تفسير سورة المؤمنون

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
تفسير سورة المؤمنون١ مكية.
١ - في ف :"المؤمنين"..

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ (١)
مَكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١) ﴾.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ سُلَيْم قَالَ: أَمْلَى عليَّ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ (٢) الْأَيْلِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الوحيُ، يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كدَوِيّ النَّحْلِ فَمَكثنا سَاعَةً، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ، زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وآثِرْنا وَلَا تُؤْثِرْ [عَلَيْنَا، وَارْضَ عَنَّا] (٣) وأرضِنا"، ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلِيَّ عَشْرُ آيَاتٍ، مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ حَتَّى خَتَمَ العَشْر.
وَكَذَا رَوَى (٤) التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الصَّلَاةِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ (٥).
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مُنْكَرٌ، لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ يُونُسَ بْنِ سُلَيْمٍ، وَيُونُسُ لَا نَعْرِفُهُ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةَ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ بابَنُوس قَالَ: قُلْنَا لِعَائِشَةَ: يَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ (٦) خُلُق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَتْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ حَتَّى انتَهَتْ إِلَى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (٧)
وقد رُوي عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وغيرهم: لَمَّا خلق الله جنة عدن،
(١) في ف: "المؤمنين".
(٢) في أ: "زيد".
(٣) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٤) في أ: "رواه".
(٥) المسند (١/٣٤) وسنن الترمذي برقم (٣١٧٣) وسنن النسائي الكبرى برقم (١٤٣٩).
(٦) في أ: "حال".
(٧) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٣٥٠).
359
وَغَرَسَهَا بِيَدِهِ، نَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ لَهَا. تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾، قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لِمَا أعدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ.
وَقَدْ رُوي ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا وُهَيْب، عَنِ الجُرَيْري، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَغَرَسَهَا، وَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾، فَدَخَلَتْهَا الْمَلَائِكَةُ فَقَالَتْ: طُوبَى لَكِ، منزلَ الْمُلُوكِ!. (١)
ثُمَّ قَالَ (٢) : وَحَدَّثَنَا بِشْر بْنُ آدَمَ، وَحَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ العُمَري، حَدَّثَنَا عَدِي بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا الجُرَيْرِي، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا (٣) الْمِسْكُ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي (٤) هَذَا الْحَدِيثِ: "حَائِطُ الْجَنَّةِ، لَبِنَةٌ ذَهَبٌ وَلَبِنَةٌ فِضَّةٌ، ومِلاطُها الْمِسْكُ. فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: طُوبَى لَكِ، مَنْزِلَ الْمُلُوكِ! ".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ إِلَّا عَدِيّ بْنَ الْفَضْلِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْحَافِظِ، وَهُوَ شَيْخٌ مُتَقَدِّمُ الْمَوْتِ (٥).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا بَقِيَّة، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ عَدْن، خَلَقَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، [وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ] (٦)، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (٧).
بَقِيًّة: عَنِ الْحِجَازِيِّينَ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا حماد ابن عِيسَى الْعَبْسِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -يَرْفَعُهُ-: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ عَدْن بِيَدِهِ، ودَلَّى فِيهَا ثِمَارَهَا، وَشَقَّ فِيهَا أَنْهَارَهَا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾. قَالَ: وَعِزَّتِي (٨) لَا يُجَاوِرُنِي فيك بخيل" (٩).
(١) مسند البزار برقم (٣٥٠٧) "كشف الأستار". تنبيه: وقع في مسند البزار سنده هكذا: "حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا حجاج بن المنهال، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
(٢) في أ: "وقال".
(٣) في أ: "بلاطها".
(٤) في أ: "من".
(٥) مسند البزار برقم (٣٥٠٨) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٣٩٧) :"رجال الموقوف رجال الصحيح".
(٦) زيادة من ف، أ.
(٧) المعجم الكبير (١١/١٨٤).
(٨) في أ: "وعزتي وجلالي".
(٩) المعجم الأوسط برقم (٤٨٦١) "مجمع البحرين"، وأبي صالح ضعيف.
460
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا محمد بن المثنى البَزَّار، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْكَلْبِيُّ، حَدَّثَنَا يَعِيشُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتادة، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، لَبِنَةً مِنْ دُرَّة بَيْضَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ زَبَرْجَدَةَ خَضْرَاءَ، ملاطُها الْمِسْكُ، وحَصْباؤها اللُّؤْلُؤُ، وحَشِيشها الزَّعْفَرَانُ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: انطِقِي. قَالَتْ: (١) ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي، وَجَلَالِي لَا يُجَاوِرُنِي فِيكِ بَخِيلٌ". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (٢) [الْحَشْرِ: ٩] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: قَدْ فَازُوا وسُعِدُوا وحَصَلوا عَلَى الْفَلَاحِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ.
﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ " قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿خَاشِعُونَ﴾ : خَائِفُونَ سَاكِنُونَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ (٣).
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: الخشوعُ: خشوعُ القلبِ. وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ خُشُوعُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَغَضُّوا بِذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ، وَخَفَضُوا الْجَنَاحَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ خَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِمْ.
[وَ] (٤) قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ مُصَلاه، فَإِنْ كَانَ قَدِ اعْتَادَ النَّظَرَ فَلْيُغْمِضْ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ثُمَّ رَوَى (٥) ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح أَيْضًا مُرْسَلًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِمَنْ فَرَّغ قَلْبَهُ لَهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَمَّا عَدَاهَا، وَآثَرَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ رَاحَةً لَهُ وقُرَّة عَيْنٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "حُبِّبَ إليَّ الطِّيب وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" (٦).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا مِسْعَر، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ سَالِمِ بْنِ أبي الجَعْد،
(١) في أ: "فقالت".
(٢) صفة الجنة لابن أبي الدنيا برقم (٢٠) وفي إسناده محمد بن زياد الكلبي، قال ابن معين: لا شيء.
تنبيه: وقع في صفة الجنة: "حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا بشر بن الحسين" وفي النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير (٢/٢٧٩) "نفيس بن ضين ".
(٣) في ف، أ: "والزهري وقتادة".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في أ: "ورواه".
(٦) المسند (٣/١٢٨) وسنن النسائي (٦١١٧).
461
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أسلَم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ" (١).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا؛ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عثمان بن المغيرة، عن سالم ابن أَبِي الْجَعْدِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى صِهْرٍ لَنَا مِنَ الْأَنْصَارِ، فحَضَرت الصَّلَاةُ، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ، ائْتِنِي بوَضُوء لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ. فَرَآنَا (٢) أَنْكَرْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ (٣)، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قُمْ يَا بِلَالُ، فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ" (٤).
وَقَالَ (٥) :﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ أَيْ: عَنِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ يَشْمَلُ: الشِّرْكَ -كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ-وَالْمَعَاصِي -كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ -وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الْفَرْقَانِ: ٧٢].
قَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُمْ وَاللَّهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا وقَذَهم عَنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ : الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ هَاهُنَا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ [الْآيَةَ] (٦) مَكِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّتِي فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ إِنَّمَا هِيَ ذَاتُ النَّصَب وَالْمَقَادِيرِ الْخَاصَّةِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ كَانَ وَاجِبًا بِمَكَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٤١].
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هَاهُنَا: زَكَاةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنَسِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ٩، ١٠]، وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٦، ٧]، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادًا، وَهُوَ زَكَاةُ النُّفُوسِ وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ زَكَاةِ النُّفُوسِ، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى هَذَا وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ أَيْ: وَالَّذِينَ قَدْ حَفِظُوا فُرُوجَهُمْ مِنَ الْحَرَامِ، فَلَا يَقَعُونَ فِيمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ زِنًا أَوْ لِوَاطٍ، وَلَا يَقْرَبُونَ سِوَى أَزْوَاجَهُمُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ السَّرَارِيِّ، وَمَنْ تَعَاطَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ؛ وَلِهَذَا (٧) قَالَ: ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ أَيْ: غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ أَيِ: الْمُعْتَدُونَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أن امرأة
(١) المسند (٥/٣٦٤).
(٢) في ف، أ: "فرأى أنا".
(٣) في ف: "ذلك عليه".
(٤) المسند (٥/٣٧١).
(٥) في أ: "وقوله".
(٦) زيادة من ف، أ.
(٧) في ف: "فلهذا".
462
اتَّخَذَتْ مَمْلُوكَهَا، وَقَالَتْ: تأَوّلْت آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: ﴿أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [قَالَ] (١) : فأُتي بها عمر ابن الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (٢) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَأَوَّلَتْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا. قَالَ: فَغرب (٣) الْعَبْدَ وَجَزَّ رَأْسَهُ: وَقَالَ: أَنْتِ بَعْدَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ مُنْقَطِعٌ، ذَكَرَهُ (٤) ابْنُ جَرِيرٍ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥)، وَهُوَ هَاهُنَا أَلْيَقُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا عَلَى الرِّجَالِ مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ قَالَ: فَهَذَا الصَّنِيعُ خَارِجٌ عَنْ هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ وَقَدِ اسْتَأْنَسُوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ فِي جُزْئِهِ الْمَشْهُورِ حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الجَزَريّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ حُمَيْدٍ (٦)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ مَعَ الْعَامِلِينَ، وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ أَوَّلَ الدَّاخِلِينَ، إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ: نَاكِحُ يَدِهِ (٧)، وَالْفَاعِلُ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ، وَمُدْمِنُ (٨) الْخَمْرِ، وَالضَّارِبُ وَالِدَيْهِ حَتَّى يَسْتَغِيثَا، وَالْمُؤْذِي جِيرَانَهُ حَتَّى يَلْعَنُوهُ، وَالنَّاكِحُ حَلِيلَةَ جَارِهِ" (٩).
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ؛ لِجَهَالَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ أَيْ: إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، بَلْ يُؤَدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْ عَاقَدُوا أَوْفَوْا بِذَلِكَ، لَا كَصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا اؤتمن خَانَ".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أَيْ: يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (١٠). وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ قَالَ: "الصلاة في أول وقتها" (١١).
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "رسول الله".
(٣) في ف، أ: "فضرب" وهو الصحيح.
(٤) في أ: "ذكرها".
(٥) تفسير الطبري (٩/٥٨٦) ط - المعارف.
(٦) في ف، أ: "أحمد".
(٧) في ف، أ: "الناكح يده".
(٨) في ف، أ: "المدمن".
(٩) جزء الحسن بن عرفة برقم (٤١).
(١٠) صحيح البخاري برقم (٥٩٧٠) وصحيح مسلم برقم (٨٥).
(١١) المستدرك (١/١٨٨) وقال الحاكم: "فقد صحت هذه اللفظة باتفاق الثقتين بندار بن بشار، والحسن بن مكرم على روايتهما عن عثمان بن عمرو، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
463
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ يَعْنِي: مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الضُّحَى، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا.
وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ ذِكْرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ بِالصَّلَاةِ، وَاخْتَتَمَهَا بِالصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ" (١).
