ﰡ
مكية- وهى ثمان وتسعون آية. والمقصود من السورة الرد على النصارى فى إشراكهم عيسى عليه السلام لله تعالى فى ألوهيته، فهى كالتتميم لقوله: وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «١».
قال تعالى:
[سورة مريم (١٩) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١)قيل: هي مختصرة من أسماء الله تعالى، فالكاف من كافٍ، والهاء من هادٍ، والياء من يمين، والعين من عليم أو عزيز، والصاد من صادق. قاله الهروي عن ابن جبير.
قال أبو الهيثم: جعل الياء من يمين، من قولك: يَمَن الله الإنسانَ يَيْمنُهُ يمنًا فهو ميْمون. هـ. ولذا ورد الدعاء بها، فقد رُوي عن علي- كرم الله وجهه- أنه كان يقول: (يا كهيعص أعوذ بك من الذنوب التي تُوجب النقم، وأعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتِك العِصَم، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء، وأعوذ بك من الذنوب التي تُديل الأعداء، انصرنا على من ظلمنا) «٢». كان يقدم هذه الكلمات بين يدي كل شدة. فيحتمل أن يكون توسل بالأسماء المختصرة من هذه الحروف، أو تكون الجملة، عنده، اسمًا واحدًا من أسماء الله تعالى، وقيل: هو اسم الله الأعظم. ويحتمل أن يشير بهذه الرموز إلى معاملته تعالى مع أحبائه، فالكاف كفايته لهم، والهاء هدايته إياهم إلى طريق الوصول إلى حضرته، والياء يُمنه وبركته عليهم وعلى من تعلق بهم، والعين عنايته بهم في سابق علمه، والصاد صدقه فيما وعدهم به من الإتحاف والإكرام. والله تعالى أعلم.
وقيل: هي مختصرة من أسماء الرسول- عليه الصلاة والسلام- أي: يا كافي، يا هادي، يا ميمون، يا عين العيون، أنت صادق مصدق. وعن ماضي بن سلطان تلميذ أبي الحسن الشاذلى- رضى الله عنهما-: [أنه رأى في منامه أنه اختلف مع بعض الفقهاء في تفسير قوله: (كهيعص. حم. عسق)، فقلت: هي أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، وكأنه قال: «كاف» أنت كهف الوجود، الذي يؤم إليه كلُّ موجود، «ها» هبنا لك الملك، وهيأنا لك الملكوت، «يَعَ» يا عين العيون، «ص» صفات الله (مَن يُطع الرسولَ فقد أطاع الله)، «حاء» حببناك، «ميم»
(٢) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (١/ ١١٢).
قال تعالى:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢ الى ٦]
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
قلت: (ذِكْرُ) : خبر عن مضمر، أي: هذا ذكر، والإشارة للمتلو في هذه السورة لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر في حكم الحاضر الشاهد. وقيل: مبتدأ حُذف خبره، أي: فيما يُتلى عليك ذكر رحمت ربك. وقيل: خبر عن (كهيعص)، إذا قلنا هي اسم للسورة، أي: المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك، و (عَبْدَهُ) : مفعول لرحمة ربك، على أنها مفعول لما أضيف إليها، أو لذكر، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع. ومعنى ذكر الرحمة: بلوغها إليه، و (زَكَرِيَّا) : بدل منه، أو عطف بيان، و (إِذْ نادى) : ظرف لرحمة، وقيل: لذكر، على أنه مضاف إلى فاعله، وقيل: بدل اشتمال من زكريا، كما في قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ...
«١»، و (مِنِّي) : حال من العَظْم، أي: كائنًا مني، و (شَيْئاً) : تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا الذي نتلوه عليك في هذه السورة هو ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
قال الثعلبي: [فيه تقديم وتأخير]. أي: ذكر ربك عبده زكريا برحمته، إِذْ نادى رَبَّهُ وهو في محرابه في طلب الولد نِداءً خَفِيًّا: سرًا من قومه، أو في جوف الليل، أو مخلصًا فيه لم يطلع عليه إلا الله. ولقد راعى عليه السلام حسن الأدب في إخفاء دعائه، فإنه أَدْخَلُ في الإخلاص وأَبَْعَدُ من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس، حيث طلب الولد في غير إِبَّانِهِ ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم.
قالَ في دعائه: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي: ضعف بدني وذهبت قوتي. وإسناد الوهن إلى العَظْم لأنه عماد البدن ودعامة الجسد، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد مِن أفراده. ووهن بدنه عليه السلام: لكبر سنه، قيل: كان ابن سبعين، أو خمسًا وسبعين، وقيل:
مائة، وقيل: أكثر.
ثم قال: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي: لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كنت كلما دعوتك استجبتَ لي. توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه، لعله يشفع له ذلك بمثله، إثر تمهيد ما يستدعي ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال. والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع، ولذلك قيل: من أراد أن يُستجاب له فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
ثم قال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي: الأقارب، وهم: بنو عمه، وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف ألا يحسنوا خلافته في أمته، فسأل الله تعالى ولدًا صالحًا يأمنه على أمته. وقوله: مِنْ وَرائِي: متعلق بمحذوف، أي:
جور الموالي، أو مما في الموالي من معنى الولاية، أي: خفت أن يلوا الأمر من ورائي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً: لا تلد من حين شبابها، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة، بطريق الاختراع، لا بواسطة الأسباب العادية لأن التعبير بِلَدُنَ يدل على شدة الاتصال والالتصاق، وَلِيًّا: ولدًا من صلبى، يليى الأمر من بعدي.
والفاء: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ ما ذكره عليه السلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة، ولا يقدح في ذلك أن يكون هناك داعٍ آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم، كما يُعرب عنه قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ «١». وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم، فإن الاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من النكتة التنزيلية. وقوله: يَرِثُنِي: صفة لوليًّا، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابًا للدعاء، أي: يرثني من حيث العلم والدين والنبوة، فإن الأنبياء- عليهم السلام- لا يورثون من جهة المال. قال: ﷺ «نحن مَعاشر الأنبيَاءِ لا نُورَثُ» «٢». وقيل: يرثني في الحبورة، وكان عليه السلام حبرا.
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٢/ ٤٦٣).
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي: مرضيًا، فعيل بمعنى مفعول، أي: ترضى عنه فيكون مرضيًا لك، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل، أي: راضيًا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: طلب الوارث الروحاني- وهو وارث العلم والحال- جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته. وقيل: السكوت والاكتفاء بالله أولى، ففي الحديث: «يرحَم اللهُ أخانا زَكَرِيَّا، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ يَرِثُه» «١». وقوله تعالى: نِداءً خَفِيًّا. الإخفاء عند الصوفية أولى في الدعاء والذكر وسائر الأعمال، إلا لأهل الاقتداء من الكَمَلَة، فهم بحسب ما يبرز في الوقت.
وقوله تعالى: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. فيه قياس الباقي على الماضي، فالذي أحسن في الماضي يحسن في الباقي، فهذا أحد الأسباب في تقوية حسن الظن بالله وأعظم منه من حسَّن الظن بالله لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم، والجود والرأفة والرحمة، فإن الأول ملاحظ للتجربة، والثاني ناظر لعين المِنَّة.
قال في الحكم: «إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك، فهل عَوَّدَكَ إلا حَسَنًا؟
وهل أسدى إليك إلا مننا؟».
ثم ذكر إجابته لزكريا عليه السّلام، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧ الى ١١]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: يا زَكَرِيَّا، كلمهُ بواسطة المَلك: إِنَّا نُبَشِّرُكَ ونجيب دعوتك بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لأنه حيى به عُقْمُ أمه. أجاب نداءه في الجملة، لا من كل وجه، بل على حسب المشيئة، فإنه طلب ولدًا يرثُه، فأجيب في الولد دون الإرث فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه- عليهما السلام- وقيل: بقي بعده برهة، فلا إشكال حينئذ. وفي تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له، وفي تخصيصه به- كما قال تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي: شريكًا في الاسم، حيث لم يتسم به أحد قبله- مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة»
. وقيل: (سَمِيًّا) : شبيهًا في الفضل والكمال، كما قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «٢» فإنه عليه السلام لم يكن قبله أحد مثله في بعض أوصافه، لأنه لم يهم بمعصية قط، وأنه ولد لشيخ فانٍ، وعجوز عاقر، وأنه كان حصورًا، ولم تكن هذه الخصال لغيره.
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: من أين وكيف يحدث لي غلام، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً: عقيمة، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا: يبسًا في الأعضاء والمفاصل، ونحولاً في البدن، لِكِبَرِهِ، وكان سنُّه إذ ذاك مائة وعشرين، وامرأته ثمان وتسعين. وتقدم الخلاف فيه. وإنما قاله عليه السلام مع سبق دعائه وقوة يقينه، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في آل عمران استعظامًا لقدرة الله تعالى، وتعجيبًا منها، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه، مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة. وقيل: كان دهشًا من ثمرة الفرح، وقيل: كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه. وقيل: بل كان ذلك بطريق الاستبعاد، حيث كان بين الدعاء والبشارة سِتُّون سنة، وكان قد نسي دعاءه، وهو بعيد.
قالَ كَذلِكَ أي: الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة، لكن هو على قدرتنا هين، ولذلك قال:
قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك، ثم فسَره بقوله: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أو «مثل» مقحمة، أي: ذلك قال ربك. والإشارة إلى مصدره، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق، أو كذلك قضى ربك.
(٢) من الآية ٦٥ من سورة مريم.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «١» الآية. انظر تفسير أبي السعود.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة تدلنى على تحقق المسئول، وبلوغ المأمول، وهو حمل المرأة بذلك الولد، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان لما يُروى أن (يحيى كان أكبر من عيسى- عليهما السلام- بستة أشهر، أو بثلاث سنين)، ولا ريب في أنَّ دعاء زكريا عليه السلام كان في صغر مريم، لقوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ «٢»، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين، أو ثلاث عشرة سنة، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم- عليها السلام.
قالَ له تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي: أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر، ثَلاثَ لَيالٍ بأيامهن، للتصريح بها في آل عمران «٣»، حال كونك سَوِيًّا أي: سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح، مابك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء. وحكمة منعه لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ: من المصلّى، وكان مغلقًا عليه، فالمحراب مكان التعبد، أو من الغرفة، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب، ليدخلوا ويُصلوا، إذ خرج عليهم متغيرًا لونه، فأنكروه، وقالوا له: مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي: أوْمَأ إليهم، وقيل: كتب في الأرض: أَنْ سَبِّحُوا أي: صلوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا: صلاة الفجر وصلاة العصر، ولعلها كانت صلاتهم. أو: نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا، ويأمر قومه بذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ «٤» وفي الحكم:
«ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار». فإذا اضطررت إلى مولاك، فلا محالة يجيب دعاك، لكن فيما يريد لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد. فلا تيأس ولا تستعجل (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره، واستفرغ أوقاتك، إلا من شهود إحسانه وبره. وبالله التوفيق.
(٢) من الآية ٣٨ من سورة آل عمران.
(٣) في قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً الآية ٤١.
(٤) من الآية ٦٢ من سورة النمل.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
. قلت: «صَبِيًّا» : حال من مفعول «آتَيْناهُ»، و «حَناناً» و «زَكاةً» : عطف على «الْحُكْمَ». و «مِنْ لَدُنَّا» : متعلق بمحذوف، صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية، أي: وآتيناه الحكم وتحنُّنًا عظيمًا واقعًا من جنابنا، أو شفقة في قلبه ورحمة على أبويه وغيرهما. قال ابن عباس: (ما أدري ما حنانًا إلا أن يكون تعطف رحمة الله على عباده). ومنه قولهم: «حَنَانَيْكَ»، مثل سعديْك، وأصله: من حنين الناقة على ولدها، و (بَرًّا)
: عطف على «تَقِيًّا».
