما قطع قبل يبسه وجفافه، وخصَّ الرُّطب بالرُّطبِ من التَّمر، وأرطبَ النَّخْلُ؛ نحو: أتْمَرَ وأجْنَى.
48
والجَنِيُّ: ما طاب، وصلح للاجتناء، وهو «فَعِيلٌ» بمعنى مفعول أي رُطَباً مَجنيًّا، وقيل: بمعنى فاعلٍ، أي: طريًّا، والجنى والجنيُّ أيضاً: المُجْتَنَى من العسلِ، وأجْنَى الشَّجَرُ: أدْرَكَ ثمرهُ، وأجنتِ الأرضُ: كَثُرَ جناها، واستعير من ذلك «جنى فلانٌ جنايةً» كما استعير «اجْتَرَمَ جَريمَةً».

فصل في معنى الآية


المعنى جمعنا لك بين الشُّرب والأكل.
قال عمروُ بنُ ميمُون: ليس شيءٌ خيرٌ من الثَّمر والرُّطب، ثم تلا هذه الآية.
وقال بعضُ العلماءِ: أكْلُ الرُّطبِ والثَّمرةِ للمرأةِ الَّتي ضربها الطَّلق يُسَهِّل عليها الولادة.
قال الرَّبيعُ بنُ خيثمٍ «ما للنُّفساءِ عندي خيرٌ من الرُّطب، ولا للمرضِ خيرٌ من العسل.
قالت المعتزلةُ: هذه الأفعال الخارقةُ للعادةِ كانت معجزة لزكريَّا وغيره من الأنبياء؛ وهذا باطلٌ؛ لأنَّ زكريَّا - صلوات الله عليه وسلامه - ما كان له علمٌ بحالها ومكانها، فكيف بتلك المعجزات؟ بل الحقُّ أنها كانت كراماتٍ لمريم، أو إرهاصاً لعيسى - صلوات الله عليهما -، لأنَّ النَّخلة لم تكُن مثمرةً، إذا ذاك؛ لأن ميلادهُ كان في زمان الشتاء، وليس ذاك وقت ثَمر.
قوله تعالى: ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ : نصب»
عًيْناً «على التمييز منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل: لتقرَّ عينُك، والعامَّة على فتح القاف من» قَرِّي «أمراً من قرَّت عينهُ تَقَرَّ، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع.
وقُرئ بكسر القاف، وهي لغةُ نجدٍ؛ يقولون: قرَّت عينهُ تقرُّ، بفتح العين في الماضي، وكسرها في المضارع، والمشهورُ: أن مكسور العين في الماضي ل «العَيْنِ»
، والمفتوحها في «المَكَان» يقال: قررتُ بالمكانِ اقرُّ به، وقد يقال: قررتُ بالمكانِ بالكسر، وسيأتي ذلك في قوله تعالى ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣].
وفي وصف العين بذلك تأويلان «
أحدهما: أنَّه مأخوذٌ من»
القُرّ «وهو البردُ: وذلك أنَّ العين، إذا فرح صاحبها، كان دمُعها قارًّا، بارداً، وإذا حزن، كان حارًّا؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه:» أسْخَنَ اللهُ عيْنَهُ «وفي الدعاء له:» أقر اللهُ عيْنه «وما أحلى قول أبي تمَّام - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: [الطويل]
49
٣٥٩٧ - فأمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فأسْخِنَتْ وأمَّا عُيونُ الشَّامتينَ فقرَّتِ
والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يسكِّنُ عينه فلا تطمحُ إلى غيره.
المعنى: فكلي من الرطب واشربي من النهر» وقرّي عيناً «وطيبي نفساً، وقدَّم الأكل على الشرب؛ لأن حاجة النُّفساء، إلى الرُّطب أشدُّ من احتياجها إلى شرب الماء؛ لكثرة ما سال منها من الدَّم، قيل:» قَرِّي عيْناً «بولدك عيسى، وتقدَّم معناه.
فإن قيل: إن مضرَّة الخوف أشدُّ من مضرَّة الجُوع والعطشِ؛ لأنَّ الخَوْفَ ألمُ الرُّوح، والجُوع ألمُ البدنِ، وألم الرُّوح أقوى من ألم البدنِ، يروى أنَّه أجيعتْ شاةٌ، فقُدِّم إليها علفٌ، وعندها ذئبٌ، فبقيت الشَّاة مدَّة مديدة لا تتناول العلف، مع جوعها؛ خوفاً من الذئب، ثم كسر رجلها، وقدم العلفُ إليها، فتناولت العلف، مع ألم البدن؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ألم الخوف أشدُّ من ألم البدنِ، وإذا كان كذلك، فلم قدَّم دفع ضرر الجُوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟.
فالجوابُ: لأنَّ هذا الخوف كان قليلاً؛ لأنَّ بشارة جبريل - صلوات الله عليه - كانت قد تقدَّمت، فما كانت تحتاجُ إلى التَّذكرة مرَّة أخرى.
قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ﴾ دخلت»
إن «الشرطيةُ على» ما «الزائدةِ للتوكيد، فأدغمتْ فيها، وكتبتْ متَّصلة، و» تَرَينَّ «تقدَّم تصريفه.
أي:»
أن تري «، فدخلت عليه نونُ التَّوكيد، فكسرتِ الياءُ، لالتقاء الساكنين.
معناه: فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً، فسألك عن ولدكِ والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة، وقرأ أبو عمروٍ في رواية»
ترَئِنَّ «بهمزة مكسورة بدل الياء، وكذلك رُوي عنه» لتَرؤنَّ «بإبدالِ الواو همزةً، قال الزمخشري:» هذا من لٌغةِ من يقولُ: لبَأتُ بالحَجِّ، وحلأتُ الَّسويقَ «- يعني بالهمز - وذلك لتآخ بين الهمز وحروف اللِّين» وتجَرَّأ ابنُ خالويه على أبي عمروٍ؛ فقال: «هو لَحْنٌ عند أكْثَرِ النَّحويِّين».
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ، وشيبةُ، وطلحةُ «تَرَيْنَ» بياءٍ ساكنة، ونون خفيفة، قال أبن جني: «وهي شاذَّةٌ».
قال شهاب الدين: لأنَّه كان ينبغي أن يؤثِّر الجازمُ، فيحذف نون الرفع؛ كقُول الأفوهِ: [السريع]
50
ولم يؤُثِّر هنا شذوذاً، وهذا نظيرُ قول الآخر: [البسيط]
٣٥٩٨ - إمَّا تَرَيْ رَأسِي أزْرَى بِهِ ماسُ زمانٍ ذِ انتِكاثٍ مَئُوس
٣٥٩٩ - لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ
فلم يعمل «لَمْ» وأبقى نون الرَّفع. و «من البشر» حالٌ من «أحَداً» لأنه لو تأخَّر، لكان وصفاً، وقال أبو البقاء: «أو مفعول» يعني متعلِّق بنفس الفعل قبله.
قوله تعالى: «فَقُولِي» بين هذا الجواب، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ، تقديره: فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً، فسألك الكلام، فقُولي، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولها «فَلَنْ أكَلِّمَ اليومَ إنسيًّا» كلامٌ؛ فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ، وجوابه ما تقدَّم.
ولذلك قال بعضهم: إنَّها ما نذرتْ في الحال، بل صبرتْ؛ حتَّى أتاها القَوْمَ، فذكرت لهم: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾.
وقيل: المرادُ بقوله «فقٌولي» إلى لآخره، أنه بالإشارة، وليس بشيء؛ بل المعنى: فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ.
وقرأ زيدُ بن عليٍّ «صِيَاماً» بدل «صوماً» وهما مصدران.

فصل في معنى صوماً


معنى قوله تعالى: «صَوْماً» : أي صمتاً، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، والصَّوم في اللُّغة، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام.
قال السديُّ: كان في بني إسرائيل من إذا أراد أن يجتهد، صام عن الكلام، كما يصوم عن الطَّعام، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ.
قيل: كانت تُكَلِّمُ الملائكة، ولا تكلِّم الإنْسَ.
قيل: أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت؛ لئلاَّ تشرع مه من اتَّهَمَهَا في الكلام؛ لمعنيين:
أحدهما: أن كلام عيسى - صلوات الله عليه - أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض [الأمر] إلى الأفضلِ أولى.
51
الثانية: كراهةُ مجادلة السُّفهاء، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً.
قوله تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ :«به» في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «أتَتْ»، [أي: أتَتْ] مصاحبة له؛ نحو: جاء بثيابه، أيك ملتبساً بها، ويجوز أن تكون الباءُ متعلقة بالإتيان، وأمَّا «تَحْملُه» فيجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل «أتَتْ» ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في «به» وظاهر كلام أبي البقاء: أنَّها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً؛ وفيه نظرٌ.
قوله تعالى: شَيْئاً «مفعولٌ به، أي: فعلِت شيئاً، أو مصدرٌ، أي: نوعاً من المجيءِ غريباً، والفَرِيُّ: العظيمُ من الأمر؛ يقال في الخَيْر والشرِّ، وقيل: الفَرِيُّ: العجيبُ، وقيل: المُفْتَعَلُ، ومن الأول، الحديثُ في وصف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» فَلَمْ أرَ عَبْقرِيًّا يَفْرِي فريَّهُ «والفَرِيُ: قطعُ الجلد للخَرْزِ والإصلاح، والإفْرَاء: إفساده، وفي المثل: جاء يَفْرِي الفَرِيَّ، أي: يعمل العمل العظيم؛ وقال: [الكامل]
٣٦٠٠ - فلأنْتَ تَفْرِي ما خَلقْتَ وبَعْ ضُ القَوْمِ يَخْلقُ يَخْلقُ ثُمَّ لا يَفْري
وقرأ أبو حيوة فيما نقل عنه ابنُ خالويه «فَرِيئاً»
بالهمز، وفيما نقل ابن عطية «فَرْياً» بسكون الراء.
وقرأ عمر بن لجأ «ما كَانَ أباَك امْرُؤ سَوْءٍ» جعل النكرة الاسم، والمعرفة الخبر؛ كقوله: [الوافر]
٣٦٠١ -........................... يَكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
وقوله: [الوافر]
٣٠٦٢ -........................... ولا يَكُ مَوْقفٌ مِنْكِ الوَداعَا
وهنا أحسنُ لوجودِ الإضافةِ في الاسم.

فصل في كيفية ولادة مريم وكلام عيسى لها ولقومه


قيل: إنَّها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها.
وقال ابنُ عباس، والكلبيُّ: احتمل يوسفُ النَّجَّار مريم، [وابنها] عيسى إلى
52
غارٍ، ومكثَ أربعين يوماً؛ حتَّى طهرتْ من نفاسها، ثم حملته مريمُ إلى قومها، فكلَّمها عيسى في الطَّريق؛ فقال: يا أمَّاه، أبشري؛ فإنِّي عبد الله، ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصَّبِيُّ، بكَوْا، وحَزِنُوا، وكانُوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا ﴿يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ عظيماً مُكراً.
قال أبو عبيدة: كُلُّ أمرٍ فائق من عجب، أو عملٍ، فهو فَرِيٌّ؛ وهذا منهم على وجه الذَّمِّ، والتوبيخ؛ لقولهم بعده: ﴿ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾.
قوله تعالى: ﴿ياأخت هَارُونَ﴾ يريدون: يا شبيهة هارون، قال قتادةُ، وكعبٌ، وابنُ زيدٍ، والمغيرة بنُ شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: كان هارُون رجلاً صالحاً مقدِّماً في بني إسرائيل، رُوِيَ أنَّهُ تبعَ جنازتهُ يوم مات أربعُون ألفاً، كلُّهم يسمَّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس، شبَّهُوها به على معنى أنَّنا ظننَّا أنَّك مثلهُ في الصَّلاح، وليس المرادُ منه الأخُوَّة في النَّسب؛ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين﴾ [الإسراء: ٢٧].
روى المغيرةُ بنُ شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لما قدمتُ [خراسان] سالُوني، فقالوا: إنَّكم تقرءون: ﴿ياأخت هَارُونَ﴾ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلمَّا قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سألتهُ عن ذلك، فقال: إنَّهم كانُوا يُسمَّون بأنبيائهم والصَّالحين قبلهم.
قال ابن كثيرٍ: وأخطأ محمَّد بن كعبٍ القرظيُّ في زعمه أنَّها أختُ موسى وهارون نسباً؛ فإنَّ بينهما من الدُّهُور الطَّويلة ما لا يخفى على من عندهُ أدنى علم، وكأنَّه غرَّه أنَّ في التَّوراة أن مريم - أخت موسى، وهارون - ضربت بالدُّفِّ يوم نجَّى الله موسى وقومه، وغرقَ فرعونُ وجُنودُه، فاعتقد أنَّ هذه هي تلك، وهذا في غاية البُطلان ومخالفةٌ للحديث الصحيح المتقدِّم.
وقال الكلبيُّ: كان هارونُ أخا مريم من أبيها، وكان أمثل رجُل في بني إسرائيل.
وقال السُّديُّ: إنَّما عنوا به هارُون أخا موسى، لأنَّها كانت من نسله، كم يقال
53
للتميميِّ: يا أخا تميمٍ، ويا أخا همدان، أي: يا واحداً منهم.
وقيل: كان هاروُن فاسقاً في بني إسرائيل مُعْلِناً بالفِسْقُ، فشبَّهوها به. وقول الكلبيّ أقربُ؛ لوجهين:
الأول: أن الأصل في الكلام الحقيقةُ؛ فيحملُ الكلامُ على أخيها المسمَّى ب «هارُونَ».
الثاني: أنها أضيفت إليه، ووُصف أبواها بالصَّلاح؛ وحينئذ يصيرُ لتوبيخُ أشدَّ، لأنَّ من كان حال أبويه وأخيه هذا الحال، يكونُ صدور الذَّنْبِ منه أفحش.
ثم قالوا: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾.
قال ابن عبَّاس: أي: زانياً، «وما كانَتْ أمُّك» حنَّة «بغيَّا» أي: زانية، فمن أين لك هذا الولدُ.
قوله تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ : الإشارةُ معروفةٌ تكون باليد والعين وغير ذلك، وألفها عن ياءٍ، وأنشدوا لكثيرٍ: [الطويل]
٣٦٠٣ - فقُلْتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ألا حبَّذا يا عزُّ ذَاكَ التَّشايرُ
قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ في «كَانَ» هذه أقوالٌ:
أحدها: أنها زائدةٌ، وهو قولُ أبي عبيدٍ، أي: كيف نُكَلِّمُ من في المهد، و «صَبِيَّا» على هذا: نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارُ والمجرورِ الواقع صلة، وقد ردَّ أبو بكرٍ هذا القول - أعني كونها زائدة - بأنها لو كانت زائدة، لما نصبت الخبر، وهذه قد نصبْ «صَبيَّا» وهذا الردُّ مرودٌ بما ذكرتُه من نصبه على الحال، لا الخبر.
الثاني: أنها تامَّةٌ بمعنى حدوث ووجد، والتقدير: كيف نكلمُ من وجد صبيَّا، و «صبيَّا» حال من الضمير في «كان».
الثالث: أنها بمعنى ضار، أي: كيف نكلِّم من صار في المهد صبيَّا، و «صَبِيَّا» على هذا: خبرها؛ فهو كقوله: [الطويل]
٣٦٠٤ -.......................... قَطَا الحَزْنِ قد كَانَتْ فِرَاخَاً بُيُوضُهَا
الرابع: أنها النَّاقضةُ على بابها من دلالتها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي، من غير تعرُّضٍ للانقطاع؛ كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] ولذلك يعبَّر عنها بأنَّها ترادفُ «لَمْ تَزلْ» قال الزمخشريُّ: «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماض مبهمٍ صالح للقريبِ والبعيد، وهو هنا لقريبة خاصَّة، والدَّالُّ عليه معنى
54
الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجُّب، ووجه آخر: وهو أن يكون «نُكَلِّمُ» حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي: كيف عُهِدَ قبل عيسى أن يكلم النَّاس في المهد حتى نُكلمه نحنُ؟
وأمَّا «مَنْ» فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بعني الذي، وضعفٌ جعلها نكرة موصوفة، أي: كيف نكلِّم شخصاً، أو مولوداً، وجوَّز الفرَّاء والزجاج فيها أن تكون شرطيَّة، و «كان» بمعنى «يَكُنْ» وجوابُ الشرطِ: إمَّا متقدِّمٌ، وهو «كَيْفَ نُكَلِّمُ» أو محذوفٌ، لدلالةِ هذا عليه، أي: من يكن في المهدِ صبياً، فكيف نُكلِّمُهُ؟ فهي على هذا: مرفوعة المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله: منصوبته ب «نُكَلِّمُ» وإذا قيل بأنَّ «كان» زائدةٌ؛ هل تتحمَّلُ ضميراً، أم لا؟ فيه خلافٌ، ومن جوَّز، استدلَّ بقوله: [الوافر]
٣٦٠٥ - فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِراَم
فرفع بها الواو، ومن منع، تأوَّل البيت، بأنَّها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرها هو «لنا» قُدِّم عليها، وفصل بالجملة بين الصفة، والموصوف.
وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد، والأكثرون على أنه إخفاء.

فصل في مناظرة مريم لقومها


لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت، وأشارت إلى عيسى، أن كلِّمُوه.
قال ابنُ مسعود: لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ، أشارتْ إليه؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها، أي: هو الذي يُجيبُكُم، إذا ناطَقْتُمُوه.
قال السديُّ: لما أشارتْ إليه؛ ليكون كلامُه حجَّة، غضبُوا، وقالوا: لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها، و ﴿قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾، والمهدُ: هو حجرها.
وقيل: هو المهدُ بعينه.
والمعنى: كيف نكلِّم صبيِّا سبيلهُ أن ينام في المهد؟!
قال السديُّ: فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه - كلامهم، وكان يرضعُ، ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، واتَّكأ على يساره، وأشار بسبَّابة يمينه، فقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾.
وقيل: كلَّمهم بذلك، ثم لم يتكلَّم؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبانُ، وقال وهبّ: أتاها زكريَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عند مناظرتها اليهُود، فقال لعيس: انْطِقْ بحُجَّتِكَ، إن كنت أمرتَ بها، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً - وقال مقاتلٌ: بل هو يوم ولد -: إنَّي عبد الله، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله - عزَّ وجلَّ - أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً، وفيه فوائد:
55
الأولى: أن ذلك الكلام في ذلك الوقت: كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى؛ فلا جرم: أوَّل ما تكلَّم، قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾.
الثانية: أن الحاجة في ذلك الوقت، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم، ثم إنَّ عيسى - صلوات الله عليه - لم ينصَّ على ذلك، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ؛ فلهذا: أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾.
الثالثة: أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [الله تعالى] يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية، والمرتبة العظيمة، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [الله تعالى]، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى.

فصل في إبطال قول النصارى


في إبطال قول النصارى وجوه:
الأول: أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته - سبحانه وتعالى - لم تحلَّ في ناسُوت عيسى، بل قالوا: الكلمةُ حلَّت فيه، والمرادُ من الكلمة العلمُ، فنقول: العلمُ، لما حصل لعيسى، ففي تلك الحالةِ: إمَّا أن يقال: إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى، أو ما بقي.
فإن كان الأوَّل، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ، وذلك غير معقول، ولأنَّه لو جاز أن يقال: العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذات الله تعالى؟ وإن كان الثاني، لزم أن يقال: إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ.
قال ابنُ الخطيب:
وثانيها: مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى، فقلتُ له: هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول، أمْ لا؟ فإن أنكرت، لزمكَ لا يكون الله قديماً؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العامُ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول، فنقولُ: إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى م حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة، وفي هذا الكلب؟ فقال: إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد، أو الحلول، بناءً على ما
56
ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى، وإبراءِ الأكمه، والأبرصِ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره، فكيف نثبت الاتحادَ، أو الحُلُول؟ فقلتُ له: إنِّي عرفتُ بهذا الكلام أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقّ عيسى، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلول لا يدلُّ على عدم المدلُول؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد، والحلول، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ، والحُلُُول، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد، والحلول، لزمك تجويزُ حُصُولُ ذلك الاتحادِ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد، بل في حق كل حيوان ونباتٍ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [قائلهُ] إلى مثل هذا [القول] الركيك، يكُون باطلاً قطعاً، ثم قلتُ [له] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى، وإبراءُ الأكمهِ، والأبرصِ على ما قلت؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا، فإذا ظهر على يد مُوسى، ولم يدلُّ على إلهيته، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى.
وثالثها: أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى: إنَّ اليهُود قتلُوه، ومن كان في الضعف هكذا، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيِّة؟.
ورابعها: أن المسيح: إمَّا أن يكون قديماً، أو محدثاً، والقولُ بقدمه باطلٌ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ، وكان طفلاً، ثم صار شابًّا، وكان يأكُل ويَشْرب، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر، وإنْ كان مُحْدِثاً، كان مخلوقاً، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك.
فإن قيل: المعنيُّ بالالهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [الإلهيَّة، قلنا:] هب أنَّه كان كذلك، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ، والمسيح هو المحل، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة؟.
وخامسها: أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد، فإن كان لله تعالى ولدٌ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر، وإن حصل الامتيازُ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ، [فالواجب] ممكنٌ؛ هذا خلفٌ، هذا على الاتِّحاد، والحلول.
فإن قيل: قالوا: معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام، والتصرُّف في هذا العالمِ، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف
57
والعَجْز، وأنَّ اليهود قتلُوه، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام، لما قَدَرُوا على قَتْله، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه.
فإن قيل: قالُوا: معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه؛ على سبيل التشريف، وهو قد قال به قومٌ من النصارى، يقال لهم الآريوسية، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ.
قوله تعالى: ﴿آتَانِيَ الكتاب﴾ قيل: معناه: سيُؤتيني الكتاب، ويجعلني نبيًّا.
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ؛ كما قيل للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: متى كُنْتَ نبيًّا؟ قال:» كُنْتُ نبيًّا، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ «وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه ألهمَ التوراة، وهو في بطن أمِّه.
وقال الأكثرون: إنه أوتيَ الإنجيل، وهو صغيرٌ طفلٌ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال.
فمن قال: الكتابُ: هو التَّوراة، قال: لأنَّ الألف واللاَّم للعهد، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة، ومن قال: الإنجيلُ، قال»
الألفُ واللاَّم للاستغراق، وظاهرُ كلام عيسى - صلوات الله عليه - أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب، وجعله نبيًّا، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة، وأن يدعو إلى الله تعالى، وإلى دينه، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ.
قال بعضهم: أخبر أنَّه نبيٌّ، ولكَّنه ما كان رسولاً؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة، ومعنى كونه نبيَّا: رفيعُ القدر عالي الدرجة؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع، وهو قوله: ﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة﴾ ثم قال: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ﴾.
وقال مجاهدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - معلِّماً للخَيْر.
وقال عطاءٌ: أدعُو إلى الله، وإلى توحيده وعبادته.
وقيل: مُباركاً على من اتَّبعني.
روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ، وهو يحيى الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص، فقالت: طُوبَى لبطن حملك، وثدي أرضعت به، فقال عيسى مجيباً لها: طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ، وعملَ بِهِ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً.
قوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل: إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر، وزوالِ التَّكْلِيف.
58
قوله: ﴿أين ما كنت﴾ : هذه شرطيةٌ، وجوابها: إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم: أي: أينما كُنْتُ، جعلني مباركاً، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين. ثم قال:
ثم قال: ﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة﴾ أي، أمرني بهما.
فإن قيل: لم يكُن لعيسى مالٌ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة؟ قيل: معناه: بالزَّكاة، لو كان له مالٌ.
فإن قيل: كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً، والفلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير؛ لقوله - صلوات الله عليه وسلامه -: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ» الحديث.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ قوله: ﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة﴾ لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ، بل بعد البُلُوغِ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ، وهو وقتُ البُلُوغِ.
الثاني: لعلَّ الله تعالى، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه - صلوات الله عليه - صيَّرهُ بالغاً، عاقلاً، تامَّ الخلقة؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩] فكما أنَّه تعالى خلق آدم - صلواتُ الله عليه وسلامه - تامَّا كاملاً دفعةً، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ، لقوله: ﴿مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته، ولكن لقائل أن يقول: لو كان الأمرُ كذلك، لكان القومُ حين رأوهُ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء، تامَّ الخِلْقَة، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا.
والجوابُ أن يقال: إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب، كامِلَ العَقْلِ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض، وحين رُفع إلى السَّماء، وحين ينزل مرَّة أخرى؛ لقوله ﴿مَا دُمْتُ حَيّاً﴾.
قوله تعالى: ﴿مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ، وتقدمُ «ما» على «دام» شرطٌ في إعمالها، والتقدير: مُدَّة دوامِي حيَّاً، ونقل ابن عطيَّة عن عاصم، وجماعةٍ: أنهم قرءُوا «دُمْنُ» بضم الدَّالِ، وعن ابن كثيرٍ، وأبي عمرو، وأهْلِ المدينة: «دِمْتُ» بكسرها، وهذا لم نره لغيره، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ، ولا شكَّ أنَّ في «دَامَ» لغتين، يقالُ: دمت
59
تدوُمُ، وهي اللغةُ الغاليةُ، ودمتَ تدامُ؛ كخِفْتَ تخَافُ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ.
قوله تعالى: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي﴾ : العامَّةُ على فتح الباء، وفيه تأويلان:
أحدهما: أنه منصوبٌ نسقاً على «مباركاً» أي: وجعلني برَّا.
والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ، واختير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فصلاُ كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها.
قال الزمخشريُّ: جعل ذاتهُ برَّا؛ لفَرْط برِّه، ونصبه بفعل في معنى «أوْصَانِي» وهو «كَلَّفَنِي» لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة، وكلَّفَنِي بها واحدٌ.
وقُرئ «برَّا» بكسر الباء: إمَّا على حذفِ مضافٍ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر، وقد تقدَّم في البقرة: أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلِ، وحكى الزَّهْراوِيُّ، وأبو البقاء أنه قُرِئَ يكسر الباء، والراء، وتوجيهه: أنه نسقٌ على «الصَّلاة» أي: وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاة، وبالبرِّ، أو البرّ.

فصل فيما يشير إليه قوله «وبرَّا بوالدتي»


قوله: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي﴾ إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا؛ إذ لو كانت زانيةٌ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها؛ لأنه تأكَّد حقَّها عليه؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها.
قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى، جعله برًّا، وما جعله جبَّاراً، إنما يحسن لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً، وجعله [غير] برٍّ بأمِّه؛ فإن الله تعالى، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك، ومعلومٌ أنه - صلواتُ الله عليه وسلامهُ - إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ، ومعنى قوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً﴾ أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً متكبِّراً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً، كنتُ عاصياً شقياً.
قال بعضُ العلماء: لا تجد العاق إلا جباراً شقياً، وتلا: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ ولا تجد سيّئ الملكة إلا مختالاً فخُوراً، وقرأ: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ [النساء: ٣٦].
قوله تعالى: ﴿والسلام عَلَيَّ﴾ : الألف واللام في «السَّلام» للعهدِ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ﴾ [الآية: ١٥] فهو كقوله:
{كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً
60
فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: ١٥، ١٦] أي: ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ، وقال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والصحيحُ أن يكون هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متَّهِمِي مريم - عليها السلام - وأعدائها من اليهُود، وتحقيقه: أنَّ اللاَّم لاستغراق الجنس، فإذا قال: وجنسُ السَّلام عليَّ خاصَّة، فقد عرَّض بأنَّ ضدَّه عليكم، ونظيره قول موسى - صلوات الله عليه وسلامه -: ﴿والسلام على مَنِ اتبع الهدى﴾ [طه: ٤٧].
يعني: أنَّ العذاب على من كذَّب، وتولَّى، وكان المقام مقام اللَّجاج والعِنَاد، فيليق به هذا التعريضُ»
.

فصل في الفرق بين السلام على يحيى، والسلام على عيسى


رُوِيَ أن عيسى - صلواتُ الله عليه وسلامه - قال ليحيى: أنت خيرٌ منِّي؛ سلِّم الله عليك، وسلَّمتُ على نفسي. وأجاب الحسنُ، فقال: إن تسليمهُ على نفسه تسليمُ الله؛ لأنَّه إنَّما فعله بإذن الله.
قال القاضي: السَّلام عبارةٌ عمَّا يحصُل به الأمانُ، ومنه السَّلامةُ في النِّعم، وزوال الآفاتِ، فكأنَّه سأل ربَّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى، وأعظمُ احتياجِ الإنسانِ إلى السَّلامة في هذه الأحْوالِ الثلاثة، وهي يومُ الولادةِ، أي: السَّلامة عند الولادة من طَعْن الشَّيطان، ويومُ الموت، أي: عند الموت من الشَِّرك، ويومُ البعث من الأهوال.
قال المفسِّرون: لمَّا كلَّمهم عيسى بهذا، علمُوا براءةَ مريم، ثم سكت عيسى - صلوات الله عليه وسلامه -، فلَم يتكلَّم بعد ذلك حتّى بلغ المدَّة التي يتكلَّم فيها الصِّبْيَان.
قوله: «يومَ ولدتُ» منصوبٌ بما تضمنَّه «عَليَّ» من الاستقرار، ولا يجوزُ نصبه ب «السَّلام للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولهِ، وقرأ ويدُ بنُ عليٍّ» وَلَدَتْ «جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضمير مريم، والتاءُ للتأنيث، و» حَيَّا «حالٌ مؤكِّدةٌ.

فصل في الرد على اليهود والنصارى


اعلم أن اليهُود والنَّصارى يُنْكِرُونَ أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - تكلَّم في زمانِ الطفوليَّة؛ واحتجُّوا بأنَّ هذا من الوقائعِ العجيبة، التي تتوافرُ الدَّواعِي على نقلها، فلو وجدت، لنُقلتْ بالتَّواتر، ولو كان كذلكَ، لعرفهُ النَّصارى، لا سيَّما وهم أشدُّ النَّاسِ بحثاً عن أحواله، وأشدُّ النَّاسِ غُلُوَّا فيه؛ حتَّى ادعوا كونهُ إلهاً، ولا شكَّ أنَّ الكلام في الطفوليَّة من المناقب العظيمة، فلمَّا لم يعرفه النصارى مع شدَّة الحبِّ، وكمالِ البَحْثِ عنه، علمنا أنَّه لم يُوجَدْ؛ ولأنَّ اليهود أظهرُوا عداوتهُ حين ادَّعى النُّبُوَّة والرسالة، فلو أنَّه - صلوات الله عليه - تكلَّم في المَهْدِ، لكانت عداوتهم معه أشدَّ، ولكان قصدهم قتله أعظم، فحيثُ لم يحصُل شيءٌ من ذلك، علمنا أنَّه ما تكلَّم.
61
ثم إنَّها مع ذلك اتَّخذت من دُون أهلها حِجاباً.
قال ابنُ عباسٍ : سِتْراً، وقيل : جلست وراء جدارِ، وقال نقاتلٌ : وراء جبل.

فصل


اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها، فقيل " إنها لمَّا رأت الحيضَ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ، وتعودَ، فلما طهرتْ، جاءها جبريل -عليه السلام-.
وقيل : طلبت الخلوة للعبادة.
وقيل : تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها.
وقيل : كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل ؛ لتُفلِّي رأسها، فانفرج السَّقفُ لها، فخرجت في المشرقة وراء الجبل، فأتاها الملكُ.
وقيل : عطِشَتْ ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستسقي، وكل هذه الوجوه محتملة.
واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس، أو شرقيَّ دارها.
قال ابنُ عبَّاسٍ –رضي الله عنهما- : إنِّي لأعلمُ خلق الله، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةٌ ؛ لقوله :﴿ مَكَاناً شَرْقِياً ﴾ فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً، وهو قول الحسنِ -رحمه الله تعالى-.
قوله تعالى :﴿ فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا ﴾.
الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من " رُوحِنَا " وهو ما يَحْيون به، وقرأ١ أبو حيوة، وسهلٌ بفتحها، أي : ما فيه راحةٌ للعبادِ، كقوله تعالى :﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ ﴾ [ الواقعة : ٨٩ ] وحكى النقاس : أنه قُرِئ٢ " رُوحنَّا " بتشديد النُّون، وقال : هو اسمُ ملكٍ من الملائكة.
قوله :﴿ بَشَراً سويًّا ﴾ حالٌ من فاعل " تمَثَّل " وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً.

فصل في المراد بالروح


اختلفوا في هذا الرُّوح٣، فالأكثرون على أنَّه جبريل -صلوات الله عليه- لقوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾ [ الشعراء : ١٩٣ ] وسُمِّي روحاً ؛ لأنَّ الدِّين يحيى به.
وقيل : سُمِّي رُوحاً على المجازِ ؛ لمحبته، وتقريبه، كما تقول لحبيبك : رُوحِي.
وقيل : المرادُ من الرُّوح٤ : عيسى -صلوات الله عليه- جاء في صورة بشرٍ، فحملت به، والأول أصحُّ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد، حسن الوجه، جعد الشَّعْر، سويِّ الخلق وقيل : في صُورة تربٍ لها، اسمه يوسفُ، من خدم بيت المقدس.
قيل : إنما تمثَّل لها في صورة بشر ؛ لكي لا تنفر منه، ولو ظهر في صورةِ الملائكة، لنفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه، وهاهنا إشكالات :
الأول : أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن، فحينئذ ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس ؛ لاحتمالِ أن الملك، أو الجنِّي تمثَّل بصورته، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ، ولا يقال : هذا إنَّما يجوز في زمانِ [ جواز ]٥ البعثة، فأما في زماننا فلا يجوز.
لنا أن نقول : هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل، فالجاهلُ٦ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ.
الثاني : أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل -صلوات الله عليه- شخصٌُ عظيمٌ جدًّا، فذلك الشخصُ -كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء، وهو محالٌ.
الثالث : أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل -صلوات الله عليه- في صورة الآدمي، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ ؛ كالذُّباب، والبقِّ، والبعُوضِ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا، وهو باطلٌ.
الرابع : أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ، لم يكُن محمَّداً -صلوات الله عليه وسلامه- بل كان شخصاً يشبهه، وكذا القولُ في الكُلِّ.
والجوابُ عن٧ الأوَّل : أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر ؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه، وإذا جوَّزنا ذلك، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمْسِ، أم لا، ومن أنكر الصَّانع المختار، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب، وتشكُّلات الفلك، لزمه [ تجويزُ ]٨ أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور.
وعن الثاني : أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ -عليه السلام- له أجزاءٌ أصليَّةٌ، وأجزاءٌ فاضلةٌ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا ؛ فحينئذ : يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا، فإذا جعلناهُ روحانيًّا، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم، وأخرى بالهيكل الصَّغير.
وعن الثالث : أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع.
١ ينظر: الكشاف ٢/٩، والبحر ٦/١٧٠، والدر المصون ٤/٤٩٦..
٢ ينظر: البحر ٦/١٧٠، والدر المصون ٤/٤٩٦..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٦٧..
٤ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٩١..
٥ سقط من ب..
٦ في أ: فالحاصل..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٦٨..
٨ سقط من ب..
قوله :﴿ قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾.
أي : إن كان يرجى منك أن تتقي الله، فإنِّي عائذةٌ به منك ؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى، فهو كقول القائل : إن كنت مُسْلماً، فلا تظلمني، أي : ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور.
كقوله تعالى :﴿ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٧٨ ].
أي : أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا ؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ.
وقيل : كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء، اسمه تقيٌّ، فظنَّت مريمُ أنَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك، والأول أصحُّ. قوله :﴿ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾ جوابه محذوفٌ، أو متقدِّم.
قوله تعالى :﴿ لأهَبَ ﴾ : قرأ نافعٌ، وأبو عمرو١ " ليَهَبَ " بالياء والباقون " لأهَبَ " بالهمزة، فالأولى : الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ، أي : ليهبَ الرَّبُّ، وقيل : الأصلُ : لأهَبَ، بالهمز، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً ؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ، فتتفِقُ القراءتان، وفيه بعدٌ، وأمَّا الثانية، فالضميرُ للمتكلِّم، والمراد به الملكُ، وأسنده لنفسه ؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده : أن في بعض المصاحف :" أمرني أن أهب لك " ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف.
قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ﴾.

فصل


لما علم جبريلُ -صلوات الله عليه- خوفها، قال :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ ؛ ليزول عنها ذلك الخوف، ولكن الخوف لا يزولُ بمجرَّدِ هذا القول، بل لا بدَّ من دلالةٍ تدلُّ على أنه كان جبريل -صلوات الله عليه-، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجزٌ، عرفت به أنَِّه جبريلُ -صلوات الله عليه-، ويحتمل أنَّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريَّا -صلوات الله عليه- فلمَّا قال لها :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ أظهر لها من جسده ما عرفت به أنَّه ملكٌ ؛ فيكونُ ذلك هو العلمَ، والذي يظهر أنَّها كانت تعرفُ صفة الملك بالأمارات، حين كان يأتيها بالرِّزْق في المحراب، وقال لها زكريَّا :﴿ يا مريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ].
قوله :﴿ غُلاَماً زَكِيّاً ﴾ ولداً صالحاً طاهراً من الذُّنوب.
١ ينظر: السبعة ٤٠٨؛ والنشر ٢/٣١٧، والتيسير ١٤٨، والإتحاف ٢/٢٣٤، والحجة للقراء السبعة ٥/١٩٥، والحجة ٤٤٠، وإعراب القراءات ٢/١٤، والبحر ٦/١٧٠، والدر المصون ٤/٤٩٦..
﴿ قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾ إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً، وكيف، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة، ومن يكونُ كذلك، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.
فإن قيل : قولها ﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ كافٍ في المعنى، فلم قالت :﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾ فالجوابُ١ من وجهين :
أحدهما : أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال ؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] والزِّنَا، إنما يقال فيه : فجر بها، أو ما أشبهه.
والثاني : أن إعادتها ؛ لتعظيم حالها ؛ كقوله تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ]. فكذا هاهنا : إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ، فأغلظ أحوالها، إذا أتت بولدٍ : أن تكُون زانيةً، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكرم ؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه.
قوله تعالى :﴿ بَغْيًّا ﴾ : في وزنه قولان :
أحدهما -وهو قولُ المبرِّد- أنَّ وزنه " فُعُولٌ " والأصل " بَغُويٌ " فاجتمعت الياء، والواو، [ ففعل فيه ما هو معروفٌ ]٢، قال أبو البقاء٣ :" ولذلك لم تلحق تاءُ التأنيث ؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور " ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه " التمام " أنها فعيلٌ، قال :" ولو كانت فُعولاً، لقيل : بغُوٌّ، كما يقال : فلان نهُوٌّ عن المنكر " ولم يعقبه بنكير، ومن قال : إنها " فَعِيْلٌ " فهل هي بمعنى " فَاعِل " أو بمعنى " مَفْعُول " ؟ فإن كانت بمعنى " فاعل " فينبغي أن تكون بتاء التأنيث ؛ نحو : امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ، وقد أجيب عن ذلك : بأنها معنى النَّسب ؛ كحائضٍ وطالقٍ، أي ذات بغي، وقال أبو البقاء٤، حين جعلها بمعنى " فَاعِل " :" ولم تلحقِ التاءُ أيضاً ؛ لأنها للمبالغةِ " فجعل العلة في عدم اللحاقِ كون للمبالغة ؛ وليس بشيءٍ، وإن قيل بأنَّها بمعنى " مَفْعُول " فعدمُ الياءِ واضحٌ.
١ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٧٠..
٢ في أ: فأدغمت الواو في الياء..
٣ ينظر: الإملاء ٢/١١٢..
٤ ينظر: المصدر السابق..
وتقدم الكلامُ على قوله :﴿ قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ وهو كقوله في آل عمران ﴿ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ] لا يمتنعُ عليه ما يريدُ خلقه، ولا يحتاجُ في إنشائه إلى الآلاتِ والموادِّ.
قوله :﴿ ولنَجْعَلهُ ﴾ يجوز أن يكُون علَّةً، ومُعَلَّلُهُ محذوفٌ، تقديره : لنجعله آيةٌ للنَّاسِ فعلنا ذلك، ويجوز أن يكون نسقاً على علةٍ محذوفةٍ، تقديره : لنُبَيِّنَ به قدرتنا، ولنجعله آيةً، والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم " كان " مضمرٌ فيها، أي : وكان الغلام، أي : خلقه وإيجاده أمراً مقضياً : أي لا بُدَّ منه.
والمرادُ ب " الآية " العلامةُ، أي : علامة للنَّاسِ، ودلالةً على قُدْرتنا على أنواع الخلق ؛ فإنه تعالى خلق آدم -صلوات الله عليه وسلامه- من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حوَّاء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى -صلوات الله عليه- من أنثى بلا ذكرٍ، وخلق بقيَّة النَّاسِ من ذكرٍ وأنْثَى.
﴿ وَرَحْمَةً مِّنَّا ﴾ أي : ونعمةً لمنْ تبعه على دينه، ﴿ وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾ محكوماً مفروغاً منه، لا يُرَدُّ، ولا يُبَدَّلُ.
قوله تعالى :﴿ فَحَمَلَتْهُ فانتبذت ﴾.
قيل : إنَّ جبريل -صلوات الله عليه وسلامه- رفع درعها، فنفخ في جيبه، فحملتْ حين لبستْ.
وقيل : نفخ جبريلُ من بعيدٍ، فوصل الرِّيح إليها، فحملت بعيسى في الحالِ.
وقيل : إنَّ النَّفْخة كانت في فيها، فوصلت إلى بطنها.
وقيل : كان النَّافخُ هو الله تعالى ؛ لقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ [ التحريم : ١٢ ].
وظاهرهُ ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى ؛ ولأنه تعالى قال :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى ؛ لقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ [ الحجر : ٢٩ ] فكذا هاهنا، وإذا عرفت هذا، ظهر أن في الكلام حذفاً، تقديره :" فَنَفخَ فيها، فحملتهُ
قيل : حملتْ، وهي بنتُ [ ثلاثَ عشرة سنةً ]١.
وقيل : بنتُ عشرين، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال.
قوله تعالى :﴿ فانتبذت بِهِ ﴾ : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال، أي : انتبذتْ، وهو مصاحبٌ لها ؛ كقوله :[ الوافر ]
. . . *** تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبا٢
والمعنى : اعتزلت، وهو في بطنها ؛ كقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] أي : تنبتُ، والدُّهْنُ فيها.
﴿ مَكَاناً قَصِيّاً ﴾ : بعيداً من أهلها.
قال ابن عبَّاس٣ -رضي الله عنهما- : أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم ؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج٤.
واختلفوا في علَّة الانتباذِ٥ ٦ ؛ فروى الثعلبيُّ في " العَرَائِسِ " عن وهب قال : إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى -صلوات الله عليه- كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى " يُوسُفَ النَّجَّار "، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند " جَبَلِ صُهْيُون "، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ، فتحير في أمرها، فكلَّما أراد أن يتَّهمها، ذكر صلاحها، وعبادتها، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ ؛ فقال : إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ، فغلبني ذلك، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت : قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً.
قال : أخبرني يا مريمُ، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بِذْرٍ ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ ؟ وهَلْ يَكُونُ ولد من غَيْرِ ذكرٍ ؟ قالتْ : نَعَمْ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ.
ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجَرَةَ بغير غَيْثٍ، وبالقُدْرَةِ جعل الغَيْثَ حياةُ الشَّجرةِ، بعدمَا خَلَقَ الله كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ ؟ أو تقُول : إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ، ولوْلاَ ذلكَ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها ؟ !.
قال يُوسفُ : لا أقُولُ هذا، ولكنِّي أقُولُ : إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ، فيقُول : كُنْ فَيَكُونَ، فقالت لهُ مريمُ : أو لَمْ تعلمْ أنَّ خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ، ولا أنثى، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها ؛ بسبب الحَمْلِ، وضيق القَلْبِ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ، وأدْركهَا النِّفاسُ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ، وذلك في زمانِ بردٍ، فاحتضنتها، [ فوضعت ]٧ عندها. وقيل : إنَّها استحيت من زكريَّا، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا، صلوات الله عليه-.
وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ ؛ لنذْرِ أمِّهَا، وتشاجَّ الأنبياء في تربيتها، وتكفُّل زكريَّا بِهَا، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحيتْ من هذه الواقعةِ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ.
وقيل : خافت على ولدها من القَتْل، لو ولدته بين أظهرهم. وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها.

فصل في بيان حمل مريم


اختلفُوا في مدَّة حملها، فرُوي عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- أنَّها تسعة أشهر ؛ كسائر النسِّاء١ في الغالب.
وقيل : ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى ؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى " صلوات الله عليه-.
وقال عطاءٌ، وأبو العالية، والضحاك : سبعةُ أشهر٢ وقيل : ستَّةُ أشهر.
وقال مقاتلُ بنُ سليمان : ثلاثُ ساعاتٍ، حملت به في ساعةٍ، وصُوِّر في ساعةٍ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها٣.
وقال ابنُ عبَّاس : كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة٤، ويدلُّ عليه وجهان :
الأول : قوله :﴿ فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ ﴾ ﴿ فَأَجَآءَهَا المخاض ﴾ ﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾، والفاء : للتعقيب ؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال : انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ ؛ لأنَّا نقول : السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها.
الثاني : أنَّ الله تعالى قال في وصفه ﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ]، فثبت أن عيسى -صلواتُ الله عليه- كما قال الله تعالى :" كُنْ " فكان، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة.
والقَصيُّ : البعيدُ.
يقال : مكانٌ قاصٍ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ ؛ مثل : عاصٍ وعَصِيٍّ.
١ في ب: عشر..
٢ تقدم..
٣ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٩٢..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/١٩٢) عن ابن عباس..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٧٢..
٦ ينظر: تفسير الرازي (٢١/١٧٢)..
٧ في ب: فولدت..
قوله تعالى :﴿ فَأَجَآءَهَا ﴾ : الأصلُ في " جَاءَ " : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دلت عليه الهمزة، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين، قال الزمخشريُّ :" إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك لا تقول : جئتُ المكانَ، وأجاءنيه زيدٌ ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه، ونظيرهُ " آتى " حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ ".
وقال أبو البقاء٥ : الأصلُ " جَاءَهَا " ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واستعمل بمعنى " ألْجَأها ".
قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ " أجَاءَهَا " [ استعمل ]٦ بمعنى " ألْجَأهَا " يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ، فتصلحُ لما هو بمعنى " الإلْجَاءِ " ولما هو بمعنى " الاختيار " كما تقول :" أقَمْتُ زَيْداً " فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً، وأمَّا قوله :﴿ ألا تراكَ لا تقُولُ ﴾ إلى آخره، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ، أجاز ذلك، وإن لم يسمعْ، ومن منع، فقد سمع ذلك في " جَاءَ " فيجيزُ ذلك، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب " أتى " فليس تنظيراً صحيحاً ؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية، وأنَّ أصله " آتى " بل " آتى " ممَّا بُنِي على " أفْعَل " ولو كان منقولاً من " أتى " المتعدِّي لواحد، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأوَّل، إذا عدَّيته بالهمزة، تقولُ :" أتى المالُ زيداً " و " آتى عمروٌ زيداً المالَ " فيختلفُ التركيبُ بالتعدية ؛ لأنَّ " زَيْداً " عند النحويِّين هو المفعول الأول، و " المال " هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ، كان يكون العكس، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله، وأيضاً، ف " أتى " مرادفٌ ل " أعْطَى "، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى، وقوله :" ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ، وآتانيه " هذا غيرُ مسلمٍ، بل تقول :" أتَيْتُ المَكَانَ " كما تقول :" جِئْتُ المكانَ " وقال الشاعر :[ الوافر ]
أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا٧
ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً، قال :" آتانيه " قال شهاب الدين : وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ -رحمه الله- معه ظاهرةُ الأجوبة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها.
وقرأ الجمهورُ " فأجَاءَهَا " أي : ألْجَأهَا وساقها، ومنه قوله :[ الوافر ]
وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ٨
وقرأ٩ حمَّادُ بن سلمة " فاجَأهَا " بألفٍ بعد الفاء، وهمزة بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة " قابلها " ويقرأ١٠ بألفين صريحتين ؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ.
والجمهورُ على فتح الميم من " المَخَاض " وهو وجعُ الولادةِ، ورُوِيَ عن ابن كثير١١ بكسر الميم، فقيل : هما بمعنى، وقيل : المفتوح : اسمُ مصدر ؛ كالعطاءِ والسلامِ، والمكسورُ مصدرٌ ؛ كالقتال واللِّقاء، والفعالُ : قد جاء من واحد ؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ، قاله أبو البقاء١٢، والميم أصليةٌ ؛ لأنه من " تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ ".
و " إلى جذْعِ " يتعلق في قراءة العامَّة ب " أجَاءَهَا " أي : ساقها إليه.
وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من المفعول، أي : فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ.

فصل في معنى الآية


المعنى : ألْجَأهَا المخاض، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة ؛ لتستند إليها، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء، ولم يكُن لها سعفٌ، ولا خُضْرة، والتعريف فيها : إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة ؛ كتعريف النّجم [ والصَّعق ]١٣ أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس.
فإن قيل : جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ، أي : إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً ؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة ؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح، وإذا قُطِعَ رأسُها، لم تُثْمِرْ، فكأنَّ الله تعالى قال : كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر، فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح ؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر. ﴿ قَالَتْ يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا ﴾ تمنَّت الموت.
فإن قيل : كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل -صلوات الله عليه- ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين.
فالجوابُ من وجوه :
الأول : تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى -صلوات الله عليه-.
الثاني : أنَّ عادة الصَّالحين -رضي الله تعالى عنهم- إذا وقعُوا في بلاءٍ : أن يقُولُوا ذلك، كما رُوِيَ عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه [ نظر إلى طائرٍ ]١٤ على شجرة، فقال : طُوبى لَكَ، يا طَائِر ؛ تقعُ على الشَّجرِ، وتأكُلُ من الثَّمَر، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ١٥.
وعن عُمر -رضي الله عنه- أنَّه أخذ تبنة من الأرض، فقال : يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ، يا لَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً١٦.
وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل : لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة١٧.
وعن بلالٍ -رضي الله عنه- : ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ١٨.
فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم.
الثالث :-لعلَّها قالت ذلك ؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به.
قوله تعالى :﴿ نَسْياً ﴾ الجمهور على النون وسكون السين، وبصريح الياء بعدها، وقرأ١٩ حمزة وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسور " فِعْل " بمعنى " مَفْعُولٍ " كالذَّبح والطَّحن، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى ؛ كالوتد، والحبلِ، وخرقةِ الطَّمْثِ، ونحوها. تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة.
قال ابن الأنباري -رحمه الله- :" من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى، كالنَّقص ؛ اسمٌ لما ينقصُ، والمفتوحُ : مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف " وقال في الفرَّاء : هما لغتان ؛ كالوَتْر والوِتْر، والكسرُ أحَبُّ إليَّ ".
وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ " نِسْئاً " بكسر٢٠ النون، والهمزةُ بدل الياء، وروي عنه أيضاً، وعن بكر بن حبيب٢١ السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة، قالوا : وهو من نسأتُ اللَّبن، إذا صببت فيه ماءً، فاستهلك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك، والمفتوحُ مصدرٌ ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ.
ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ " نَساً " بفتح النون، والسين، والقصر ؛ ك " عَصاً "، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض.
و " منْسِيًّا " نعتٌ على المبالغة، وأصله " مَنْسُويٌ " فأدغم، وقرأ٢٢ أبو جعفرٍ، والأعمشُ " مِنْسيًّا " بكسر الميم ؛ للإتباع لكسرة السين، ولم يعتدُّوا بالساكن ؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ ؛ كقولهم :" مِنْتِنٌ " و " مِنْخِرٌ "، والمقبرة والمحبرة.
٥ ينظر: الإملاء ٢/١١٢..
٦ سقط من أ..
٧ البيت لشمر بن الحارث وقيل لغيره ينظر: شواهد الكتاب ٢/٤١١، الخصائص ١/١٢٩، المقتضب ٢/٣٠٦، شرح المفصل لابن يعيش ٢/٢٥٧، الأشموني ٤/٩١، المقرب ١/٣٠٠، الهمع ٢/٢٥٧، التصريح ٢/٢٨٣، البحر ٦/١٧٢، الدر المصون ٤/٤٩٨..
٨ البيت لزهير. ينظر: ديوانه (٢٩) شرح ديوان الحماسة ١/٣٠٢، البحر ٦/١٧٢، القرطبي ١١/٦٣، مجاز القرآن ٢/٤، روح المعاني ١٦/٨١، الدر المصون ٤/٤٩٨..
٩ ينظر في قراءاتها: المحتسب ٢/٣٩، والشواذ ٨٤، والقرطبي ١١/٦٣، والبحر ٦/١٧٢، والدر المصون ٤/٤٩٧..
١٠ نسبها ابن خالويه في الشواذ إلى حماد بن سليمان عن عاصم..
١١ ينظر: القرطبي ١١/٦٣، والبحر ٦/١٧٢، والدر المصون ٤/٤٩٨..
١٢ ينظر: الإملاء ٢/١١٢..
١٣ في ب: وابن الصعق..
١٤ في ب: رأى طائرا..
١٥ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢١/١٧٣)..
١٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢١/١٧٣، ١٧٤)..
١٧ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢١/١٧٤)..
١٨ ينظر: المصدر السابق..
١٩ ينظر: السبعة ٤٠٨، والنشر ٢/٣١٨، والحجة ٤٤١، والتيسير ١٤٨، والحجة للقراء السبعة ٥/١٩٦، وإعراب القراءات ٢/١٥، والإتحاف ٢/٢٣٥..
٢٠ ينظر: المحتسب ٢/٤٠، والقرطبي ١١/٦٣، والبحر ٦/١٧٢، والدر المصون ٤/٤٩٨..
٢١ ينظر: القرطبي ١١/٦٣، والبحر ٦/١٧٢، والدر المصون ٤/٤٩٨..
٢٢ ينظر: الكشاف ٣/١٢، والبحر ٦/١٧٣، والدر المصون ٤/٤٩٨..
قوله تعالى :﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾ : قرأ١ الأخوان، ونافع، وحفص بكسر ميم " مِنْ " وجرِّ " تحتها " على الجار والمجرور، والباقون بفتحها، ونصب " تحتها " فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في " نَادَى " مَكراً، وفيه تأويلان :
أحدهما : هو جبريلُ، ومعنى كونه " مِنْ تحتها "، أنه في مكانٍ أسفل منها ؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ٢ ابن عبَّاس " فناداها ملكٌ من تحتها " فصرَّح به.
ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ، وهناك مبدأ معيَّنٌ، وهو عند النَّخْلة، وجبريلُ بعيدٌ عنها، فكل من كان أقرب، كان فوق، وكُلُّ من كان أبعد، كان تحت، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى :﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ١٠ ].
ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي.
وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ، وجبريل أسفل ؛ قاله عكرمة.
ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة٣.
و " مِنْ تَحْتهَا " على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بالنداء، أي : جاء النداء من هذه الجهة.
والثاني : أنه حالٌ من الفاعل، أي : فناداها، وهو تحتها.
وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى، أي : فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها، والجارُّ فيه الوجهان : من كونه متعلَّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ، والثاني أوضحُ.
والقراءة الثانية : تكونُ فيها " مَنْ " موصولةً، والظرفُ صلتها، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
وقرأ زئرٌّ، وعلقمةُ :" فَخَاطَبَهَا " مكان " فَنَادَاها ".

فصل في اختلافهم في المنادي


قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى -صلوات الله عليه٤- وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ، وقتادةُ، والضحاكُ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل -صلوات الله عليه٥- وكانت مريمُ على أكمة [ وجبريل ]٦ وراء الأكمةِ تحتها.
وقال ابن عيينة، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ :
الأول : أن قوله :﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾ بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى -صلوات الله عليه- فوجب حملُ اللفظ عليه، وأما قراءة كسر الميم، فلا تقتضي كون المنادي " جبريل " صلواتُ الله عليه.
الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ.
الثالث : أن قوله ﴿ فَنَادَاهَا ﴾ فعلٌ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل، وعيسى -صلوات الله عليهما-، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ ؛ لقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَحَمَلَتْهُ فانتبذت ﴾ والضمير عائدٌ إلى المسيح، فكان حمله عليه أولى.
الرابع : أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لو لم يكُن كلَّمها، لما علمتْ أنه ينطقُ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام.

فصل في معنى الآية على القولين


من قال : المُنادِي : هو عيسى، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطقه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها، وإزالةً للوحشة عنها ؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشّرها به جبريل -صلوات الله عليه- من عُلُوِّ شأن ذلك الولد.
ومن قال : المنادي هو جبريلُ -صلوات الله عليه- قال : إنه أرسل إليها ؛ ليناديها بهذه الكلمات ؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر ؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة.
قوله :﴿ ألاَّ تَحْزَنِي ﴾ يجوز في " أنْ " أن تكون مفسرةً ؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول، و " لا " على هذا : ناهيةٌ، حذف النون للجزم ؛ وأن تكون الناصبة، و " لا " حينئذٍ نافيةٌ، وحذفُ النُّون للنَّصْب، ومحلُّ " أنْ " إمَّا نصب، أو جرٌّ ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ، أي : فَنَادَاهَا بكذا، والضميرُ في " تحتها " : إمَّا لمريم -صلوات الله عليها- وإمَّا للنَّخلة، والأول أولى ؛ لتوافق الضميرين.
قوله تعالى :[ ﴿ سَرِيًّا ﴾ ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل، و " تَحْتك " مفعولٌ ثان ؛ لأنها بمعنى صيَّر " ويجوز أن تكون بمعنى " خلق " فتكون " تَحْتَكِ " لغواً.
والسَّرِيُّ : فيه قولان :
أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر، من " سَرُوَ يَسْرُو " ك " شَرُفَ، يَشْرَفُ " فهو سريٌّ، وأصله سَرِيوٌ ؛ فأعلَّ سيِّدٍ، فلامهُ واوٌ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم -صلوات الله عيله-، ويجمعُ " سريٌّ " على " سراة " بفتح السين، وسُرَواء ؛ كظرفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جمعه " أسْرِيَاء " كغَنِيِّ، وأغنياء، وقيل : السَّرِيُّ : من " سَرَوْتُ الثَّوبَ " أي : نزعتهُ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس، أي : نزعتهُ ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه ؛ بخلاف المُدَّثِّر، والمُتزمِّل، قاله الراغب٧.
والثاني : أنه النَّهْر الصغير، ويناسبه " فكُلِي واشْرَبِي " واستقاقه من " سَرَى، يَسْرِي " لأن الماء يَسْري فيه، فلامه عهدى هذا ياء ؛ وأنشدوا للبيدٍ :[ الرجز ]
فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا٨

فصل


قال الحسن، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ٩.
يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه، أي : من أشرافهم، وروي أن الحسن رجع عنه.
وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ -رضي الله عنه- :﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ﴾.
فقال : إن كان لسربًّا، وإن كان لكريماً، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد، إنما هو الجدول، فقال له الحسنُ " مِنْ ثمَّ [ تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ " ١٠ ]١١.
واحتجَّ من قال : هو النَّهر " بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن السَّريِّ، فقال -صلوات الله عليه وسلامه١٢- هو الجدولُ " وبقوله سبحانه وتعالى :﴿ فَكُلِي واشربي ﴾ فدلَّ على أنَّه على أنَّه النَّهر ؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب، فتأكل وتشرب.
واحتجَّ من قال : إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها، بل إلى جنبها، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها، ويقف بأمرها ؛ لقوله :﴿ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا ﴾ [ الزخرف : ٥١ ] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه، ولو حملناه على عيسى، لم يحتج إلى هذا المجاز.
وأيضاً : فإنَّه موافقٌ لقوله :﴿ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [ المؤمنون : ٥٠ ].
وأجيب١٣ : بما تقدَّم أن المكان المستوي، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّنٌ، فكلُّ من كان أقرب منه، كان فوق، وكل من كان أبعد منه، كان تحت.

فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر


إذا قيل : إنَّ السَّرِيَّ : هو النَّهْر، ففيه وجهان :
الأول : قال ابنُ عبَّاس -رضي الله عنهما- : إنَّ جبرائيل -صلواتُ الله عليه وسلامه -ضرب برجله الأرض١٤.
وقيل : عيسى ؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ، وجرى.
وقيل : كان هناك ماءٌ جارٍ ؛ والأول أقربُ ؛ لأن قوله ﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ﴾ يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت ؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه.
وقيل : كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء، وحيث النخلة اليابسة، فأورقتْ، وأثمرتْ، وأرطبتْ.
قال أبو عبيدة والفَّراء : السَّريُّ : هو النَّهْرُ مطلقاً.
وقال الأخفشُ : هو النَّهْرُ الصَّغير.
١ ينظر: السبعة ٤٠٨، والنشر ٢/٣١٨، والتيسير ١٤٨، والحجة ٤٤١، والحجة للقراء السبعة ٥/١٩٦، ١٩٧، وإعراب القراءات ٢/١٦، والإتحاف ٢/٢٣٥..
٢ ينظر: البحر ٦/١٧٣، والدر المصون ٤/٥٨٣..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٧٥..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٢) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٢) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٢) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وعن الحسن وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٧ ينظر: المفردات ٢٣١..
٨ من معلقته، ينظر: ديوانه ١٧٠، شرح القصائد العشر ٢٧٢، الطبري ١٦/٥٤، البحر المحيط ٦/١٦٢، القرطبي ١١/٦٤، روح المعاني ١٦/٨٣، اللسان "سجر"، الدرالمصون ٤/٤٩٩..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٨/٣٣٠) عن الحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٢) وعزاه إلى ابن أبي حاتم..
١٠ في ب: تعجبنا مجالسك..
١١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٣) وعزاه إلى عبد بن حميد..
١٢ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/٥٧) عن البراء مرفوعا وعزاه إلى الطبراني في "الصغير" وقال: وفيه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٣) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
وفي الباب عن ابن عمر: ذكره الهيثمي في "المجمع" (٧/٥٧ – ٥٨) وقال: رواه الطبراني وفيه يحيى ابن عبد الله البابلتي وهو ضعيف.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٣) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن النجار..