ولَما وَصَفَهم [اللَّهُ] (٢) تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ قَالَ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ" (٣).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ: مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِنْ مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ (٤).
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ لَيْث، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ: مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فيُبنَى بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، ويُهدّم بَيْتُهُ الَّذِي فِي النَّارِ (٥)، وَأَمَّا الْكَافِرُ فيُهْدَم بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، ويُبنى بَيْتُهُ الَّذِي فِي النَّارِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر نَحْوَ ذَلِكَ.
فَالْمُؤْمِنُونَ يَرْثُونَ مَنَازِلَ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ [كُلَّهُمْ] (٦) خُلِقُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى (٧)، فَلَمَّا قَامَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ، وترَكَ أُولَئِكَ مَا أمرُوا بِهِ مِمَّا خُلقوا لَهُ -أحرزَ هؤلاء نصيب
(١) جاء من حديث ثوبان: رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٧٧) من طريق سفيان عن منصور عن ابن أبي الجعد عنه به وفيه انقطاع. ومن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٧٨) من طريق المعتمر عن ليث عن مجاهد عنه به، وليث بن أبي سليم ضعيف. ومن حديث أبي أمامة: رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٧٩) من طريق إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عنه به، وضعفه البوصيري في الزوائد.
(٢) زيادة من ف، أ.
(٣) البخاري في صحيحه برقم (٢٧٩٠)، (٧٤٢٣) عن أبي هريرة، ولم يعزه صاحب التحفة إلى غير البخاري.
(٤) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (٤٣٤١) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن سنان، كلاهما عن أبي معاوية به. وقال البوصيري في الزوائد (٣/٣٢٧) :"هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
(٥) في ف، أ: "فيهدم بيته الذي في النار، ويبنى بيته الذي في الجنة".
(٦) زيادة من أ.
(٧) في ف، أ: "وحده لا شريك له".
464
﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ " قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ خَاشِعُونَ ﴾ : خائفون ساكنون. وكذا روي عن مجاهد، والحسن، وقتادة، والزهري١.
وعن علي بن أبي طالب، رَضِي الله عنه : الخشوعُ : خشوعُ القلبِ. وكذا قال إبراهيم النخعي.
وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح.
وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم.
[ و ]٢ قال ابن سيرين : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مُصَلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فَلْيُغْمِضْ. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم رَوَى٣ ابن جرير عنه، وعن عطاء بن أبي رَبَاح أيضًا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، حتى نزلت هذه الآية.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" حُبِّبَ إليَّ الطِّيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة " ٤.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع، حدثنا مِسْعَر، عن عمرو بن مُرَّة، عن سالم بن أبي الجَعْد،
عن رجل من أسلَم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا بلال، أرحنا بالصلاة " ٥.
وقال الإمام أحمد أيضًا ؛ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم ابن أبي الجعد، أن محمد بن الحنفية قال : دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار، فحَضَرت الصلاة، فقال : يا جارية، ائتني بوَضُوء لعلي أصلي فأستريح. فرآنا٦ أنكرنا عليه ذلك٧، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة " ٨.
١ - في ف، أ :"والزهري وقتادة"..
٢ - زيادة من أ..
٣ - في أ :"ورواه"..
٤ - المسند (٣/١٢٨) وسنن النسائي (٦١١٧)..
٥ - المسند (٥/٣٦٤)..
٦ - في ف، أ :"فرأى أنا"..
٧ - في ف :"ذلك عليه"..
٨ - المسند (٥/٣٧١)..
وقال١ :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ أي : عن الباطل، وهو يشمل : الشرك - كما قاله بعضهم - والمعاصي - كما قاله آخرون - وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ].
قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقَذَهم عن ذلك.
١ - في أ :"وقوله"..
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ : الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه [ الآية ]١ مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النَّصَب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ].
وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا : زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [ الشمس : ٩، ١٠ ]، وكقوله :﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ [ فصلت : ٦، ٧ ]، على أحد القولين في تفسيرها.
وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ؛ فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا، والله أعلم.
١ - زيادة من ف، أ..
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ أي : والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج ؛ ولهذا١ قال :﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ﴾ أي : غير الأزواج والإماء، ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ أي : المعتدون.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن امرأة
اتخذت مملوكها، وقالت : تأَوّلْت آية من كتاب الله :﴿ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ [ قال ]٢ : فأُتي بها عمر ابن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي٣ صلى الله عليه وسلم : تأولت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال : فَغرب٤ العبد وجزّ رأسه : وقال : أنت بعده حرام على كل مسلم. هذا أثر غريب منقطع، ذكره٥ ابن جرير في أول تفسير سورة المائدة٦، وهو هاهنا أليق، وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها، والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله، ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ قال : فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال :﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عَرَفَةَ في جزئه المشهور حيث قال :
حدثني علي بن ثابت الجَزَريّ، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد٧، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العاملين، ويدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، فمن تاب تاب الله عليه : ناكح يده٨، والفاعل، والمفعول به، ومدمن٩ الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره " ١٠.
هذا حديث غريب، وإسناده فيه من لا يعرف ؛ لجهالته، والله أعلم.
١ - في ف :"فلهذا"..
٢ - زيادة من أ..
٣ - في أ :"رسول الله"..
٤ - في ف، أ :"فضرب" وهو الصحيح..
٥ - في أ :"ذكرها"..
٦ - تفسير الطبري (٩/٥٨٦) ط - المعارف..
٧ - في ف، أ :"أحمد"..
٨ - في ف، أ :"الناكح يده"..
٩ - في ف، أ :"المدمن"..
١٠ - جزء الحسن بن عرفة برقم (٤١)..
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ أي : إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" آية المنافق ثلاث : إذا حَدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ".
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ أي : يواظبون عليها في مواقيتها، كما قال ابن مسعود : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله، أيّ العمل أحب إلى الله ؟ قال :" الصلاة على وقتها ". قلت : ثم أيّ ؟ قال :" بِرُّ الوالدين ". قلت : ثم أي ؟ قال :" الجهاد في سبيل الله ".
أخرجاه في الصحيحين١. وفي مستدرك الحاكم قال :" الصلاة في أول وقتها " ٢.
وقال ابن مسعود، ومسروق في قوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ يعني : مواقيت الصلاة. وكذا قال أبو الضُّحَى، وعلقمة بن قيس، وسعيد بن جبير، وعكرمة.
وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها.
وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " ٣.
١ - صحيح البخاري برقم (٥٩٧٠) وصحيح مسلم برقم (٨٥)..
٢ - المستدرك (١/١٨٨) وقال الحاكم :"فقد صحت هذه اللفظة باتفاق الثقتين بندار بن بشار، والحسن بن مكرم على روايتهما عن عثمان بن عمرو، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"..
٣ - جاء من حديث ثوبان : رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٧٧) من طريق سفيان عن منصور عن ابن أبي الجعد عنه به وفيه انقطاع. ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٧٨) من طريق المعتمر عن ليث عن مجاهد عنه به، وليث بن أبي سليم ضعيف. ومن حديث أبي أمامة : رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٧٩) من طريق إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عنه به، وضعفه البوصيري في الزوائد..
ولَما وَصَفَهم [ الله ]١ تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن " ٢.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ ٣.
وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ قال : ما من عبد إلا وله منزلان : منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة، ويُهدّم بيته الذي في النار٤، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة، ويُبنى بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار ؛ لأنهم [ كلهم ]٥ خلقوا لعبادة الله تعالى٦، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له - أحرزَ هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضًا، وهو ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بُردَةَ٧، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضَعُها على اليهود والنصارى " ٨.
وفي لفظ له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم القيامة دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا، فيقال٩ : هذا فَكَاكُكَ من النار ". فاستحلف عُمر بن عبد العزيز أبا بُردَةَ بالله الذي لا إله إلا هو، ثلاث مرات، أن أباه حَدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : فحلف له١٠. قلت : وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [ مريم : ٦٣ ]، وكقوله :﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٣ ]. وقد قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر : الجنة بالرومية هي الفردوس.
وقال بعض السلف : لا يسمى البستان فردوسًا إلا إذا كان فيه عنب، فالله أعلم١١.
١ - زيادة من ف، أ..
٢ - البخاري في صحيحه برقم (٢٧٩٠)، (٧٤٢٣) عن أبي هريرة، ولم يعزه صاحب التحفة إلى غير البخاري..
٣ - ورواه ابن ماجه في السنن برقم (٤٣٤١) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن سنان، كلاهما عن أبي معاوية به. وقال البوصيري في الزوائد (٣/٣٢٧) :"هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين"..
٤ - في ف، أ :"فيهدم بيته الذي في النار، ويبنى بيته الذي في الجنة"..
٥ - زيادة من أ..
٦ - في ف، أ :"وحده لا شريك له"..
٧ - في ف، أ :"بردة بن أبي موسى"..
٨ - صحيح مسلم برقم (٢٧٦٧)..
٩ - في ف، أ :"فيقول"..
١٠ - صحيح مسلم برقم (٢٧٦٧)..
١١ - في ف، أ :"والله أعلم..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠:ولَما وَصَفَهم [ الله ]١ تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن " ٢.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ ٣.
وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ قال : ما من عبد إلا وله منزلان : منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة، ويُهدّم بيته الذي في النار٤، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة، ويُبنى بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار ؛ لأنهم [ كلهم ]٥ خلقوا لعبادة الله تعالى٦، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له - أحرزَ هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضًا، وهو ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بُردَةَ٧، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضَعُها على اليهود والنصارى " ٨.
وفي لفظ له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم القيامة دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا، فيقال٩ : هذا فَكَاكُكَ من النار ". فاستحلف عُمر بن عبد العزيز أبا بُردَةَ بالله الذي لا إله إلا هو، ثلاث مرات، أن أباه حَدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : فحلف له١٠. قلت : وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [ مريم : ٦٣ ]، وكقوله :﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٣ ]. وقد قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر : الجنة بالرومية هي الفردوس.
وقال بعض السلف : لا يسمى البستان فردوسًا إلا إذا كان فيه عنب، فالله أعلم١١.
١ - زيادة من ف، أ..
٢ - البخاري في صحيحه برقم (٢٧٩٠)، (٧٤٢٣) عن أبي هريرة، ولم يعزه صاحب التحفة إلى غير البخاري..
٣ - ورواه ابن ماجه في السنن برقم (٤٣٤١) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن سنان، كلاهما عن أبي معاوية به. وقال البوصيري في الزوائد (٣/٣٢٧) :"هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين"..
٤ - في ف، أ :"فيهدم بيته الذي في النار، ويبنى بيته الذي في الجنة"..
٥ - زيادة من أ..
٦ - في ف، أ :"وحده لا شريك له"..
٧ - في ف، أ :"بردة بن أبي موسى"..
٨ - صحيح مسلم برقم (٢٧٦٧)..
٩ - في ف، أ :"فيقول"..
١٠ - صحيح مسلم برقم (٢٧٦٧)..
١١ - في ف، أ :"والله أعلم..