يقول الحق جلّ جلاله: يا يَحْيى أي: قلنا يا يحيى، وهذا استئناف طُوي قبله جمل كثيرة، مما يدل على ولادته ونشأته، حتى أوحي إليه، ثم قال له: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي: التوراة، وقيل: كتاب خُص به، فدلت الآية على رسالته. وفي تفسير ابن عرفة: أن يحيى رسول كعيسى. هـ. وقوله: بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد، وقيل:
بالعمل به، وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قال ابن عباس: (الحكم هنا النبوة، استنبأهُ وهو ابن ثلاث سنين)، قلت: كون الصبي نبيًا جائز عقلاً، واقع عند الجمهور، وأما بعثه رسولاً فجائز عقلاً، وظاهر كلام الفخر «١» هنا أنه واقع، وأن يحيى وعيسى بُعثا صغيرين. وقال ابن مرزوق في شرح البخاري ما نصه: (الأعم: بعث الأنبياء بعد الأربعين) لأنه بلوغ الأشد، وقيل: أرسل يحيى وعيسى- عليهما السلام- صبيين. وقال ابن العربي: يجوز، ولم يقع.
وقول عيسى عليه السلام: (إني عبد الله) إخبار عما وجب في المستقبل، لا عما حصل. واستُشْكِلَ جواز بعث الصبي بأنه تكليف، وشرطُه: البلوغُ، إن كانت الشرائع فيه سواء. انظر المحشي الفاسي. قلت: والذي يظهر أن يحيى وعيسى- عليهما السلام- تنبئا صغيرين، وأرسلا بعد البلوغ. والله تعالى أعلم. وقيل: الحكم: الحكمة وفهم التوراة والفقه في الدين. رُوي أنه دعاه الصبيان إلى اللعب، فقال: ما لِلَعِبٍ خلقت.
وَآتيناه حَناناً أي: تحنُّنًا عظيمًا مِنْ لَدُنَّا: من جناب قدسنا، أو تحننًا من الناس عليه. قال عوف: الحنان المحبّب، وَزَكاةً: طهارة من العيوب والذنوب، أو صدقة تصدقنا به على أبويه، أو: وفّقناه للتصدق على الناس. وَكانَ تَقِيًّا مطيعًا لله، متجنبًا للمعاصي، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
: لطيفًا بهما محسنا إليهما،
متكبرًا عاقًا، فالجبّار: هو المتكبر، لأنه يجبر الناس على أخلاقه. وقيل: من لا يقبل النصيحة، أو عاصيًا الله تعالى. وَسَلامٌ عَلَيْهِ
أي: سلامة من الله تعالى عليه، يَوْمَ وُلِدَ
من أن يناله الشيطان بما ينال بني آدم، وَيَوْمَ يَمُوتُ
من عذاب القبر، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من هول القيامة وعذاب النار.
رُوِيَ أن يحيى وعيسى- عليهما السلام- التقيا، فقال له يحيى: استغفر لي، فأنت خير مني، فقال له عيسى:
أنت خير مني، أنا سلمت على نفسي وأنت سلم الله عليك.
الإشارة: أخذ الكتاب بالقوة- وهو الجد والاجتهاد في قراءته- هو أن يكون متجردًا لتلاوته، منصرف الهمة إليه عن غيره، فلا يصدق على العبد أن يأخذ كتاب ربه بقوة، حتى يكون هكذا عند تلاوته. قال الورتجبي:
خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ أي: خذ كتابنا بنا لابك، والكتاب كلام الحق الأزلي، أي: خذ الكتاب الأزلي بالقوة الأزلية. هـ. ومعناه أن يكون التالي فانيًا عن نفسه، متكلمًا بربه، ويسمعه من ربه، فهذا حال المقربين.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة مريم- عليها السلام- فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
قلت: (إِذِ انْتَبَذَتْ)
: بدل اشتمال من مريم، على أن المراد بها نبؤها، فإن الظرف مشتمل على ما فيها، وقيل:
بدل الكل، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه. وقيل: «إِذِ»
ظرف لنبأ المقدر، أي: اذكر نبأ مريم حين انتبذت لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان، لكن لا على أنّ يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ. و (مَكاناً)
: مفعول بانتبذت، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان، أي: اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا، أو ظرف له، أي: اعتزلت في مكان شرقي. و (بَشَراً)
: حال. وجواب (إِنْ كُنْتَ)
: محذوف، أي: إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك. و (بَغِيًّا) أصله: بغوي، على وزن فعول،
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ
يا محمد فِي الْكِتابِ
: القرآن، والمراد هذه السورة الكريمة لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا، واستتبعت بذكر قصة مريم لما بينهما من الاشتباك. أي: اذكر في الكتاب نبأ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
حين اعتزلت مِنْ أَهْلِها
وأتت مَكاناً شَرْقِيًّا
من بيت المقدس، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل: قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض، محتجبة بشيء يسترها، وذلك قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هي تغتسل من الحيض، محتجبة دونهم، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي، شاب أمرد، وضيء الوجه.
قال تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
: جبريل عليه السلام، عبَّر عنه بذلك توفية للمقام حقه. وقرىء بفتح الراء لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد، يعني اتباعه والاهتداء به، الذي هو عدة المقربين في قوله: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «٢». فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
: سَويّ الخَلق، كامل البنية، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا، وقيل: تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ «٣» لها، اسمه يوسف، مِنْ خدَم بيت المقدس، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته.
وأما ما قيل من أنَّ ذلك لتَهيج شهوتُها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها، فغلط فاحش، ينحو إلى مذهب الفلاسفة، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم، يُكذبه قوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة. نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحُسن الفائق والجمال اللائق لابتلائها واختبار عِفّتها، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه. وذِكْرُ عنوان الرحمانية للمبالغة في العِيَاذ به تعالى، واستجلاب آثار الرحمة الخاصة، التي هي العصمة مما دهمها. قاله أبو السعود. وقولها: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي: تتقي الله فتُبَالى بالاستعاذة به.
(٢) الآيتان ٨٨- ٨٩ من سورة الواقعة.
(٣) أي: فى مثل سنها: فالتّرب: اللّدة والسّنّ... انظر: اللسان (ترب ١/ ٤٢٥).
أي: لستُ ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً
أي: لأكون سببًا في هبة الغلام، أو: ليهب لك ربُك غُلامًا- في قراءة الياء-.
والتعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتها، والإشعار بعلية الحكم فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها. وقوله: زَكِيًّا
أي: طاهرًا من العيوب صالحًا، أو تزكو أحواله وتنمو في الخير، من سن الطفولية إلى الكبر.
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ كما وصفتَ، وَالحال أنه لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ بالنكاح، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا زانية فاجرة تبتغي الرجال؟ قالَ لها الملك: كَذلِكِ أي: الأمر كما قلتُ لك قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي: هبة الغلام من غير أن يمسسك بشرٌ هين سهل على قدرتنا، وإن كان مستحيلاً عادة لأني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط، بل أمرنا بين الكاف والنون، وَإنما فعلنا ذلك لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ يستدلون به على كمال قدرتنا. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الجلالة، وَلنجعله رَحْمَةً عظيمة كائنة مِنَّا عليهم، ليهتدوا بهدايته، ويُرشدوا بإرشاده. وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا في الأزل، قد تعلق به قضاء الله وقدره، وسُطِّر في اللوح المحفوظ، فلا بُدّ من جريانه عليك، أو: كان أمرا حقيقا بأن يقضى ويفعل لتضمنه حِكَمًا بالغة وأسرارًا عجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار، أو عن الشهود والاستبصار، فإذا اعتزل مكانًا شرقيًا، أي: قريبًا من شروق الأنوار والأسرار، بحيث يكون قريبًا من أهل الأنوار، أو بإذنهم، أرسل الله إليه روحًا قدسيًا، وهو وارد رباني تحيا به روحُه وسرُه وقلبُه وقالبُه، فيهب له عِلمًا لدنيا، وسرًا ربانيًا، يكون آية لمن بعده، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر حملها وولادتها وما كان من شأنها مع قومها، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٢ الى ٣٣]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
يقول الحق جلّ جلاله: فَحَمَلَتْهُ بأن نفخ جبريل في درعها، فدخلت النفخة في جوفها. قيل: أن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه، وقيل: نفخ عن بُعد، فوصل الريح إليها فحملت في الحال، وقيل: إن النفخة كانت في فيها، وكانت مدة حملها سبعة أشهر، وقيل: ثمانية. ولم يعش ولد من ثمانية. وفي ابن عطية:
تظاهرت الروايات أنها ولدت لثمانية أشهر، ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظًا لخاصية عيسى، فتكون معجزة له. هـ. وقيل: تسعة أشهر. وقيل: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصُور في ساعة، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس. وقيل: ساعة، ما هو إلا أن حملت فوضعت، وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشر سنين، وقد حاضت حيضتين.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي: فاعتزلت ملتبسة به حين أحست بقرب وضعها، مَكاناً قَصِيًّا: بعيدًا من أهلها وراء الجبل، وقيل: أقصى الدار. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فألجأها المخاض. وقرئ بكسر الميم. وكلاهما مصدر، مَحَضتِ المرأة: إذا تحرك الولد في بطنها للخروج، إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستتر به، أو لتعتمد عليه عند الولادة، وهو ما بين العِرق والغصن. وكانت نخلة يابسة، لا رأس لها ولا قعدة، قد جيىء بها لبناء بيت، وكان الوقت شتاء، والتعريف في النخلة إما للجنس أو للعهد، إذ لم يكن ثَمَّ غيرها، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب، الذي هو من طعام النفساء الموافق لها.
قالَتْ حين أخذها وجع الطلق: يا لَيْتَنِي مِتُّ «٢» بكسر الميم، من مات يُمَاتُ، وبالضم، من مات
(٢) قرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي وخلف: «مت» بكسر الميم، والباقون بالضم.
فَناداها أي: جبريل عليه السلام مِنْ تَحْتِها، قيل: إنه كان يقبل الولد من تحتها، أي: من مكان أسفل منها،.
وقيل: من تحت النخلة، وقيل: ناداها عيسى عليه السلام، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم، أي: فخاطبها الذي تحتها:
أَلَّا تَحْزَنِي، أو: بألا تحزني، على أن «أن» مفسرة، أو مصدرية، حذف عنها الجار. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ أي: بمكان أسفل منك سَرِيًّا أي: نهرًا صغيرًا، حسبما رُوي مرفوعًا. «٢» قال ابن عباس رضى الله عنهما: (أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض، فظهرت عين ماء عذب، فجرى جدولاً). وقيل: فعله عيسى، أي: ضرب برجله فجرى، وقيل: كان هناك نهر يابس- أجرى الله تعالى فيه الماء، كما فعل مثله بالنخلة، فإنها كانت يابسة لا رأس لها، فأخرج لها رأسًا وخُوصًا وتمرًا. وقيل: كان هناك نهرُ ماء. والأول أظهر لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق، والمتبادر من النظم الكريم.
وقيل: (سَرِيًّا) أي: سيدًا نبيلاً رفيعَ الشأن جليلاً، وهو عيسى عليه السلام، والتنوين حينئذ للتفخيم. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي. والتعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
ثم قال: وَهُزِّي إِلَيْكِ أي: حركي النخلة إليك، أي: جاذبة لها إلى جهتك. فهَزُّ الشيء: تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكًا عنيفًا، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع. والباء في قوله: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ:
صلة للتأكيد، لقول العرب: هزَّ الشيء وهز به، أو للإلصاق. فإذا هززت النخلة تُساقِطْ «٣» أي: تتساقط.