١٣ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٧٥..
١٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/١٩٣)..
قوله تعالى :﴿ وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة ﴾ : يجوز أن تكون الباءُ في " بِجِذْعٍ " زائدة، كهي في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] [ وقوله ] :
. . . ***. . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ١
وأنشد الطبريُّ -رحمة الله تعالى- :[ الطويل ]
بِوَادٍ يمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صدْرُهُ *** وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَانِ٢
أي : ينبت المرخ أي : هُزِّي جذْعَ النَّخلةِ.
أو حركي جذْعَ النَّخلة. قال الفرَّاء : العربُ تقول : هزَّهُ، وهزَّ به، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام، وزوَّجتُك فلانة، وبفُلانةٍ ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوف، تقديره : وهُزِّي إليك رُطباً كائناً بجذع النخلة، ويجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى ؛ إذ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هزِّ الجِذْع، أي : انفُضِي الجِذْع، وإليه نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال :" أو افْعَلِي الهَزَّ " ؛ مقوله :[ الطويل ]
. . . *** يَجْرَحْ فِي عَراقِيبِهَا نَصْلِي٣
قال أبو حيَّان : وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى :﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾ [ القصص : ٣٢ ] ما يردُّ على القاعدة المقرَّرةِ في علم النَّحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتَّصل إلى ضميره المتَّصلِ، إلاَّ في باب " ظنَّ " وفي لَفْظَتَيْ " فَقَدَ، وعدِمَ " لا يقالُ : ضربْتُكَ، ولا ضَرَبْتُني، أي : ضَربْتَ أنْتَ نَفْسَكَ، وضَربْتُ أنَا نفسي، وإنما يؤتى في هذا بالنَّفْسِ، وحكمُ المجرور بالحرف المنصوب ؛ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هزَّ إليه ؛ ولذلك جعل النحويُّون " عَنْ " و " عَلَى " اسمين في قول امرئ القيس :[ الطويل ]
دَعْ عَنْكَ نَهْباً صيحَ في حُجُراتِهِ *** ولكِنْ حدياً ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ٤
وقول الآخر :[ المتقارب ]
هَوِّنْ عليمَ فإنَّ الأمُورَ *** بكَفِّ الإلهِ مقاديرُهَا٥
وقد ثبت بذلك كونهما اسمين ؛ لدُخُولِ حرفِ الجرِّ عليهما في قوله :[ الطويل ]
غَدَتْ من عليْهِ بعدما تمَّ ظمؤهَا *** تَصِلُ وعن قَيْضٍ بِبَيْدَاءَ مَجْهَلِ٦
وقول الآخر :[ البسيط ]
فَقُلْتُ للرَّكْبِ لمَّا أن عَلا بِهِمُ *** مِنْ عَنْ يمينِ الحُبَيَّا نظرةٌ قَبْلُ٧
وأمَّا " إلى " فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أن تكون اسماً ؛ ك " عَنْ " و " عَلَى " ثم أجاب : بأنَّ " إليكِ " في الآيتين لا تتعلقُ بالفعل قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان، تقديره :" أعني إليك " قال :" كما تأولوا ذلك في قوله :﴿ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾ [ الأعراف : ٢١ ] في أحد الأوجه ".
قال شهاب الدين -رضي الله تعالى عنه- : وفيه ذلك جوابان آخران :
أحدهما : أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل، إنما هو من حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضمير محلٌّ له ؛ نحو :" دَعْ عنْكَ " و " هوِّنْ عليْكَ " وأمَّا الهزُّ والضمُّ، فليسا واقعين بالكاف، فلا محذور.
والثاني : أنَّ الكلام على حذف مضافٍ، تقديره : هُزِّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك.

فصل في المراد بجذع النخلة


قال [ القفال ]٨ ٩ : الجِذْعُ من النَّخلة : هو الأسفل، وما دُون الرَّأس الذي عليه الثَّمرة.
وقال قطربٌ : كُلُّ خشبة في أصل شجرة، فهي جذعٌ.
قوله :" تُسَاقِطْ " قرأ حمزةُ١٠ " تَسَاقَطْ " بفتح التاء، وتخفيف السين، وفتح القاف، والباقون -غير حفص- كذلك إلا أنَّهم شدَّدُوا السِّين، وحفصٌ، بضم التاء، وتخفيف السين، وكسر القاف.
فأصلُ قراءةِ غير حفص " تتساقطْ " بتاءين، مضارع " تَساقَطَ " فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفاً ؛ نحو :﴿ تَنَزَّلُ ﴾ [ القدر : ٤ ] و ﴿ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ]، والباقون أدغمُوا في السِّين، وقراءة حفص مضارعُ " سَاقَطَ ".
وقرأ الأعمش، والبراء [ بنُ عازبٍ ] " يَسَّاقَطْ " كالجماعة، إلا أنه بالياء من تحتُ، أدغم التاء في السِّين ؛ إذ الأصلُ :" يتساقَط " فهو مضارعُ " اسَّاقَطَ " وأصله " يَتَساقَطُ " فأدغمَ، واجتلبتْ همزة الوصل ؛ ك " ادَّارَأ " في " تَدَارَأ ".
ونْقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ :
وافقهُ مسروقٌ في الأولى، وهي " تُسْقِطْ " بضم التاء، وسكون السين، وكسر القاف من " أسْقَطَ ".
والثانية : كذلك إلا أنه بالياء من تحتُ.
الثالثةُ كذلك إلاّ أنه رفع " رُطَباً جَنِيًّا " بالفاعلية.
وقُرِئَ١١ " تَتَسَاقَط " بتاءين من فوقُ، وهو أصل قراءة الجماعة، وتَسْقُط ويَسْقُط، بفتح التاء والياء، وسكون السين، وضمِّ القاف، فرفعُ الرطب بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة، ومن قرأ بالتاء من فوق، فالفعل مسندٌ : إمَّا للنَّخلة، وإمَّا للثمرةِ المفهومة من السياق، وإمَّا للجذْعِ، وجاز تأنيثُ فعله ؛ لإضافته إلى مؤنَّث ؛ فهو كقوله :[ الطويل ]
. . . *** كَمَا شَرقَتْ صَدْرُ القناةِ مِن الدَّمِ١٢
وكقراءة ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة ﴾ [ يوسف : ١٠ ] ومن قرأ بالياء من تحت، فالضميرُ للجذْعِ، وقيل : للثَّمر المدلول عليه بالسيِّاق.
وأمَّا نصب " رُطَباً " فلا يخرجُ عن كونه تمييزاً، أو حالاً موطِّئة، إن كان الفعل قبله لازماً، أو مفعولاً به، إن كان الفعل متعدِّياً، [ والذَّكِيُّ ] يردُّ كلَّ شيءٍ إلى ما يليقُ به من القراءات، وجوَّز المبرِّد في نصبه وجهاً غريباً : وهو أن يكون مفعولاً به ب " هُزِّي " وعلى هذا، فتكون المسألةُ من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أن يكون الفعل فيها متعدِّياً، وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، للحذف من الأوَّل.
وقرأ١٣ طلحة بن سليمان " جنيًّا " بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون.
والرُّطبُ : اسم جنسٍ برطبة ؛ بخلاف " تُخَم " فإنَّه جمعٌ لتخمة، والفرقُ : أنهم لزمُوا تذكيرهُ، فقالوا : هو الرطبُ، وتأنيث ذاك، فقالوا : هي التُّخَمُ، فذكَّرُوا " الرُّطَب " باعتبار الجنس، وأنَّثُوا " التُّخَمَ " باعتبار الجمعيَّة، وهو فرقٌ لطيفٌ، ويجمعُ على " أرطابٍِ " شذوذاً كربع وأرباع، والرُّطب : ما قطع قبل يبسه وجفافه، وخصَّ الرُّطب بالرُّطبِ من التَّمر، وأرطبَ النَّخْلُ ؛ نحو : أتْمَرَ وأجْنَى.
والجَنِيُّ : ما طاب، وصلح للاجتناء، وهو " فَعِيلٌ " بمعنى مفعول أي رُطَباً مَجنيًّا، وقيل : بمعنى فاعلٍ، أي : طريًّا، والجنى والجنيُّ أيضاً : المُجْتَنَى من العسلِ، وأجْنَى الشَّجَرُ : أدْرَكَ ثمرهُ، وأجنتِ الأرضُ : كَثُرَ جناها، واستعير من ذلك " جنى فلانٌ جنايةً " كما استعير " اجْتَرَمَ جَريمَةً ".
١ تقدم..
٢ البيت للأحوال اليشكري وقيل لغيره، ينظر: مجاز القرآن ٢/٤٨، البحر ٦/١٧٤، القرطبي ١٢/٢٥، التهذيب "هشم"، اللسان "شبه"، الدر المصون ٤/٥٠٠..
٣ تقدم..
٤ تقدم..
٥ تقدم..
٦ تقدم..
٧ البيت للقطامي ينظر: ديوانه (٥)، شرح المفصل لابن يعيش ٨/٤١، المقرب ١/١٩٥، اللسان "عنن"، الدر المصون ٤/٥٠٠..
٨ في ب: الفقهاء..
٩ في أ: الفقهاء..
١٠ ينظر في قراءاتها: السبعة ٤٠٩، والتيسير ١٤٩، والنشر ٢/٣١٨، والحجة ٤٤٢، والمحتسب ٢/٤٠، والحجة للقراء السبعة ٥/١٩٧، ١٩٨، وإعراب القراءات ٢/١٦، ١٧، والإتحاف ٢/٢٣٥، والقرطبي ١١/٦٤، والبحر ٦/١٧٥..
١١ هي قراءة أبي السّمال: ينظر: الشواذ ٨٤، والدر المصون ٤/٥٠١، والبحر ٦/١٧٥..
١٢ تقدم..
١٣ ينظر: المحتسب ٢/٤١، والبحر ٦/١٧٥، والدر المصون ٤/٥٠١، والكشاف ٣/١٤..

فصل في معنى الآية


المعنى جمعنا لك بين الشُّرب والأكل.
قال عمروُ بنُ ميمُون : ليس شيءٌ خيرٌ من الثَّمر والرُّطب، ثم تلا هذه الآية.
وقال بعضُ العلماءِ : أكْلُ الرُّطبِ والثَّمرةِ للمرأةِ الَّتي ضربها الطَّلق يُسَهِّل عليها الولادة.
قال الرَّبيعُ بنُ خيثمٍ " ما للنُّفساءِ عندي خيرٌ من الرُّطب، ولا للمرضِ خيرٌ من العسل١.
قالت المعتزلةُ : هذه الأفعال الخارقةُ للعادةِ كانت معجزة لزكريَّا وغيره من الأنبياء ؛ وهذا باطلٌ ؛ لأنَّ زكريَّا -صلوات الله عليه وسلامه- ما كان له علمٌ بحالها ومكانها، فكيف بتلك المعجزات ؟ بل الحقُّ أنها كانت كراماتٍ لمريم، أو إرهاصاً لعيسى- صلوات الله عليهما-، لأنَّ النَّخلة لم تكُن مثمرةً، إذا ذاك ؛ لأن ميلادهُ كان في زمان الشتاء، وليس ذاك وقت ثَمر.
قوله تعالى :﴿ وَقَرِّي عَيْناً ﴾ : نصب " عًيْناً " على التمييز منقولٌ من الفاعل ؛ إذ الأصل : لتقرَّ عينُك، والعامَّة على فتح القاف من " قَرِّي " أمراً من قرَّت عينهُ تَقَرَّ، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع.
وقُرئ٢ بكسر القاف، وهي لغةُ نجدٍ ؛ يقولون : قرَّت عينهُ تقرُّ، بفتح العين في الماضي، وكسرها في المضارع، والمشهورُ : أن مكسور العين في الماضي ل " العَيْنِ "، والمفتوحها في " المَكَان " يقال : قررتُ بالمكانِ اقرُّ به، وقد يقال : قررتُ بالمكانِ بالكسر، وسيأتي ذلك في قوله تعالى ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ].
وفي وصف العين بذلك تأويلان :
أحدهما : أنَّه مأخوذٌ من " القُرّ " وهو البردُ : وذلك أنَّ العين، إذا فرح صاحبها، كان دمُعها قارًّا، بارداً، وإذا حزن، كان حارًّا ؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه :" أسْخَنَ اللهُ عيْنَهُ " وفي الدعاء له :" أقر اللهُ عيْنه " وما أحلى قول أبي تمَّام -رحمه الله تعالى- :[ الطويل ]
فأمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فأسْخِنَتْ وأمَّا عُيونُ الشَّامتينَ فقرَّتِ٣
والثاني : أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى : أعطاه الله ما يسكِّنُ عينه فلا تطمحُ إلى غيره.
المعنى : فكلي من الرطب واشربي من النهر " وقرّي عيناً " وطيبي٤ نفساً، وقدَّم الأكل على الشرب ؛ لأن حاجة النُّفساء، إلى الرُّطب أشدُّ من احتياجها إلى شرب الماء ؛ لكثرة ما سال منها من الدَّم، قيل :" قَرِّي عيْناً " بولدك عيسى، وتقدَّم معناه.
فإن قيل : إن مضرَّة الخوف أشدُّ من مضرَّة الجُوع والعطشِ ؛ لأنَّ الخَوْفَ ألمُ الرُّوح، والجُوع ألمُ البدنِ، وألم الرُّوح أقوى من ألم البدنِ، يروى أنَّه أجيعتْ شاةٌ، فقُدِّم إليها علفٌ، وعندها ذئبٌ، فبقيت الشَّاة مدَّة مديدة لا تتناول العلف، مع جوعها ؛ خوفاً من الذئب، ثم كسر رجلها، وقدم العلفُ إليها، فتناولت العلف، مع ألم البدن ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ألم الخوف أشدُّ من ألم البدنِ، وإذا كان كذلك، فلم قدَّم دفع ضرر الجُوع والعطش على دفع ضرر الخوف ؟.
فالجوابُ : لأنَّ هذا الخوف كان قليلاً ؛ لأنَّ بشارة جبريل -صلوات الله عليه- كانت قد تقدَّمت، فما كانت تحتاجُ إلى التَّذكرة مرَّة أخرى.
قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ ﴾ دخلت " إن " الشرطيةُ على " ما " الزائدةِ للتوكيد، فأدغمتْ فيها، وكتبتْ متَّصلة، و " تَرَينَّ " تقدَّم تصريفه.
أي :" أن تري "، فدخلت عليه نونُ التَّوكيد، فكسرتِ الياءُ، لالتقاء الساكنين.
معناه : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً، فسألك عن ولدكِ والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة، وقرأ أبو عمروٍ في رواية " ترَئِنَّ " بهمزة مكسورة بدل الياء، وكذلك رُوي عنه٥ " لتَرؤنَّ " بإبدالِ الواو همزةً، قال الزمخشري :" هذا من لٌغةِ من يقولُ : لبَأتُ بالحَجِّ، وحلأتُ الَّسويقَ " -يعني بالهمز- وذلك لتآخ بين الهمز وحروف اللِّين " وتجَرَّأ ابنُ خالويه على أبي عمروٍ ؛ فقال :" هو لَحْنٌ عند أكْثَرِ النَّحويِّين ".
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ، وشيبةُ، وطلحةُ٦ " تَرَيْنَ " بياءٍ ساكنة، ونون خفيفة، قال أبن جني :" وهي شاذَّةٌ ". قال شهاب الدين : لأنَّه كان ينبغي أن يؤثِّر الجازمُ، فيحذف نون الرفع ؛ كقُول الأفوهِ :[ السريع ]
إمَّا تَرَيْ رَأسِي أزْرَى بِهِ ماسُ زمانٍ ذِ انتِكاثٍ مَئُوس٧
ولم يؤُثِّر هنا شذوذاً، وهذا نظيرُ قول الآخر :[ البسيط ]
لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ٨
فلم يعمل " لَمْ " وأبقى نون الرَّفع.
و " من البشر " حالٌ من " أحَداً " لأنه لو تأخَّر، لكان وصفاً، وقال أبو البقاء٩ :" أو مفعول " يعني متعلِّق بنفس الفعل قبله.
قوله تعالى :﴿ فَقُولِي ﴾ بين هذا الجواب، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ، تقديره : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً، فسألك الكلام، فقُولي، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولها " فَلَنْ أكَلِّمَ اليومَ إنسيًّا " كلامٌ ؛ فيكون ذلك تناقضاً ؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ، وجوابه ما تقدَّم.
ولذلك قال بعضهم : إنَّها ما نذرتْ في الحال، بل صبرتْ ؛ حتَّى أتاها القَوْمَ، فذكرت لهم :﴿ إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً ﴾.
وقيل : المرادُ بقوله " فقٌولي " إلى آخره، أنه بالإشارة، وليس بشيء ؛ بل المعنى : فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ.
وقرأ١٠ زيدُ بن عليٍّ " صِيَاماً " بدل " صوماً " وهما مصدران.

فصل في معنى صوماً


معنى قوله تعالى :﴿ صَوْماً ﴾ : أي صمتاً، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود -رضي الله عنه-، والصَّوم في اللُّغة، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام.
قال السديُّ : كان في بني إسرائيل١١ من إذا أراد أن يجتهد، صام عن الكلام، كما يصوم عن الطَّعام، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ.
قيل : كانت تُكَلِّمُ الملائكة، ولا تكلِّم الإنْسَ.
قيل : أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت ؛ لئلاَّ تشرع مع من اتَّهَمَهَا في الكلام ؛ لمعنيين :
أحدهما : أن كلام عيسى -صلوات الله عليه- أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض١٢[ الأمر ]١٣إلى الأفضلِ أولى.
الثانية : كراهةُ مجادلة السُّفهاء، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٥) وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر..
٢ ينظر: القرطبي ١١/٦٥، والبحر المحيط ١٦/١٧٥ والكشاف ٣/١٤، والدر المصون ٤/٥٠٢..
٣ ينظر البيت في ديوانه (٦١)، والبحر المحيط ٦/١٦٢، والدر المصون ٤/٥٠٢..
٤ سقط من أ..
٥ ينظر في قراءاتها: الشواذ ٨٤، والمحتسب ٢/٤٢، والبحر ٦/١٧٥ والكشاف ٣/١٤، والدر المصون ٤/٥٠٢..
٦ الآية رقم ٦ من التكاثر "لترون الجحيم" ينظر: المحتسب ٢/٣٧١، والبحر ٦/١٧٥..
٧ ينظر البيت في البحر ٦/١٧٥، القرطبي ١١/٦٦، روح المعاني ١٦/٨٦، الدر المصون ٤/٥٠٢..
٨ ينظر البيت في الخصائص ١/٣٨٨، والمحتسب ٢/٤٢، شرح المفصل لابن يعيش ٧/٨، المغني ٢/٣٣٩، التصريح ٢/٢٤٧، الهمع ٢/٥٦، الأشموني ٤/٦، الدرر ٢/٧٢، الخزانة ٩/٥، اللسان "صلف"، الدر المصون ٤/٥٠٢..
٩ ينظر: الإملاء ٢/١١٣..
١٠ ينظر: البحر المحيط ٦/١٧٦، والكشاف ٣/١٤ والدر المصون ٤/٥٠٢..
١١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/١٩٣) عن السدي..
١٢ في ب: الكلام..
١٣ في ب: الكلام..
قوله تعالى :﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ﴾ :" به " في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " أتَتْ "، [ أي : أتَتْ ] مصاحبة له ؛ نحو : جاء بثيابه، أيك ملتبساً بها، ويجوز أن تكون الباءُ متعلقة بالإتيان، وأمَّا " تَحْملُه " فيجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل " أتَتْ " ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في " به " وظاهر كلام أبي١ البقاء : أنَّها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً ؛ وفيه نظرٌ.
قوله تعالى :﴿ شَيْئاً ﴾ مفعولٌ به، أي : فعلِت شيئاً، أو مصدرٌ، أي : نوعاً من المجيءِ غريباً٢، والفَرِيُّ : العظيمُ من الأمر ؛ يقال في الخَيْر والشرِّ، وقيل : الفَرِيُّ : العجيبُ، وقيل : المُفْتَعَلُ، ومن الأول، الحديثُ في وصف عمر -رضي الله عنه- :" فَلَمْ أرَ عَبْقرِيًّا يَفْرِي فريَّهُ " والفَرِيُ : قطعُ الجلد للخَرْزِ والإصلاح، والإفْرَاء : إفساده، وفي المثل : جاء يَفْرِي الفَرِيَّ، أي : يعمل العمل العظيم ؛ وقال :[ الكامل ]
فلأنْتَ تَفْرِي ما خَلقْتَ وبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلقُ يَخْلقُ ثُمَّ لا يَفْري٣
وقرأ أبو٤ حيوة فيما نقل عنه ابنُ خالويه " فَرِيئاً " بالهمز، وفيما نقل ابن عطية " فَرْياً " بسكون الراء.
وقرأ عمر بن لجأ٥ " ما كَانَ أباَك امْرُؤ سَوْءٍ " جعل النكرة الاسم، والمعرفة الخبر ؛ كقوله :[ الوافر ]
. . . *** يَكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ٦
وقوله :[ الوافر ]
. . . *** ولا يَكُ مَوْقفٌ مِنْكِ الوَداعَا٧
وهنا أحسنُ لوجودِ الإضافةِ في الاسم.

فصل في كيفية ولادة مريم وكلام عيسى لها ولقومه


قيل : إنَّها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها.
وقال ابنُ عباس، والكلبيُّ : احتمل يوسفُ النَّجَّار مريم، [ وابنها ]٨ عيسى إلى غارٍ، ومكثَ أربعين يوماً ؛ حتَّى طهرتْ من نفاسها، ثم حملته مريمُ إلى قومها، فكلَّمها عيسى في الطَّريق ؛ فقال : يا أمَّاه، أبشري ؛ فإنِّي عبد الله، ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصَّبِيُّ، بكَوْا، وحَزِنُوا، وكانُوا أهل بيت صالحين ؛ فقالوا ﴿ يا مريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ﴾ عظيماً مُكراً.
قال أبو عبيدة : كُلُّ أمرٍ فائق من عجب، أو عملٍ، فهو فَرِيٌّ ؛ وهذا منهم على وجه الذَّمِّ، والتوبيخ ؛ لقولهم بعده :﴿ يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ﴾.
١ ينظر: الإملاء ١/١١٣..
٢ في أ: فريا..
٣ تقدم..
٤ ينظر: الشواذ ٨٤، والبحر المحيط ٦/١٧٦، والدر المصون ٤/٥٠٣..
٥ ينظر: القرطبي ١١/٦٩، والبحر ٦/١٧٦، والدر المصون ٤/٥٠٣..
٦ تقدم..
٧ تقدم..
٨ في ب: وولدها..
قوله تعالى :﴿ يا أخت هَارُونَ ﴾ يريدون : يا شبيهة هارون، قال قتادةُ، وكعبٌ، وابنُ زيدٍ، والمغيرة بنُ شعبة -رضي الله عنهم- : كان هارُون رجلاً صالحاً مقدِّماً في بني إسرائيل، رُوِيَ أنَّهُ تبعَ جنازتهُ يوم مات أربعُون ألفاً، كلُّهم يسمَّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس، شبَّهُوها به على معنى أنَّنا ظننَّا أنَّك مثلهُ في الصَّلاح، وليس المرادُ منه الأخُوَّة في النَّسب ؛ كقوله سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين ﴾١ [ الإسراء : ٢٧ ].
روى المغيرةُ بنُ شعبة -رضي الله عنه- قال : لما قدمتُ [ خراسان ]٢ سالُوني، فقالوا : إنَّكم تقرءون :﴿ يا أخت هَارُونَ ﴾ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلمَّا قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتهُ عن ذلك، فقال : إنَّهم كانُوا يُسمَّون بأنبيائهم والصَّالحين قبلهم٣.
قال ابن كثيرٍ : وأخطأ محمَّد بن كعبٍ القرظيُّ في زعمه أنَّها أختُ موسى وهارون نسباً ؛ فإنَّ بينهما من الدُّهُور الطَّويلة ما لا يخفى على من عندهُ أدنى علم، وكأنَّه غرَّه أنَّ في التَّوراة أن مريم -أخت موسى، وهارون- ضربت بالدُّفِّ يوم نجَّى الله موسى وقومه، وغرقَ فرعونُ وجُنودُه، فاعتقد أنَّ هذه هي تلك، وهذا في غاية البُطلان ومخالفةٌ للحديث الصحيح المتقدِّم.
وقال الكلبيُّ : كان هارونُ أخا مريم من أبيها، وكان أمثل رجُل في بني إسرائيل٤.
وقال السُّديُّ : إنَّما عنوا به هارُون أخا موسى٥، لأنَّها كانت من نسله، كما يقال للتميميِّ : يا أخا تميمٍ، ويا أخا همدان، أي : يا واحداً منهم.
وقيل : كان هاروُن فاسقاً في بني إسرائيل مُعْلِناً بالفِسْقُ، فشبَّهوها به. وقول الكلبيّ أقربُ ؛ لوجهين :
الأول : أن الأصل في الكلام الحقيقةُ ؛ فيحملُ الكلامُ على أخيها المسمَّى ب " هارُونَ ".
الثاني : أنها أضيفت إليه، ووُصف أبواها بالصَّلاح ؛ وحينئذ يصيرُ التوبيخُ أشدَّ، لأنَّ من كان حال أبويه وأخيه هذا الحال، يكونُ صدور الذَّنْبِ منه أفحش.
ثم قالوا :﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ ﴾.
قال ابن عبَّاس : أي : زانياً، " وما كانَتْ أمُّك " حنَّة " بغيَّا " أي : زانية، فمن أين لك هذا الولدُ٦.
١ ينظر: تفسير الطبري (٨/٣٣٥) والماوردي (٣/٣٦٨ – ٣٦٩) والبغوي (٣/١٩٣-١٩٤) والقرطبي (١١/٦٨)..
٢ في ب: نجران..
٣ أخرجه مسلم (٣/١٦٨٥) والترمذي (٢/١٤٤) وأحمد (٤/٢٥٢) والنسائي في "الكبرى" (٦/٣٩٣).
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل"..

٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/١٩٤)..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن السدي وأخرجه الطبري (٨/٣٣٦) وينظر: المصدر السابق..
٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/١٩٤)..
قوله تعالى :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ : الإشارةُ معروفةٌ تكون باليد والعين وغير ذلك، وألفها عن ياءٍ، وأنشدوا لكثيرٍ :[ الطويل ]
فقُلْتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ *** ألا حبَّذا يا عزُّ ذَاكَ التَّشايرُ١
قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ في " كَانَ " هذه أقوالٌ :
أحدها : أنها زائدةٌ، وهو قولُ أبي عبيدٍ، أي : كيف نُكَلِّمُ من في المهد، و " صَبِيَّا " على هذا : نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارُ والمجرورِ الواقع صلة، وقد ردَّ أبو بكرٍ هذا القول- أعني كونها زائدة- بأنها لو كانت زائدة، لما نصبت الخبر، وهذه قد نصبْ " صَبيَّا " وهذا الردُّ مرودٌ بما ذكرتُه من نصبه على الحال، لا الخبر.
الثاني : أنها تامَّةٌ بمعنى حدوث ووجد، والتقدير : كيف نكلمُ من وجد صبيَّا، و " صبيَّا " حال من الضمير في " كان ".
الثالث : أنها بمعنى صار، أي : كيف نكلِّم من صار في المهد صبيَّا، و " صَبِيَّا " على هذا : خبرها ؛ فهو كقوله :[ الطويل ]
. . . *** قَطَا الحَزْنِ قد كَانَتْ فِرَاخَاً بُيُوضُهَا٢
الرابع : أنها النَّاقضةُ على بابها من دلالتها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي، من غير تعرُّضٍ للانقطاع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ٩٦ ] ولذلك يعبَّر عنها بأنَّها ترادفُ " لَمْ تَزلْ " قال الزمخشريُّ :" كان " لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماض مبهمٍ صالح للقريبِ والبعيد، وهو هنا لقريبة خاصَّة، والدَّالُّ عليه معنى الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجُّب، ووجه آخر : وهو أن يكون " نُكَلِّمُ " حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي : كيف عُهِدَ قبل عيسى أن يكلم النَّاس في المهد حتى نُكلمه نحنُ ؟
وأمَّا " مَنْ " فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بعنى الذي، وضعفٌ جعلها نكرة موصوفة، أي : كيف نكلِّم شخصاً، أو مولوداً، وجوَّز الفرَّاء والزجاج٣ فيها أن تكون شرطيَّة، و " كان " بمعنى " يَكُنْ " وجوابُ الشرطِ : إمَّا متقدِّمٌ، وهو " كَيْفَ نُكَلِّمُ " أو محذوفٌ، لدلالةِ هذا عليه، أي : من يكن في المهدِ صبياً، فكيف نُكلِّمُهُ ؟ فهي على هذا : مرفوعة المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله : منصوبته ب " نُكَلِّمُ " وإذا قيل بأنَّ " كان " زائدةٌ ؛ هل تتحمَّلُ ضميراً، أم لا ؟ فيه خلافٌ، ومن جوَّز، استدلَّ بقوله :[ الوافر ]
فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ *** وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِراَم٤
فرفع بها الواو، ومن منع، تأوَّل البيت، بأنَّها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرها هو " لنا " قُدِّم عليها، وفصل بالجملة بين الصفة، والموصوف.
وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد، والأكثرون على أنه إخفاء.

فصل في مناظرة مريم لقومها


لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت، وأشارت إلى عيسى، أن كلِّمُوه.
قال ابنُ مسعود : لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ، أشارتْ إليه ؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها، أي : هو الذي يُجيبُكُم، إذا ناطَقْتُمُوه٥.
قال السديُّ : لما أشارتْ إليه ؛ ليكون كلامُه حجَّة، غضبُوا، وقالوا : لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها، و ﴿ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾، والمهدُ : هو حجرها٦.
وقيل : هو المهدُ بعينه.
والمعنى : كيف نكلِّم صبيِّا سبيلهُ أن ينام في المهد ؟ !
١ ينظر: ديوانه ٥٠٢، البحر المحيط ٦/١٦٢، الدر المصون ٤/٥٠٣..
٢ تقدم..
٣ ينظر: معاني القرآن للزجاج ٣/٣٢٨..
٤ تقدم..
٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/١٩٤)..
٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢١/١٧٨)..
قال السديُّ : فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه- كلامهم، وكان يرضعُ، ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، واتَّكأ على يساره، وأشار بسبَّابة يمينه، فقال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾١.
وقيل : كلَّمهم بذلك، ثم لم يتكلَّم ؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبيانُ، وقال وهبّ : أتاها زكريَّا- عليه الصلاة والسلام- عند مناظرتها اليهُود، فقال لعيسى : انْطِقْ بحُجَّتِكَ، إن كنت أمرتَ بها، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً- وقال مقاتلٌ : بل هو يوم ولد- : إنَّي عبد الله، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله- عزَّ وجلَّ- أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً، وفيه فوائد :
الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت، كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى ؛ فلا جرم : أوَّل ما تكلَّم، قال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾.
الثانية : أن الحاجة في ذلك الوقت، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم، ثم إنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لم ينصَّ على ذلك، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ ؛ فلهذا : أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾.
الثالثة : أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ]٢ يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية، والمرتبة العظيمة، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ]٣، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى.

فصل في إبطال قول النصارى


في إبطال قول النصارى وجوه٤ :
الأول : أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته -سبحانه وتعالى- لم تحلَّ في ناسُوت عيسى، بل قالوا : الكلمةُ حلَّت فيه، والمرادُ من الكلمة العلمُ، فنقول : العلمُ، لما حصل لعيسى، ففي تلك الحالةِ : إمَّا أن يقال : إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى، أو ما بقي.
فإن كان الأوَّل، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ، وذلك غير معقول، ولأنَّه لو جاز أن يقال : العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذات الله تعالى ؟ وإن كان الثاني، لزم أن يقال : إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ.
قال ابنُ الخطيب٥ :
وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى، فقلتُ له : هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول، أمْ لا ؟ فإن أنكرت، لزمكَ لا يكون الله قديماً ؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العالمُ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول، فنقولُ : إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى ما حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة، وفي هذا الكلب ؟ فقال : إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك ؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد، أو الحلول، بناءً على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى، وإبراءِ الأكمه، والأبرصِ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره، فكيف نثبت الاتحادَ، أو الحُلُول ؟ فقلتُ له : إنِّي عرفتُ بهذا الكلام أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقّ عيسى، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلول لا يدلُّ على عدم المدلُول ؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد، والحلول، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد، بل في حق كل حيوان ونباتٍ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [ قائلهُ ]٦ إلى مثل هذا [ القول ]٧ الركيك، يكُون باطلاً قطعاً، ثم قلتُ [ له ] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى، وإبراءُ الأكمهِ، والأبرصِ على ما قلت ؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا، فإذا ظهر على يد مُوسى، ولم يدلُّ على إلهيته، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى.
وثالثها : أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة ؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى : إنَّ اليهُود قتلُوه، ومن كان في الضعف هكذا، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيِّة ؟.
ورابعها : أن المسيح : إمَّا أن يكون قديماً، أو محدثاً، والقولُ بقدمه باطلٌ ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ، وكان طفلاً، ثم صار شابًّا، وكان يأكُل ويَشْرب، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر، وإنْ كان مُحْدِثاً، كان مخلوقاً، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك.
فإن قيل : المعنيُّ بالإلهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [ الإلهيَّة، قلنا :]٨ هب أنَّه كان كذلك، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ، والمسيح هو المحل، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة ؟.
وخامسها : أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد، فإن كان لله تعالى ولدٌ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر، وإن حصل الامتيازُ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ، [ فالواجب ]٩ ممكنٌ ؛ هذا خلفٌ، هذا على الاتِّحاد، والحلول.
فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام، والتصرُّف في هذا العالمِ، فهذا أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف والعَجْز، وأنَّ اليهود قتلُوه، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام، لما قَدَرُوا على قَتْله، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه.
فإن قيل : قالُوا : معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه ؛ على سبيل التشريف، وهو قد قال به قومٌ من النصارى، يقال لهم الآريوسية، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ.
قوله تعالى :﴿ آتَانِيَ الكتاب ﴾ قيل : معناه : سيُؤتيني الكتاب، ويجعلني نبيًّا.
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- " أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ ؛ كما قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : متى كُنْتَ نبيًّا ؟ قال :" كُنْتُ نبيًّا، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ " ١٠ وعن الحسن -رضي الله عنه- أنَّه ألهمَ التوراة، وهو في بطن أمِّه.
وقال الأكثرون : إنه أوتيَ الإنجيل، وهو صغيرٌ طفلٌ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال.
فمن قال : الكتابُ : هو التَّوراة، قال : لأنَّ الألف واللاَّم للعهد، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة، ومن قال : الإنجيلُ، قال " الألفُ واللاَّم للاستغراق، وظاهرُ كلام عيسى -صلوات الله عليه- أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب، وجعله نبيًّا، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة، وأن يدعو إلى الله تعالى، وإلى دينه، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ.
قال بعضهم : أخبر أنَّه نبيٌّ، ولكَّنه ما كان رسولاً ؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة، ومعنى كونه نبيَّا : رفيعُ القدر عالي الدرجة ؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع، وهو قوله :﴿ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة ﴾
١ ينظر: المصدر السابق..
٢ في ب: أبيه..
٣ في ب: أبيه..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٨١..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٨١..
٦ في ب: تأويله..
٧ في ب: التأويل..
٨ في ب: الإله، فالجواب..
٩ في ب: فالجواب..
١٠ تقدم تخريجه..
ثم قال :﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ﴾.
وقال مجاهدٌ -رضي الله عنه- معلِّماً للخَيْر١.
وقال عطاءٌ : أدعُو إلى الله، وإلى توحيده٢ وعبادته.
وقيل : مُباركاً على من اتَّبعني.
روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ، وهو يحيى الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص، فقالت : طُوبَى لبطن حملك، وثدي أرضعت به، فقال عيسى مجيباً لها : طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ، وعملَ بِهِ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً.
قوله تعالى :﴿ أَيْنَ مَا كُنتُ ﴾ يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل : إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر، وزوالِ التَّكْلِيف.
قوله :﴿ أين ما كنت ﴾ : هذه شرطيةٌ، وجوابها : إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم : أي : أينما كُنْتُ، جعلني مباركاً، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين.
ثم قال :﴿ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة ﴾ أي، أمرني بهما.
فإن قيل : لم يكُن لعيسى مالٌ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة ؟ قيل : معناه : بالزَّكاة، لو كان له مالٌ.
فإن قيل : كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً، والقلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير ؛ لقوله- صلوات الله عليه وسلامه- :" رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ " ٣ الحديث.
فالجوابُ من وجهين٤ :
الأول : أنَّ قوله :﴿ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة ﴾ لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ، بل بعد البُلُوغِ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ، وهو وقتُ البُلُوغِ.
الثاني : لعلَّ الله تعالى، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه- صلوات الله عليه- صيَّرهُ بالغاً، عاقلاً، تامَّ الخلقة ؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] فكما أنَّه تعالى خلق آدم- صلواتُ الله عليه وسلامه- تامَّا كاملاً دفعةً، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ، لقوله :﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾ فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمرُ كذلك، لكان القومُ حين رأوهُ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء، تامَّ الخِلْقَة، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً ؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا.
والجوابُ٥ أن يقال : إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب، كامِلَ العَقْلِ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض، وحين رُفع إلى السَّماء، وحين ينزل مرَّة أخرى ؛ لقوله ﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾ " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ، وتقدمُ " ما " على " دام " شرطٌ في إعمالها، والتقدير : مُدَّة دوامِي حيَّاً، ونقل ابن عطيَّة٦ عن عاصم، وجماعةٍ : أنهم قرءُوا " دُمْتُ " بضم الدَّالِ، وعن ابن كثيرٍ، وأبي عمرو، وأهْلِ المدينة :" دِمْتُ " بكسرها، وهذا لم نره لغيره، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ، ولا شكَّ أنَّ في " دَامَ " لغتين، يقالُ : دمت تدوُمُ، وهي اللغةُ الغاليةُ، ودمتَ تدامُ ؛ كخِفْتَ تخَافُ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٨/٣٣٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٨٧) وعزاه إلى عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣٤/١٩٥) عن عطاء..
٣ تقدم..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٨٣ -١٨٤..
٥ ينظر: الفخرالرازي ٢١/١٨٤..
٦ ينظر: البحر ٦/١٧٧، الدر المصون ٤/٥٠٤..
قوله تعالى :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ﴾ : العامَّةُ على فتح الباء، وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه منصوبٌ نسقاً على " مباركاً " أي : وجعلني برَّا.
والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ، واختير هذا على الأوَّلِ ؛ لأنَّ فيه فصلاُ كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها.
قال الزمخشريُّ : جعل ذاتهُ برَّا ؛ لفَرْط برِّه، ونصبه بفعل في معنى " أوْصَانِي " وهو " كَلَّفَنِي " لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة، وكلَّفَنِي بها واحدٌ.
وقُرئ " برَّا " بكسر الباء١ : إمَّا على حذفِ مضافٍ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر، وقد تقدَّم في البقرة : أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلِ، وحكى الزَّهْراوِيُّ، وأبو البقاء٢ أنه قُرِئَ بكسر الباء، والراء، وتوجيهه : أنه نسقٌ على " الصَّلاة " أي : وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاة، وبالبرِّ، أو البرّ. و " بوالدتي " متعلق بالبر، أو البر.

فصل فيما يشير إليه قوله ﴿ وبرَّا بوالدتي ﴾


قوله :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ﴾ إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا ؛ إذ لو كانت زانيةٌ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها ؛ لأنه تأكَّد حقَّها عليه ؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها.
قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ﴾ يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى ؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى، جعله برًّا، وما جعله جبَّاراً، إنما يحسن لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً، وجعله [ غير ] برٍّ بأمِّه ؛ فإن الله تعالى، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك، ومعلومٌ أنه -صلواتُ الله عليه وسلامهُ- إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ، ومعنى قوله :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً ﴾ أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً متكبِّراً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً، كنتُ عاصياً شقياً.
قال بعضُ العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً، وتلا :﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ﴾ ولا تجد سيّئ الملكة إلا مختالاً فخُوراً، وقرأ :﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾ [ النساء : ٣٦ ].
١ وهي قراءة الحسن وآخرين، ينظر: الإتحاف ٢/٢٣٤، والمحتسب ٢/٤٢، والبحر ٦/١٧٧، والدر المصون ٤/٥٠٥..
٢ ينظر: الإملاء ٢/٦٢..
قوله تعالى :﴿ والسلام عَلَيَّ ﴾ : الألف واللام في " السَّلام " للعهدِ ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله -عزَّ وجلَّ- :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ ﴾ [ الآية : ١٥ ] فهو كقوله :
﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ﴾ [ المزمل : ١٥، ١٦ ] أي : ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ، وقال الزمخشريُّ -رحمه الله- :" والصحيحُ أن يكون هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متَّهِمِي مريم -عليها السلام- وأعدائها من اليهُود، وتحقيقه : أنَّ اللاَّم لاستغراق الجنس، فإذا قال : وجنسُ السَّلام عليَّ خاصَّة، فقد عرَّض بأنَّ ضدَّه عليكم، ونظيره قول موسى -صلوات الله عليه وسلامه- :﴿ والسلام على مَنِ اتبع الهدى ﴾ [ طه : ٤٧ ].
يعني : أنَّ العذاب على من كذَّب، وتولَّى، وكان المقام مقام اللَّجاج والعِنَاد، فيليق به هذا التعريضُ ".

فصل في الفرق بين السلام على يحيى، والسلام على عيسى


رُوِيَ أن عيسى -صلواتُ الله عليه وسلامه- قال ليحيى : أنت خيرٌ منِّي ؛ سلِّم الله عليك، وسلَّمتُ على نفسي. وأجاب الحسنُ، فقال : إن تسليمهُ على نفسه تسليمُ الله ؛ لأنَّه إنَّما فعله بإذن الله.
قال القاضي١ : السَّلام عبارةٌ عمَّا يحصُل به الأمانُ، ومنه السَّلامةُ في النِّعم، وزوال الآفاتِ، فكأنَّه سأل ربَّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى، وأعظمُ احتياجِ الإنسانِ إلى السَّلامة في هذه الأحْوالِ الثلاثة، وهي يومُ الولادةِ، أي : السَّلامة عند الولادة من طَعْن الشَّيطان، ويومُ الموت، أي : عند الموت من الشَِّرك، ويومُ البعث من الأهوال.
قال المفسِّرون : لمَّا كلَّمهم عيسى بهذا، علمُوا براءةَ مريم، ثم سكت عيسى -صلوات الله عليه وسلامه-، فلَم يتكلَّم بعد ذلك حتّى بلغ المدَّة التي يتكلَّم فيها الصِّبْيَان.
قوله :﴿ يومَ ولدتُ ﴾ منصوبٌ بما تضمنَّه " عَليَّ " من الاستقرار، ولا يجوزُ نصبه ب " السَّلام للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولهِ، وقرأ ويدُ بنُ٢ عليٍّ " وَلَدَتْ " جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضمير مريم، والتاءُ للتأنيث، و " حَيَّا " حالٌ مؤكِّدةٌ.

فصل في الرد على اليهود والنصارى


اعلم أن اليهُود والنَّصارى يُنْكِرُونَ أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- تكلَّم في زمانِ الطفوليَّة ؛ واحتجُّوا بأنَّ هذا من الوقائعِ العجيبة، التي تتوافرُ الدَّواعِي على نقلها، فلو وجدت، لنُقلتْ بالتَّواتر، ولو كان كذلكَ، لعرفهُ النَّصارى، لا سيَّما وهم أشدُّ النَّاسِ بحثاً عن أحواله، وأشدُّ النَّاسِ غُلُوَّا فيه ؛ حتَّى ادعوا كونهُ إلهاً، ولا شكَّ أنَّ الكلام في الطفوليَّة من المناقب العظيمة، فلمَّا لم يعرفه النصارى مع شدَّة الحبِّ، وكمالِ البَحْثِ عنه، علمنا أنَّه لم يُوجَدْ ؛ ولأنَّ اليهود أظهرُوا عداوتهُ حين ادَّعى النُّبُوَّة والرسالة، فلو أنَّه - صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ، لكانت عداوتهم معه أشدَّ، ولكان قصدهم قتله أعظم، فحيثُ لم يحصُل شيءٌ من ذلك، علمنا أنَّه ما تكلَّم.
وأمَّا المسلمُون، فاحتجُّوا بالعَقْل على أنه تكلَّم، فقالوا : لولا كلامه الذي دلَّهم على براءة أمِّه عن الزِّنا، لما تركُوا إقامة الحدِّ عليها، ففي تَرْكِهِمْ لذلك دلالةٌ على أنَّه- صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ.
وأجابُوا عن الشُّبْهة الأولى بأنَّه ربَّما كان الحاضرُون عند كلامه قليلين ؛ فلذلك لم يشتهر.
وعن الثاني : لعلَّ اليهُود ما حَضَرُوا هناك، وما سَمِعُوا كلامهُ، وإنَّما سَمِعَ كلامهُ أقاربهُ ؛ لإظهارِ براءَة أمّه ؛ فلذلك لم يَشْتَغِلُوا بقَتْلِه.
١ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٨٥..
٢ ينظر: البحر المحيط ٦/١٧٨، الدر المصون ٤/٥٠٥..
وأمَّا المسلمُون، فاحتجُّوا بالعَقْل على أنه تكلَّم، فقالوا: لولا كلامه الذي دلَّهم على براءة أمِّه عن الزِّنا، لما تركُوا إقامة الحدِّ عليها، ففي تَرْكِهِمْ لذلك دلالةٌ على أنَّه - صلوات الله عليه - تكلَّم في المَهْدِ.
وأجابُوا عن الشُّبْهة الأولى بأنَّه ربَّما كان الحاضرُون عند كلامه قليلين؛ فلذلك لم يشتهر.
وعن الثاني: لعلَّ اليهُود ما حَضَرُوا هناك، وما سَمِعُوا كلامهُ، وإنَّما سَمِعَ كلامهُ أقاربهُ؛ لإظهارِ براءَة أمّه؛ فلذلك لم يَشْتَغِلُوا بقَتْلِه.
قوله
تعالى
: ﴿ذلك
عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾
: يجوز أن يكون «عِيسَى» خبراً ل «ذلك» ويجوز أن يكون بدلاً، أو عطف بيان، و «قَوْلُ الحقِّ» خبره، ويجوز أن يكون «قَوْلُ الحقِّ» خبر مبتدأ مضمرْ، أي: هو قولُ، و «ابْنُ مَرْيَم» يجوز أن يكُونَ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، أو خبراً ثابتاً.
وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، وابنُ عامر «قَوْلَ الحقِّ» بالنَّصب، والباقون بالرفع، فالرفع على ما تقدَّم، قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وارتفاعه على أنَّه خبرٌ، بعد خبرٍ، أو بدلٌ». قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذكرُهُ لا يكُونُ إلاَّ على المجازِ في قولِ: وهو أن يراد به كلمةٌ اللهِ، لأنَّ اللفظ لا يكُونُ الذَّات».
والنَّصْبُ: يجوزُ فيه أن يكون مصدراً مؤكَّداً لمضمُون الجملة؛ كقولك: «هُوَ عَبْدُ الله الحقَّ، لا الباطِلَ» أي: أقولُ قول الحقِّ، فالحقُّ الصِّدقُ، وهو من إضافةِ الموصوف إلى صفته، أي: القول الحقَّ؛ كقوله: ﴿وَعْدَ الصدق﴾ [الأحقاف: ١٦] أي: الوعد الصِّدق، ويجوز أن يكون منصوباً على المَدْحِ، إن أريد بالحقِّ الباري تعالى، و «الَّذِي» نعتٌ للقول، إن أريد به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمّي كلمةً، لأنه عنها نشأ.
وذلك أنَّ الحق هو اسمُ الله تعالى، فلا فرق بين أن نقول: عيسى هو كلمة الله، وبين أن نقول: عيسى قولُ الحقِّ.
وقيل: هو منصوبٌ بإضمار «أعْنِي» وقيل: هو منصوبٌ على الحالِ من «عيسَى» ويؤيِّد هذا ما نُقِلَ عن الكسائيَّ في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى.
وقرأ الأعمشُ «قالُ» برفع اللاَّم، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً، وقرأ الحسن «قُولُ» بضم القاف، ورفع اللام وكذلك في الأنعام ﴿قَوْلُهُ الحق﴾ [الأنعام: ٧٣]، وهي مصادر لِ «
62
قالَ» يقالُ يَقُولُ قَوْلاً وقُولاً؛ كالرَّهْبِ، والرُّهْب، وقال أبو البقاء: «والقَالُ: اسمٌ للمصدر؛ مثلُ: القِيلِ، وحُكِيَ» قُولُ الحقِّ «بضمّ القاف؛ مثل» الرُّوحِ «وهي لغةٌ فيه». قال شهاب الدين: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرُ كلُّها، ليس بعضها اسماً للمصدر، كما تقدَّم تقريره في الرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ.
وقرأ طلحةُ والأعمشُ «قالَ الحقُّ» جعل «» قَالَ «فعلاً ماضياً، و» الحَقُّ «فاعلٌ، والمرادُ به الباري تعالى، أي: قَالَ الهُ الحَقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قوله» الَّذِي فيهِ يَمْتُرُونَ «خبراً لمبتدأ محذوف.
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب - كرم الله وجهه - والسلميُّ، وداودُ بنُ أبي هندٍ، ونافعٌ، والكسائيُّ في رواية عنهما [»
تَمْتَرُونَ «بتاء] الخطاب، والباقون بياءِ الغيبة، وتَمْتَرُون: تَفْتَعِلُون: إمَّا من المريةِ، وهي الشَّكُّ، وإمَّا من المراء، وهو الجدالُ.
وتقدَّم الكلامُ على نصب «فَيَكُونَ»
.

فصل فيما تشير إليه «ذلك»


«ذَلِكَ» إشارةٌ إلى ما تقدَّم.
قال الزَّجَّّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أي: ذلك الذي قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾ [مريم: ٣٠] عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة، لا أنَّه ابنُ الله [كما زعمت النصارى].
وقوله: ﴿الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾، أي: يختلفوُن، وأما امتراؤهُم في عيسى، فقائلٌ يقُولُ: هو ابنُ الله، وقائلٌ يقولُ: هو الله، وقائل يقُولُ: هو ساحرٌ كاذبٌ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران.
ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه - لمَّا رفع، حضر أربعةٌ من [أكابر] علمائهم، فقيل للأوَّل: ما تُقولُ في عيسى؟ قال: هو الله هبط إلى الأرض، خلق، وأحيى، ثم صعد إلى السَّماء، فتبعهُ على ذلك خلقٌ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ، وقيل للثاني: ما تقوُلُ؟ قال: هو ابنُ الله، فتابعهُ على ذلك ناسٌ، وهم النسطورية، [وقيل للثالث: ما تقول؟ قال: هو غله، والله إله، فتابعه على ذلك أناس، وهم الاسرائيلية]، وقيل للرابع: ما تقولُ. فقال: عبدُ الله ورسولهُ، وهو المؤمنُ المُسْلم، وقال: أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ، ونيام، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه، فخصمهم.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ نفى عن نفسه الولد، أي: ما كان من نعته اتخاذ الولد.
63
والمعنى: أن ثبوت الولد له محالٌ، فقوله: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ كقولنا: ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ، أي: لا يصحُّ ذلك، ولا ينبغي، بل يستحيلُ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ، وإن كان بصُورة النَّفِي.
وقيل: اللاَّم منقولةٌ، أي: ما كان من ولدٍ، والمرادُ: ما كان الله أن يقُول لأحدٍ، إنَّه ولدي؛ لأنَّ مثل [هذا] الخبر كذبٌ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله، فقوله: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ كقولنا: ما كان لله أن يظلم، أي: لا يلِيقُ بحكمته، وكمالِ إلهِيَّتِهِ.
قوله تعالى: ﴿إِذَا قضى أَمْراً﴾ إذا أراد أن يحدث أمْراً، ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ، وبيانهُ: أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليَّا، فهو محالٌ؛ لأنَّه [لو كان واجباً لذاته، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ،] ولو كان [مُمْكِناً] لذاته، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته، فلو كان مفتقراً في وجودِهِ إلى الواجِبِ لذاتِه، كان ممكناً لذاته، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته، فيكُون عبداً له؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك.
وإن كان الولدُ مُحْدَثاً، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم، وإيجاده، وهو المرادُ من قوله تعالى: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.
فيكونُ عَبْداً، لا ولداً؛ فثبت أنه يستحيلُ أن يكون لله ولدٌ.

فصل في قدم كلام الله تعالى


دلَّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى؛ لأنَّه إذا أراد إحداث شيءٍ، قال له: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ فلو كان بقوله: «كُنْ» مُحْدَثاً، لافتقر حدوثُه إلى قولٍ آخر، ولزمَ التَّسَلْسُل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ قول الله تعالى، قديمٌ، لا مُحْدَث.
واحتج المعتزلةُ بالآية على حُدُوثِ كلامِ الله تعالى من وجوه:
أحدها: أنه تعالى أدخل كلمة «إذَا» وهي دالَّة على الاستقبال؛ فوجب ألاَّ يحصُلَ ذلك القولُ إلاَّ في الاستقبال.
ثانيها: أنَّ «الفاء» للتعقيب، و «الفاءُ» في قوله: «فإنَّمَا يَقُولُ» يدلُّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخِّر عن غيره مُحدثٌ.
وثالثها: «الفاءُ» في قوله «فَيَكُونُ» يدلُّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصلٍ، فيكون قولُ اللهِ تعالى متقدِّمَّاً على حُدُوث الحادث تقديماً بلا فَصْلٍ،
64
والمتقدم على المحدثِ تقديماً بلا فصل يكونُ مُحْدَثاً، فقولُ الله محدثٌ.
قال ابنُ الخطيبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - واستدلالُ الفريقين ضعيفٌ.
أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قوله «كُنْ» قديماً، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق.
وأمَّا الاستدلالُ المعتزلة؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قولُ الله تعالى الذي هو مركَّبٌ من الحروف، والأصوات مُحْدَثاً؛ وذلك لا نزاع فيه، [لأن] المدَّعى قدمُه شيءٌ آخرُ.
فصل في أقوال الناس في قوله «كُنْ»
من النَّاس من أجْرَى الآيةَ على ظاهرها، وزعم أنَّه تعالى، إذا أحدث شيئاً، قال له: كُنْ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه إما أن يقُول له: كُنْ قبل حدوثه، أو حلب حُدُثه، فإن كان الأوَّل، كان خطاباً مع المعدُوم، وهو عبثٌ، وإن كان حال حدوثه، فقد وُجِدَ بالقُدْرَة، والإرادة، لا بقوله «كُنْ» ومن النَّاس من زعم أنَّ المراد من قوله: «كُنْ» هو التخليقُ والتكوينُ؛ لأنَّ القُدْرَة على الشَّيء غير، وتكوين الشيء غيرٌ فإنَّ الله تعالى قادرٌ في الأزل، وغير مُكَوِّن في الأول؛ ولأنَّه الآن قادرٌ على عالم سوى هذا العالم، وغير مكوِّن له، فالقادريَّة غير المكنونيَّة، والتكوينُ ليس هو نفس المكوَّن؛ لأنَّ المكوَّن إنما حدث؛ لأنَّ الله تعالى كونه، وأوجده، فلو كان التَّكوين نفس المكوَّن؛ لكان قولنا: «المُكَوَّن إنَّما وجد بتكوين الله» بمنزلةِ قولنا: «المُكَوَّنُ إنَّما وجد بنَفْسِه» وذلك محالٌ؛ فثبت أنَّ التكوين غير المُكَوَّن، فقوله «كُنْ» إشارةٌ إلى الصفة [المسمَّاة] بالتكوين.
وقال آخرون: قوله سبحانه وتعالى: «كُنْ» عبارةٌ عن نفاذ قُدرة الله تعالى ومشيئته في المُمْكِنَات؛ فإنَّ وقوعها بتلك القُدْرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مُجْرَى العَبْد المُطِيع المُنْقَاد لأوامر الله تعالى، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبرةِ على سبيلِ الاستعارة.
قوله: ﴿وَإِنَّ الله﴾ : قرأ ابن عامرٍ، والكوفيُّون «وإنَّ» بكسر «الهمزة» على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أبيِّ «إن الله» بالكسر، دون واو، وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ:
أحدها: أنها على حذف حرف الجرِّ متعلقاً بما بعده، والتقدير: وأنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبُدُوه؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾ [الجن: ١٨] والمعنى: لوحدانيَّته أطيعوه، وإليه ذهب الزمخشريُّ تابعاً للخيل وسيبويه - رحمة الله عليهم -.
65
الثاني: أنها عطفٌ على «الصلاةِ» والتقديرُ: وأوصاني بالصلاةِ، وبأنَّ الله، وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكِّي غيره؛ ويريِّده ما في مصحف أبيِّ «وبأنَّ الله ربِّي» بإظهاره الباءِ الجارَّة، وقد استُبْعِد هذا القولُ؛ لكثرةِ الفواصل بين المتعاطفين، وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أبيٍّ؛ فلا يُرجِّحُ هذا؛ لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسببِ أنَّ اله ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ، فهي كاللاَّم.
الثالث: أن تكون «أنَّ» وما بعدها نسقاً على «أمْراً» المنصُوب ب «قَضَى» والتقديرُ: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ الله ربِّي وربُّكم، ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ، واستبعد الناسُ صحَّة هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العلم والمعرفة بمنزلٍ يمنعهُ من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عطف على «أمْراً» لزم أن يكون داخلاً في حيِّز الشرطِ ب «إذَا» وكونهُ تبارك وتعالى ربنا لا يتقيَّد بشرطٍ ألبتَّة، بل هو ربُّنا على الإطلاق، ونسبوا هذا الوهم أبي عبيدة؛ لأنَّه كان ضعيفاً في النَّحو، وعدُّوا له غلطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها.
الرابع: أن يكون في محلِّ رفع خبر ابتداءٍ مضمرٍ، تقديره: والأمرُ أنَّ الله ربِّي وربُّكم، ذكر ذلك عن الكسائيِّ، ولا حاجة إلى هذا الإضمارِ.
الخامس: أن يكون في محلِّ نصبٍ نسقاً على «الكتاب» في قوله «قال إني عبدُ الله آتاني الكتابَ» على أن يكونَ المخاطبُ بذلك مُعاصِري عيسى - عله صلوات الله - والقائلُ لهم ذلك عيسى، وعن وهبٍ، عهد إليهم عيسى: أنَّ الله ربي وربُّكم، قال هذا القائل: ومن كسر الهمزة يكون قد عطف «إنَّ الله» على قوله «إنِّي عبد الله» فهو داخلٌ في حيِّز القولِ، وتكون الجملُ من قوله «ذلك عيسى ابْنُ مريمَ» إلى آخرها جمل اعتراضٍ.
وهذا من البعد بمكان كأنَّه قال: إنَّي عبد الله، والله ربِّي وربُّكم، فاعبدوه، وهذا قول أبي مسلمٍ، الأصفهانيِّ، وهو بعيدٌ.

فصل في دلالة الآية


قوله: ﴿وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ يدلُّ على أنَّ مدبِّر العالمِ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [على] خلافِ قول المُنَجَّمين: أنَّ المدبِّر للنَّاسِ، ومُصلحَ أمورهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكبُ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الإله واحدٌ؛ لأنَّ لفظ «الله» اسمٌ علمٌ له سبحانه، لا إله إلا هو، فلمَّا قال: ﴿وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾، أي: لا ربِّ للمخلوقاتِ سوى الله؛ وذلك يدلُّ على التَّوحيد.
وقوله «فاعْبُدُوهُ» قد ثبت في أصُول الفقهِ أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب
66
قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ نفى عن نفسه الولد، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد.
والمعنى : أن ثبوت الولد له محالٌ، فقوله :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ كقولنا : ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ، أي : لا يصحُّ ذلك، ولا ينبغي، بل يستحيلُ ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ، وإن كان بصُورة النَّفِي.
وقيل : اللاَّم منقولةٌ، أي : ما كان من ولدٍ، والمرادُ : ما كان الله أن يقُول لأحدٍ، إنَّه ولدي ؛ لأنَّ مثل [ هذا ] الخبر كذبٌ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله، فقوله :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ كقولنا : ما كان لله أن يظلم، أي : لا يلِيقُ بحكمته، وكمالِ إلهِيَّتِهِ.
قوله تعالى :﴿ إِذَا قضى أَمْراً ﴾ إذا أراد أن يحدث أمْراً، ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ، وبيانهُ : أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليَّا، فهو محالٌ ؛ لأنَّه [ لو كان واجباً لذاته، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ، ]١ ولو كان [ مُمْكِناً ]٢ لذاته، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته ؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته، فلو كان مفتقراً في وجودِهِ إلى الواجِبِ لذاتِه، كان ممكناً لذاته، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته، فيكُون عبداً له ؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك.
وإن كان الولدُ مُحْدَثاً، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم، وإيجاده، وهو المرادُ من قوله تعالى :﴿ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾.
فيكونُ عَبْداً، لا ولداً ؛ فثبت أنه يستحيلُ أن يكون لله ولدٌ.

فصل في قدم كلام الله تعالى


دلَّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى ؛ لأنَّه إذا أراد إحداث شيءٍ، قال له :﴿ كُن فَيَكُونُ ﴾ فلو كان بقوله :" كُنْ " مُحْدَثاً، لافتقر حدوثُه إلى قولٍ آخر، ولزمَ التَّسَلْسُل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنَّ قول الله تعالى، قديمٌ، لا مُحْدَث.
واحتج المعتزلةُ بالآية على حُدُوثِ كلامِ الله تعالى من وجوه :
أحدها : أنه تعالى أدخل كلمة " إذَا " وهي دالَّة على الاستقبال ؛ فوجب ألاَّ يحصُلَ ذلك القولُ إلاَّ في الاستقبال.
ثانيها : أنَّ " الفاء " للتعقيب، و " الفاءُ " في قوله :﴿ فإنَّمَا يَقُولُ ﴾ يدلُّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخِّر عن غيره مُحدثٌ.
وثالثها :" الفاءُ " في قوله ﴿ فَيَكُونُ ﴾ يدلُّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصلٍ، فيكون قولُ اللهِ تعالى متقدِّمَّاً على حُدُوث الحادث تقديماً بلا فَصْلٍ، والمتقدم على المحدثِ تقديماً بلا فصل يكونُ مُحْدَثاً، فقولُ الله محدثٌ.
قال ابنُ الخطيبِ٣ - رحمه الله- واستدلالُ الفريقين ضعيفٌ.
أمَّا الأوَّل ؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قوله ﴿ كُنْ ﴾ قديماً، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق.
وأمَّا الاستدلالُ المعتزلة ؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قولُ الله تعالى الذي هو مركَّبٌ من الحروف، والأصوات مُحْدَثاً ؛ وذلك لا نزاع فيه، [ لأن ]٤ المدَّعى قدمُه شيءٌ آخرُ.