أُولَئِكَ لَوْ كَانُوا أَطَاعُوا رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بُردَةَ (١)، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، ويضَعُها عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى" (٢).
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيُقَالُ (٣) : هَذَا فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ". فَاسْتَحْلَفَ عُمر بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبَا بُردَةَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فَحَلَفَ لَهُ (٤). قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٦٣]، وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٧٣]. وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: الْجَنَّةُ بِالرُّومِيَّةِ هِيَ الْفِرْدَوْسُ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يُسَمَّى الْبُسْتَانُ فِرْدَوْسًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ عِنَبٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (٥).
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنِ المِنْهال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ قَالَ: صَفوةُ الْمَاءِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿مِنْ سُلالَةٍ﴾ أَيْ: مِنْ مَنِيِّ آدَمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ آدَمُ طِينًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: استُلّ آدمُ مِنَ الطِّينِ. وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، وَأَقْرَبُ إِلَى السِّيَاقِ، فَإِنَّ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خُلِقَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَهُوَ الصَّلْصَالُ مِنَ الْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، وَذَلِكَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ [الروم: ٢٠].
(١) في ف، أ: "بردة بن أبي موسى".
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٧٦٧).
(٣) في ف، أ: "فيقول".
(٤) صحيح مسلم برقم (٢٧٦٧).
(٥) في ف، أ: "والله أعلم.
465
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَوْف، حَدَّثَنَا قَسَامة بْنُ زُهَيْر، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْر الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ (١). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ : هَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السَّجْدَةِ: ٧، ٨] أَيْ: ضَعِيفٍ، كَمَا قَالَ: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ (٢)، يَعْنِي: الرحمُ مُعَد لِذَلِكَ مُهَيَّأٌ لَهُ، ﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٢، ٢٣]، أَيْ: [إِلَى] (٣) مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَأَجَلٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى اسْتَحْكَمَ وتنَقَّل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَصِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ أَيْ: ثُمَّ صَيَّرنا النُّطْفَةَ، وَهِيَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ -وَهُوَ ظَهْرُهُ-وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ-وَهِيَ عِظَامُ صَدْرِهَا مَا بَيْنَ التَّرْقُوَةِ إِلَى الثَّنْدُوَةِ-فَصَارَتْ عَلَقَةً حَمْرَاءَ عَلَى شَكْلِ الْعَلَقَةِ مُسْتَطِيلَةً. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَهِيَ دَمٌ.
﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ : وَهِيَ قِطْعَةٌ كالبَضعة مِنَ اللَّحْمِ، لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ، ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ يَعْنِي: شَكَّلْنَاهَا ذَاتَ رَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ بِعِظَامِهَا وَعَصَبِهَا وَعُرُوقِهَا.
وَقَرَأَ آخَرُونَ: ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا (٤) ﴾.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ عَظْمُ الصُّلْبِ.
وَفِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ جَسَدِ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبُ الذَّنَب، مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ (٥) يُرَكَّبُ" (٦).
﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾ أَيْ: وَجَعَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مَا يَسْتُرُهُ وَيَشُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ، ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ أَيْ: ثُمَّ نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ، فَتَحَرَّكَ وَصَارَ ﴿خَلْقًا آخَرَ﴾ ذَا سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَإِدْرَاكٍ وَحَرَكَةٍ وَاضْطِرَابٍ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسافر، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ -يَعْنِي: ابْنَ كَثِيرٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا أَتَمَّتِ النُّطْفَةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، بُعِث إِلَيْهَا مَلك فَنَفَخَ فِيهَا الرُّوحَ في
(١) المسند (٤/٤٠٠) وسنن أبي داود برقم (٤٦٩٣) وسنن الترمذي برقم (٢٩٥٥).
(٢) في أ: "فجعلناه نطفة" وهو خطأ.
(٣) زيادة من ف، أ.
(٤) في ف، أ: "النطفة عظاما".
(٥) في أ: "وفيه".
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٩٣٥) وصحيح مسلم برقم (٢٩٥٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
466
الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ يَعْنِي: نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ (١).
ورُوي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ نَفْخُ الرُّوحِ.
قَالَ ابن عباس: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ يعني بِهِ: الرُّوحَ (٢). وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وابنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابنُ جَرِيرٍ (٣).
وَقَالَ العَوْفِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ يَعْنِي: نَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ خَرَجَ طِفْلًا ثُمَّ نَشَأَ صَغِيرًا، ثُمَّ احْتَلَمَ، ثُمَّ صَارَ شَابًّا، ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا، ثُمَّ هَرِمًا.
وَعَنْ قَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَا مُنَافَاةَ، فَإِنَّهُ مِنَ ابْتِدَاءِ (٤) نَفْخِ الرُّوحِ [فِيهِ] (٥) شَرَع فِي هَذِهِ التَّنَقُّلَاتِ وَالْأَحْوَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ ليُجمع خَلقُه فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَهَلْ هُوَ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ (٦) لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا".
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سليمانَ بْنِ مِهْرَان الْأَعْمَشِ (٧).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَة قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (٨) -يَعْنِي: ابْنَ مَسْعُودٍ-إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، طَارَتْ فِي كُلِّ شَعْرٍ وَظُفْرٍ، فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَتَحَدَّرُ (٩) فِي الرَّحِمِ فَتَكُونُ عَلَقَةً.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنة، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: يَا يَهُودِيُّ، إِنَّ هَذَا يَزعمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. فَقَالَ: لَأَسْأَلَنَّهُ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ. قَالَ: فَجَاءَهُ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مِمَّ يُخْلَقُ الإنسان؟ فقال: "يا يهودي، من كلٍّ
(١) في ف: "يعني به الروح".
(٢) في ف: "يعني نفخنا فيه الروح".
(٣) تفسير الطبري (٨-٨١).
(٤) في ف: "ابتدأ".
(٥) زيادة من ف، أ.
(٦) في ف: "أحدكم".
(٧) المسند (١/٣٨٢) وصحيح البخاري برقم (٦٥٩٤) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٣).
(٨) في ف: "عن خيثمة عن عبد الله قال: قال".
(٩) في ف، أ: "تنحدر".
467
يُخْلَقُ، مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ وَمِنْ نُطْفَةِ الْمَرْأَةِ، فَأَمَّا نُطْفَةُ الرَّجُلِ فَنُطْفَةٌ غَلِيظَةٌ مِنْهَا الْعَظْمُ والعَصَب، وَأَمَّا نُطْفَةُ الْمَرْأَةِ فَنُطْفَةٌ رَقِيقَةٌ مِنْهَا اللَّحْمُ وَالدَّمُ" فَقَامَ الْيَهُودِيُّ فَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَقُولُ مَنْ قَبْلَكَ. (١)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، حُذَيْفَة بْنِ أُسَيْد الْغِفَارِيِّ قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَدْخُلُ المَلك عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَاذَا؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، فَيَكْتُبَانِ (٢). فَيَقُولَانِ: مَاذَا؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكْتُبَانِ ويُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَثَرُهُ، وَمُصِيبَتُهُ، وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ، فَلَا يُزاد عَلَى مَا فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ".
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو -وَهُوَ ابْنُ دِينَارٍ-بِهِ (٣) نَحْوَهُ. وَمِنْ طُرَق أخرَى، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ حذيفة بن أسيد أَبِي سُرَيْحَةَ (٤) الْغِفَارِيِّ بِنَحْوِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (٥).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، نُطْفَةٌ. أيْ رَبِّ، عَلَقَةٌ (٦) أَيْ رَبِّ، مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَهَا قَالَ: يَا رب، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ " قَالَ: "فَذَلِكَ يُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ يَعْنِي: حِينَ ذَكَرَ قُدْرَتَهُ وَلُطْفَهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ النُّطْفَةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَشَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ، حَتَّى تَصَوَّرَتْ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْسَانِ السَّوِيّ الْكَامِلِ الْخَلْقِ، قَالَ: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ -يَعْنِي: ابْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَافَقْتُ رَبِّي وَوَافَقَنِي فِي أَرْبَعٍ: نَزَلَتْ هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ الْآيَةَ، قُلْتُ (٨) أَنَا: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. فَنَزَلَتْ: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾
(١) المسند (١/٤٦٥).
(٢) في ف: "ويكتبان".
(٣) المسند (٤/٦) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٤).
(٤) في أ: "سريح".
(٥) صحيح مسلم برقم (٢٦٤٥).
(٦) في ف: "فحلقه".
(٧) صحيح البخاري برقم (٣١٨) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٦).
(٨) في ف، أ: "الآية، فلما نزلت قلت".
468
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴾ : هذا الضمير عائد على جنس الإنسان، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [ السجدة : ٧، ٨ ] أي : ضعيف، كما قال :﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ ١، يعني : الرحمُ مُعَد لذلك مهيأ له، ﴿ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٢٢، ٢٣ ]، أي :[ إلى ]٢ مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنَقَّل من حال إلى حال، وصفة إلى صفة ؛ ولهذا قال هاهنا :﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ﴾
١ - في أ :"فجعلناه نطفة" وهو خطأ..
٢ - زيادة من ف، أ..
أي : ثم صَيَّرنا النطفة، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل - وهو ظهره - وترائب المرأة - وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة - فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة. قال عكرمة : وهي دم.
﴿ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾ : وهي قطعة كالبَضعة من اللحم، لا شكل فيها ولا تخطيط، ﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ﴾ يعني : شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
وقرأ آخرون :﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا١.
قال ابن عباس : وهو عظم الصلب.
وفي الصحيح، من حديث أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق ومنه٢ يركب " ٣.
﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ أي : وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه، ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ أي : ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك وصار ﴿ خَلْقًا آخَرَ ﴾ ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا جعفر بن مُسافر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا النضر - يعني : ابن كثير، مولى بني هاشم - حدثنا زيد بن علي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال : إذا أتمت النطفة أربعة أشهر، بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في
الظلمات الثلاث، فذلك قوله :﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ يعني : نفخنا فيه الروح٤.
ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح.
قال ابن عباس :﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ يعني به : الروح٥. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، والحسن، وأبو العالية، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابنُ زيد، واختاره ابنُ جرير٦.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس :﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ يعني : ننقله من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلا ثم شيخًا، ثم هرما.
وعن قتادة، والضحاك نحو ذلك. ولا منافاة، فإنه من ابتداء٧ نفخ الروح [ فيه ]٨ شَرَع في هذه التنقلات والأحوال. والله أعلم.
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق :" إن أحدكم ليُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات : رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل٩ ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها ".
أخرجاه من حديث سليمانَ بن مِهْرَان الأعمش١٠.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن خَيْثَمَة قال : قال عبد الله١١ - يعني : ابن مسعود - إن النطفة إذا وقعت في الرحم، طارت في كل شعر وظفر، فتمكث أربعين يوما، ثم تتحدّر١٢ في الرحم فتكون علقة.