وقُرئ: تساقِطَ، وتُسْقِط، أي: النخلة عليك إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز رُطَباً جَنِيًّا أي: طريًّا، وهو ما قطع قبل يبسه. فعيل بمعنى مفعول، أي: مجنيًا صالحًا للاجتناء. فَكُلِي من ذلك الرطب
(٢) أخرج المرفوع الطبراني فى المعجم الصغير (١/ ٢٤٤) من حديث البراء بن عازب، وأخرجه فى الكبير (١٢/ ٣٤٦ ح ١٣٣٠٣) من حديث ابن عمر.
(٣) هذه قراءة نافع، وابن كثير، وأبى عمرو، وابن عمرو، والكسائي. وقرأ حفص «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف.
وقرأ حمزة «تساقط» بفتح التاء والقاف وتخفيف السين، والأصل: تتساقط. انظر: التبصرة/ ٢٥٦، والإتحاف (٢/ ٢٣٥).
وقرة العين: برودتها، مأخوذ من القرّ، وهو البرد لأن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سُخن، ولذلك يقال: قرة العين للمحبوب، وسُخنة العين للمكروه.
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً آدميًا كائنًا من كان فَقُولِي له إن استنطقكِ أو لامك: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي: صمتًا، وقرىء كذلك، وكان صيامهم السكوت، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام. وذكر ابن العربي في الأحوذى: أن نبينا- عليه الصلاة والسلام- اختص بإباحة الكلام لأمته في الصوم، وكان محرمًا على من قبلنا، عكس الصلاة. هـ. قالت: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي: بعد أن أخبرتكم بنذري، وإنما أكلم الملائكة أو أناجي ربي. وقيل: أُمرت بأن تُخبر عن نذرها بالإشارة. قال الفراء: العرب تُسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا، ما لم يُؤكّد بالمصدر، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. هـ. وإنما أُمرت بذلك ونذرته لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها عند ما طَهُرت من نفاسها، تَحْمِلُهُ أي: حاملة له. قال الكلبي: احتمل يوسف النجار- وكان ابن عمها- مريمَ وابنها عيسى، فأدخلهما غارًا أربعين يومًا، حتى تَعَلّتْ من نفاسها، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يومًا، وكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمه، أبشري، فإني عبد الله ومسِيحُه. فلما رآها أهلُها، بَكَوا وحزنوا، وكانوا قومًا صالحين. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ أي: فعلت شَيْئاً فَرِيًّا: عظيمًا بديعًا منكرًا، من فَرَى الجلد: قطعه. قال أبو عبيدة: (كل فائق من عَجَب أو عمل فهو فَرِيّ). قال النبي صلى الله عليه وسلم: فى حق عمر رضي الله عنه: «فلم أرَ عَبْقَرِيًا من النَّاس يَفْرِي فَرِيَّة» «١» أي: يعمل عمله.
يا أُخْتَ هارُونَ، عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله، أي: كانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة، وكان بينها وبينه ألفُ سنة. أو يا أخت هارون في الصلاح والنسك، وكان رجلاً صالحًا في زمانهم اسمه هارون، فشبهوها به. ذُكِرَ لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا، كلهم يسمي هارون من بني إسرائيل. وقيل: إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بني إسرائيل، فشتموها بتشبيهها به. ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ
«أريت فى المنام أنى أنزع بدلو على بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفرى فريه، حتى روى الناس وضربوا بعطن».
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي: إلى عيسى أن كلموه، ولم تكلمهم وفاء بنذرها، وإشارتها إليه من باب الإدلال، رجوعًا لقوله لها: (وَقَرِّي عَيْناً)، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعُدت به من العناية بأمرها والكفاية لشأنها، وذلك يقتضي انفرادها بالله وغناها به، فتدل بالإشارة. وكان ذلك طوعَ يدها، وتذكّر قضية جريج. قاله في الحاشية.
قالُوا منكرين لجوابها: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، ولم يُعهد فيما سلف صبي يكلمه عاقل.
و «كانَ» هنا: تامة. و «صَبِيًّا» : حال. وقيل: زائدة، أي: من هو في المهد.
قالَ عيسى عليه السلام: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، أنطقه الله تعالى بذلك، تحقيقًا للحق، وردًا على من يزعم ربوبيته.
قيل كان المستنطق لعيسى زكريا- عليهما السلام- وعن السدي: (لما أشارت إليه، غضبوا، وقالوا: لَسُخْرِيَتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت). رُوِي أنه عليه السلام كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع، واقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابته، فقال ما قال. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان.
ثم قال في كلامه: آتانِيَ الْكِتابَ: الإنجيل: وَجَعَلَنِي مع ذلك نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً: نفَّاعًا للناس، معلما للخير أَيْنَ ما كُنْتُ أي: حيثما كنت، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ: أمرني بها أمرًا مؤكدًا، وَالزَّكاةِ زكاة الأموال، أو بتطهير النفس من الرذائل ما دُمْتُ حَيًّا فى الدنيا. وَجعلنى بَرًّا بِوالِدَتِي فهو عطف على مُبارَكاً. وقرئ بالكسر، على أنه مصدرٌ وُصف به مبالغة، وعبّر بالفعل الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو بجعل ما سَيَقَع واقعًا لتحققه. ثم قال:
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا عند الله تعالى، بل متواضعًا لينًا، سعيدًا مقربًا، فكان يقول: سلوني، فإن قلبي لين، وإني في نفسي صغير، لما أعطاه الله من التواضع.
ثم قال: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، كما تقدم على يحيى. وفيه تعريض بمن خالفه، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده، كما في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «١» فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى.
فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام، وهو أحد من تكلم في المهد، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا. وكلهم معروفون، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال: قال ابن عباس:
(لما أسري بالنبي ﷺ مرت به ريح طيبة فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون، كانت
أُخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها، وقال: من ربك؟ قالت: ربي وربك في السماء، فأمر فرعون ببقرة- أي: آنية عظيمة من نحاس- فَأُحْمِيَتْ، ودعاها بولدها، فقالت: إن لي إليك لحاجةً، قال: وما حاجتك؟ قالت:
تجمع عظامي وعظامَ ولدي فتدفنها جميعًا، قال: وذلك لك علينا من الحقّ، سأفعل ذلك لك، فأمر بأولادها واحدًا واحدًا، حتى إذا كان آخر ولدها، وكان صبيًا مرضَعًا، قال: اصبري يا أمه.. فألقاها في البقرة مع ولدها «١». هـ.
الإشارة: يُؤخذ من الآية أمور صوفية، منها: أن الإنسان يُباح له أن يستتر في الأمور التي تهتك عرضه، ويهرب إلى مكان يُصان فيه عرضه، إلا أن يكون في مقام الرياضة والمجاهدة، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه، ومنها: أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته، ولا ينافي توكله. ومنها: أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه. ويُؤخذ أيضًا من الآية: أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا لأنه من طبع البشر، وإنما ينافيه تماديه على الجزع.
ومنها: أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافي التوكل، لقوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ). لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين، غير معتمد عليها بقلبه، فإن كان متجردًا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه، ويتمكن في معرفة الحق تعالى. وقد كانت في بدايتها تأتي إليها الأرزاق بغير سبب كما في سورة آل عمران «٢»، وفي نهايتها قال لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ). قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كانت في بدايتها متعرفًا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى، وأما من قال: إن حبها أولاً كان لله وحده، فلما ولدت انقسم حبها، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغي أن يلتفت إليه، لأنها صدّيقة، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها.
ومنها: أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة، إذا كان يتحصن بها من الناس، أو من نفسه، كالصوم أو الصمت «٣» أو غيرهما، مما يحجزه عن العوام، أو عن الانتصار للنفس.
وقوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ... ) الآية: قال: الورتجبي: سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية. ثم قال: وسلام عيسى من عين الجمع، سلام فيه مزية ظهور الربوبية في معدن العبودية. وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحًا في وصاله وكشف جماله، ولو سَلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قِدَمه. هـ.
(٢) فى قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. الآية ٣٧.
(٣) قلت: ما قاله جائز فى الصوم، وغير جائز فى الصمت لما ورد في الحديث أن النبي ﷺ أمر الذي نذر الصوم والصمت أن يتم صومه، وأن يتكلم. فتأمله فإنه دقيق.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
قلت: وَإِنَّ اللَّهَ: عطف على قوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) فيمن كسر، وعلى حذف اللام فيمن فتح، أي: ولأن الله ربي وربكم. وقال الواحدي وأبو محمد مكي: عطف على قوله: (بِالصَّلاةِ) أي: أوصاني بالصلاة وبأن الله... الخ: وقال المحلي:
بالفتح، بتقدير اذكر، وبالكسر بتقدير «قل». و (قَوْلَ الْحَقِّ) : مصدر مؤكد لقال، فيمن نصب، وخبر عن مضمر، فيمن رفع، أي: هو، أو هذا. و (إِذا قَضى) : بدل من (يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، أو ظرف للحسرة. و (هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : جملتان حاليتان من الضمير المستقر في الظرف في قوله: (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: مستقرين في الضلال وهم في تينك الحالتين.
يقول الحق جلّ جلاله: ذلِكَ المنعوت بتلك النعوت الجليلة، والأوصاف الحميدة هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه به. وأتى بإشارة البعيد للدلالة على علو رُتبته وبُعد منزلته، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس.
هذا قَوْلَ الْحَقِّ، أو قال عيسى قَوْلَ الْحَقِّ الذي لا ريب فيه، وأنه عبد الله ورسوله، الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: يشكون أو يتنازعون، فيقول اليهود: ساحر كذاب، ويقول النصارى: إله، أو ابن الله. مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي: ما صح، أو ما استقام له أن يتخذ ولدًا، سُبْحانَهُ وتعالى عما يقولون عُلوّاً كبيراً، فهو تنزيه عما بهتوه، ونطقوا به من البهتان، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدًا، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
ثم قال لهم عيسى عليه السلام: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، فهو من تمام ما نطق به في المهد، وما بينهما اعتراض، للمبادرة للرد على من غلط فيه، أي: فإني عبد، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تُشركوا معه غيره، هذا الذي ذكرتُ لكم من التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: ما أسمعهم وما أبصرهم، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ. والمعنى: أن أسماعهم وأبصارهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للحساب والجزاء جدير أن يُتعجب منها، بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا. أو:
ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم، فقد سمعوا وأبصروا، حين لم ينفعهم ذلك. قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر، حين يقول الله لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١». هـ. ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب، أي: أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم، وما يحيق بهم فيه، فالجار والمجرور، على الأول، في موضع رفع، وعلى الثاني: نصب. لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي: في الدنيا، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لا يدرك غايته، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية. ووضع الظالمين موضع الضمير للإيذان بأنهم فى ذلك ظالمون لأنفسهم حيث تركوا النظر.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الناس قاطبة، أما المسيء فعلى إساءته، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي: فرغ من يوم الحساب، وتميز الفريقان، إلى الجنة وإلى النار.
رُوِيَ أن النبي ﷺ سُئل عن ذلك، فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح، فيُذبح، والفريقان ينظرون، فينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، وأهل النار غمًا إلى غمهم، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وأشار بيده إلى الدنيا» «٢» قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تعميرهم فيها، وخلودهم لماتوا حسرة حين رأوا ذلك). وَهُمْ فى
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير، باب: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ). ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها، باب: النار يدخلها الجبارون)، من حديث أبي سعيد الخدري- رضى الله عنه-.