فصل في أقوال الناس في قوله ﴿ كُنْ ﴾


من النَّاس من أجْرَى الآيةَ على ظاهرها، وزعم أنَّه تعالى، إذا أحدث شيئاً، قال له : كُنْ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّه إما أن يقُول له : كُنْ قبل حدوثه، أو حال حُدُوثه، فإن كان الأوَّل، كان خطاباً مع المعدُوم، وهو عبثٌ، وإن كان حال حدوثه، فقد وُجِدَ بالقُدْرَة، والإرادة، لا بقوله ﴿ كُنْ ﴾ ومن النَّاس من زعم أنَّ المراد من قوله :﴿ كُنْ ﴾ هو التخليقُ والتكوينُ ؛ لأنَّ القُدْرَة على الشَّيء غير، وتكوين الشيء غيرٌ فإنَّ الله تعالى قادرٌ في الأزل، وغير مُكَوِّن في الأول ؛ ولأنَّه الآن قادرٌ على عالم سوى هذا العالم، وغير مكوِّن له، فالقادريَّة غير المكوّنيَّة، والتكوينُ ليس هو نفس المكوَّن ؛ لأنَّ المكوَّن إنما حدث ؛ لأنَّ الله تعالى كونه، وأوجده، فلو كان التَّكوين نفس المكوَّن ؛ لكان قولنا :" المُكَوَّن إنَّما وجد بتكوين الله " بمنزلةِ قولنا :" المُكَوَّنُ إنَّما وجد بنَفْسِه " وذلك محالٌ ؛ فثبت أنَّ التكوين غير المُكَوَّن، فقوله ﴿ كُنْ ﴾ إشارةٌ إلى الصفة [ المسمَّاة ] بالتكوين.
وقال آخرون : قوله سبحانه وتعالى :﴿ كُنْ ﴾ عبارةٌ عن نفاذ قُدرة الله تعالى ومشيئته في المُمْكِنَات ؛ فإنَّ وقوعها بتلك القُدْرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مُجْرَى العَبْد المُطِيع المُنْقَاد لأوامر الله تعالى، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبرةِ على سبيلِ الاستعارة.
١ في أ: يكون ولا حياء، ولو كان واجبا لذاته..
٢ في ب: واجبا..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٨٦..
٤ في أ: إنما..
قوله :﴿ وَإِنَّ الله ﴾ : قرأ١ ابن عامرٍ، والكوفيُّون " وإنَّ " بكسر " الهمزة " على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أبيِّ " إن الله " بالكسر، دون واو، وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ :
أحدها : أنها على حذف حرف الجرِّ متعلقاً بما بعده، والتقدير : وأنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبُدُوه ؛ كقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً ﴾ [ الجن : ١٨ ] والمعنى : لوحدانيَّته أطيعوه، وإليه ذهب الزمخشريُّ تابعاً للخليل وسيبويه٢ - رحمة الله عليهم-.
الثاني : أنها عطفٌ على " الصلاةِ " والتقديرُ : وأوصاني بالصلاةِ، وبأنَّ الله، وإليه ذهب الفراء٣، ولم يذكر مكِّي٤ غيره ؛ ويؤيِّده ما في مصحف أبيِّ " وبأنَّ الله ربِّي " بإظهار الباءِ الجارَّة، وقد استُبْعِد هذا القولُ ؛ لكثرةِ الفواصل بين المتعاطفين، وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أبيٍّ ؛ فلا يُرجِّحُ هذا ؛ لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى : بسببِ أنَّ اله ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ، فهي كاللاَّم.
الثالث : أن تكون " أنَّ " وما بعدها نسقاً على " أمْراً " المنصُوب ب " قَضَى " والتقديرُ : وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ الله ربِّي وربُّكم، ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ، واستبعد الناسُ صحَّة هذا النقلِ عن أبي عمرو ؛ لأنَّه من الجلالةِ في العلم والمعرفة بمنزلٍ يمنعهُ من هذا القولِ ؛ وذلك لأنَّه إذا عطف على " أمْراً " لزم أن يكون داخلاً في حيِّز الشرطِ ب " إذَا " وكونهُ تبارك وتعالى ربنا لا يتقيَّد بشرطٍ ألبتة، بل هو ربُّنا على الإطلاق، ونسبوا هذا الوهم أبي عبيدة ؛ لأنَّه كان ضعيفاً في النَّحو، وعدُّوا له غلطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها.
الرابع : أن يكون في محلِّ رفع خبر ابتداءٍ مضمرٍ، تقديره : والأمرُ أنَّ الله ربِّي وربُّكم، ذكر ذلك عن الكسائيِّ، ولا حاجة إلى هذا الإضمارِ.
الخامس : أن يكون في محلِّ نصبٍ نسقاً على " الكتاب " في قوله ﴿ قال إني عبدُ الله آتاني الكتابَ ﴾ على أن يكونَ المخاطبُ بذلك مُعاصِري عيسى - عله صلوات الله- والقائلُ لهم ذلك عيسى، وعن وهبٍ، عهد إليهم عيسى : أنَّ الله ربي وربُّكم، قال هذا القائل : ومن كسر الهمزة يكون قد عطف " إنَّ الله " على قوله ﴿ إنِّي عبد الله ﴾ فهو داخلٌ في حيِّز القولِ، وتكون الجملُ من قوله ﴿ ذلك عيسى ابْنُ مريمَ ﴾ إلى آخرها جمل اعتراضٍ.
وهذا من البعد بمكان كأنَّه قال : إنَّي عبد الله، والله ربِّي وربُّكم، فاعبدوه، وهذا قول أبي مسلمٍ٥، الأصفهانيِّ، وهو بعيدٌ.

فصل في دلالة الآية


قوله :﴿ وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾ يدلُّ على أنَّ مدبِّر العالمِ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [ على ] خلافِ قول المُنَجَّمين : أنَّ المدبِّر للنَّاسِ، ومُصلحَ أمورهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكبُ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الإله واحدٌ ؛ لأنَّ لفظ " الله " اسمٌ علمٌ له سبحانه، لا إله إلا هو، فلمَّا قال :﴿ وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾، أي : لا ربِّ للمخلوقاتِ سوى الله ؛ وذلك يدلُّ على التَّوحيد.
وقوله ﴿ فاعْبُدُوهُ ﴾ قد ثبت في أصُول الفقهِ أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مُشْعِرٌ بالعليَّة، فها هنا وقع الأمر بالعبادة مُرتبَّا على ذكر وصف الربوبيَّة، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه ؛ لكونه ربَّا لنا ؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عيادتهُ لكونُهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم ؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان، قال :﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٤٢ ] أي : إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ، لم تجزِ عبادتها، وبيّن ها هنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربَّا ومُربَّياً، وجبتْ عبادتهُ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة والصاحبة صراط مُنْعِماً، ثم قال :﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ [ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً ]٦ تشبيهاً بالطَّريق ؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة.
١ ينظر في قراءتها: السبعة ٤١٠، والنشر ٢/٣١٨، والحجة ٤٤٤، والتيسير ١٤٩، والحجة للفراء السبعة ٥/٢٠٢، وإعراب القراءات ٢/١٩ والإتحاف ٢/٢٣٧، والقرطبي ١١/٧٢، والبحر ٦/١٧٩..
٢ ينظر: الكتاب ١/٤٦٤ – ٤٦٥..
٣ ينظر: معاني القرآن للفراء ٢/١٦٨..
٤ ينظر: المشكل ٢/٥٧..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٨٧..
٦ سقط من: أ..
مُشْعِرٌ بالعليَّة، فها هنا وقه الأمر بالعبادة مُرتبَّا على ذكر وصف الربوبيَّة، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه؛ لكونه ربَّا لنا؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عيادتهُ لكونُهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان، قال: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢] أي: إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ، لم تجزِ عيادتها، وبيّن ها هنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربَّا ومُربَّياً، وجبتْ عبادتهُ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة والصاحبة صراط مُنْعِماً، ثم قال: ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً] تشبيهاً بالطَّريق؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة.
قوله
تعالى
: ﴿فاختلف
الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾
.
قيل: المرادُ النَّصارى، سُمُّوا أحزاباً؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النَّسْطُوريَّة، والملكانيَّة [واليعقوبيَّة] وقيل: المراد بالأحزاب الكفَّار بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ، والنصارى، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه، ويريِّدهُ قوله تعالى: ﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾.
قوله: ﴿مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ :«مَشْهَد» مفعل: إمَّا من الشَّهادة، وإمَّا من الشُّهود، وهو الحضورُ، و «مَشْهَدا» هنا: يجوز أن يراد به الزمانُ، أو المكان، أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمرادُ به الزمانُ، فتقديرهُ: من وقتٍ شهادة، وإن أريد به المكانُ، فتقديره: من مكانِ شهادةِ يومٍ، وإن أريد المصدرُ، فتقديره: من شهادة ذلك اليومِ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، والملائكة ُ، والأنبياءُ، وإذا كان من الشهود فيه، وهو الموقفُ، أو من وقت الشُّهود، وإذا كان مصدراً بحاليته المتقدمتين، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع؛ كقوله ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤].
ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة، وإمَّا مجازاً.
ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله.
67
قوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ : هذا لفظ أمرٍ، ومعناه: التعجُّب، وأصحُّ الأعاريب فيه، كما تقرَّر في علم النَّحو: أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ، والباءُ زائدة، وزيادتها لازمةٌ؛ إصلاحاً للفظ؛ لأنَّ «أفْعِلْ» أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ؛ كقوله: [الطويل]
٣٦٠٦ - تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا
أي: بأنْ تسربل، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ، ولا ضمير في «أفْعِلْ» ولنا قولٌ ثانٍ: أن الفاعل مضمرٌ، والمراد به المتكلِّمُ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ.
ولنا قولٌ ثالثٌ: أن الفاعل ضمير المصدرِ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقدير: أحسن، يا حُسْنُ، بزيدٍ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية، فإنَّ تقديره: وأبْصِرْ بهم، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو.

فصل في التعجب


قالوا: التعجُّب استعظام الشيء، مع الجهل؛ بسبب عظمه، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله.
قال الفرَّاء: قال سفيانُ: قرأتُ عن شريحٍ: ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ﴾ [الصافات: ١٢] فقال: إنَّ الله لا يعجبُ من شيء، إنما يعجبُ من لا يعلم، قال: فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمهن وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ﴾.
ومعناه: أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ، لو صدر مثله عن الخلق، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا، فللتعجُّب صيغتان:
إحداهما: ما أفعلهُ، والثانيةُ أفعل به.
كقوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ والنحويُّون ذكروا له تأويلان:
الأول: قالوا: أكْرِمْ بزيدٍ، أصل «أكرم زيدٌ» أيك صار ذا كرمٍ، ك «أغَدَّ البَعِيرُ» أي: صار ذا غُدَّة، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر، ومعناه الخبرُ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر؛ كقوله سبحانه وتعالى:
68
﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾ [مريم: ٧٥] أي: يمُدُّ له الرحمنُ، والباء زائدةٌ.
الثاني: أن يقال: إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً، أي: بأن يصفه بالكرمِ، والباء زائدةٌ؛ كما في قوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ [البقرة: ١٩٥].
قال ابن الخطيبِ: وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً؛ وهو أن قولك: أكرم بزيدٍ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ بك غرضك.

فصل في معنى الآية


المشهورُ أنَّ معنى قوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ «ما أسمعهُمْ، وما أبْصَرهُم» والتعجُّب على الله تعالى محالٌ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا.
وقيل: معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ، ويصدعُ قلوبهم.
وقال القاضي: ويحتملُ أن يكون المرادُ: أسمع هؤلاء وأبصرهم، أيك عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا؛ ليعتبروا وينزجروا.
وقال الجُبَّائيُّ: ويجوز: أسمع النَّاسَ بهؤلاء، ليعرفُوا أمرهُم، وسُوء عاقبتهم، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ معمولٌ ل «أبْصِرْ». [ولا يجوز أن يكون معمولاً ل «أسْمِعْ» لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب، ومعموله؛ ولذلك كان الصحيح أنه] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال، وقيل: بل هو أمرٌ حقيقة، والمأمورُ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: أسمعِ النَّاس، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
قوله تعالى: ﴿لكن الظالمون اليوم﴾.
نصب «اليَوْمَ» بما تضمَّنه الجار من قوله «في ضلالٍ مُبينٍ» أي: لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يخبر عن الجثة [بالزَّمان؛ بخلاف] قولك: القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ؛ فإنه يجوز الاعتباران.

فصل في معنى الآية


المعنى: ﴿لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي: خطأ بيِّنٍ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ.
69
وقيل: لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة؛ بخلاف المؤمنين.
وقوله ﴿لكن الظالمون﴾ من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر.
قوله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ هذا أمرٌ لمحمَّد - صلوات الله عليه وسلم - بأن ينذر من في زمانه، والإنذار: التخويفُ من العذاب، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى، ويوم الحسرة: هو يوم القيامة؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار.
وقيل: يتحسَّر أيضاً في الجنَّة، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية؛ لقول رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه -: «مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ، قالوا: فَما ندمهُ يا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ كان مُحْسناً، ندم ألاَّ يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ» والأول أصحُّ؛ لأن الحسرة [هَمٌّ]، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة.
قوله: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ : يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ، والمصدرُ المعرَّفُ ب «ألْ» يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم، فكيف بالظَّرف؟ ويجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم» فيكون معمولاً ل «أنْذِرْ» كذا قال أبو البقاء، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان، ولم يذكر غير البدل، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي، فإن جعلت «اليوم» مفعولاً به، أي: خوِّفهُم نفس اليوم، أي: إنَّهُم يخافُون اليوم نفسهُ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة.

فصل في قوله تعالى ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾


في قوله تعالى: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ وجوه:
أحدها: قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل، وشرح أمر الثَّواب والعقاب.
وثانيها: [إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا، وزوالِ التَّكليف، والأول أقرب؛ لقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
وثالثها:] «إذْ قُضِيَ الأمْرُ» فُرِغَ من الحساب، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهلُ النَّار النَّار، وذُبح الموتُ؛ كما روي أنَّه سُئل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ فقال: «حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلَحَ، فيذبحُ، والفريقان ينظران؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ، وأهلُ النَّار غمَّا إلى غمِّ».
70
قوله :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ : هذا لفظ أمرٍ، ومعناه : التعجُّب، وأصحُّ الأعاريب فيه، كما تقرَّر في علم النَّحو : أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ، والباءُ زائدة، وزيادتها لازمةٌ ؛ إصلاحاً للفظ ؛ لأنَّ " أفْعِلْ " أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ ؛ كقوله :[ الطويل ]
تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا١
أي : بأنْ تسربل، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ، ولا ضمير في " أفْعِلْ " ولنا قولٌ ثانٍ : أن الفاعل مضمرٌ، والمراد به المتكلِّمُ ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ.
ولنا قولٌ ثالثٌ : أن الفاعل ضمير المصدرِ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقدير : أحسن، يا حُسْنُ، بزيدٍ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية، فإنَّ تقديره : وأبْصِرْ بهم، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو.

فصل في التعجب


قالوا : التعجُّب استعظام الشيء، مع الجهل ؛ بسبب عظمه، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله.
قال الفرَّاء : قال سفيانُ : قرأتُ عن شريحٍ :﴿ بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ ﴾ [ الصافات : ١٢ ] فقال : إنَّ الله لا يعجبُ من شيء، إنما يعجبُ من لا يعلم، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ -رضي الله عنه- فقال : إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها ﴿ بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ ﴾.
ومعناه : أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ، لو صدر مثله عن الخلق، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا، فللتعجُّب صيغتان :
إحداهما : ما أفعلهُ، والثانيةُ أفعل به.
كقوله تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ والنحويُّون ذكروا له تأويلان :
الأول : قالوا : أكْرِمْ بزيدٍ، أصل " أكرم زيدٌ " أيك صار ذا كرمٍ، ك " أغَدَّ البَعِيرُ " أي : صار ذا غُدَّة، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر، ومعناه الخبرُ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر ؛ كقوله سبحانه وتعالى :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ]، ﴿ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ]، ﴿ قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٥ ] أي : يمُدُّ له الرحمنُ، والباء زائدةٌ.
الثاني : أن يقال : إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً، أي : بأن يصفه بالكرمِ، والباء زائدةٌ ؛ كما في قوله :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ].
قال ابن الخطيبِ٢ : وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً ؛ وهو أن قولك : أكرم بزيدٍ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً ؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ لك غرضك.

فصل في معنى الآية


المشهورُ أنَّ معنى قوله :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ " ما أسمعهُمْ، وما أبْصَرهُم " والتعجُّب على الله تعالى محالٌ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا.
وقيل : معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ، ويصدعُ قلوبهم.
وقال القاضي٣ : ويحتملُ أن يكون المرادُ : أسمع هؤلاء وأبصرهم، أي : عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا ؛ ليعتبروا وينزجروا.
وقال الجُبَّائيُّ : ويجوز : أسمع النَّاسَ بهؤلاء، وأبصرهم بهؤلاء، ليعرفُوا أمرهُم، وسُوء عاقبتهم، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ معمولٌ ل " أبْصِرْ ". [ ولا يجوز أن يكون معمولاً ل " أسْمِعْ " لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب، ومعموله ؛ ولذلك كان الصحيح أنه ] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال، وقيل : بل هو أمرٌ حقيقة، والمأمورُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمعنى : أسمعِ النَّاس، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب ؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
قوله تعالى :﴿ لكن الظالمون اليوم ﴾.
نصب " اليَوْمَ " بما تضمَّنه الجار من قوله ﴿ في ضلالٍ مُبينٍ ﴾ أي : لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ ؛ لئلا يخبر عن الجثة [ بالزَّمان ؛ بخلاف ] قولك : القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ ؛ فإنه يجوز الاعتباران.

فصل في معنى الآية


المعنى :﴿ لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي : خطأ بيِّنٍ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ.
وقيل : لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة ؛ بخلاف المؤمنين.
وقوله ﴿ لكن الظالمون ﴾ من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر.
١ البيت لأوس بن حجر، ديوانه ٨٤، المقرب ١/٧٧، الهمع ٢/٩٠، الدرر ٢/١٢٠، التهذيب واللسان "عزل"، الدر المصون ٤/٥٠٧..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٨٩..
٣ ينظر: المصدر السابق..
قوله :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة ﴾ هذا أمرٌ لمحمَّد -صلوات الله عليه وسلم- بأن ينذر من في زمانه، والإنذار : التخويفُ من العذاب، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى، ويوم الحسرة : هو يوم القيامة ؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار.
وقيل : يتحسَّر أيضاً في الجنَّة، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية ؛ لقول رسول الله -صلوات الله عليه وسلامه- :" مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ، قالوا : فَما ندمهُ يا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ كان مُحْسناً، ندم ألاَّ يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ " ١ والأول أصحُّ ؛ لأن الحسرة [ هَمٌّ ]٢، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة.
قوله :﴿ إِذْ قُضِيَ الأمر ﴾ : يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ، والمصدرُ المعرَّفُ ب " ألْ " يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم، فكيف بالظَّرف ؟ ويجوز أن يكون بدلاً من " يَوْم " فيكون معمولاً ل " أنْذِرْ " كذا قال أبو البقاء٣، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان، ولم يذكر غير البدل، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته ؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي، فإن جعلت " اليوم " مفعولاً به، أي : خوِّفهُم نفس اليوم، أي : إنَّهُم يخافُون اليوم نفسهُ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة.

فصل في قوله تعالى ﴿ إِذْ قُضِيَ الأمر ﴾


في قوله تعالى :﴿ إِذْ قُضِيَ الأمر ﴾ وجوه :
أحدها : قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل، وشرح أمر الثَّواب والعقاب.
وثانيها :[ إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا، وزوالِ التَّكليف، والأول أقرب ؛ لقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
وثالثها :]٤ " إذْ قُضِيَ الأمْرُ " فُرِغَ من الحساب، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهلُ النَّار النَّار، وذُبح الموتُ ؛ كما روي أنَّه سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قوله :﴿ إِذْ قُضِيَ الأمر ﴾ فقال :" حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلَحَ، فيذبحُ، والفريقان ينظران ؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ، وأهلُ النَّار غمَّا إلى غمِّ " ٥.
قوله تعالى :﴿ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ جملتان حاليتان، وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله ﴿ في ضلال مبين ﴾ أي : استقروا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين.
والثاني : أنهما حالان من مفعول " أنذِرْهُم " [ أي : أنذرهُم على هذه الحالِ، وما بعدها، وعلى الأول يكون قوله ﴿ وأنْذِرْهُم ﴾ ] اعتراضاً.
والمعنى : وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة ﴿ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ولا يصدقون بذلك اليومِ.
١ أخرجه الترمذي (٤/٥٢٢) كتاب الزهد باب ٥٨، رقم (٢٤٠٣) من طريق يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا وقال: هذا حديث إنما تعرفه من هذا الوجه ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة.
ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم (٨/١٧٨) وقال غريب من حديث يحيى لم نكتبه إلا من حديث ابن المبارك..

٢ في ب: غم..
٣ ينظر: الإملاء ٢/١١٤..
٤ سقط من: ب..
٥ أخرجه البخاري (٨/٢٨٢) كتاب التفسير: باب وأنذرهم يوم الحسرة حديث (٤٧٣٠) ومسلم (٤/٢١٨٨) كتاب الجنة: باب النار يدخلها الجبارون حديث (٤٠/٢٨٤٩) من حديث أبي هريرة..
قوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا ﴾ أي : نُميتُ سُكَّان الأرض، ونُهلِكُهم جميعاً، ويبقى الرَّبُّ وحده، فيرثُهُم ﴿ وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾، فنجزيهم بأعمالهم.
[ وقرأ العامَّةُ " يُرْجَعُون " بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول، والسُّلمي١، وابن أبي إسحاق، وعيسى مبنيًّا للفاعل، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكون التفاتاً، وألا يكون ].
١ ينظر في قراءتها: الإتحاف ٢/٢٣٧، البحر ٦/١٨٠، ١٨١ والدر المصون ٤/٥٠٨..
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ جملتان حاليتان، وفيهما قولان:
أحدهما: أنهما حالان من مفعول «أنذِرْهُم» [أي: أنذرهُم على هذه الحالِ، وما بعدها، وعلى الأول يكون قوله «وأنْذِرْهُم» ] اعتراضاً.
والمعنى: وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ولا يصدقون بذلك اليومِ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ أي: نُميتُ سُكَّان الأرض، ونُهلِكُهم جميعاً، ويبقى الرَّبُّ وحده، فيرثُهُم ﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾، فنجزيهم بأعمالهم.
[وقرأ العامَّةُ «يُرْجَعُون» بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول، والسُّلمي، وابن أبي إسحاق، وعيسى مبنيًّا للفاعل، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكون التفاتاً، وألا يكون].
قوله
تعالى
: ﴿واذكر
فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ﴾
اعلم أنَّ منكرِي التوحيد الذين اثْبَتُوا معبُوداً سوى الله تعالى فريقان:
منهم: من أثبت معبُوداً غير الله تعالى حيًّا، عاقلاً، فاهماً، وهم النصارى.
ومنهم: من أثبت معبُوداً غير الله، جماداً ليس بحيّ ولا عاقلٍ، وهم عبدةُ الأوثان.
والفريقان، وإن اشتركا في الضَّلال، إلاَّ أنَّ ضلال عبدة الأوثان أعظم، فلمّا بيَّن الله تعالى ضلال الفريق الأوَّل، تكلَّم في ضلال الفريق الثاني، وهم عبدةُ الأوثان؛ فقال: ﴿واذكر فِي الكتاب﴾ والواو في قوله: ﴿واذكر﴾ عطف على قوله ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ [مريم: ٢] كأنَّه لمَّا انتهت قصَّةُ زكريَّا ويحيى، وعيسى - صلوات الله عليهم - قال: قد
71
ذكرتُ حال زكريَّا، فتذكر حال إبراهيم - صلواتُ الله عليه - وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه - صلوات الله عليه - ما كان هُو، ولا قومُه، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم، ومطالعةِ الكتب، فإذا أخبر عن هذه القصَّة، كما كانت من غير زيادةٍ، ولا نقصانٍ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب، ومُعْجِزاً [قاهراً] دالاَّ على نُبُوَّته، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لوجوه:
الأول: أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - كان أبا العرب، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شانه، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] فكأنه تعالى قال للعرب: إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٣] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم - صلوات الله عليه - فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان، وإن كُنتم [مستدلين]، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان، وبالجملةُ: فاتَّبِعُوا إبراهيم، إمَّا تقليداً، أو استدلالاً.
الثاني: أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - كانوا يقولون: نتركُ دين آبائنا، وأجدادنا؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - و [بيَّن] أنه ترك دين أبيه، وأبطل قوله بالدليل، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه.
الثالث: أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد، [وينكِرُون] الاستدلال؛ كما حكى الله تعالى عنهم ﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٣] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم، ثُمَّ قال تعالى في صفة الصِّدق، القائم عليه، يقال: رجلٌ خميرٌ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال.
وقيل: هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به، والأول أولى؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلاَّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوّل.
فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى ﴿والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون﴾ [الحديد: ١٩] فالجوابُ: المؤمنون بالله [ورسله] صادقُون في ذلك التَّصديق.
واعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه، ومُصدَّق الله صادقٌ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله
72
على النَّاسِ؛ لقوله تعالى: ﴿وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١] والشَّهيد: إنَّما يقبلُ قوله، إذا لم يكن كاذباً؛ فإن قيل: فما قولكم في قول إبراهيم ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٣] و ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩].
فالجوابُ مشروحٌ في هذه الآياتِ، وبينَّا أن شيئاً من ذلك ليس بكذبٍ، ولمَّا ثبت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجب أن يكون صديقاً، ولا يجبُ في كلِّ صدِّيقٍ أن يكون نبيًّا؛ ظهر بهذا قربُ مرتبة الصِّدِّيق من مرتبة النبيِّ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبيًّا.
وأما النبيُّ: فمعناه: كونهُ رفيع القدر عند الله، وعند النَّاس، وأيُّ رفعةٍ أعلى من رفعةِ من جعله الله واسطةً بينه، وبين عباده، وقوله: ﴿كَانَ صِدِّيقاً﴾ معناه: صار، وقيل: وجد صدِّيقاً نبيًّا، أي: كان من أوَّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصِّيانة.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ﴾ : يجوز أن يكون بدلاً من «إبْراهيمَ» بدل اشتمال؛ كما تقدَّم في ﴿إِذِ انتبذت﴾ [الآية: ١٦] وعلى هذا، فقد فصل بين البدل، والمبدل منه؛ بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾ نحو: «رأيتُ زيْداً - ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ» وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن تتعلق «إذْ» ب «كَانَ» أو ب «صدِّيقاً نبيًّا»، أي: كان جامعاً لخصائص الصديقين، والأنبياء، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء أن يعمل فيه «صدِّيقاً نبيًّا» أو معناه.
قال أبو حيان: «الإعرابُ الأوَّلُ - يعني البدلية - يقتضي تصرُّف» إذْ «وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ» كان «في الظرف، وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ، ولا جائز أن يكون معمولاً ل» صدِّيقاً «لأنَّه قد وصف، إلا عند الكوفيِّين، ويبعدُ أن يكون معمولاً ل» نبيَّا «لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة».
قال شهاب الدين: العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله: «أي: كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه».
وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ «يَا أبَتَ» وفي مصحف عبد الله «وا أبتِ» ب «وا» التي للندبة.
والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ، ولا يقال: يا أبتي، لئلاَّ يجمع بين العوض، والمعوَّض منه، وقد يقال: يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء.
قوله تعالى: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه:
73
أحدها: أن العبادة غايةُ التَّعظيم، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعام، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم، وفروعها على [ما تقدم] في تفسير قوله تعالى:
﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ [آل عمران: ٥١]، وقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨]، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها.
وثانيها: أنَّها إذا لم تسمع، ولم تُبْصر، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات.
وثالثها: أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي، فأيُّ منفعةٍ في عبادته؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب؟.
ورابعها: أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات؛ فيكون أفضل، وأكمل من الوثنِ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ؟.
وخامسها: إذا كانت لا تنفعُ، ولا تضرُّ، فلا يرجى منها منفعةٌ، ولا يخافُ من ضررها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها؟!.
وسادسها: إذا كانت لا تحفظ نفسها من الكسر والإفساد، حين جعلها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - جُذاذاً، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير؟ َ، فكأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - قال: ليست الإلهيَّة إلاَّ لربِّ يسمعُ ويبصر، ويجيبُ دعوة الدَّاعي، إذا دعاه.
فإن قيل: إمَّا أن يقال: إنَّ أبا إبراهيم - صلوات الله عليه - كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ، مختارةٌ، خالقة.
أو يقال: إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب.
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله.
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركَّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب، قلَّما يتَّفِقُ مثلها، أو لغير ذلك.
فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل، كان في نهاية الجُنُونِ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسَّموات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً، والمجنونُ لا يناظرُ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة، وإن كان من القسم الثاني، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما
74
يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء، ولا قادرة، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك. فالجوابُ: لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ: أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني، وإنَّما أورد إبراهيمُ - صلوات الله وسلامه عليه - هذه [الدلائل] عليهم؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطَّلَّمسات، أو على سبيل أن الكواكب تنفع، وتضُرُّ، فبيَّن إبراهيم - صلواتُ الله عليه وسلامه - أنه لا منفعة في طاعتها، ولا مضرَّة في الإعراض عنها؛ فوجب أن تجتنب عبادتها.
قوله
: ﴿ياأبت
إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم﴾
بالله، والمعرفة ﴿مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني﴾ على ديني ﴿أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾ مستقيماً. ﴿ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان﴾ أي: لا تطعهُ فيما يزيِّن لك من الكُفر والشِّرك؛ لأنَّهم ما كانُوا يعبدُون الشيطان؛ فوجب حملُه على الطَّاعة ﴿لشَّيْطَانَ إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً﴾ أي: عاصياً، و «كَانَ» بمعنى الحالِ، أي: هو كذلك.
فإن قيل: إثباتُ الصَّانع.
وثانيها: إثباتُ الشيطان.
وثالثها: أن الشيطان عاصٍ [لله].
ورابعها: أنَّه لما كان عاصياً، لم تَجُزْ طاعتهُ في شيءٍ من الأشياء.
وخامسها: أن الاعتقاد الذي كان عليه آزرُ مُستفادٌ من طاعة الشيطان، ومن شأنِ الدَّلالة التي تُورَدُ على الخصم: أن تكون مركبة من مقدِّمات معلومةٍ، يسلِمها الخصمُ، ولعلَّ أبا إبراهيم كان منازعاً في كُلِّ هذه المقدِّمات، وكيف، والمحكيُّ عنه: أنه ما كان يُثْبِتُ إلهاً سوى نُمْرُوذَ؛ فكيف يسلِّم وجود الرَّحمن؟
وإذا لم يسلِّم وجوده، فكيف يسلَّم أنَّ الشيطان عاص في الرحمن؟ وبتقدير تسليم ذلك؛ فكيف يسلِّم الخصمُ بمجرَّد هذا الكلامِ أنَّ مذهبهُ مقتبسٌ من الشيطان، بل لعلَّه يقلب ذلك على خصمه.
فالجوابُ:
أنَّ الحجَّة المعوِّل عليها في إبطالِ مذهب «آزَرَ» هو قوله: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ وهذا الكلامُ يجري مَجْرَى التَّخويف والتَّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدَّلالة، فسقط السُّؤال.
75
قوله تعالى: ﴿يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ﴾.
قال الفرَّاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخافُ: أعلمُ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه - عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر، وذلك لم يثبتْ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب، ويجوز أن يدُوم على الكفر؛ فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك، كان خائفاً لا قاطعاً، والأوَّلُون فسَّروا الآية، فقالوا: أخافُ، بمعنى أعلمُ ب «أن يسمِّك عذابٌ» يصيبك عذابٌ من الرحمن، إن أقمت على الكفر، «فتكُون للشيطانِ وليَّا» قريناً؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً.
وقيل: المرادُ بالعذابِ هنا: الخِذْلانُ، والتقدير: إنَّي أخاف أن يمسِّك خذلانٌ من الله، فتصير موالياً للشيطان، ويتبرأ الله منك.

فصل في نظم الآية


أعلمْ أنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - رتِّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان، ثُمَّ أمره باتَّباعه في النَّظر، والاستدلال، وترك التقليد، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما ينبغي، ثم إنَّه - صلوات الله عليه - أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه: «يا أبت» دليلٌ على شدَّة الحبِّ، والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصَّواب، وختم الكلام بقوله: ﴿ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ﴾ وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق فيه بمصالحِه، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ:
الأول: لقضاءِ حقِّا لأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى:
﴿وبالوالدين
إِحْسَاناً﴾
[الإسراء: ٢٣] والإرشادُ إلى الدِّين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضم إليه رعايةُ الأدب والرِّفق، كان نُوراً على نُور.
والثاني: أنَّ الهادي إلى الحقِّ لا بُدَّ وأن يكون رفيقاً لطيفاً لا يُورِدُ الكلام على سبيل العُنْفِ؛ لأنَّ إيرادهُ على سبيل العُنْفِ يصيرُ كالسَّبب في أعراض المُستمع؛ فيكون ذلك في الحقيقةِ سَعْياً في الإغواء.
وثالثها: - ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال صلوات الله عليه وسلامه -: «أوْحَى اللهُ - تبارك وتعالى - إلى إبراهيمَ أنَّك خليلي فحسِّنْ خُلقكَ ولو مع الكُفَّار تدخُلْ مداخلَ الأبْرارِ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسَّن خلقهُ، أنْ أظلَّهُ تحت عرشي، وأسْكِنهُ حظيرةَ القُدْسِ، وأدينه من جواري».
76
قوله: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ﴾ : يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «راغبٌ» مبتدأ؛ لاعتماده على همزةِ الاستفهام، و «أنْتَ» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر.
والثاني: أنه خبر مقدمٌ، و «أنْتَ» مبتدأ مؤخَّر، ورُجِّح الأول بوجهين:
أحدهما: أنه ليس فيه تقديمٌ، ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعل التأخير عن رافعه.
والثاني: أنه لا يلزمُ منه الفصلُ بين العامل ومعموله بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك أنَّ «عَنْ آلهتي» متعلقٌ ب «رَاغِبٌ» فإذا جعل «أنْتَ» فاعلاً قد فُصِل بما هو كالجزء من العامل؛ بخلاف جعله خبراً؛ فإنه أجنبيٌّ؛ إذ ليس معمولاً ل «راغبٌ».

فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم


اعلم أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه - لمَّا دعا أباهُ إلى التوحيد، وذكر الدَّلالة على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ البليغِ، مقروناً باللُّطف والرِّفْق قابله أبُوه بجواب [مضاد] لذلك، فقابل حُجَّته بالتَّقليد بقوله: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي﴾ فأصرَّ على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً، وقابل وعظهُ بالسَّفاهة؛ حيثُ هدَّده بالضَّرْب والشَّتْم، وقابل رفقه في قوله «يا أبَتِ» بالعنف، فلم يَقُلْ له: يا بنيَّ، بل قال له: يا إبراهيمُ، وإنَّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمَّدٍ - صلواتُ الله وسلامه عليه - تخفيفاً على قلبه ما كان يصلُ إليه من أذى المشركين، ويعلمُ أنَّ الجُهَّال منذُ كانوا على هذه السِّيرة المذمومة، ثم قال: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾.
77
قال الكلبيُّ: ومقاتلٌ، والضحاكُ، لأشتنمَّك، ولأبعدنَّك عنِّي بالقول القبيح، ومنه قوله سبحانه وتعالى:
﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ [النور: ٤] ؛ أي: بالشَّتْم، ومنه: الرَّجيمُ، أي: المرميُّ باللَّعْن.
قال مجاهدٌ: كلُّ رجمٍ في القرآن بمعنى الشَّتم، وهذا ينتقضُ بقوله تعالى: ﴿رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: ٥].
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأضربنَّك.
وقال الحسنُ: لأرجمنَّك بالحجارة وهو قولُ أبي مسلم؛ لأنَّ أصله الرمي بالرِّجام، فحمله عليه أولى.
وقال المروِّج: «أقْتُلَنَّكَ» بلغة قريش، وممَّا يدلُّ على أنه أراد الطَّرْد، والإبْعاد قوله: ﴿واهجرني مَلِيّاً﴾.
قوله تعالى: «مَلِيَّاً» في نصبه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزمانيِّ، أي: زمناً طويلاً، ومنه «الملوانِ» للَّيلِ والنهار، وملاوةُ الدَّهر، بتثليث الميم قال: [الطويل]
٣٦٠٧ - فَعُسْنَا بِهَا مِنَ الشَّبابِ ملاوةً فَلَلْحَجَّ آيَاتُ الرَّسُولِ المُحَبِّبِ
وأنشد السدى على ذلك لمهَلْهَلٍ قال: [الكامل]
٣٦٠٨ - فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لمَوْتِهِ وبَكَتْ عليْه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا
أي: أبداً.
والثاني: أنه منصوبٌ على الحال، معناه: سالماً سويَّا، قال ابن عباس: [اعتزلني سالماً؛ لا يصيبك مني معرة] فهو حالٌ من فاعل «اهْجُرْنِي» وكذلك فسَّره ابن عطيَّة؛ قال: «معناه: مستبدَّا، أي: غنيَّا عني من قولهم: هو مليٌّ بكذا وكذا» قال الزمخشريُّ: «أي: مُطِيقاً».
والمعنى: مليَّا بالذِّهَابِ عنِّي، والهجران، قيل: أن أثخنك بالضَّربِ؛ حتى لا تقدر أن تبرح.
والثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: هجراً مليَّا، يعني: واسعاً متطاولاً؛ كتطاول الزمان الممتدِّ.
78
قال الكلبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اجتنبني طويلاً.
والمراد بقوله: واهجرني، أي: بالمفارقة من الدَّار والبلدِ، وهي كهجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، أي: تباعد عنِّي؛ لكي لا أراك.
وقيل: اهجرني [بالقول، وعطف «واهجرني» على معطوف عليه محذوف عليه محذوف يدل عليه: «لأرجمنك» أي: فاحذرني، واهجرني] ؛ لئلا أرجمنك، فلما سمع إبراهيمُ - صلوات الله وسلامه عليه - كلام أبيه، أجاب بأمرين:
أحدهما: أنه وعدُه بالتَّباعُد منه؛ موافقة وانقياداً لأمْرِ أبيه.
والثاني: قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكَ﴾ توديعٌ، ومتاركةٌ، أي: سلمتَ منِّي لا أصيبُك بمكروهٍ، وذلك لأنَّه لم يؤمر بقتاله على كفره؛ كقوله تعالى: ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾ [القصص: ٥٥]، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣].
وهذا يدلُّ على جواز متاركة المنصُوح، إذا ظهر منه اللَّجاج، وعلى أنَّه تحسُن مقابلةُ الإساءةِ بالإحسان، ويجوزُ أن يكون دعا لهُ بالسَّلامة؛ استمالة له.
ألا ترى أنَّه وعدُه بالاستغفار؛ فيكون سلام برٍّ ولطفٍ، وهو جوابُ الحليمِ للسَّفيه؟
كقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣].
وقرأ أبو البرهسم «سلاماً» بالنصب، [وتوجيهها] واضحٌ ممَّا تقدَّم.
قوله: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾، أي: لمَّا أعياه أمرُه، وعدهُ أن يراجع الله فيه، فيسألهُ أن يرزقه التَّوحيد، ويغفر له، والمعنى: سأسأل الله لك توبةٌ تنالُ بها المغفرة: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ برَّا لطيفاً.
واحتجَّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - وذلك أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - استغفر لأبيه، وأبُوه كافراً، والاستغفارُ للكُفَّار غيرُ جائزٍ؛ فثبت أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه - فعل ما لا يجوزُ.
أما استغفارهُ أبيه؛ فلقوله: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ وقوله: ﴿واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين﴾ [الشعراء: ٨٦]
وأما كون أبيه كافراً؛ فبالإجماع، ونصِّ القرآن.
وأمَّا أن الاستغفار [للكافر] لا يجوزُ؛ فلقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن
79
يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} [التوبة: ١١٣] ولقوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الممتحنة ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله: ﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤].
والجوابُ: أن الآية تدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لنا التأَّسِّي به في ذلك؛ لكنَّ المنع من التَّأسِّي به في ذلك لا يدلُّ على أنَّ ذلك كان معصيةٌ؛ فإن كثيراً من الأشياء هي من خواصِّ رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - ولا يجُوزُ لنا التَّأسِّي به فيها، مع أنَّها كانت مباحةٌ له.
وأيضاً: لعلَّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى، وحسناتُ الأبْرارِ سيِّئاتُ المقرَّبينَ.
قوله: ﴿اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾.
قال مقاتلٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان اعتزالُه إيَّاهُمْ أنَّه فارقهُم من «كوثى»، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة، والاعتزالُ عن الشيء هو التَّباعدُ عنه، «وأدعُو ربِّي» أعبد ربي الذي يَضُرُّ وينفعُ، والذي خلقني، وأنعم عليَّ ﴿رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّا﴾، أي: عسى ألاَّ أشْقَى بدُعائه وعبادته؛ كما تشقون أنتمُ بعبادةِ الأصنام، ذكر ذلك على سبيل التواضُع؛ كقوله تعالى: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾ [الشعراء: ٨٢].
وقوله: «شَقِيَّا» فيه تعريضٌ لشقاوتهم في دعاء آلهِتْهمْ.
وقيل: عسى أن يجيبني، إن دعوتُه.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾.
ذهب مهاجراً إلى ربِّه، فعوَّضه أولاداً أنبياء بعد هجرته، ولا حالة في الدِّين والدُّنيا للبشر أرفعُ من أن يجعله الله رسولاً إلى خلقه، ويُلزم الخلق طاعتهُ، والانقياد لهُ مع ما يحصلُ له من عظيم المنزلةِ في الآخرةِ.
قوله تعالى: ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾ :«كُلاَّ» مفعولٌ مقدَّم هو الأول، و «نبيَّا» هو الثاني.
ثم إنَّه مع ذلك وهب لهم من رحمته، قال الكلبيُّ: المال والولد، وهو قول الأكثرين، قالوا: هو ما بسط لهم في الدَّنيا من سعة الرِّزق.
وقيل: الكتاب والنبوَّة. ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾ :
يعني: ثناءٌ حسناً رفيعاً في كُلِّ أهل الأديان، وعبَّر باللسان عما يُوجد باللِّسان، منا عُبِّر باليد عمَّا يوجدُ باليدِ، وهو العطيَّة، فاستجاب الله دعوته في قوله: ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٤]، فصيَّره قُدوةً، حتى ادَّعاه أعلُ الأديان كلهم. فقال سبحانه وتعالى: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨].
80
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ لأبِيهِ ﴾ : يجوز أن يكون بدلاً من " إبْراهيمَ " بدل اشتمال ؛ كما تقدَّم في ﴿ إِذِ انتبذت ﴾ [ الآية : ١٦ ] وعلى هذا، فقد فصل بين البدل، والمبدل منه ؛ بقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً ﴾ نحو :" رأيتُ زيْداً -ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ " وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن تتعلق " إذْ " ب " كَانَ " أو ب " صدِّيقاً نبيًّا "، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين، والأنبياء، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء١ أن يعمل فيه " صدِّيقاً نبيًّا " أو معناه.
قال أبو حيان :" الإعرابُ الأوَّلُ - يعني البدلية - يقتضي تصرُّف " إذْ " وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ " كان " في الظرف، وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ، ولا جائز أن يكون معمولاً ل " صدِّيقاً " لأنَّه قد وصف، إلا عند الكوفيِّين، ويبعدُ أن يكون معمولاً ل " نبيَّا " لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة ".
قال شهاب الدين : العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله :" أي : كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه ".
وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ " يَا أبَتَ " وفي مصحف عبد الله٢ " وا أبتِ " ب " وا " التي للندبة.
والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ، ولا يقال : يا أبتي، لئلاَّ يجمع بين العوض، والمعوَّض منه، وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء.
قوله تعالى :﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه :
أحدها : أن العبادة غايةُ التَّعظيم، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعام، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم، وفروعها على [ ما تقدم ]٣ في تفسير قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾ [ آل عمران : ٥١ ]، وقوله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ]، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها.
وثانيها : أنَّها إذا لم تسمع، ولم تُبْصر، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات.
وثالثها : أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي، فأيُّ منفعةٍ في عبادته ؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب ؟.
ورابعها : أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات ؛ فيكون أفضل، وأكمل من الوثنِ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ ؟.
وخامسها : إذا كانت لا تنفعُ، ولا تضرُّ، فلا يرجى منها منفعةٌ، ولا يخافُ من ضررها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ؟ !.
وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها من الكسر والإفساد، حين جعلها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- جُذاذاً، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير ؟َ !، فكأنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- قال : ليست الإلهيَّة إلاَّ لربِّ يسمعُ ويبصر، ويجيبُ دعوة الدَّاعي، إذا دعاه.
فإن قيل : إمَّا أن يقال : إنَّ أبا إبراهيم -صلوات الله عليه- كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ، مختارةٌ، خالقة.
أو يقال : إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك ؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم ؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب.
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله.
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركَّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب، قلَّما يتَّفِقُ مثلها، أو لغير ذلك.
فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل، كان في نهاية الجُنُونِ ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسماوات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً، والمجنونُ لا يناظرُ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة، وإن كان من القسم الثاني، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك ؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء، ولا قادرة، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك.
فالجوابُ٤ : لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ : أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني، وإنَّما أورد إبراهيمُ -صلوات الله وسلامه عليه- هذه [ الدلائل ]٥ عليهم ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً ؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطَّلَّمسات، أو على سبيل أن الكواكب تنفع، وتضُرُّ، فبيَّن إبراهيم -صلواتُ الله عليه وسلامه- أنه لا منفعة في طاعتها، ولا مضرَّة في الإعراض عنها ؛ فوجب أن تجتنب عبادتها.
١ ينظر: الإملاء ٢/١١٤..
٢ ينظر: البحر ٦/١٨٢، الدر المصون ٤/٥٩٠..
٣ في ب: تقرر..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٩٢..
٥ في أ: الدلالة..
قوله :﴿ يا أبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم ﴾ بالله، والمعرفة ﴿ مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني ﴾ على ديني ﴿ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾ مستقيماً.
﴿ يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان ﴾ أي : لا تطعهُ فيما يزيِّن لك من الكُفر والشِّرك ؛ لأنَّهم ما كانُوا يعبدُون الشيطان ؛ فوجب حملُه على الطَّاعة ﴿ إن الشَّيْطَانَ كَانَ للرحمن عَصِيّاً ﴾ أي : عاصياً، و " كَانَ " بمعنى الحالِ، أي : هو كذلك.
فإن قيل : هذا القول يتوقف على إثبات أمور :
أحدها : إثباتُ الصَّانع.
وثانيها : إثباتُ الشيطان.
وثالثها : أن الشيطان عاصٍ [ لله ]١.
ورابعها : أنَّه لما كان عاصياً، لم تَجُزْ طاعتهُ في شيءٍ من الأشياء.
وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزرُ مُستفادٌ من طاعة الشيطان، ومن شأنِ الدَّلالة التي تُورَدُ على الخصم : أن تكون مركبة من مقدِّمات معلومةٍ يسلِمها الخصمُ، ولعلَّ أبا إبراهيم كان منازعاً في كُلِّ هذه المقدِّمات٢، وكيف، والمحكيُّ عنه : أنه ما كان يُثْبِتُ إلهاً سوى نُمْرُوذَ ؛ فكيف يسلِّم وجود الرَّحمن ؟
وإذا لم يسلِّم وجوده، فكيف يسلَّم أنَّ الشيطان عاص في الرحمن ؟ وبتقدير تسليم ذلك ؛ فكيف يسلِّم الخصمُ بمجرَّد هذا الكلامِ أنَّ مذهبهُ مقتبسٌ من الشيطان، بل لعلَّه يقلب ذلك على خصمه.
فالجوابُ :
أنَّ الحجَّة المعوِّل عليها في إبطالِ مذهب " آزَرَ " هو قوله :﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ وهذا الكلامُ يجري مَجْرَى التَّخويف والتَّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدَّلالة، فسقط السُّؤال.
١ في ب: في الله..
٢ في أ: المقامات..
قوله تعالى :﴿ يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ ﴾.
قال الفرَّاء- رحمه الله- : أخافُ : أعلمُ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه- عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر، وذلك لم يثبتْ ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره ؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب، ويجوز أن يدُوم على الكفر ؛ فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك، كان خائفاً لا قاطعاً، والأوَّلُون فسَّروا الآية، فقالوا : أخافُ، بمعنى أعلمُ ب " أن يمسّك عذابٌ " يصيبك عذابٌ من الرحمن، إن أقمت على الكفر، " فتكُون للشيطانِ وليَّا " قريناً ؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً.
وقيل : المرادُ بالعذابِ هنا : الخِذْلانُ، والتقدير : إنَّي أخاف أن يمسِّك خذلانٌ من الله، فتصير موالياً للشيطان، ويتبرأ الله منك.

فصل في نظم الآية


أعلمْ أنَّ إبراهيم- صلوات الله وسلامه عليه- رتِّب هذا الكلام في غاية الحسن ؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان، ثُمَّ أمره باتَّباعه في النَّظر، والاستدلال، وترك التقليد، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما ينبغي، ثم إنَّه - صلوات الله عليه- أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق ؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه :﴿ يا أبت ﴾ دليلٌ على شدَّة الحبِّ، والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصَّواب، وختم الكلام بقوله :﴿ يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ ﴾ وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق فيه بمصالحِه، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ :
الأول : لقضاءِ حقِّا لأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى :
﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] والإرشادُ إلى الدِّين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضم إليه رعايةُ الأدب والرِّفق، كان نُوراً على نُور.
والثاني : أنَّ الهادي إلى الحقِّ لا بُدَّ وأن يكون رفيقاً لطيفاً لا يُورِدُ الكلام على سبيل العُنْفِ ؛ لأنَّ إيرادهُ على سبيل العُنْفِ يصيرُ كالسَّبب في أعراض المُستمع ؛ فيكون ذلك في الحقيقةِ سَعْياً في الإغواء.
وثالثها :- ما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- قال : قال صلوات الله عليه وسلامه- :" أوْحَى اللهُ- تبارك وتعالى- إلى إبراهيمَ أنَّك خليلي فحسِّنْ خُلقكَ ولو مع الكُفَّار تدخُلْ مداخلَ الأبْرارِ ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسَّن خلقهُ، أنْ أظلَّهُ تحت عرشي، وأسْكِنهُ حظيرةَ القُدْسِ، وأدينه من جواري " ١.
١ ذكره الهيثمي في "المجمع" (٨/٢٣ -٢٤) وقال راوه الطبراني في "الأوسط" وفيه مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي وهو ضعيف.
وأخرجه ابن عساكر (٢/١٥٥ – تهذيب) وابن عدي (٦/٢٤٣٢) وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (٥١٥٩) وزاد نسبته إلى الحكيم الترمذي..

قوله :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ ﴾ : يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون " راغبٌ " مبتدأ ؛ لاعتماده على همزةِ الاستفهام، و " أنْتَ " فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر.
والثاني : أنه خبر مقدمٌ، و " أنْتَ " مبتدأ مؤخَّر، ورُجِّح الأول بوجهين :
أحدهما : أنه ليس فيه تقديمٌ، ولا تأخير ؛ إذ رتبهُ الفاعل التأخير عن رافعه.
والثاني : أنه لا يلزمُ منه الفصلُ بين العامل ومعموله بما ليس معمولاً للعامل ؛ وذلك أنَّ " عَنْ آلهتي " متعلقٌ ب " رَاغِبٌ " فإذا جعل " أنْتَ " فاعلاً قد فُصِل بما هو كالجزء من العامل ؛ بخلاف جعله خبراً ؛ فإنه أجنبيٌّ ؛ إذ ليس معمولاً ل " راغبٌ " ١.

فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم


اعلم أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- لمَّا دعا أباهُ إلى التوحيد، وذكر الدَّلالة على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ البليغِ، مقروناً باللُّطف والرِّفْق قابله أبُوه بجواب [ مضاد ]٢ لذلك، فقابل حُجَّته بالتَّقليد بقوله :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ﴾ فأصرَّ على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً، وقابل وعظهُ بالسَّفاهة ؛ حيثُ هدَّده بالضَّرْب والشَّتْم، وقابل رفقه في قوله ﴿ يا أبَتِ ﴾ بالعنف، فلم يَقُلْ له : يا بنيَّ، بل قال له : يا إبراهيمُ، وإنَّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمَّدٍ- صلواتُ الله وسلامه عليه- تخفيفاً على قلبه ما كان يصلُ إليه من أذى المشركين، ويعلمُ أنَّ الجُهَّال منذُ كانوا على هذه السِّيرة المذمومة، ثم قال :﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾.
قال الكلبيُّ : ومقاتلٌ٣، والضحاكُ، لأشتنمَّك، ولأبعدنَّك عنِّي بالقول القبيح، ومنه قوله سبحانه وتعالى :﴿ والذين يَرْمُونَ المحصنات ﴾ [ النور : ٤ ] ؛ أي : بالشَّتْم، ومنه : الرَّجيمُ، أي : المرميُّ باللَّعْن.
قال مجاهدٌ : كلُّ رجمٍ في القرآن بمعنى الشَّتم، وهذا ينتقضُ بقوله تعالى :﴿ رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ [ الملك : ٥ ].
وقال ابنُ عبَّاسٍ- رضي الله عنه- : لأضربنَّك٤.
وقال الحسنُ : لأرجمنَّك بالحجارة وهو قولُ أبي مسلم٥ ؛ لأنَّ أصله الرمي بالرِّجام، فحمله عليه أولى.
وقال المؤرّج٦ :" أقْتُلَنَّكَ " بلغة قريش، وممَّا يدلُّ على أنه أراد الطَّرْد، والإبْعاد قوله :﴿ واهجرني مَلِيّاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ مَلِيَّاً ﴾ في نصبه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزمانيِّ، أي : زمناً طويلاً، ومنه " الملوانِ " للَّيلِ والنهار، وملاوةُ الدَّهر، بتثليث الميم قال :[ الطويل ]
فَعُسْنَا بِهَا مِنَ الشَّبابِ ملاوةً فَلَلْحَجَّ آيَاتُ الرَّسُولِ المُحَبِّبِ٧
وأنشد السدي على ذلك لمهَلْهَلٍ قال :[ الكامل ]
فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لمَوْتِهِ وبَكَتْ عليْه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا٨
أي : أبداً.
والثاني : أنه منصوبٌ على الحال، معناه : سالماً سويَّا، قال ابن عباس :[ اعتزلني سالماً ؛ لا يصيبك مني معرة ]٩ فهو حالٌ من فاعل " اهْجُرْنِي " وكذلك فسَّره ابن عطيَّة ؛ قال :" معناه : مستبدَّا، أي : غنيَّا عني من قولهم : هو مليٌّ بكذا وكذا " قال الزمخشريُّ :" أي : مُطِيقاً ".
والمعنى : مليَّا بالذِّهَابِ عنِّي، والهجران، قيل : أن أثخنك بالضَّربِ ؛ حتى لا تقدر أن تبرح.
والثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي : هجراً مليَّا، يعني : واسعاً متطاولاً ؛ كتطاول الزمان الممتدِّ.
قال الكلبيُّ١٠ - رحمه الله- اجتنبني طويلاً.
والمراد بقوله : واهجرني، أي : بالمفارقة من الدَّار والبلدِ، وهي كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي : تباعد عنِّي ؛ لكي لا أراك.
وقيل : اهجرني [ بالقول، وعطف " واهجرني " على معطوف عليه محذوف يدل عليه :" لأرجمنك " أي : فاحذرني، واهجرني ]١١ ؛ لئلا أرجمنك،
١ هذا الذي ذكره في حالة تطابق الوصف إفرادا أما تطابقا تثنية أو جمعا نحو (أناجحان المحمدان، أناجحون المحمدون) تعين أن يكون الوصف خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا ولا يجوز العكس من جعل المؤخر مرفوعا بالوصف المقدم وسادّا مسدّ خبره لأن تثنيته وجمعه أبعدته عن شبهه بالفعل؛ لأن الفعل إذا أسند إلى الظاهر تجرد من علامة التثنية والجمع فكذلك الوصف إذا رفع ظاهرا كان حكمه حكم الفعل في لزوم الإفراد على اللغة الفصحى اللهم إلا على لغة من يلحق علامة التثنية والجمع الفعل عند إسناده إلى الظاهر وهي لغة (أكلوني البراغيث).
وإن لم يتطابقا وتحته قسمان: ممتنع وجائز فالممتنع مثل (أناجحان محمد، أناجحون علي) لأنا إذا جعلنا ما بعد الوصف فاعلا أغني عن الخبر فالوصف بعد عن شبه الفعل لتثنيته وجمعه فلا يرفع ظاهرا وإذا جعلنا الوصف خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا فات التطابق الذي هو شرط فيهما ولا يخفى أن هذا التركيب غير صحيح.
والجائز نحو (أناجح المحمدان، أناجح المحمدون) وحينئذ يتعين أن يكون الوصف مبتدأ وما بعده سد مسد خبره، ولا يجوز أن يكون ما بعده مبتدأ مؤخرا والوصف خبرا مقدما لأنه لا يجوز أن يخبر عن المثنى والجمع بالمفرد..

٢ في ب: مناف..
٣ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٩٧..
٤ ينظر: المصدر السابق..
٥ ينظر: المصدر السابق..
٦ ينظر الفخر الرازي ٢١/١٩٥..
٧ ينظر البيت في البحر ٦/١٨٣، الدر المصون ٤/٥١٠..
٨ ينظر البيت في البحر المحيط ٦/١٨٤، القرطبي ١١/٧٥، روح المعاني ١٦/٩٩، الدر المصون ٤/٥١٠..
٩ سقط من : أ..
١٠ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٩٧..
١١ سقط من أ..
فلما سمع إبراهيمُ- صلوات الله وسلامه عليه- كلام أبيه، أجاب بأمرين :
أحدهما : أنه وعدُه بالتَّباعُد منه ؛ موافقة وانقياداً لأمْرِ أبيه. والثاني : قوله :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ ﴾ توديعٌ، ومتاركةٌ، أي : سلمتَ منِّي لا أصيبُك بمكروهٍ ؛ وذلك لأنَّه لم يؤمر بقتاله على كفره ؛ كقوله تعالى :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾ [ القصص : ٥٥ ]، ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
وهذا يدلُّ على جواز متاركة المنصُوح، إذا ظهر منه اللَّجاج، وعلى أنَّه تحسُن مقابلةُ الإساءةِ بالإحسان، ويجوزُ أن يكون دعا لهُ بالسَّلامة ؛ استمالة له.
ألا ترى أنَّه وعدُه بالاستغفار ؛ فيكون سلام برٍّ ولطفٍ، وهو جوابُ الحليمِ للسَّفيه ؟ !
كقوله سبحانه :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
وقرأ أبو البرهسم١ " سلاماً " بالنصب، [ وتوجيهها ]٢ واضحٌ ممَّا تقدَّم.
قوله :﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي ﴾، أي : لمَّا أعياه أمرُه، وعدهُ أن يراجع الله فيه، فيسألهُ أن يرزقه التَّوحيد، ويغفر له، والمعنى : سأسأل الله لك توبةٌ تنالُ بها المغفرة :﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ برَّا لطيفاً.
واحتجَّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياءِ- صلوات الله عليهم- وذلك أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- استغفر لأبيه، وأبُوه كان كافراً، والاستغفارُ للكُفَّار غيرُ جائزٍ ؛ فثبت أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- فعل ما لا يجوزُ.
أما استغفارهُ أبيه ؛ فلقوله :﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي ﴾ وقوله :﴿ واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين ﴾ [ الشعراء : ٨٦ ]
وأما كون أبيه كافراً ؛ فبالإجماع، ونصِّ القرآن.
وأمَّا أن الاستغفار [ للكافر ] لا يجوزُ ؛ فلقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ] ولقوله- عزَّ و جلَّ- في سورة الممتحنة ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ ﴾ إلى قوله :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ].
والجوابُ : أن الآية تدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لنا التأَّسِّي به في ذلك ؛ لكنَّ المنع من التَّأسِّي به في ذلك لا يدلُّ على أنَّ ذلك كان معصيةٌ ؛ فإن كثيراً من الأشياء هي من خواصِّ رسُول الله- صلوات الله عليه وسلامه- ولا يجُوزُ لنا التَّأسِّي به فيها، مع أنَّها كانت مباحةٌ له.
وأيضاً : لعلَّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى، وحسناتُ الأبْرارِ سيِّئاتُ المقرَّبينَ.
١ ينظر: البحر ٦/١٨٤، والدر المصون ٤/٥١٠..
٢ في ب: وهو..
قوله :﴿ اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ﴾.
قال مقاتلٌ- رحمه الله- : كان اعتزالُه إيَّاهُمْ أنَّه فارقهُم من " كوثى "، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة، والاعتزالُ عن الشيء هو التَّباعدُ عنه، " وأدعُو ربِّي " أعبد ربي الذي يَضُرُّ وينفعُ، والذي خلقني، وأنعم عليَّ ﴿ عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّا ﴾، أي : عسى ألاَّ أشْقَى بدُعائه وعبادته ؛ كما تشقون أنتمُ بعبادةِ الأصنام، ذكر ذلك على سبيل التواضُع ؛ كقوله تعالى :﴿ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين ﴾ [ الشعراء : ٨٢ ].
وقوله :﴿ شَقِيَّا ﴾ فيه تعريضٌ لشقاوتهم في دعاء آلهِتْهمْ.
وقيل : عسى أن يجيبني، إن دعوتُه.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ﴾.
ذهب مهاجراً إلى ربِّه، فعوَّضه أولاداً أنبياء بعد هجرته، ولا حالة في الدِّين والدُّنيا للبشر أرفعُ من أن يجعله الله رسولاً إلى خلقه، ويُلزم الخلق طاعتهُ، والانقياد لهُ مع ما يحصلُ له من عظيم المنزلةِ في الآخرةِ.
قوله تعالى :﴿ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ﴾ :" كُلاَّ " مفعولٌ مقدَّم هو الأول، و " نبيَّا " هو الثاني.
ثم إنَّه مع ذلك وهب لهم من رحمته، قال الكلبيُّ : المال والولد، وهو قول الأكثرين، قالوا : هو ما بسط لهم في الدَّنيا من سعة الرِّزق.
وقيل : الكتاب والنبوَّة. ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾ :
يعني : ثناءٌ حسناً رفيعاً في كُلِّ أهل الأديان، وعبَّر باللسان عما يُوجد باللِّسان، منا عُبِّر باليد عمَّا يوجدُ باليدِ، وهو العطيَّة، فاستجاب الله دعوته في قوله :﴿ واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين ﴾ [ الشعراء : ٨٤ ]، فصيَّره قُدوةً، حتى ادَّعاه أعلُ الأديان كلهم. فقال سبحانه وتعالى :﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الحج : ٧٨ ].
قوله تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب موسى﴾ قرأ أهلُ الكوفة مخلصاً، بفتح اللام، أي: مختاراً اختاره الله تعالى، واصطفاه.
وقيل: أخلصه الله من الدَّنس.
والباقون بالكسر، ومعناه: أخلص التَّوحيد لله والعبادة، ومتى ورد القرآنُ بقراءتين، فكلٌّ منهما ثابتٌ مقطوعٌ به، فجعل الله تعالى من صفة موسى - صلوات الله عليه - كلا الأمرين.
ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ وهذان وصفان مختلفان، لكنَّ المعتزلة زعمُوا كونهما متلازمين؛ فكلُّ رسول نبيٌّ، وكلُّ نبيٍّ رسولٌ، ومن الناس من أمرك ذلك، ويأتي الكلامُ عليه - إن شاء الله تعالى - في سورة الحج عند قوله تعالى ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ﴾ [الحج: ٥٢] ثم قال: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور﴾ يعني: يمين موسى، والظاهر أنَّ الأيمن صفة للجانب؛ بدليل أنه تبعه في قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن﴾ [طه: ٨٠] وقيل: إنه صفة للطُّور، إذا اشتقاقهُ من اليُمْن والبركة، والطُّور: جبلٌ بين مصر ومدين، ويقالُ: إنَّ اسمه الزُّبير، وذلك حين أبل من مدين، ورأى النَّار، فنودي ﴿ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين﴾ [القصص: ٣٠]
قوله تعالى: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾، أي: مناجياً، والنجيُّ: المناجي؛ كما يقالُ: جليسٌ ونديمٌ، و «نجيَّا» حالٌ من مفعول «قرَّبناهُ» وأصله «نجيوا» لأنه من نجل يَنْجُو
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - معناهُ: قرَّبه وكلَّمه.
وقيل: أنجيناه من أعدائه، ومعنى التقريب: إسماعه كلامهُ.
وقيل: رفعه على الحُجُب؛ حتَّى سمع صرير القلم؛ حيث تكتبُ التوراةُ في الألواح، وهو قولُ أبي العالية.
قال القاضي: المرادُ بالقرب: أنَّه رفع قدره، وشرَّفه بالمُنَاجاة؛ لأنَّ استعمال القُرْب في الله، قد صار في التعارف لا يرادُ به إلا المنزلةُ؛ كما يقالُ في العبادة: تقرُّب، وفي الملائكة - عليهم السلام -: إنَّهم مقرَّبُون.
قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ﴾ : في «مِنْ» هذه وجهان:
أحدهما: أنها تعليليةٌ، أي: من أجل رحمتنا، و «أخَاهُ» على هذا مفعولٌ به،
81
و «هارُون» بدلٌ، أو عطف بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمار أعني، و «نبيًّا» حالٌ.
والثاني: أنها تبعيضيةٌ، أي: بعض رحمتنا، قال الزمخشريُّ: «وأخاه» على هذا بدلٌ، و «هَارُون» عطف بيان. قال أبو حيان: «الظاهرُ أنَّ» أخَاهُ «مفعولُ» وَهَبْنَا «ولا ترادفُ» مِنْ «فتبدل» أخاه «منها».