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا حسين بن الحسن، حدثنا أبو كُدَيْنة، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال : مَرَّ يهوديّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه، فقالت قريش : يا يهودي، إن هذا يَزعمُ أنه نبي. فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي. قال : فجاءه حتى جلس، فقال : يا محمد، مِمَّ يخلق الإنسان ؟ فقال :" يا يهودي، من كلٍّ
يُخْلَقُ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعَصَب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم " فقام اليهودي فقال : هكذا كان يقول من قبلك. ١٣ وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو، عن أبي الطُّفَيْل، حُذَيْفَة بن أُسَيْد الغفاري قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يدخل المَلك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة، فيقول : يا رب، ماذا ؟ أشقي أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله، فيكتبان١٤. فيقولان : ماذا ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله عز وجل، فيكتبان ويُكْتَبُ عمله، وأثره، ومصيبته، ورزقه، ثم تطوى الصحيفة، فلا يُزاد على ما فيها ولا ينقص ".
وقد رواه مسلم في صحيحه، من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو - وهو ابن دينار - به١٥ نحوه. ومن طُرَق أخرَى، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة١٦ الغفاري بنحوه، والله أعلم١٧.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله وكّل بالرحم مَلكًا فيقول : أي رب، نطفة. أيْ رب، علقة١٨ أي رب، مضغة. فإذا أراد الله خلقها قال : يا رب، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ " قال :" فذلك يكتب في بطن أمه ".
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به١٩.
وقوله :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ يعني : حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال، وشكل إلى شكل، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السَّوِيّ الكامل الخلق، قال :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا علي بن زيد، عن أنس، قال : قال عمر - يعني : ابن الخطاب رضي الله عنه - : وافقت ربي ووافقني في أربع : نزلت هذه الآية :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ الآية، قلت٢٠ أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين. فنزلت :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
وقال أيضًا : حدثنا أبي، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شَيْبَان، عن جابر الجُعْفِي، عن عامر الشعبي، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال : أملى عليَّ رسولُ الله هذه الآية :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ إلى قوله :﴿ خَلْقًا آخَرَ ﴾، فقال معاذ :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله ؟ قال :" بها ختمت ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ ٢١.
جابر بن يزيد الجُعْفِي ضعيف جدًّا، وفي خبره هذا نَكَارة شَديدة، وذلك أن هذه السورة مكية، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك٢٢ إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضًا، فالله أعلم٢٣.
١ - في ف، أ :"النطفة عظاما"..
٢ - في أ :"وفيه"..
٣ - صحيح البخاري برقم (٤٩٣٥) وصحيح مسلم برقم (٢٩٥٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٤ - في ف :"يعني به الروح"..
٥ - في ف :"يعني نفخنا فيه الروح"..
٦ - تفسير الطبري (٨ - ٨١)..
٧ - في ف :"ابتدأ"..
٨ - زيادة من ف، أ..
٩ - في ف :"أحدكم"..
١٠ - المسند (١/٣٨٢) وصحيح البخاري برقم (٦٥٩٤) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٣)..
١١ - في ف :"عن خيثمة عن عبد الله قال : قال"..
١٢ - في ف، أ :"تنحدر"..
١٣ - المسند (١/٤٦٥)..
١٤ - في ف :"ويكتبان"..
١٥ - المسند (٤/٦) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٤)..
١٦ - في أ :"سريح"..
١٧ - صحيح مسلم برقم (٢٦٤٥)..
١٨ - في ف :"فحلقه"..
١٩ - صحيح البخاري برقم (٣١٨) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٦)..
٢٠ - في ف، أ :"الآية، فلما نزلت قلت"..
٢١ - ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣٦٧) "مجمع البحرين" عن أبي زرعة عن آدم بن إياس به وجابر الجعفي ضعيف..
٢٢ - في ف، أ :"وكذا"..
٢٣ - في ف، أ :"والله أعلم"..
وقوله :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ يعني : بعد هذه النشأة الأولى من العدم تَصيرون إلى الموت،
﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ يعني : النشأة الآخرة، ﴿ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٠ ] يعني : يوم المعاد، وقيام الأرواح والأجساد، فيحاسب الخلائق، ويوفي كل عامل عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَان، عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِي، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَمْلَى عليَّ رسولُ اللَّهِ هَذِهِ الآية: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿خَلْقًا آخَرَ﴾، فَقَالَ مُعَاذٌ: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِهَا خُتِمَتْ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (١).
جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الجُعْفِي ضَعِيفٌ جِدًّا، وَفِي خَبَرِهِ هَذَا نَكَارة شَديدة، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِنَّمَا كَتَبَ الْوَحْيَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ (٢) إِسْلَامُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ أَيْضًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ يَعْنِي: بَعْدَ هَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى مِنَ الْعَدَمِ تَصيرون إِلَى الْمَوْتِ، ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ يَعْنِي: النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٠] يَعْنِي: يَوْمَ الْمَعَادِ، وَقِيَامَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، فَيُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ، وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧) ﴾.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْق الْإِنْسَانِ، عَطَفَ بِذِكْرِ خَلْقِ السموات السبع، وكثيرًا ما يذكر تعالى خلق السموات وَالْأَرْضِ (٤) مَعَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غَافِرٍ: ٥٧]. وَهَكَذَا فِي أَوَّلِ ﴿الم﴾ السَّجْدَةِ، الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا [فِي] (٥) صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِي أولها خَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بَيَانُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، وَفِيهَا أَمْرُ الْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ.
فَقَوْلُهُ: ﴿سَبْعَ طَرَائِقَ﴾ : قَالَ مجاهد: يعني السموات السَّبْعَ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤]، ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ [نُوحٍ: ١٥]، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطَّلَاقِ: ١٢]. وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ أي: ويعلم مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا،
(١) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣٦٧) "مجمع البحرين" عن أبي زرعة عن آدم بن إياس به وجابر الجعفي ضعيف.
(٢) في ف، أ: "وكذا".
(٣) في ف، أ: "والله أعلم".
(٤) في أ: "السبع".
(٥) زيادة من ف، أ.
469
وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يعرُج فِيهَا، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَهُوَ -سُبْحَانَهُ-لَا يَحجبُ عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، وَلَا أَرْضٌ أَرْضًا، وَلَا جَبَلٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي وَعْره، وَلَا بَحْرٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي قَعْره، يَعْلَمُ عَدَدَ مَا فِي الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالرِّمَالِ، وَالْبِحَارِ وَالْقِفَارِ وَالْأَشْجَارِ، ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٩].
470
﴿وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) ﴾.
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ (١) الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فِي إِنْزَالِهِ القَطْر مِنَ السَّمَاءِ ﴿بِقَدَرٍ﴾ أَيْ: بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، لَا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ الْأَرْضَ وَالْعُمْرَانَ، وَلَا قَلِيلًا فَلَا يَكْفِي الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، بَلْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنَ السَّقْيِ وَالشُّرْبِ وَالِانتِفَاعِ بِهِ، حَتَّى إِنَّ الْأَرَاضِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ مَاءً كَثِيرًا لِزَرْعِهَا وَلَا تَحْتَمِلُ دِمْنتها إِنْزَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهَا، يَسُوقُ إِلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ بِلَادٍ أُخْرَى، كَمَا فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَيُقَالُ لَهَا: "الْأَرْضُ الجرُز"، يَسُوقُ اللَّهُ إِلَيْهَا مَاءَ النِّيلِ مَعَهُ طِينٌ أَحْمَرُ يَجْتَرِفُهُ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ فِي زَمَانِ أَمْطَارِهَا، فَيَأْتِي الْمَاءُ يَحْمِلُ طِينًا (٢) أَحْمَرَ، فَيَسْقِي أَرْضَ مِصْرَ، وَيَقَرُّ الطِّينُ عَلَى أرضهم ليزدرعوا فِيهِ، لِأَنَّ أَرْضَهُمْ سِبَاخٌ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الرِّمَالُ، فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الرَّحِيمِ الْغَفُورِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: جَعَلَنَا الْمَاءَ إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ يَخْلُدُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَنَا (٣) فِي الْأَرْضِ قابليَّة لَهُ، تَشْرَبُهُ وَيَتَغَذَّى بِهِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ أَيْ: لَوْ شِئْنَا أَلَّا تُمْطِرَ لَفَعَلْنَا، وَلَوْ شِئْنَا لَصَرَفْنَاهُ عَنْكُمْ إِلَى السِّبَاخِ وَالْبَرَارِيِّ [وَالْبِحَارِ] (٤) وَالْقِفَارِ لَفَعَلْنَا، وَلَوْ شِئْنَا لَجَعَلْنَاهُ أُجَاجًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لشُرب وَلَا لِسَقْيٍ لَفَعَلْنَا، وَلَوْ شِئْنَا لَجَعَلْنَاهُ لَا يَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ، بَلْ ينجَرّ عَلَى وَجْهِهَا لَفَعَلْنَا. وَلَوْ شِئْنَا لَجَعَلْنَاهُ إِذَا نَزَلَ فِيهَا يَغُورُ إِلَى مَدَى لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ لَفَعَلْنَا. وَلَكِنْ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمُ الْمَاءَ مِنَ السَّحَابِ عَذْبًا فُرَاتًا زُلَالًا فَيُسْكِنُهُ فِي الْأَرْضِ ويَسْلُكُه يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ، فَيَفْتَحُ (٥) الْعُيُونَ وَالْأَنْهَارَ، فَيَسْقِي (٦) بِهِ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، وَتَشْرَبُونَ منه ودوابكم وأنعامكم، وتغتسلون (٧) منه وتتطهرون
(١) في ف، أ: "عبده".
(٢) في ف: "الطين".
(٣) في ف، أ: "وجعل".
(٤) زيادة من ف، أ.
(٥) في ف: "فيفجر".
(٦) في ف، أ: "ويسقي".
(٧) في ف: "ويغتسلون وتغتسلون".
470
وَتَتَنَظَّفُونَ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ يَعْنِي: فَأَخْرَجْنَا لَكُمْ بِمَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْمَاءِ ﴿جَنَّاتٍ﴾ أَيْ: بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ، أَيْ: ذَاتَ مَنْظَرٍ حَسَنٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أَيْ: فِيهَا نَخِيلٌ وَأَعْنَابٌ. وَهَذَا مَا كَانَ يَأْلَفُ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ إِقْلِيمٍ، عِنْدَهُمْ مِنَ الثِّمَارِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا يَعْجِزُون عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ أَيْ: مِنْ جَمِيعِ الثِّمَارِ، كَمَا قَالَ: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [النَّحْلِ: ١١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ كَأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: تَنْظُرُونَ إِلَى حُسْنِهِ وَنُضْجِهِ، وَمِنْهُ تَأْكُلُونَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ﴾ يَعْنِي: الزَّيْتُونَةَ. وَالطُّورُ: هُوَ الْجَبَلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَمَّى طُورًا إِذَا كَانَ فِيهِ شَجَرٌ، فَإِنْ عَرى عَنْهَا سُمِّيَ جَبَلا لَا طُورًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَطُورُ سَيْنَاءَ: هُوَ طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّم [اللَّهُ] (١) عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ : قَالَ بَعْضُهُمُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ: تَنْبُتُ الدُّهْنَ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَلْقَى فَلَانٌ بِيَدِهِ، أَيْ: يَدَهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُضَمِّن الْفِعْلَ فَتَقْدِيرُهُ: تَخْرُجُ بِالدُّهْنِ، أَوْ (٢) تَأْتِي بِالدُّهْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَصِبْغٍ﴾ أَيْ: أدْم، قَالَهُ قَتَادَةُ. ﴿لِلآكِلِينَ﴾ أَيْ: فِيهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الدُّهْنِ وَالِاصْطِبَاغِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَطَاءٍ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبِي أسَيْد -وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ الْأَنْصَارِيِّ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ (٣) ؛ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" (٤).