الإشارة: ينبغي للعبد المعتني بشأن نفسه أن يحصِّن عقائده بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة، على وفاق أهل السُنَّة، ثم يجتهد في صحبة أهل العرفان، أهل الذوق والوجدان، حتى يُطلعوه على مقام الإحسان، مقام أهل الشهود والعيان. فإذا فرط في هذا، لحقه الندم والحسرة، في يوم لا ينفع فيه ذلك. فكل من تخلف عن مقام الذوق والوجدان فهو ظالم لنفسه باخس لها، يلحقه شيء من الخسران، ولا بد أنْ تبقى فيه بقية من الضلال، حيث فرط عن اللحوق بطريق الرجال، قال تعالى: (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) أي: يوم يرفع المقربون ويسقط المدعون. فأهل الذوق والوجدان حصل لهم اللقاء في هذه الدار، ثم استمر لهم في دار القرار. رُوي أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضي الله عنه قال يومًا بين يدي أستاذه:
(اللهم اغفر لي يوم لقائك). فقال له شيخه- القطب ابن مشيش- رضى الله عنهما: هو أقرب إليك من ليلك ونهارك، ولكن الظلم أوجب الضلال، وسبقُ القضاء حَكَمَ بالزوال عن درجة الأُنْس ومنازل الوصال، وللظالم يومٌ لا يرتاب فيه ولا يخاتل، والسابق قد وصل في الحال، «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين». هـ. كلامه رضي الله عنه.
ثم استتبع بذكر قصص الأنبياء، تتمة للرد على أهل الشرك، بأن الملل كلها متفقة على إبطاله، وقدّم الخليل لأنه إمام أهل التوحيد، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يَآ أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
: بدل اشتمال من (إِبْراهِيمَ)، وما بينهما: اعتراض، أو متعلق بكان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ القرآن أو السورة، إِبْراهِيمَ أي: اتل على الناس نبأه وبلغه إياهم، كقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «١» لأنهم ينتسبون إليه عليه السلام، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان. إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله، فالصدِّيق مبالغة في الصدق، يقال: كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه، وعمل بما صدق به فهو صدّيق، وبذلك سُمي أبو بكر الصدّيق، وسيأتي في الإشارة تحقيقه عند الصوفية، إن شاء الله.
والجملة: استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره، وكان أيضًا نَبِيًّا، أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، إذ كل نبي صِدِّيق، ولا عكس. ولم يقل: نبيًا صديقًا لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة.
استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره، وكان أيضًا نَبِيًّا، أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، إذ كل نبي صِدِّيق، ولا عكس. ولم يقل: نبيًا صديقًا لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر، متلطفًا في الدعوة مستميلاً له: يا أَبَتِ
، التاء بدل من ياء الإضافة، أي: يا أبي، لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
ثناءك عليه حين تعبده، ولا جُؤَارك إليه حين تدعوه، وَلا يُبْصِرُ
خضوعك وخشوعك بين يديه، أو: لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات، فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أوليًا، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
أي: لا يقدر أن ينفعك بشيء في طلب نفع أو دفع ضرر.
انظر لقد سلك عليه السلام في دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه بأبدع احتجاج، بحسن أدب، وخلق جميل، لكن وقع ذلك لسائرٍ ركب متن المكابرة والعناد، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد، أي:
فإنَّ من كان بهذه النقائص يأبى مَن له عقل التمييز من الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي أقصى غاية التعظيم، فإنها لا تحِقُ إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام، الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، والشيء لو كان مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر، لكنه ممكن، لاستنكف العقل السليم عن عبادته، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى اتباعه لأنه على المنهاج القويم، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة، حيث قال:
يَآ أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط، وإن كان في أقصاه، ولا نفسه بالعلم الفائق، وإن كان في أعلاه، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق،
ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام، فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يُسولُها لك ويغريك عليها، ثم علل نهيه فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا، فهو تعليل لموجب النهي، وتأكيد له ببيان أنه مستعصٍ على ربك، الذي أنعم عليك بفنون النعم، وسينتقم منه فكيف تعبده؟.
والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، والاقتصارُ على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته لأنه ملاكها، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته. والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه.
وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان، وهو اقترانه معه في الهوان الفظيع. و (مِنَ الرَّحْمنِ) : صفة لعذاب، أي: عذاب واقع من الرحمن، وإظهار (الرَّحْمنِ) للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب، كما في قوله تعالى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «١»، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي: فإذا قرنت معه في العذاب تكون قرينًا له في اللعن المخلد. فهذه موعظة الخليل لأبيه، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه:
الأول: ندائه: بيا أبت، ولم يقل يا آزر، أو يا أبي.
الثاني: قوله: (ما لا يَسْمَعُ... )
الخ، ولم يقل: لِمَ تعبد الخشب والحجر.
الثالث: قوله: (إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ)، ولم يقل له: أنك جاهل ضال.
الرابع: قوله: (إِنِّي أَخافُ)، حيث عبَّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب.
الخامس: في قوله: (أَنْ يَمَسَّكَ)، حيث عبَّر بالمس ولم يُعبر باللحوق أو النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقية والنبوة مع الرسالة والخلة، وقدَّم الصديقية لتقدمها في الوجود في حال الترقي، فالصديقية تلي مرتبة النبوة، كما تقدم في سورة النساء. فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يَعْظُمْ صدقه وتصديقه، فيصدِّق بوجود الحق وبمواعده، حتى يكون ذلك نصب عينيه، من غير تردد ولا تلجلج، ولا توقف على آية ولا دليل. ثم يبذل مهجته وماله في مرضاة مولاه، كما فعل الخليل، حيث قدم
ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة، مما تبرزه القدرة الأزلية، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة، حيث تعجبت، وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ «١» وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك، هل يكون بنكاح أم لا، والله تعالى أعلم.
وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير، لا سيما لمن كان معظمًا كالوالدين، أو كبيرًا في نفسه.
فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام، ويشوقه إلى مقام أحسن منه، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه، كما هو مجرب. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب أبيه له، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)
قلت: هذا استئناف بياني، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام، كأنه قيل: فماذا قال أبوه عند ما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرًا على عناده: أراغب... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ له أبوه في جوابه: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة، مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلاً عن ترغيب الغير عنها، ثم هدده فقال: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن وعظك لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، أي: والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر، وقيل باللسان، وَاهْجُرْنِي أي: واتركني مَلِيًّا أي: زمنًا طويلاً، أو ما دام الأبد، ويسمى الليل والنهار مَلَوان، وهو عطف على محذوف، أي: احذرنى واهجرني.
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي: بليغًا في البر والألطاف، رحيمًا بي في أموري، قد عوَّدني الإجابة.
أو عالمًا بي يستجيب لي إن دعوتُه، وفي القاموس: حَفِيَ كَرَضِيَ، حَفَاوةً. ثم قال: واحتفًا: بالَغَ في إكْرامِه وأظْهَرَ السُّرُورَ والفَرَحَ به، وأكَثَر السُؤَالَ عن أحواله، فهو حافٍ وحفي. هـ.
وَأَعْتَزِلُكُمْ أي: أتباعد عنك وعن قومك، وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني، حيث لم تؤثر فيكم نصائحى، وَأَدْعُوا رَبِّي: أعبده وحده، أو أدعوه بطلب المغفرة لك- أي قبل النهي- أو: أدعوه بطلب الولد، كقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «٥»، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي: عسى ألا أشقى بعبادته، أو: لا أخيب في طلبه، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم. ففيه تعريض بهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم، لا من طريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى.
الإشارة: انظر كيف رفض آزرُ مَن رغب عن آلهته، وإن كان أقرب الناس إليه، فكيف بك أيها المؤمن ألاَّ ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره، أو يجحد نبيه ورسوله، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه، غيرةً منك على محبوبك، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق، إذ ليس في الوجود إلا الحق، وكل ما سواه باطل على التحقيق.
(٢) فى الآية ٤ من سورة الممتحنة.
(٣) من الآية ٨٦ من سورة الشعراء.
(٤) الآية ١١٤ من سورة التوبة.
(٥) الآية ١٠٠ من سورة الصافات.
ثم ذكر نتيجة الانفراد عمن يصد عن الله، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
قلت: (وَكُلًّا) : مفعول أول لجعلنا، و (عَلِيًّا) : حال من اللسان.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ أي: اعتزل إبراهيمُ قومَه وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن خرج من «كوثى» بأرض العراق، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولده وَيَعْقُوبَ حفيده، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر، التي وُهبت لزوجه سارة، ثم وهبتها له، فوُلد له منها إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق، ثم نشأ عنه يعقوب، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه في بلده، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه، فكانت النعمة بهما أعظم.
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب، فإنهما شجرة الأنبياء، لهما أولاد وأحفاد، لكل واحدٍ منهم شأن خطير وعدد كثير.
وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي: وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً.
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا هي النبوة، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل: الرحمة: المال والأولاد، وما بسط لهم من سعة الرزق، وقيل: إنزال الكتاب، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا: رفيعًا في أهل الأديان، فكل أهل دين يتلونهم، ويثنُون عليهم، ويفتخرون بهم استجابة لدعوته بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «١».
والمراد باللسان: ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم، وإضافته إلى الصدق، ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار، وتبدل الدول، وتحول الملل والنحل. والله تعالى أعلم.
وقال بعض الصوفية: قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله: كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق، فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي، قال: لا تسمع كلامهم، فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي، قال: لا تعاملهم، فإن معاملتهم خسران ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم، لا بد لي من معاملتهم، قال: لا تسكن إليهم، فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذا لعله يكون، قال: يا هذا أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطَّالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله؟! هيهات.. هذا لا يكون أبدًا، ثم غاب عني.
وقال القشيري رضي الله عنه: فأرباب المجاهدات، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات- أي: من الدنيا-. قال: وهذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة. هـ. وقال في «القوت» : ولا يكون المريد صادقًا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية، وحتى يكون أنسه فى الواحدة، وروحه في الخلوة، وأحسن أعماله في السر. هـ.
قلت: العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط في بداية المريد، فإذا تمكن من الشهود، وأَنس قلبه بالملك الودود، واتصل بحلاوة المعاني، ينبغي له أن يختلط بالخلق ويربي فكرته لأنهم حينئذ يزيدون في معرفته ويتسع بهم لأنه يراهم حينئذ أنوارًا من تجليات الحق، ونوارًا يرعى فيهم، فيجتني حلاوة الشهود، وفي ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب:
الخَلْقُ نَوَّارٌ وَأَنا رَعَيْتُ فيهمُ... هُمُ الحجابُ الأكبَرُ والمَدْخَلُ فيهِمُ.
وفي مقطعات الششتري:
عين الزحام... هم الوصول لحيِّنا.
وبالله التوفيق.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
قلت: «نَجِيًّا» : حال من أحد الضميرين في (نادَيْناهُ) أو (قَرَّبْناهُ)، وهو أحسن. و «هارُونَ» : عطف بيان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى، قدَّم ذكره على ذكر إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب لأنه من نسله، إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً «١» : موحدًا، أخلص عبادته من الشرك والرياء، وأسلم وجهه لله تعالى، وأخلص نفسه عما سواه. وقرئ بالفتح، على أن الله تعالى أخلصه من الدنس. قال القشيري أي: خالصا لله، لم يكن لغيره بوجهٍ. ثم قال: ولم يُغْضِ في اللهِ على شيءٍ. هـ.
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه، ولذلك قدَّم رسولاً مع كونه أخص وأعلى، وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، الطور: جبل بين مصر ومدين، أي: ناديناه من ناحيته اليمنى، وهي التي تلي يمين موسى عليه السلام، فكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى، أو من أيمن، أي: من جانبه الميمون، ومعنى ندائه منه: أنه سمع الكلام من تلك الناحية، وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أي: مناجيًا لنا نُكلمه بلا واسطة، فالتقريب:
تقريبُ تكرمة وتشريف، مَثَّلَ حاله عليه السلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته. وقيل: (نَجِيًّا) من النجو، وهو العلو والارتفاع، أي: رفعناه من سماء إلى سماء، حتى سمع صريف القلم يكتب له في الألواح.