فصل في نبوة هارون


قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان هارونُ أكبر من موسى - صلوات الله عليه - وإنما وهب الله تعالى له نُبُوَّته، لا شخصه وأخُوّته، وذلك إجابة لدعائه في قوله: ﴿واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي﴾
[طه: ٢٩ - ٣١] فاجابه الله تعالى بقوله: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى﴾ [طه: ٣٦] وقوله: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ﴾ [القصص: ٣٥].
قوله تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ﴾.
وهو إسماعيلُ بن إبراهيم جدِّ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد﴾.
قال مجاهدٌ لم يعد شيئاً إلاَّ وفَّى به.
ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ أنه [واعد] صاحباً له أن ينتظره في مكانٍ، فانتظره سنة. وأيضاً: وعد من نفسه الصَّبْرَ على الذَّبْح، فوفَّى حيث قال: ﴿ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ [الصافات: ١٠٢] ويُروى أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - قال له رجلٌ: انتظرني؛ حتى آتيك، فقال عيسى: نعم، وانطلق الرجلُ، ونَسِيَ الميعاد، فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان، وعيسى - صلوات الله عليه - هناك للميعاد.
وعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ واعد رجُلاً، و [ونَسِيَ ذلك الرَّجلُ]، فانتزهرٌ من الضُّحى إلى قريبٍ [مِنْ] غروب الشمس، وسُئِلَ الشعبيُّ عن الرجل يعدُ ميعاداً: إلى أيِّ وقتٍ ينتظر؟ قال: إن واعدهُ نهاراً، فكُلَّ النَّهارِ، وإن واعدهُ ليلاً، فكُلَّ اللَّيْلِ.
وسُئِلَ إبراهيمُ بنُ زيدٍ عن ذلك، فقال: إذا وعدتهُ في وقتِ الصَّلاةِ، فانتنظرهُ إلى وقت صلاةِ أخرى، ثم قال: ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ وقد مرَّ تفسيرهُ، ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة﴾، والمرادُ بالأهل: قومهُ.
وقيل: أهله جميع أمَّتِهِ.
قال المفسِّرون: إنه كان رسولاً إلى «جُرْهُم».
والمراد بالصلاة هناك [قال] ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد التي افترضها الله عليهم، وهي الحنيفية التي افترضها علينا.
82
قيل: كان يبدأ بأهله في الأمر للعبادة، ليجعلهم قٌدوة لمن سواهُم؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ [الشعراء: ٢١٤] ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة﴾ [طه: ١٣٢] ﴿قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ [التحريم: ٦]، أمَّا الزكاةُ، فعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّها طاعةُ الله، والإخلاصُ؛ فكأنَّه تأوَّله على ما يزكُو به الفاعلُ عند ربِّه، والظاهرُ: أنَّه إذا قُرنتِ الصَّلاة بالزَّكاة: أن يُرَاد بها [الصدقات] الواجبةُ.
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ قائماً بطاعته.
وقيل: رضيه لنبوته ورسالته.
والعامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ وأصله مَرْضُووٌ، بواوين: الأولى زائدةٌ؛ كهي في مضروبٍ: والثانية: لام الكلمة؛ لأنه من الرِّضوان، فأعلَّ بقلب الواو [ياءً، وأدغمت] الأخيرةُ ياءً، واجتمعت الياءُ والواوُ ياءً، وأدغمت، ويجوز النطقُ بالإصلِ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا.
وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصل، وهوالأكثرُ؛ ومن الإعلالِ قوله: [الطويل]
٣٦٠٩ - لقَدْ عَلِمَتْ عرسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي أنَا المرءُ مَعْدِيًّا عليْهِ وعَاديَا
وقالوا: أرضٌ مسنيَّةٌ، ومسنُوَّةٌ، أي: مسقاة بالسَّانيةِ.
قوله تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ﴾ الآية إدريسُ هو جدُّ أبي نوحٍ - صلوات الله عيله وسلامه - وهو نوحُ بنُ لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس - عليه السلام -.
قيل: سُمِّي «إدريسَ» لكثرة دراسة الكُتُب، وكان خيَّاطاً، وهو أوَّلُ من خطَّ بالقلم، وخاط الثِّياب، ولبس المخيطَ، وكان قبلهُ يلبسُون الجُلُود، وأوَّل من اتَّخذ السِّلاح، وقاتل الكُفَّار، وأوَّلُ من نظر في علم الحساب ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً﴾.
﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾.
قيل: يعني في الجنَّةِ، وقيل: هي الرِّفعة بعُلُوِّ الرُّتْبَة في الدُّنيا؛ كقوبه تعالى ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤] وقيل: إنَّه رفع إلى السماءِ؛ روى أنسُ بن مالكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن مالك بن صعصعة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه رأى إدريسَ - صلوات الله عليه - في السماءِ الرَّابعةِ، ليلة المعراج وكان سببُ رفع إدريس على ما قاله «كَعْبٌ» وغيره - أنَّهُ [
83
ثم قال :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور ﴾ يعني : يمين موسى، والظاهر أنَّ الأيمن صفة للجانب ؛ بدليل أنه تبعه في قوله تعالى :﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن ﴾ [ طه : ٨٠ ] وقيل : إنه صفة للطُّور، إذا اشتقاقهُ من اليُمْن والبركة، والطُّور : جبلٌ بين مصر ومدين، ويقالُ : إنَّ اسمه الزُّبير، وذلك حين أبل من مدين، ورأى النَّار، فنودي ﴿ يا موسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين ﴾ [ القصص : ٣٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾، أي : مناجياً، والنجيُّ : المناجي ؛ كما يقالُ : جليسٌ ونديمٌ، و " نجيَّا " حالٌ من مفعول " قرَّبناهُ " وأصله " نجيوا " لأنه من نجا يَنْجُو.
قال ابنُ عبَّاس١ - رضي الله عنه- معناهُ : قرَّبه وكلَّمه.
وقيل : أنجيناه من أعدائه، ومعنى التقريب : إسماعه كلامهُ.
وقيل : رفعه على الحُجُب ؛ حتَّى سمع صرير القلم ؛ حيث تكتبُ التوراةُ في الألواح، وهو قولُ أبي العالية.
قال القاضي٢ : المرادُ بالقرب : أنَّه رفع قدره، وشرَّفه بالمُنَاجاة ؛ لأنَّ استعمال القُرْب في الله، قد صار في التعارف لا يرادُ به إلا المنزلةُ ؛ كما يقالُ في العبادة : تقرُّب، وفي الملائكة - عليهم السلام- : إنَّهم مقرَّبُون.
١ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٩٨..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٢١/١٩٨..
قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ ﴾ : في " مِنْ " هذه وجهان :
أحدهما : أنها تعليليةٌ، أي : من أجل رحمتنا، و " أخَاهُ " على هذا مفعولٌ به، و " هارُون " بدلٌ، أو عطف بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمار أعني، و " نبيًّا " حالٌ.
والثاني : أنها تبعيضيةٌ، أي : بعض رحمتنا، قال الزمخشريُّ :" وأخاه " على هذا بدلٌ، و " هَارُون " عطف بيان. قال أبو حيان :" الظاهرُ أنَّ " أخَاهُ " مفعولُ " وَهَبْنَا " ولا ترادفُ " مِنْ " فتبدل " أخاه " منها ".

فصل في نبوة هارون


قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : كان هارونُ أكبر من موسى -صلوات الله عليه- وإنما وهب الله تعالى له نُبُوَّته، لا شخصه وأخُوّته، وذلك إجابة لدعائه في قوله :﴿ واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي ﴾
[ طه : ٢٩- ٣١ ] فأجابه الله تعالى بقوله :﴿ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى ﴾ [ طه : ٣٦ ] وقوله :﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ﴾١ [ القصص : ٣٥ ].
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢١/١٩٨) عن ابن عباس..
قوله تعالى :﴿ واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ ﴾.
وهو إسماعيلُ بن إبراهيم جدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد ﴾.
قال مجاهدٌ١ لم يعد شيئاً إلاَّ وفَّى به.
ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ أنه [ واعد ]٢ صاحباً له أن ينتظره في مكانٍ، فانتظره سنة٣. وأيضاً : وعد من نفسه الصَّبْرَ على الذَّبْح، فوفَّى حيث قال :﴿ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين ﴾ [ الصافات : ١٠٢ ] ويُروى أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- قال له رجلٌ : انتظرني ؛ حتى آتيك، فقال عيسى : نعم، وانطلق الرجلُ، ونَسِيَ الميعاد، فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان، وعيسى -صلوات الله عليه- هناك للميعاد.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ واعد رجُلاً، و [ ونَسِيَ ذلك الرَّجلُ ]٤، فانتظره من الضُّحى إلى قريبٍ [ مِنْ ] غروب الشمس، وسُئِلَ الشعبيُّ عن الرجل يعدُ ميعاداً : إلى أيِّ وقتٍ ينتظر ؟ قال : إن واعدهُ نهاراً، فكُلَّ النَّهارِ، وإن واعدهُ ليلاً، فكُلَّ اللَّيْلِ.
وسُئِلَ إبراهيمُ بنُ زيدٍ عن ذلك، فقال : إذا وعدتهُ في وقتِ الصَّلاةِ، فانتظرهُ إلى وقت صلاةِ أخرى، ثم قال :﴿ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ﴾ وقد مرَّ تفسيرهُ،
١ ينظر: معالم التنزيل ٣/١٩٩..
٢ في أ: وعد..
٣ أخرجه الطبري (٨/٣٥٢) عن سهل بن سعد..
٤ سقط من ب..
﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة ﴾، والمرادُ بالأهل : قومهُ.
وقيل : أهله جميع أمَّتِهِ.
قال المفسِّرون : إنه كان رسولاً إلى " جُرْهُم ".
والمراد بالصلاة هناك [ قال ] ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- : يريد التي افترضها الله عليهم، وهي الحنيفية التي افترضها علينا.
قيل : كان يبدأ بأهله في الأمر للعبادة، ليجعلهم قٌدوة لمن سواهُم ؛ كما قال تعالى :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ] ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة ﴾ [ طه : ١٣٢ ] ﴿ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾ [ التحريم : ٦ ]، أمَّا الزكاةُ، فعن ابن عبَّاس -رضي الله عنه- أنَّها طاعةُ الله، والإخلاصُ ؛ فكأنَّه تأوَّله على ما يزكُو به الفاعلُ عند ربِّه، والظاهرُ : أنَّه إذا قُرنتِ الصَّلاة بالزَّكاة : أن يُرَاد بها [ الصدقات ]١ الواجبةُ.
قوله تعالى :﴿ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾ قائماً بطاعته.
وقيل : رضيه لنبوته ورسالته.
والعامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ وأصله مَرْضُووٌ، بواوين : الأولى زائدةٌ ؛ كهي في مضروبٍ : والثانية : لام الكلمة ؛ لأنه من الرِّضوان، فأعلَّ بقلب الواو [ ياءً، وأدغمت ] الأخيرةُ ياءً، واجتمعت الياءُ والواوُ ياءً، وأدغمت، ويجوز النطقُ بالأصل، وقد تقدَّم تحريرُ هذا.
وقرأ٢ ابن أبي عبلة بهذا الأصل، وهو الأكثرُ ؛ ومن الإعلالِ قوله :[ الطويل ]
لقَدْ عَلِمَتْ عرسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي أنَا المرءُ مَعْدِيًّا عليْهِ وعَاديَا٣
وقالوا : أرضٌ مسنيَّةٌ، ومسنُوَّةٌ، أي : مسقاة بالسَّانيةِ.
١ في أ: الصلاة..
٢ ينظر: البحر المحيط ٦/١٨٨، والدر المصون ٤/٥١١..
٣ البيت لعبد يغوث بن وقاص ينظر: شواهد الكتاب ٤/٣٨٥، المقرب ٢/١٨٦، المحتسب ٢/٢٠٧، شرح المفصل لابن يعيش ٥/٣٦، المنصف ١/١١٨، أمالي القالي ٣/١٣٢، مجاز القرآن ١/٢٥٧، الأشموني ٤/٣٢٦، اللسان "نظر"، الدر المصون ٤/٥١١..
قوله تعالى :﴿ واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ ﴾ الآية إدريسُ هو جدُّ أبي نوحٍ -صلوات الله عليه وسلامه- وهو نوحُ بنُ لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس -عليه السلام-.
قيل : سُمِّي " إدريسَ " لكثرة دراسة الكُتُب، وكان خيَّاطاً، وهو أوَّلُ من خطَّ بالقلم، وخاط الثِّياب، ولبس المخيطَ، وكان قبلهُ يلبسُون الجُلُود، وأوَّل من اتَّخذ السِّلاح، وقاتل الكُفَّار، وأوَّلُ من نظر في علم الحساب ﴿ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً ﴾.
﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾.
قيل : يعني في الجنَّةِ، وقيل : هي الرِّفعة بعُلُوِّ الرُّتْبَة في الدُّنيا ؛ كقوله تعالى ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [ الشرح : ٤ ] وقيل : إنَّه رفع إلى السماءِ ؛ روى أنسُ بن مالكٍ -رضي الله عنه- عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى إدريسَ -صلوات الله عليه- في السماءِ الرَّابعةِ، ليلة المعراج١ وكان سببُ رفع إدريس على ما قاله " كَعْبٌ " وغيره -أنَّهُ [ سَارَ ]٢ ذات يومٍ في حاجةٍ، فأصابه وهج الشمس ؛ فقال : يا ربِّ، أنا مشيتُ يوماً فيها ؛ فأصابني المشقةُ الشديدة من وهج الشمس، وأضرَّني حرُّها ضرراً بليغاً -فكيف يحملُها مسيرة خمسمائةِ عامٍ في يومٍ واحدٍ ؟ ! اللَّهُمَّ، خفِّف عنه من ثقلها، وحرِّها، فلمَّا أصبح الملكُ، وجد من خفَّة الشَّمس، وحرها ما لا يعرف ؛ فقال : يا ربِّ، ما الذي قضيت فيه ؟ قال : إنَّ عبدي إدريس سألني أنَّ أخفِّفق عنك حملها، وحرِّها ؛ فأجبته، فقال : ربِّ، اجعل بيني وبينه خُلَّة، فأذن له ؛ حتى أتى إدريسَ، فكان يسألُه إدريسُ، فقال له : إنِّي أخبرتُ أنَّك أكرمُ الملائكةِ، وأمكنُهم عن ملكِ الموتِ ؛ فاشفعْ لي إليه ؛ ليُؤخِّر أجلِي ؛ فأزداد شكراً وعبادة، فقال الملكُ : يؤخِّرُ الله نفساً، إذا جاء أجلها، وأنا مُكَلِّمُهُ، فرفعهُ إلى السَّماءِ، ووضعهُ عند مطلع الشَّمس، ثُمَّ أتى ملك الموتِ، فقال : حاجةٌ لي إليك ؛ صديقٌ لي مِنْ بني آدم، تشفَّع بي إليك ؛ تُؤخِّر أجله، قال : ليس ذلك إليّ، ولكت إن أحببت، أعلمته أجله ؛ فيتقدَّمُ في نفسه، قال : نَعَم، فنظر في ديوانه، فقال : إنَّك كلَّمتني في إنسانٍ، ما أراه أن يموت أبداً، قال : وكيف ؟ قال : لا أجده يموتُ إلا عند مطلع الشَّمس، قال : فإني أتَيْتُكَ، وتركته هناك : قال : انطلقْ، فلا أرَاكَ تجده إلاَّ وقد مات ؛ فواللهِ، ما بقي من أجلِ إدريسَ شيءٌ ؛ فرجع الملكُ، فوجده ميتاً٣.
واختلفُوا في أنَّه حيٌّ في السماء، أم ميِّتٌ ؛ فقيل : هو ميتٌ، وقيل : حيٌّ، وقيل : أربعةٌ من الأنبياء أحياءٌ، اثنان في الأرض ؛ " الخَضِرُ، وإلياسُ " واثنان في السماءِ " إدريسُ، وعيسَى " صلواتُ الله عليهم.
١ تقدم في سورة الإسراء..
٢ في ب: سئل..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٤٩٤) وعزاه إلى ابن أبي شيبة في "المصنف" وابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب..
سَارَ] ذات يومٍ في حاجةٍ، فأصابه وهج الشمس؛ فقال: يا ربِّ، أنا مشيتُ يوماً فيها؛ فأصابني المشقةُ الشديدة من وهج الشمس، وأضرَّني حرُّها ضرراً بليغاً - فكيف يحملُها مسيرة خمسمائةِ عامٍ في يومٍ واحدٍ؟! اللَّهُمَّ، خفِّف عنه من ثقلها، وحرِّها، فلمَّا أصبح الملكُ، وجد من خفَّة الشَّمس، وحرها ما لا يعرف؛ فقال: يا ربِّ، ما الذي قضيت فيه؟ قال: إنَّ عبدي إدريس سألني أنَّ أخفِّفق عنك حملها، وحرِّها؛ فأجبته، فقال: ربِّ، اجعل بيني وبينه خُلَّة، فأذن له؛ حتى أتى إدريسَ، فكان يسألُه إدريسُ، فقال له: إنِّي أخبرتُ أنَّك أكرمُ الملائكةِ، وأمكنُهم عن ملكِ الموتِ؛ فاسشفعْ لي إليه؛ ليُؤخِّر أجلِي؛ فأزداد شكراً وعبادة، فقال الملكُ: يؤخِّرُ الله نفساً، إذا جاء أجلهان وأنا مُكَلِّمُهُ، فرقعهُ إلى السَّماءِ، ووضعهُ عند مطلع الشَّمس، ثُمَّ أتى ملك الموتِ، فقال: حاجةٌ لي إليك؛ صديقٌ لي مِنْ بني آدم، تشفَّع بي إليك؛ تُؤخِّر أجله، قال: ليس ذلك إليّ، ولكت إن أحببت، أعلمته أجله؛ فيتقدَّمُ في نفسه، قال: نَعَم، فنظر في ديوانه، فقال: إنَّك كلَّمتني في إنسانٍ، ما أراه أن يموت أبداً، قال: وكيف؟ قال: لا أجده يموتُ إلا عند مطلع الشَّمس، قال: فإني أتَيْتُكَ، وتركته هناك: قال: انطللقْ، فلا أرَاكَ تجده إلاَّ وقد مات؛ فواللهِ، ما بقي من أجلِ إدريسَ شيءٌ؛ فرجع الملكُ، فوجده ميتاً.
واحتلفُوا في أنَّه حيٌّ في السماء، أم ميِّتٌ؛ فقيل: هو ميتٌ، وقيل: حيٌّ، وقيل: أربعةٌ من الأنبياء أحياءٌ، اثنان في الأرض؛ «الخَضِرُ، وإلياسُ» واثنان في السماءِ «إدريسُ، وعيسَى» صلواتُ الله عليهم.
قوله
تعالى
: ﴿أولئك
الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين﴾
الآية.
«مِنْ» الأولى؛ للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء منَعَّمٌ عليهم، فالتبعيضُ محالٌ؛ والثانيةُ للتبعيض؛ فمجرورها بدلٌ مما قبله بإعادة العاملِ، بدلُ بعضٍ من كلٍّ.
وقوله: «وإسرائيلَ» عطفٌ على [ «إبْراهيمَ».
قوله: «وممَّنْ هديْنَا» يحتملُ أن يكون عطفاً على «مِنَ النبييِّينَ» وأنْ يكون عطفاً على] «مِنْ ذرَّية آدمَ».
84

فصل


اعلم أنَّه تعالى أثنى على كل واحدٍ ممَّن تقدم ذكرهُ [من الأنبياء]، بما يخُصُّه من الثناء، ثمَّ جمعهم آخراً؛ فقال تعالى: ﴿أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم﴾ أي: بالنبوَّةِ، وغيرها، و «أولئِكَ» إشارةٌ إلى المذكورين في هذه السورة من «زكريَّا» إلى «إدريس» - صلوات الله عليهم - ثمَّ جمعهُم في كونهم من ذرية آدم.
ثُمَّ خصَّ بعضهم بأنهم من ذريَّةِ آدمَ، ممَّن حمله مع نُوحِ، ومنهم من هو من ذرية آدم، دثون من حمله مع نوحٍ؛ وهو إدريسُ - عليه السلام - فقد كان سابقاً على نُوحٍ.
والذين هم من ذُريَّة من حمل مع نوحٍ، وهو «إبراهيمُ» ؛ لأنَّه [ولدُ] سام بن نُوح، وإسماعيلُ، وإسحاقُ، ويعقوبُ من ذريةِ إبراهيم.
ثم خصَّ بعضهم أنه من ولد إسرائيل، أي: يعقوب، وهم: مُوسَى، وهارونُ، وزكريَّا، ويحيى، وعيسى؛ من قبل الأمِّ.
فرتَّب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب؛ منبهاً بذلك على أنَّهم كما فُضِّلُوا بأعمالهم، فلهم منزلةٌ في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء.
ثُمَّ بيَّن أنَّهم ممَّن هدينا، واجتبينا؛ منبِّهاً بذلك على أنَّهُم خُصُّوا بهذه المنازِلِ؛ لهداية الله تعالى لهمُ، ولأنَّهم اختارهم للرسالةِ.
قوله: «إذا تُتْلى» جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان:
أظهرهما: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها.
والثاني: أنها خبرُ «أولئكَ» والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإشارة، وعلى الأول؛ يكونُ الموصول نفس الخبر.
وقرأ العامَّةُ «تُتْلَى» بتاءين من فوق، وقرأ عبدُ الله، وشيبةُ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثير، وابن عامرٍ، وورشٌ عن نافعٍ في رواياتٍ شاذةٍ: بالياء أوَّلاً من تحت، والتأنيثُ مجازيٌّ؛ فلذلك جاز في الفعل الوجهان.
قوله تعالى: «سُجَّداً» حالٌ مقدرةٌ؛ قال الزجاج: «لأنهم وقت الخُرُورِ ليسُوا سُجَّداً».
و «بُكِيًّا» فيها وجهان «
أظهرهما: أنه جمعُ باكٍ، وليس بقياس، بل قياسُ جمعه على فعلة؛ كقاضٍ
85
وقُضاة، ولم يسمع فيه هذا الأصلُ، وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسران فاءهُ على الإتباع.
والثاني: أنه مصدرٌ على فعولٍ؛ نحو: جلس جُلُوساً، وقَعَد قُعُوداً؛ والصلُ فيه على كلا القولين» بكُويٌ «بواو وياء، فأعلَّ الإعلال المشهور في مثله، وقال ابن عطيَّة:» وبكيًّا بكسر الباء، وهون مصدرٌ لا يحتمل غير ذلك «قال أبو حيَّان:» وليس بسديدٍ، بل الإتباعُ جائزٌ فيه «وهو جمعٌ؛ كقولهم: عُصِيٌّ ودُلِيٌّ، جمع عصا ودلو، وعلى هذا؛ فيكون» بكيًّا «: إمَّا مصدراً مؤكِّداً لفعل محذوفٍ، أي: وبكَوا بُكِيًّا، أي: بكاء، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال، أي باكينَ، أو ذوي بكاء، أو جعلُوا نفس البكاءِ مبالغةً.
قال الزجاج: «بُكِيًّا»
جمع باكٍ؛ مثل شاهدٍ وشُهوجٍ، وقاعدٍ وقُعُودٍ، ثمَّ قال: الإنسانُ في حال خُرُوره لا يكن ساجداً، والمرادُ: خرُّوا مقدِّمين للسُّجُودِ، ومن قال في «بُكِيًّا» : إنَّه مصدرٌ، فقد أخطأ؛ لأنَّ سُجَّداً جمع ساجدٍ، وبكياً معطوف عليه.

فصل


قال المفسِّرون: إنَّ الأنبياء - عليهم السلام - كانُوا إذا سمعُوا آيات الله؛ والمرادُ: الآياتُ التي تتضمنُ الوعد والوعيد، والتَّرغيبَ والتَّرهيب خروا سُجداً جمع ساجدٍ، وبكيًّا: جمع باكٍ خشُوعاً وخُضُوعاً، وحذراً وخوفاً.
قال بعضهم: المراد بالسُّجود: الصَّلاة.
وقال بعضهم: المراد: سجودُ التِّلاوة.
وقل: المرادُ بالسُّجود: الخضوعُ والخشُوع عند التِّلاوة.
قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «اتلُوا القُرآنَ، وابْكُوا، فإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا».
86
قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ الآية.
لما وصف الأنبياء بالمدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذرك بعدهم من بالضد
86
منهم، فقال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي من بعد هؤلاء الأنبياء «خَلْفٌ» من أولادهم، يقال: خلفه إذا عقبه خلف سوء - بإسكان اللام - والخَلَف - بفتح اللام - الصالح، كما قالوا: وعد في ضمان الخير، ووعيد في ضمان الشر، وفي الحديث: «في الله خلفٌ من كل هالك» وفي الشعر:
٣٦١٠ - ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ وبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
قال السديُّ: أراد بهم اليهود ومن لحق بهم. وقال مجاهد وقتادة: هم في هذه الأمة. «أضاعُوا الصَّلاة» تركوا الصلاة المفروضة. وقال ابن مسعود وإبراهيم: أخروها عن وقتها. وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس. «واتَّبعُوا الشَّهواتِ» قال ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة وشربوا الخمور، واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وقال مجاهد: هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة. «فَسَوْفَ يقَوْنَ غيًّا» قال وهب وابن عباس وعطاء
87
وكعب: هو وادٍ في جهنم بعيد قعره.
وقال أبو أمامة: مجازاة الآثام. وقال الضحاك: «غَيًّا» : خسراناً. وقيل: هلاكاً وقيل: عذاباً، ونقل الأخفش أنه قرئ «يُلَقَّوْنَ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقَّاه مضاعفاً. وقوله: «يَلْقَوْنَ» ليس معناه «يرون» فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية. قوله: «إلاَّ من تَابَ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه استثناء متصل. وقال الزجاج: هو منقطع. وهذا بناء منه على أن المضيع للصلاة من الكفار.
وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعة «الصلوات» جمعاً.
وقرأ الحسن هنا وجميع ما في القرآن «يُدْخَلُونَ» مبنيًّا للمفعول.
88

فصل


«احتجوا» بقوله: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ على أن الإيمان غير العمل، لأنه عطف العمل على الإيمان، والمعطوف غير المعطوف عليه.
أجاب الكعبي: بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان، والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما.
وهذا الجواب ضعيف، لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي المغايرة بينهما، لأن التوبة عزم على الترك، والإيمان إقرار بالله، وهما متغايران، فكذلك في هذه الصورة.
ولما بيَّن وعيد من لم يتب بيَّن أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة ولا يلحقهم ظلم.
وهنا سؤالان:
السؤال الأول: الاستثناء دل على أنه لا بُدَّ من التوبة والإيمان والعمل الصالح، وليس الأمر كذلك، لأن من تاب عن الكفر ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإن الصلاة لا تجب عليه، وكذلك الصوم والزكاة فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل، فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح.
والجواب: ان هذه الصورة نادرة، والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب.
السؤال الثاني: قوله: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ يدل على أن الثواب مستحق بالعمل لا
89
بالتفضّل، لأنه لو كان بالتفضل، لاستحال حصول الظلم، لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد.
وأجيب بأنه لما أشبهه أجري على حكمه.
قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ العامة على كسر التاء نصباً على أنها بدل من «الجنة». وعلى هذه القراءة يكون قوله: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه.
والثاني: أنه حال. كذا قال أبو حيان.
وفيه نظرٌ من حيث إن المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال.
وقرأ أبو حيوة، وعيسى بن عمر، والحسن، والأعمش: «
90
جنَّات» بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، تقديره: تلك أو هي جنات عدن.
والثاني: وبه قال الزمخشري: أنها مبتدأ، يعني ويكون خبرها «الَّتي وَعدَ».
وقرأ الحسن بن حيّ، وعلي بن صالح، والأعمش في رواية «جنَّة عدنٍ» نصباً مفرداً. واليماني، والحسن، والأزرق عن حمزة، «جَنَّةُ» رفعاً «مفرداً». وتخريجها واضح مما تقدم.
قال الزمخشري: لما كانت مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، كقولك
91
أبصرت دارك القاعة والعلالي، و «عَدْن» معرفة بمعنى العدن، وهو الإقامة كما جعلوا فينة، وسحر، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس، فجرى مجرى العجن لذلك، أو هو أعلم لأرض الجنة، لكونها دار إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأنَّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها ب «التي».
قال أبو حيان: وما ذكره متعقب، أما دعواه: إن عدناً علم لمعنى العدن. فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب، وكذا دعواه العلمية الشخصية فيه، وأما قوله: ولولا ذلك، إلى قوله: موصوفة؛ فليس مذهب البصريين، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة إن لم تكن موصوفة، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون، وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه، وملازمته فاسدة. وأما قوله: ولما ساغ وصفها ب «
92
التي»، فلا يتعين كون «التي» صفة، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً.
قال شهاب الدين: إن «التي» صفة، والتمسك بهذا الظاهر كافٍ وأيضاً: فإن الموصول في قوة المشتقات، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق، ضعيف، فكذلك ما في معناه.
قوله: «بالغَيْبِ» فيه وجهان:
أحدهما: ان الباء حالية، وفي صاحب الحال احتمالان:
أحدهما: ضمير الجنة، وهو عائد الموصول، أي: وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها.
والثاني: أن يكون هو «عِبَادَهُ»، أي: وهم غائبون عنها لا يرونها، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه.
والوجه الثاني: أن الباء سببية، أي: بسبب تصديقه الغيب، وبسبب الإيمان «به».
قوله: «إنَّهُ كَانَ». يجوز في هذا الضمير وجهان:
93
أحدهما: أنه ضمير الباري تعالى يعود على «الرحمن» أي: إن الرحمن كان وعده مأتياً.
والثاني: أنه ضمير الأمر والشأن، لأن مقام تعظيم وتفخيم.
وعلى الأول يجوز أن يكون في «كان» ضمير هو اسمها يعود على الله - تعالى - و «وَعْدُهُ» بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال، و «مَأتِيًّا» خبرها.
ويجوز أن لا يكون فيها ضمير، بل هي رافعة ل «وعده» و «مأتياً» الخبر أيضاً.
وهو نظير: إن زيداً كان أبوه منطلقاً.
و «مأتيًّا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول على بابه، والمراد بالوعد: الجنة، أطلق عليها المصدر، أي: موعود، نحو درهم ضرب الأمير.
وقيل: الوعد مصدر على بابه، و «مأتيا» مفعول بمعنى فاعل. ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال: قيل في «مأتيا» مفعول بمعنى فاعل، والوجه أن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها، أوهو من قولك: أتى إليه إحساناً، أي: كان وعده مفعولاً منجزاً.
وقال الزجاج: كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه، وما أتاك فقد أتيته.
والمقصود من قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾ بيان أن وعده تعالى - وإن كان بأمر غائب - فهو كأنه مشاهد حاصل، والمراد تقرير ذلك في القلوب.
قوله: ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾. اللغو من الكلام: ما يلقى ويطرح، وهو المنكر من القول كقوله: ﴿لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً﴾ [الغاشية: ١١]. وقال مقاتل: هي اليمين الكاذبة وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو، لأن الله - تعالى - نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها، ولقوله: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢]، وقوله: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥] الآية.
أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه:
94
أحدها: أن يكون معناه: إن كان تسليم بعضهم على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغواً، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك، فهو من وادي قوله:
٣٦١١ - وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ
الثاني: أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع.
الثالث: أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلامة هي دار السلامة، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره.
وأما الاتصال في الأول فعسر، إذ لا يعدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله - تعالى - عند قوله: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦].
قوله: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ فيه سؤالان:
السؤال الأول: أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة.
والجواب من وجهين:
الأول: قال الحسن: أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة، ولبس الحرير التي كانت عادة العجم، والأرائك التي هي
95
الحجال المضروبة على الأسرَّة، وكانت عادة أشراف اليمن، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك.
الثاني: المراد دوام الرزق، تقول: أنا عند فلان صباحاً ومساء، تريد الدوام، ولا تقصد الوقتين المعلومين.
السؤال الثاني: قال تعالى: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ وقال عليه السلام: «لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً».
والبكرة والعشيّ لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء.
والجواب: أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً، إذ لا ليل فيها.
وقيل: إنهم يغرقون النهار برفع الحجب، ووقت الليل بإرخاء الحجب.
وقيل: المراد رفاهية العيش، وسعة الرزق، أي: لهم رزقهم متى شاءوا.
قوله: ﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ﴾ صحت الإشارة ب «تِلْكَ» إلى «الجَنَّة» لأنها غائبة.
وقرأ الأعمش: «نورثها» بإبراز عائد الموصول.
وقرأ الحسن، والأعرج، وقتادة: «نُوَرِّثُ» بفتح الواو وتشديد الراء من ورَّث مضعفاً، وقوله: «نُورث» استعارة، أي: نبقي عيله الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، وقيل: معناه: ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم، فجعل هذا النقل إرثاً، قاله الحسن.
المتقي: هو من اتقى المعاصي؛ واتقى ترك الواجبات.
96
قال القاضي: هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقياً، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك.
وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها؛ وأيضاً: فصاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر، ومن صدق عليه أنه متقٍ (عن الكفر، فقد صدق عليه أنه متق)، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا: المتقي عن الكفر، وإذا كان صاحب الكبيرة (يصدق عليه أنه متقٍ، وجب أنه) يدخل الجنة، (فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها.
97
قوله :﴿ إلاَّ من تَابَ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء متصل١. وقال٢ الزجاج٣ : هو منقطع٤. وهذا٥ بناء منه على أن المضيع للصلاة من الكفار.
وقرأ عبد الله والحسن٦ والضحاك وجماعة " الصلوات " ٧ جمعاً٨.
وقرأ الحسن هنا وجميع ما في القرآن " يُدْخَلُونَ " مبنيًّا للمفعول٩.

فصل١٠


" احتجوا ١١ " ١٢ بقوله :﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾١٣ على أن الإيمان غير العمل، لأنه عطف العمل على الإيمان، والمعطوف غير١٤ المعطوف عليه.
أجاب الكعبي١٥ : بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان، والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما.
وهذا الجواب ضعيف، لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي المغايرة بينهما١٦، لأن التوبة عزم على الترك، والإيمان إقرار بالله، وهما متغايران، فكذلك في هذه الصورة١٧.
ولما بيَّن١٨ وعيد من لم يتب بيَّن أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة ولا يلحقهم ظلم.
وهنا١٩ سؤالان٢٠ :
السؤال الأول : الاستثناء دل على أنه لا بُدَّ من التوبة٢١ والإيمان والعمل الصالح، وليس الأمر كذلك، لأن من تاب عن الكفر ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإن٢٢ الصلاة لا تجب عليه، وكذلك الصوم والزكاة فلو مات٢٣ في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل، فلم يجز توقف الأجر٢٤ على العمل الصالح.
والجواب٢٥ : أن هذه الصورة نادرة، والأحكام إنما تناط بالأعم٢٦ الأغلب.
السؤال الثاني : قوله :﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ يدل على أن الثواب مستحق بالعمل لا بالتفضّل، لأنه لو كان بالتفضل، لاستحال حصول الظلم، لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد.
وأجيب بأنه لما أشبهه أجري على حكمه٢٧.
١ انظر البحر المحيط: ٦/٢٠١، والاستثناء المتصل: هو ما يكون فيه المستثنى بعض المستثنى منه.
شرح التصريح ١/٣٤٩..

٢ في ب: قال..
٣ تقدم..
٤ معاني القرآن وإعرابه ٣/٣٣٦. أجاز الزجاج الاتصال والانقطاع وعبارته: (وقوله عز وجل: ﴿إلا من تاب وآمن﴾ "من" في موضع نصب، أي فسوف يلقون العذاب إلا التائبين، وجائز أن يكون نصبا استثناء من غير الأول، ويكون المعنى لكن من تاب وآمن). والاستثناء المنقطع: هو ما لا يكون المستثنى بعض المستثنى منه بشرط أن يكون ما قبل (إلا) دالا على ما يستثنى فيجوز ما قام القوم إلا حمارا، ويمتنع قام القوم إلا ثعبانا. شرح التصريح ١/٣٥٢..
٥ في ب: وهو..
٦ تقدم..
٧ في ب: الصلاة. وهو تحريف..
٨ المختصر (٨٥)، الكشاف ٢/٤١٥، البحر المحيط ٦/٢٠١..
٩ في البحر المحيط قراءة الحسن "يدخلون" مبنيا للفاعل، حيث قال أبو حيان: (وقرأ الحسن "يدخلون" مبنيا للفاعل، وكذا كل ما في القرآن من "يدخلون").
البحر المحيط ٦/٢٠١، و"يُدخَلون" بالبناء للمفعول قراءة سبعية قرآها ابن كثير وأبو عمرو هنا، وفي النساء :﴿فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾ الآية (١٢٤) وفي فاطر ﴿جنات عدن يدخلونها﴾ الآية (٣٣)، وفي غافر ﴿فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب﴾ الآية (٤٠) وكذلك ﴿إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾ [غافر: ٦٠].
حجة من قرأ "يدخلون" بالبناء للمفعول: أنهما أضافوا الفعل إلى غيرهم، لأنهم لا يدخلون الجنة حتى يدخلهم الله – جل ذكره – إياها، فهم مفعولون في المعنى، فبنوا الفعل للمفعول على ما لم يسم فاعله، وقد أجمعوا على قوله: ﴿وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ [إبراهيم: ٢٣].
وحجة من قرأ "يدخلون" بالبناء للفاعل، أضافوا الفعل إلى الداخلين، لأنهم هم الداخلون بأمر الله تعالى لهم، دليله قوله: ﴿ادخلوا الجنة﴾ [الأعراف: ٤٩].
السبعة (٢٣٧-٢٣٨)، الحجة لابن خالويه (١٢٧)، الكشف ١/٣٩٧، ٣٩٨، النشر ٢/٢٥٢..

١٠ فصل: سقط من ب..
١١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٦..
١٢ ما بين القوسين في ب: فإن قيل: احتجوا..
١٣ وآمن سقط من ب..
١٤ المعطوف غير: سقط من ب..
١٥ في ب: فالجواب عنه ذكر الكعبي. والكعبي هو: سليمان بن يزيد بن قنفذ، أبو المثنى الخزاعي، روى عن سالم بن عبد الله بن عمرو، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيرهما، وروى عنه داود بن قيس الفراء، وعبد الله بن وهب، وغيرهما، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١٢/٢٢١..
١٦ بينهما: سقط من ب..
١٧ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٦..
١٨ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٧..
١٩ في ب: فإن قيل: وههنا..
٢٠ في ب: سؤلان..
٢١ في ب: دال على أن التوبة لا بد منها..
٢٢ إن: سقط من ب..
٢٣ في النسختين: تاب. والصواب ما أثبته..
٢٤ في الأصل: الأمر..
٢٥ في ب: فالجواب..
٢٦ في ب: بالأهم، وهو تحريف..
٢٧ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٧..
قوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ العامة على كسر التاء نصباً على أنها بدل من " الجنة " ١. وعلى هذه القراءة يكون قوله :﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه.
والثاني : أنه حال. كذا قال أبو حيان٢.
وفيه نظرٌ من حيث إن المضارع المنفي ب " لا " كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال٣.
وقرأ أبو حيوة٤، وعيسى بن عمر٥، والحسن٦، والأعمش٧ :" جنَّات٨ " بالرفع٩ وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر، تقديره : تلك أو هي جنات عدن١٠.
والثاني : وبه قال الزمخشري١١ : أنها مبتدأ١٢، يعني ويكون خبرها " الَّتي وَعدَ ".
وقرأ الحسن بن حيّ١٣، وعلي بن صالح١٤، والأعمش في رواية " جنَّة١٥ عدنٍ " نصباً مفرداً١٦. واليماني١٧، والحسن، والأزرق١٨ عن حمزة١٩، " جَنَّةُ " رفعاً " مفرداً ٢٠ " ٢١. وتخريجها واضح مما تقدم٢٢.
قال الزمخشري : لما كانت الجنة٢٣ مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، كقولك أبصرت دارك القاعة والعلالي٢٤، و " عَدْن " معرفة بمعنى العدن، وهو الإقامة كما جعلوا فينة٢٥، وسحر، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس٢٦، فجرى مجرى العدن٢٧ لذلك، أو هو علم لأرض الجنة، لكونها دار إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأنَّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها ب " التي " ٢٨.
قال أبو حيان : وما ذكره متعقب، أما دعواه : إن عدناً علم لمعنى العدن٢٩. فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب، وكذا٣٠ دعواه العلمية الشخصية فيه، وأما قوله : ولولا ذلك٣١، إلى قوله : موصوفة ؛ فليس مذهب البصريين، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة إن لم تكن موصوفة، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون، وهم محجوجون بالسماع٣٢ على ما بيناه، وملازمته فاسدة. وأما قوله : ولما ساغ وصفها ب " التي "، فلا يتعين كون " التي " صفة، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً٣٣.
قال شهاب الدين٣٤ : إن " التي " صفة، والتمسك بهذا الظاهر كافٍ وأيضاً : فإن الموصول٣٥ في قوة المشتقات، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق، ضعيف٣٦، فكذلك ما في معناه٣٧.
قوله :﴿ بالغَيْبِ ﴾٣٨ فيه وجهان :
أحدهما : أن الباء حالية، وفي صاحب الحال احتمالان :
أحدهما : ضمير الجنة، وهو عائد الموصول، أي : وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها.
والثاني : أن يكون هو٣٩ " عِبَادَهُ " ٤٠، أي : وهم غائبون عنها لا يرونها، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه.
والوجه الثاني : أن الباء سببية، أي : بسبب تصديقه الغيب، وبسبب الإيمان " به٤١ " ٤٢.
قوله :﴿ إنَّهُ كَانَ ﴾. يجوز٤٣ في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى يعود على " الرحمن " أي : إن الرحمن كان وعده مأتياً.
والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن، لأن مقام تعظيم وتفخيم.
وعلى الأول يجوز أن يكون في " كان " ضمير هو اسمها يعود على الله -تعالى- و " وَعْدُهُ " بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال، و " مَأتِيًّا " خبرها.
ويجوز أن لا يكون فيها ضمير، بل هي رافعة ل " وعده " و " مأتياً " الخبر أيضاً٤٤.
وهو نظير : إن زيداً كان أبوه منطلقاً.
و " مأتيًّا " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول على بابه، والمراد بالوعد : الجنة، أطلق عليها المصدر، أي : موعود، نحو درهم ضرب الأمير٤٥.
وقيل : الوعد مصدر على بابه، و " مأتيا " مفعول بمعنى فاعل٤٦. ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال : قيل في " مأتيا " مفعول بمعنى فاعل، والوجه أن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها، أو هو من قولك : أتى إليه إحساناً، أي : كان وعده مفعولاً منجزاً٤٧.
وقال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه، وما أتاك فقد أتيته٤٨.
والمقصود من قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ بيان أن وعده تعالى -وإن كان بأمر غائب- فهو٤٩ كأنه مشاهد حاصل، والمراد٥٠ تقرير ذلك في القلوب.
١ من قوله تعالى: ﴿فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا﴾ من الآية السابقة.
انظر تفسير ابن عطية ٩/٤٩٥، البيان ٢/١٢٨، التبيان ٢/٨٧٧، البحر المحيط ٦/٢٠١..

٢ البحر المحيط ٦/٢٠١، وأبو حيان: هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان، الإمام أثير الدين أبو حيان الأندلسي، الغرناطي نحوي عصره، ولغويه، ومحدثه.
من مصنفاته: البحر المحيط، التذييل والتكميل في شرح التسهيل، وغير ذلك، مات سنة ٧٤٥ هـ. طبقات المفسرين للداودي ٢/٢٨٦-٢٩١..

٣ نص النحويون على أن هناك صورا تمتنع واو الحال فيها، منها المضارع المثبت المجرد من (قد)، نحو قوله تعالى: ﴿ولا تمنن تستكثر﴾ الآية ٦ من سورة المدثر، وذلك لأنه يشبه اسم الفاعل في الزنة والمعنى، والواو لا تدخل على اسم الفاعل، فكذلك ما أشبهه. ومنها المضارع المنفي بـ (لا) نحو قوله تعالى: ﴿و ما لنا لا نؤمن بالله﴾ [المائدة: ٨٤]، لأن المضارع المنفي بـ (لا) في تأويل اسم الفاعل المضاف إليه (غير) فأجري مجراه في الاستغناء عن الواو. قاله ابن مالك في شرح الكافية ٢/٧٦٢-٧٦٣: وابن الناظم جعل ترك الواو في المضارع المنفي بـ (لا) أكثر من اقترانه بالواو، وأنشد على مجيء الواو قول مالك بن رقية:
...***وكنت ولا ينهنهني الوعيد
وقول مسكين الدارمي:
أكسبته الورق البيض أيا ولقد كان ولا يدعى لأب.
وعلى رأي ابن الناظم فلا محل للنظر.
شرح التصريح ١/٣٩١ – ٣٩٢، شرح الأشموني ٢/١٨٨-١٨٩..

٤ هو شريح بن يزيد، أبو حيوة، الحضرمي، الحمصي، صاحب القراءة الشاذة، ومقرئ الشام، له اختيار في القراءة، عن أبي البرهسم عمران بن عثمان، وعن الكسائي قراءته، روى عنه ابنه حيوة، مات سنة ٢٠٣ هـ. طبقات القراء ١/٣٢٥..
٥ هو عيسى بن عمر الثقفي أبو عمر مولى خالد بن الوليد، إمام في النحو والعربية، والقراءة، أخذ عن ابن أبي إسحاق، وغيره، وكان مشهورا بالفصاحة، والغريب، وصنف في النحو: الإكمال، والجامع. مات سنة ١٤٩ هـ. بغية الوعاة ٢/٢٣٧-١٣٨..
٦ في ب: والحسن. وعيسى بن عمر..
٧ هو سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي، أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم النخعي، وزر بن حبيش، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم، وروى القراءة عنه عرضا وسماعا حمزة الزيات، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهما مات سنة ١٤٨ هـ. طبقات القراء ١/٣١٥ -٣١٦..
٨ "جنات" سقط من ب..
٩ المختصر (٨٥)، الكشاف ٢/٤١٥، تفسير ابن عطية ٩/٤٩٥، البحر المحيط ٦/٢٠١..
١٠ تفسير ابن عطية ٩/٤٩٥، التبيان ٢/٨٧٧، البحر المحيط ٦/٢٠١..
١١ تقدم..
١٢ انظر الكشاف ٢/٤١٥..
١٣ تقدم..
١٤ علي بن صالح بن صالح بن حي، أبو محمد البكالي، أخذ القراءة عرضا عن عاصم، وحمزة، وعرض عليه عبيد الله بن موسى، مات سنة ١٥٤ هـ.
طبقات القراء ١/٥٤٦..

١٥ في ب: جنات. وهو تحريف..
١٦ المختصر (٨٥)، البحر المحيط ٦/٢٠١..
١٧ هو محمد بن عبد الرحمن السميفع – بفتح السين – أبو عبد اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه. طبقات القراء ٢/١٦١-١٦٢..
١٨ هو إسحاق بن يوسف بن يعقوب الأزرق، أبو محمد الواسطي، قرأ على حمزة، وروى القراءة عن أبي عمرو، وحروف عاصم عن أبي بكر بن عياش، وروى عن الأعمش، وغيره، وروى عنه القراءة إسماعيل بن إبراهيم بن هود، وغيره، مات سنة ١٩٥ هـ.
طبقات القراء ١/١٥٨..

١٩ هو حمزة بن حبيب الزيات، أبو عمارة الكوفي التيمي مولاهم، أحد القراء السبعة ولد سنة ٨٠ هـ، وأدرك الصحابة بالسن فيحتمل أن يكون رأى بعضهم، أخذ القراءة عرضا عن الأعمش، وغيره، وروى عن خلق أشهرهم الكسائي، مات سنة ١٥٦ هـ.
طبقات القراء ١/٢٦١-٢٦٣..

٢٠ البحر المحيط ٦/٢٠١ - ٢٠٢..
٢١ ما بين القوسين مكرر في ب..
٢٢ أي أن تخريجها كتخريج قراءة "جنات" بالجمع رفعا ونصبا..
٢٣ في ب: الآية. وسقطت من الأصل..
٢٤ العلالي: جمع (علّيّة) بكسر العين وضمها مع تشديد اللام مكسورة والياء وهي الغرفة. انظر اللسان (علا)..
٢٥ الفينة: الحين، الكسائي، وغيره: الفينة: الوقت من الزمان. اللسان (فين)..
٢٦ ذلك أن (فينة) حين تجعل علما على الوقت المعين من الزمان منعت من الصرف للعملية والعدل. و(سحر) إذا أريد به سحر يوم بعينه واستعمل ظرفا مجردا من (ال) والإضافة: كجئت يوم الجمعة سحر. فإنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل. فهو معرفة بالعملية، لأنه جعل علما لهذا الوقت، وهو معدول عن السحر المقترن بأل.
و(أمس) إذا كان مرادا به اليوم الذي يليه يومك، ولم يضف ولم يقرن بأل، ولم يصغّر، ولم يكسّر، ولم يقع طرفا، فإن بعض بني تميم يمنع صرفه مطلقا رفعا ونصبا وجرا، لأنه علم معدول عن الأمس المعرف بـ (أل)، فيقولون: مضى أمس بالرفع بلا تنوين، وشاهدت أمس، وما رأيت زيدا من أمس. بالفتح فيهما، وبعضهم يخص ذلك الإعراب بحالة الرفع خاصة دون حالتي النصب والجر فيبنيه على الكسر فيهما، والحجازيون يبنونه على الكسر مطلقا في الرفع والنصب والجر على تقدير متضمنا معنى اللام المعرفة.
شرح التصريح ٢/٢٢٣- ٢٢٦..

٢٧ في ب: و..
٢٨ الكشاف ٢/٤١٥..
٢٩ في ب: علما لمعان أي المعنى العدن..
٣٠ في ب: وكذلك..
٣١ في الأصل: ذاك..
٣٢ إبدال النكرة من المعرفة من الأمور المختلف فيها بين البصريين، والكوفيين، والبغداديين، فذهب الكوفيون، والبغداديون إلى جواز إبدال النكرة من المعرفة بشرط كون النكرة موصوفة، ووافقهم في ذلك السهيلي وابن أبي الربيع نحو قوله: ﴿عن الشهر الحرام قتال فيه﴾ [البقرة: ٢١٧] لأن النكرة إذا لم تكن موصوفة لم تفد، إذ لا فائدة في قولك: مررت بزيد برجل.
وزاد البغداديون: أو يكون من لفظ الأول، كقوله: ﴿بالناصية ناصية كاذبة﴾ [العلق: ١٣، ١٤]. وذهب البصريون إلى جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقا، لورودها غير موصوفة، وليست من لفظ الأول، كقوله:
فصدوا من خيارهن لقاحا يتقاذفن كالغصون عزاز
فـ (عزاز) بدل من الضمير في (يتقاذفن).
وقوله:
فإلى ابن أم أناس أرحل ناقتي عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف
ملك إذا نزل الوفود ببابـــــــه عرفوا موارد مزبد لا يـــنزف
فـ (ملك) بدل من (عمرو). الهمع ٢/١٢٧..

٣٣ البحر المحيط ٦/٢٠٢..
٣٤ هو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم بن محمد الحلبي، شهاب الدين، المعروف بالسمين، كان فقيها بارعا في النحو، والقراءات ويتكلم في الأصول، أديبا، لازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه، أخذ القراءات عن التقي الصائغ، وسمع الحديث من يونس الدبوسي، وله تفسير القرآن (الدر المصون)، والإعراب، وشرح التسهيل، وشرح الشاطبية، وغير ذلك، مات سنة ٧٥٦ هـ. بغية الوعاة ١/٤٠٢..
٣٥ في ب: الموصوف. وهو تحريف..
٣٦ لأن الغالب في البدل أن يكون جامدا. بحيث لو حذفت الأول لاستقل الثاني، ولم يحتج إلى متبوع قبله في المعنى، فإن لم يكن جامدا كقوله:
فلا وأبيك خير منك أني ليؤذيني التحمحم والصهيل
قدر الموصوف أي: فلا وأبيك رجل خير منك. شرح الكافية ١/٣٣٨..

٣٧ الدر المصون ٥/١٠ ميكرو فيلم (١٥٣٥٥) دار الكتب..
٣٨ في ب: ﴿رجما بالغيب﴾ [الكهف: ٢٢]..
٣٩ في النسختين: هي..
٤٠ عباده: سقط من ب..
٤١ الكشاف ٢/٤١٥، البحر المحيط ٦/٢٠٢..
٤٢ به: سقط من ب..
٤٣ في ب: فإن قيل: إنه يجوز..
٤٤ التبيان ٢/٨٧٧..
٤٥ المرجع السابق..
٤٦ تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص ٢٧٤..
٤٧ الكشاف ٢/٤١٥..
٤٨ معاني القرآن وإعرابه ٣/٣٣٦..
٤٩ هو: سقط من ب..
٥٠ المراد: سقط من ب..
قوله :﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ﴾. اللغو من١ الكلام : ما يلقى ويطرح، وهو المنكر من القول كقوله :﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾٢. وقال مقاتل٣ : هي اليمين الكاذبة٤ وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو، لأن الله -تعالى- نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها، ولقوله :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾٥، وقوله :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾٦ ٧ الآية٨.
أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون٩ معناه : إن كان تسليم بعضهم على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغواً، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك، فهو من وادي قوله١٠ :
وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ١١
الثاني : أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع.
الثالث : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلامة هي دار السلامة، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام١٢.
وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره.
وأما الاتصال في الأول فعسر١٣، إذ لا يعدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله -تعالى- عند قوله :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾١٤.
قوله :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ فيه سؤالان١٥ :
السؤال الأول١٦ : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة.
والجواب من وجهين :
الأول : قال الحسن : أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة، ولبس الحرير التي كانت١٧ عادة العجم، والأرائك التي هي الحجال١٨ المضروبة على الأسرَّة، وكانت عادة أشراف اليمن، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك.
الثاني : المراد دوام الرزق، تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء١٩، تريد الدوام، ولا تقصد الوقتين المعلومين.
السؤال الثاني : قال تعالى :﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ﴾٢٠ وقال عليه السلام٢١ :" لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً " ٢٢.
والبكرة والعشيّ لا يوجدان٢٣ إلا عند وجود الصباح والمساء.
والجواب : أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً، إذ لا ليل فيها٢٤.
وقيل : إنهم يغرقون النهار برفع الحجب، ووقت الليل بإرخاء الحجب٢٥.
وقيل : المراد رفاهية العيش، وسعة الرزق٢٦، أي : لهم رزقهم متى شاءوا.
١ في ب: في..
٢ [الغاشية: ١١]..
٣ تقدم..
٤ تفسير البغوي ٥/٣٨٣..
٥ [الفرقان: ٧٢]..
٦ من قوله تعالى: ﴿وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين﴾ [القصص: ٥٥]..
٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٨ انظر الكشاف ٢/٤١٥-٤١٦، والفخر الرازي ٢١/٢٣٨..
٩ في ب: كان..
١٠ كان: سقط من ب..
١١ البيت من بحر الطويل، قاله النابغة الذبياني، فلول جمع فلّ، وهو كسر في حد السيف، وسيف أفلّ: بين الفلل.
القراع والمقارعة: المضاربة بالسيوف. الكتائب: جمع كتيبة، وهي الطائفة المجتمعة من الجيش.
والشاهد فيه أن صاحب الكشاف أورده على أن الاستثناء فيه استثناء متصل، مبالغة في المدح، أي: إن كان ولا بدّ من العيب ففيهم عيب، وهو فلول سيوفهم من مضاربة الأعداء. وأورده علماء البديع شاهدا لتأكيد المدح بما يشبه الذم. وقد تقدم..

١٢ انظر الكشاف ٢/٤١٦..
١٣ في ب: وأما الاتصال الأول فعسر أعني الاتصال في الأول عسر..
١٤ [الدخان: ٥٦]..
١٥ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٨..
١٦ في ب: أحدهما..
١٧ في ب: الذي كان..
١٨ الحجال: جمع حجلة مثل القبة، وحجلة العروس معروفة، وهي بيت يزين بالثياب والأسرّة والستور. اللسان (حجل)..
١٩ في ب: صباحا ومساء وبكرة وعشيا..
٢٠ [الإنسان: ١٨]..
٢١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٢ في ب: دائما..
٢٣ في ب: لا يوجد. وهو تحريف..
٢٤ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٨..
٢٥ انظر البغوي ٥/٣٨٤..
٢٦ المرجع السابق..
قوله :﴿ تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ ﴾ صحت الإشارة ب " تِلْكَ " إلى " الجَنَّة " لأنها غائبة.
وقرأ الأعمش :" نورثها " بإبراز عائد الموصول١.
وقرأ الحسن، والأعرج٢، وقتادة :" نُوَرِّثُ " بفتح الواو وتشديد الراء٣ من ورَّث مضعفاً، وقوله :﴿ نُورث ﴾ استعارة، أي : نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث٤، وقيل : معناه : ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم، فجعل هذا النقل إرثاً، قاله الحسن٥.
المتقي : هو من اتقى المعاصي ؛ واتقى ترك الواجبات.
قال٦ القاضي٧ : هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقياً، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك.
وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها ؛ وأيضاً : فصاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر، ومن صدق عليه أنه متقٍ ( عن الكفر، فقد صدق عليه أنه متق )٨، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا : المتقي عن الكفر، وإذا كان صاحب الكبيرة ( يصدق عليه أنه متقٍ، وجب أنه ) يدخل الجنة، ( فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة ) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها٩.
١ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٢..
٢ هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أبو داود المدني، تابعي جليل، أخذ القراءة عرضا عن أبي هريرة، وابن عباس – رضي الله عنهم – وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وروى القراءة عنه عرضا نافع بن أبي نعيم، مات سنة ١١٩ هـ.
طبقات القراء ١/٣٨١..