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيد فِي مُسْنَدِهِ وَتَفْسِيرُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (٥). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ إلا من
(١) زيادة من ف، وفي أ: "والله تعالى".
(٢) في ف، أ: "أي".
(٣) في أ: "بالزيت".
(٤) المسند (٣/٤٩٧).
(٥) المنتخب لعبد بن حميد برقم (١٣) وسنن الترمذي برقم (١٨٥١) وسنن ابن ماجه برقم (٣٣١٩).
471
وقوله :﴿ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ يعني : فأخرجنا لكم بما أنزلنا من الماء ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ أي : بساتين وحدائق ذات بهجة، أي : ذات منظر حسن.
وقوله :﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ أي : فيها نخيل وأعناب. وهذا ما كان يألف أهل الحجاز، ولا فرق بين الشيء وبين نظيره، وكذلك في حق كل أهل إقليم، عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يَعْجِزُون عن القيام بشكره.
وقوله :﴿ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ﴾ أي : من جميع الثمار، كما قال :﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ [ النحل : ١١ ].
وقوله :﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ كأنه معطوف على شيء مقدر، تقديره : تنظرون إلى حسنه ونضجه، ومنه تأكلون.
وقوله :﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ﴾ يعني : الزيتونة. والطور : هو الجبل. وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر، فإن عَرى عنها سمي جَبَلا لا طورًا، والله أعلم. وطور سيناء : هو طور سينين، وهو الجبل الذي كَلَّم [ الله ]١ عليه موسى بن عمران، عليه السلام، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون.
وقوله :﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ : قال بعضهم : الباء زائدة، وتقديره : تنبت الدهن، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده، أي : يده. وأما على قول من يُضَمِّن الفعل فتقديره : تخرج بالدهن، أو٢ تأتي بالدهن ؛ ولهذا قال :﴿ وَصِبْغٍ ﴾ أي : أدْم، قاله قتادة. ﴿ لِلآكِلِينَ ﴾ أي : فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع، عن عبد الله بن عيسى، عن عطاء الشامي، عن أبي أسَيْد - واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلوا الزيت وادهنوا به٣ ؛ فإنه من شجرة مباركة " ٤.
وقال عبد بن حُمَيد في مسنده وتفسيره : حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة ".
ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه، عن عبد الرزاق٥. قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه، وكان يضطرب فيه، فربما ذكر فيه عمر٦ وربما لم يذكره.
قال٧ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثني الصَّعْب بن حكيم بن شريك بن نملة، عن أبيه عن جده، قال : ضِفْت عمرَ بن الخطاب ليلة عاشوراء٨، فأطعمني٩ من رأس بعير بارد، وأطعمنا زيتًا، وقال : هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم١٠.
١ - زيادة من ف، وفي أ :"والله تعالى"..
٢ - في ف، أ :"أي"..
٣ - في أ :"بالزيت"..
٤ - المسند (٣/٤٩٧)..
٥ - المنتخب لعبد بن حميد برقم (١٣) وسنن الترمذي برقم (١٨٥١) وسنن ابن ماجه برقم (٣٣١٩)..
٦ - في أ :"عمرو"..
٧ - في ف، أ :"وقال"..
٨ - في ف: "ضفت ليلة عمر بن الخطاب"..
٩ - في ف : فأطعمني "عودا". وفي أ :"عسورا"..
١٠ - المعجم الكبير (١/٧٤) والصعب بن حكيم لا يعرف كما قال الذهبي..
وقوله :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ : يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرْث ودم، ويأكلون من حملانها، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ويركبون ظهورها ويحملونها١ الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم، كما قال تعالى :﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [ النحل : ٧ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ﴾ [ يس : ٧١ - ٧٣ ].
١ - في ف :"ويحملون"..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:وقوله :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ : يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرْث ودم، ويأكلون من حملانها، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ويركبون ظهورها ويحملونها١ الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم، كما قال تعالى :﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [ النحل : ٧ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ﴾ [ يس : ٧١ - ٧٣ ].
١ - في ف :"ويحملون"..

حَدِيثِهِ، وَكَانَ يَضْطَرِبُ فِيهِ، فَرُبَّمَا ذَكَرَ فِيهِ عُمَرَ (١) وَرُبَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ.
قَالَ (٢) أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي الصَّعْب بْنُ حَكِيمِ بْنِ شَرِيكِ بْنِ نَمْلَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: ضِفْت عمرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ (٣)، فَأَطْعَمَنِي (٤) مِنْ رَأْسِ بَعِيرٍ بَارِدٍ، وَأَطْعَمَنَا زَيْتًا، وَقَالَ: هَذَا الزَّيْتُ الْمُبَارَكُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٥).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ : يَذْكُرُ تَعَالَى مَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ ألْبَانِهَا الْخَارِجَةِ مِنْ بَيْنِ فرْث وَدَمٍ، وَيَأْكُلُونَ مِنْ حُمْلَانِهَا، وَيَلْبَسُونَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَيَرْكَبُونَ ظُهُورَهَا وُيُحَمِّلُونَهَا (٦) الْأَحْمَالَ الثِّقَالَ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النَّحْلِ: ٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ [يس: ٧١-٧٣].
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بَعَثَهُ (٧) إِلَى قَوْمِهِ، لِيُنْذِرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَبَأْسَهُ الشَّدِيدَ، وَانتِقَامَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ أَيْ: أَلَا تَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي إِشْرَاكِكُمْ بِهِ؟!
فَقَالَ الْمَلَأُ -وَهُمُ السَّادَةُ وَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ-: ﴿مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ يَعْنُونَ: يَتَرَفَّعُ عَلَيْكُمْ وَيَتَعَاظَمُ بِدَعْوَى (٨) النُّبُوَّةِ، وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْهِ دُونَكُمْ؟ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً﴾ أَيْ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ نَبِيًّا، لَبَعَثَ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ بَشَرًا! ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ أَيْ: بِبَعْثَةِ الْبَشَرِ فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ. يَعْنُونَ (٩) بهذا أسلافهم وأجدادهم والأمم (١٠) الماضية.
(١) في أ: "عمرو".
(٢) في ف، أ: "وقال".
(٣) في ف: "ضفت ليلة عمر بن الخطاب".
(٤) في ف: فأطعمني "عودا". وفي أ: "عسورا".
(٥) المعجم الكبير (١/٧٤) والصعب بن حكيم لا يعرف كما قال الذهبي.
(٦) في ف: "ويحملون".
(٧) في ف، أ: "بعثه الله".
(٨) في ف، أ: "بدعوة".
(٩) في ف: "يعني".
(١٠) في ف، أ: "الدهور".
﴿ فقال الملأ ﴾ - وهم السادة والأكابر منهم - :﴿ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ يعنون : يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى١ النبوة، وهو بشر مثلكم. فكيف أوحي إليه دونكم ؟ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً ﴾ أي : لو أراد أن يبعث نبيًّا، لبعث مَلَكًا من عنده ولم يكن بشرًا ! ﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا ﴾ أي : ببعثة البشر في آبائنا الأولين. يعنون٢ بهذا أسلافهم وأجدادهم والأمم٣ الماضية.
١ - في ف، أ :"بدعوة"..
٢ - في ف :"يعني"..
٣ - في ف، أ :"الدهور"..
وقوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ أي : مجنون فيما يزعمه، من أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي ﴿ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ﴾ أي : انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أَيْ: مَجْنُونٌ فِيمَا يَزْعُمُهُ، مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ بَيْنِكُمْ بِالْوَحْيِ ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ أَيِ: انتَظِرُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَاصْبِرُوا عَلَيْهِ مُدَّةً حَتَّى تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ.
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:يقول تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام، أنه دعا ربه يستنصره على قومه، كما قال تعالى مخبرا [ عنه ]١ في الآية الأخرى :﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [ القمر : ١٠ ]، وقال هاهنا :﴿ [ قَالَ ]٢ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، أي : ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار، وغير ذلك، وأن يحمل فيها أهله ﴿ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ أي : سبق فيه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه وزوجته، والله أعلم.
وقوله :﴿ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ أي : عند معاينة إنزال المطر العظيم، لا تأخذنك رأفة بقومك، وشفقة عليهم، وطَمَع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان. وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة " هود " ٣ بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا.
١ - زيادة من ف، أ..
٢ - زيادة من أ..
٣ - انظر تفسير الآيات : ٢٥ - ٤٨..

﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى قَوْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا [عَنْهُ] (١) فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [الْقَمَرِ: ١٠]، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿ [قَالَ] (٢) رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصَنْعَةِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: ذَكَرًا وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا أَهْلَهُ ﴿إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ أَيْ: سَبَقَ فِيهِ الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ بِالْهَلَاكِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ مِنْ أَهْلِهِ، كَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ أَيْ: عِنْدَ مُعَايَنَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ الْعَظِيمِ، لَا تَأْخُذَنَّكَ رَأْفَةٌ بِقَوْمِكَ، وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وطَمَع فِي تَأْخِيرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أَنَّهُمْ مُغْرَقُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ "هُودٍ" (٣) بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ ذَلِكَ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ١٢-١٤]. وَقَدِ امْتَثَلَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هُودٍ: ٤١]. فذَكَر اللهَ تَعَالَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهِ وَعِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ أَيْ: إِنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ -وَهُوَ إِنْجَاءُ المؤمنين وإهلاك الكافرين-
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) انظر تفسير الآيات: ٢٥-٤٨.
وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ أي : إن في هذا الصنيع - وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين -
﴿ لآيَاتٍ ﴾ أي : لحججًا١ ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأنه تعالى فاعل لما يشاء، وقادر على كل شيء، عليم بكل شيء وقوله :﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ أي : لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين. .
١ - في ف، أ :"لحجج"..
﴿لآيَاتٍ﴾ أَيْ: لَحُجَجًا (١) وَدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ تَعَالَى فَاعِلٌ لِمَا يَشَاءُ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ أَيْ: لَمُخْتَبِرِينَ لِلْعِبَادِ بِإِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ.
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْشَأَ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ قَرْنًا آخَرِينَ (٢) -قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ عَادٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ ثَمُودُ؛ لِقَوْلُهُ: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾ -وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، وَأَبَوْا مِنَ اتِّبَاعِهِ لِكَوْنِهِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَاسْتَنْكَفُوا عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولٍ بَشَرِيٍّ، فَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ فِي الْقِيَامَةِ، وَأَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُثْمَانِيَّ، وَقَالُوا ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ أَيْ: بَعِيدٌ بَعِيدٌ ذَلِكَ.