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي: من أجل رحمتنا ورأفتنا به، أو من بعض رحمتنا أَخاهُ هارُونَ، أي: وهبنا له مؤازرة أخيه ومعاضدته، إجابةً لدعوته: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي «٢» لا نفسه لأنه كان أكبر منه، وُجد قبله، حَال كونه نَبِيًّا: رسولاً مُشْركًا معه في الرسالة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما وصف الحق تعالى خليله بالصديقية وصف كليمه بالإخلاص، وكلاهما شرط في حصول سر الخصوصية، سواء كانت خصوصية النبوة أو الولاية، فمن لا تصديق عنده لا سَيْر له، ومن لا إخلاص له لا وصول له. وحقيقة الإخلاص: إخراج الخلق من معاملة الحق، وهي ثلاث طبقات سفلى، ووسطى، وعليا.
(٢) الآيتان ٢- ٣ من سورة طه.
والوسطى: أن يعبد الله مخلصًا، طالبًا لعوض أخروي، كالحور والقصور.
والعليا: أن يفعل العبادة قيامًا برسم العبودية، وأدبًا مع عظمة الربوبية، غير ملتفت لجنة ولا نار، ولا دنيا ولا آخرة، مع تعظيم نعيم الجنان، لأنه محل اتصال الرؤية كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
ليس شوقي من الجِنَان نَعيماً | غيرَ أني أُريدها لأراكَ |
ثم ذكر نبيه إسماعيل عليه السّلام فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ، فصل ذكره عن أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناء بأمره، لإيراده مستقلاً بترجمته، إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته به.
رُوِيَ أنه واعد رجلاً أن يلقاه في موضع، فجاء إسماعيل، وانتظر الرجلَ يومه وليلته- وقيل: ثلاثة أيام- فلما كان في اليوم الآخر، جاء الرجل، فقال له إسماعيل: ما زلتُ هنا من أمس. وقال الكلبي: انتظره سنة، وهو بعيد.
قال ابن عطية: وقد فعل مثل هذا نبينا ﷺ قبل مبعثه، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره، وذلك في مبايعة وتجارة «١» هـ. وقال القشيري: وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه، فصبر على ذلك، إلى أن ظهر الفداء، وصِدق الوعد دلالة حفظ العهد. هـ.
وقال ابن عطاء: وعد لأبيه من نفسه الصبر، فوفى به، في قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «٢». هـ. وهذا مبني على أنه الذبيح، وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله «٣».
(٢) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.
(٣) سبق التعليق على هذه المسألة عند تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة.
وَكانَ إسماعيل يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، قدَّم الأهل اشتغالاً بالأهم، وهو أن يُقبل بالتكميل على نفسه، ومن هو أقرب الناس إليه، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «١»، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ «٢»، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً «٣»، وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يُؤتَسى بهم.
وقيل: أهله: أمته لأن الأنبياء- عليهم السلام- آباء الأمم. وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاتصافه بالنعوت الجليلة التي من جملتها ما ذكر من الخصال الحميدة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد وصف الحق- جل جلاله- نبيه إسماعيل بثلاث خصال، بها كان عند ريه مرضيًا، فمن اتصف بها كان مرضيًا مقربًا: الوفاء بالوعد، والصدق في الحديث لأنه مستلزم له، وأمر الناس بالخير. أما الوفاء بالعهد فهو من شيم الأبرار، قد مدح الله تعالى أهله، ورغَّب فيه وأمر به، قال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا «٤». وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ «٥» فإخلاف الوعد من علامة النفاق، قال صلى الله عليه وسلم:
«آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وخلف الوعد إنما يضر إذا كان نيته ذلك عند عقده، أو فرط فيه، وأما إن كان نيته الوفاء، ثم غلبته المقادير، فلا يضر، لا سيما في حق أهل الفناء، فإنهم لا حكم لهم على أنفسهم في عقد ولا حل، بل هم مفعول بهم، زمامهم بيد غيرهم، كل ساعة ينظرون ما يفعل الله بهم، فمثل هؤلاء لا ميزان عليهم في عقد ولا حل. فمثلهم مع الحق كمثل الأطفال المحجر عليهم في التصرف، ولذلك قالوا: (الصوفية أطفال في تربية الحق تعالى). فإياك أن تطعن على أولياء الله إذا رأيت منهم شيئًا من ذلك، والتمس أحسن المخارج، وهو ما ذكرته لك، فإنه عن تجربة وذوق. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر نبيه إدريس عليه السّلام، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)
(٢) الآية ١٠٢ من سورة طه.
(٣) الآية ٦ من سورة التحريم.
(٤) الآية ١٧٧ من سورة البقرة.
(٥) الآية ٩١ من سورة النّحل.
رُوِيَ أنه كان خياطًا فكان لا يدخل الإبرة ولا يخرجها إلا بذكر الله. ورُوي أنه جاء إليه الشيطان يفتنه بفستق، فقال له: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في هذه الفُسْتقة؟ فقال له عليه السلام: (الله قادر على أن يدخل الدنيا كلها في سم هذه الإبرة، ونخس عينه) ذكره السنوسي في شرح مقرأه. قال ابن وهب: إنه دعا قومه إلى لا إله إلا الله، فامتنعوا فهلكوا. وفي حديث أبي ذر: أنه رسول، وجمع بينه وبين حديث الشفاعة، وقولهم لنوح: إنك أول رسول، بأن تكون رسالته لقومه خاصة، كهود وصالح، وكذا آدم وشيث، فإنه أرسل لبنيه لتعليم الشرائع والإيمان، ولم يكونوا كفارًا، وخلفه في ذلك شيث، قال المحشي الفاسي: والأظهر عندي في نوح أنه أول رسول من أهل العزم، لا مطلقًا.
قال ابن عطية: والأشهر أن إدريس عليه السلام لم يرسل، وإنما هو نبي فقط، وذهب إلى ذلك ابن بطال، ليسلم من المعارضة، وهي مدفوعة بما ذكرنا. هـ. فالمشهور أن إدريس رسول إلى قومه. رُوي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وأنه أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم والحساب، وخاط الثياب. قيل: وهو أول نبي بُعث إلى أهل الأرض.
قال تعالى في وصفه: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا: خبران لكان، والثاني مخصص للأول إذ ليس كل صديق نبي. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا، هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى. وقيل: علو الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا، كما قال تعالى في حق نبينا: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «١»، وقيل: الجنة، وقيل: السماء الرابعة، وهو الصحيح.
رُوِيَ عن كعب وغيره في سبب رفعه أنه مشى ذات يوم في حاجته، فأصابه وهج الشمس وحرها، فقال: يا رب أنا مشيت يومًا، فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد!، اللهمَّ خَفِّفْ عنه من ثقلها، واحمل عنه حرها، فلما أصبح الملَك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فقال: يا رب كلفتني بحمل الشمس، فما الذي قضيت فيه؟ فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أُخفف عنك حملها وحرّها فأجبته، قال: يا رب اجعل بيني وبينه خُلَّة، فأذن له، حتى أتى إدريس، فقال له إدريس: أخبرت أنك أكرم الملائكة عند مَلَك الموت، فاشفع لي ليؤخر
الإشارة: ارتفاع المكان والشأن يكون على قدر صفاء الجنان، والإقبال على الكريم المنان، فبقدر التوجه والإقبال يكون الارتفاع والوصال.
بقدر الكد تكسب المعالي | وَمَنَ رَامَ العُلا سَهِرَ الليالي |
أتبغي العزَّ ثُم تَنَامُ ليلاً | يَغُوصُ البحر مَن طَلَبَ اللآلي |
ثم ذكر مدحهم فى الجملة، فقال:
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
قلت: «أُولئِكَ» : مبتدأ، و «الَّذِينَ» : خبره، أو «الَّذِينَ» : صفته، و «إِذا تُتْلى» : خبره. والإشارة إلى المذكورين في السورة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبتهم وبُعد منزلتهم في الفضل، و (مِنَ النَّبِيِّينَ) : بيان للموصول، و (مِنْ ذُرِّيَّةِ) :
بدل منه بإعادة الجار، و (سُجَّداً وَبُكِيًّا) : حالان من الواو، و (بُكِيًّا) : جمع باك، كمساجد وسجود، وأصله: بكوى، فاجتمع الواو والياء، وسُبق إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء.
يقول الحق جلّ جلاله: أُولئِكَ المذكورون في السورة الكريمة هم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بفنون النعم الدينية والدنيوية، مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وهو إدريس عليه السلام ونوح، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي:
ومن ذرية من حملناهم في السفينة، وهو إبراهيم لأنه من ذرية سام بن نوح، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله: وَإِسْرائِيلَ أي: ومن ذرية إسرائيل، وهو يعقوب، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أنَّ أولاد البنات من الذرية. وَمِمَّنْ هَدَيْنا أي: ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء.
إذا تتلى عليهم، آيات الرحمن، إما عند نزولها عليهم، أو بسماعها من غيرهم، لحديث: «أحب أن أسمعه من غيري». ثم بكى ﷺ عند قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «١» فكان الأنبياء عليهم السلام مثله، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي ﷺ قال: «اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا، فَإِنْ لمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا» «٢». وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم، فسجد فيها، فقال: (هذا السجود، فأين البكاء) ؟
قال بعضهم: ينبغي أن يدعو الساجد في سجوده بما يليق بآيتها، فهاهنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. وفي الإسراء يقول: اللهم اجعلني من الخاضعين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك، وهكذا. والذي ورد في الخبر: يقول:
«سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وَبَصَرَه، بحوله وقُوته، اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام». والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المُنعَم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقَّت قلوبهم، وهو أول درجة المحبة، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب، وفوقه الفرح بشهود المتكلم، وهنا ينقطع البكاء لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف، وليس في الجنة بكاء.
وأيضًا: من شأن القلب في أول أمره الرطوبة، يتأثر بالواردات والأحوال، فإذا استمر عليها اشتد وصلُب بحيث لا يؤثر فيه شيء من الواردات الإلهية. وفي هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه، حين رأى قوماً يبكون عند سماع القرآن: (كذلك كنا ثم قست القلوب) «٣»، فعبَّر عن تمكنه بالقسوة، تواضعًا واستتارًا، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة لأنها سُلّم لما فوقها. والله تعالى أعلم.
(٢) الحديث أخرجه بنحوه ابن ماجة فى (إقامة الصلاة، باب فى حسن الصوت بالقرآن) من حديث سعد بن أبي وقاص. [.....]
(٣) قال الحافظ أبو نعيم: «.. عن أبى صالح: لما قدم أهل اليمن- زمان أبى بكر- وسمعوا القرآن، جعلوا يبكون، قال: فقال أبو بكر:
[هكذا كنا، ثم قست القلوب]. قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله: «ومعنى قوله: قست القلوب: قويت، واطمأنت بمعرفة الله تعالى.
أ. هـ. الحلية، ج ١، ص ٣٣- ٣٤ ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم كانوا أرقاء القلوب بمشاهدتهم لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم طال الأمد.. فقست القلوب.. وهذا منه تواضع، رضي الله عنه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
قلت: (جَنَّاتِ عَدْنٍ) : بدل من الجنة، بدل بعض لاشتمالها عليها، وما بينهما اعتراض، أو نصب على المدح. و (إِلَّا سَلاماً) : منقطع، أي: لكن يسمعون سلامًا، ويجوز اتصاله، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة، فإن أهل الجنة أغنياء عنه، فهو داخل في اللغو. و (بِالْغَيْبِ) : حال من عائد الموصول، أي: وعدها، أو من العباد، و (مَأْتِيًّا) : أصله مأتوي، فأبدل وأدغم كما تقدم.