٣ انظر تفسير ابن عطية ٩/٤٩٨، البحر المحيط ٦/٢٠٢..
٤ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٣٨..
٥ المرجع السابق..
٦ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٩..
٧ تقدم..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢١/٢٣٩..
قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ الآية. قال ابن عطية: الواو عاطفة جملة كلام على أخرى، واصلة بين القولين، وإن لم يكن معناهما واحداً.
وقد أغرب النقاش في حكاية قول: وهو أن قوله: «وما نَتَنَزَّلُ» متصل بقوله: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ﴾ [مريم: ١٩].
وقال أبو البقاء: «وما نَتَنَزَّلُ» أي: وتقول الملائكة. فجعله معمولاً لقول مضمر.
وقيل: هو من كلام أهل الجنة. وهو أقرب مما قبله. و «نَتَنَزَّلُ» مطاوع
97
نزَّل - بالتشديد - ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها. قال الزمخشري: التنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله:
٣٦١٢ - فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّمَاءِ يصُوبُ
لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، ويكون بمعنى التدرج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل، والمراد: أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت.
ثال شهاب الدين: وقد تقدم أنه يفرق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضوع.
وقرأ العامة «نَتَنَزَّلُ» بنون الجمع. وقرأ الأعرج «يتنزَّلُ» بياء الغيبة، وفي الفاعل حينئذ قولان:
أحدهما: أنه ضمير جبريل - عليه السلام -.
قال ابن عطية: ويرده قوله: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا﴾، لأنه لا يطرد معه، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أي: القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها. وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول، أي: قائلاً ما بين أيدينا.
والثاني: أنه يعود على الوحي، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل، والضمير للوحي. ولا بد من إضمار هذا القول أيضاً.
قوله: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾. استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة: ماض، وحاضر، ومستقبل بهذه الآية وهو كقول زهير:
98
٣٦١٣ - واعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ولكِنَّنِي عن عِلْمِ ما فِي غدٍ عَمِ

فصل


روى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يا جبريل ما منعك أن تزورنا» فنزلت ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ الآية. وقال عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل، والكلبي: «احتبس جبريل - عليه السلام - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين سأل قومه عن أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح فقال:» أخبركم غداً «، ولم يقل: إن شاء الله حتى شق على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال المشركون ودَّعهُ ربه وقلاه، ثم نزل بعد أيام، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» أبطأت علي حتى ساء ظني، واشتقت إليك «فقال له جبريل - عليه السلام - إني كنت إليك أشوق، ولكنني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست»
فنزل قوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤] وسورة الضحى وفي هذه الآية سؤال: وهو أن قوله: ﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ٦٣] كلام الله، وقوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾ كلام غير الله، فكيف جاز هذا على ما قبله من غير فصل؟.
وأجيب: بأنه إذا كانت القرينة لم يقبح كقوله - تعالى -: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [مريم: ٣٥]، (وهذا كلام الله تعالى، ثم عطف عليه) ﴿وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه﴾ [مريم: ٣٦]. واعلم أنَّ ظاهر قوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ خطاب جماعة لواحد، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم. ثم قال: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا﴾ أي: علم ما بين أيدينا قال سعيد بن
99
جبير وقتادة، ومقاتل: «ما بَيْنَ» أيدِينَا «من أمر الآخرة، والثواب والعقاب،» ومَا خَلْفَنَا «من أمر الدنيا،» ومَا بَيْنَ ذلِكَ «ما يكون في هذا الوقت إلى قيام الساعة. وقيل:» مَا بَيْنَ أيْدِينَا «من أمر الآخرة،» ومَا خَلْفَنَا «من أمر الدنيا،» ومَا بَيْنَ ذلِكَ «أي: بين النفختين، وبينهما أربعون سنة.
وقيل:»
مَا بَيْنَ أدينَا «ما بقي من أمر الدنيا،» ومَا خَلْفَنَا «ما مضى منها،» ومَا بَيْنَ ذَلِكَ «هذه حياتنا. وقيل:: مَا بَيْنَ أيْدِينَا» بعد أن نموت، «ومَا بَيْن ذلكَ» مدة الحياة. وقيل: «مَا بَيْنَ أيدِينَا» الأرض إذا أردنا النزول إليها، «ومَا خَلْفَنَا» السماء وما أنزل منها، «ومَا بَيْنَ ذلِكَ» الهواء، يريد أن ذلك كله لله - عَزَّ وَجَلَّ - فلا يقدر على شيء إلاَّ بأمره. ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ أي: ناسياً، أي: ما نسيك ربك بمعنى تركك، والناسي التارك، كقوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾ [الضحى: ٣] أي: ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك.
قوله: ﴿رَّبُّ السماوات﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من «ربُّكَ».
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هُو ربُّ.
الثالث: كونه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده. وهذا ماشٍ رأي الأخفش، إذ يجوِّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً.
100
قوله: «لِعبادَتِهِ» متعلق ب «اصْطَبَرْ» فإن قيل: لِمَ لَمْ يقُلْ: واصطبر على عبادته، لأنها صلته، فكان حقه تعديه ب «على» ؟.
فالجواب: أنَّه ضمن معنى الثبات، لأنَّ العبادة ذات تكاليف قل من يصبر لها، فكأنَّه قيل: واثبت لها مصطبرا. واستدلوا بهذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق لله - تعالى -، لأنَّ فعل العبدِ حاصل بين السموات والأرض، وهو رب لكل شيء حاصل بينهما.
قوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ أدغم الأخوان، وهشام، وجماع لام «هَلْ» في «التاء».
وأنشدوا على ذلك بيت مُزَاحِم العُقيليّ:
101

فصل


دلَّ ظاهر الآية على أنَّه - تعالى - رتب الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سميّ له، والأقرب أنه ذكر الاسم وأراد هل تعلم له نظيراً فيما يقتضي العبادة والتي يقتضيها كونه منعماً بأصول (النعم وفروعها، وهي خلق الأجسام، والحياة والعقل، وغيرها، فإنه لا يقدر على ذلك) أحد سواه - سبحانه وتعالى - وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام، وجب أن تعظمه بغاية التعظيم، وهي العبادة.
قال ابن عباس: هل تعلم له مثلاً.
وقال الكلبي: ليس له شريك في اسمه. وذلك لأنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله - تعالى - على شيء. قال ابن عباس: لا يسمة بالرحمن غيره. وأيضاً: هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل، لأنَّ التسمية على الباطل كلا تسمية، لأنها غير معتد بها، والقول الأول أقرب.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ﴾ الآية. «إذَا» منصوب بفعل مقدر مدلول عليه بقوله تعالى: ﴿لَسَوْفَ أُخْرَجُ﴾، تقديره: إذا مت أبعث أو أحياً، ولا يجوز أن يكون العامل فيه «أخْرَجُ» لانَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل ما قبلها قال أبو البقاء: لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها ك «إنَّ» قال شعاب الدين: قد جعل
102
المانع مجموع الحرفين، أما اللام فمسلم وأما حرف التنفيس فلا مدخل له في المنع، لأن حرف التنفيس يعمل كا بعده فيما قبله، تقول: زَيْداً سأضَرِبُ وسوف أضرب، ولكن فيه خلاف ضعيف، والصحيح الجواز، وأنشدوا عليه:
٣٦١٤ - فَذَرْ ذَا ولكِن هَتُّعِينُ مُتَيَّماً عَلى ضَوْءِ برْقِ آخِرِ اللَّيْلِ نَاصِبِ
٣٦١٥ - فَلَمَّا رَأتْهُ آمَناً هَانَ وجْدُهَا وقَالَتْ أبُونَا سَوْفَ يَفْعَلُ
ف «هَكَذَا» منصوب ب «يَفْعَلُ» بعد (حرف التنفيس)، (وقال ابن عطية) : واللام في قوله: «لَسَوْفَ» مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى، كأن قائلاً قال للكافر: (إذا متُّ) يا فلان لسوف تخرج حيًّا، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد، وكرر اللام حكاية للقول الأول. قال أبو حيان: ولا يحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكاية للقول الأول. قال أبو حيان: ولا يحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكاية لكلام تقدم بل هو من كلام الكافر، وهو استفهام فيه معنى الجحد والاستبعاد. وقال الزمخشري: فإن قيل: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلتُ: لم تجامعها إلاَّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض، واضْمَحَلَّ عنها معنى التعريف.
103
قال أبو حيان: وما ذكر من أن اللام تعطي «معنى» الحال مخالف فيه، فعلى مذهب من لا يرى ذلك يسقط السؤال، وأما قوله: كما أخلصت الهمزة.
فليس ذلك إلاَّ على مذهب من يزعم أن أصله: إله، وأما من يزعم أن أصله: لاه. فلا تكون الهمزة فيه للتعويض «إذْ لم يحذف منه شيء، ولو قلنا: إنَّ أصله إله، وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض»، إذ لو كانت عوضاً من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره، ولما جاز حذفها في النداء، قالوا: يا الله بحذفها، وقد نصوا على أن «قطع» همزة الوصل في النداء شاذ.
104
وقرأ الجمهور: «أءِذَا» بالاستفهام، وهو استبعاد كما تقدم. وقرأ أبو ذكوان بخلاف عنه، وجماعة «إذَا» بهمزة واحدة على الخبر أو الاستفهام وحذف أداته للعلم بها، ولدلالة القراءة الأخرى عليها.
وقرأ طلحة بن مصرِّف «لسَأخرجُ» بالسين دون سوف. هذا نقل الزمخشري عنه. وغيره نقل «سَأخْرَجُ» دون لام الابتداء، وعلى هذه القراءة يكون العامل في الظرف نفس «أخْرَجُ»، ولا يمنع حرف التنفيس على الصحيح.
وقرأ العامة «أخْرَجُ» مبنياً للمفعول. والحسن، وأبو حيوة «أخْرُجُ» مبنياً للفاعل. و «حيًّا» حال مؤكدة، لأنَّ من لازم خروجه أن يكون حيًّا، وهو كقوله: ﴿أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣].

فصل


لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها، فكأنَّ سائلاً سأل وقال: هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا، وأمَّا في الاخرة فقد أنكرها قوم، فلا بُدَّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى تظهر فائدة الاشتغال بالعيادة، فلهذا حكى الله - تعالى - قول منكري الحشر، فقال: ﴿وَيَقُولُ الإنسان﴾ الآية: قالوا ذلك على سبيل افنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين:
105
أحدها: أن يكون المراد الجنس كقوله: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ [الإنسان: ١].
فإن قيل: كلهم غير قائلين بذلك، فكيف يصح هذا القول؟.
فالجواب من وجهين: الأول: أنَّ هذه المقولة لمَّا كانت موجودة في جنسهم صحَّ اسنادها إلى جميعهم، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناًَ، وإنما القاتل رجل منهم.
الثاني: أنَّ هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلاَّ أنَّ بعضهم تركه للدلالة القاطعة على صحة القول به.
القول الثاني: أنَّ المراد بالإنسان شخص معين، فقيل: أبيُّ بن خلف الجمحي.
وقيل: أبو جهل. وقيل: المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث.
ثم إن الله - تعالى - أقام للدلالة على صحة البعث فقال: ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ﴾ الآية قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وجماعة: «يَذْكُرُ» مضارع ذكر.
والباقون بالتشديد مضارع تذكَّر. والأصل: يتذكر، فأدغمت التاء في الذال.
106
وقد قرأ بهذا الأصل وهو «يتذكَّر» أبيٌّ.
والهمزة في قوله: «أو لا يذكُرُ مؤخرة على حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور وقد رجع الزمخشري إلى قول الجمهور هنا فقال: الواو عطفت» لا يذكُرُ «على» يَقُولُ «ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف» عليه «وحرف العطف.
ومذهبه: أن يقدر بين حرف العطف وهمزة الاستفهام جملة يعطف عليها ما بعدها.
وقد فعل هذا أعني الرجوع إلى قول الجمهور في سورة الأعراف كما نبَّه عليه في موضعه.
قوله: «مِنْ قَبْلُ»
أي: من قبل بعضه، وقدره الزمخشري: من قبل الحالة التي هو فيها، «وهي حالة» بقائه.

فصل


قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا
107
الاختصار ما قدروا عليه، إذ لا شك أنَّ اعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً، ونظيره قوله تعالى ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩]، وقوله: ﴿وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧] واحتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم ليس بشيء، وهو ضعيف؛ لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض، وهذا المجموع ما كان شيئاً، ولكن لم قلت: إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل: كيف أمر الله - تعالى - الإنسان بالتذكر مع أنَّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟.
فالجواب: المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ «أو لا يذَّكَّرُ» مشدداً، أما إذا قرئ «أو لا يذكُرُ» مخففاً، فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأنَّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيًّا في الدنيا ثم صار حيًّا.
ثم إنه تعالى لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتشديد فقال ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين﴾ أي: لنجمعنهم في المعاد، يعني المشركين المنكرين للبعث مع الشياطين، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة.
وفائدة القسم أمران: أحدهما: أنَّ العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين.
والثاني: أنَّ في قسام الله - تعالى - باسمه مضافاً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رفعاً منه لشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله: ﴿فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [الذاريات: ٢٣]. والواو في «والشَّياطين» يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى «مع» وهي بمعنى «مع» أوقع. والمعنى، أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغروهم. ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ﴾ أي: نحضرهم على أذل صورة لقوله: «جِثِيًّا» لأنَّ البارك على ركبتيه صورته الذليل، أو صورة العاجز.
108
فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل لقوله: ﴿وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية: ٢٨]، ولأنَّ العادة جارية بأنَّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق، أة لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان حاصلاً للكل، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار.
فالجواب: لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحال، وذلك يوجب مزيد ذلهم.
قوله: «جِثِيًّا» حال مقدرة من مفعول «لنُحْضرنَّهُمْ». و «جِثِيًّا» جمع جاثٍ جمع على فعول، نحو قَاعد وقُعُود، وجَالس وجُلوس، وفي لامه لغتان:
أحدهما: الواو.
والأخرى: الياء.
يقال: جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وجَثَا يَجْثِي جِثِيًّا.
فعلى التقدير الأول: يكون أصله جُثُوو. بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة، ثم أعلت إعلال عِصِيّ ودليّ، وتقدم تحقيقه في «عِتيًّا».
وعلى الثاني يكون الأصل: جُثُوياً، فأعل إعلال هيِّن وميِّت.
وعن ابن عباس: أنه بمعنى جماعات جماعات، جمع جثْوة، وهوالمجموع من
109
التراب والحجارة، وفي صحته عنه نظر من حيث إنَّ فعلهُ لا يجمع على فعول. ويجوز في «جِثِيًّا» أن يكون مصدراً على فعول، وأصله كما تقدم في حال كونه جمعاً، إمَّا جُثُوو، وإمَّا جُثُوي.
وقد تقدم أنَّ الأخوين يكسران فاءه، والباقون يضمونها.
والجثوّ: القعود على الركب.
قوله: ﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ أي: ليخرجن من كل أمة وأهل دين من الكفار والشيعة فعلة كفرقة: ومنه الطائفة التي شاعت، أي: تبعت غاوياً من الغواة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ [الأنعام: ١٥٩]. والمعنى: أنه - تعالى - يحضرهم أولاً حول جهنم، ثم يميز البعض من البعض، فمن كان منهم أشد تمرداً في كفره خص بعذاب عظيم، لأنَّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد، ومعنى الآية: أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتياًّ وتمرداً ليعلم أنَّ عذابه أشد وفائدة هذا التمييز التخصيص «بشدة العذاب لا التخصيص» بأصل العذاب، فلذلك قال في جميعهم: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً﴾ ولا يقال: «أوْلَى» إلا مع اشتراكهم في العذاب.
قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ فيه أقوال كثيرة، أظهرها عند جمهور المعربين، وهو مذهب سيبويه: أنَّ «أيُّهُمْ» موصولة بمعنى «الذي»، وأنَّ حركتها حركة بناء، بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر.
110
و «أشَدُّ» خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلة ل «أيُّهُمْ»، و «أيُّّهُمْ» وصلتها في محل نصب مفعولاً بها بقوله: «لنَنْزِعَنَّ».
ول «أيّ» أحوال الأربعة: إحداها تبني فيها، وهي كما في هذه الآية أن تضاف ويحذف صدر صلتها، ومثله قول الآخر:
٣٦١٦ - إذَا ما أتَيْتَ بَنِي مَالِكٍ فَسَلِّمْ عَلَى أيُّهثمْ أفْضَلُ
بضم «أيُّهُمْ». وتفاصيلها مقررة في كتب النحو.
وزعم الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنَّ «أيُّهُمْ» هنا مبتدأ، و «أشدُّ» خبره، وهس استفهامية، والجملة محكية بالقول مقدراً، والتقدير: لنَنْزِعَنَّ من كُل شيعةٍ المقول فيهم أيُّهُم.
وقوى الخليل تخريجه بقول الشاعر:
111
قال: فأبيتُ يقالُ فيَّ: لا حرجٌ ولا محْرُوم.
وذهب يونس إلى أنَّها استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبرها كقول الخليل إلاَّ أنَّه زعم أنها متعلقة ل «نَنْزِعَنَّ»، فهي في محل نصب، لأنَّه يجوز التعليق في سائر الفعال، ولا يخصه «بأفعال القلوب كما يخصه» بها الجمهور.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعاً على ﴿مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ كقوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ [مريم: ٥٠]، أي: لننزعنَّ بعض كل شيعة، فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هُمْ؟ فقيل: أيهم أشدّ عِتِيًّا.
فجعل «أيُّهُمْ» موصولة أيضاً، ولكن هي في قوله خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين هم أشد. قال أبو حيان: وهذا تكلف ما لا حاجة إليه، وادعاء إضمار غير محتاج إليه،
112
وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين. وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أن مفعول «نَنْزعنَّ» :«مِنْ كُلِّ شيعةٍ» و «مِنْ» مزيدة، قال: وهما يجيزان زيادة «مِنْ» «في الواجب»، و «أيُّهُم» استفهام أي: لنَنْزِعَنَّ كُلَّ شيعةٍ.
وهذا مخالف في المعنى تخريج الجمهور، فإنَّ تخريجهم يؤدي إلى التبعيض، وهذا يؤدي إلى العموم، إلاَّ أن يجعل «مِنْ» لابتداء الغاية لا للتبعيض فيتفق التخريجان، وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى «لنَنْزِعَنَّ» لنُنَادِينَّ، فعومل معاملته، فلم يعمل في «أيّ». قال المهدوي: «ونادى» يعلق إذا كان بعده جملة نصب، فيعمل في المعنى ولا يعمل في اللفظ. وقال المبرد: «أيُّهُمْ» متعلق ب «شيعةٍ» فلذلك ارتفع، والمعنى من الذين تسايعوا أيهم أشد، كأنهم يتبادرون إلى هذا. «ويلزمه على هذا» أن يقدر مفعولاً ل «ننزعنَّ» محذوفاً وقدر بعضهم في قول المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيهم.
قال النحاس وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي تشايعوا بمعنى
113
تعاونوا قال شهاب الدين: وفي هذه العبارة المنسوبة للمبرد قلق، ولا بيَّن الناقل عنه وجه الرفع عن ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكن جعل «أيهم» فاعلاً لما تضمنه «شِيعَةٍ» «من معنى الفعل، قال: التقدير: لننزعن من كل» فريق يشيع أيهم. وهي على هذا بمعنى «الذي» ونقل الكوفيون أنَّ «أيُّهُم» في الآية بمعنى الشرط، والتقدير: إن اشتدَّ عتوهم أو لم يشتد، كما تقول: ضرب القوم أيهم غضب.
المعنى: إن غضبوا أو لم يغضبوا. وقرأ طلحة بن مصرِّف «ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء، وزائدة» عن الأعمش «أيُّهُمْ» نصباً.
فعلى هذه القراءة والتي قبلها ينبغي أن يكون مذهب سيبويه جواز إعرابها وبنائها، وهو المشهور عند النقلة عنه، «وقد نقل عنه» أنَّه يحتم بناءها.
قال النحاس: ما علمتُ أحداً من النحويين إلاَّ وقد خطَّأ سيبويه، «قال: وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: ما يبين لي أنَّ سيبويه» غلط في كتابه إلاَّ في موضعين هذا أحدهما. قال: وقد أعرب سيبويه «أيًّا» وهي مفردة، لأنَّها تضاف فكيف يبينها مضافة. وقال الجرميّ: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول: لأضربن أيهم قائم، بالضم بل ينصب.
114
قوله: «على الرَّحمنِ» متعلق ب «أشَدُّ»، و «عِتِيًّا» منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ، «إذ التقدير» : أيُّهُم هو عتوه أشد. ولا بدَّ من محذوف يتم به الكلام، التقدير: فيلقيه في العذاب، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق «عَلَى»، و «البَاء»، فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه.
قلتُ: هما للبيان لا للصلة، أو يتعلقان بأفعل، أي: عتوهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا.
يعني ب «عَلَى» قوله:: على الرَّحمنِ «، وب» الباء «قوله:» بالَّذِينَ هُمْ «وقوله: بالمصدرين. يعني بهما» عتِيًّا «و» صِلِيًّا «.
»
وأما كونه لا سبيل إليه «، فلأن المصدر في نية الموصول، ولا يتقدم معمول الموصول عليه» وجوَّز بعضهم «أن يكون» عِتِيًّا «، و» صليًّا «في هذه الآية مصدرين كما تقدم وجوَّز أن يكون جمع عاتٍ وصالٍ فانتصابهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوز أن يتعلق» عَلَى «و» الباء «بهما لزوال المحذوف المذكور.
قال المفسرون: معنى قوله: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً﴾ أي أحق بدخول النار. يقال: صَلِيَ يَصْلَى صُليًّا مثل لَقِيَ يَلْقَى لُقْيًّا، وصَلَى يَصْلِي صُليًّا مثل مَضَى يَمْضِي مُضيًّا، إذا دخل النار، وقَاسَى حرَّها.
قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ الآية. الواو في»
وإنْ «فيها وجهان:
أحدهما: أنها عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها. وقال ابن عطية: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ قسم، والواو تقتضيه، ويفسره قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
من مات له ثلاث من
115
الولد لم تمسه النار إلا تحله القسم «وأراد بالقسم قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾. قال أبو حيان:» وذهل عن «قول النحويين: إنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو ب» إنَّ «، والجواب هنا على زعمه ب» إنْ «النافية، فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا.
وقوله: والواو تقتضيه. يدلُّ على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نَحْوِي إلى أنَّ مثل هذه الواو واو القسم، لأنَّهُ يلزم عن ذلك حذف المجرور وإبقاء الجاء، ولا يجوز بذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه، كما أولوا في قولهم: نِعْمَ السًّيْرُ على بِئْسَ العيرُ. أي: على عير بئس العير، وقول الشاعر:
٣٦١٨ - واللهِ مَا لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ... أي: بِلَيْل نام صاحبه، وهذه الآية ليست من هذا الضرب، إذ لم يحذف المقسم «به»
وقامت صفته مقامه. و «إنْ» حرف نفي، «و» مِنْكُم «صفة لمحذوف تقديره: وإن أحد منكم» ويجوز أن يكون التقدير: وإن منكم إلاَّ من هو واردها وقد تقدم لذلك نظائر. والخطاب في قوله:: مِنْكُمْ «يحتمل الالتفات وعدمه.
116
قال الزمخشري: التفات إلى الإنسان، ويعضده قراءة ابن مسعود وعكرمة،» وإنْ مِنْهُمْ «أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور.
والحَتْمُ: القضاءُ، والوجوب حَتْم، أي: أوجبه حتماص، ثم يطلق الحتم على الأمر المحتوم كقوله تعالى: ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ [لقمان: ١١]، وهذا درهمٌ ضرب الأمير. و»
على ربِّك «متعلق ب» حَتْم «، لأنَّه في معنى اسم المفعول ولذلك وصفه ب» مَقْضِيًّا «.

فصل


المعنى: وما منكم إلا واردها، والورود هو موافاة المكان. وقيل القسم فيه مضمر، أي: والله ما منكم من أحد إلا واردها. واختلفوا في معنى الورود هنا فقال ابن عباس والأكثرون: الورود ههنا هو الدخول، والكناية راجعة إلى النار، وقالوا: يدخلها البر والفاجر، ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها، ويدلُّ على أنَّ الورود هو الدخول قوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ [هود: ٩٨].
روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنَّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول. وقال نافع: ليس الورود الدخول، فتلى ابن عباس ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال: يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها، وأنا أرجو أن يخرجني الله، وما أرى أن يخرجك منها بتكذيبك.
ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى»
ثُمَّ نُنَجِّي الذينَ اتَّقَوْا «، أي: ننجي من الواردين من اتقى، ولا يجوز أن يقول» ثُمَّ نُنجي الذين اتقول ونذر الظالمين فيها جثياً «إلاَّ
117
والكل واردون. والأخبار المروية دل على هذا القول، وهو ما
«روي عن عبد الله بن رواحة قال: أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» يا ابن رواحة «اقرأ ما بعدها» ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا «فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول، ولم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك وعن جابر أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» الورودُ الدخولُ، ولا يبقى بردٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها «.
وقيل: المراد من تقدم ذكره من الكفار، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة. قالوا: ولا يجوز أن يدخل الناء مؤمن أبداً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها، ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها.
وقوله: ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل: ٨٩]. والمراد في قوله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ الحضور والرؤية لا الدخول، كقوله: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص: ٢٣] أراد به الحضور. وقال عكرمة: الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها.
وقال ابن مسعود: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ يعني القيامة والكناية راجعة إليها.
118
وقال البغوي: والأول أصح، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان، لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا﴾ أي: الشرك، وهم المؤمنون، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه.
قوله: ﴿كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾ أي: كان ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم.
قوله:» ثُمَّ نُنَجِّي «. قرأ العامة: ثُمَّ نُنَجِّي» بضم «ثُمَّ» على أنَّها العاطفة.
وقرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن مسعود، وابن عباس، وأبي، والجحدري ويعقوب «ثَمَّ» بفتحها على أنَّها الظرفية، ويكون منصوباً بما بعده، أي: هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا.
وقرأ الجمهور «نُنَجِّي» بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن «نُنَجِي» من أنْجَى.
والفعل على هاتين القراءتين مضارع.
وقرأت فرقة «نُجِّي» بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة، وهو على هذه
119
القراءة ماض مبني للمفعول، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء، ولكنه سكنه تخفيفاً.
وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء.
وقرأ علي بن أبي طالب - أيضاً - «نُنَحِّي» بحاء مهملة من التنحية.
ومفعول «اتَّقَوْا» محذوف مراد للعلم به، أي: اتقوا الشرك والظلم.
قوله: «جِثِيًّا» إمَّا مفعول ثان إن كان «نَذَرُ» يتعدى لاثنين بمعنى أن «نترك ونصير».
وإمَّا حال إن جعلت «نَذَرُ» بمعنى نخليهم. و «جَثِيًّا» على ما تقدم.
و «فيها» يجوز أن يتعلق ب «نَذَرُ»، وأن يتعلق ب «جِثِيًّا» إن كان حالاً ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «جِثِيًّا»، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم عليها فنصب حالاً.

فصل


اختلفوا في أنَّه كيف يندفع عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول. فقيل: «البقعة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه، وإذا كان كذلك لا يمتنع» أن يدخل الكل في جهنم، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عيله وسلم قال «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض: أليس ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد دخلتموها وهي خامدة».
وقيل: إنَّ الله - تعالى - يخمد النار فيعبرها المؤمنون، وتنهار بالكافرين. قال ابن
120
عباس: يردونها كأنَّها إهالة. وقيل: إنَّ الله - تعالى - يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم، وكما في حق إبراهيم - عليه السلام -، وكما في حق الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً، وفي الحديث: «تقول النار للمؤمن جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» وعن مجاهد في قوله تعالى « ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ قال: من حُمَّ من المسلمين فقد وردها. وفي الخبر» الحمى كنز من جهنم، وهي حظ المؤمن من النار «واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين. فإن قيل: إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول؟ فالجواب: أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه. وأيضاً: فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إيله وأيضاً: إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم الكفار وسرور المؤمنين. وأيضاً: فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر، ويستدلون على ذلك، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه، وأنَّ المكذِّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين. وأيضاً: إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
121
قوله :﴿ رَّبُّ السماوات ﴾١ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من " ربُّكَ " ٢.
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي : هُو ربُّ٣.
الثالث : كونه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده. وهذا ماشٍ رأي الأخفش، إذ٤ يجوِّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً٥.
قوله :﴿ لِعبادَتِهِ ﴾ متعلق ب " اصْطَبَرْ " فإن قيل : لِمَ لَمْ يقُلْ : واصطبر على عبادته، لأنها صلته، فكان٦ حقه تعديه ب " على " ؟.
فالجواب : أنَّه ضمن٧ معنى الثبات، لأنَّ العبادة ذات تكاليف قل من يصبر٨ لها، فكأنَّه قيل : واثبت لها مصطبرا٩. واستدلوا بهذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق لله -تعالى-، لأنَّ فعل العبدِ حاصل بين السماوات والأرض، وهو رب لكل شيء حاصل بينهما١٠.
قوله :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ أدغم الأخوان١١، وهشام١٢، وجماعة لام " هَلْ " في " التاء " ١٣.
وأنشدوا١٤ على ذلك بيت مُزَاحِم العُقيليّ١٥ :
٣٦١٧ - ولقَدْ أبِيتُ مِنَ الفتاةِ بِمَنْزِلٍ فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم
فَذَرْ ذَا١٦ ولكِن هَتُّعِينُ مُتَيَّماً عَلى ضَوْءِ برْقِ آخِرِ اللَّيْلِ نَاصِبِ١٧

فصل


دلَّ ظاهر الآية على أنَّه- تعالى- رتب الأمر١٨ بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سميّ له١٩، والأقرب أنه ذكر الاسم وأراد هل تعلم له نظيراً فيما يقتضي العبادة والتي٢٠ يقتضيها كونه منعماً بأصول ( النعم وفروعها، وهي خلق الأجسام، والحياة والعقل، وغيرها، فإنه لا يقدر على ذلك٢١ ) أحد سواه -سبحانه وتعالى- وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام، وجب أن تعظمه بغاية التعظيم، وهي العبادة٢٢.
قال ابن عباس : هل تعلم له مثلاً٢٣.
وقال الكلبي : ليس٢٤ له شريك في اسمه٢٥. وذلك لأنهم٢٦ وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله -تعالى٢٧- على شيء. قال ابن عباس : لا يسمة بالرحمن غيره. وأيضاً : هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل، لأنَّ التسمية على الباطل كلا تسمية، لأنها غير معتد بها، والقول الأول أقرب٢٨.
١ في ب: ﴿رب السماوات والأرض﴾..
٢ في قوله تعالى: ﴿وما كان ربك نسيا﴾ من الآية السابقة. الكشاف ٢/٤١٧. الكشاف ٢/٤١٧، البيان ٢/١٢٩، البحر المحيط ٦/٢٠٤..
٣ الكشاف ٢/٤١٧، البيان ٢/١٢٩، التبيان ٢/٨٧٧، البحر المحيط ٦/٢٠٤..
٤ إذ: سقط من ب..
٥ خالف الأخفش كثيرا من النحويين حيث جوّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا، نحو: زيد فوجد وقول الشاعر:
وقائلة:
خولان فانكح فتاتهم وأكرومة الحيّتين خلو كما هيا
والفراء، والأعلم، وجماعة قيدوا الجواز بكون الخبر أمرا، أو نهيا، فالأمر بالبيت السابق والنهي نحو: محمد فلا تضربه.
والأكثرون يجيزون دخول الفاء في خبر المبتدأ إذا كان المبتدأ متضمنا معنى الشرط، بأن كان اسما موصولا بشرط أن يكون عاما، وأن تكون صلته فعلا أو ظرفا نحو: الذي يأتيني أو في الدار فله درهم واشترط هذا، لأنه إذا كان كذلك كان فيه معنى الشرط، فتدخل فيه الفاء كما تدخل في الشرط المحض، نحو: من يأتني فله درهم أو كان المبتدأ نكرة عامة موصوفة بالفعل، أو الظرف أو الجار والمجرور، نحو: كل رجل يأتيني أو أمامك، أو في الدار فله درهم، لأن النكرة في إبهامها كالموصول إذا لم يرد به مخصوص، والصفة كالصلة، فإذا كانت بالفعل أو ما هو في تقديره من جار ومجرور كانت كالموصول في شبه الشرط والجزاء، فتدخل الفاء في خبرها كما تدخل في خبر الموصول.
وقد أول سيبويه وغيره ما أنشده الأخفش على تقدير مبتدأ، والفاء عاطفة من عطف جملة فعلية على جملة اسمية.
الكتاب ١/١٣٨-١٤١، البيان ٢/١٢٩-١٣٠، التبيان ٢/٨٧٧، ابن يعيش ١/٩٩-١٠١، شرح الكافية ١/١٠١-١٠٢، المغني ١/١٦٥-١٦٦..

٦ في ب: وكان..
٧ التضمين: هو أن يؤدي اللفظ معنى الفظ فيعطي حكمه نحو قوله تعالى: ﴿الرفث إلى نسائكم﴾ [البقرة: ١٨٧]، ضمّن الرفث معنى الإفضاء فعدي بـ (إلى) مثل: ﴿وقد أفضى بعضكم إلى بعض﴾ [النساء: ٢١]، وإنما أصل الرفث أن يتعدى بالباء، ويقال: أرفث فلان بامرأته. المغني ٢/٦٨٥..
٨ في ب: يثبت..
٩ الكشاف ٢/٤١٧، البحر المحيط ٦/٢٠٤..
١٠ الفخر الرازي ٢١/٢٤٠-٢٤١..
١١ حمزة والكسائي..
١٢ هو هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة أبو الوليد السلمي، أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم، وعراك بن خالد، وغيرهما، وروى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن يزيد الحلواني، وغيرهما، مات سنة ٢٤٥ هـ. طبقات القراء ٢/٣٥٤-٣٥٦..
١٣ السبعة (١٢٢-١٢٣)، البحر المحيط ٦/٢٠٤، الإتحاف ٣٠٠..
١٤ في ب: وأنشد..
١٥ هو مزاحم بن الحارث من بني عقيل، شاعر، بدوي، فصيح، إسلامي، كان في زمن جرير والفرزدق، وكان جرير يقرظه ويقدمه. الخزانة ٦/٢٠٤، الإتحاف ٣٠٠..
١٦ في ب: ها..
١٧ البيت من بحر الطويل، قاله مزاحم العقيل "يّ، وهو في مجاز القرآن ٢/٩، الكتاب ٤/٤٥٩، تفسير ابن عطية ٩/٥٠٣، ابن يعيش ١٠/١٤١، ١٤٢، البحر المحيط ٦/٢٠٤، المتيّم: الذي تيّمه الحب واستعبده. النّاصب: المنصب والمتعب: وهو غير جار على فعله، لأن الفعل (أنصب) فهو منصب، وإنما هو على النسب كتامر ولابن. والشاهد فيه إدغام اللام في التاء، أي: لام (هل) في تاء (تعين)، لأنهما متقاربان في المخرج، إذ هما من حروف طرف اللسان..
١٨ في ب: على الأمر..
١٩ في ب: لا يسمى..
٢٠ في ب: الذي..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٤١..
٢٣ انظر البغوي ٥/٣٨٦..
٢٤ في ب: هل تعلم..
٢٥ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٤١..
٢٦ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤١..
٢٧ تعالى: سقط من ب..
٢٨ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤١..
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ ﴾ الآية١. " إذَا " منصوب بفعل مقدر مدلول عليه بقوله تعالى :﴿ لَسَوْفَ أُخْرَجُ ﴾٢، تقديره : إذا مت أبعث أو٣ أحياً، ولا يجوز أن يكون العامل فيه " أخْرَجُ " لانَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل ما قبلها قال أبو البقاء : لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها٤ ك " إنَّ " ٥ قال شعاب الدين : قد جعل المانع مجموع الحرفين، أما اللام فمسلم وأما حرف التنفيس فلا مدخل له في المنع، لأن حرف التنفيس يعمل كان بعده فيما قبله، تقول : زَيْداً سأضَرِبُ وسوف أضرب، ولكن فيه خلاف ضعيف٦، والصحيح الجواز، وأنشدوا عليه :
فَلَمَّا رَأتْهُ آمَناً هَانَ وجْدُهَا وقَالَتْ أبُونَا سَوْفَ يَفْعَلُ٧
ف " هَكَذَا " ٨ منصوب ب " يَفْعَلُ " بعد ( حرف التنفيس٩ )١٠، ( وقال ابن عطية )١١ : واللام في قوله :﴿ لَسَوْفَ ﴾ مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم١٢ بهذا المعنى، كأن قائلاً قال للكافر :( إذا متُّ )١٣ يا فلان لسوف تخرج١٤ حيًّا، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد، وكرر اللام حكاية للقول الأول١٥. قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن١٦ ولا أن هذا حكاية لكلام١٧ تقدم بل هو من كلام الكافر، وهو استفهام فيه معنى الجحد والاستبعاد١٨. وقال الزمخشري١٩ : فإن قيل : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال ؟ قلتُ : لم تجامعها إلاَّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض، واضْمَحَلَّ٢٠ عنها معنى التعريف٢١.
قال أبو حيان : وما ذكر من أن اللام٢٢ تعطي " معنى " ٢٣ الحال مخالف فيه٢٤، فعلى مذهب من لا يرى ذلك٢٥ يسقط٢٦ السؤال، وأما قوله : كما أخلصت الهمزة.
فليس ذلك إلاَّ على مذهب من يزعم أن أصله : إله٢٧، وأما من يزعم أن٢٨ أصله : لاه. فلا تكون الهمزة فيه للتعويض " إذْ لم يحذف منه شيء، ولو قلنا : إنَّ أصله إله، وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض " ٢٩، إذ لو كانت عوضاً من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره، ولما جاز حذفها في النداء، قالوا : يا الله بحذفها٣٠، وقد نصوا على أن " قطع " ٣١ همزة الوصل في النداء شاذ٣٢.
وقرأ الجمهور :" أءِذَا " بالاستفهام٣٣، وهو استبعاد كما تقدم٣٤. وقرأ أبو ذكوان٣٥ بخلاف عنه، وجماعة " إذَا " بهمزة واحدة٣٦ على الخبر أو٣٧ الاستفهام وحذف أداته للعلم بها، ولدلالة القراءة الأخرى عليها.
وقرأ طلحة بن مصرِّف٣٨ " لسَأخرجُ " بالسين دون سوف. هذا نقل الزمخشري عنه٣٩. وغيره نقل " سَأخْرَجُ " دون لام الابتداء٤٠، وعلى هذه القراءة يكون العامل٤١ في الظرف نفس " أخْرَجُ "، ولا يمنع حرف التنفيس٤٢ على الصحيح٤٣.
وقرأ العامة " أخْرَجُ " مبنياً للمفعول٤٤. والحسن، وأبو حيوة " أخْرُجُ " مبنياً للفاعل٤٥. و " حيًّا " حال مؤكدة٤٦، لأنَّ من لازم خروجه أن يكون حيًّا، وهو كقوله :﴿ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾٤٧.

فصل


لما أمر بالعبادة٤٨ والمصابرة عليها، فكأنَّ سائلاً سأل وقال : هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا، وأمَّا في٤٩ الآخرة فقد أنكرها قوم، فلا٥٠ بُدَّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى تظهر فائدة الاشتغال بالعيادة، فلهذا حكى الله -تعالى- قول منكري الحشر، فقال :﴿ وَيَقُولُ الإنسان ﴾ الآية : قالوا ذلك على سبيل الإنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد الجنس كقوله :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان ﴾٥١.
فإن قيل : كلهم غير قائلين بذلك، فكيف يصح هذا القول ؟.
فالجواب من وجهين : الأول : أنَّ٥٢ هذه المقولة لمَّا كانت موجودة في جنسهم صحَّ إسنادها إلى جميعهم، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناًَ، وإنما القاتل رجل منهم٥٣.
الثاني : أنَّ هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلاَّ أنَّ بعضهم تركه للدلالة القاطعة على صحة القول به.
القول الثاني٥٤ : أنَّ المراد بالإنسان شخص معين، فقيل : أبيُّ بن خلف الجمحي.
وقيل : أبو جهل. وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث٥٥.
١ الآية: سقط من ب، وكتبت الآية كاملة..
٢ في ب: لسوف أخرج حيا..
٣ في ب: و..
٤ (إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه، ولأن "لسوف أخرج حيا" لا يصح أن يكون جوابا لـ"إذا"، لاقترانه بلام الابتداء، وهي لها الصدارة في جملتها، قدر لـ "إذا" جوابها، وهو الناصب لها على نحو ما قدر في الأصل. الكشاف ٢/٤١٧، البيان ٢/١٣٠..
٥ التبيان ٢/٨٧٧، والمقصود بالتنظير هنا أن خبر (إن) لا يتقدم عليها..
٦ حيث منع ابن الطراوة، وتلميذه السهيلي أن يتقدم ما بعد السين وسوف عليهما، وعندهما أنهما حرفا مصدر، لأنهما من حروف المعاني الداخلة على الجمل، ومعناها في نفس المتكلم، وإليه يسند لا إلى الاسم المخبر عنه، فوجب أن يكون له صدر الكلام كحروف الاستفهام والنفي والتمني، وغير ذلك، ولذلك قبح زيدا سأضرب، وزيد سيقوم، مع أنّ الخبر عن زيد إنما هو بالفعل لا بالمعنى الذي دلت عليه السين، فإن ذلك المعنى مسند إلى المتكلم لا إلى زيد، فلا يجوز أن يخلط بالخبر عن زيد فتقول: زيد سيفعل.
نتائج الفكر ١٢١- ١٢٢، حاشية يس على التصريح ١/١٦٠..

٧ البيت من بحر الطويل قاله النمر بن تولب، وهو في البحر المحيط ٦/٢٠٦، تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد ٥٥، حاشية يس ١/١٦٠.
هان: ضعف الوجد: الشوق. الشاهد فيه أن ما بعد حرف التنفيس يعمل فيما قبله، فـ (هكذا) منصوب بـ (يفعل) بعد سوف. وبهذا البيت رد على ابن الطراوة وتلميذه السهيلي حيث منعا أن يتقدم ما بعد السين وسوف عليهما..

٨ في ب: فكذا. وهو تحريف..
٩ الدر المصون ٥/١١..
١٠ ما بين القوسين في ب: حرف التعليل والتنفيس..
١١ ما بين القوسين سقط من ب..
١٢ في ب: مقدم..
١٣ ما بين القوسين سقط من الأصل..
١٤ في ب: أخرج..
١٥ تفسير ابن عطية ٩/٥٠٥-٥٠٦..
١٦ في ب: ولا يحتاج هذا لأن..
١٧ في ب: للقول لكلام..
١٨ البحر المحيط ٦/٢٠٧..
١٩ في ب: وقال الزمخشري: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي لام الحال كيفية فإن قيل..
٢٠ اضمحل السحاب: تقشع، واضمحل الشيء، أي: ذهب. اللسان (ضحل)..
٢١ الكشاف ٢/٤١٧..
٢٢ في ب: من معنى اللام..
٢٣ معنى: تكملة من البحر المحيط..
٢٤ لام الابتداء الداخلة على الفعل المضارع من الأمور المختلف في دلالتها، فذهب الكوفيون إلى أنها تقصر الفعل على الحال بعد أن كان مبهما، ولذلك لا يجوزون اجتماع لام الابتداء مع حرف التنفيس، للتناقض، فلا تقول: إن محمدا لسوف يقوم. وذهب البصريون إلى أنها لا تقصره على الحال، بل هو مبهم، لأنّ اللام عندهم باقية على إفادة التوكيد، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وإن ربك ليحكم بينهم﴾ [النحل: ١٢٤]، فيجوزون اجتماع اللام مع سوف لقوله تعالى: ﴿ولسوف يعطيك﴾ [الضحى: ٥]، فيجوز عندهم إن محمدا لسوف يقوم. ابن يعيش ٩/٢٦، شرح الكافية ٢/٢٢٦-٢٢٧..
٢٥ وهو مذهب البصريين..
٢٦ في ب: لسقط..
٢٧ أي أن أصل لفظ الجلالة على هذا المذهب (إله) على وزن فعال بمعنى مفعول لأنه مألوه، أي: معبود، ثم دخلت عله (ال)، فصار (الإله)، ثم حذف الهمزة بعد نقل حركتها إلى اللام قبلها، فصار (اللاه) بكسر لام التعريف، ثم سكنت لام التعريف، وأدغمت في اللام الثانية، وفخمت تعظيما.
فلما كثر استعمال لفظ الجلالة، وكانت (ال) عوضا من المحذوف صارتا كحرف من حروفه، وجاز نداؤه وإن كانت فيه (ال).
الكتاب ٢/١٩٥، ابن يعيش ٢/٩..

٢٨ في ب: رغم أنه..
٢٩ ما بين القوسين تكملة من البحر المحيط..
٣٠ عند نداء لفظ الجلالة تقول: يا الله. بإثبات الألفين، ألف (يا) وألف (الله)، ويلله، بحذفهما معا، ويالله بحذف الثانية فقط وإبقاء الأولى.
والأكثر حذف حرف النداء (يا) وتعوض عنه الميم المشددة، فتقول: اللهم بحذف حرف النداء وزيادة الميم في آخره، ولم تزد مكان المعوض منه، لئلا يجتمع زيادتا الميم و(ال) في الأول، وخصت الميم بذلك، لأن الميم عهدت زيادتها آخرا كميم زرقم.
شرح التصريح ١/١٧٢..

٣١ قطع: تكملة من البحر المحيط..
٣٢ البحر المحيط ٦/٢٠٧.
لم أجد من قال بشذوذ قطع همزة الوصل في النداء مطلقا فيما وصلت إليه يدي من مراجع..

٣٣ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٦..
٣٤ أي: هو استفهام فيه معنى الجحد والاستبعاد..
٣٥ تقدم..
٣٦ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٦..
٣٧ في ب: على جواز..
٣٨ تقدم..
٣٩ الكشاف ٢/٤١٨..
٤٠ المختصر (٨٥)..
٤١ في ب: العالم. وهو تحريف..
٤٢ التنفيس: مكرر في ب..
٤٣ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٦..
٤٤ تفسير ابن عطية ٩/٥٠٦، البحر المحيط ٦/٢٠٧..
٤٥ المختصر (٨٥) تفسير ابن عطية ٩/٢٠٦، البحر المحيط ٦/٢٠٦..
٤٦ الحال المؤكدة هي التي يستفاد معناها بدون ذكرها، وتكون مؤكدة لمضمون جملة قبلها نحو "زيد أبوك عطوفا"، أو لعاملها كقوله تعالى: ﴿ويوم أبعث حيا﴾ [مريم: ٣٣] أو لصاحبها كقوله تعالى: ﴿لآمن من في الأرض كلهم جميعا﴾ [يونس: ٩٩]. فإن الأبوة من شأنها العطف، والبعث من لازمه الحياة، والعموم من مقتضياته الجمعية.
شرح التصريح ١/٣٦٧..

٤٧ من قوله تعالى: ﴿والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا﴾ [مريم: ٣٣]..
٤٨ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤١-٢٤٢..
٤٩ في: سقط من الأصل..
٥٠ في ب: ولا..
٥١ من قوله تعالى: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا﴾ [الإنسان: ١]..
٥٢ في ب: لما كانت..
٥٣ في ب: بنوا فلان تغلبوا طبع أحد الأقوال وإنما قاله رجل منهم. وهو تحريف، وفي الأصل: بنوا. وهو تحريف..
٥٤ في الأصل: الثالث. وهو تحريف..
٥٥ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤١ -٢٤٢..
ثم إن الله -تعالى- أقام للدلالة على صحة البعث فقال :﴿ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ ﴾ الآية١ قرأ نافع٢، وابن عامر٣، وعاصم٤، وجماعة :" يَذْكُرُ " مضارع ذكر.
والباقون بالتشديد٥ مضارع تذكَّر. والأصل : يتذكر، فأدغمت التاء في الذال٦.
وقد قرأ بهذا الأصل وهو " يتذكَّر " أبيٌّ٧.
والهمزة في قوله :" أو لا يذكُرُ مؤخرة على حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور٨ وقد رجع الزمخشري إلى قول٩ الجمهور هنا فقال : الواو عطفت " لا يذكُرُ " على " يَقُولُ " ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف " عليه " ١٠ وحرف العطف١١.
ومذهبه : أن يقدر بين حرف العطف وهمزة الاستفهام جملة يعطف عليها ما بعدها١٢.
وقد فعل هذا أعني الرجوع إلى قول الجمهور في سورة الأعراف كما نبَّه عليه في موضعه١٣.
قوله :﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : من قبل بعثه١٤، وقدره الزمخشري : من قبل الحالة التي هو فيها، " وهي حالة " ١٥ بقائه١٦.

فصل


قال بعض العلماء١٧ : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه، إذ لا شك أنَّ الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً، ونظيره قوله تعالى ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾١٨، وقوله١٩ :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾٢٠ واحتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم ليس بشيء، وهو ضعيف ؛ لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض، وهذا المجموع ما كان شيئاً، ولكن لم قلت : إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل٢١ كونه موجوداً فإن قيل : كيف أمر الله -تعالى- الإنسان بالتذكر مع أنَّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو ؟.
فالجواب : المراد أو لا٢٢ يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ٢٣ " أو لا يذَّكَّرُ " مشدداً٢٤، أما إذا قرئ٢٥ " أو لا يذكُرُ " مخففاً٢٦، فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأنَّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيًّا في الدنيا ثم صار حيًّا٢٧.
١ في ب: فقال أولا قوله تعالى: ﴿أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا﴾..
٢ هو نافع بن عبد الرحمن بن نعيم أبو رويم، أحد القراء السبعة، وإليه انتهت رئاسة القراءة بالمدينة أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وأبي جعفر القارئ، وغيرهما، وروى القراءة عنه عرضا وسماعا إسماعيل بن جعفر وعيسى بن وردان، وغيرهما. مات سنة ١٦٩ هـ.
طبقات القراء ٢/٣٣٠-٣٣٤..

٣ هو عبد الله بن عامر اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة، أحد القراء السبعة، وكان أسنهم وأعلاهم سندا، قرأ على جماعة من الصحابة، وقيل: قرأ على عثمان بن عفان، مات سنة ١١٨ هـ. طبقات القراء ١/٤٢٣-٤٢٥..
٤ تقدم..
٥ السبعة (٤١٠)، الحجة لابن خالويه (٢٣٨)، الكشف ٢/٩٠، النشر ٢/٣١٨، الإتحاف ٣٠٠، فمن قرأ بالتخفيف جعله من الذكر الذي يكون عقيب النسيان، ومن قرأ بالتشديد جعله من التذكر الذي هو بمعنى التدبير..
٦ قال سيبويه: (ومما يدغم إذا كان الحرفان من مخرج واحد، وإذا تقارب المخرجان قولهم: يطّوّعون في يتطوّعون، ويذكرون في يتذكرون، ويسّمّعون في يتسمعون، الإدغام في هذا أقوى، إذ كان يكون في الانفصال، والبيان فيهما عربيّ حسن لأنهما متحركان، كما حسن في يختصمون ويهتدون. وتصديق الإدغام قوله تعالى: ﴿يطّيّروا بموسى﴾ و﴿يذكرون﴾ الكتاب ٤/٤٧٤-٤٧٥..
٧ المختصر (٨٦)، الكشاف ٢/٤١٨، تفسير ابن عطية ٩/٥٠٦، البحر المحيط ٦/٢٠٧..
٨ مذهب الجمهور أن همزة الاستفهام إذا كانت في جملة معطوفة بـ (الواو) أو بـ (الفاء) أو بـ (ثم) قدمت على العاطف. تنبيها على أصالتها في التصدير، ويعطف ما بعدها على ما قبلها. والزمخشري خالف الجمهور في ذلك فهو يعتبر الهمزة في محلها الأصلي، ويعطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف محافظة على إقرار حرف العطف على حاله من غير تقديم ولا تأخير. المغني ١/١٦، الهمع ٦٩..
٩ في ب: لما رأى. وهو تحريف..
١٠ عليه: تكملة من الكشاف..
١١ الكشاف ٢/٤١٨..
١٢ ويظهر ذلك في حديث الزمخشري عند قوله تعالى: ﴿أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون﴾ [البقرة: ١٠٠] قال: ("أو كلما" الواو للعطف على محذوف معناه: أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا عهدا) الكشاف ١/٨٥. وعند الجمهور المعطوف عليه قوله تعالى: ﴿ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون﴾ [البقرة: ٩٩]. شرح الشافية ٢/٣٦٨. وضعف مذهب الزمخشري بما فيه من التكلف بتقدير المعطوف عليه بين الهمزة وحرف العطف، وعدم اطراده في جميع المواضع فقد رجع إلى رأي الجمهور كما في الآية هنا، وفي قوله تعالى: ﴿أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون﴾ [الأعراف: ٩٧، ٩٨] حيث قال: (والفاء والواو في "أفأمن" و"أوأمن" حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار، فإن قلت: ما المعطوف عليه، ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله: "فأخذناهم بغتة"، وقوله"ولو أن أهل القرى" إلى "يكسبون" وقع اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطف بالفاء، لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك من أهل القرى يأتيهم بأسنا بياتا وآمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى) الكشاف ٢/٧٨..
١٣ ب: موضعين. وهو تحريف..
١٤ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٧..
١٥ ما بين القوسين سقط من ب..
١٦ الكشاف ٢/٤١٨..
١٧ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٢..
١٨ [يس: ٧٩]..
١٩ في ب: ومثله..
٢٠ [الروم: ٢٧]..
٢١ في ب: لم يكن..
٢٢ في ب: منتقى. وهو تحريف..
٢٣ في الأصل: أن لا. وهو تحريف..
٢٤ في الأصل: قرأ..
٢٥ وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وسبق تخريجها..
٢٦ وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر..
٢٧ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٢..
ثم إنه تعالى لما قرر المطلوب بالدليل١ أردفه بالتشديد٢ فقال ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين ﴾ أي : لنجمعنهم في المعاد، يعني المشركين المنكرين للبعث مع الشياطين، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة.
وفائدة القسم أمران : أحدهما٣ : أنَّ العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين.
والثاني : أنَّ في قسام الله -تعالى- باسمه٤ مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعاً٥ منه لشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله :﴿ فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾٦. والواو في " والشَّياطين " يجوز أن تكون للعطف٧، وبمعنى " مع " ٨ وهي بمعنى " مع " أوقع٩. والمعنى، أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغروهم. ﴿ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ ﴾ أي : نحضرهم على أذل صورة لقوله :﴿ جِثِيًّا ﴾ لأنَّ البارك على ركبتيه صورته الذليل، أو صورة العاجز١٠.
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل لقوله :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾١١، ولأنَّ العادة جارية بأنَّ الناس في مواقف١٢ مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق، أة لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه١٣ القيام على أرجلهم وإذا١٤ كان حاصلاً١٥ للكل، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار.
فالجواب : لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه١٦ الحال، وذلك يوجب مزيد ذلهم١٧.
قوله :﴿ جِثِيًّا ﴾ حال مقدرة١٨ من مفعول " لنُحْضرنَّهُمْ " ١٩. و " جِثِيًّا " جمع جاثٍ جمع على فعول، نحو قَاعد وقُعُود، وجَالس وجُلوس، وفي لامه٢٠ لغتان :
أحدهما : الواو.
والأخرى : الياء.
يقال : جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وجَثَا يَجْثِي جِثِيًّا٢١.
فعلى التقدير الأول : يكون أصله جُثُوو. بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة، ثم أعلت إعلال عِصِيّ ودليّ، وتقدم تحقيقه في " عِتيًّا " ٢٢.
وعلى الثاني يكون الأصل : جُثُوياً، فأعل إعلال هيِّن وميِّت٢٣.
وعن ابن عباس : أنه بمعنى جماعات جماعات، جمع جثْوة، وهو المجموع من التراب والحجارة٢٤، وفي صحته عنه نظر من حيث إنَّ فعلهُ لا يجمع على فعول. ويجوز في " جِثِيًّا " أن يكون مصدراً على فعول٢٥، وأصله كما تقدم في حال كونه جمعاً، إمَّا جُثُوو، وإمَّا جُثُوي٢٦.
وقد تقدم أنَّ الأخوين٢٧ يكسران فاءه، والباقون يضمونها٢٨.
والجثوّ : القعود على الركب٢٩.
١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٢ -٢٤٣..
٢ في ب: بالدليل بالتهديد..
٣ في ب: الأول..
٤ في الأصل: بنفسه. .
٥ في الأصل: رفع..
٦ [الذاريات: ٢٣]..
٧ في ب: للتعظيم. وهو تحريف..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ على العطف تكون "الشياطين" معطوفة على الضمير في "لنحشرنّهم"، وعلى كونها بمعنى (مع) يكون ما بعد الواو منصوبا على المفعول معه، والمعنى: لنحشرنهم في صحبة الشياطين. الكشاف ٢/٤١٨..
١٠ في ب: لأن البارك على ركبته صورة الذليل أو صورة الفاجر..
١١ [الجاثية: ٢٨]..
١٢ في ب: بمواقع..
١٣ في الأصل: معها..
١٤ في ب: ولما..
١٥ في الأصل: حاصل..
١٦ في ب: هذا..
١٧ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٢-٢٤٣..
١٨ الحال المقدرة: هي الحال المستقبلة، وهي ما لم تحدث بعد، ولكن يقدر وينتظر حدوثها مثل: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: مقدرا ذلك، وعليه بـ (جثيا) كوصف للكفار والشياطين لم يتحقق بعد، ولكنه سيتحقق يوم القيامة. انظر المغني ٢/٤٦٥، والأشموني ٢/١٩٣..
١٩ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٦٠، الكشاف ٢/٤١٩، البيان ٢/١٣٠..
٢٠ في ب: الآية. وهو تحريف..
٢١ قال ابن منظور: (جثا يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما، جلس على ركبته للخصومة ونحوها) اللسان (جثا)..
٢٢ عند قوله تعالى: ﴿قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا﴾ [مريم: ٨]. انظر اللباب ٥/٤٠١. .
٢٣ تقلب الواو ياء إذا اجتمعت مع الياء في كلمة، وكان السابق منهما ساكنا، ثم تدغم الياء في الياء، فأصل: جثيّ (على أن لامه ياء) وهيّن وميّت، جثوي وهيون وميوت قلبت الواو للعلة السابقة وأدغمت الياء في الياء فصار: جثيا، وهنيا، وميتا، ثم في (جثيا) تقلب ضمة الثاء كسرة لمناسبة الياء المشددة ثم يتبع كسر الثاء كسر الجيم. شرح الشافية ٣/١٣٩..
٢٤ البحر المحيط ٦/٢٠٨..
٢٥ مشكل إعراب القرآن ٢/٦٠، البيان ٢/١٣٠..
٢٦ أي: أنه قد تكون لامه واوا أو ياء، فإذا كانت لامه واوا جاز الإعلال والتصحيح، والغالب التصحيح لخفة المفرد. شرح الشافية ٣/١٧١، شرح الأشموني ٤/٣٢٧..
٢٧ في الأصل: الأخوان، والأخوان هما: حمزة والكسائي..
٢٨ السبعة: (٤٠٧). الحجة لابن خالويه (٢٣٥) الكشف ٢/٨٤، النشر ٢/٣١٧، الإتحاف (٢٩٨). فمن قرأ بكسر الجيم يتبع الكسر الكسر طلبا للمجانسة، والخفة، ومن قرأ بالضم فعلى الأصل الكشف ٢/٨٤-٨٥، البيان ٢/١٣٠..
٢٩ اللسان (جثا)..
قوله :﴿ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ ﴾ أي : ليخرجن من كل أمة وأهل دين١ من الكفار والشيعة٢ فعلة كفرقة : ومنه الطائفة التي شاعت، أي : تبعت غاوياً من الغواة.
قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾٣ ٤. والمعنى٥ : أنه -تعالى- يحضرهم أولاً٦ حول جهنم، ثم يميز البعض من البعض، فمن كان منهم أشد٧ تمرداً في٨ كفره خص بعذاب عظيم، لأنَّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد، ومعنى الآية : أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتياًّ وتمرداً ليعلم٩ أنَّ عذابه أشد وفائدة هذا التمييز التخصيص " بشدة العذاب لا التخصيص " ١٠ بأصل العذاب، فلذلك قال في جميعهم :
١ في ب: دار..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٣..
٣ في ب: فارقوا. وهي قراءة حمزة والكسائي. السبعة (٢٧٤)..
٤ [الأنعام: ١٥٩]..
٥ في ب: فصل والمعنى..
٦ أولا: سقط من ب..
٧ في ب: أشدهم..
٨ في ب: إلى. وهو تحريف..
٩ في ب: فيعلم..
١٠ ما بين القوسين سقط من ب..
﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً ﴾١ ولا يقال٢ :" أوْلَى " إلا مع اشتراكهم في العذاب٣.
قوله :﴿ أَيُّهُمْ أَشَدُّ ﴾ فيه أقوال كثيرة، أظهرها عند جمهور المعربين، وهو مذهب سيبويه٤ : أنَّ " أيُّهُمْ " موصولة بمعنى " الذي "، وأنَّ حركتها حركة بناء، بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر٥.
و " أشَدُّ " خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلة ل " أيُّهُمْ "، و " أيُّّهُمْ " وصلتها في محل نصب مفعولاً بها بقوله :﴿ لنَنْزِعَنَّ ﴾.
و ل " أيّ " أحوال الأربعة : إحداها تبني فيها، وهي كما في هذه الآية٦ أن٧ تضاف ويحذف صدر صلتها٨، ومثله قول الآخر :
إذَا ما أتَيْتَ بَنِي مَالِكٍ فَسَلِّمْ عَلَى أيُّهثمْ أفْضَلُ٩
بضم " أيُّهُمْ ". وتفاصيلها مقررة في كتب النحو١٠.
وزعم الخليل١١ -رحمه الله١٢- أنَّ " أيُّهُمْ " هنا مبتدأ، و " أشدُّ " خبره، وهي استفهامية، والجملة محكية بالقول مقدراً١٣، والتقدير : لنَنْزِعَنَّ من كُل شيعةٍ المقول فيهم أيُّهُم١٤.
وقوى الخليل تخريجه بقول الشاعر :
ولقَدْ أبِيتُ مِنَ الفتاةِ بِمَنْزِلٍ فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم١٥
قال١٦ : فأبيتُ يقالُ فيَّ : لا حرجٌ ولا محْرُوم١٧.
وذهب يونس١٨ إلى أنَّها استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبرها كقول الخليل إلاَّ أنَّه زعم أنها معلقة١٩ ل " نَنْزِعَنَّ "، فهي في محل نصب٢٠، لأنَّه يجوز التعليق في سائر الأفعال٢١، ولا يخصه " بأفعال القلوب كما يخصه٢٢ " بها الجمهور٢٣.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون النزع واقعاً على٢٤ ﴿ مِن كُلِّ شِيعَةٍ ﴾ كقوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا ﴾٢٥، أي : لننزعنَّ بعض كل شيعة، فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هُمْ ؟ فقيل : أيهم أشدّ عِتِيًّا٢٦.
فجعل " أيُّهُمْ " موصولة أيضاً، ولكن هي في قوله خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين هم أشد. قال أبو حيان : وهذا تكلف ما لا حاجة إليه، وادعاء إضمار غير محتاج إليه، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين٢٧. وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي٢٨ أن مفعول " نَنْزعنَّ " :" مِنْ كُلِّ شيعةٍ " و " مِنْ " مزيدة، قال : وهما يجيزان زيادة " مِنْ " " في الواجب٢٩ " ٣٠، و " أيُّهُم " استفهام أي : لنَنْزِعَنَّ كُلَّ شيعةٍ٣١.
وهذا٣٢ مخالف في المعنى تخريج الجمهور، فإنَّ تخريجهم يؤدي إلى التبعيض، وهذا يؤدي إلى العموم، إلاَّ أن٣٣ يجعل " مِنْ " لابتداء الغاية لا للتبعيض فيتفق التخريجان، وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى " لنَنْزِعَنَّ " لنُنَادِينَّ، فعومل معاملته، فلم يعمل في " أيّ " ٣٤. قال المهدوي٣٥ :" ونادى " ٣٦ يعلق إذا كان بعده جملة نصب، فيعمل في المعنى ولا يعمل في اللفظ٣٧. وقال المبرد٣٨ :" أيُّهُمْ " متعلق ب " شيعةٍ " فلذلك ارتفع٣٩، والمعنى من الذين تشايعوا أيهم أشد، كأنهم يتبادرون إلى هذا٤٠. " ويلزمه على هذا " ٤١ أن يقدر مفعولاً ل " ننزعنَّ " محذوفاً٤٢ وقدر بعضهم في قول المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا٤٣ أيهم٤٤.
قال النحاس٤٥ وهذا قول حسن٤٦. وقد حكى الكسائي تشايعوا بمعنى تعاونوا٤٧ قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة المنسوبة٤٨ للمبرد٤٩ قلق، ولا بيَّن الناقل عنه وجه الرفع عن ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكن جعل " أيهم " فاعلاً لما تضمنه " شِيعَةٍ " " من معنى الفعل، قال : التقدير : لننزعن من كل " ٥٠ فريق يشيع أيهم. وهي٥١ على هذا بمعنى " الذي " ٥٢. ونقل الكوفيون أنَّ " أيُّهُم " في الآية بمعنى الشرط، والتقدير : إن اشتدَّ عتوهم أو لم يشتد، كما تقول : ضرب القوم أيهم غضب. المعنى : إن غضبوا أو لم يغضبوا٥٣. وقرأ طلحة بن مصرِّف " ومعاذ بن مسلم الهراء٥٤ أستاذ الفراء٥٥، وزائدة " ٥٦ عن الأعمش " أيُّهُمْ " نصباً٥٧.
فعلى هذه القراءة والتي قبلها ينبغي أن يكون مذهب سيبويه جواز إعرابها وبنائها، وهو المشهور عند النقلة عنه، " وقد نقل عنه " ٥٨ أنَّه يحتم بناءها٥٩.
قال النحاس : ما علمتُ أحداً من النحويين إلاَّ وقد خطَّأ سيبويه، " قال : وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : ما يبين لي أنَّ سيبويه٦٠ " غلط في كتابه إلاَّ في موضعين هذا أحدهما. قال : وقد أعرب٦١ سيبويه " أيًّا " وهي مفردة، لأنَّها تضاف٦٢ فكيف يبينها مضافة٦٣. وقال الجرميّ٦٤ : خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول : لأضربن٦٥ أيهم قائم، بالضم بل ينصب٦٦.
قوله :﴿ على الرَّحمنِ ﴾ متعلق ب " أشَدُّ "، و " عِتِيًّا " منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ٦٧، " إذ التقدير " ٦٨ : أيُّهُم هو عتوه أشد٦٩. ولا بدَّ من محذوف يتم به الكلام٧٠، التقدير : فيلقيه في العذاب، أو فنبدأ بعذابه٧١. قال الزمخشري : فإن قلت٧٢ : بم٧٣ يتعلق " عَلَى "، و " البَاء "، فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه.
قلتُ : هما للبيان لا للصلة، أو يتعلقان٧٤ بأفعل، أي : عتوهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم : هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا٧٥.
يعني ب " عَلَى " قوله :﴿ على الرَّحمنِ ﴾، وب " الباء " قوله :﴿ بالَّذِينَ هُمْ ﴾٧٦ وقوله : بالمصدرين. يعني بهما " عتِيًّا " و " صِلِيًّا ".
" وأما كونه لا سبيل إليه " ٧٧، فلأن المصدر في نية الموصول٧٨، ولا يتقدم معمول الموصول عليه٧٩ " وجوَّز بعضهم " ٨٠ أن يكون " عِتِيًّا "، و " صليًّا " في هذه الآية مصدرين كما تقدم٨١ وجوَّز أن يكون جمع عاتٍ وصالٍ فانتصابهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوز أن يتعلق " عَلَى " و " الباء " بهما لزوال المحذوف المذكور٨٢.
قال المفسرون : معنى قوله :﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً ﴾ أي أحق بدخول النار٨٣. يقال : صَلِيَ يَصْلَى صُليًّا مثل لَقِيَ يَلْقَى لُقْيًّا، وصَلَى يَصْلِي صُليًّا مثل مَضَى يَمْضِي مُضيًّا، إذا دخل النار، وقَاسَى حرَّها.
١ [مريم: ٧٠]..
٢ في ب: أولى يقال. وهو تحريف..
٣ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٣..
٤ تقدم..
٥ انظر الكتاب ٢/٤٠٠..
٦ في ب: وهي كهذه الآية..
٧ في ب: وأن وهو تحريف..
٨ (أي) إذا أضيفت وحذف صدر صلتها تكون مبنية عند البصريين معربة عند الكوفيين انظر الإنصاف (المسألة ١٠٢) ٢/٧٠٩-٧١٦..
٩ البيت من بحر المتقارب، قاله غسان بن وعلة، وهو في الإنصاف ٢/٤١٥، ابن يعيش ٣/١٤٧، ٤/٢١، ٧/٧٨ المغني ١/٧٨، ٢/٤٠٩، ٥٥٢، التصريح ١/١٣٥ الهمع ١/١٤، ٩١، شرح شواهد المغني ١/٢٣٦، ٢/٨٣٠، الأشموني ١/١٦٦ حاشية يس ١/١٣٦، الخزانة ٦/٦١، الدرر ١/٦٠، والشاهد فيه بناء (أيّ) على الضم : حيث جاءت مضافة وحذف صدر صلتها، والتقدير: فسلم على أيهم هو أفضل، وهو مذهب البصريين..
١٠ اكتفى ابن عادل بذكر حالة واحدة من أحوال (أيّ)، وأشار إلى بقية الأحوال بقوله: وتفاصيلها مقررة في كتب النحو. ونذكر أحوالها باختصار وهي أنّ (أي) لها أربعة أحوال:
الأولى: ذكرها ابن عادل، وهي أن تضاف لفظا ويحذف صدر صلتها، وهي مبنية عند البصريين معربة عند الكوفيين.
الثانية: أن تضاف لفظا ويذكر صدر صلتها مثل: يعجبني أيهم هو قائم.
الثالثة: أن تقطع عن الإضافة ويذكر صدر صلتها مثل: يعجبني أي هو قائم. وهي معربة في هذين الحالين بإجماع.
الرابعة: أن تقطع عن الإضافة ويحذف صدر صلتها مثل: يعجبني أيّ قائم. وهي معربة في هذه الحالة، قال ابن مالك: بلا خلاف. وذهب بعض النحويين إلى بنائها في هذه الحالة قياسا على بنائها في الحالة الأولى. الهمع ١/٩١..