﴿إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أَيْ: فِيمَا جَاءَكُمْ (٣) بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ وَالْإِخْبَارِ بِالْمَعَادِ. ﴿وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ. قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ أَيِ: اسْتَفْتَحَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ واستنصَرَ ربَّه عَلَيْهِمْ، فَأَجَابَ دُعَاءَهُ، ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ أَيْ: بِمُخَالَفَتِكَ وَعِنَادِكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ،
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: وَكَانُوا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ مَعَ الرِّيحِ الصَّرْصر الْعَاصِفِ الْقَوِيِّ الْبَارِدَةِ، ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى (٤) إِلا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الْأَحْقَافِ: ٢٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾ أَيْ: صَرْعَى هَلْكى كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ التافه الهالك الذي
(١) في ف، أ: "لحجج".
(٢) في ف، أ: "آخر".
(٣) في ف، أ "جاء".
(٤) في ف، أ: "ترى".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين١ - قيل : المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ؛ لقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ﴾ - وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فكذبوه وخالفوه، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، فكذبوا بلقاء الله في القيامة، وأنكروا المعاد الجثماني، وقالوا { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.
١ - في ف، أ :"آخر"..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين١ - قيل : المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ؛ لقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ﴾ - وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فكذبوه وخالفوه، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، فكذبوا بلقاء الله في القيامة، وأنكروا المعاد الجثماني، وقالوا { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.
١ - في ف، أ :"آخر"..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين١ - قيل : المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ؛ لقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ﴾ - وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فكذبوه وخالفوه، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، فكذبوا بلقاء الله في القيامة، وأنكروا المعاد الجثماني، وقالوا { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.
١ - في ف، أ :"آخر"..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين١ - قيل : المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ؛ لقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ﴾ - وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فكذبوه وخالفوه، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، فكذبوا بلقاء الله في القيامة، وأنكروا المعاد الجثماني، وقالوا { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.
١ - في ف، أ :"آخر"..

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } أي : بعيد بعيد ذلك.
﴿ إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ أي : فيما جاءكم٢ به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد. { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.
َ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } أي : استفتح عليهم الرسول واستنصَرَ ربَّه عليهم، فأجاب دعاءه، ﴿ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾
﴿ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ أي : بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به،
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ﴾ أي : وكانوا يستحقون ذلك من الله لكفرهم وطغيانهم.
والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصَّرْصر العاصف القويّ الباردة، ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى٣ إِلا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٥ ].
وقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ﴾ أي : صرعى هَلْكى كغثاء السيل، وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه. ﴿ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾، كقوله٤ :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴾ [ الزخرف : ٧٦ ] أي : بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم.
لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. ﴿فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، كَقَوْلِهِ (١) :﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٧٦] أَيْ: بِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَلْيَحْذَرِ السَّامِعُونَ أَنْ يُكَذِّبُوا رَسُولَهُمْ.
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) ﴾
(١) في ف: "كقولهم".
﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ﴾ أَيْ: أَمَّمَا وَخَلَائِقَ، ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ يَعْنِي (١) : بَلْ يُؤْخَذون (٢) حَسَب مَا قَدَّرَ لَهُمْ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمَحْفُوظِ وَعَلِمَهُ قَبْلَ كَوْنِهِمْ، أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وخَلفًا بَعْدَ سَلَفٍ.
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ [النَّحْلِ: ٣٦]، وَقَوْلُهُ: ﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ يَعْنِي: جُمْهُورَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [يس: ٣٠].
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا﴾ أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٧].
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أَيْ: أَخْبَارًا وَأَحَادِيثَ لِلنَّاسِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [الْآيَةَ] (٣) [سَبَأٍ: ١٩] [ ﴿فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ] (٤).
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رَسُولَهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخَاهُ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الدَّامِغَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمَا، وَالِانقِيَادِ لِأَمْرِهِمَا، لِكَوْنِهِمَا بَشرين كَمَا أَنْكَرَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، وَأَغْرَقَهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَجْمَعِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى الْكِتَابَ -وَهُوَ التَّوْرَاةُ-فِيهَا أَحْكَامُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَصَمَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطَ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ وبعد أن
(١) في ف، أ: "بل".
(٢) في ف، أ: "يوجدون".
(٣) زيادة من ف. وفي هـ: (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).
(٤) زيادة من ف.
﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ﴾ : قال ابن عباس : يعني يتبع بعضهم بعضًا. وهذه كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، وقوله :﴿ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ يعني : جمهورهم وأكثرهم، كقوله تعالى :﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ يس : ٣٠ ].
وقوله :﴿ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا ﴾ أي : أهلكناهم، كقوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ]. ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ أي : أخبارًا وأحاديث للناس، كقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ [ الآية ]١ [ سبأ : ١٩ ] [ ﴿ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ ] ٢.
١ - زيادة من ف. وفي هـ :(إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)..
٢ - زيادة من ف..
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الْقَصَصِ: ٤٣].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَنَّهُ جَعَلَهُمَا آيَةً لِلنَّاسِ: أَيْ حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، فَإِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِيهِ النَّبَاتُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتَادَةُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَوْلُهُ: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ﴾ يَقُولُ: ذَاتُ خِصْبٍ ﴿وَمَعِينٍ﴾ يَعْنِي: مَاءً ظَاهِرًا (١).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَبْوَةٌ مُسْتَوِيَةٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ : اسْتَوَى الْمَاءُ فِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: ﴿وَمَعِينٍ﴾ : الْمَاءُ الْجَارِي.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَكَانِ هَذِهِ الرَّبْوَةِ فِي أَيِّ أَرْضِ [اللَّهِ] (٢) هِيَ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَيْسَ الرُّبَى إِلَّا بِمِصْرَ. وَالْمَاءُ حِينَ يُرْسَلُ (٣) يَكُونُ الرُّبَى عَلَيْهَا الْقُرَى، وَلَوْلَا الرُّبَى غَرِقَتِ الْقُرَى.
وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّه نَحْوُ هَذَا، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾، قَالَ: هِيَ دِمَشْقُ (٤).
قَالَ: ورُوي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَالْحَسَنِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَخَالِدِ بْنِ مَعْدان نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ قال: أنهار دمشق.
(١) في ف: "طاهرا".
(٢) زيادة من ف.
(٣) في ف: "يسيل".
(٤) في أ: "الدمشق".
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ [ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ] (١) ﴾، قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ، حِينَ أَوَيَا إِلَى غَوْطَةِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: فِي قَوْلِهِ (٢) :﴿: إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ قَالَ: هِيَ الرَّمَلَةُ مِنْ فِلَسْطِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الفرْيابي، حَدَّثَنَا رَوّاد (٣) بْنُ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْخَوَّاصُ أَبُو عُتْبَةَ، حَدَّثَنَا السَّيْبَانِيُّ (٤)، عَنِ ابْنِ (٥) وَعْلَة، عَنْ كُرَيْب السَّحولي، عَنْ مُرَّة البَهْزِي قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِرَجُلٍ: "إِنَّكَ مَيِّتٌ (٦) بِالرَّبْوَةِ" فَمَاتَ بِالرَّمَلَةِ. (٧) وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ العَوْفِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾، قَالَ: الْمَعِينُ الْمَاءُ الْجَارِي، وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٢٤].
وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ: ﴿إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ : هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. فَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَهُوَ أَوْلَى مَا يُفَسَّرُ بِهِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، ثُمَّ الْآثَارُ.
﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) ﴾.
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ، بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْقِيَامِ بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَلَالَ عَون عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَقَامَ الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِهَذَا أَتَمَّ الْقِيَامِ. وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ، قَوْلًا وَعَمَلًا وَدَلَالَةً وَنُصْحًا، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْعِبَادِ خَيْرًا.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أُمِرُوا بِأَصْفَرِكُمْ وَلَا أَحْمَرِكُمْ، وَلَا حُلْوِكُمْ وَلَا حَامِضِكُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: انتَهُوا إِلَى الْحَلَالِ مِنْهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ: ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ يعني: الحلال.
(١) زيادة من ف.
(٢) في ف: "في قول الله".
(٣) في ف: "داود".
(٤) في ف، أ: "الشيباني" وهو الصحيح.
(٥) في ف، أ: "أبي" وهو الصحيح.
(٦) في ف، أ: "تموت".
(٧) فيه عباد بن عباد له مناكير.
477
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ بْنِ شُرَحْبِيل: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ". قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ" (١).
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ (٢).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الْقِيَامِ إِلَى اللَّهِ قِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ (٣) يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدسَه، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفر إِذَا لَاقَى" (٤).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ضَمْرَة بْنِ حَبِيبٍ، أَنَّ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ، أُخْتَ (٥) شَدَّادِ بْنِ (٦) أَوْسٍ بَعَثَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ عِنْدَ فِطْرِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ، فَرَدَّ إِلَيْهَا رَسُولَهَا: أنَّى كَانَتْ لَكِ الشَّاةُ؟ فَقَالَتِ: اشْتَرَيْتُهَا مِنْ مَالِي، فَشَرِبَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَتَتْهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ أُخْتُ (٧) شَدَّادٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (٨)، بعثتُ إِلَيْكَ بِلَبَنٍ مَرثيةً (٩) لَكَ مِنْ طُولِ النَّهَارِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ، فَرَدَدْتَ إليَّ الرَّسُولَ فِيهِ؟. فَقَالَ لَهَا: "بِذَلِكَ أُمِرَتِ الرُّسُلُ، أَلَّا تَأْكُلَ إِلَّا طَيَّبًا، وَلَا تَعْمَلَ إِلَّا صَالِحًا" (١٠).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ -وَاللَّفْظُ لَهُ-مِنْ حَدِيثِ فُضَيْل بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾. وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٧٢]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِّي بِالْحَرَامِ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، فأنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (١١).
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ فُضيل بْنِ مَرْزُوقٍ.
(١) صحيح البخاري برقم (٢٢٦٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) صحيح البخاري برقم (٢٠٧٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) في ف: "وكان".
(٤) صحيح البخاري برقم (١١٣١) وصحيح مسلم برقم (١١٥٩) من حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(٥) في أ: "بنت".
(٦) في ف: "بنت".
(٧) في ف، أ: "بنت".
(٨) في ف: "يا رسول الله صلى الله عليك"، وفي أ: "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(٩) في ف: "مرئته".
(١٠) ورواه الحاكم في المستدرك (٤/١٢٥) من طريق المعافي بن عمران عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِهِ نحوه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي: "قلت: وابن أبي مريم واه".
(١١) صحيح مسلم برقم (١٠١٥) وسنن الترمذي برقم (٢٩٨٩) والمسند (٦/١٥٩).