يقول الحق جلّ جلاله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: جاء بعد أولئك الأكابر، خَلْفٌ أي: عقب سوء، يقال لعقب الخير «خَلْفٌ» بفتح اللام، ولعقب الشر «خَلْفٌ» بسكون اللام، أي: فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء، أَضاعُوا الصَّلاةَ أي: تركوها وأخروها عن وقتها، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من شرب الخمر، واستحلال نكاح الأخت، من الأب، والانهماك في فنون المعاصي، وعن على رضي الله عنه: هم من بَني المُشيد، وركب المنضود، ولبس المشهور. قلت: ولعل المنضود: السُرج المرصعة بالجواهر والذهب. وقال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة. هـ. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا: شرًا، فكل شر عند العرب غيٌ، وكل خير رشاد. قال ابن عباس: الغيُّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه، أُعد للزاني المصرِّ، ولشارب الخمر المدمن، ولأهل الرياء والعقوق والزور، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره. هـ.
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، هذا يدل على أن الآية في الكفار. فَأُولئِكَ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بموجب الوعد المحتوم، أو يُدخلهم الله الجنة، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً: لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم، ولا ينقص أجورهم، إذا صححوا المعاملة مع ربهم.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي: فضول كلام لا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه. وفي الحديث: «مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ» «١». وهو عَامٌّ في الكلام وغيره. إِلَّا سَلاماً، أي: لا يسمعون لغوًا، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم، أو تسليم بعضهم على بعض، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي: على قدرهما في الدنيا، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدًا. قال القرطبي: ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، أي: ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري: الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار، والقصد: أنهم أغنياء مياسير في كل وقت. هـ.
وسيأتي عند قوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ «٢» كيفية أرزاقهم.
قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ: مبتدأ وخبر، جيء بهذه الجملة لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها، أي: تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي الَّتِي نُورِثُ أي: نورثها مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا لله بطاعته واجتناب معاصيه، أي: نُديمها عليهم بتقواهم، ونمتعهم بها، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل: يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار، لو آمنوا وأطاعوا، زيادة في كرامتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ... الآية تنسحب على مَن كان أسلافه صالحين، فتنكب عن طريقهم، فضيّع الدين، وتكبر على ضعفاء المسلمين، واتبع الحظوظ والشهوات، وتعاطى الأمور العلويات، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه، أو بالجاه والمال، كان أغرق في الغي والضلال، يصدق عليه قول القائل:
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا | خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا |
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت | نِعم الجدود، ولكن بئس ما خلَّفوا |
(٢) الآية ٧١ من سورة الزخرف.
ولما أبطأ الوحي عن النبي ﷺ قال: «يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تزورنا؟» فنزل «١» :
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
قلت: وجه المناسبة لما قبله- والله اعلم-: أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره، فقال: وَما نَتَنَزَّلُ... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكيًا لقول جبريل عليه السلام: وَما نَتَنَزَّلُ عليك يا محمد إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وذلك حين أبطأ الوحى عنه صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب، ورجا أن يوحي إليه فيه، فأبطأ عليه أربعين يومًا. قاله عكرمة. وقال مجاهد: ثنتي عشرة ليلة، أو خمس عشرة. فشقَّ على النبي ﷺ مشقة شديدة. وقال: يا جبريل قد اشتقت إليك، فقال جبريل: إني كنت أَشْوَق، ولكني عبد مأمور، إذا بُعثتُ نزلت، وإذا حُبست احتَبَستُ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى «٢»، والتنزل: النزول على مَهَل، وقد يُطلق على مطلق النزول، والمعنى: وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ «٣» إلا بأمر الله تعالى، على ما تقتضيه حكمته.
وقيل: هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج، أي: ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه، وهو مالك الأمور كلها، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله. هـ. قلت: ولا يخفى حينئذ مناسبته.
ثم قال: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي: وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان، إلا بأمره ومشيئته، وعن مقاتل: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا من
(٢) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٦/ ١٠٣)، وعزاه ابن حجر فى الكافي الشافي لأبى نعيم فى الدلائل.
(٣) غب بمعنى بعد، ومنه قولهم: غب سلام.
وفي إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره ﷺ من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى.
وقوله تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان. والفاء في قوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما. أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام، أو غير ناسٍ لأعمال العاملين، والمعنى على الأول: فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده، أو حين عرفته تعالى لا ينساك، أو: ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها، ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزْءِ الكفرة، فإنه يراقبك ويلطف بك في الدنيا والآخرة، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي: شبيهًا ونظيرًا، أو هل تعلم أحدًا تسمى بهذا الاسم غير الله تعالى، والتسمية تقتضي التسوية بين المتشابهين، ولا مثل له، لا موجودًا ولا موهومًا، مع أن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً، ولم يتجاسر أحد أن يسمي بهذا الاسم، ولو تجاسر أحدٌ لهلك.
وقيل: إن أحدًا من الجبابرة أراد أن يسمي ولده بهذا الاسم، فخسف به وبتلك البلدة. ذكره القشيري في التحبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قاله جبريل عليه السلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصًا به بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل، ولا حركة ولا سكون، إلا وقد سبق في علمه وقضائه كيف يكون، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق «ما من نَفَسٍ تُبديه إلاَّ وله قَدَر فيك يمضيه». وقال الشاعر:
مشيناها خطى كُتبت علينا | ومن كُتبت عليه خطى مشاها |
ومن قسمت منيته بأرض | فليس يموت في أرض سواها |
وبالله التوفيق.
ثم ردّ على مَن أنكر البعث، بعد أن ردّ على من اعتقد الشرك، وبهما كفرت العرب، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٢]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
قلت: (أَإِذا) : ظرف، والعامل فيه محذوف، أي: أأُخرج إذا مت، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، إلا أن يرخص في الظروف. واللام في «لَسَوْفَ» ليست للتأكيد، فإنه مُنْكِرٌ، وكيف يحقق ما ينكر، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه الذي قال: والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله، فنُزلت الآية على ذلك، قاله الجرجاني: و (الشَّياطِينَ) : عطف على ضمير المنصوب، أو مفعول معه.
و (جِثِيًّا) : حال من ضمير (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) البارز، أي: لنحضرنهم جاثين، جمع جاث، من جثى إذا قعد على ركبتيه، وأصله: «جثوو» بواوين، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين، فكسرت الثاء تخفيفًا، وانقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها، فاجتمعت واو وياء، وسبقت إحداهما بسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ بكسر الجيم: فعلى الإتْبَاعِ.
و «أَيُّهُمْ» : مبني على الضم عند سيبوبه، لأنه موصول، فحقه البناء كسائر الموصولات، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه، وهو منصوب المحل بلننزعن، وقرئ منصوبًا على الإعراب، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء، وخبره: «أَشَدُّ»، والجملة محكية، والتقدير:
لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد... الخ. وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، و (عِتِيًّا) و (صِلِيًّا) أصلهما: عتوى وصلوى، من عتى وصلى، بالكسر والفتح، فاعلاً بما تقدم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي: جنس الإنسان، والمراد الكفرة، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم، وإن لم يقله الجميع، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل واحد، وقيل: القائل: أُبيُّ بن خَلَف، فإنه أخذ عظامًا بالية، ففتتها، وقال: يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال، فنزلت.
أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي: أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا؟ قال تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر، ولذلك قرىء بالتشديد من
قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعد ما أخرجتهم من الأرض. وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام لتحقيق الأمر، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ، وتفخيم شأنه، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، أي: حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث لتحقق وضوحه، وإنما قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: نجمعهم وَالشَّياطِينَ المغوين لهم، إلى المحشر، وقيل: إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم، كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا: باركين على ركَبِهم لما يدهمُهم من هول المطلع، والجثو: جلسة الذليل الخائف.
والآية كما ترى، صريحة في الكفرة، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم، جُثاة إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «١» فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام، قلت: ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم، كما في الحديث.
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: من كان منهم أعصى وأعتى، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس: أي: أيهم أشد جرأة، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، وقال مقاتل: علوًا، أو غلوًا في الكفر، أو كبرًا، وقال الكلبي: قائدهم ورأسهم، أي: فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب، ثم الذي يليهم جرمًا. وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة، إذا قلنا بعموم الآية، وأما إذا خصصناها بالكفرة، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.
قال تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي: أولى بصليها وأحق بدخولها، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا، أو رؤوسهم، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.
أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَيُقالُ لَهُمْ: قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ». وأما قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد به الإبعاد عن عذابها، وقيل: ورودها: الجواز على الصراط بالمرور عليها.
وعن ابن مسعود: الضمير في (وارِدُها) للقيامة، وحينئذ فلا يعارض: لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «١»، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب، ولا مرور على الصراط، فضلاً عن الدخول فيها، على أنه اختلف في الورود، فقيل: الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن. وقيل: المرور كما تقدم، وقيل: الإشراف عليها والاطّلاع.
قال القشيري: كلٌّ يَرِدُ النارَ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات، والزلل، فأشدُّهم فيها انهماكًا: أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا، وأما بريء الساحة، نقي الجانب بعيد الذنوب، فكما في الخبر:
«إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللَّبَن- أي: جامدة كجمود اللبن حين يسخن- فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا: أليس قد وعدنا جهنم على الطريق؟ فيقال لهم: عبرتم وما شعرتم». هـ.
كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي: كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته، وقضى أنه لا بد من وقوعه. وقيل: أقسم عليه، ويشهد له: «إلا تحلة القسم» «٢».
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفرَ والمعاصي، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا، على تفسير الورود بالدخول، وعن جابر أنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «الوُرودُ الدُّخولُ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلاَّ دخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلاَمًا، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ» «٣». وإن فسرنا الورود بالمرور، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا: باركين على ركبهم، قال ابن زيد: الجثي شر الجلوس، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به. هـ.
(٢) يقصد حديث: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار، إلا تحلة القسم» أخرجه البخاري فى (الأيمان والنذر، باب قول الله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» ) ومسلم فى (البر والصلة، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه).
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٣/ ٣٢٩) والحاكم فى المستدرك (الأهوال ٤/ ٥٨٧)، والبيهقي فى الشعب (١/ ٣٣٦)، من حديث جابر ابن عبد الله. والحديث: صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي فى المجمع (٧/ ٥٥) : رواه أحمد، ورجاله ثقات.
قال في الإحياء، لمَّا تكلم على العدل في الكيل والوزن، قال بعد كلامه: وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته، فالويل له إن عدل عن العدل، ومال عن الاستقامة، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها..) الآية، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه فإنه أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار، الذي من صفته أنه أدق من الشعر، وأحدّ من السيف، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط. هـ.
وقال الترمذي الحكيم: يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «١»، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم، فهم يمضون في النار، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض: أليس قد وُعدنا النار، فذكر ما تقدم. ثم قال: فأما ضجة النار فمن بردهم، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب، فبالرحمة نالوا النور، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم، فكان نوره في قلوبهم، والرحمة مظلة عليهم، فخمدت النار من بردهم عند ما لقُوهَا، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة، فخافت أن تضعف عن الانتقام. ولذلك رُوي أنها تقول: «جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي». «٢» هـ.
وقال الورتجبي: إذا كان جمال الحق مصحوبهم، فلا بأس بالوقوف في النيران، فإن هناك أهل الجنان.
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها | زلال وسَلسال، وسيحانها وِرْدُ. هـ. |
(٢) رواه أبو نعيم فى الحلية (٩/ ٣٢٩)، والخطيب فى تاريخ بغداد (٥/ ١٩٤)، والطبراني فى الكبير، وابن عدى فى الكامل، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول، وفى سنده: سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف، انظر: مجمع الزوائد (١٠/ ٣٦٠)، وكشف الخفاء (١/ ٣٧٣- ٣٧٤).