١١ تقدم..
١٢ في ب: الله تعالى..
١٣ في الأصل: مقدر..
١٤ في ب: أشد..
١٥ البيت من بحر الكامل قاله الأخطل، وهو في شرح ديوانه (٦١٦)، الكتاب ٢/٨٤، ٣٩٩ أمالي ابن الشجري ٢/٢٩٧، الإنصاف ٢/٧١٠، ابن يعيش ٣/١٤٦، ٧/٨٧، الخزانة ٦/١٣٩. الفتاة: الجارية الشابة. الحرج – بفتح الحاء وكسر الراء -: المضيق عليه. المحروم: الممنوع مما يريده.
والبيت أتى به الخليل لتقوية ما ذهب إليه في تخريج الآية، فإن قوله (لا حرج ولا محروم) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ليس ضمير المتكلم، والجملة محكية بقول محذوف، والتقدير: فأبيت مقولا في شأني: هو لا حرج ولا محروم..

١٦ في ب: قال تقديره..
١٧ قال سيبويه: وزعم الخليل أن (أيّهم) إنما وقع في: اضرب أيهم أفضل على أنه حكاية، كأنه قال: اضرب الذي يقال له أيهم أفضل، وشبهه بقول الأخطل:
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل*** فـأبـيـت لا حــرج ولا مــحــروم
الكتاب ٢/٣٩٩. وانظر الإنصاف ٢/٧١٠- ٧١١..

١٨ تقدم..
١٩ التعليق: هو إبطال العمل لفظا لا محلا. شرح الأشموني ٢/٢٦..
٢٠ قال سيبويه: (وأما يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك: أشهد أنك لرسول الله. واضرب معلقة) الكتاب ٢/٤٠٠، وانظر الإنصاف ٢/٧١١..
٢١ أي أن يونس يرى أن التعليق غير مختص بأفعال القلوب فقط، بل يكون فيها وفي غيرها نحو أضرب أيهم أفضل، على تعليق العامل. وما ذهب إليه يونس ضعيف. لأن التعليق ضرب من الإلغاء، ولا يجوز أن يعلق من الأفعال عن العمل إلا ما يجوز إلغاؤه، والذي يجوز إلغاؤه أفعال القلب نحو ظننت، وعلمت. شرح المفصل ٣/١٤٦..
٢٢ ما بين القوسين مكرر في ب..
٢٣ ضعّف سيبويه ما ذهب إليه الخليل ويونس، لأن القول بالحكاية – وهو ما ذهب إليه الخليل – بعيد في اختيار الكلام، وإنما يجوز مثله في الشعر، ألا ترى أنه لو جاز مثل هذا لجاز أن يقال: اضرب الفاسق الخبيث بالرفع أي: اضرب الذي يقال له: الفاسق الخبيث، ولا خلاف أن هذا لا يقال بالإجماع. وأما القول بالتعليق وهو ما ذهب إليه يونس فضعيف، لأن تعليق اضرب ونحوه من الأفعال لا يجوز، لأنه فعل مؤثر فلا يجوز إلغاؤه، وإنما يجوز أن تعلق أفعال القلوب، الكتاب ٢/٤٠١، الإنصاف ٢/٧٠٦..
٢٤ على: سقط من ب..
٢٥ [مريم: ٥٠]..
٢٦ الكشاف ٢/٤١٩..
٢٧ البحر المحيط ٦/٢٠٨..
٢٨ تقدم..
٢٩ جمهور النحويين على زيادة (منْ) بشرطين: أولهما: أن يكون مجرورها نكرة.
ثانيهما: أن يكون في سياق النفي. نحو قوله تعالى: ﴿ما يأتيهم من ذكر﴾ [مريم: ٩٨]، وقوله تعالى: ﴿هل من خالق غير الله﴾ [فاطر: ٩٧]. وقد أجاز كل من الكسائي والأخفش زيادة (منْ) في الواجب وغيره والنكرة والمعرفة حيث قالا بزيادة (منْ) في قوله تعالى :﴿فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها﴾ [البقرة: ٦١]، وفي قوله تعالى: ﴿ويغفر لكم من ذنوبكم﴾ [نوح: ٤] وفي قوله تعالى: ﴿يحلَّون فيها من أساور من ذهب﴾ [الحج: ٢٣]، وردّ الجمهور بأنه يمكن حمل (منْ) في الآيات ونحوها على أنها للتبعيض.
ابن يعيش ٨/١٢-١٤، شرح الكافية ٢/٣٢٢-٣٢٣، المغني ١/٣٢٢-٣٢٥، الهمع ٢/٣٥..

٣٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٣١ التبيان ٢/٨٧٨..
٣٢ في ب: هذا..
٣٣ في ب: الآن. وهو تحريف..
٣٤ تفسير ابن عطية ٩/٥٠٩، البحر المحيط ٦/٢٠٨..
٣٥ تقدم..
٣٦ ما بين القوسين بياض في ب..
٣٧ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٨..
٣٨ تقدم..
٣٩ في ب: رفع..
٤٠ لم أعثر على ما قاله المبرد في الكامل والمقتضب، وهو في تفسير ابن عطية ٩/٥٠٩، البحر المحيط ٦/٢٠٨..
٤١ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٢ القائل بهذا ابن عطية. تفسير ابن عطية ٩/٥١٠..
٤٣ في ب: فنظروا في..
٤٤ مشكل إعراب القرآن ٢/٦٢، البحر المحيط ٦/٢٠٧..
٤٥ تقدم..
٤٦ إعراب القرآن ٣/٢٥..
٤٧ انظر إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٥، البحر المحيط ٦/٢٠٨-٢٠٩..
٤٨ في ب: المنقولة..
٤٩ للمبرد: سقط من الأصل..
٥٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٥١ هي: سقط من ب..
٥٢ التبيان ٢/٨٧٨. الدر المصون ٥/١٢..
٥٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٦٣، البيان ٢/١٣٢، التبيان ٢/٨٧٩، البحر المحيط ٦/٢٠٩..
٥٤ هو معاذ بن مسلم الهرّاء، أبو مسلم، كان من أعيان النّحاة. أخذ عنه أبو الحسن الكسائي، وغيره، وصنف كتبا في النحو، وروى الحديث عن جعفر الصادق، وعطاء بن السائب، وروى عنه عبد الرحمن المحاربي، والحسن بن الحسين الكوفي، مات سنة ١٩٠ هـ. بغية الوعاة ٢/٢٩٠- ٢٩٣..
٥٥ هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان الديلمي إمام العربية، المعروف بالفراء كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، ومن مصنفاته: معاني القرآن، المصادر في القرآن، المصادر في القرآن، المذكر والمؤنث، وغير ذلك، مات سنة ٢٠٧ هـ. بغية الوعاة ٢/٣٣٣..
٥٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٧ المختصر (٨٦)، تفسير ابن عطية ٩/٥٠٨، البحر المحيط ٦/٣٠٩..
٥٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٩ انظر الكتاب ٢/٤٠٠..
٦٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٦١ في ب: أثبت. وهو تحريف..
٦٢ في النسختين: مضافة..
٦٣ إعراب القرآن ٣/٢٤..
٦٤ تقدم..
٦٥ في ب: ضربت..
٦٦ انظر الإنصاف ٢/٧١٢، والكوفيون أخذوا قول الجرميّ هذا دليلا لمذهبهم في إعراب (أيّ) إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، مع أنه لم يكن دليلا قاطعا، لجواز أن يكون قد سمع غيره الضم. الأنصاف ٢/٧١٥..
٦٧ في ب: الابتداء..
٦٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٦٩ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٩..
٧٠ في ب: الكلام المحذوف. وهو تحريف..
٧١ انظر البحر المحيط ٦/٢٠٩..
٧٢ في ب: فإن قيل..
٧٣ في ب: بما. وهو تحريف..
٧٤ في ب: متعلقان..
٧٥ الكشاف ٢/٤١٩..
٧٦ في ب: هم الذين أولى بها صليّا..
٧٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٧٨ في ب: المعمول. وهو تحريف..
٧٩ أي: أن الموصول لا تتقدم صلته عليه، لأن الموصول والصلة كجزأي الكلمة، وكذلك المصدر يتقدم معموله عليه، إذ إن المصدر مقدر بـ (أنْ) والفعل، و (أن) صلة كالذي، فلا يتقدم عليه ما كان من صلته، فالمصدر ومعموله أيضا كجزأي الكلمة.
شرح المفصل ٦/٦٧، شرح الكافية ٢/٦٠، المقرب ١٤٥..

٨٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٨١ وهو الزمخشري. الكشاف ٢/٤١٩..
٨٢ البحر المحيط ٦/٢٠٩..
٨٣ القرطبي ١١/١٣٥..
قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ الآية١. الواو في " وإنْ " فيها وجهان :
أحدهما : أنها عاطفة لهذه الجملة٢ على ما قبلها٣. وقال ابن عطية :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ قسم، والواو تقتضيه، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم " من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم٤ " ٥. وأراد بالقسم قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾. قال أبو حيان٦ :" وذهل عن " ٧ قول النحويين : إنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا٨ كان الجواب باللام أو ب " إنَّ "، والجواب هنا على زعمه ب " إنْ " النافية، فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا. وقوله : والواو تقتضيه. يدلُّ على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نَحْوِي٩ إلى أنَّ مثل هذه الواو واو القسم، لأنَّهُ يلزم عن ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار، ولا يجوز بذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه، كما أولوا في قولهم : نِعْمَ السًّيْرُ على بِئْسَ العيرُ١٠. أي : على عير بئس العير، وقول الشاعر :
واللهِ مَا لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ١١
أي : بِلَيْل١٢ نام صاحبه، وهذه الآية ليست من هذا الضرب، إذ لم يحذف المقسم١٣ " به " ١٤ وقامت صفته مقامه١٥. و " إنْ " حرف نفي، " و " مِنْكُم " صفة لمحذوف تقديره : وإن أحد منكم١٦ " ١٧ ويجوز أن يكون التقدير : وإن منكم إلاَّ من هو واردها وقد تقدم لذلك نظائر١٨. والخطاب في قوله :" مِنْكُمْ " يحتمل الالتفات وعدمه.
قال الزمخشري : التفات إلى الإنسان، ويعضده قراءة ابن مسعود وعكرمة، " وإنْ مِنْهُمْ " ١٩ أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور٢٠.
والحَتْمُ : القضاءُ، والوجوب حَتْم، أي : أوجبه حتما٢١، ثم يطلق الحتم على الأمر المحتوم كقوله تعالى :﴿ هذا خَلْقُ الله ﴾٢٢، وهذا درهمٌ ضرب الأمير. و " على ربِّك " متعلق ب " حَتْم "، لأنَّه في معنى اسم المفعول٢٣ ولذلك وصفه ب " مَقْضِيًّا ".

فصل


المعنى : وما منكم إلا واردها، والورود هو موافاة المكان٢٤. وقيل القسم فيه مضمر، أي : والله ما منكم من أحد إلا واردها. واختلفوا في معنى الورود هنا فقال ابن عباس والأكثرون : الورود هنا٢٥ هو الدخول، والكناية راجعة إلى النار، وقالوا : يدخلها البر والفاجر، ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها، ويدلُّ على أنَّ الورود هو الدخول قوله تعالى :﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار ﴾٢٦.
روى ابن عيينة٢٧ عن عمرو بن دينار٢٨ أنَّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس : هو الدخول. وقال نافع : ليس الورود الدخول، فتلى ابن عباس ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾٢٩ أدخلها٣٠ هؤلاء أم لا ؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها، وأنا أرجو أن يخرجني الله، وما أرى أن٣١ يخرجك منها بتكذيبك٣٢.
١ الآية: سقط من ب، وكتبت الآية كاملة..
٢ في ب: للجملة..
٣ البحر المحيط ٦/٢٠٩..
٤ أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة ٢/٢٧٦..
٥ تفسير ابن عطية ٩/٥١١..
٦ في ب: فصل قال أبو حيان..
٧ ما بين القوسين في ب: ودل..
٨ إذا: سقط من ب..
٩ نحويّ: سقط من ب..
١٠ احتج الكوفيون بهذا القول على اسمية (بئس) لدخول حرف الجر عليها، وأوله البصريون بأنّ حرف الجر داخل على محذوف، و(بئس العير) مقول لقول محذوف وقع صفة لموصوف محذوف، والتقدير نعم السير على عير مقول فيه بئس العير. وهذا يدل على أن حذف المجرور وإبقاء الجار لا يقع إلا في النادر من الكلام أو في الشعر كما سيأتي مع تحقق الشرط المذكور، وهو إقامة صفة الموصوف مقامه، الإنصاف ١/٩٨، ١١٢، ١١٣..
١١ رجز قاله القناني، وتمامه:
... *** ولا مــخالط الـــليــان جــانــبــه
وهو في الخصائص ٢/٣٦٦، وأمالي ابن الشجري ٢/١٤٨، الإنصاف ١/١١٢، ابن يعيش ٣/٦٢، شرح قطر الندى (٣٧) اللسان (نوم)، المقاصد النحوية ٤/٣ الهمع ١/٦، ٢/١٢٠، الخزانة ٩/٣٨٨، الدرر ١/٣، ٢/١٥٣..

١٢ في النسختين: برجل..
١٣ في ب: القسم..
١٤ به: تكملة من البحر المحيط..
١٥ انظر البحر المحيط: ٦/٢٠٩..
١٦ وعلى هذا التقدير يكون (منكم) صفة لـ (أحد) المقدر، وهو مبتدأ وقوله: (واردها) خبر، البيان ٢/١٣٣، التبيان ٢/٨٧٩..
١٧ ما بين القوسين سقط من ب..
١٨ انظر التبيان ٢/٨٧٩..
١٩ المختصر (٨٦)، تفسير ابن عطية ٩/٥١١..
٢٠ الكشاف ٢/٤١٩..
٢١ اللسان (حتم)..
٢٢ [لقمان: ١١]..
٢٣ لأن المصدر يستعمل بمعنى اسم الفاعل وبمعنى اسم المفعول نحو: ماء غور. أي: غائر. ورجل عدل، أي: عادل، وقالوا: درهم ضرب الأمير، أي: مضروبه، و"هذا خلق الله"، والإشارة إلى المخلوق. ابن يعيش ٦/٥٠، شرح الكافية ٢/١٩٨..
٢٤ في ب: المورود..
٢٥ هنا: سقط من ب..
٢٦ [هود: ٩٨]..
٢٧ تقدم..
٢٨ هو عمرو بن دينار، أبو محمد المكي مولى باذام عالم مكة، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، روى القراءة عن ابن عباس، وروى القراءة يحيى بن صبيح، مات سنة ١٢٦ هـ. طبقات القراء ١/٦٠٠-٦٠١..
٢٩ [الأنبياء: ٩٨]..
٣٠ في ب: أدخل..
٣١ أن: سقط من الأًصل..
٣٢ انظر البغوي ٥/٣٨٨-٣٨٩..
ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى١ ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي٢ الذينَ اتَّقَوْا ﴾٣، أي : ننجي من الواردين من اتقى، ولا يجوز أن يقول " ثُمَّ نُنجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " إلاَّ والكل واردون. والأخبار المروية دل على هذا القول، وهو ما روي عن عبد الله بن رواحة٤ قال٥ : أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد٦، فقال النبي صلى الله عليه وسلم٧ " يا ابن رواحة " ٨ اقرأ ما بعدها " ثُمَّ نُنَجِّي٩ الذين اتقوا " ١٠ فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر١١ أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" الورودُ الدخولُ، ولا يبقى بردٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها١٢ " ١٣.
وقيل : المراد١٤ من تقدم ذكره من الكفار، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة. قالوا : ولا يجوز أن يدخل الناء مؤمن أبداً لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ﴾١٥ والمبعد١٦ عنها لا يوصف بأنه واردها، ولو وردوا١٧ جهنم لسمعوا١٨ حسيسها.
وقوله :﴿ وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾١٩ [ النمل : ٨٩ ]. والمراد في قوله٢٠ :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ الحضور والرؤية لا الدخول، كقوله :﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾٢١ أراد به الحضور. وقال عكرمة : الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها.
وقال ابن مسعود :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ يعني القيامة والكناية راجعة إليها٢٢.
وقال البغوي٢٣ : والأول أصح٢٤، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان، لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا ﴾ أي : الشرك، وهم المؤمنون، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه٢٥.
قوله :﴿ كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ﴾ أي : كان٢٦ ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم٢٧.
قوله :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي ﴾. قرأ العامة : ثُمَّ نُنَجِّي " ٢٨ بضم " ثُمَّ " على أنَّها العاطفة٢٩.
وقرأ علي بن أبي طالب٣٠ -رضي الله عنه- وابن مسعود، وابن عباس، وأبي٣١، والجحدري٣٢ ويعقوب٣٣ " ثَمَّ " بفتحها٣٤ على أنَّها الظرفية٣٥، ويكون منصوباً بما بعده٣٦، أي : هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا.
وقرأ الجمهور " نُنَجِّي " ٣٧ بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً٣٨. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن٣٩ " نُنَجِي " من أنْجَى٤٠.
والفعل على هاتين القراءتين مضارع٤١.
وقرأت فرقة٤٢ " نُجِّي " بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة٤٣، وهو على هذه القراءة ماض مبني للمفعول، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء، ولكنه سكنه تخفيفاً.
وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء٤٤.
وقرأ علي بن أبي طالب -أيضاً- " نُنَحِّي " بحاء مهملة٤٥ من التنحية٤٦.
ومفعول " اتَّقَوْا " ٤٧ محذوف مراد للعلم به، أي : اتقوا الشرك والظلم٤٨.
قوله :﴿ جِثِيًّا ﴾ إمَّا مفعول ثان إن كان " نَذَرُ " يتعدى لاثنين بمعنى أن " نترك ونصير " ٤٩.
وإمَّا حال إن جعلت " نَذَرُ " بمعنى نخليهم. و " جَثِيًّا " على ما تقدم٥٠.
و " فيها " يجوز أن يتعلق ب " نَذَرُ "، وأن يتعلق ب " جِثِيًّا " إن كان حالاً٥١ ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً٥٢، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال٥٣ من " جِثِيًّا "، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم٥٤ عليها فنصب حالاً٥٥.

فصل


اختلفوا في أنَّه كيف يندفع٥٦ عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول٥٧. فقيل :" البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه، وإذا كان كذلك لا يمتنع " ٥٨ أن يدخل٥٩ الكل في جهنم، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض : أليس٦٠ وعدنا ربنا٦١ أن نرد النار ؟ فيقال لهم : قد دخلتموها٦٢ وهي خامدة " ٦٣.
وقيل : إنَّ الله -تعالى- يخمد النار فيعبرها المؤمنون، وتنهار بالكافرين. قال٦٤ ابن عباس : يردونها كأنَّها إهالة٦٥. وقيل : إنَّ الله -تعالى- يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم٦٦، وكما في حق إبراهيم -عليه السلام٦٧-، وكما في حق٦٨ الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً، وفي الحديث :" تقول النار للمؤمن٦٩ جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " ٧٠. وعن مجاهد في قوله تعالى ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها. وفي الخبر " الحمى كنز من جهنم، وهي حظ المؤمن من النار " ٧١ واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين. فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ فالجواب : أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه. وأيضاً : فيه مزيد غم على أهل٧٢ النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه وأيضاً : إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم٧٣ الكفار وسرور المؤمنين. وأيضاً : فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر، ويستدلون على ذلك، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه، وأنَّ المكذِّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين. وأيضاً : إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل : وبضدها تتبين الأشياء٧٤.
١ تعالى: سقط من ب..
٢ في ب: ينجي الله..
٣ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٤ بتصرف..
٤ هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، أخذ عنه أبو هريرة، وابن عباس، وأرسل عنه قيس بن أبي حازم، وجماعة، استشهد بمؤتة – رضي الله عنه – خلاصة تذهيب الكمال ٢/٥٥-٥٦..
٥ قال: سقط من الأصل..
٦ في الأصل: عن الصدور..
٧ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ في ب: ينجي الله..
١٠ هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي، أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور، شهد العقبة، وغزا تسع عشرة غزوة، أخذ عنه بنوه، وطاوس، والشعبي، وعطاء، مات سنة (٨٧) هـ بالمدينة. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١/١٥٦-١٥٧..
١١ أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/٣٢٩، وانظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٠٧) والدر المنثور ٤/٢٨٠..
١٢ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٤. بتصرف..
١٣ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٣..
١٤ [الأنبياء: ١٠١، ١٠٢]..
١٥ في ب: والبعيد..
١٦ في ب: ورد..
١٧ في ب: يسمعوا..
١٨ [النمل: ٨٩]..
١٩ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٣..
٢٠ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٣٨٩..
٢١ [القصص: ٢٣]..
٢٢ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٥/٣٨٩..
٢٣ هو الحسين بن مسعود بن محمد أبو محمد البغوي، يعرف بابن الفراء، ويلقب محيي السنة وركن الدين أيضا، كان إماما في التفسير، والحديث، والفقه، ومن مصنفاته: معالم التنزيل في التفسير، وشرح السنة والمصابيح، والجمع بين الصحيحين، والتهذيب في الفقه، مات سنة ٥١٦ هـ.
طبقات المفسرين للسيوطي ٤٩-٥٠..

٢٤ في ب: والأول أصح قال البغوي..
٢٥ البغوي ٥/٤٨٩. وفيه: مما دخلت فيه لا ما وردت..
٢٦ كان: سقط من ب..
٢٧ انظر البغوي ٥/٣٩١..
٢٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٩ البحر المحيط ٦/٢٠٩..
٣٠ تقدم..
٣١ تقدمت ترجمته..
٣٢ هو عاصم بن أبي الصباح العجاج الجحدري البصري، أخذ القراءة عرضا عن سليمان بن قتة عن ابن عباس، وروى حروفا عن أبي بكر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قرأ عليه عرضا أبو المنذر سلام بن سليمان، وغيره، مات سنة ١٢٨ هـ. طبقات القراء ١/٣٤٩..
٣٣ تقدم..
٣٤ المختصر (٨٦)، البحر المحيط ٦/٢١٠..
٣٥ في ب: وهي الظرفية..
٣٦ في ب: بعدها..
٣٧ ننجي: سقط من ب..
٣٨ السبعة (٤١١) الحجة لابن خالويه (٢٣٩) الكشف ٢/٩١..
٣٩ تقدم..
٤٠ أي: بإسكان النون وتخفيف الجيم. السبعة ٤١١، المختصر ٨٦، الحجة لابن خالويه ٢٣٩، الكشف ٢/٩١، الإتحاف (٣٠٠)..
٤١ وكلا القراءتين بمعنى واحد، إلا أنه في التشديد معنى التكرير والتكثير، كأنه نجاة بعد نجاة. الكشف ٢/٩١..
٤٢ فرقة: سقط من ب..
٤٣ البحر المحيط ٦/١٢٠..
٤٤ عند قوله تعالى: ﴿فاستجبنا له ونجيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين﴾ الآية (٨٨)، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم وابن عامر. السبعة (٤٣٠)، الكشف ٢/١١٣، النشر ٢/٣٢٤..
٤٥ البحر المحيط ٦/٢١٠..
٤٦ في ب: التنحي..
٤٧ في ب: القول. وهو تحريف..
٤٨ انظر البحر المحيط ٦/٢١٠..
٤٩ ما بين القوسين في ب: ترك..
٥٠ على ما تقدم من الإعلال..
٥١ ما بين القوسين في ب: إما مفعول وإن كان (نذر) يتعدى لاثنين بمعنى ترك وإما حال..
٥٢ لأن المصدر في نية الموصول، ولا يتقدم معمول الموصول عليه، وكذلك المصدر لا يتقدم معموله عليه..
٥٣ حال: سقط من ب..
٥٤ في ب: للنكرة وقدم..
٥٥ لأنّ صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت على الحال، لامتناع الصفة على الموصوف. انظر ابن يعيش ٢/٦٣-٦٤..
٥٦ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٤-٢٤٥..
٥٧ في ب: على القول بأن الورود هو الدخول..
٥٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٩ في الأصل: يدخلوا..
٦٠ في ب: ليس. وهو تحريف..
٦١ ربنا: سقط من ب..
٦٢ في ب: وردتموها..
٦٣ انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث (١٠٧)..
٦٤ في ب: فصل قال..
٦٥ الإهالة: ما أذبت من الشحم، وقيل الإهالة الشحم والزيت، وقيل كل دهن اؤتدم به إهالة، وقيل: الدسم الجامد. اللسان (أهل)..
٦٦ تقدم قريبا..
٦٧ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٦٨ حق: سقط من ب..
٦٩ في الأصل: للمؤمنين..
٧٠ أخرجه الحكيم الترمذي، وابن مردويه والخطيب والبيهقي عن يعلى بن أمية. الدر المنثور ٤/٢٨٢..
٧١ أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة ٥/٢٥٢، ٢٦٤، وانظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٠٧)..
٧٢ في ب: إذا على..
٧٣ غم: مكرر في ب..
٧٤ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٤-٢٤٥..
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ﴾ الآية.
121
لما أقام الحجة، على مشركي قريش المنكرين للبعض، وأتبعه بالوعيد حكى عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام، فقالوا: لو كنتم انتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا، لأنَّ الحكيمَ لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة، وإنما كان الأمر بالعكس، فإنَّ الكفار في النعمة والراحة والاستعلاء، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة، فدل على أنَّ الحق ليس من المؤمنين، هذا حاصل شبهتهم.
وقوله: ﴿آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ﴾ أي: واضحات، وقيل: مرتلات، وقيل: ظاهرات الإعجاز.
﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ يعني النضر بن الحارث وذويه من قريش ﴿لِلَّذِينَ آمنوا﴾ يعني فقراء أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونةٌ، وفي ثيابهم رثاثةٌ، وكان المشركون يرجلون شعورهم، ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين ﴿أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً﴾ منزلاً ومسكناً، وهو موضع الإقامة، «وأحْسَنُ نديًّا» أي: مجلساً، ومثله النادي.
قوله: «مَقَاماً». قرأ ابن كثير «مُقَاماً» بالضم.
ورُوِيَتْ عن أبي عمرو، وهي قراءة ابن محيصن وهو موضع الإقامة والمنزل.
122
والباقون بالفتح وفي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مكان «أو اسم مصدر من قَامَ ثلاثياً، أو من أقَامَ أي: خير مكان» قياماً أو إقاَمَة.

فصل


قالوا: زيْدٌ خيرٌ من عمروٍ، وشرٌّ من بكر، ولم يقولوا: أخير منه، ولا أشرّ منه، لأنَّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما، ولم يثبتا إلا في فعل التعجب، «فقالوا: أخير بزيدٍ وأشرر بعمرو، وما أخْيَر زيْداً ومَا أشرَّ عَمْراً.
والعلة في إثباتها في فعلي التعجب أنَّ»
استعمال هاتين اللفظتين اسماً أكثرُ من استعمالهما فعلاً، فحذفت الهمزةُ في موضع «الكثرة، وبقيتْ على أصلها في موضع» القلة ثابتة. والنَّديّ فعيل، أصله: نَدِيو، لأنَّ لامه واو، يقال: ندوتُهُمْ أندوهم، أي: أتَيْتُ نَاديَهُمْ والنَّادِي، مثله، ومنه: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ أي: أهل ناديه. والنَّدِيِّ والنَّادي مجلس القوم ومحدثهم.
وقيل: هو مشتق من النَّدى، وهو الكرم، لأنَّ الكرماء يجتمعون فيه. وانْتَديْتُ المكان والمنتدى كذلك، «وقال حاتم» :
123
٣٦١٩ - ودُعِيتُ في أولَى النَّديِّ ولَمْ يُنْظَر «إليّ بأ» عْيُنٍ خُرْزِ
والمصدر النَّدو. و «مَقَاماً» و «نَدِيًّا» منصوبان على التمييز من أفعل.
وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن «يُتْلَى» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق. واللام في «اللَّذينَ» يحتمل أن تكون للتبليغ، وهو الظاهر، وأن تكون للتعليل.
قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا﴾. «كَم» مفعول مقدم، واجب التقديم، لأنَّ له مصدر الكلام، لأنها إمَّا استفهامية أو خبرية، وهي محمولة على الاستفهامية.
و «أهْلَكْنَا» متسلط على «كَمْ»، أي: كثير من القرون أهلكنا.
و «مِنْ قَرْنٍ» تمييز ل «كَمْ» مبين لها.
قوله: «هُمْ أحْسَنُ» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء: أنَّه في محل نصب صفة ل «كَمْ» قال الزمخشري: ألا ترى أنك لو أسقطت «هُمْ» لم يكن بُدّ من نصب «أحْسَنُ» على الوصفية.
وفي هذا نظرٌ، لأنَّ النحويين نصوا على أنَّ «كَمْ» الاستفهامية والخبرية لا تُوصف ولا يُوصف بها.
124
الثاني: أنها في محل جرّ صفة ل «قَرْن»، ولا محذور في هذا. وإنما جمع في قوله: «هُمْ»، لأنَّ «قَرْنٍ» وإنْ كَانَ لَفظهُ «مفرداً فمعناه جمع، ف» قَرْن «كلفظ» جَمِيع «، و» جَمِيع «يجوز مراعاة لفظه تارة فيفرد كقوله تعالى ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ [القمر: ٤٤]، ومراعاة معناه أخرى فيجمع كقوله: ﴿لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٣٢].

فصل


لمَّا ذكروا شبهتهم أجاب الله عنها بقوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً﴾ أي: متاعاً وأموالاً.
قوله:»
ورئيا «الجمهور على» رِئْياً «بهمزة ساكنة بعدها ياء صريحة وصلاً ووقفاً. وحمزة إذا وقف يبدل هذه الهمزة ياء على أصله في تخفيف الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإظهار اعتباراً بالأصل، والإدغام اعتباراً باللفظ.
وفي الإظهار صعوبة لا تَخْفَى، وفي الإدغام إيهام أنَّها مادة أخرى، وهو الريُّ الذي هو بمعنى الامتلاء والنضارة، ولذلك ترك أبو عمرو وأصله في تخفيف الهمزة.
وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر»
ورِيًّا «بياء مشددة بعد الراء.
فقيل: هي مهموزة الأصل، ثم أبدلتِ الهمزةُ ياء، وأدغمتْ. والرِّئْيُ
125
بالهمز وقيل: من رؤية العين، وفعلٌ فيه معنى مفعول أي: مَرْئِيٌّ. وقيل: من الرواء وحسن المنظر. وقيل: بل هو من الريّ ضد العطش، وليس مهموز الأصل، والمعنى: أحسن منظراً، لأنَّ الريّ والامتلاء أحسن من ضديهما، ومعناه الارتواء من النعمة، فإنَّ المُنْعم يظهر فيه ارتواء النعمة، والفقير يظهر عليه ذبول الفقر. وقرأ حميد وأبو بكر عن عاصم في رواية الأعمش: وَرِيْئَا» بياء ساكنة بعدها همزة وهو مقلوب من «رِئْياً» في قراءة العامة، ووزنه «فِلْع»، وهو من وراءه يراؤه كقول الشاعر:
٣٦٢٠ - وكُلُّ خليلٍ رَاءَنِي فَهُوَ قَائِلٌ من أجْلِكِ هذا هامةُ اليَوْمِ أوْ غَدِ
وفي القلب من القلب ما فيه. وروى اليزيدي قراءة «ورَيَاء» بياء بعدها ألف «بعدها همزة»، وهي المراءاة، أي: يرى بعضهم حسن بعض، ثم خفف
126
الهمزة الأولى بقلبها ياء، وهو تخفيف قياسي.
«وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة» وَرِياً «بياء فقط مخففة، ولها وجهان:
أحدهما: أن يكون»
أصلها كقراءة قالون، ثم خففت الكلمة بحذف إحدى الياءين، وهي الثانية، لأنَّ بها حصل الثقل، ولأنها لام الكلمة، والأواخر أحرى بالتغيير.
والثاني: أن يكون أصلها كقراءة حميد «وَرَيْئاً» بالقلب، ثم نقل حركة الهمزة إلى الياء قبلها، وحذف الهمزة على قاعدة تخفيف الهمزة بالنقل، فصار «وَرِياً» كما ترى. وتجاسر بعضهم فجعل هذه القراءة لحناً، وليس اللاحن غيره، لخفاء توجيهها عليه. وقرأ ابن عباس - أيضاً - وابن جبير وجماعة «وَزِياً» بزاي وياء مشددة.
والزِّيّ: البِزَّةُ الحسنة والآلات المجتمعة، لأنه من زَوَى كذا يَزْوِيهِ، أي: يجمعه، والمتزين يجمع الأشياء التي تزينه وتظهر زيَّه.
قوله: ﴿مَن كَانَ فِي الضلالة﴾. «مَنْ» يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، ودخلت الفاء في الخبر، لما تضمنه الموصول من معنى الشرط.
وقوله «: فَلْيَمْدُدْ» فيه وجهان:
127
أحدهما: أنه طلب على بابه، ومعناه الدعاء.
والثاني: لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر. قال الزمخشري: أي:
مدَّ له الرحمن بمعنى أمهلهُ «وأمْلَى له في العمر» فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك أو فيمد له في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته.
قوله: «حتَّى إذَا» في «حتَّى» هذه ما تقدم في نظائرها من كونها حرف جر أو حرف ابتداء، وإنَّما الشأن فيما هي غاية له في كلا القولين.
فقال الزمخشري: وفي هذه الآية وجهان:
الأول: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أي: قالوا: «أي الفَريقِيْنِ خيرٌ مقَاماً وأحْسَنُ نديًّا»، «حتَّى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون»، أي: لا يبرحون يقولون هذا القول، ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعد رأي العين.
فقوله: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ مذكور في مقابلة قوله «خَيْرٌ مَقَاماً»، وأضْعَفُ جُنْداً «في مقابلة قولهم:» وأحْسَنُ نَدِيًّا «. فبين تعالى أنَّهم عن ظنوا في الحال أنَّ مَنزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله بالمقام والندي، فسيعلمون من بعد أنَّ المر بالضد من ذلك وأنَّهم شر مكاناً، فإنَّه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب،» وأضْعَفُ جُنْداً «فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أنَّ اجتماعهم ينفع، فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه.
»
ثم قال: «والثاني: أن تتصل بما يليها، والمعنى أنَّ الذين في الضلالة
128
ممدود لهم، ثم ذكر كلاماً كثيراً، ثم قال: إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين، أو يشاهدوا الساعة ومقدماتها، فإن قلت:» حتَّى «هذه ما هي؟ قلتُ: هي التي تُحْكى بعدها الجمل، ألا ترى أنَّ الجملة الشرطية واقعة بعدها، وهي» إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون فَسَيَعْلمُونَ «قال أبو حيان: مستبعداً الوجه الأول، وهو في غاية البعد، لطول الفصل بين قوله:: أيُّ الفَرِيقَيْنِ» وبين الغاية، وفيه الفصل بجملتي اعتراض، ولا يجيزه أبو علي.
وهذا الاستبعاد قريب.
وقال أبو البقاء: «حتَّى» تَحكي ما بعدها ههنا، وليست متعلقة بفعل.
قوله: ﴿إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة﴾ تقدم الكلام في «إمَّا» من كونها حرف عطف أو لا، ولا خلاف أنَّ أحد معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة.
و «العَذَابَ» و «السَّاعَةَ» بدلاً من قوله: «مَا يُوعَدُون» المنصوبة ب «رَأوا»، و «فَسَيعْلَمُونِ» جواب الشرط. «مَنْ هُو شرٌّ مكاناً» يجوز أن تكون «مَنْ» موصولة بمعنى «الَّذي»، ويكون مفعولاً ل «يَعْلَمُونَ» ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع بالابتداء، و «هُوَ» مبتدأ ثان، و «شرٌّ» خبره، والمبتدأ والخبر خبر الأول، ويجوز أن تكون الجملة معلقة لفعل الرؤية، فالجملة في محل نصب على التعليق.
129

فصل


قال المفسرون: مَدَّ له الرحمن، أي: أمهله، وأملى له في الأمر، فأخرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر، أي: يدعه في طغيانه، ويمهله في كفره ﴿حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب﴾ وهو الأسر، والقتل في الدنيا، و «إمَّا السَّاعةَ» يعني القيامة، فيدخلون النار.
وقوله: «وإمَّا السَّاعة» يدلُّ على أنَّ المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة، فيحتمل أن يكون المراد به الأسر والقتل كما تقدم، ويحتمل أن يكون عذاب القبر، ويمكن أن يكون تغير أحوالهم من العز إلى الذُّل، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى المرض، ومن الأمن إلى الخوف. «فَسَيَعْلمُونَ» عند ذلك «مَنْ هُو شرٌّ مكاناً» منزلاً، «وأضْعَفُ جُنْداً» أقل ناصراً، لأنَّهم في النار والمؤمنون في الجنة، وهذا ردٌّ عليهم في قولهم: «أيُّ الفريقَيْن خيرٌ مَقَاماً وأحْسَنُ نَدِيًّا».
قوله: " ويزيد الله " في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها لا محل لها، لاستئنافها، فإنها سيقت للإخبار بذلك.
وقال الزمخشري: إنها معطوفة على موضع " فليمدد "، لأنه واقع موقع الخبر، تقديره من كل في الضلالة يمد له الرحمن مدا ويزيد، أي: في ضلالهم بذلك المد.
قال أبو حيان: ولا يصح أن يكون " ويزيد " معطوفا على " فليمدد " سواء كان دعاء أو خبرا بصورة الأمر؛ لأنه في موضع الخبر إن كانت " من " موصولة، أو في موضع الجواب إن كانت " من " شرطية وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " عارية من ضمير يعود على " من " يربط جملة الخبر بالمبتدأ، أو جملة الشرط بالجزاء، " الذي هو " فليمدد "، وما عطف عليه، لأن المعطوف على الخبر خبر، والمعطوف على جملة الجزاء " جزاء، وإذا كانت أداة الشرط اسما لا ظرفا تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقوم مقامه، وكذا في الجملة المعطوفة عليها.
130
وذكره أبو البقاء - أيضا - كما ذكر الزمخشري. قال شهاب الدين: وقد يجاب عما قالاه بأنا نختار على هذا التقدير أن تكون " من " شرطية. وقوله: " ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط غير الظرف " ممنوع، لان فيه خلافا تقدم تحقيقه، ودليله في سورة البقرة فيكون الزمخشري وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يشترط.
(فصل)
اعلم أنه - تعالى - لما بين أنه يعامل الكفار " بعد ذلك " بما ذكره، فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى، أي إيمانا وإيقانا على يقينهم.
ومن الناس من حمل زيادة الهدى على الثواب، أي: يزيدهم ثوابا على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر الزيادة بالعبادة المرتبة على الإيمان.
ثم قال: ﴿والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا﴾. قال المحققون: هي الإيمان، والأعمال الصالحة تبقى لصاحبها وبعضهم قال: الصلوات، وبعضهم قال: التسبيح وقد تقدم. ثم قال: " خير عند ربك ثوابا وخير مردا " عاقبة ومرجعا، ولا يجوز أن يقال: هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره، فالمراد إذا: أنه خير مما ظنه الكفار بقولهم: " خير مقاما وأحسن نديا ".
131
قوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا ﴾. " كَم " ١ مفعول مقدم٢، واجب التقديم، لأنَّ له مصدر الكلام، لأنها إمَّا استفهامية أو خبرية، وهي محمولة على الاستفهامية٣.
و " أهْلَكْنَا " متسلط على " كَمْ "، أي : كثير من القرون أهلكنا.
و " مِنْ قَرْنٍ " تمييز ل " كَمْ " مبين لها٤.
قوله :﴿ هُمْ أحْسَنُ ﴾ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما٥ : وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء : أنَّه٦ في محل نصب صفة ل " كَمْ " ٧ قال الزمخشري : ألا ترى أنك لو أسقطت " هُمْ " لم يكن بُدّ من نصب " أحْسَنُ " على الوصفية٨.
وفي هذا نظرٌ، لأنَّ النحويين نصوا على أنَّ " كَمْ " الاستفهامية والخبرية لا تُوصف ولا يُوصف بها٩.
الثاني : أنها في محل جرّ صفة ل " قَرْن "، ولا محذور في هذا١٠. وإنما جمع في قوله :" هُمْ "، لأنَّ " قَرْنٍ " وإنْ كَانَ لَفظهُ " ١١ مفرداً فمعناه جمع١٢، ف " قَرْن " كلفظ " جَمِيع "، و " جَمِيع " يجوز مراعاة لفظه تارة فيفرد١٣ كقوله تعالى ﴿ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴾١٤، ومراعاة معناه أخرى فيجمع كقوله :﴿ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾١٥ ١٦ [ يس : ٣٢ ].

فصل١٧


لمَّا ذكروا شبهتهم أجاب الله١٨ عنها بقوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ أي : متاعاً وأموالاً.
قوله :" ورئيا " ١٩ الجمهور على " رِئْياً " ٢٠ بهمزة ساكنة بعدها ياء صريحة وصلاً ووقفاً٢١. وحمزة إذا وقف يبدل هذه الهمزة ياء٢٢ على أصله في تخفيف الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان٢٣ : الإظهار اعتباراً بالأصل، والإدغام اعتباراً باللفظ٢٤.
وفي الإظهار صعوبة لا تَخْفَى، وفي الإدغام إيهام أنَّها مادة أخرى، وهو الريُّ الذي هو بمعنى الامتلاء والنضارة، ولذلك ترك أبو عمرو أصله٢٥ في تخفيف الهمزة٢٦.
وقرأ قالون٢٧ عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر " ورِيًّا " بياء مشددة بعد الراء٢٨.
فقيل : هي مهموزة الأصل، ثم أبدلتِ الهمزةُ ياء، وأدغمتْ٢٩. والرِّئْيُ بالهمز٣٠ وقيل : من رؤية العين، وفعلٌ فيه معنى مفعول أي : مَرْئِيٌّ٣١. وقيل : من الرواء وحسن المنظر٣٢. وقيل : بل هو من الريّ ضد العطش، وليس مهموز الأصل٣٣، والمعنى : أحسن منظراً، لأنَّ الريّ والامتلاء أحسن من ضديهما، ومعناه الارتواء من النعمة٣٤، فإنَّ المُنْعم يظهر فيه ارتواء النعمة، والفقير يظهر عليه ذبول الفقر. وقرأ حميد٣٥ وأبو بكر٣٦ عن عاصم في رواية الأعمش : وَرِيْئَا " بياء ساكنة بعدها همزة٣٧ وهو مقلوب٣٨ من " رِئْياً " في قراءة العامة٣٩، ووزنه " فِلْع " ٤٠، وهو من وراءه يراؤه كقول الشاعر :
وكُلُّ خليلٍ رَاءَنِي فَهُوَ قَائِلٌ من أجْلِكِ٤١ هذا هامةُ٤٢ اليَوْمِ أوْ غَدِ٤٣
وفي القلب من القلب ما فيه. وروى اليزيدي٤٤ قراءة " ورَيَاء " بياء بعدها ألف " بعدها همزة " ٤٥، وهي المراءاة، أي : يرى بعضهم حسن بعض٤٦، ثم خفف الهمزة الأولى بقلبها ياء٤٧، وهو تخفيف قياسي٤٨.
" وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة " وَرِياً " بياء فقط مخففة٤٩، ولها وجهان :
أحدهما : أن يكون " ٥٠ أصلها كقراءة قالون٥١، ثم خففت الكلمة بحذف إحدى الياءين، وهي الثانية، لأنَّ بها حصل الثقل٥٢، ولأنها لام الكلمة، والأواخر أحرى بالتغيير٥٣.
والثاني : أن يكون أصلها كقراءة حميد " وَرَيْئاً " ٥٤ بالقلب، ثم نقل حركة الهمزة٥٥ إلى الياء قبلها، وحذف الهمزة على قاعدة تخفيف الهمزة بالنقل، فصار " وَرِياً " كما ترى٥٦. وتجاسر٥٧ بعضهم فجعل هذه القراءة لحناً، وليس اللاحن٥٨ غيره، لخفاء توجيهها عليه٥٩. وقرأ ابن عباس -أيضاً- وابن جبير وجماعة " وَزِياً " بزاي وياء مشددة٦٠.
والزِّيّ : البِزَّةُ٦١ الحسنة والآلات المجتمعة٦٢، لأنه٦٣ من زَوَى كذا يَزْوِيهِ، أي : يجمعه، والمتزين يجمع الأشياء التي تزينه وتظهر زيَّه٦٤.
١ كم: سقط من ب..
٢ انظر الكشاف ٢/٤٢٠، البيان ٢/١٣٣، التبيان ٢/٨٧٩، البحر المحيط ٦/٢١٠..
٣ لزوم التصدير من الأمور التي تشترك فيها (كم) الخبرية والاستفهامية. المغني ١/١٨٣..
٤ انظر الكشاف ٢/٤٢٠، البحر المحيط ٦/٢١٠..
٥ أحدهما: سقط من ب..
٦ في ب: في أنها..
٧ الكشاف ٢/٢٤٠، التبيان ٢/٨٧٩.
.

٨ الكشاف ٢/٢٤٠..
٩ الأسماء التي لا تنعت ولا ينعت بها الضمير، أسماء الشرط، أسماء الاستفهام وكم الخبرية، وما التعجيبية، وقبل وبعد. المقرب ٢٢٤. البحر المحيط ٦/٢١٠..
١٠ انظر البحر المحيط ٦/٢١٠..
١١ ما بين القوسين مكرر في ب..
١٢ لأن القرن مشتمل على أفراد كثيرة، لأنه الأمة يجمعها العصر الواحد، واختلف في مدته فقيل: مائة سنة، وقيل: ثمانون، وقيل تسعون..
١٣ في ب: فيجمع ويفرد. وهو تحريف..
١٤ [القمر: ٤٤]..
١٥ [يس: ٣٢]..
١٦ انظر البحر المحيط ٦/٢١٠..
١٧ في ب: قوله "أثاثا"..
١٨ في ب: الله تعالى..
١٩ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٠ في ب: ريا. وهو تحريف..
٢١ السبعة (٤١١)، الحجة لابن خالويه (٢٣٩)، الكشف ٢/٩١. الإتحاف (٣٠٠)..
٢٢ في ب: فاء. وهو تحريف..
٢٣ في ب: وجهان أحدهما..
٢٤ الكشف ٢/٩١، الإتحاف ((/٦٥)..
٢٥ في ب: مثله..
٢٦ قال ابن الأنباري: (وكان من مذهب أبي عمرو ترك الهمزة الساكنة إلا في هذا الموضع، وقال: خفت أن يلتبس بالري من الماء فهمزت لأنه أريد حسن المنظر والشارة) البيان ٢/١٣٣..
٢٧ هو عيسى بن مينا بن وردان، أبو موسى الملقب قالون، قارئ المدينة، ونحويها، قرأ على نافع، وأخذ القراءة عرضا عن نافع، وأبي جعفر، وعرض على عيسى بن وردان، روى القراءة عنه إبراهيم، وأحمد ابناه، وإبراهيم بن الحسن الكسائي، وغيرهم. مات سنة ٢٢٠ هـ. طبقات القراء ١/٦١٥-٦١٦..
٢٨ السبعة (٤١١-٤١٢)، الحجة لابن خالويه (٢٣٩)، الكشف ٢/٩١، الإتحاف (٣٠٠)..
٢٩ أصل "وريّا" بياء مشددة بعد الراء "ورئيا" خففت الهمزة بإبدالها ياء، لسكونها وانكسار ما قبلها وأدغمت الياء المبدلة من الهمزة في الياء الثانية التي هي لام، فصار "وريّا"، لأنه في الأصل فعل من (رأيت). الكتاب ٣/٥٤٣-٥٤٤، المحتسب ٢/٤٤، البيان ٢/١٣٤، التبيان ٢/٨٨٠..
٣٠ في ب: الراء بالهمز. وهو تحريف..
٣١ لأن المصدر قد يجيء ويراد به المفعول، كقولهم: ضرب الأمير، أي: مضروبه. شرح المفصل ٦/٥٠..
٣٢ أي أنه يجوز أن يكون من الرواء، وهو ما يظهر من الزي في اللباس وغيره، فيكون أصله الهمز، ولكن خففت الهمزة، فأبدل منها ياء. الكشف ٢/٩١..
٣٣ فيكون أصل "وريّا" (ورِوْيٌ) من رويت، فأبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وهي مفردة، وأدغمت الياء في الياء. المحتسب ٢/٤٤، التبيان ٢/٨٨٠، البحر المحيط ٦/٢١٠..
٣٤ في ب: النعم..
٣٥ في ب: أبو حميد. وهو تحريف. وهو حميد بن قيس الأعرج، أبو سفيان المكي، القارئ. أخذ القراءة عن مجاهد بن جبير، روى القراءة عنه سفيان بن عيينة، وأبو عمرو بن العلاء، وغيرهما، مات سنة ١٣٠ هـ. طبقات القراء ١/٢٦٥..
٣٦ تقدم..
٣٧ السبعة (٤١١)، تفسير ابن عطية ٩/٥٢٠، البحر المحيط ٦/٢١٠..
٣٨ القلب المكاني: هو تقديم بعض حروف الكلمة على بعض، مع اتفاق المعنى في الحالين كما في كلمة (أوباش)، فإنها مقلوبة عن كلمة (أوشاب)، وهما بمعنى واحد، وهم الأخلاط من الناس، والقلب في (ريئا) من (رئيا) بتقديم اللام على العين. القلب المكاني في ضوء الفكر اللغوي (٤-٥)..
٣٩ في ب: في قوله. وهو تحريف..
٤٠ البيان ٢/١٣٤، التبيان ٢/٨٨٠، البحر المحيط ٦/٢١٠-٢١١..
٤١ في ب: أجلد. وهو تحريف..
٤٢ في ب: عامة. وهو تحريف..
٤٣ البيت من بحر الطويل، قاله كثير عزة، اللسان (رأى، هوم)..
٤٤ هو يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي، أبو محمد اليزيدي، النحوي، المقرئ اللغوي، أخذ عن الخليل اللغة، والعروض، وكان أحد القراء الفصحاء العالمين بلغة العرب، والنحو، وصنف مختصرا في النحو، والمقصور والممدود، النقط والشكل، النوادر مات سنة ٢٠٢ هـ. بغية الوعاة ٦/٣٤٠..
٤٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٦ المختصر (٨٦)، البحر المحيط ٦/٢١١..
٤٧ ياء: سقط من ب..
٤٨ أي أن أصل (ورياء) و(رئاء)، خففت الهمزة الأولى بإبدالها ياء، لأن كل همزة مفتوحة وكان قبلها حرف مكسور، فإنك تبدل مكانها ياء في التخفيف، وذلك قولك في المئر: مير، وفي يريد أن يقرئك: يقريك ومن ذلك: من غلام يبيك، إذا أردت من غلام أبيك. الكتاب ٣/٥٤٣..
٤٩ المحتسب ٢/٤٣، البحر المحيط ٦/٢١١..
٥٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٥١ "وريّا" بتشديد الياء..
٥٢ في ب: حذف النقل. وهو تحريف..
٥٣ في ب: بالتعيين. وهو تحريف..
٥٤ في ب: وريا. وهو تحريف..
٥٥ في ب: ثم سكن حركة الهمزة ونقلها. وهو تحريف..
٥٦ انظر المحتسب ٢/٤٤-٤٥، البحر المحيط ٦/٢١١..
٥٧ جسر على كذا يجسر جسارة وتجاسر عليه: أقدم، وتجاسر: تطاول. اللسان (جسر)..
٥٨ في ب: الآخر. وهو تحريف..
٥٩ انظر: البحر المحيط ٦/٢١١..
٦٠ المحتسب ٢/٤٤، البحر المحيط ٦/٢١١. وأصلها "زِوْي"، قلبت الواو ياء، لسكونها، وهي مفردة وانكسر ما قبلها وأدغمت الياء في الياء فصار "وَزِيّا" المحتسب ٢/٤٥، البيان ٢/١٣٤، التبيان ٢/٨٨٠،..
٦١ في ب: والزاي: العزة. وهو تحريف. والبَّزة: الهيئة والشارة واللّبسة. اللسان (بزز)..
٦٢ انظر البحر المحيط ٦/٢١١..
٦٣ في ب: لأن..
٦٤ انظر اللسان (زوى)..
قوله :﴿ مَن كَانَ فِي الضلالة ﴾١. " مَنْ " يجوز أن تكون شرطية٢، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، ودخلت الفاء في الخبر، لما تضمنه الموصول من معنى الشرط٣.
وقوله :" فَلْيَمْدُدْ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه طلب على بابه، ومعناه الدعاء٤.
والثاني : لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر٥. قال الزمخشري : أي٦ : مدَّ له الرحمن بمعنى أمهلهُ " وأمْلَى له في العمر " ٧ فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك. . . أو فيمد له في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته٨.
قوله :﴿ حتَّى إذَا ﴾ في " حتَّى " هذه ما تقدم في نظائرها من كونها حرف جر٩ أو حرف ابتداء١٠، وإنَّما الشأن فيما هي١١ غاية له في كلا القولين.
فقال الزمخشري : وفي هذه الآية وجهان :
الأول : أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أي : قالوا :" أي الفَريقِيْنِ خيرٌ مقَاماً وأحْسَنُ نديًّا "، " حتَّى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون "، أي : لا يبرحون١٢ يقولون هذا القول، ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعد رأي العين١٣.
فقوله١٤ :﴿ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ مذكور في مقابلة قوله١٥ ﴿ خَيْرٌ مَقَاماً ﴾، وأضْعَفُ جُنْداً " في مقابلة قولهم :" وأحْسَنُ نَدِيًّا ". فبين تعالى أنَّهم١٦ إن١٧ ظنوا في الحال أنَّ مَنزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله بالمقام والندي، فسيعلمون من بعد أنَّ الأمر بالضد من ذلك وأنَّهم شر مكاناً، فإنَّه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب، " وأضْعَفُ جُنْداً " فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أنَّ اجتماعهم ينفع، فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه١٨ ١٩.
" ثم قال٢٠ :" ٢١ والثاني : أن تتصل بما يليها، والمعنى أنَّ الذين في الضلالة٢٢ ممدود لهم، ثم ذكر كلاماً كثيراً٢٣، ثم قال٢٤ : إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين، أو يشاهدوا٢٥ الساعة ومقدماتها، فإن قلت٢٦ :" حتَّى " هذه ما هي ؟ قلتُ٢٧ : هي التي تُحْكى بعدها الجمل، ألا ترى أنَّ الجملة الشرطية واقعة بعدها، وهي " إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون فَسَيَعْلمُونَ " ٢٨ قال أبو حيان : مستبعداً الوجه٢٩ الأول، وهو في غاية البعد، لطول الفصل بين قوله٣٠ :﴿ أيُّ الفَرِيقَيْنِ ﴾ وبين الغاية، وفيه الفصل بجملتي اعتراض، ولا يجيزه أبو علي٣١.
وهذا٣٢ الاستبعاد قريب٣٣.
وقال٣٤ أبو البقاء :" حتَّى " تَحكي ما بعدها ههنا، وليست متعلقة بفعل٣٥.
قوله :﴿ إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة ﴾ تقدم الكلام في " إمَّا " من كونها حرف عطف أو لا٣٦، ولا خلاف أنَّ أحد معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة.
و " العَذَابَ " و " السَّاعَةَ " بدلاً من قوله :﴿ مَا يُوعَدُون ﴾ المنصوبة ب " رَأوا " ٣٧، و " فَسَيعْلَمُونِ " جواب الشرط٣٨. " مَنْ هُو شرٌّ مكاناً " يجوز أن تكون " مَنْ " موصولة بمعنى " الَّذي "، ويكون مفعولاً ل " يَعْلَمُونَ " ٣٩ ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع بالابتداء، و " هُوَ " مبتدأ ثان، و " شرٌّ " خبره، والمبتدأ والخبر خبر الأول، ويجوز أن تكون الجملة معلقة لفعل الرؤية، فالجملة في محل نصب على التعليق.