478
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أَيْ (١) : دِينُكُمْ -يَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ-دِينٌ وَاحِدٌ، وَمِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الْأَنْبِيَاءِ"، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا﴾ أَيِ: الْأُمَمُ الَّذِينَ بُعث إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ، ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ أَيْ: يَفْرَحُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُتَهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَاعِدًا: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ أَيْ: فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ أَيْ: إِلَى حِينِ حِينِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطَّارِقِ: ١٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الْحِجْرِ: ٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ يَعْنِي: أَيُظَنُّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ أَنَّ مَا نُعْطِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا وَمَعَزَّتِهِمْ عِنْدَنَا؟! كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: ٣٥]، لقد أخطؤوا فِي ذَلِكَ وَخَابَ رَجَاؤُهُمْ، بَلْ إِنَّمَا نَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَإِنْظَارًا وَإِمْلَاءً؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٥٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الْقَلَمِ: ٤٤، ٤٥]، وَقَالَ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ١١-١٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سَبَأٍ: ٣٧] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
قَالَ (٢) قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ قَالَ: مُكِرَ وَاللَّهِ بِالْقَوْمِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَا ابْنَ آدَمَ، فَلَا تَعْتَبِرِ النَّاسَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَلَكِنِ اعْتَبِرْهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ [بْنُ عُبَيْد، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ محمد، عن مرة الهمداني، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ] (٣) بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَسَم بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعطي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّين إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسْلِمُ (٤) عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ-قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ-
(١) في ف، أ: "وإن".
(٢) في أ: "وقال".
(٣) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٤) في ف: "يؤمن".
479
وقوله :﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي١ : دينكم - يا معشر الأنبياء - دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ؛ ولهذا قال :﴿ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة " الأنبياء "، وأن قوله :﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ منصوب على الحال.
١ - في ف، أ :"وإن"..
وقوله :﴿ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ﴾ أي : الأمم الذين بُعث إليهم الأنبياء، ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ أي : يفرحون بما هم فيه من الضلال ؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون ؛ ولهذا قال متهددًا لهم ومتواعدًا :﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾
أي : في غيهم وضلالهم ﴿ حَتَّى حِينٍ ﴾ أي : إلى حين حينهم وهلاكهم، كما قال تعالى :﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [ الطارق : ١٧ ]، وقال تعالى :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الحجر : ٣ ].
وقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾ يعني : أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ ! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم :﴿ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٣٥ ]، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء ؛ ولهذا قال :﴿ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٥ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [ القلم : ٤٤، ٤٥ ]، وقال :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴾ [ المدثر : ١١ - ١٦ ] وقال تعالى :﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٧ ] والآيات في هذا كثيرة.
قال١ قتادة في قوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾ قال : مُكِرَ والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد [ بن عُبَيْد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مرة الهمداني، حدثنا عبد الله ]٢ بن مسعود رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب، ولا يعطي الدِّين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم٣ عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : غشمه وظلمه - ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل٤ منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " ٥.
١ - في أ :"وقال"..
٢ - زيادة من ف، أ، والمسند..
٣ - في ف :"يؤمن"..
٤ - في ف :"منه ليتقبل" وفي أ :"فيتقبل"..
٥ - المسند (١/٣٨٧)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٥:وقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾ يعني : أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ ! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم :﴿ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٣٥ ]، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء ؛ ولهذا قال :﴿ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٥ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [ القلم : ٤٤، ٤٥ ]، وقال :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴾ [ المدثر : ١١ - ١٦ ] وقال تعالى :﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٧ ] والآيات في هذا كثيرة.
قال١ قتادة في قوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾ قال : مُكِرَ والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد [ بن عُبَيْد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مرة الهمداني، حدثنا عبد الله ]٢ بن مسعود رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب، ولا يعطي الدِّين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم٣ عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : غشمه وظلمه - ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل٤ منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " ٥.
١ - في أ :"وقال"..
٢ - زيادة من ف، أ، والمسند..
٣ - في ف :"يؤمن"..
٤ - في ف :"منه ليتقبل" وفي أ :"فيتقبل"..
٥ - المسند (١/٣٨٧)..

وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ (١) مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ" (٢).
﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) ﴾
(١) في ف: "منه ليتقبل" وفي أ: "فيتقبل".
(٢) المسند (١/٣٨٧).
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي : يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، كقوله تعالى إخبارًا عن مريم، عليها السلام :﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، أي : أيقنت أن ما كان فإنما هو عن قدر الله وقضائه، وما شرعه الله فهو إن كان أمرًا فمما يحبه ويرضاه، وإن كان نهيًا١ فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيرًا فهو حق، كما قال الله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ﴾
١ - في ف :"منهيا"..
أي : لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأنه لا نظير له ولا كفء له.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ أَيْ: هُمْ مَعَ (١) إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾ [التَّحْرِيمِ: ١٢]، أَيْ: أَيْقَنَتْ أَنَّ مَا كَانَ فَإِنَّمَا هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنْ كَانَ أَمْرًا فَمِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا (٢) فَهُوَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَهُوَ حَقٌّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَحَدًا صَمَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ أَيْ: يُعْطُونَ الْعَطَاءَ (٣) وَهُمْ خَائِفُونَ (٤) أَلَّا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، لِخَوْفِهِمْ (٥) أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْإِعَطَاءِ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ وَالِاحْتِيَاطِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾، هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ، وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَل، بِهِ بِنَحْوِهِ (٦). وَقَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ورُوي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حديث عبد الرحمن بن سعيد، عن
(١) في ف: "في" وفي أ: "من".
(٢) في ف: "منهيا".
(٣) في ف: "العطاء فيه".
(٤) في أ: "خائفون وجلون".
(٥) في ف: "تخوفهم".
(٦) المسند (٦/١٥٩) وسنن الترمذي برقم (٣١٧٥).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٠:وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ أي : يعطون العطاء١ وهم خائفون٢ ألا يتقبل منهم، لخوفهم٣ أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء. وهذا من باب الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد
حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مالك بن مِغْوَل، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، عن عائشة ؛ أنها قالت : يا رسول الله، ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال :" لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل ".
وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم، من حديث مالك بن مِغْوَل، به بنحوه١. وقال :" لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ قال الترمذي : ورُوي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا٢.
وهكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والحسن البصري في تفسير هذه الآية.
وقد قرأ آخرون هذه الآية :" والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة " أي : يفعلون ما يفعلون وهم خائفون، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان، حدثنا صخر بن جُوَيْرِية، حدثنا إسماعيل المكي، حدثني أبو خلف مولى بني جُمَح : أنه دخل مع عُبَيد بن عُمَيْر على٣ عائشة، رضي الله عنها، فقالت : مرحبًا بأبي عاصم، ما يمنعك أن تزورنا - أو : تُلِمّ بنا ؟ - فقال : أخشى أن أمُلَّك. فقالت : ما كنت لتفعل ؟ قال : جئت لأسأل٤ عن آية في كتاب الله عز وجل، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قالت : أيَّة آية ؟ فقال :﴿ الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا ﴾ أو ﴿ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا ﴾ ؟ فقالت : أيتهما٥ أحب إليك ؟ فقلت : والذي نفسي بيده، لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعًا٦ - أو : الدنيا وما فيها - قالت : وما هي ؟ فقلت :﴿ الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا ﴾ فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرف٧.
إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف.
والمعنى على القراءة الأولى - وهي قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر ؛ لأنه قال :﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾، فجعلهم من السابقين. ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك ألا يكونوا من السابقين، بل من المقتصدين أو المقصرين، والله تعالى أعلم.
١ - المسند (٦/١٥٩) وسنن الترمذي برقم (٣١٧٥)..
٢ - سنن الترمذي برقم (٣١٧٥)..
٣ - في أ :"إلى"..
٤ - في ف :"لأسألك"..
٥ - في أ :"أيتها"..
٦ - في ف :"جميعها"..
٧ - المسند (٦/٩٥)..

أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا (١).
وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ قَرَأَ آخَرُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: "وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ" أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِية، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو خَلَفٍ مَوْلَى بَنِي جُمَح: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عُبَيد بْنِ عُمَيْر عَلَى (٢) عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِأَبِي عَاصِمٍ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا -أَوْ: تُلِمّ بِنَا؟ -فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ أمُلَّك. فَقَالَتْ: مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِأَسْأَلَ (٣) عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا؟ قَالَتْ: أيَّة آيَةٍ؟ فَقَالَ: ﴿الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا﴾ أَوِ ﴿الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾ ؟ فَقَالَتْ: أَيَّتُهُمَا (٤) أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ فَقُلْتُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لِإِحْدَاهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا (٥) -أَوِ: الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا-قَالَتْ: وَمَا هِيَ؟ فَقُلْتُ: ﴿الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا﴾ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا، وَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حَرْفٌ (٦).
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى -وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ-أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، فَجَعَلَهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ. وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى لَأَوْشَكَ أَلَّا يَكُونُوا مِنَ السَّابِقِينَ، بَلْ مِنَ الْمُقْتَصِدِينَ أَوِ الْمُقَصِّرِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
﴿وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي شَرْعِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا: أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، أَيْ: إِلَّا مَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَتَبَهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ يَعْنِي: كِتَابَ الْأَعْمَالِ، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أَيْ: لَا يُبْخَسُونَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
(١) سنن الترمذي برقم (٣١٧٥).
(٢) في أ: "إلى".
(٣) في ف: "لأسألك".
(٤) في أ: "أيتها".
(٥) في ف: "جميعها".
(٦) المسند (٦/٩٥).
481
ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ﴾ أَيْ: غَفْلَةٍ وَضَلَالَةٍ ﴿مِنْ هَذَا﴾ أَيِ: الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ [اللَّهِ تَعَالَى] (١) عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ : قَالَ الْحَكَمُ (٢) بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ﴾ أَيْ: سَيِّئَةٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، يَعْنِي: الشِّرْكَ، ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا. كَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ أَيْ: قَدْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لَا مَحَالَةَ، لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. ورُوِي نَحو هَذَا عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حيَّان والسُّدِّيّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا".
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ يَعْنِي: حَتَّى إِذَا جَاءَ مُتْرَفِيهِمْ -وَهُمُ السُّعَدَاءُ الْمُنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا-عذابُ اللَّهِ وَبَأْسَهُ وَنِقْمَتَهُ بهم ﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ أَيْ: يَصْرُخُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا. إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا. وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الْمُزَّمِّلِ: ١١-١٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ [ص: ٣].
