تفسير سورة مريم

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة مريم من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ يرثني ويرث من آل يعقوب... ﴾ [ مريم : ٦ ]. أي يرث العلم والنبوة لا المال، لخبر ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) ( ١ )..
وورث يتعدّى بنفسه وم " من " وقد جُمع بينهما في الآية، وقيل :«من " للتبعيض لا للتعدية، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وعلى الأول المراد من «من آل يعقوب » الأنبياء، لأنهم الذين لا يورّثون إلا العلم والنبوّة.
١ - الحديث أخرجه البخاري..
قوله تعالى :﴿ قال ربّ أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا... ﴾ الآية [ مريم : ٨ ].
إن قلتَ : كيف استبعد زكريا ذلك وأنكره ؟
قلتُ : لم يفعله إنكارا، بل ليُجاب بما أُجيب به عن طلبه الولد، وهو قوله تعالى :﴿ يا زكريا إنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى ﴾ [ مريم : ٧ ] فيزداد الموقنون إيقانا، ويرتدع المبطلون.
أو قاله : تعجّب فرح وسرور، لا تعجّب إنكار واستبعاد، ويعقوب المذكور هو أبو " يوسف " ( ١ ) وقيل : هو أخو زكريا، وقيل : هو أخو عمران أبي مريم عليه السلام.
١ - هذا هو الصحيح أن يعقوب – عليه السلام – هو والد يوسف الصدّيق، وهو ابن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين..
قوله تعالى :﴿ قال ربّ اجعل لي آية... ﴾ [ مريم : ١٠ ] أي علامة.
فإن قلتَ : كيف طلب العلامة على وجود الولد، بعدما بشّره الله تعالى ؟
قلتُ : ليبادر إلى الشكر، ويتعجل السرور، إذ الحمل لا يظهر في أول العُلُوقِ، فأراد معرفته أوّل وجوده، فجعل الله آية وجوده، عجزه عن كلام الناس.
قوله تعالى :﴿ وبرّا بوالديه ولم يكن جبّارا عصيّا ﴾ [ مريم : ١٤ ].
قال ذلك هنا، وقال بعده ﴿ ولم يجعلني جبّارا شقيّا ﴾ [ مريم : ٣٢ ] لأن الأول في حق " يحيى " والثاني في حقّ " عيسى " عليهما السلام.
قوله تعالى :﴿ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ﴾ [ مريم : ١٥ ].
قاله هنا : في قصّة " يحيى " منكَّرا، وقال بعدُ في قصة " عيسى " :﴿ والسلام عليّ يوم ولدت ﴾ [ مريم : ٣٣ ] معرَّفا، لأن الأول من الله، والقليل منه كثير، والثاني من عيسى و " أل " للاستغراق، أو للعهد كما في قوله تعالى :﴿ كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ﴾ [ المزمل : ١٥، ١٦ ] أي ذلك السلام الموجّه إلى يحيى موجّه إليّ.
قوله تعالى :﴿ فأرسلنا إليها روحنا... ﴾ [ مريم : ١٧ ] أي جبريل.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع اتفاق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة، ولهذا قالوا في قوله :﴿ وأوحينا إلى أمّ موسى ﴾ [ القصص : ٧ ] أنه وحي إلهام، وقيل : وحي منام.
قلتُ : لا نسلّم أن الوحي لم ينزّل على امرأة، فقد قال مقاتل في قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى ﴾ أنه كان وحيا بواسطة جبريل، والمتّفق عليه( ١ ) إنما هو وحي الرسالة، لا مطلق الوحي، والوحي هنا إنما هو ببشارة الولد لا بالرسالة.
١ - أي المتفق على منعه هو وحي الرسالة والنبوة، لا مجرد الوحي بواسطة جبريل لتبشيرها بالولد..
قوله تعالى :﴿ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا ﴾ [ مريم : ١٨ ].
إن قلتَ : كيف قالت مريم ذلك، مع أنه إنما يُتعوّذ من الفاسق لا من التقيّ ؟
قلتُ : معناه إن كنت ممن يتّقي الله، فأنت تنتهي عني بتعوذي بالله منك.
وقيل : ظنّته رجلا اسمه " تقيّ " –وكان فاجرا- فتعوّذت منه( ١ ).
١ - الصحيح أن المعنى إن كنت تقيا فاتركني ولا تؤذني، فهو شرط حُذِف جوابه..
قوله تعالى :﴿ قال إنما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاما زكيا ﴾ [ مريم : ١٩ ] بتقدير إنما أنا رسول ربّك، يقول أرسلت رسولا إليك لأهب لك، فيكون حكاية عن الله، لا من قول جبريل، وقُرئ " ليهب لك " أي ليهب ربّك لك غلاما، أو بإسناد الهبة إلى جبريل مجازاً أي لأكون سببا في هبة الولد، بواسطة نفخي في درعها، فهو من قول جبريل.
قوله تعالى :﴿ ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّا ﴾ [ مريم : ٢٠ ]. لم تقل : بغيّة، لما قاله ابن الأنباري من أن " بغيّا غالب في النساء، وقلّ ما يقول العرب : رجل بغيّ، فتركوا التاء فيه إجراء له مجرى حائض، وعاقر.
أو هو : " فعيل " بمعنى فاعل، فتركوا التاء فيه كما في قوله تعالى :﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين... ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ] أو لموافقة الفواصل.
قوله تعالى :﴿ فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلّم اليوم إنسيّا ﴾ [ مريم : ٢٦ ] مرتّب على مقدّر بينه وبين الشرط تقديره : فإمّا تَرِينَّ من البشر أحدا، فيسألك الكلام، فقولي إني نذرت، الآية، وبهذا سقط ما قيل من أن قولها ﴿ فلن أكلّم اليوم إنسيّا ﴾ كلام بعد النذر، إذ هو بهذا التقدير من تمام النذر، لا بعده( ١ ).