فصل


قال المفسرون : مَدَّ له الرحمن، أي : أمهله، وأملى له في الأمر، فأخرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر، أي : يدعه في طغيانه، ويمهله في كفره ﴿ حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب ﴾ وهو الأسر، والقتل في الدنيا، و " إمَّا السَّاعةَ " يعني القيامة، فيدخلون النار٤٠.
وقوله٤١ :﴿ وإمَّا٤٢ السَّاعة٤٣ يدلُّ على أنَّ المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل٤٤ يوم القيامة، فيحتمل أن يكون المراد به الأسر والقتل كما تقدم، ويحتمل أن يكون عذاب القبر، ويمكن أن يكون تغير أحوالهم من العز إلى الذُّل، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى المرض، ومن الأمن إلى الخوف٤٥. " فَسَيَعْلمُونَ " عند ذلك " مَنْ هُو شرٌّ مكاناً " منزلاً، " وأضْعَفُ جُنْداً " أقل ناصراً، لأنَّهم في النار والمؤمنون في الجنة، وهذا ردٌّ عليهم في قولهم :﴿ أيُّ الفريقَيْن خيرٌ مَقَاماً وأحْسَنُ نَدِيًّا ﴾.
قوله :﴿ ويزيد الله ﴾٤٦ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها لا محل لها، لاستئنافها، فإنها سيقت للإخبار بذلك.
وقال٤٧ الزمخشري : إنها معطوفة على موضع " فليمدد "، لأنه واقع موقع الخبر، تقديره من كل في الضلالة يمد له الرحمان مدّا ويزيد، أي : في ضلالهم بذلك المد٤٨.
قال أبو حيان : ولا يصح أن يكون " ويزيد " معطوفا على " فليمدد " ٤٩ سواء كان دعاء أو خبرا بصورة الأمر ؛ لأنه في موضع الخبر إن كانت " من " موصولة، أو في موضع الجواب إن كانت " من " ٥٠ شرطية، وعلى كلا التقديرين٥١ فالجملة من قوله ﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ﴾ عارية من ضمير يعود على " من " يربط٥٢ جملة الخبر بالمبتدأ، أو٥٣ جملة الشرط بالجزاء، " الذي هو " فليمدد "، و ما عطف عليه، لأن المعطوف على الخبر خبر، والمعطوف على جملة الجزاء " ٥٤ جزاء، وإذا كانت أداة الشرط اسما لا ظرفا تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره٥٥ أو ما يقوم مقامه، وكذا في الجملة المعطوفة عليها٥٦.
وذكره أبو البقاء٥٧ - أيضا – كما ذكر الزمخشري. قال شهاب الدين : وقد يجاب عما قالاه بأنا نختار على هذا التقدير أن تكون " من " ٥٨ شرطية. وقوله :" ولا بد٥٩ من ضمير يعود على اسم الشرط غير٦٠ الظرف " ممنوع لأن فيه خلافا تقدم تحقيقه، ودليله في سورة البقرة فيكون الزمخشري وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يشترط٦١.
١ في الضلالة: سقط من ب..
٢ انظر التبيان ٢/٨٨٠..
٣ تقدم..
٤ البحر المحيط ٦/٢١٢..
٥ انظر البيان ٢/١٣٥، التبيان ٢/٨٨٠، البحر المحيط ٦/٢١٢..
٦ أي: سقط من ب..
٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٨ الكشاف ٢/٤٢١..
٩ وهو رأي الأخفش وابن مالك، لأن "حتى" الداخلة على "إذا" عندهما هي الجارة، و"إذا" في موضع جرّ بها. المغني ١/١٢٩..
١٠ وهو رأي الجمهور في "حتى" الداخلة على "إذا" فهي عندهم حرف ابتداء، و"إذا" في موضع نصب بشرطها أو جوابها. المغني ١٢/١٢٩..
١١ في ب: هو..
١٢ في ب: لا ينزحون..
١٣ الكشاف ٢/٤٢١..
١٤ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٥٤٨..
١٥ في ب: قولهم..
١٦ أنهم: سقط من ب..
١٧ في ب: فان..
١٨ في ب: فيما ادعوه وفيما قالوه..
١٩ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٨..
٢٠ أي الزمخشري..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ في ب: ضلالة..
٢٣ في ب: طويلا. وهو قوله: (في ضلالتهم، والخذلان لاصق بهم، لعلم الله بهم، وبأنّ الألطاف لا تنفع فيهم، وليسوا من أهلها، والمراد بالضلالة ما دعاهم من جهلهم وغلوهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه، ولا ينفكون عن ضلالتهم)..
٢٤ أي الزمخشري..
٢٥ في ب: يشاهدون. وهو تحريف..
٢٦ في ب: فإن قيل..
٢٧ في ب: قلنا..
٢٨ الكشاف ٢/٤٢١..
٢٩ في ب: القول..
٣٠ في الأصل: قوله قالوا. وهو تحريف..
٣١ البحر المحيط ٦/٢١٢. وذلك أنّ أبا عليّ زعم أنه لا يعترض بأكثر من جملة وغيره يجوز الاعتراض بأكثر من جملتين. المغني ٢/٣٩٤..
٣٢ في ب: وعلى هذا..
٣٣ في ب: فوجب. وهو تحريف..
٣٤ في ب: قال..
٣٥ التبيان ٢/٨٨٠..
٣٦ ذهب بعض النحويين إلى أن (إما) الثانية بمنزلة (أو) في العطف والمعنى. أمّا (إمّا) الأولى فلا يجوز أن تكون حرف عطف. لأن حرف العطف لا يبدأ به، ولمباشرتها للعامل نحو قام إمّا زيد وإمّا خالد. وذهب يونس والفارسي وابن كيسان وابن برهان وابن مالك إلى أنّ (إمّا) الثانية غير عاطفة كالأولى لملازمتها غالبا الواو العاطفة. وادعى ابن عصفور الإجماع على كونها غير عاطفة.
ولكن النحويين لما رأوا إعراب ما بعدها كإعراب ما قبلها ذكروها مع حروف العطف تقريبا واتساعا.
ابن يعيش ٨/١٠٣، المغني ١/٥٩-٦٠، الهمع ٢/١٣٥، شرح الأشموني ٣/١٠٩..

٣٧ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٦٣، البيان ٢/١٣٥، التبيان ٢/٨٨٠، البحر المحيط ٦/٢١٢..
٣٨ التبيان ٢/١٣٥، التبيان ٢/٨٨٠..
٣٩ التبيان ٢/٨٨٠..
٤٠ انظر البغوي ٥/٣٩٦..
٤١ في ب: وأما قوله..
٤٢ في ب: إمّا..
٤٣ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٨..
٤٤ قبل: سقط من ب..
٤٥ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٤٨..
٤٦ في ب: "ويزيد الله الذين اهتدوا هدى"..
٤٧ وقال: سقط من ب..
٤٨ الكشاف ٢/٤٢١..
٤٩ في ب: يمدّ..
٥٠ من : سقط من ب..
٥١ في ب: القولين. وهو تحريف..
٥٢ في ب: يزيد. وهو تحريف..
٥٣ في ب: و..
٥٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٥ في ب: وضميره..
٥٦ البحر المحيط ٦/٢١٢..
٥٧ قال أبو البقاء: ("ويزيد" معطوف على معنى "فليمدد" أي فيمد ويزيد). التبيان ٢/٨٨٠..
٥٨ في ب: من أن تكون..
٥٩ في ب: لا بد..
٦٠ في ب: عن. وهو تحريف..
٦١ الدر المصون: ٥/١٥..

فصل٦٢


اعلم أنه – تعالى – لما بين أنه يعامل الكفار " بعد ذلك " ٦٣ بما ذكره، فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى، أي إيمانا وإيقانا على يقينهم٦٤.
ومن الناس من حمل زيادة الهدى على الثواب، أي : يزيدهم ثوابا على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر الزيادة بالعبادة المرتبة٦٥ على الإيمان.
ثم قال :﴿ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا ﴾. قال المحققون : هي الإيمان، والأعمال الصالحة تبقى لصاحبها٦٦ وبعضهم قال : الصلوات، وبعضهم قال : التسبيح وقد تقدم٦٧. ثم قال :" خير عند ربك ثوابا وخير مردا " عاقبة ومرجعا. ولا يجوز أن يقال : هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره، فالمراد إذا : أنه خير مما ظنه الكفار بقولهم :﴿ خير مقاما وأحسن نديا ﴾.
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ الآية.
«أفَرَأيْتَ» عطف بالفاء إيذاناً بإفادة التعقيب، كأنه قيل: أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر
131
عقيب أولئك. وأرأيت بمعنى: أخبرني كما تقدم، والموصول هو المفعول الأول، والثاني هو الجملة الاستفهامية من قوله: «أطَّلع الغَيْبَ».
و «لأوتَينَّ» جواب قسمٍ مضمر، والجملة القسمية كلها في محل نصب بالقول.
وقوله هنا «وولداً»، وفي آخر السورة: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾ [مريم: ٨٨] موضعان وفي الزخرف ﴿إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ﴾ [الآية: ٨١]، وفي نوح ﴿مَالُهُ وَوَلَدُهُ﴾ [الآية: ٢١].
وقرأ الأخوان الأربعة بضم الواو وسكون اللام، ووافقهما ابن كثير وأبو عمرو على الذي في نوح دون السورتين، والباقون وهم نافع وابن عامر وعاصم قرأوا ذلك كلَّه بفتح اللام والواو. فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحة، وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع.
وأما قراءة الضم والإسكان، فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى، يقال: وَلَدٌ ووُلْدٌ كما يقال: عَربٌ وعُرْبٌ، وعدمٌ وعُدْمَ.
وقيل: بل هي جمع ل «ولد» نحو أسَدٌ وأسْدٌ، «وأنشدوا على ذلك:
٣٦٢١ - ولقَد رَأيْتُ مَعَاشِراً قَدْ ثَمَّرُوا مالاً ووُلدا»
وأنشدوا شاهداً على أن الوَلَد والوُلْدَ مترادفان قول الآخر:
132
٣٦٢٢ - فَلَيْتَ فُلاناً كان في بَطْنِ أمِّهِ وليْتَ فُلاناً كانَ وُلْدَ حمارِ
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر «ووِلْدا» بكسر الواو، وهي لغة الولد، ولا يبعد أن يكون هذا من باب الذبح والرئي، فيكون ولد بمعنى مولود، وكذلك في الذي بفتحتين نحو القبض بمعنى المقبوض. قوله: «اطَّلَعَ» هذه همزة استفهام سقط من أجلها همزة وصل، وقد قُرئ بسقوطها درجاً، وكسرها ابتداء على أن همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة «أمْ» عليها، كقوله:
٣٦٢٣ - لَعمركَ مَا أدْرِي وإنْ كُنْتَ دَارياً بسَبْعٍ رمَيْنَ الجَمْرَ أمْ «بِثَمَانِ»
و «أطَّلعَ» من قولهم: اطلع فلان الجبل، أي: ارتقى أعلاه.
٣٦٢٤ - لاقَيْتَ مُطَّلِعَ الجِبَالِ «وعُوراً»...
133
و «الغَيْبَ» مفعول به، لا على إسقاط حرف الجر، أي: على الغيب، كما زعم بعضهم.

فصل


لمَّا استدل على صحة البعث، وأورد شبهة المنكرين، وأجاب عنها ذكر عنهم ما قالوه استهزاء طعناً بالقول في الحشر فقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾. قال الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها نزلت في العاص بن وائل، قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين، فأتيت أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فقلت: لا والله لا أكفر بمحمدٍ حيًّا ولا ميتاً. وفي رواية: حتى تموت ثم تبعث. فقال: وإنّي لميتٌ ثم مبعوثٌ؟ قلت: نعم. قال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثمَّ، فإنه سيكون لي مالٌ وولد.
ثم قال تعالى: ﴿أَطَّلَعَ الغيب﴾. «قال ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ».
وقال مجاهد: أعلمَ علن الغيب حتى يعلم افي الجنة هو أم لا؟.
والمعنى: أنَّ الذي ادعى حصوله لا يتوصل إلاَّ بأحد هذين الطريقين: إمَّا علم الغيب، وإمَّا عهدٌ من عالم الغيب، فبأيهما توصل إليه.
قيل: العهد كلمة الشهادة. وقال قتادة: عملاً صالحاً قدَّمه، فهو يرجو بذلك ما يقول. وقال الكلبي: عهد إليه أن يدخله الجنة.
«كَلاَّ» للنحويين في هذه اللفظة ستة مذاهب:
أحدها: وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس أنها حرف ردع وزجر.
134
وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن، وما أحسن ما جاءت في هذه الآية حيث زجرت وردعت ذلك القائل.
والثاني: وهو مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم، فيكون جواباً، ولا بد حينئذ من أن يتقدمها شيء لفظاً أو تقديراً، وقد تستعمل في القسم.
والثالث: وهو مذهب الكسائي، وأبي بكر بن الأنباري، «ونصر بن يوسف» وابن واصل أنها بمعنى حقًّا.
والرابع: وهو مذهب أبي عبد الله محمد بن الباهلي أنها رد لما قبلها. وهذا قريب من معنى الردع.
الخامس: أنها صلة في الكلام بمعنى «إي» كذا قيل. وفيه نظر، فإن «إي» حرف جواب، ولكنه مختص بالقسم.
135
السادس: أنها حرف استفتاح، وهو قول «أبي حاتم ولتقرير هذه المذاهب موضع يليق به.
وقد قرئ هنا بالفتح والتنوين في كَلاَّ»
هذه، وتروى عن ابن نهيك وحكى الزمخشري هذه القراءة، وعزاها لابن نهيك في قوله: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ﴾ كما سيأتي ويحكى أيضاً قراءةٌ بضم الكاف والتنوين، ويعزيها لابن نهيك أيضاً «.
فأما قولهم: ابن نهيك، فليس لهم ابن نهيك، إنما لهم أبو نهبك بالكنية.
وفي قراءة الفتح»
والتنوين أربعة أوجه:
أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها تقديره «: كَلُّوا كَلاًّ، أي: أعيُوا عن الحقِّ إعياء، أو كلُّوا عن عبادة الله، لتهاونهم بها من قول العرب: كَلَّ السَّيْفُ، إذا نبا عن الضرب، وكلَّ زيدٌ، أي تعِبَ. وقيل: المعنى: كلُّوا في دعواهم وانقطعوا.
والثاني: أنه مفعولٌ به بفعل مقدر من معنى الكلام، تقديره: حُمِّلُوا كلاًّ. والكلُّ أيضاً: الثقل: تقول: فلان كلٌّ على الناس، ومنه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ﴾ [النحل: ٧٦].
والثالث: أن»
التنوين بدل من ألف «» كلاَّ «، وهي التي يراد بها الردع والزجر، فتكون حرفاً أيضاً.
قال الزمخشري: ولقائل أن يقول: غن صحت هذه الرواية، فهي»
كلاَّ «التي
136
للردع» قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قوله: «قوارِيرا».
قال أبو حيان: وهذا ليس بجيد، لأنه قال: التي للردع، «والتي للردع» حرف، وجه لقلب ألفها نوناً، وتشبيهه ب «قَوَارِيراً» ليس بجيد، لنَّ «قَوَارِيرَ» اسم يرجع به إلى أصله، فالنون ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف، وهذا اجمع مختلف فيه أيتحتَّمُ منع صرفه أم يجوز؟ قولان.
ومنقول أيضاً: أن بعض لغة العرب يصرفون ما لا ينصرف، فهذا القول، إما على قول من لا يرى بالتحتم، أو على تلك اللغة.
والرابع: أنه نعتٌ ل «آلهة»، قاله ابن عطية. وفيه نظر، إذ ليس المعنى على ذلك، وقد يظهر له وجه، «أن يكون وصف» الآلهة بالكلِّ الذي هو المصدر بمعنى الإعياء والعجز، كأنه قيل: آلهةٌ كالِّين، أي: عاجزين منقطعين. ولمَّا وصفهم وصفهم بالمصدر وحده. وروى ابن عطية والداني وغيره عن أبي نهيك أنه قرأ «كُلاًّ» بضم الكاف والتنوين، وفيها تأويلان:
أحدهما: أن ينتصب على الحال، أي: سيكفرون جميعاً؛ كذا قدره أبو البقاء، واستبعده.
والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر، يرفضون، أي: يجحدون، أو يتركون كلاًّ،
137
قاله ابن عطية. وحكى ابن جرير أن أبنا نهيك قرأ «كُلُّ» بضم الكاف ورفع اللام منونة على أنه مبتدأ والجملة الفعلية بعده خبره.
وظاهر عبارة هؤلاء أنه لم يقرأ بذلك إلا في «كلاًّ» الثانية. وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب «ونُمِدُّ» من أمدَّ، وقد تقدم القول في مدَّهُ وأمدَّهُ.
قوله:: ونَرثهُ ما يقُولُ «. يجوز في» مَا «وجهان:
أحدهما: أن يكون مفعولاً بها، والضمير في»
نَرِثُهُ «منصوب على إسقاط الخافض تقديره: ونرثُ منه» ما يقوله «.
والثاني: أن يكون بدلاً من الضمير في»
نَرِثُهُ «بدل اشتمال. وقدَّر بعضهم مضافاً قبل الموصول، أي: نرثه معنى ما يقول: أو مسمَّى ما يقول، وهو المال والولد، لأن نفس القول لا يورث.» و «فَرْداً» حال إمَّا مقدرة نحو ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]، أو مقارنة، وذلك مبنيٌّ على اختلاف معنى الآية «.
قوله تعالى:»
سَنَكْتبُ «سنحفظ» ما يقُولُ «فنُجازيه في الآخرة.
وقيل: نأمر الملائكة حتى يكتبوا ما يقول. ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً﴾ أي: نزيده عذاباً فوق العذاب، وقيل: نطيل عذابه. و»
نَرِثهُ ما يقُولُ «» أي: ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال قوله، وقوله «مَا يَقُولُ»، لأنه زعم أنَّ له مالاً وولداً، أي: لا نعطيه ونعطي غيره، فيكون الإرث راجعاً إلى ما تحت القول لا إلى نفس القول. وقيل: معنى قوله «ونَرِثهُ ما يقُولُ» أي: نحفظ ما يقول حتى نجازيه به «ويَأتِينَا فَرْداً» يوم القيامة بلا مالٍ ولا ولد «.
138
قوله تعالى: ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله﴾ الآية. لمَّا تكلَّم في مسألة الحشر والنشر تكلَّم الآن في الرد على عُبَّاد الأصنام فقال: ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً﴾ يعني كفار قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها «ليكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» أي منعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك. ثم أجاب الله - تعالى - بقوله: «كَلاَّ» ليس الأمر كما زعموا ﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾ أي: «كُلُّهم سيكفُرُون بعبادِة» هذه الأوثان.
قوله: «سَيَكْفرُونَ» يجوز أن يعود الضمير على الالهة، لأنه أقرب مذكور، ولأن الضمير في «يَكونُونَ» أيضاً عائد عليهم فقط، ومثله ﴿وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾ [النحل: ٨٦] ثم قال ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [النحل: ٨٦].
قيل: أراد بذلك الملائكة، لأنهم يكفرون بعبادتهم «ويتبرءون منهم» ويخاصمونهم وهو المراد بقوله: ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠].
وقيل: إن الله - تعالى - يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبِّخوا عبَّادها ويتبرءوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم.
وقيل: الضمير يعود على المشركين، ومثله قوله: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ إلا أنَّ فيه عدم توافق الضمائر، إذ الضمير في «يَكُونُونَ» عائد إلى الآلهة.
و «بِعبَادتهِمْ» مصدر مضاف إلى فاعله، إن عاد الضمير في عبادتهم على
139
المشركين العابدين، وإلى المفعول إن عاد على الالهة.
قوله: «ضِدًّا» إنما وحَّده وإن كان خبراً عن جمع لأحد وجهين: إما لأنه مصدر في الأصل، «والمصادر موحَّدة مذكَّرة، وإمَّا لأنه مفرد في معنى الجمع.
قال الزمخشري»
: والضِّدُّ: العَوْن، وحِّد توحيد قوله عليه السلام: «وهُم يَدٌ على مِنْ سِوَاهُم» لاتفاق كلمتهم، وأنَّهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم. والضَّدُّ: العونُ والمعاونة، ويقال: من أضدادكم، أي: أعوانكم.
قيل: سمي العونُ ضدًّا، لأنه يضاد من يعاديك وينافيه بإعانته لك عليه.
وفي التفسير: إنَّ الضِّدَّ هنا الأعداء. وقل: القرن. وقيل: البلاء. وهذه تناسب معنى الآية.
قيل: ذكر ذلك في مقابلة قولهم «عِزًّا»، والمراد ضد العِزّ، وهو الذُّلُّ والهوان، أي: يكونون عليهم ضِدًّا لما قصدوا وأرادوه. كأنه قيل: ويكون عليهم ذلاًّ لهُم.
140
ثم قال تعالى١ :﴿ أَطَّلَعَ الغيب ﴾. " قال ابن عباس : أنظر في اللوح المحفوظ ٢ " ٣.
وقال مجاهد : أعلمَ٤ علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا ؟٥.
والمعنى : أنَّ الذي ادعى حصوله لا يتوصل إلاَّ بأحد هذين الطريقين٦ : إمَّا علم الغيب، وإمَّا عهدٌ من عالم الغيب، فبأيهما٧ توصل إليه٨.
قيل : العهد كلمة الشهادة٩. وقال قتادة : عملاً صالحاً قدَّمه، فهو يرجو بذلك ما يقول١٠. وقال الكلبي : عهد إليه أن يدخله الجنة١١.
١ تعالى: سقط من ب..
٢ انظر البغوي ٥/٣٩٨..
٣ ما بين القوسين في ب: انظر في اللوح المحفوظ قاله ابن عباس..
٤ في ب: علم..
٥ انظر البغوي ٥/٣٩٨..
٦ في ب: القولين..
٧ في ب: فأيهما..
٨ الكشاف ٢/٤٢٢، الفخر الرازي ٢١/٢٥٠..
٩ انظر البغوي ٥/٣٩٨..
١٠ المرجع السابق..
١١ المرجع السابق..
" كلا " رد١ عليه، أي : إنه لم يفعل ذلك.
" كَلاَّ " للنحويين في هذه اللفظة ستة مذاهب :
أحدها٢ : وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش٣ وأبي العباس أنها حرف ردع وزجر٤.
وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن٥، وما أحسن ما جاءت في هذه الآية حيث زجرت وردعت ذلك٦ القائل.
والثاني : وهو مذهب النضر بن شميل٧ أنها حرف تصديق بمعنى نعم٨، فيكون جواباً، ولا بد حينئذ من أن يتقدمها شيء لفظاً أو تقديراً، وقد تستعمل في القسم٩.
والثالث١٠ : وهو مذهب الكسائي، وأبي بكر بن١١ الأنباري١٢، " ونصر بن يوسف١٣ " ١٤وابن واصل١٥ أنها بمعنى حقًّا١٦.
والرابع : وهو مذهب أبي عبد الله١٧ محمد بن الباهلي١٨ أنها رد لما قبلها. وهذا قريب من معنى الردع.
الخامس : أنها صلة في الكلام بمعنى " إي " ١٩ كذا قيل. وفيه نظر، فإن " إي " حرف جواب، ولكنه مختص بالقسم.
السادس : أنها حرف استفتاح، وهو قول " أبي حاتم٢٠ ولتقرير هذه المذاهب موضع يليق به.
وقد قرئ هنا بالفتح والتنوين في كَلاَّ " ٢١ هذه، وتروى عن ابن نهيك وحكى الزمخشري هذه القراءة، وعزاها لابن نهيك٢٢ في قوله :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ ﴾٢٣ كما سيأتي٢٤ ويحكى أيضاً قراءةٌ بضم الكاف والتنوين، ويعزيها لابن نهيك أيضاً " ٢٥.
فأما قولهم٢٦ : ابن نهيك، فليس لهم ابن نهيك، إنما لهم أبو نهبك بالكنية٢٧.
وفي قراءة الفتح " والتنوين أربعة أوجه :
أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها تقديره " ٢٨ : كَلُّوا٢٩ كَلاًّ٣٠، أي : أعيُوا عن الحقِّ إعياء، أو كلُّوا عن عبادة الله، لتهاونهم بها من قول العرب : كَلَّ السَّيْفُ، إذا نبا٣١ عن الضرب، وكلَّ زيدٌ٣٢، أي تعِبَ. وقيل : المعنى : كلُّوا في دعواهم وانقطعوا٣٣.
والثاني٣٤ : أنه مفعولٌ به بفعل مقدر من معنى الكلام، تقديره : حُمِّلُوا كلاًّ. والكلُّ أيضاً : الثقل٣٥ : تقول : فلان كلٌّ على الناس، ومنه قوله تعالى :﴿ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ ﴾٣٦.
والثالث : أن " ٣٧ التنوين٣٨ بدل من ألف " ٣٩ " كلاَّ "، وهي التي يراد بها الردع والزجر، فتكون حرفاً أيضاً.
قال الزمخشري : ولقائل أن يقول : إن صحت هذه الرواية٤٠، فهي " كلاَّ " التي للردع " ٤١ قلب٤٢ الواقف عليها ألفها نوناً كما في قوله :﴿ قوارِيرا ﴾٤٣ " ٤٤.
قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد، لأنه قال : التي للردع، " والتي للردع " ٤٥ حرف ولا٤٦، وجه لقلب ألفها نوناً، وتشبيهه٤٧ ب " قَوَارِيراً " ليس بجيد، لأنَّ " قَوَارِيرَ " ٤٨ اسم٤٩ يرجع به إلى أصله، فالنون ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف، وهذا اجمع مختلف فيه أيتحتَّمُ منع صرفه أم يجوز ؟ قولان٥٠.
ومنقول أيضاً : أن٥١ بعض لغة العرب٥٢ يصرفون ما لا ينصرف٥٣، فهذا القول، إما على قول من لا يرى بالتحتم، أو على تلك اللغة٥٤.
والرابع : أنه نعتٌ ل " آلهة "، قاله٥٥ ابن عطية٥٦. وفيه نظر، إذ ليس المعنى على ذلك، وقد يظهر له وجه، " أن يكون وصف٥٧ " الآلهة بالكلِّ الذي هو٥٨ المصدر بمعنى الإعياء والعجز، كأنه قيل : آلهةٌ كالِّين، أي : عاجزين منقطعين. ولمَّا وصفهم وصفهم بالمصدر وحده. وروى٥٩ ابن عطية والداني٦٠ وغيره عن أبي نهيك أنه قرأ٦١ " كُلاًّ " بضم الكاف٦٢ والتنوين٦٣، وفيها تأويلان :
أحدهما : أن ينتصب على الحال، أي : سيكفرون جميعاً٦٤ ؛ كذا قدره أبو٦٥ البقاء، واستبعده٦٦.
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر، يرفضون، أي : يجحدون، أو٦٧ يتركون كلاًّ٦٨، قاله٦٩ ابن عطية٧٠. وحكى٧١ ابن جرير٧٢ أن أبنا نهيك قرأ " كُلُّ " بضم الكاف ورفع اللام منونة على أنه مبتدأ والجملة الفعلية بعده خبره٧٣.
وظاهر عبارة هؤلاء أنه لم يقرأ بذلك إلا في٧٤ " كلاًّ " الثانية٧٥. وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب " ونُمِدُّ " ٧٦ من أمدَّ، وقد تقدم القول في مدَّهُ وأمدَّهُ٧٧.
قوله :﴿ ونَرثهُ ما يقُولُ ﴾. يجوز في " مَا " وجهان :
أحدهما : أن يكون مفعولاً بها٧٨، والضمير في " نَرِثُهُ " منصوب على إسقاط الخافض تقديره : ونرثُ منه " ما يقوله٧٩ " ٨٠.
والثاني : أن يكون بدلاً من الضمير في " نَرِثُهُ " بدل اشتمال٨١. وقدَّر بعضهم مضافاً قبل الموصول، أي : نرثه معنى ما يقول : أو مسمَّى ما يقول، وهو المال والولد، لأن نفس القول لا يورث٨٢. " و " فَرْداً " حال إمَّا مقدرة نحو ﴿ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾٨٣، أو مقارنة، وذلك مبنيٌّ على اختلاف معنى الآية٨٤ " ٨٥.
قوله تعالى :﴿ سَنَكْتبُ ﴾٨٦ سنحفظ ٨٧ " ما يقُولُ " فنُجازيه في الآخرة٨٨.
وقيل : نأمر الملائكة حتى يكتبوا ما يقول. ﴿ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً ﴾ أي : نزيده عذاباً فوق العذاب، وقيل : نطيل عذابه٨٩.
١ في النسختين: ردّا..
٢ في ب: الأول..
٣ في ب: وأبي الحسن والأخفش. وهو تحريف..
٤ قال سيبويه: (وأما كلا فردع وزجر) الكتاب ٤/٢٣٥..
٥ لأن فيها معنى التهديد والوعيد، ولذلك لم تقع في القرآن إلا في سورة مكية، لأن التهديد والوعيد أكثر ما نزل بمكة..
٦ في ب: هذا..
٧ تقدم..
٨ انظر المغني ١/١٨٩..
٩ ومما يشير إلى استعمالها للقسم بهذا قول الفراء في قوله تعالى: ﴿كلا والقمر﴾ كلا: صلة للقسم الذي بعدها، فلا يوقف عليها. كأنه قال: إي والقمر، كما تقول: كلا وربّ الكعبة تريد: إي. وجعلها ابن هشام استفتاحية. انظر المغني ١/١٨٩..
١٠ والثالث: سقط من ب..
١١ ابن: سقط من ب..
١٢ تقدم..
١٣ في بغية الوعاة ٢/٣٧٥: نصر بن يوسف صاحب الكسائي، قال ياقوت: كان نحويا لغويا وفي طبقات القراء ٢/٣٤٠: نصير بن يوسف أخذ القراءة عرضا عن الكسائي، وهو من جلة أصحابه وعلمائهم، وكان ضابطا، عالما بمعنى القراءات ونحوها، ولغتها، مات في حدود ٢٤٠ هـ..
١٤ ما بين القوسين في ب: وأبي يوسف ونصر بن يوسف..
١٥ هو محمد بن أحمد بن واصل أبو العباس البغدادي، مقرئ جليل، إمام متقن ضابط أخذ القراءة سماعا عن أبيه عن اليزيدي، والكسائي، مات سنة ٢٧٣ هـ.
طبقات القراء ٢/٩١..

١٦ فابتدأ بها لتأكيد ما بعدها، فتكون في موضع مصدر، ويكون موضعها نصبا على المصدر، والعامل محذوف والتقدير: أحق ذلك حقا. انظر المغني ١/١٨٩، الهمع ٢/٧٤..
١٧ في ب: عبد الله وأبي عبد الله..
١٨ لعله أبو العلاء، أو أبو يعلى محمد بن أبي زرعة الباهلي من أصحاب المازني، صنف نكتا على كتاب سيبويه، قيل عنه إنه كان أحذق من المبرد، وإنما قل عنه النقل، لأنه عوجل، مات سنة ٢٥٧ هـ.
انظر طبقات الزبيدي (١١٠)، وبغية الوعاة ١/١٠٤، وفيه: ولد مكان مات..

١٩ هذا الرأي أحد استعمالي الرأي الثاني وهو قوله: وقد يستعمل في القسم..
٢٠ وهي على هذا حرف لاستفتاح الكلام لا غير، ولا يستعمل على هذا المعنى إلا في الابتداء بها، ورجحه ابن هشام على رأي النضر بن شميل والفراء، المغني ١/١٨٩، الهمع ٢/٧٥..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ في ب: أبي نهيك..
٢٣ [٨٢ من السورة نفسها]..
٢٤ الكشاف ٢/٤٢٢..
٢٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٦ في ب: قوله..
٢٧ انظر المختصر (٨٦)، والمحتسب ٢/٤٥، تفسير ابن عطية ٩/٥٣١، البحر المحيط ٦/٢١٤..
٢٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٩ في ب: فلو. وهو تحريف..
٣٠ المحتسب ٢/٤٥، التبيان ٢/١٨١، البحر المحيط ٦/٢١٣، المغني ١/١٩٠..
٣١ نبا حد السيف إذا لم يقطع..
٣٢ في ب: زيدا. وهو تحريف..
٣٣ انظر التبيان ٢/١٨١، المغني ١/١٩٠..
٣٤ في ب: الثاني..
٣٥ انظر التبيان ٢/١٨١، المغني ١/١٩٠..
٣٦ [النحل: ٧٦]..
٣٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٨ في ب: وقيل التنوين..
٣٩ في ب: الألف..
٤٠ وهي قول الزمخشري: (وفي محتسب ابن جني "كلا" بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه: كل هذا الرأي والاعتقاد كلا) الكشاف ٢/٤٢٢، والمحتسب ٢/٤٥..
٤١ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٢ في ب: قلنا..
٤٣ من قوله تعالى: ﴿ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدّروها تقديرا﴾ [الإنسان: ١٥، ١٦]..
٤٤ الكشاف ٢/٤٢٢..
٤٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٦ في ب: فلا..
٤٧ في الأًصل: وتشبيها..
٤٨ في ب: قوارير..
٤٩ في الأصل: اسما..
٥٠ أجاز قوم صرف الجمع الذي لا نظير له في الآحاد اختيارا وزعم قوم أن صرف ما لا ينصرف مطلقا لغة. انظر الأشموني ٣/٢٧٥..
٥١ في ب: الأول أنه منقول أيضا وإن..
٥٢ في ب: لغة بعض العرب..
٥٣ انظر شرح الكافية ١/٣٨-٣٩..
٥٤ البحر المحيط ٦/٢١٥..
٥٥ في ب: قال. وهو تحريف..
٥٦ تفسير ابن عطية ٩/٥٣١..
٥٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٨ في ب: على. وهو تحريف..
٥٩ في ب: فصل روى..
٦٠ تقدم..
٦١ في ب: أنه قوى كلامه أي قرئ..
٦٢ في ب: القاف. وهو تحريف..
٦٣ المختصر (٨٦)، تفسير ابن عطية ٩/٥٣١..
٦٤ جميعا: سقط من ب..
٦٥ في ب: وأبو. وهو تحريف..
٦٦ التبيان ٢/٨٨١..
٦٧ في ب: و..
٦٨ كلا: سقط من ب..
٦٩ في ب: كذا قاله..
٧٠ تفسير ابن عطية ٩/٥٣١..
٧١ في ب: القول الثاني حكى..
٧٢ تقدم..
٧٣ جامع البيان ١٦/٩٤..
٧٤ في ب: أن. وهو تحريف..
٧٥ من قوله تعالى: ﴿كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا﴾ [الآية ٨٢ من السورة نفسها]..
٧٦ المختصر (٨٦)، الكشاف ٢/٤٢٢، البحر المحيط ٦/٢١٤..
٧٧ في ب: ومده..
٧٨ بها: سقط من ب..
٧٩ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٦٣، البيان ٢/١٣٥، التبيان ٢/٨٨٢..
٨٠ ما بين القوسين في ب: ما يقولونه..
٨١ انظر التبيان ٢/٨٨٢..
٨٢ انظر الكشاف ٢/٤٢٢..
٨٣ [الزمر: ٧٣]..
٨٤ أي: إذا كان المراد: ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد، فـ "فردا" حال مقدرة. ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حيا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله. فـ "فردا" حال مقارنة. الكشاف ٢/٤٢٢..
٨٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٨٦ في ب: قوله: "كلا سنكتب ما يقول"..
٨٧ في ب: سنحفظه..
٨٨ انظر القرطبي ١١/١٤٨..
٨٩ انظر البغوي ٥/٣٩٨..
و " نَرِثهُ ما يقُولُ " ١ " أي : ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال قوله، وقوله ﴿ مَا يَقُولُ ﴾٢، لأنه زعم أنَّ له مالاً وولداً، أي : لا نعطيه ونعطي غيره، فيكون الإرث راجعاً إلى ما تحت القول لا إلى نفس القول. وقيل : معنى قوله ﴿ ونَرِثهُ ما يقُولُ ﴾ أي : نحفظ ما يقول حتى نجازيه به " ويَأتِينَا فَرْداً " يوم القيامة بلا مالٍ ولا ولد " ٣.
١ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٣٩٩..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٣٩٩..
قوله تعالى :﴿ واتخذوا مِن دُونِ الله ﴾ الآية١. لمَّا تكلَّم في مسألة الحشر٢ والنشر تكلَّم الآن في الرد على عُبَّاد٣ الأصنام فقال :﴿ واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً ﴾ يعني كفار قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها " ليكُونُوا لَهُمْ عِزًّا " أي منعة بحيث يكونون٤ لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك. ثم أجاب الله -تعالى٥- بقوله :
١ الآية: سقط من ب وكتبت الآية كاملة..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٥١..
٣ في ب: عبادة..
٤ في ب: يكونوا. وهو تحريف..
٥ تعالى: سقط من ب..
﴿ كَلاَّ ﴾ ليس الأمر كما زعموا ﴿ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ﴾ أي :" كُلُّهم سيكفُرُون بعبادِة " ١ هذه الأوثان٢.
قوله :﴿ سَيَكْفرُونَ ﴾ يجوز أن يعود الضمير٣ على الآلهة، لأنه أقرب مذكور، ولأن الضمير في " يَكونُونَ " ٤ أيضاً عائد عليهم فقط٥، ومثله ﴿ وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءَهُمْ ﴾ ثم قال ﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾٦.
قيل : أراد بذلك الملائكة، لأنهم يكفرون بعبادتهم " ويتبرءون منهم " ٧ ويخاصمونهم وهو المراد بقوله :﴿ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾٨.
وقيل : إن الله -تعالى- يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبِّخوا عبَّادها ويتبرءوا٩ منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم١٠.
وقيل : الضمير يعود على المشركين، ومثله قوله١١ :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾١٢ إلا أنَّ فيه عدم توافق الضمائر، إذ الضمير في " يَكُونُونَ " عائد إلى الآلهة١٣.
و١٤ " بِعبَادتهِمْ " مصدر مضاف إلى فاعله، إن عاد١٥ الضمير في عبادتهم على المشركين العابدين١٦، وإلى المفعول إن عاد على الآلهة١٧.
قوله :﴿ ضِدًّا ﴾ إنما وحَّده وإن كان خبراً عن جمع لأحد وجهين١٨ : إما لأنه مصدر في الأصل١٩، " والمصادر موحَّدة مذكَّرة، وإمَّا لأنه مفرد في معنى الجمع٢٠.
قال الزمخشري٢١ " : والضِّدُّ : العَوْن، وحِّد توحيد قوله عليه السلام٢٢ :" وهُم يَدٌ على مِنْ سِوَاهُم٢٣ " لاتفاق كلمتهم، وأنَّهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم٢٤. والضَّدُّ : العونُ والمعاونة، ويقال٢٥ : من أضدادكم، أي : أعوانكم.
قيل : سمي٢٦ العونُ ضدًّا، لأنه يضاد من يعاديك وينافيه بإعانته لك٢٧ عليه٢٨.
وفي التفسير : إنَّ الضِّدَّ هنا الأعداء٢٩. وقل : القرن٣٠. وقيل : البلاء٣١. وهذه تناسب معنى الآية.
قيل٣٢ : ذكر ذلك في مقابلة قولهم " عِزًّا "، والمراد ضد العِزّ، وهو الذُّلُّ والهوان، أي : يكونون عليهم ضِدًّا لما قصدوا وأرادوه. كأنه قيل : ويكون عليهم ذلاًّ لهُم٣٣.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٥١..
٣ في ب: أن يكون الضمير عائدا..
٤ في ب: يكون. وهو تحريف..
٥ في ب: عائد عليه ثم فقط..
٦ من قوله تعالى: ﴿وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم إنكم لكاذبون﴾[النحل: ٨٦]. انظر الكشاف ٢/٤٢٢-٤٢٣، البحر المحيط ٦/٢٢٥..
٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٨ من قوله تعالى: ﴿ويوم يحشرهم ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون﴾ [سبأ: ٤٠]. انظر الفخر الرازي ٢١/٢٥١..
٩ في الأصل: ويتبرؤون..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٥١..
١١ في ب: ومنه قولهم..
١٢ من قوله تعالى: ﴿ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين﴾ [الأنعام: ٢٣]. انظر الكشاف ٢/٤٢٢، الفخر الرازي ٢١/٢٥١، البحر المحيط ٦/٢٥١..
١٣ في ب: إذ الضمير يكون عائدا على الآلهة..
١٤ و: سقط من ب..
١٥ في ب: وإن كان..
١٦ ويكون التقدير: سيكفر المشركون بعبادتهم الأصنام. البيان ٢/١٣٦، التبيان ٢/٨٨١..
١٧ ويكون التقدير: سيكفر المشركون بعبادة الأصنام، أو سيكفر الأصنام بعبادتهم المشركين، البيان ٢/١٣٦، التبيان ٢/٨٨١..
١٨ في ب: الوجهين..
١٩ في ب: في الواحد أو الأصل..
٢٠ المصدر موحد لا يثنّى ولا يجمع، لأنه جنس يدل بلفظه على القليل والكثير، فاستغنى عن تثنيته وجمعه، فيخبر به عن المفرد والمثنى والجمع. شرح المفصل ٣/٥٠، شرح التصريح ١/١٥٧..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ في ب: لقوله عليه الصلاة والسلام..
٢٣ أخرجه أبو داود (ديات) ٤/٦٦٦- ٦٦٩، وابن ماجه (ديات) ٢/٨٩٥ وأحمد ١/١٢٢، ٢/١٨٠، ٢١١..
٢٤ الكشاف ٢/٤٢٣..
٢٥ في ب: يقال..
٢٦ في ب: وسمي..
٢٧ في ب: لأنه يضامن يعانيك وتعانيه بإعانتك له. وهو تحريف..
٢٨ انظر الكشاف ٢/٤٢٣، الفخر الرازي ٢١/٢٥١- ٢٥٢..
٢٩ هذا المعنى للضحاك. القرطبي ١١/١٤٨، البحر المحيط ٢١٥٦..
٣٠ في ب: القرآن. وهذا المعنى لقتادة. البحر المحيط ٦/٢١٥..
٣١ انظر القرطبي ١١/١٤٨، البحر المحيط ٦/٢١٥..
٣٢ في ب: وقيل..
٣٣ انظر الكشاف ٢/٤٢٣، الفخر الرازي ٢١/٢٥١..
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا﴾ الآية.
لمَّا ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين﴾ احتج أهل السنة بهذه الآية على أنَّ الله - تعالى - سلَّطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم، ويتأكد هذا بقوله «تؤزُّهُم أزًّا» فإن معناه لتؤزُّهُم أزاً، ويتأكد بقوله: ﴿واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤].
قال القاضي: حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء، بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم، ولا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عيله الشياطين من الإغواء، فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين، وذلك كفر من قائله، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك، لأن عندهم أن ضلالهم من قبله - تعلاى - خلق فيهم الكفر وقدر الكفر، فلا تأثير لما لا يكون من الشياطين. وإذا بطل حمل اللفظ على ظاهره فلا بد من التأويل، فنحمله على أنه - تعالى - خلَّى بين الشياطين وبين الكفار، وما منعهم من إغوائهم، وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة، كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال: أرسل كلبه علينا، وإن لم يرد أذى الناس.
141
وهذه التخلية وإن لم يكن فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون بأن لا يقبوا منهم، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ﴾ قال ابن الخطيب: وهذا لا يمكن حمله على ظاهره، فإنَّ قوله: الشياطين لو أرسلهم الله - تعالى - إلى الكفار «لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين.
قلنا: الله - تعالى - ما أرسل الشياطين إلى الكفار»
بل أرسلهم عليهم، والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه، فأين هذا من الإرسال إليهم.
وقوله: ضلال الكافر من قبل الله - تعالى -، فأي تأثير للشياطين فيه.
قلنا: لِمَ لا يجوز أن سماع الشياطين إياه تلك الوسوسة بوجب في قلبه الضلال بشرط سلامة فهم السامع، لأن كلام الشياطين «من خلق الله - تعالى - فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان، وإلى الله - تعالى - من هذين الوجهين. وقوله: لِمَ لا يجوز أن يكن الإرسال التخلية.
قلنا: كما خلَّى بين الشياطين والكفرة»
فقد خلَّى بينهم وبين الأنبياء، ثم إنه - تعالى - خص الكافر بأنه أرسل الشياطين عليه، فلا بد من فائدة زائدة ههنا.
ولأن قوله «تؤزُّهُمْ أزًّا» أي: تحركهم تحريكاً شديداً، فالغرض من ذلك الإرسال موجب أن يكون ذلك الأزُّ مراداً لله - تعالى - إذ يحصل المقصود منه.
قوله: «أزًّا» مصدر مؤكد. والأزُّ، والأزيزُ، والاستفزاز. قال الزمخشري: أخوات وهو التهيج وشدة الإزعاج، أي: تغريهم على المعاصي، وتهيجهم لها بالوساوس.
قال ابن عباس: «تَؤزُّهُمْ أزًّا» أي: تزعجهم في المعاصي إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية.
142
والأزُّ أيضاً: شدة الصوت، ومنه: أزَّ المِرْجَلُ أزًّا وأزيزاً، أي: غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت، وفي الحديث «فكَان له أزيزٌ» أي للجذع حين فارقه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: لا تعجل بطلب عقوبتهم، يقال: عجلت عيله بكذا إذا استعجلت منه «إنَّا نعدُّ لهُمْ عدًّا».
قال الكلبي: يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام.
وقيل: الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم.
وقيل: نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها.
وقيل: نَعُدُّ الأوقات، أي: الوقت الأجل المعين «لكل أحد» الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان.
قوله: «يَوْمَ نَحشُرُ» منصوب ب «سَيَكْفُرون»، أو ب «يَكونُونَ» عليْهِمْ ضدًّا «أو ب» نَعُد «لأن» نَعُدُّ «تضمن معنى المجازاة، أو بقوله:» لا يَمْلِكُونَ «الذي بعده، أو بمضمر وهو» اذكُرْ «أو» احْذَرْ «.
وقيل: هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل:»
متى يكون ذلك؟ فقيل «: يكون يوم نحشر.
وقيل: تقديره: يوم نحشر ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف.
قوله:»
وفداً «نصب على الحال، وكذا» ورْداً «.
143
والوَفْدُ: الجماعة الوافدون، يقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً وفَادَةً، أي: قدم على سبيل التكرمة، فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف.
وقال أبو البقاء: وفد جمع وافد مثل راكب ورَكْب، وصاحب وصَحْب.
وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه. وأجازه الأخفش.
فأمَّا رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها، قال:
٣٦٢٥ - أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً عَاديَا... فإن قيل: لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي.
فالجواب: أنه قال بعد قوله هذا: والوِرْد اسم لجمع وارد. فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع. والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين للماء، وهو أيضاً في الأصل مصدر أطلق على الأشخاص، يقال: وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً، قال الشاعر:
٣٦٢٦ - رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمًّا كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدَ الْمَا
وقال أبو البقاء: هو اسم لجمع وارد،» وقيل: هو بمعنى وارد «وقيل: هو محذوف من وراد، وهو بعيد. يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل. وقرأ الحسن والجحدري» يُحْشَرُ المتَّقُونَ «» ويُسَاقُُ المُجْرِمُون «على ما لم يسم فاعله.
144

فصل


قال المفسرون: اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفْداً، أي جماعات، جمع وافد مثل راكب ورَكْب وصاحب وصَحْب. وقال ابن عباس: رُكْبَاناً: وقال أبو هريرة: على الإبل.
وقال علي بن أبي طالب - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» -: ما يُحْشَرون والله على أرجلهم، ولكن على نوق رجالها الذهب، ونجائب سروجها ياقوت إن هموا بها سارت وإنْ همُّوا طارت. ﴿وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ أي: مُشاة، وقيل: عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش.
وقوله «ونَسُوق المجرمينَ» يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم عطاش تساق إلى الماء، والوِرْدُ للعطاش وحقيقة الوِرْد الميسرُ إلى الماء، فسمي به «الواردون».

فصل


طعن الملاحدة في قوله: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن﴾ فقالوا: هذا إنما يستقيم أن لو كان الحشر عند غير الرحمن، أما إذا كان الحشر عند الرحمن، فهذا الكلام لا ينتظم. وأجاب المسلمون: بأنَّ التقدير: يوم نحشرُ المتقِّين إلى محلِّ كرامةِ الرحمن.
قوله: «لا يَمْلِكُون» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك.
والثاني: أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم.
وفي هذه الواو قولان:
أحدهما: أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة، وإنما هي علامة، كهي في لغة
145
أكلُوني البراغيثُ والفاعل «من اتَّخَذَ» لأنه في معنى الجمع قاله الزمخشري وفيه بعدٌ، وكأنه قيل: لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً.
قال أبو حيَّان: ولا ينبغي حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة، مع وضوح جعل الواو ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: إنَّها لغةٌ ضعيفة.
قال شهابُ الدين: قد قالوا ذلك في قوله: ﴿عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣] فلهذا الموضع بهما أسوة. ثم قال أبو حيان: وأيضاً فالألف، والواو، والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع، وصريح التثنية، «أو العطف»، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع.
146
والثاني: أن الواو ضميرٌ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه:
أحدها: أنها تعود على الخلق جميعهم، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم، إذ هما قسماه.
والثاني: أنه يعود على المتقين والمجرمين، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً. لأن هذين القسمين الخلقُ كلُّه.
والثالث: أنَّه يعوج على المتقين فقط، أو المجرمين فقط، وهو تحكُّم.
قوله: «إلاَّ من اتَّخَذَ» هذا الاستثناء يترتب على عود الواو على ماذا؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق، أو على الفريقين المذكورين «أو على المتقين فقط».
فالاستثناء حينئذ متصل، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدا، وإما النصب على أصل الاستثناء. وإن قيل: إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً، وفيه حينئذ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجاز التزام النصب، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل «كالمتصل». وجعل الزمخشري هذا الاستثناء
147
من الشفاعة على وجهي البدل وأصل الاستثناء نحو: ما رأيت أحداً إلا زَيْداً.
وقال بعضهم: إن المستثنى منه محذوف، والتقدير: لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً، فحذف المستثنى «منه للعلم» به، فهو كقول الأخرِ:
٣٦٢٧ - نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا
أي: ولَمْ يَنْجُ بشيءٍ.
وجعل ابنُ عطية الاستثناء متصلاً، وإن عاد الضمير في «لا يَمْلِكُون» على المجرمين فقط على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين. قال أبو حيان: وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد. قال شهاب الدين: ولا بعد فيه، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه.

فصل


قال بعضهم: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون.
وقال آخرون: لا يملك غيرهم أن يشفع لهم. وهذا أولى، أن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح. وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة أهل الكبائر. لأنه قال عقيبه «إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً»، والتقدير: لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً، يعني للمؤمنين «، كقوله: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨] فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو التوحيد، فوجب دخوله تحته، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام -» قال لأأصحابه يوماً: «أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء» عند الرَّحمن عهداً «قالوا: وكيف ذلك؟ قال:» يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء «: اللَّهُمَّ فاطرَ
148
السَّمواتِ والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ، وأنَّ مُحَدَّداً عبدُكَ ورسُولَك، فإنَّك إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر، وتُباعدني من الخَيْرِ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد. فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع تحت العرش، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ: أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة».
فظهر أن المراد من العد كلمة الشهادة، وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة أهل الكبائر.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾ تقدم خلافُ القراء في قوله «ولداً» بفتح اللام وسكونها، وأنهما لغتان مثل العَرَبِ والعُرْبِ والعَجَم والعُجْم.
واعلم أنَّه لمَّا ردَّ على عبدة الأوثان عاد إلى الرَّد على من أثبت له ولداً.
فقالت اليهود: عزيزٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بناتُ الله. وههنا الرد على الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وهم العرب الذين يعبدون الأوثان، لأن الرد على النصارى تقدم أول السورة.
قوله: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾. العامة على كسر الهمزة من «إدَّا»، وهو الأمر العظيم المنكر المتعجب منه. قاله ابن عباس. «وقال مجاهد: عظيماً» وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخرَّجوه على حذف مضاف، أي شيئاً أدَّ «لأنَّ
149
الأدَّ - بالفتح - يقال: أدَّ الأمر وأدَّني يؤدِّنِي أدَّا. أي: أثقلني.
وكان أبو حيان ذكر: أنَّ الأدَّ والإد - بفتح الهمزة وكسرها - هو العجب، وقيل:» هو العظيم المنكر، والإدَّة: الشدَّة. وعلى قوله: إنَّ الأدّ والإدّ بمعنى واحد ينبغي أن لا يحتاج إلى حذف مضاف «إلا أن يريد أنَّه أراد بكونهما بمعنى العجب في المعنى لا في المصدرية وعدمها، والإدَد في كلام العرب الدواهي.
قوله:»
تَكَادُ «. قرأ نافع والكسائي بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق وهما واضحتان، إذ التأنيث مجازي. وكذا في سورة الشورى.
وقرأ أبو عمرو: وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة»
يَنْفَطْرن «مضارع انفطرَ، لقوله تعالى: ﴿إِذَا السمآء انفطرت﴾ والباقون:» يتفَطّرْن «» مضارع تفطَّر «بالتشديد في هذه السورة، وأما التي في الشورى فقرأها حمزة وابن عامر بالياء والتاء وتشديد الطاء. والباقون على أصولهم في هذه السورة. فتلخص من ذلك أن أبا بكر وأبا عمرو يقرآن بالياء والنون في السورتين. وأن نافعاً وابن كثير والكسائي وحفصاً عن عاصم يقرءون بالياء والتاء وتشديد الطاء فيهما، وأن حمزة وابن عامر في هذه السورة بالياء والنون، وفي الشورى بالياء وتشديد الطاء» فالانفطار من فطرهُ إذا شقه، «والتفطُّر إذا شقَّقهُ»، وكرر فيه الفعل.
150
قال أبو البقاء: وهو هنا أشبه بالمعنى، أي: التشديد.
و «يَتَفَطَّرْنَ» في محل نصب «خبراً ل» كَانَ «وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة، وأنشد:
٣٦٢٨ - كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرَادةٍ لَوْ عَادَ مِنْ زمنٍ الصِّبابةِ مَا مَضَى

فصل


يقال: انفطر الشيء وتفطَّر أي تشقَّق. وقرأ ابن مسعود»
يتصَدَّعْنَ «.
و»
تَنْشَقُّ الأرْضُ «أي تخسفُ بهم، والانفطار في السماء، أي: تسقط عليهم.
»
وتخُرُّ الجِبَالُ هدَّاً «أي: تُهَدُّ هَداً، بمعنى» تنطبق عليهم.
فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ فالجوابُ من وجوه:
«الأول: أنَّ الله - تعالى - يقول: كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود» هذه الكلمة غضباً منِّي على من تفوَّه بها، لولا حلمي، وإني لا أعجِّل بالعقوبة، كقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [فاطر: ٤١].
الثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة، وتهويلاً من فظاعتها، وهدمها لأركان الدين وقواعده.
الثالث: أنَّ السمواتِ والأرضِ والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من
151
غلظ هذا القول، وهذا تأويل أبي مسلم.
الرابع: أنَّ السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب، فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها.
قوله: «هدَّا» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه مصدر وفي مضع الحال، أبي: مهدودة، وذلك على أن يكون هذا المصدر من هدَّ زيدٌ الحائط يهدُّه هدَّا، أي: «هدمهُ».
والثاني: وهو قول أبي جعفر: أنه مصدر على غير المصدر لما كان في معناه، لأن الخرور: السقوطُ والهدمُ، وهذا على أن يكون من هدَّ الحائطُ يَهِدُّ - بالكسر - انهدم، فيكون لازماً.
الثالث: أن يكون مفعولاً من أجله، قال الزمخشري: أي: لأنها تهد.
قوله: «أنْ دَعَواْ» في محله همسة أوجه:
أحدها: أنه في محل نصب على المفعول من أجله، قاله أبو البقاء،
152
والحوفي، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه، ويجوز أن يكون العامل «تَكَادُ»، أو «تَخُرُّ»، أو «هَدَّا»، أي: تَهُدُّ لأن دعوا، ولكن شرطُ النصب هنا مفقود، وهو اتحاد «الفاعل في المفعول له والعامل فيه، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في» أنْ «فقريب». وقال الزمخشري: وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام «وإفضاء الفعل، أي هدَّا أن دعوا»، علل الخرور بالهدِّ، والهدُّ بدعاء الولد للرحمن.
فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط الخافض. «وليس مفعولاً له صريحاً».
الوجه الثاني: أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض «كما هو مذهب الخليل والكسائي.
والثالث: أنه بدل من الضمير في»
مِنْهُ «كقوله:
٣٦٢٩ - عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً عَلى جُودهِ لضن بالمَاءِ حاتمِ
»
153
بجر «حاتم» الأخير بدلاً من الهاء في «جوده».
قال أبو حيان: وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين.
الوجه الرابع: أن يكون مرفوعاً ب «هَدَّا». قال الزمخشري: أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن. قال أبو حيان: وفيه بعدٌ، لأن الظاهر في «هَدَّا» أن يكون مصدراً توكيدياً، والمصدر التوكيدي لا يعمل، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً، وأضربا زيداً؟ على خلاف فيه، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري، أي: هدَّها دعاء الولد للرحمن.
فلا ينقاس، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرئ القيس:
٣٦٣٠ - وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ يقُولونَ لا تَهْلَكْ أسّى وتجمَّلِ
أي: وقَفَ صَحْبِي.
الخامس: أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: الموجب لذلك دعاؤهم. كذا قدره أبو البقاء. و «دَعَا» يجوز أن يكون بمعنى سمَّى، فيتعدى لاثنين، ويجوز جر ثانيهما بالباء، قال الشاعر:
154
٣٦٣١ - دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ
دَعَتْنِي أخَاهَا «بَعْدَمَا كَانَ بَيْنَنَا مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ»
وقول الآخر:
٣٦٣٢ - ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ
وأولهما في الآية محذوف، قال الزمخشري: طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد، ويجوز أن يكون من «دَعَا» بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله - عليه السلام -: «مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ»، وقول الشاعر:
٣٦٣٣ - إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا
لأي: لا ننتَسِبُ إليه.
«يَنْبَغِي» مضارع انْبَغَى، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى، أي: طلب، و «أنْ يتَّخِذَ» فاعله. وقد عد ابن مالك «يَنْبَغِي» في الأفعال التي لا تتصرف.
وهو مردودٌ عليه، لأنه قد سُمِعَ فيه الماضي قالوا: انْبَغَى. وكرَّر لفظ «الرَّحْمَنِ» تنبيهاً على أنه - تعالى - هو الرحمنُ وحدهُ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه.
155

فصل


قال ابن عباس وكعب: فَزِعَت السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكةُ، واستعرت جهنم حين قالوا: لله ولدٌ، ثم نفى الله - تعالى - عن نفسه فقال: «وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً» أي: ما يليق به «اتِّخاذُ الولد»، لأنة ذلك محال؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها، وأما التبني، فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد، ولا شبيه لله - تعالى -، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور، أو استعانةٍ، أو ذكرٍ جميلٍ، وكلُّ ذلك لا يصح في الله - تعالى -.
قوله: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض﴾. يجوز في «مَنْ» أن تكون نكرة موصوفة، وصفتها الجار بعدها، ولم يذكر أبو البقاء غير ذلك، وكذا الزمخشري إلا أن ظاهر عبارته تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك، فإنه قال: «مَنْ» موصوفة فإنها وقعت بعد «كُل» «نكرة أشبهت وقوعها بعد» رُبَّ «في قوله:
٣٦٣٤ - ربَّ مَنْ أنْضِجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ... انتهى «.
ويجوز أن تكون موصولة. قال أبو حيان: ما كُل الذي في السموات، و»
كلُّ «تدخل على الذي، لأنها تأتي للجنس كقوله - تعالى -: ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: ٣٣] ونحوه:
٣٦٣٥ -»
156
وكُلُّ الذي «حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ... يعني أنه لا بد» من تأويل «الموصول بالعموم حتى تصح إضافة» كُل «إليه، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص استحال إضافة» كُلّ «إليه.
و»
آتِ الرَّحْمَنِ «خبر» كل «جعل مفرداً حملاً على لفظها، ولو جمع لجاز، وقد تقدم أول الكتاب: أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان. وقد تكلم السهيلي في ذلك فقال:» كُلُّ «إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني لمعرفة فلا يحسن إلا أفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول: كُلكم ذاهب، أي: كل واحد» منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح. فإن قلت في قوله: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ﴾ : إنما هو حمل على اللفظ، لأنه اسم مفرد. قلنا: بل هو اسم للجمع، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول: القوم ذاهبُون، ولا تقول: ذاهب، وإن كان لفظ «القَوْم» لفظ المفرد، وإنما حسن «كُلكُم ذاهِبٌ» لأنهم يقولون: كل واحد منكم ذاهب، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى.
قال أبو حيان: ويحتاج «كُلكُم ذاهِبُون» ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب.
قال شهاب الدين: وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح بل ذلك
157
حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى.
وقال أبو البقاء: ووحد «آتِي» حملاً على لفظ «كُل»، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها.
قال شهاب الدين: قوله: في موضع آخر. إن عني في القرآن فلم يأت الجمع إلا و «كُل» مقطوعة عن الإضافة نحو ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧]، وإن عني في فيحتاج إلى سماع عن العرب كما تقدم.
والجمهور على إضافة «آتي» إلى «الرَّحمَن».
وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنويه ونصب «الرَّحْمَن» وانتصب «عَبْداً» و «فَرْداً» على الحال.