ثم ذكر أحوال من سقط فى جهنم ويبقى فيها جثيّا، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
قلت: «هم أحسن» : صفة لِكَمْ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ على الكفرة آياتُنا الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين، حال كونها بَيِّناتٍ: واضحات في نفسها، أو بينات الإعجاز، أو بينات المعاني، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: قالوا، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يُتلى عليهم رادين له، أو: قال الذين تمرَّدوا في الكفر والعتو وهم النضر بن الحارث وأتباعه، قالوا لِلَّذِينَ آمَنُوا، اللام للتبليغ، أي: قالوا مبلغين الكلام لهم، وقيل: لام الأجل، كقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ «١» أي: لأجلهم وفي حقهم، والأول أولى لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي: المؤمنين والكفار، خَيْرٌ كأنهم قالوا: أينا خَيْرٌ مَقاماً أي: مكانًا:
نحن أو أنتم، وقرىء بالضم، أي: موضع إقامة ومنزل، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسًا ومجتمعًا، أو: أينا خير منزلاً ومسكنًا، وأحسن مجلسًا؟.
يُروَى أنهم كانوا يُرجلون شعورهم ويدهنونها، ويتزينون بالزينة الفاخرة، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين، يريدون بذلك أن خيريتهم، حالاً، وأحسنيتهم، مقالاً، مما لا يقبل الإنكار، وأنَّ ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده، وأنَّ الحال التي عليها المؤمنون، من الضرورة والفاقة ورَثَاثَةِ الحال لقصور حظهم عند الله. وما هذا القياس العقيم والرأي السقيم إلا لكونهم جَهلةً لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، وذلك مبلغهم من العلم، فردَّ عليهم بقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً: مالاً ومتاعًا وَرِءْياً منظرًا، أي: كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء،
و «أثاثًا» : تمييز، وهو متاع البيت، أو ما جد منه، و «رِءْيًا» : كذلك، فِعْل من الرؤية بمعنى المنظر، قال ابن عزيز: «رءيا» بهمزة ساكنة: ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة، وبغير همز: يجوز أن يكون على معنى الأول «١»، ويجوز أن يكون من الريّ. أي: منظرهم مُرتو من النعمة. وَزِيًّا، بالزاي المعجمة، في قراءة ابن عباس، يعني هيئة ومنظرًا. هـ.
الإشارة: رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام، وإنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة الله، وتمكين اليقين من القلوب، واطلاعها على أسرار الغيوب، مع القيام بوظائف العبودية، أدبًا مع عظمة الربوبية، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف في حضرة القدوس، فأهل القلوب لا يعبأُون بظواهر الأشباح، وإنما يعتنون بحياة الأرواح.
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تَكْمُلِ | والجسم دعه في الحضيض الأسفل |
بالقوت إحياءُ الجسوم، وذكره | تحيا به الألباب والأرواح |
هو عيشهم ووجودهم وحياتهم | حقًا ورَوْح نفوسهم والرَّاح. |
ثم ذكر الحق تعالى مدد الفريقين أهل الضلال وأهل الإيمان، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
(٢) الآية ٧ من سورة الروم.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: مَنْ كانَ مستقرًا فِي الضَّلالَةِ مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور، مشتغلاً بالحظوظ الفانية، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي: يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ، إما استدراجًا، كما نطق به قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «١»، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «٢»، أو: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ) : يدعه في ضلاله، ويمهله في كفره وطغيانه، كقوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «٣». والتعرّض لعنوان الرحمانية لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك.
وكأنه جلّ جلاله لَمّا بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة، أمر رسوله ﷺ أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم، كما بيَّن ذلك بقوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فهو غاية للحد الممتد، أي: نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون إِمَّا الْعَذابَ الدنيوي بالقتل، والأسر، وغلبة أهل الإيمان عليهم، وَإِمَّا السَّاعَةَ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان، و «إما» هنا: لمنع الخلو، لا لمنع الجمع فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال.
فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون، فيعلمون أنهم شر مكانًا، لا خير مقاما، وَيعلمون أنهم أَضْعَفُ جُنْداً أي: جماعة وأنصارًا، لا أحسن نَدِيًّا، كما كانوا يدعونه، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا، يفتخرون بهم في الأندية والمحافل، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل، ليس تحته طائل.
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي: كما يمد لأهل الضلالة زيادة في ضلالهم، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية ثوابًا على طاعتهم لأن كلا يجزي بوصفه، فلا تزال الهداية تنمو فى
(٢) من الآية ٣٧ من سورة فاطر.
(٣) من الآية ١١٠ من سورة الأنعام.
فقد بيَّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله، وإن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه، بل قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا الفانية، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية، قال تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ كأنواع الطاعات، خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها.. وقد تقدم تفسيرها».
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره ﷺ لتشريفه، أي: فهي أفضل ثَواباً أي: عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية، التي يفتخرون بها لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم في دار الدوام، كما أشير إليه بقوله: وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي: مرجعًا وعاقبة، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها في التفضيل، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة، ففيه نوع تهكم بهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- يرزق العبدَ على قدر نيته، ويمده على قدر همته، فمن كانت همته في الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية، أمده الله فيها، ومتعه بها ما شاء، على حسب القسمة، ثم أعقبه الندم والحسرة، ومن كانت همته الآخرة، أمده سبحانه في الأعمال التي توصله إلى نعيمها، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم، وأذاقه من حلاوتها ما يُهون عليه مرارتها، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور، وأنواع الطيبات، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ومن كانت همته الله- أي: الوصول إلى حضرته دون شيء سواه- أمده الله في الأعمال التي توصله إليه، وهي أعمال القلوب من التخلية والتحلية، كالتخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات، ورأس ذلك أن يُوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك، قد سلك الطريق على شيخ كامل، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعض من مدّ له فى الضلالة وخصه بزيادة ضلالته، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
وَقالَ مستهزءًا بها، مصدّرًا باليمين الفاجرة: والله لَأُوتَيَنَّ في الآخرة مالاً وَوَلَداً أي: انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي: أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب، الذي استأثر به العليم الخبير، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا، وأقسم عليه، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين، وهذا رد لكلمته الشنعاء، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام. والعهد:
قيل: كلمة الشهادة، أو العمل الصالح، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد، قال القشيري: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ فقال بتعريف له منا، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي: ليس الأمر كذلك. ثم قال: ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً، فالله تعالى يحققه له لأنه على عهد مع الله تعالى، والله لا يُخلف الميعاد. هـ.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال: كَلَّا أي: انزجر عن هذه المقالة الشنيعة، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة، وتنبيه على خطئه، قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي: سنظهر ما كتبنا عليه، فهو كقول الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أي: تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ، أو: سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «٣» قال ابن جزي: إنما جعله مستقبلاً لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. هـ.
(٢) أخرجه البخاري فى (البيوع. باب ذكر القين والحدّاد)، وفى (تفسير سورة مريم)، ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب ٤).
(٣) الآية ١٨ من سورة ق.
وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد، أي: نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه، أو نزيد في مضاعفة عذابه، لكفره وافترائه على الله سبحانه، واستهزائه بآياته العظام، ولذلك أكده بالمصدر، دلالةً على فرط الغضب والسخط.
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ، قال مكي: حرف الجر محذوف، أي: نرث منه ما يقول. هـ. والظاهر أن (ما) : بدل من الضمير، وهو الهاء، أي: نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد. وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول، أي: ننزع منه ما آتيناه، وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلاً أن يؤتى ثمَّةَ مالاً وولدًا زائدًا. وقال القشيري: فردًا بلا حجة على قوله وقَسَمِه: (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً)، وذلك منه استهزاء ومحض كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات الله وعمل بما أمره الله يكون له عهد عند الله، فإذا تمنى شيئًا أو منَّاه غيره لا يخيبه الله، ويتفاوت الناس في العهد عند الله، على قدر تفاوتهم في طاعته ومعرفته، وسيأتي في قوله: لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «١» زيادة بيانه. والله تعالى أعلم.
ثم ردَّ على أهل الضلالة ما زعموا، من نفع الأصنام لهم، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٤]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)
يقول الحق جلّ جلاله: واتخذ المشركون الأصنام آلِهَةً يعبدونها من دون الله لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا يوم القيامة، ووصلة عنده يشفعون لهم، كَلَّا لا يكون ذلك أبدًا، فهو ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل، وإنكارٌ لوقوع ما علَّقوا به أطماعَهم، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي: تجحد الآلهة عبادتَهم لها، بأن يُنطقهم الله تعالى وتقول ما عبدتمونا، أو: سيكفر الكفرة عبادتهم لها حين شاهدوا سوء عاقبة عبادتهم لها، كقوله: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «٢» وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي: تكون الآلهة، التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا، ضدا للعز،
(٢) من الآية ٢٣ من سورة الأنعام.
وسبب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان، وَفَاء بقوله: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «٣» كما قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي: سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم، بقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ «٤» الآية.
وهذا تعجيب لرسوله ﷺ مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة، العتاة المردة، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل، والتمادي في الغي، والانهماك في الضلال، والتصميم على الكفر، من غير صارف يلويهم، ولا عاطف يثنيهم، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتّضاحه، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا أن له مسوغًا في الجملة، أي: ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم، وليس المراد تعجيبه عليه السلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم، كما يوهمه تقليل الرؤية، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين، كما ينبئ عنه قوله تعالى: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا، بأنواع الوساوس والتسويلات. فالأز والاستفزاز أخوان، معناهما: شدة الانزعاج، وجملة (تَؤُزُّهُمْ) : حال مقدرة من الشياطين، أو استئناف وقع جوابًا عن صدر الكلام، كأنه قيل: ماذا تفعل بهم الشياطين؟ قال: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حسبما تقتضي جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم، وتطهرُ الأرض من فسادهم، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي: لا تستعجل بهلاكهم، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدًا، ثم نأخذهم أخذًا. والله تعالى أعلم.
(٢) طرف من حديث أخرجه أحمد فى المسند (١/ ١٢٢) وأبو داود فى: (الديات، باب إيقاد المسلم بالكافر)، والنسائي فى (القسامة، باب القود بين الأحرار والعبيد) من حديث سيدنا على.
(٣) من الآية ٣٩ من سورة الحجر.
(٤) من الآية ٦٤ من سورة الإسراء ٤٣. [.....]
وفي الحكم: «الوارد يأتي من حضرة قهّار، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ». وقال أيضًا: «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها».
وقال القشيري على قوله: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) : أي: تزعجهم إزعاجًا، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكون، وهذه إحدى الفوارق بينهما. هـ. قلت: ومن الفوارق أيضًا: أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح في القلب وسكون وأناة.. وفي الحديث «العجلة من الشيطان، والأناة من الرحمن» «٣». هـ. بخلاف خاطر الشيطان فإنه لا يأمر إلا بالشر، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرُّ به إلى الشر، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودَخن وعجلة وبطش، وقد استوفى الكلام عليهم في النصيحة الكافية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مآل فريق الإيمان وفريق الضلال، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
قلت: (يَوْمَ نَحْشُرُ) : إما ظرف لفعل مؤخر للإشعار بضيق العبارة عن حصره لكمال جماله أو فظاعته، والتقدير: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن، ونسوق المجرمين، نفعل بالفريقين ما لا يفي به نطاق المقال، أو ظرف لا ذكر، و (وَفْداً) و (وِرْداً) : حالان.
(٢) من الآية ٨ من سورة المنافقون.
(٣) أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (١٠/ ١٠٤) بتقديم وتأخير، من حديث أنس بن مالك، وعزاه فى مجمع الزوائد لأبى يعلى عن أنس، وقال: ورجاله رجال الصحيح.