١ - كأنها تقول: لن أُجيب من سألني عن أمري بعد اليوم، فاسألوا عن ذلك ولدي الرضيع، لأنني عاهدت ربي بطريق النذر، أن لا أتكلم مع أحد في شأنه، حتى يكون هو الذي يجيب، لتظهر عفتها وحصانتها بمعجزة كلام الطفل الرضيع..
قوله تعالى :﴿ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ﴾ [ مريم : ٣١ ].
إن قلتَ : كيف أُمر بذلك مع أنه كان طفلا، وخطاب التكليف إنما يكون بعد البلوغ والتمييز ؟
قلتُ : ذلك لا يدلّ على أنه أوصاه بأداء ذلك في الحال، بل أوصاه في الحال بالأداء بعد البلوغ والتمييز، أو أن الله صيّره عقب ولادته بالغا مميّزا، بدليل قوله تعالى :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] فكما أنه تعالى خلق آدم تاما كاملا دفعة، فكذا القول في " عيسى " عليهما السلام، وهو أقرب إلى ظاهر قوله :﴿ ما دمت حيّا ﴾ [ مريم : ٣١ ]، فما أوصاه بذلك إلا بعد بلوغه وتمييزه.
فإن قلتَ : الزكاة إنما تجب على الأغنياء، وعيسى لم يزل فقيرا، لابسا كساء مدة مكثه في الأرض، مع علمه تعالى بحاله، فكيف أوصاه بها ؟   !
قلتُ : المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي، لا زكاة المال( ١ ).
١ - الزكاة مشروعة في جميع الأديان السماوية، وفي جميع الشرائع، أوصاه الله بها عند الكبر، إذا أغناه الله، فهو بيان للتكليف بالزكاة، وما قاله الشيخ فيه نظر..
قوله تعالى :﴿ وإن الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ﴾ [ مريم : ٣٦ ].
قال ذلك هنا، وقال في الزخرف ﴿ إن الله هو ربي وربكم ﴾ [ الزخرف : ٦٤ ] بزيادة " هو " لأنه تعالى ذكر قصة عيسى عليه السلام هنا مستوفاة، فأغنى ذلك على التأكيد، بخلافه ثَمَّ، ولذلك قال هنا :﴿ فويل للذين كفروا ﴾ [ مريم : ٣٧ ] وفي الزخرف ﴿ فويل للذين ظلموا ﴾ [ الزخرف : ٦٥ ] إذ الكفر أشدّ قبحا من الظلم، فكان وصف من ذُكر بالكفر، في المحلّ الذي استوفى فيه قصة عيسى، أنسب بالمحلّ الذي أُجمل فيه قصّته.
وقال هنا :﴿ أسمع بهم وأبصر ﴾ [ مريم : ٣٨ ] وعكس في الكهف( ١ )، لأن معناه هنا أنه تعالى ذكر قصص الأنبياء، فاسمعها وتدبّرها، واستعمل النظر فيها ببصيرتك، ومعناه في الكهف أنه تعالى له غيب السموات والأرض، فاجعل بصيرتك في الفكر في مخلوقاته، وتدبّرها بحيث تصل إلى معرفته، واسمع لصفاته ووحِّده، فناسب تقديم السمع هنا، والبصر ثَمَّ.
١ - في الكهف ﴿أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من وليّ﴾ آية (٢٦)..
قوله تعالى :﴿ قال سلام عليك سأستغفر لك ربّي إنه كان بي حفيّا ﴾ [ مريم : ٤٧ ].
إن قلتَ : الاستغفار للكافر حرام، فكيف وعد إبراهيم عليه السلام أباه، بالاستغفار له مع أنه كافر ؟
قلتُ : معناه سأسأل الله لك توبة، تنال بها مغفرته يعني الإسلام، والاستغفار بهذا الوجه جائز، كأن يقول : اللهم وفِّقه للإسلام، أو تب عليه واهده، أو أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار( ١ ).
١ - كان استغفار إبراهيم لأبيه في بدء الدعوة، قبل أن يتبيّن له أنه مصرّ على الكفر، كما قال سبحانه: ﴿فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه﴾..
قوله تعالى :﴿ وناديناه من جانب الطور الأيمن... ﴾ [ مريم : ٥٢ ].
أي الذي يلي يمين موسى، حين أقبل من مدين.
قوله تعالى :﴿ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيّا ﴾ [ مريم : ٥٣ ].
إن قلتَ : هارون كان أكبر من موسى، فما معنى هبته له ؟
قلتُ : معناه أن الله تعالى أنعم على موسى عليه السلام، بإجابته دعوته فيه، حيث قال :﴿ واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي ﴾ [ الآية [ طه : ٢٩، ٣٠ ]، فمعنى هبته له، جعله عضدا له، وناصرا ومعينا.
قوله تعالى :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون شيئا ﴾ [ مريم : ٦٠ ].
قاله هنا : وقال في الفرقان ﴿ وعمل عملا صالحا ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ] لأنه تعالى أوجز هنا في ذكر المعاصي، فأوجز في التوبة، وأطال ثم فأطال.
قوله تعالى :﴿ لقد أحصاهم وعدّهم عدّا ﴾ [ مريم : ٨٤ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذكر العدّ بعد الإحصاء، مع أن الإحصاء هو العدوّ أو الحصر، والحصر لا يكون إلا بعد معرفة العدد ؟
قلتُ : له معنى ثالث، وهو العلم كقوله تعالى :﴿ وأحصى كل شيء عددا ﴾ [ الجن : ٢٨ ] أي علم عدد كل شيء، فالمعنى هنا : لقد علمهم، وعدّهم عدّا.
Icon