فصل


المعنى: أن كل معبود من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا ياتي الرحمن يلتجئ إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد. ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة.
والأول أولى، لأنه لا تخصيص فيه.
﴿لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾ أي: عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم، فكلهم تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم، ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ﴾ أي: كل واحد منهم يأتيه ﴿يَوْمَ القيامة فَرْداً﴾ وحيداً ليس معه من الدنيا شيء «ويبرأ المشركون منهم».
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ إلى آخر السورة.
158
لمَّا ردَّ على الكفرة، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين. قوله: «وُدَّا» العامة على ضم الواو. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن حبيش بكسرها. فيحتمل أن يكون المفتوح مصدراً، والمكسور والمضموم اسمين.
قال المفسرون: سَيَجْعَلُ لهُم الرَّحمنُ محبةً، قال مجاهد: يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام -:» قَدْ أحبَّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبه أهلُ السَّماء، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ، وإذا أبغضَ العبد «قال مالك: لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك. والسِّين في» سَيَجِعَلُ «إما لأن السورة مكية، وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام.
والمعنى: سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة. وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم. روي عن كعب قال: مكتوب في التوراة لا
159
محبَّة في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله - تعالى - ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض. وتصديق ذلك في القرآن قوله: ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾. وقال أبو مسلم: معناه يهبُ لهم ما يحبون. والوُدُّ والمحبَّةُ سواء، يقال: آتيتُ فلاناً محبته، وجعلت له ودَّه، ومن كلامهم: يَوَدُّ لو كان كذا،» وودتُ أن لو كان كذا أي أحببتُ «، فالمعنى: سيعطيهم الرحمن ودَّهم، أي: محبوبهم في الجنة.
والقول الأول أولى، لتفسير الرسول - عليه السلام -، ولأن حمل المحبة على المحبوب مجاز،»
ولأن رسول الله قرأ هذه الآية وفسَّرها بذلك فكانت أولى «.
قال أبو مسلم: القول الثاني أولى لوجوه:
أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم التقي يبغضه الكفار، وقد يبغضه كثير من المسلمين.
وثانيها: أنَّ مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين؟
وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أنَّ الله - تعالى - فعله، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى.
وأجيب عن الأول: بأن المراد يجعل له محبة عند الملائكة والأنبياء.
وعن الثاني: ما روي عنه - عليه السلام -: أنه حكى عن ربه - سبحانه وتعالى - أنه قال:»
وإذا ذكرني عَبْدي في نفسه ذكرتُهُ «في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرنِي) في ملأ ذكرتهُ في ملأ أطيب منهم وأفضل» والكافر والفاسق ليسا كذلك.
وعن الثالث: أنه محمول على فعل الألطاف، وخلق داعية إكرامه في قلوبهم.
160
قوله: «بِلِسَانِكَ» يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال، واللسان هنا اللغة، أي: أنزلناه كائناً بلسانِكَ.
وقيل: هي بمعنى «على»، وهذا لا حاجة إليه، بل لا يظهر له معنى، «ولُدَّا» جمع «ألَدَّ»، وهو الشديد الخصومة كالحُمْر جمع أحْمَرٍ.
قال أهل اللغة: اللُّدُّ جمع الألَدّ، وهو المعوج في المناظرة الرواغ من الحق الميال عنه، وفي الحديث «إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الخَصْمُ الألَدُّ» أي المعوج «قوله:» يَسَرْنَاهُ «سهلناهُ يعني القرآن» بِلِسَانِكَ «يا محمد» لِنُبَشِّر به المتَّقِين «يعني المؤمنين، وهذا كلام مستأنف» بيَّن به عظيم «موقع هذه السورة لما فيها من ذكر التوحيد والنبوة والحشر، والرد على فرق المبطلين، فبين - تعالى - أنَّه يسَّر ذلك بلسانه، ليبشر وينذر، ولولا أنه - تعالى - نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسَّر لك على الرسول. وكما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ، وهو الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه فقال:» ويُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدَّا «، وهو جمع الألد،» وهو الشديد الخصومة. وقال مجاهد: هو الظالم الذي لا يستقيم. وقال أبو عبيدة الألد «الذي لا يقبل الحقَّ ويدَّعي الباطل. وق الحسن: الألد الأصم عن الحق.
161
ثم ختم السورة بموعظةٍ بليغة فقال:» وكمْ أهْلَكٍنَا قبلهُمْ مِنْ قرنٍ «لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا، وأنه لا بد فيها من الموت خافوا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب، ثم أكد تعالى ذلك فقال: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾. قرأ الناس بضم التاء وكسر الحاء من أحسَّ.
وقرأ أبو حيوة، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة»
نَحُسُّ «» بفتح التاء وضم الحاء «وقرأ بعضهم:» تَحِس «بالفتح والكسر، من حسَّه: أي شعر به، ومنه الحواس الخمس. و» مِنْهُم «حال من» أحَد «، إذ هو في الأصل صفة له. و» مِنْ أحَد «مفعول زيدت فيه» مِنْ. وقرأ حنظلة «تُسْمَعُ» بضم التاء وفتح الميم مبنياً للمفعول. و «رِكْزاً» مفعول على كلتا القارءتين، إلا أنه مفعول ثان في القراءة «الشاذة». والرَِّكْزُ: الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، «ومنه ركز الرمح أي غيب طرفه في الأرض وأخفاه، ومنه الرِّكاز، وهو المال المدفون لخفائه واستتاره، وأنشدوا:
162

فصل


قال المفسرون:» هّلْ تُحِسُّ «، وقيل: هل تجد.
»
مِنْهُم مِنْ أحَدٍ «، لأنَّ الرسول - عليه السلام - إذا لم يحسّ منهم أحداً برؤية وإدراك ووجدان، ولا يسمع لهم ركزاً، أي: صوتاً خفياً دلَّ ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية.
قال الحسن: بادوا جميعاً، يبق عين ولا أثر.
روى الثعلبي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا، ويحيى، وعيسى، وموسى، وهارون، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا لله ولداً، وبعدد من لم يدع له ولداً «.
163
سورة طه
(مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية، وعدد كلماتها ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة، وعدد حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا)
164
قوله :﴿ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي : لا تعجل بطلب عقوبتهم، يقال : عجلت عليه١ بكذا إذا٢ استعجلت منه " إنَّا نعدُّ لهُمْ عدًّا ".
قال الكلبي : يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام٣.
وقيل : الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم٤.
وقيل : نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها٥.
وقيل : نَعُدُّ الأوقات، أي : الوقت٦ الأجل المعين " لكل أحد " ٧ الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان٨.
١ في ب: عليهم..
٢ في ب: إذا ما..
٣ انظر البغوي ٥/٤٠٠..
٤ المرجع السابق..
٥ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٥٣..
٦ في ب: وقت..
٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٨ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٥٣..
قوله :﴿ يَوْمَ نَحشُرُ ﴾ منصوب ب " سَيَكْفُرون "، أو ب " يَكونُونَ " عليْهِمْ ضدًّا " أو ب " نَعُد ١ " ٢ لأن " نَعُدُّ " تضمن معنى المجازاة، أو بقوله :﴿ لا يَمْلِكُونَ ﴾٣ الذي بعده، أو بمضمر وهو " اذكُرْ " أو " احْذَرْ " ٤.
وقيل : هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل :" متى يكون ذلك ؟ فقيل " ٥ : يكون يوم نحشر٦. وقيل : تقديره : يوم نحشر ونسوق : نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف١.
قوله٢ :﴿ وفداً ﴾ نصب على الحال٣، وكذا " ٤ ورْداً ".
والوَفْدُ : الجماعة الوافدون، يقال : وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً وفَادَةً، أي : قدم على سبيل التكرمة٥، فهو٦ في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف.
وقال أبو البقاء : وفد٧ جمع وافد مثل راكب ورَكْب، وصاحب وصَحْب٨.
وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه٩، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه. وأجازه الأخفش١٠.
فأمَّا١١ رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها، قال :
أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً١٢ عَاديَا١٣ ***. . .
فإن قيل : لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي.
فالجواب : أنه قال بعد قوله هذا : والوِرْد اسم لجمع وارد١٤. فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع. والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين١٥ للماء، وهو أيضاً في الأصل١٦ مصدر أطلق١٧ على الأشخاص، يقال : وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً١٨، قال الشاعر :
رِدِي رِدِي١٩ وِرْدَ قَطَاةٍ صَمًّا *** كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدَ الْمَا٢٠
وقال أبو البقاء : هو اسم لجمع وارد، " وقيل : هو بمعنى وارد " ٢١ وقيل : هو محذوف من وراد، وهو بعيد٢٢. يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل. وقرأ الحسن والجحدري " يُحْشَرُ المتَّقُونَ " ٢٣ " ويُسَاقُُ المُجْرِمُون " على ما لم يسم فاعله٢٤.

فصل


قال المفسرون : اذكر لهم يا محمد٢٥ اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفْداً، أي جماعات، جمع وافد مثل راكب ورَكْب وصاحب وصَحْب. وقال ابن عباس : رُكْبَاناً : وقال أبو هريرة : على الإبل.
وقال علي بن أبي طالب- " رضي الله عنه " ٢٦ - : ما يُحْشَرون والله على أرجلهم، ولكن على نوق رجالها الذهب، ونجائب سروجها ياقوت٢٧ إن هموا بها سارت وإنْ همُّوا طارت.
١ انظر البيان ٢/١٣٦، التبيان ٢/٨٨٢، البحر المحيط ٦/٢١٦..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ من الآية (٨٧). انظر الكشاف ٢/٤٣٤، البيان ٢/١٣٦، التبيان ٢/٨٨٢، البحر المحيط ٦/٢١٦..
٤ انظر الكشاف ٢/٤٢٣، تفسير ابن عطية ٩/٥٣٣-٥٣٤، التبيان ٢/٨٨٢، البحر المحيط ٦/٢١٦..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٦ انظر البحر المحيط ٦/٢١٦..
ت٨٥
﴿ وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً ﴾ أي : مُشاة، وقيل : عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش٢٨.
وقوله ﴿ ونَسُوق المجرمينَ ﴾ يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم عطاش تساق إلى الماء، والوِرْدُ للعطاش٢٩ وحقيقة الوِرْد الميسرُ إلى الماء، فسمي به " الواردون٣٠ " ٣١.

فصل


طعن الملاحدة٣٢ في قوله :﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن ﴾ فقالوا : هذا إنما يستقيم أن لو كان الحشر عند غير الرحمن٣٣، أما إذا كان الحشر عند الرحمن، فهذا الكلام لا ينتظم. وأجاب المسلمون : بأنَّ التقدير : يوم نحشرُ المتقِّين إلى محلِّ كرامةِ الرحمن.
٢٨ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٤٠٠-٤٠٢..
٢٩ في ب: والوارد للعطش..
٣٠ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٥٣...
٣١ ما بين القوسين في ب: الواردين..
٣٢ في ب: الملحدون..
٣٣ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٥٣..
قوله :﴿ لا يَمْلِكُون ﴾ في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها١ مستأنفة سيقت للإخبار٢ بذلك٣.
والثاني : أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم٤.
وفي هذه الواو٥ قولان :
أحدهما : أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة٦، وإنما هي علامة، كهي في لغة٧ أكلُوني البراغيثُ٨ والفاعل " من اتَّخَذَ " لأنه٩ في معنى الجمع قاله١٠ الزمخشري١١ وفيه بعدٌ، وكأنه قيل : لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً١٢.
قال أبو حيَّان : ولا ينبغي١٣ حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة، مع وضوح جعل الواو ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن١٤ عصفور١٥ : إنَّها لغةٌ ضعيفة١٦.
قال شهابُ الدين : قد قالوا١٧ ذلك في قوله :﴿ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾١٨ ﴿ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ ﴾١٩ فلهذا الموضع بهما أسوة٢٠. ثم قال أبو حيان : وأيضاً فالألف، والواو، والنون التي تكون٢١ علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع، وصريح٢٢ التثنية، " أو العطف " ٢٣، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى٢٤، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل٢٥، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع٢٦.
والثاني : أن الواو ضميرٌ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه :
أحدها٢٧ : أنها تعود على الخلق جميعهم، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم، إذ هما قسماه٢٨.
والثاني : أنه٢٩ يعود على المتقين والمجرمين٣٠، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً. لأن هذين القسمين هما٣١ الخلقُ كلُّه.
والثالث : أنَّه يعوج على المتقين فقط، أو المجرمين فقط، وهو تحكُّم.
قوله :﴿ إلاَّ من اتَّخَذَ ﴾ هذا الاستثناء يترتب على عود الواو٣٢ على ماذا٣٣ ؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق، أو على الفريقين المذكورين " أو على المتقين فقط " ٣٤.
فالاستثناء حينئذ متصل، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدل، وإما النصب على أصل٣٥ الاستثناء٣٦. وإن٣٧ قيل : إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً، وفيه حينئذ٣٨ اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجاز التزام النصب، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل " كالمتصل٣٩ ". وجعل٤٠ الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل٤١ الاستثناء نحو : ما رأيت أحداً إلا زَيْداً٤٢.
وقال بعضهم : إن المستثنى منه٤٣ محذوف، والتقدير : لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً، فحذف المستثنى " منه للعلم " ٤٤ به، فهو كقول الأخرِ :
٣٦٣٦ - فَتَوجَّسَتْ رَكْزَ الأنيسِ فَراعَها عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ، والأنيسُ سَقامُهَا
نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا٤٥
أي : ولَمْ يَنْجُ بشيءٍ.
وجعل٤٦ ابنُ عطية الاستثناء متصلاً، وإن عاد الضمير في " لا يَمْلِكُون " على المجرمين فقط٤٧ على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين٤٨. قال أبو حيان : وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد٤٩. قال شهاب الدين : ولا٥٠ بعد فيه، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه٥١.

فصل٥٢


قال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون٥٣.
وقال آخرون : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم. وهذا أولى، لأن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح٥٤. وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر. لأنه قال عقيبه " إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً "، والتقدير : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً، يعني للمؤمنين " ٥٥، كقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى ﴾٥٦ فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو التوحيد، فوجب دخوله تحته، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام٥٧- " قال لأصحابه يوماً :٥٨ " أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء " عند الرَّحمن عهداً " قالوا : وكيف ذلك ؟ قال :" يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء " ٥٩ : اللَّهُمَّ فاطرَ السماوات والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي٦٠ أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ٦١، وأنَّ مُحَمداً عبدُكَ ورسُولَك، فإنَّك٦٢ إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر، وتُباعدني من الخَيْرِ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد. فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع٦٣ تحت العرش، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ : أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد ؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة " ٦٤.
فظهر أن المراد من العهد كلمة٦٥ الشهادة، وظهر٦٦ وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر.
١ أنها: سقط من ب..
٢ في ب: بالإخبار..
٣ انظر البحر المحيط ٦/٢١٧..
٤ انظر التبيان ٢/٨٨٢..
٥ أي: الواو في قوله: "يملكون"..
٦ ألبتة: سقط من ب..
٧ في ب: قوله. وهو تحريف..
٨ هي لغة طيىء، أو أزد شنؤة، أو بلحارث، والمقصود بهذه اللغة أن بعض العرب تلحق الفعل علامة تدل على تثنية الفاعل أو جمعه نحو: قاما المحمدان، وقاموا المحمدون، وقمن الهندات، فالألف والواو والنون حروف تدل على تثنية الفاعل وجمعه وليست ضمائر، كما كانت التاء في (قامت هند) حرفا تدل على التأنيث عند جميع العرب وهذه اللغة يسميها النحويون لغة (أكلوني البراغيث).
المغني ٢/٣٦٥، الهمع ١/١٦٠..

٩ في ب: لأن..
١٠ في ب: قال..
١١ الكشاف ٢/٤٢٣-٤٢٤..
١٢ في ب: لا يملك الشفاعة إلا من أي إلا المتخذ عهدا..
١٣ ولا ينبغي: سقط من ب..
١٤ بن: سقط من ب..
١٥ تقدم..
١٦ قال ابن عصفور: (وبعض العرب يلحق الفعل علامة تدل على تثنية الفاعل وجمعه، وهي لغة ضعيفة).
شرح جمل الزجاجي ١/١٦٧. وانظر البحر المحيط ٦/٢١٧..

١٧ في ب: قال..
١٨ [المائدة: ٧١]..
١٩ [الأنبياء: ٣]..
٢٠ الدر المصون : ٥/١٦..
٢١ في ب: فالألف واللام والواو تكونون. وهو تحريف..
٢٢ في ب: أو بصريح. وهو تحريف..
٢٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٤ في ب: أو لمثنى. وهو تحريف..
٢٥ قال ابن هشام ردا على منع أبي حيان أن يقال على هذه اللغة: جاءوني من جاءك لأنها لم تسمع إلا مع ما لفظه جمع: (وأقول: إذا كان سبب دخولها بيان أن الفاعل الآتي جمع كان لحاقها هنا أولى، لأن الجمعية خفية) المغني ٢/٣٧٦..
٢٦ البحر المحيط ٦/٢١٧..
٢٧ في ب: الأول..
٢٨ انظر البحر المحيط ٦/٢١٧..
٢٩ في ب: أنها..
٣٠ انظر البحر المحيط ٦/٢١٧..
٣١ في ب: هو. وهو تحريف..
٣٢ في ب: هذا الاستثناء يعود على الواو..
٣٣ يريد على أي شيء يكون مرجع الضمير، وهذا أحد أوجه استعمال (ماذا)، وتكون كلها مركبة وهي اسم جنس بمعنى شيء، أو اسم موصول بمعنى (الذي) على الخلاف في تخريج قول الشاعر:
دعـــي مــاذا عـــلمــت سأتقيــه ولـكن بالمـغيّب نبّئــينـي
فالجمهور على أنّ (ماذا) كله مفعول (دعي) ثم اختلف، فقال السيرافي وابن خروف (ما) موصول بمعنى (الذي)، وقال الفارسي نكرة بمعنى شيء قال: لأن التركيب ثبت في الأجناس دون الموصولات، انظر المغني ١/٣٠١..

٣٤ أصل: سقط من ب..
٣٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٦ وذلك أن المستثنى في الاستثناء المتصل إذا كان الكلام تاما غير موجب جاز فيه إتباعه للمستثنى منه في إعرابه على أنه بدل بعض من كل عند البصريين، وعطف نسق عند الكوفيين لأن (إلاّ) عندهم من حروف العطف في باب الاستثناء، وهي عندهم بمنزلة (لا) العاطفة في أن ما بعدها مخالف لما قبلها، والنصب على أصل الاستثناء. التبيان ٢/٢٨٨، البحر المحيط ٦/٢١٧، شرح التصريح ١/٣٤٩، ٣٥٠..
٣٧ في ب: وأن..
٣٨ حينئذ: سقط من ب..
٣٩ وذلك أن المستثنى في الاستثناء المنقطع إن أمكن تسليط العامل عليه فالحجازيون يوجبون النصب، لأنه لا يصح فيه الإبدال حقيقة من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والتميميون يرجحون النصب، ويجوزون الإتباع.
التبيان ٢/٢٨٨، البحر المحيط ٦/٢١٧، شرح التصريح ١/٣٥٢-٣٥٣..

٤٠ في ب: جعل..
٤١ في ب: ووجه..
٤٢ والاستثناء على هذا التقدير متصل. انظر الكشاف ٢/٤٢٤..
٤٣ في ب: الاستثناء..
٤٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٥ تقدم..
٤٦ في ب: وقال..
٤٧ فقط: سقط من ب..
٤٨ انظر تفسير ابن عطية ٩/٥٣٦-٥٣٧..
٤٩ انظر البحر المحيط ٦/٢١٨..
٥٠ في ب: لا..
٥١ الدر المصون ٥/١٧..
٥٢ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٤..
٥٣ في ب: الموصوف. وهو تحريف..
٥٤ في ب: الواصل. وهو تحريف..
٥٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٦ [الأنبياء: ٢٨]..
٥٧ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥٨ في ب: ذات يوم..
٥٩ ما بين القوسين سقط من ب..
٦٠ في ب: أني..
٦١ لك: سقط من الأصل..
٦٢ في ب: فإني..
٦٣ ووضع: سقط من الأصل..
٦٤ انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٠٩)..
٦٥ في الأصل: كلمتي..
٦٦ في ب: وظهور وظهور..
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً ﴾ تقدم خلافُ القراء في قوله ﴿ ولداً ﴾ بفتح اللام وسكونها، وأنهما لغتان١ مثل العَرَبِ والعُرْبِ والعَجَم والعُجْم٢.
واعلم أنَّه لمَّا ردَّ على عبدة الأوثان عاد إلى الرَّد على من أثبت له ولداً٣.
فقالت اليهود : عزيزٌ ابنُ الله، وقالت النصارى : المسيحُ ابن الله٤، وقالت العرب : الملائكة بناتُ الله. وههنا الرد على الذين قالوا : الملائكة بنات الله، وهم العرب الذين يعبدون الأوثان، لأن الرد على النصارى تقدم أول السورة٥.
١ عند قوله تعالى: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتينّ مالا وولدي﴾ [٧٧ من السورة نفسها]..
٢ في ب: والعجز والعجز. وهو تحريف..
٣ في ب: ولد..
٤ قال الله تعالى: ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون﴾ [التوبة: ٣٠]..
٥ وتقدم الرد على كل من اليهود والنصارى في قوله تعالى: ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠]..
قوله :﴿ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ﴾. العامة على كسر الهمزة من " إدَّا " ١، وهو الأمر العظيم المنكر المتعجب منه. قاله ابن عباس٢. " وقال مجاهد : عظيماً ٣ " ٤ وقرأ أمير المؤمنين٥ والسلمي٦ بفتحها٧. وخرَّجوه على حذف مضاف، أي شيئاً ذا أدَّ " ٨ لأنَّ الأدَّ - بالفتح- يقال : أدَّ الأمر وأدَّني يؤدِّنِي أدَّا. أي : أثقلني.
وكان أبو حيان ذكر : أنَّ الأدَّ والإدّ- بفتح الهمزة وكسرها- هو العجب، وقيل :" ٩ هو العظيم١٠ المنكر، والإدَّة : الشدَّة١١. وعلى قوله : إنَّ الأدّ والإدّ بمعنى واحد ينبغي أن لا يحتاج إلى حذف مضاف " إلا أن يريد أنَّه أراد بكونهما بمعنى العجب في المعنى لا في المصدرية وعدمها، والإدَد في كلام العرب الدواهي١٢.
١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/١٧٣، البحر المحيط ٦/٢١٨..
٢ انظر القرطبي ١١/١٥٦..
٣ المرجع السابق..
٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٥ هو عليّ بن أبي طالب..
٦ تقدم..
٧ معاني القرآن للفراء ٢/١٧٣، المختصر (٨٦)، المحتسب ٢/٤٥، البحر المحيط ٦/٢١٨..
٨ أي: أنه وصف بالمصدر على حذف مضاف مثل رجل عدل، ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن تجعله نفس المصدر مبالغة، وذلك أنه يكثر الوصف بالمصدر قصدا للمبالغة أو توسعا بحذف مضاف، ويلزم المصدر حينئذ الإفراد والتذكير. المحتسب ٢/٤٦، التبيان ٢/٢٨٨، الأشموني ٣/٦٤..
٩ ما بين القوسين سقط من ب..
١٠ في ب: وهو الأمر العظيم..
١١ البحر المحيط ٦/١٩٧..
١٢ ما بين القوسين سقط من ب..
قوله :﴿ تَكَادُ ﴾. قرأ نافع والكسائي بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق١ وهما واضحتان، إذ التأنيث مجازي٢. وكذا٣ في سورة الشورى٤.
وقرأ أبو عمرو : وابن عامر، وأبو بكر٥ عن عاصم، وحمزة " يَنْفَطْرن " مضارع انفطرَ، لقوله٦ تعالى :﴿ إِذَا السمآء انفطرت ﴾٧ والباقون :" يتفَطّرْن " " مضارع تفطَّر٨ " بالتشديد في هذه السورة٩، وأما التي في الشورى فقرأها حمزة وابن عامر بالياء والتاء١٠ وتشديد الطاء. والباقون على أصولهم في هذه السورة١١. فتلخص من ذلك أن أبا بكر وأبا عمرو١٢ يقرآن بالياء والنون في السورتين. وأن نافعاً وابن كثير والكسائي وحفصاً١٣ عن عاصم يقرءون بالياء والتاء وتشديد الطاء فيهما، وأن حمزة وابن عامر في هذه السورة بالياء والنون، وفي الشورى بالياء وتشديد الطاء " ١٤ فالانفطار١٥ من فطرهُ إذا شقه، " والتفطُّر إذا شقَّقهُ " ١٦، وكرر فيه الفعل١٧.
قال أبو البقاء : وهو هنا أشبه بالمعنى١٨، أي١٩ : التشديد.
و " يَتَفَطَّرْنَ " ٢٠ في محل نصب " خبراً ل " كَانَ " ٢١ وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة٢٢، وأنشد :
كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرَادةٍ لَوْ عَادَ مِنْ زمنٍ الصِّبابةِ مَا مَضَى٢٣

فصل٢٤


يقال٢٥ : انفطر الشيء وتفطَّر أي تشقَّق٢٦. وقرأ ابن مسعود " يتصَدَّعْنَ٢٧ ".
و " تَنْشَقُّ٢٨ الأرْضُ " أي تخسفُ بهم، والانفطار في السماء، أي : تسقط عليهم.
" وتخُرُّ الجِبَالُ هدَّاً " أي : تُهَدُّ هَداً، بمعنى " تنطبق عليهم.
فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور٢٩ الجبال ؟ فالجوابُ من وجوه :
" الأول : أنَّ الله - تعالى- يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود " ٣٠ هذه٣١ الكلمة غضباً منِّي على من تفوَّه بها، لولا حلمي، وإني لا أعجِّل بالعقوبة، كقوله- تعالى٣٢- :﴿ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾٣٣.
الثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة، وتهويلاً من فظاعتها، وهدمها لأركان الدين وقواعده.
الثالث : أنَّ السماوات والأرضِ والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل٣٤ من غلظ هذا القول، وهذا تأويل أبي٣٥ مسلم٣٦.
الرابع : أنَّ السماوات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب، فلما تكلم بنو آدم٣٧ بهذا القول ظهرت العيوب٣٨ فيها٣٩.
قوله :﴿ هدَّا ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه مصدر وفي مضع الحال٤٠، أي : مهدودة٤١، وذلك على أن يكون هذا المصدر من هدَّ زيدٌ الحائط يهدُّه هدَّا، أي :" هدمهُ٤٢ " ٤٣.
والثاني : وهو قول أبي جعفر٤٤ : أنه مصدر على غير المصدر٤٥ لما كان في معناه٤٦، لأن الخرور : السقوطُ والهدمُ، وهذا على أن يكون من هدَّ الحائطُ يَهِدُّ - بالكسر- انهدم، فيكون لازماً.
الثالث : أن يكون مفعولاً من أجله، قال الزمخشري : أي : لأنها تهد٤٧.
١ السبعة (٤١٢-٤١٣)، الحجة لابن خالويه (٢٣٩)، الكشف ٢/٩٣، النشر ٢/٣١٩..
٢ أي أن الفاعل إذا كان مؤنثا مجازيا جاز تأنيث الفعل وتذكيره، والكوفيون أجازوا في الفعل مع كل من جمعي التصحيح التذكير والتأنيث. شرح التصريح ١/٢٨٠..
٣ في ب: وكذلك..
٤ من قوله تعالى: ﴿تكاد السماوات يتفطّرن من فوقهن﴾ [الشورى: ٥]..
٥ في ب: وأبو بكر وابن عامر..
٦ في ب: كقوله..
٧ [الانفطار: ١]..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ السبعة (٤١٢-٤١٣)، الحجة لابن خالويه (٢٣٩)، الكشف ٢/٣٩، النشر ٢/٣١٩..
١٠ في الأصل: والطاء. وهو تحريف..
١١ السبعة (٤١٢-٤١٣، ٥٨٠)، الحجة لابن خالويه (٢٣٩، ٣١٨) الكشف ٢/٩٣، ٢٥٠، النشر ٢/٣١٩..
١٢ في ب: أبا عمرو وأبا بكر..
١٣ تقدم..
١٤ ما بين القوسين سقط من ب..
١٥ في ب: والانفطار..
١٦ ما بين القوسين سقط من ب..
١٧ انظر الكشاف ٢/٤٢٤..
١٨ التبيان ٢/٨٨٣..
١٩ في ب: أن..
٢٠ في ب: وينفطر. وهو تحريف..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ قال الأخفش: (وزعموا أن تفسير "أكاد" أريد وأنها لغة، لأن أريد قد تجعل مكان "أكاد" مثل "جدارا يريد أن ينقض" أي يكاد أن ينقض، فكذلك أكاد إنما هي أريد). معاني القرآن ٢/٥٩٥-٥٩٦..
٢٣ البيت في بحر الكامل، لم أهتد إلى قائله، وهو في معاني القرآن للأخفش ٢/٥٩٦، المحتسب ٢/٣١، ٤٨، اللسان (كود، كيد). واستشهد به على أن (كاد) تكون بمعنى طلب وأراد..
٢٤ فصل: سقط من ب..
٢٥ في ب: فقال..
٢٦ وقال ابن خالويه: (وهما لغتان فصيحتان، معناهما التشقق). الحجة (٢٣٩)..
٢٧ المختصر (٨٦)، الكشاف ٢/٤٢٤، البحر المحيط ٦/٢١٨، قال أبو حيان (وقرأ ابن مسعود "يتصدّعن" وينبغي أن يجعل تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه، ولرواية الثقات عنه كقراءة الجمهور)..
٢٨ في ب: ونشق. وهو تحريف..
٢٩ في ب: وخروا. وهو تحريف..
٣٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٣١ في ب: وهذه. وهو تحريف..
٣٢ تعالى: سقط من ب..
٣٣ [فاطر: ٤١]..
٣٤ في ب: تفعل. وهو تحريف..
٣٥ في ب: أبو. وهو تحريف..
٣٦ تقدم..
٣٧ في الأصل: بنوا. وهو تحريف..
٣٨ في ب: الغيوب. وهو تصحيف..
٣٩ الفخر الرازي ٢١/٢٥٥..
٤٠ الحال: سقط من ب..
٤١ الكشاف ٢/٤٢٤، التبيان ٢/٨٨٣، البحر المحيط ٦/٢١٩. يكثر وقوع المصدر حالا، وهو عند سيبويه والجمهور على التأويل بالوصف مثل طلع زيد بغتة وقتلت زيدا صبرا، أي: باغتا ومصبورا. وذهب الأخفش والمبرد إلى أن المصدر في نحو ذلك منصوب على المصدرية، والعامل فيه محذوف، والتقدير: طلع زيد يبغث بغثة، وقتلت زيدا يصبر صبرا، فالحال عندهما الجملة لا المصدر.
وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على المصدرية، والعامل فيه الفعل المذكور، لتأوله بفعل من لفظ المصدر فطلع زيد بغتة عندهم في تأويل بغت زيدا بغتة، وقتلت زيدا صبرا، في تأويل صبرته صبرا. وقيل: هي مصادر على حذف مصادر نابت المذكورات عنها في المفعولية المطلقة، والتقدير: طلع زيد طلوع بغتة، وقتلته قتل صبر. وقيل: هي مصادر على حذف مضاف غير مصدر، وذلك المضاف هو الحال، فلما حذف المضاف ناب عنه المضاف إليه في الحالية، والتقدير طلع زيد ذا بغتة، وقتلته ذا صبر. الهمع ١/٢٣٨، شرح الأشموني ٢/١٧٢-١٧٣..

٤٢ فهو فعل متعد. البحر المحيط ٦/٢١٩..
٤٣ ما بين القوسين في ب: هذه. وهو تحريف..
٤٤ قال النحاس: ("وتخرّ الجبال هدّا" مصدر، لأن معنى تخر تهد) إعراب القرآن ٣/٢٩..
٤٥ في الأصل: الصدر..
٤٦ يريد مجيء المصدر من غير لفظ الفعل. ولكن مما يرادفه في المعنى كقولهم: قمت وقوفا، وفرحت جزلا، وشنأته بغضا وأحببته مقتا. انظر الأشموني ٢/١١٣، ١١٥..
٤٧ الكشاف ٢/٤٢٤..
قوله :﴿ أنْ دَعَواْ ﴾١ في محله٢ خمسة أوجه :
أحدها٣ : أنه في محل نصب على المفعول من أجله، قاله أبو البقاء٤، والحوفي٥، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه، ويجوز أن يكون العامل " تَكَادُ "، أو " تَخُرُّ "، أو " هَدَّا "، أي : تَهُدُّ لأن دعوا، ولكن شرطُ النصب هنا٦ مفقود، وهو اتحاد٧ " الفاعل في المفعول له والعامل فيه٨، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في " أنْ " فقريب " ٩. وقال الزمخشري : وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام " ١٠ وإفضاء الفعل، أي هدَّا أن دعوا " ١١، علل الخرور بالهدِّ، والهدُّ١٢ بدعاء الولد للرحمن١٣.
فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط١٤ الخافض. " وليس مفعولاً له صريحاً١٥ ".
الوجه الثاني : أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض " ١٦ كما هو مذهب الخليل١٧ والكسائي١٨.
والثالث : أنه بدل من الضمير في " مِنْهُ " ١٩ كقوله :
عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً عَلى جُودهِ لضن٢٠ بالمَاءِ حاتمِ٢١
" بجر " حاتم " ٢٢ الأخير بدلاً من الهاء في " جوده ".
قال أبو حيان : وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين٢٣.
الوجه٢٤ الرابع : أن يكون مرفوعاً ب " هَدَّا ". قال الزمخشري : أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن٢٥. قال أبو حيان : وفيه بعدٌ، لأن الظاهر في " هَدَّا " أن يكون مصدراً توكيدياً، والمصدر التوكيدي لا يعمل٢٦، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً، وأضربا٢٧ زيداً ؟ على خلاف فيه٢٨، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري، أي : هدَّها دعاء الولد للرحمن٢٩.
فلا ينقاس٣٠، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرئ القيس٣١ :
وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ يقُولونَ لا تَهْلَكْ أسّى وتجمَّلِ٣٢
أي : وقَفَ صَحْبِي٣٣.
الخامس : أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره : الموجب لذلك دعاؤهم. كذا قدره أبو البقاء٣٤. و " دَعَا " يجوز أن يكون بمعنى سمَّى، فيتعدى لاثنين، ويجوز جر ثانيهما بالباء٣٥، قال الشاعر :
دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ
دَعَتْنِي أخَاهَا " بَعْدَمَا كَانَ بَيْنَنَا مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ٣٦ " ٣٧
وقول الآخر :
ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ٣٨
وأولهما في الآية محذوف، قال الزمخشري : طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد، ويجوز أن يكون من " دَعَا " بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله- عليه السلام- :" مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ " ٣٩، وقول الشاعر :
إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا٤٠
لأي : لا ننتَسِبُ إليه٤١.
" يَنْبَغِي " ٤٢ مضارع انْبَغَى، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى، أي : طلب، و " أنْ يتَّخِذَ " فاعله٤٣. وقد عد ابن مالك٤٤ " يَنْبَغِي " في الأفعال التي لا تتصرف٤٥.
وهو مردودٌ عليه، لأنه قد سُمِعَ فيه الماضي قالوا : انْبَغَى٤٦. وكرَّر لفظ " الرَّحْمَنِ " تنبيهاً على أنه - تعالى- هو الرحمنُ وحدهُ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه٤٧.

فصل٤٨


قال ابن عباس٤٩ وكعب : فَزِعَت السماوات والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكةُ، واستعرت جهنم حين قالوا : لله ولدٌ، ثم نفى الله- تعالى٥٠- عن نفسه فقال :
١ في ب: "أن دعوا للرحمن"..
٢ في ب: في محل نصب من. وهو تحريف..
٣ في ب: الأول..
٤ التبيان ٢/٨٨٣، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢/٦٣، البيان ٢/١٧٣..
٥ تقدم..
٦ هنا: سقط من ب..
٧ في ب: وهو اتحاد الثاني..
٨ هذا الشرط – وهو اتحاد المفعول له بالمعلل به فاعلا، بأن يكون فاعل الفعل وفاعل المصدر واحدا – اشترطه المتأخرون، وخالفهم ابن خروف فأجاز النصب مع اختلاف الفاعل محتجا بنحو قوله تعالى: ﴿هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا﴾ [الرعد: ١٢]، ففاعل الإراءة هو الله، وفاعل الخوف والطمع المخاطبون.
وأجاب عنه ابن مالك في شرح التسهيل فقال: معنى "يريكم" يجعلكم ترون، ففاعل الرؤية على هذا هو فاعل الخوف والطمع، فمعنى ذلك أن الاتحاد في الفاعل قد يكون تقديريا. وأيضا فقد اشترط الأعلم والمتأخرون: اتحاد المفعول له بالعامل وقتا، بأن يكون زمن الفعل المعلل- بفتح اللام الأولى – والمصدر المعلّل – بكسرها – واحدا نحو جئتك رغبة فيك ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين، فيجوز عندهم النصب مع اختلاف الوقت نحو أكرمتك أمس طمعا غدا في معروفك، واختلاف الفاعل نحو جئتك محبتك إياي. شرح التصريح ١/٣٣٥٤، الهمع ١/١٩٤..

٩ ما بين القوسين سقط من ب..
١٠ في ب: وجود اللام وإبقاء الفعل. وهو تحريف..
١١ ما بين القوسين تكملة من الكشاف..
١٢ في ب: علل الوجود بالخرور وبالهد والهدود. وهو تحريف..
١٣ الكشاف ٢/٤٢٥..
١٤ في ب: على إسقاط..
١٥ وأبو حيان ضعف ما قاله الزمخشري هنا بقوله: (وهذا فيه بعد، لأن الظاهر أن (هدّا) لا يكون مفعولا بل مصدرا من معنى "وتخر" أو في موضع الحال) البحر المحيط ٦/٢١٩..
١٦ ما بين القوسين سقط من ب..
١٧ انظر الكتاب ٣/١٢٦، ١٢٧..
١٨ انظر معاني القرآن للفراء ٢/١٧٣..
١٩ الكشاف ٢/٤٢٤-٤٢٥..
٢٠ في ب: لنص. وهو تحريف..
٢١ البيت من بحر الطويل، قاله الفرزدق، وهو في ديوانه (٢/٣٩٧) برواية:
على ساعة لو كان في القوم حاتم *** على جوده ضنّت به نفس حاتم.

٢٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٣ وهو قوله تعالى: ﴿وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا﴾ البحر المحيط ٦/٢١٩..
٢٤ الوجه: سقط من ب..
٢٥ الكشاف ٢/٤٢٥..
٢٦ لأن من شروط عمل المصدر عمل الفعل أن يحل محله (أن والفعل، أو ما والفعل)، والمصدر المؤكد ليس كذلك، شرح الكافية ٢/١٩٤-١٩٥، شرح التصريح ٢/٦٢..
٢٧ في الأصل: أضربن. وهو تحريف..
٢٨ أي أن المصدر النائب عن فعله اختلف فيه هل يعمل أم لا؟ فذهب ابن مالك إلى جواز إعماله، فـ (زيدا) في ضربا زيد منصوب بالمصدر عنده. وبالفعل المحذوف النائب عنه المصدر عند غير ابن مالك، لأن المصدر هنا إنما يحل محله الفعل وحده دون (أن) و(ما)، فتقدير المثال: اضرب زيدا. شرح التصريح ٢/٦٢..
٢٩ في ب: دعاء الرحمن للولد..
٣٠ في ب: فلا قياس..
٣١ تقدم..
٣٢ البيت من بحر الطويل وهو من معلقة امرئ القيس، وهو في ديوانه (٩) والبحر المحيط ٦/٢١٩.
المطيّ: الإبل، والواحدة مطيّة،/ وانتصب بقوله (وقوفا) وعمل هذا المصدر نادر، وهو الشاهد..

٣٣ البحر المحيط ٦/٢١٩..
٣٤ التبيان ٢/٨٨٣..
٣٥ (دعا) إذا كانت بمعنى سمّى، فهي من الأفعال تتعدى إلى مفعولين أولهما بنفسهما، والثاني بحرف الجر، مثل دعوته بزيد، ويجوز حذف حرف الجر، ووصل الفعل إلى المفعول الثاني بنفسه، فنقول: دعوته زيدا، وهذه الأفعال هي: دعا، أمر، استغفر، اختار، كنى – بتخفيف النون – سمّى، صدق – بتخفيف الدال – زوج، كال، وزن. شرح جمل الزجاجي ١/٣٠٥ – ٣٠٦، شذور الذهب ٣٦٩-٣٧٦..
٣٦ ما بين قوسين سقط من الأصل واستدرك بالهامش..
٣٧ البيتان من بحر الطويل، قالهما عبد الرحمان بن الحكم. وقد تقدما..
٣٨ البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله وهو في مجاز القرآن (٢/١٢). واللسان (دعا) برواية:
ألا رب من تدعو نصيحا وإن تغب تجده بغيب غير منتصح الصدر
وهو في الطبري ١٦/٩٩، البحر المحيط ٦/٢١٩. والشاهد فيه تعدّي (دعا) بمعنى (سمى) إلى مفعولين أولهما النائب عن الفاعل، والثاني (نصيحا)..

٣٩ أخرجه مسلم (حج) ٢/٩٩٨، (عتق) ٢/١١٤٧، بلفظ: (ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا) وأبو داود (أدب) ٥/٣٣٧، ٣٣٩، الدارمي (سير) ٢/٢٤٤ أحمد ١/١٧٤، ٤/١٨٧، ٢٣٨، ٥/٢٦٧..
٤٠ البيت من بحر البسيط قاله بشامة بن حزن النهشلي. وقد تقدم..
٤١ الكشاف ٢/٤٢٥..
٤٢ ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق..
٤٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٦٣..
٤٤ تقدم..
٤٥ انظر التسهيل (٢٤٧)..
٤٦ قال أبو حيان: (وينبغي ليس من الأفعال التي لا تتصرف بل سمع لها الماضي قالوا: انبغى) البحر المحيط ٦/٢١٩..
٤٧ انظر الفخر الرازي ٢١/٢٥٥..
٤٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٩ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٤٠٤..
٥٠ تعالى: سقط من ب..
" وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً١ " ٢ أي : ما يليق به " اتِّخاذُ الولد "، لأن ذلك محال٣ ؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها، وأما التبني، فلأن٤ الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد، ولا شبيه لله - تعالى-، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور٥، أو استعانةٍ، أو ذكرٍ جميلٍ، وكلُّ٦ ذلك لا يصح في الله - تعالى٧-.
١ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٤٠٤..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٥..
٤ في ب: فإنّ..
٥ في ب: إما عن. ثم بياض يبدو أنه مكان السرور..
٦ وكل: سقط من ب..
٧ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٥..
قوله :﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض ﴾. يجوز في " مَنْ " أن تكون نكرة موصوفة، وصفتها١ الجار بعدها، ولم يذكر أبو٢ البقاء غير ذلك، وكذا٣ الزمخشري إلا أن٤ ظاهر عبارته٥ تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك٦، فإنه٧ قال :" مَنْ " موصوفة فإنها وقعت بعد " كُل " " نكرة أشبهت وقوعها بعد " رُبَّ " في قوله :
ربَّ مَنْ أنْضِجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ٨. . .
انتهى٩ " ١٠.
ويجوز أن تكون موصولة. قال أبو حيان : ما كُل الذي في السموات، و " كلُّ " تدخل على الذي، لأنها تأتي للجنس كقوله- تعالى- :﴿ والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ ﴾١١ [ الزمر : ٣٣ ] ونحوه :
" وكُلُّ١٢ الذي " حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ١٣ ١٤. . .
يعني١٥ أنه لا بد " من تأويل " ١٦ الموصول١٧ بالعموم حتى تصح إضافة " كُل " إليه، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص١٨ استحال١٩ إضافة " كُلّ " إليه٢٠.
و " آتِ الرَّحْمَنِ " ٢١ خبر " كل " جعل مفرداً حملاً على لفظها٢٢، ولو جمع لجاز٢٣، وقد تقدم أول الكتاب : أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان٢٤. وقد تكلم السهيلي٢٥ في ذلك فقال :" كُلُّ " إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني٢٦ لمعرفة٢٧ فلا يحسن إلا أفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول : كُلكم ذاهب، أي : كل واحد " منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح. فإن قلت في قوله :﴿ وَكُلُّهُمْ٢٨ آتِيهِ ﴾٢٩ : إنما هو حمل على اللفظ، لأنه اسم مفرد. قلنا : بل هو اسم للجمع، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول : القوم ذاهبُون، ولا تقول٣٠ : ذاهب، وإن كان لفظ " القَوْم " لفظ المفرد، وإنما حسن " كُلكُم ذاهِبٌ " لأنهم يقولون : كل واحد منكم ذاهب٣١، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى٣٢.
قال أبو حيان : ويحتاج " كُلكُم٣٣ ذاهِبُون " ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب٣٤.
قال شهاب الدين : وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح٣٥ بل ذلك حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى٣٦.
وقال أبو البقاء : ووحد " آتِي " حملاً على لفظ " كُل "، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها٣٧.
قال شهاب الدين : قوله : في موضع آخر. إن عنى في القرآن فلم٣٨ يأت الجمع إلا و " كُل " مقطوعة عن الإضافة نحو ﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾٣٩ ﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾٤٠، وإن عنى في٤١ فيحتاج٤٢ إلى سماع عن العرب كما تقدم٤٣.
والجمهور على إضافة " آتي " إلى " ٤٤ الرَّحمَن " ٤٥.
وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنويه ونصب " الرَّحْمَن٤٦ " وانتصب " عَبْداً " و " فَرْداً " على الحال٤٧.

فصل٤٨


المعنى : أن كل معبود٤٩ من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا يأتي٥٠ الرحمن يلتجئ إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل٥١ العبيد. ومنهم من حمله على٥٢ يوم القيامة خاصة.
والأول أولى، لأنه لا تخصيص فيه.
١ في ب: ووصفها..
٢ في ب: أبي. وهو تحريف..
٣ انظر التبيان ٢/٨٨٣..
٤ في ب: وكذلك..
٥ في ب: الآن..
٦ في ب: عبارتها..
٧ في الأصل: فإنها. وهو تحريف..
٨ صدر بيت من بحر الرمل، قاله سويد بن أبي كاهل بن حارثة اليشكري، وعجزه:
قد تمنّى لي موتا لم يطع
والشاهد فيه أن (ربّ) نكرة موصوفة، وصفتها جملة (أنضجت) بدليل دخول (ربّ) عليها، وهي لا تدخل إلا على النكرات. وقد تقدم..

٩ الكشاف ٢/٤٢٥..
١٠ ما بين القوسين سقط من ب..
١١ من قوله تعالى: ﴿والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون﴾ [الزمر: ٣٣]. والاستشهاد بالآية على أن (الذي) يراد به الجنس بدليل وقوع خبره جمعا وهو "أولئك". انظر البيان ٢/٣٢٣..
١٢ ما بين القوسين سقط من ب..
١٣ شطر بيت من الطويل، ويبدو أنه العجز ولم أجده في غير البحر المحيط ٦/٢١٩..
١٤ البحر المحيط ٦/٢١٩..
١٥ في ب: أي..
١٦ ما بين القوسين سقط من ب..
١٧ في ب: للموصول..
١٨ في الأصل: تشخص..
١٩ في النسختين: واستحال..
٢٠ في ب: كل إضافة ذلك إليه..
٢١ في ب: قوله: "الرحمن"..
٢٢ انظر البيان ٢/١٣٧، التبيان ٢/٨٨٣..
٢٣ حملا على المعنى، فتقول: كل القوم ضربته، بالإفراد حملا على اللفظ، وكل القوم ضربتهم، بالجمع حملا على المعنى. انظر البيان ٢/١٣٧..
٢٤ أي أن (كل) إذا أضيفت إلى معرفة يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها، نحو كلكم ذاهب حملا على اللفظ، وكلكم ذاهبون حملا على المعنى.
البحر المحيط ٦/٢٢٠، المغني ١/١٩٩-٢٠٠..

٢٥ تقدم..
٢٦ في ب: المعنى..
٢٧ في ب: كمعرفة..
٢٨ "وكلهم": سقط من ب..
٢٩ من قوله تعالى: ﴿وكلهم آتيه يوم القيامة فرادا﴾ [مريم: ٩٥]..
٣٠ في ب: يقال..
٣١ ذاهب: سقط من ب..
٣٢ نتائج الفكر (٢٧٩-٢٨٠) وانظر أيضا البحر المحيط ٦/٢٢٠..
٣٣ كلكم: سقط من ب..
٣٤ البحر المحيط ٦/٢٢٠..
٣٥ في ب: الإيضاح. وهو تحريف..
٣٦ الدر المصون: ٥/١٨..
٣٧ التبيان ٢/٨٨٣..
٣٨ في ب: فلا..
٣٩ [الأنبياء: ٣٣]..
٤٠ [النمل: ٨٧]..
٤١ في ب: على. وهو تحريف..
٤٢ في ب: فكل يحتاج..
٤٣ الدر المصون: ٥/١٨..
٤٤ في ب: على. وهو تحريف..
٤٥ تفسير ابن عطية ٩/٥٤٢، البحر المحيط ٦/٢٢٠..
٤٦ المختصر (٨٦)، البحر المحيط ٦/٢٢٠..
٤٧ مشكل إعراب القرآن ٢/٦٤، البيان ٢/١٣٧، البحر المحيط ٦/٢٢٠..
٤٨ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٥-٢٥٦. بتصرف..
٤٩ في ب: أن كلا..
٥٠ في ب: آتي..
٥١ في ب: يأتي..
٥٢ في ب: إلى. وهو تحريف..
﴿ لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ﴾ أي : عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم١، فكلهم٢ تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم،
١ في ب: آثارهم وأيامهم..
٢ في ب: فكل. وهو تحريف..
﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ ﴾ أي : كل واحد منهم يأتيه١ ﴿ يَوْمَ القيامة فَرْداً ﴾ وحيداً ليس معه من الدنيا شيء " ويبرأ المشركون منهم " ٢.
١ في ب: آتيه..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ إلى آخر السورة١.
لمَّا ردَّ على الكفرة، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين. قوله :﴿ وُدَّا ﴾ العامة على ضم الواو٢. وقرأ أبو الحارث الحنفي٣ بفتحها٤، وجناح بن حبيش٥ بكسرها٦. فيحتمل٧ أن يكون المفتوح مصدراً، والمكسور والمضموم٨ اسمين.
قال المفسرون : سَيَجْعَلُ٩ لهُم الرَّحمنُ محبةً، قال مجاهد : يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين١٠. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام١١- :" قَدْ١٢ أحببت فلاناً فأحبَّه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهلُ السَّماء : إن الله – تعالى- قد أحبّ فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ١٣، وإذا أبغضَ العبد " قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك١٤. والسِّين في " سَيَجِعَلُ " إما لأن السورة مكية، وكان المؤمنون١٥ حينئذ ممقوتين بين١٦ الكفرة، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام.
والمعنى : سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة. وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم١٧. روي١٨ عن كعب١٩ قال : مكتوب في التوراة لا محبَّة في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله - تعالى- ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض. وتصديق ذلك٢٠ في القرآن قوله :﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً ﴾. وقال أبو مسلم : معناه يهبُ لهم ما يحبون. والوُدُّ والمحبَّةُ سواء، يقال : آتيتُ فلاناً محبته، وجعلت له ودَّه٢١، ومن كلامهم : يَوَدُّ لو كان كذا، " وودتُ أن لو كان كذا أي أحببتُ٢٢ "، فالمعنى٢٣ : سيعطيهم الرحمن ودَّهم، أي : محبوبهم في الجنة.
والقول الأول أولى، لتفسير الرسول - عليه السلام٢٤-، ولأن حمل المحبة على المحبوب مجاز، " ولأن رسول الله قرأ هذه الآية وفسَّرها بذلك فكانت أولى " ٢٥.
قال أبو مسلم : القول الثاني أولى لوجوه :
أحدها : كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم التقي٢٦ يبغضه الكفار، وقد يبغضه كثير من المسلمين.
وثانيها : أنَّ مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين ؟
وثالثها : أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أنَّ٢٧ الله - تعالى- فعله، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى.
وأجيب عن الأول : بأن المراد يجعل له محبة عند الملائكة والأنبياء.
وعن الثاني : ما روي عنه- عليه السلام٢٨- : أنه حكى عن ربه- سبحانه وتعالى٢٩- أنه قال :" وإذا ذكرني عَبْدي٣٠ في نفسه ذكرتُهُ ( في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرنِي )٣١ في ملأ ذكرتهُ في ملأ أطيب منهم وأفضل٣٢ " والكافر٣٣ والفاسق ليسا٣٤ كذلك.
وعن الثالث : أنه محمول على فعل الألطاف، وخلق داعية إكرامه٣٥ في قلوبهم٣٦.
١ إلى آخر السورة: سقط من ب، وكتبت الآية كاملة..
٢ تفسير ابن عطية ٩/٥٥٤، والبحر المحيط ٦/٢٢١..
٣ هو الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي عرض على الكسائي، وروى الحروف عن حمزة بن القاسم الأحول، واليزيدي، وروى عنه عرضا وسماعا سلمة بن عاصم، ومحمد بن يحيى الكسائي الصغير، وغيرهما، مات سنة ٢٤٠ هـ. طبقات القراء ٢/٣٤..
٤ تفسير ابن عطية ٩/٥٤٥، البحر المحيط ٦/٢٢١..
٥ لم أقف له على ترجمة..
٦ المختصر (٨٦)، الكشاف ٢/٤٢٥، البحر المحيط ٦/٢٢١..
٧ في ب: فيحمل..
٨ في ب: والمكسور والمضموم..
٩ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٤٠٥-٤٠٦..
١٠ المؤمنين: سقط من ب..
١١ عليه السلام: سقط من ب..
١٢ في ب: إني..
١٣ أخرجه البخاري (بدء الخلق) ٢/٢١٢ (توحيد) ٤/٢٩٥، ومالك في الموطأ (شعر) ٢/٩٥٣، أحمد ٢/٢٦٧، ٥٠٩..
١٤ الموطأ (شعر) ٢/٩٥٣، آخر ما نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٤٠٥-٤٠٦..
١٥ في الأصل: المؤمنين..
١٦ في ب: مقيمين يلي. وهو تحريف..
١٧ انظر الكشاف ٢/٤٢٥ بتصرف، والفخر الرازي ٢١/٢٥٦..
١٨ في ب: وروى..
١٩ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٦-٢٥٧، بتصرف..
٢٠ في ب: وتصديقه..
٢١ في ب: ود..
٢٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٣ في ب: والمعنى..
٢٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٦ في ب: المتقي..
٢٧ في النسختين: لأن..
٢٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٩ وتعالى: سقط من ب..
٣٠ في ب: عبد..
٣١ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٢ أخرجه مسلم (الذكر) ٤/٢٠٦٨، الترمذي (دعوات) ٥/٢٣٨، ابن ماجة (أدب) ٢/١٢٥٥، ١٢٥٦، أحمد ٢/١٢٥١، ٤٠٥، ٤٨٠، ٤٨٢..
٣٣ والكافر: سقط من ب..
٣٤ في ب: ليس. وهو تحريف..
٣٥ في ب: الإكرام..
٣٦ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٦-٢٥٧. بتصرف..
قوله :﴿ بِلِسَانِكَ ﴾ يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال١، واللسان هنا٢ اللغة٣، أي : أنزلناه كائناً بلسانِكَ.
وقيل : هي٤ بمعنى " على٥ " ٦، وهذا لا حاجة إليه، بل لا يظهر له معنى، و " لُدَّا " جمع " ألَدَّ "، وهو الشديد الخصومة كالحُمْر جمع أحْمَرٍ٧.
قال أهل اللغة : اللُّدُّ جمع الألَدّ، وهو المعوج في المناظرة الرواغ من الحق الميال عنه، وفي الحديث " إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الخَصْمُ الألَدُّ " ٨ أي المعوج ٩ " ١٠ قوله :﴿ يَسَرْنَاهُ ﴾ سهلناهُ يعني القرآن " بِلِسَانِكَ " ١١ يا محمد " لِنُبَشِّر به المتَّقِين " يعني المؤمنين، وهذا كلام مستأنف " ١٢ بيَّن به عظيم " ١٣ موقع١٤ هذه السورة لما فيها من ذكر التوحيد والنبوة والحشر، والرد على فرق المبطلين، فبين١٥ - تعالى- أنَّه يسَّر ذلك بلسانه، ليبشر وينذر، ولولا أنه - تعالى- نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسَّر ذلك على الرسول. وكما ذكر أنه يبشر به المتقين١٦ ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ١٧، وهو الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه١٨ فقال :" ويُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدَّا "، وهو جمع الألد، " وهو الشديد الخصومة. وقال مجاهد : هو الظالم الذي لا يستقيم١٩. وقال أبو عبيدة٢٠ الألد " ٢١ الذي لا يقبل الحقَّ ويدَّعي الباطل٢٢. وقال الحسن : الألد الأصم عن الحق٢٣.
ثم ختم السورة بموعظةٍ بليغة فقال :
١ التبيان ٢/٨٨٣..
٢ في ب: هو. وهو تحريف..
٣ تفسير غريب القرآن (٢٧٦)، الكشاف ٢/٤٢٥..
٤ في ب: هو. والمراد الباء..
٥ في ب: إلى. وهو تحريف..
٦ التبيان ٢/٨٨٣..
٧ وذلك أن ما كان على (أفعل) صفة مؤنثه (فعلاء) يطرد جمعه على (فعل) نحو أحمر فإنه يجمع على حمر، لأن مؤنثه حمراء. شرح الأشموني ٤/١٢٧..
٨ أخرجه البخاري (تفسير) ٣/١٠٦، (الأحكام) ٤/٢٤٢، مسلم (العلم) ٤/٢٠٥٤، الترمذي (تفسير) ٤/٢٨٢، النسائي (قضاة) ٨/٢٤٨، أحمد ٦/٥٥، ٦٣، ٢٠٥، الألد: شديد الخصومة. الخصم: الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في دفع حق أو إثبات باطل..
٩ اللسان (لدد)..
١٠ ما بين القوسين سقط من ب..
١١ بلسانك: سقط من ب..
١٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٧. بتصرف..
١٣ ما بين القوسين سقط من ب..
١٤ في ب: لوقوع..
١٥ فبين: مكتوب في ذيل الصفحة من (ب) لبيان بداية الصفحة الأخرى، وهو ساقط منها..
١٦ في ب: المؤمنين والمتقين..
١٧ أبلغ: سقط من ب..
١٨ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١/٢٥٧..
١٩ البغوي ٥/٤٠٧..
٢٠ هو معمر بن المثنى اللغوي البصري، أبو عبيدة، من مصنفاته: المجاز في غريب القرآن، الأمثال في غريب الحديث، معاني القرآن، وغير ذلك. مات سنة ٣١٠ هـ. بغية الوعاة ٢/٢٩٤-٢٩٦..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ مجاز القرآن ٢/١٣..
٢٣ انظر البغوي ٥/٤٠٧..
" وكمْ أهْلَكٍنَا قبلهُمْ مِنْ قرنٍ " لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا، وأنه لا بد فيها من الموت خافوا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب، ثم أكد تعالى ذلك فقال١ :﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾٢. قرأ الناس٣ بضم التاء وكسر الحاء من أحسَّ٤.
وقرأ أبو حيوة، وأبو جعفر٥، وابن أبي عبلة٦ " نَحُسُّ " " بفتح التاء وضم الحاء ٧ " ٨ وقرأ بعضهم :" تَحِس " بالفتح والكسر، من حسَّه : أي شعر به، ومنه الحواس الخمس٩. و " مِنْهُم " ١٠ حال من " أحَد "، إذ هو في الأصل صفة له. و " مِنْ أحَد " مفعول زيدت فيه " مِنْ. وقرأ حنظلة " ١١ تُسْمَعُ " بضم التاء وفتح الميم مبنياً للمفعول١٢. و " رِكْزاً " مفعول على كلتا القارءتين، إلا أنه مفعول ثان في القراءة " الشاذة " ١٣. والرَِّكْزُ : الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم١٤، " ومنه ركز الرمح١٥ " أي غيب طرفه في الأرض وأخفاه، ومنه الرِّكاز، وهو المال المدفون لخفائه واستتاره١٦، وأنشدوا :
فَتَوجَّسَتْ رَكْزَ الأنيسِ فَراعَها عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ، والأنيسُ سَقامُهَا١٧

فصل١٨


قال المفسرون :" هّلْ تُحِسُّ "، وقيل : هل تجد١٩.
" مِنْهُم مِنْ أحَدٍ "، لأنَّ الرسول - عليه السلام٢٠- إذا لم يحسّ منهم أحداً برؤية وإدراك ووجدان، ولا يسمع لهم ركزاً، أي : صوتاً خفياً دلَّ ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية٢١.
قال الحسن : بادوا جميعاً، فلم٢٢ يبق عين ولا أثر٢٣.
١ في ب: بقوله..
٢ الفخر الرازي ٢١/٢٥٧..
٣ في ب: العامة..
٤ البحر المحيط ٦/٢٢١..
٥ هو يزيد بن القعقاع أبو جعفر المخزومي، المدني، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور، عرض القراءة على مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وابن عباس، وأبي هريرة. وروى عنهم، وروى القراءة عنه نافع بن أبي نعيم، وغيره، مات سنة ١٣٠ هـ. طبقات القراء ٢/٣٨٢-٣٨٤..
٦ تقدم..
٧ المختصر (٨٦)، البحر المحيط ٦/٢٢١..
٨ ما بين القوسين في ب: بضم التاء وفتح الحاء. وهو تحريف..
٩ الكشاف ٢/٤٢٦، البحر المحيط ٦/٢٢١..
١٠ في ب: قوله: أحد. وهو تحريف..
١١ في ب: حنظل. وهو حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية المكي، أخذ عن طاوس، وسالم، والقاسم، ومجاهد، وأخذ عنه الثوري، ويحيى القطان ووكيع، مات سنة ١٥١ هـ.
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١/٢٦٣..

١٢ المختصر (٨٦)، الكشاف ٢/٤٢٦، البحر المحيط ٦/٢٢١.
.

١٣ ما بين القوسين: سقط من ب..
١٤ لعله على حذف مضاف أي: ولا تحريك فم..
١٥ اللسان (ركز)..
١٦ البيت من بحر الكامل من معلقة لبيد وهو في ديوانه (١٧٣)، ومجاز القرآن ٢/١٤، الطبري ١٦/١٠٢، تفسير ابن عطية ٩/٥٤٧، القرطبي ١١/١٦٢، البحر المحيط ٦/١٩٨.
التوجس: التسمع إلى الصوت الخفي، الركز: الصوت الخفي، وهو محل الشاهد. عن ظهر غيب: من وراء حجاب. سقامها: هلاكها..

١٧ فصل: سقط من ب..
١٨ البغوي: ٥/٤٠٧..
١٩ في ب: عليه الصلاة..
٢٠ الفخر الرازي ٢١/٢٥٧..
٢١ في ب: ولم..
٢٢ البغوي ٥/٤٠٧..
٢٣ تقدم.
.

Icon