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تُساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً: عطاشًا، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش، أو كالدواب التي ترد الماء، أي: يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفي به نطاق العبارة، لما يقع فيه من الدواهي الطامة، أو الكرائم العامة، أو: اذكر يوم نحشر الفريقين، على طريق الترغيب والترهيب.
وقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ: استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله، وضمير الواو: إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها، أو إلى المتقين فقط، أو إلى المجرمين.
و (مَنِ اتَّخَذَ) : منصوب على الاستثناء، أو بدل من الواو، أي: لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى، ففيه ترغيب للعباد في تحصيل الإيمان والتقوى، المؤدي إلى نيل هذه الرتبة العليا. أولا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلمًا، فيشفع في مثله. فَمَن، على هذا الثالث، بدل من الواو فقط. والأول أحسن لعمومه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت النبي ﷺ يقول: «أما يَعْجزُ أَحدكُمْ أَنْ يتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَساءٍ عَهدًا عِند اللهِ، يَقُولُ كُلَّ صَبَاحٍ ومَساءٍ: اللهمّ فاطر السموات والأرْض، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ، إنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ في هذهِ الحياةَ الدنيا، بأَنِي أشهد أن لا إله إِلاَّ أنتَ، وَحْدكَ لا شَرِيكَ لَكَ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ ورَسُولُكَ، فلا تكلني إلى نفسي، فإِنَكَ إنْ تَكلْنِي إلى نَفسْي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشرِّ وتُبَاعِدْنِي مِنَ الخَيْرِ، وإنّي لاَ أَثِقُ إلّا برحمتك، فاجعل لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِّينِيه يَوْمَ القِيامَةِ، إنَّكَ لا تُخْلفُ المِيعادَ. فإذا قالَ ذَلِكَ طُبعَ عَلَيْهِ طابَع ووُضِعَ تَحْتَ العَرْشِ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَىَ مُنَادٍ: أَيْنَ الذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الجنَّة». هـ.
الإشارة: ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم في الدنيا، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده في الآخرة، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية، ومن ورد من باب الطاعات
وقوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ... ) الآية، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم، وهم أعظم من أهل المقام الأول، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم، وهم أعظم من القسمين، حتى إن منهم من يشفع في أهل عصره كلهم، وقد سَمِعْتُ من شيخنا الفقيه، شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة، أنَّ بعض الأولياء قال عند موته: يا رب شفِّعني في أهل زماني، فقال له الحق تعالى- من جهة الهاتف-: لم يبلغ قدرك هذا، فقال: يا رب إن كان ذلك من جهة عملي واجتهادي فَلَعَمْرِي إنه لم يبلغ ذلك، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا، فقال له: إني شفعتك في أهل عصرك. هـ. بالمعنى. فمن رجع إلى كرم الله وجوده، ودخل من هذا الباب، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شيء. وبالله التوفيق.
ثم كرر الرد على أهل الشرك والضلال وشنّع عليهم، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٥]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
قلت: «هَدًّا» : مصدر مؤكد لمحذوف، هو حال من الجبال، أي: تهد هدًا. و «أَنْ دَعَوْا» : على حذف اللام، أي:
لأن دعوا، وفيه احتمالات أُخر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى، ومن يزعم من العرب إن الملائكة بنات الله، لعن الله جميعهم، فسبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فحكى جنايتهم إثر جناية عَبَده الأصنام، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم في الضلالة، قال تعالى في شأنهم: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي: فعلتم أمرًا منكرًا شديداً، لا يُقادر قدره، فهو رد لمقالتهم الباطلة، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات
و (جاء) يستعمل بمعنى فعل، فيتعدى تعديته، والإد- بكسر الهمزة وفتحها، وقُرئ بهما في الشاذ-: العظيم المنكر، الإدُّ: الشدة، قيل: الأدُّ: في كلام العرب: أعظم الدواهي.
ثم وصفه وبيّن هوله فقال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ: يتشققن مرة بعد أخرى، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله، وهو أبلغ من «ينفطرن» كما قرئ به، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي: وتكاد تنشق وتذهب، وَتَخِرُّ الْجِبالُ أي: تسقط وتنهدم هَدًّا بحيث لا يبقى لها أثر. والمعنى: أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة، لم يُطق سمعها تلك الأجرام العظام، ولتفتتت من شدة قبحها، أو: إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لولا حلمه تعالى، لخر العالم وتبددت قوائمه، غضبًا على من تفوه بها. قال محمد بن كعب: كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة، يعني: لأن ما ذكر أوصاف الساعة.
وذلك أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً أي: تكاد تنفطر السموات وتنشق الأرض، وتنهدم الجبال لأجل أن دعوا، أي: نسبوا أو سموا للرحمن ولدًا، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي: قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، أو دعوا له ولدًا، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد لاستحالته عليه تعالى. ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلية الحكم لأن كل ما سواه تعالى منعَّم عليه برحمته، أو نعمة من أثر الرحمة، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها، حتى يتَوهم أن يتخذه ولدًا، وقد صرح به قوله عزّ قائلاً: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً مملوكًا لله في الحال بالانقياد وقهرية العبودية. لَقَدْ أَحْصاهُمْ أي: حصرهم وأحاط بهم، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه، وقبضة قدرته وقهريته، ما وجد منهم وما سيوجد، وما يقدر وجوده لو وجد، كل ذلك في علمه وقضائه وقدره وتدبيره، لا خروج لشيء عنه، وفي ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شيء، وأنه عالم بكل شيء، جملة وتفصيلاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي: وكل واحد منهم يأتي يوم القيامة فردًا من الأموال والأنصار والأتباع، متفردًا بعمله، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئًا منهم ولدًا؟!.
وفي الحديث القدسي: «قال الله تعالى: كذَّبني عبدي، ولم يكن له ذلك، وشَتمني عبدي ولم يكن له ذلك، أما تكذيبُهُ إيايَ فأن يقولَ: من يُعيدُنا كما بَدأنا؟ وأما شَتمُه إياي فأن يقول: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ، لم أَلِد ولم أُولدَ، ولم يكن لي كُفوًا أحد» «١». وهو في البخاري. وفي صيغة اسم الفاعل في قوله: آتِيهِ من الدلالة على إتيانهم كذلك ألبتة ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه. والله تعالى أعلم.
إنْ تُرِدَ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ | لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه |
فحينئذ تكون حرًا مما سواه، ويملك الوجود بأسره، يكون عند أمرك ونهيك. وفي ذلك يقول القائل:
دَعَوْنِي لمُلْكِهم فلمَّا أجبتُهم | قالُوا دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلك |
فالحكمة تثبت العبودية صورة صونًا لكنز الربوبية، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية، وفي الحكم: «سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية».
فالعبودية لازمة من حيث العبد، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب، فإثبات العبودية، حكمةً، فرق، والغيبة عنها في شهود أنوار الربوبية: جمع، فالعارف مجموع في فرقه، مفروق فى جمعه.
ولما ذكر قبائح الكفرة أتبعه بذكر محاسن المؤمنين، فقال:
[سورة مريم (١٩) : آية ٩٦]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
قلت: لما استحقر الكفرةُ أحوالَ المؤمنين حتى قالوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، أخبر الله تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم في قلوب عباده.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ في قلوب الناس مودة وعطفًا، حتى يحبهم كل من سمع بهم، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السموات والأرض، أي: سيحدث
قال القشيري: يجعل في قلوبهم ودًّا لله، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة، وفي الخبر: «لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى يحبني وأحبه». والتعرض لعنوان الرحمانية لِمَا أنَّ الموعود من آثارها، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم. وعن النبي ﷺ أنه قال لعلىّ رضي الله عنه: «قل اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدكَ عَهْدًا، واجعل لِي في صُدُورِ المؤمِنِينَ مَوَدَّةً» فنزلت الآية «١». وفي حديث البخاري وغيره: «إِذا أحَبَّ اللهُ عبدا قال لجبْريل: إني أُحبُ فُلانًا فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبرِيلُ، ثم ينادي في أَهْلِ السَّماءِ إنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّ فُلاَنًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماء، ثُمَّ يَضع لَهُ المحبة فِي الأرْض» «٢».
وقال قتادة: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال: أي والله ودًا في قلوب أهل الإيمان. وإن هرم بن حيان يقول:
ما أقبل عبدٌ بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. قلت: ولفظ الحديث: «ما أقْبَلَ عبدٌ بقلْبهِ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ إلا جَعلَ الله قلوبَ المؤمنينَ تَفِدُ إليه بالودِّ والرحمَةِ، وكان الله إليه بكل خيرٍ أسرَعَ» «٣». نقله في الترغيب. وفي حديث آخر: «يُعطي المؤمنُ ودًّا في صدور الأبرار، ومهابة فى صدور الفجار». فَتَوَدُّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه. أنتم شهداء الله في أرضه. وفي بعض الأثر:
«لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يُحب، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره». بالمعنى.
وأتى الحق جل لجلاله بالسين لأن السورة مكية، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة، فوعدهم ذلك، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام، فعَزوا وانتصروا، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب، كما هو مسطر في تواريخهم. وقيل: الموعود في القيامة، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية «٤»، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين مالهم من الكرامات السنية لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد. والله تعالى أعلم.
(٢) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة)، ومسلم فى (البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدا) من حديث أبى هريرة.
(٣) أخرجه الطبراني فى الأوسط (٥/ ١٨٦ ح ٥٠٢٥) بزيادة فى أوله، من حديث أبى الدرداء، وقال الهيثمي فى المجمع:
(١٠/ ٢٤٧) : رواه الطبراني فى الكبير والأوسط. وفيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب، وهو كذاب.
(٤) التعبير بالاستقبال بالنسبة إلى الله تحقيق، كالماضى، والحاضر، فليس عند الله زمن كما هو عندنا. والأحسن فى تأويل الآية أن نجعل السين حرف توكيد. والله أعلم.
ولما ختم السورة الكريمة، أمر نبيه ﷺ بتبليغها، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
قلت: الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم، كأنه قيل- بعد إيحاء السورة الكريمة: بلغ هذا المنزّل عليك، وبشر به، وأنذر فإنما يسرناه.. الخ. قاله أبو السعود.
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: القرآن بِلِسانِكَ بأن أنزلناه على لغتك، والباء بمعنى «على» وقيل: ضَمَّنَ التيسيرَ معنى الإنزال، أي: يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أي: السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي، وَتُنْذِرَ بِهِ أي: تخوف به قَوْماً لُدًّا لا يؤمنون به، لجاجًا وعنادًا، واللُّدُّ: جمع أَلَد، وهو الشديد الخصومة، اللجوج المعاند.
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: كثيرًا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين، فهو وعد لرسول الله ﷺ بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك، وحث له ﷺ على الإنذار، أي: دُم على إنذارك لهم، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي: هل تشعر بأحد منهم، وترى له من باقية أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي: صوتًا خفيًا، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم، وخربت قصورهم وديارهم، وكذلك نفعل بغيرهم، والمعنى: أهلكناهم بالكلية، واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحد، ولا يسمع لهم صوت خفي ولا جلي. وجملة: (هَلْ تُحِسُّ) : استئناف مقرر لمضمون ما قبله، وأصل الرِّكز: الخفاء، ومنه: رَكَزَ الرمحَ إذا غيب طَرفه في الأرض، والرِّكاز: المال المدفون المخفي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أنزل الله القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير، فأمر اللهُ رسوله في حياته بالبشارة والإنذار به، وبقي الأمر لخلفائه، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير، ولا يكفي عنه تعليم رسوم الشريعة، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير، كما قال تعالى: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا.
وقال أيضًا: «ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار». وفي أمثال هؤلاء المتصدين للوعظ والتذكير ورد الخبر القدسي: «إنَّ أودَّ الأوِدَّاءِ إليَّ من يُحببني إلى عبادي، ويُحبب عبادي إليّ، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة».. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه آمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم تسليماً.