وقوله: ﴿لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ﴾ أَيْ: لَا نُجِيرُكُمْ (٣) مِمَّا حَلَّ بِكُمْ، سَوَاءٌ جَأَرْتُمْ أَوْ سكتُّم، لَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا وَزَرَ لَزِمَ الْأَمْرُ وَوَجَبَ الْعَذَابُ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَكْبَرَ ذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ﴾ أَيْ: إِذَا دُعِيتُمْ أَبَيْتُمْ، وَإِنْ (٤) طُلبتم امْتَنَعْتُمْ؛ ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غَافِرٍ: ١٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ : فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُسْتَكْبِرِينَ حَالٌ مِنْهُمْ حِينَ نُكُوصِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَإِبَائِهِمْ إِيَّاهُ، اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِ وَاحْتِقَارًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ فِي ﴿بِهِ﴾ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا (٥) : أَنَّهُ الْحَرَمُ بِمَكَّةَ، ذُمُّوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمُرُونَ بالهُجْر (٦) مِنَ الْكَلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ (٧) ضَمِيرُ الْقُرْآنِ، كَانُوا يَسْمُرُونَ وَيَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ بِالْهَجْرِ مِنَ الْكَلَامِ: "إِنَّهُ سِحْرٌ، إِنَّهُ شِعْرٌ، إِنَّهُ كَهَانَةٌ" إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأقوال الباطلة.
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "الحكيم".
(٣) في أ: "يجيركم".
(٤) في ف، أ: "وإذا".
(٥) في أ: "أحدها".
(٦) في أ: "الهجر".
(٧) في أ: "هو".
482
ثم قال منكرًا على الكفار والمشركين من قريش :﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ ﴾ أي : غفلة وضلالة ﴿ مِنْ هَذَا ﴾ أي : القرآن الذي أنزله [ الله تعالى ]١ على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ : قال الحكم٢ بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس :﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ﴾ أي : سيئة من دون ذلك، يعني : الشرك، ﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ قال : لا بد أن يعملوها. كذا روي عن مجاهد، والحسن، وغير واحد.
وقال آخرون :﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ أي : قد كتب عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة، لتحق عليهم كلمة العذاب. ورُوِي نَحو هذا عن مقاتل بن حيَّان والسُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهو ظاهر قوي حسن. وقد قدمنا في حديث ابن مسعود :" فوالذي لا إله غيره، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها ".
١ - زيادة من أ..
٢ - في أ :"الحكيم"..
وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ يعني : حتى إذا جاء مترفيهم - وهم السعداء المنعمون في الدنيا - عذابُ الله وبأسه ونقمته بهم ﴿ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ أي : يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى :﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا. إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا. وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [ المزمل : ١١ - ١٣ ]، وقال تعالى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ [ ص : ٣ ].
وقوله :﴿ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ ﴾ أي : لا نجيركم١ مما حل بكم، سواء جأرتم أو سكتُّم، لا محيد ولا مناص ولا وَزَرَ لزم الأمر ووجب العذاب.
١ - في أ :"يجيركم"..
ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال :﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ﴾ أي : إذا دعيتم أبيتم، وإن١ طُلبتم امتنعتم ؛ ﴿ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١٢ ].
١ - في ف، أ :"وإذا"..
وقوله :﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾ : في تفسيره قولان، أحدهما : أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه، استكبارًا عليه واحتقارًا له ولأهله، فعلى هذا الضمير في ﴿ بِهِ ﴾ فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما١ : أنه الحرم بمكة، ذموا لأنهم كانوا يسمرون بالهُجْر٢ من الكلام.
والثاني : أنه٣ ضمير القرآن، كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام :" إنه سحر، إنه شعر، إنه كهانة " إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
والثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة، ويضربون له الأمثال الباطلة، من أنه شاعر، أو كاهن، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وكل ذلك باطل، بل هو عبد الله ورسوله، الذي أظهره الله عليهم، وأخرجهم من٤ الحرم صاغرين أذلاء.
وقيل : المراد بقوله :﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ﴾ أي : بالبيت، يفتخرون به ويعتقدون أنهم٥ أولياؤه، وليسوا٦ بهم، كما قال النسائي في التفسير٧ من سننه :
أخبرنا أحمد بن سليمان، أخبرنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية :﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾، فقال : مستكبرين بالبيت، يقولون : نحن أهله، ﴿ سَامِرًا ﴾ قال : يتكبرون [ ويسمرون فيه، ولا ]٨ يعمرونه، ويهجرونه٩.
وقد أطنب ابن أبي حاتم هاهنا بما ذا١٠ حاصله.
١ - في أ :"أحدها"..
٢ - في أ :"الهجر"..
٣ - في أ :"هو"..
٤ - في أ :"إلى"..
٥ - في أ :"وتعتقدون أنكم"..
٦ - في ف :"وليسم" وفي أ :"ولستم"..
٧ - في ف، أ :"تفسيره"..
٨ - زيادة من ف..
٩ - سنن النسائي الكبرى برقم (١١٣٥١)..
١٠ - في أ :"هذا"..
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَذْكُرُونَهُ فِي سَمَرِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ، وَيَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ، مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ، أَوْ كَاهِنٌ، أَوْ سَاحِرٌ، أَوْ كَذَّابٌ، أَوْ مَجْنُونٌ. وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ (١) الْحَرَمِ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلُهُ: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أَيْ: بِالْبَيْتِ، يَفْتَخِرُونَ بِهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ (٢) أَوْلِيَاؤُهُ، وَلَيْسُوا (٣) بِهِمْ، كَمَا قَالَ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (٤) مِنْ سُنَنِهِ:
أَخْبَرْنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ﴾، فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَيْتِ، يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُهُ، ﴿سَامِرًا﴾ قَالَ: يَتَكَبَّرُونَ [وَيَسْمُرُونَ فِيهِ، وَلَا] (٥) يُعَمِّرُونَهُ، وَيَهْجُرُونَهُ (٦).
وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا بِمَاذَا (٧) حَاصِلُهُ.
﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤) ﴾
(١) في أ: "إلى".
(٢) في أ: "وتعتقدون أنكم".
(٣) في ف: "وليسم" وفي أ: "ولستم".
(٤) في ف، أ: "تفسيره".
(٥) زيادة من ف.
(٦) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٣٥١).
(٧) في أ: "هذا".
ثم قال منكرا على الكافرين من قريش :﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ أي : أَفَهُمْ١ لا يعرفون محمدًا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم، أفيقدرون٢ على إنكار ذلك والمباهتة فيه ؟ ولهذا قال جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك، إن الله بعث إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته. وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفارًا لم يسلموا، ومع هذا ما أمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك.
١ - في ف :"هم" وفي أ :"أهم"..
٢ - في ف، أ :"أفتقدرون"..
وقوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقوَّل١ القرآن، أي : افتراه من عنده، أو أن به جنونا لا يدري ما يقول. وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به، وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يُطاق ولا يُدافع، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله، فما استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ؛ ولهذا قال :﴿ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ يحتمل أن تكون هذه جملة حالية، أي : في حال كراهة٢ أكثرهم للحق، ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة، والله أعلم.
وقال قتادة : ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له :" أسلم " فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :" وإن كنت كارها ". وذُكِر لنا أنه لقي رجلا فقال له :" أسلم " فَتَصَعَّده٣ ذلك وكبر عليه، فقال له نبي الله :" أرأيت لو كنتَ في طريق وَعْر وَعْث، فلقيت رجلا تعرف وجهه، وتعرف نسبه، فدعاك إلى طريق واسع سهل، أكنت متبعه٤ ؟ " قال : نعم. فقال :" فوالذي٥ نفس محمد بيده، إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه، وإني لأدعوك إلى أسهل من ذلك لو دعيت إليه ". وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له :" أسلم " فَتَصَعَّدَه ذلك، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم :" أرأيت فتييك، أحدهما إذا حدثك صدقك، وإذا٦ ائتمنته أدى إليك أهو أحب إليك، أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا٧ ائتمنته خانك ؟ ". قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني، وإذا ائتمنته أدى إلي. فقال النبي٨ صلى الله عليه وسلم :" كذاكم أنتم عند ربكم ".
١ - في أ :"يقول"..
٢ - في ف :"كراهته"..
٣ - في ف، أ :"فصعد"..
٤ - في ف :"تتبعه"..
٥ - في ف :"والذي"..
٦ - في ف :"وإن"..
٧ - في ف :"وإن"..
٨ - في ف :"نبي الله"..
وقوله :﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ١ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ قال مجاهد، وأبو صالح والسدي : الحق هو الله عز وجل، والمراد : لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك ﴿ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ٢ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ أي : لفساد أهوائهم واختلافها، كما أخبر عنهم في قولهم :﴿ لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ ثم قال :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣١، ٣٢ ] وقال تعالى :﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٠٠ ] وقال :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴾ [ النساء : ٥٣ ]،
ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، وتدبيره لخلقه٣ تعالى وتقدس، فلا إله غيره، ولا رب سواه.
ثم قال :﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ ﴾ يعني : القرآن، ﴿ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾.
١ - في ف :"الأرض والسموات"..
٢ - في ف :"الأرض والسموات"..
٣ - في ف :"بخلقه"..
وقوله :﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا ﴾ : قال الحسن : أجرا. وقال قتادة : جعلا ﴿ فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ﴾ أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ﴾ [ سبأ : ٤٧ ]، وقال :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ ص : ٨٦ ]، وقال :﴿ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [ يس : ٢٠، ٢١ ].
وقوله :﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾ قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه - فيما يرى النائم - ملكان، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مَثَل هذا ومثل أمته. فقال : إن مَثَلَه ومثل أمته، كمثل قوم سُفْر انتهوا إلى رأس مَفَازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينا١ هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة، فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم. قال : فانطلق، فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا٢ : بلى، قال : فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه، فاتبعوني. قال : فقالت طائفة : صدق والله، لنتبعه. وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه٣.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا زهير، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري، حدثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني ممسك بحجزكم : هَلُمَّ عن النار، هلم عن النار، وتغلبوني وتقاحمون فيها تَقَاحُم الفراش والجنادب، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فَرَطكم على الحوض، فتردون علي معا وأشتاتا، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله، فيُذْهَب بكم ذات اليمين وذات الشمال، فأناشد فيكم رب العالمين : أي رب، قومي، أي رب أمتي.
فيقال : يا محمد، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي : يا محمد، يا محمد. فأقول : لا أملك لك شيئا. قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رُغَاء، ينادي : يا محمد، يا محمد. فأقول : لا أملك٤ شيئا، قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة، فينادي : يا محمد، يا محمد، فأقول : لا أملك لك شيئا، قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم، ينادي : يا محمد، يا محمد : فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت " ٥.
وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن الإسناد، إلا أن حفص بن حميد مجهول، لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي.
قلت : بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق، وقال فيه يحيى بن معين : صالح. ووثقه النسائي وابن حبان.
١ - في أ :"فبينما"..
٢ - في أ :"فقالوا"..
٣ - المسند (١/٢٦٧)..
٤ - في ف، أ :"لا أملك لك"..
٥ - ورواه البزار في مسنده برقم (٩٠٠) وابن عبد البر في التمهيد (٢/٣٠٠) من طريق مالك بن إسماعيل عن يعقوب بن عبد الله الأشعري به نحوه. وقال الهيثمي في المجمع (٣/٨٥) :"رواه أبو يعلى في الكبير والبزار إلا أنه قال : يحمل قشعا مكان سقاء. ورجال الجميع ثقات"..
وقوله :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾ أي : لعادلون جائرون منحرفون. تقول العرب : نكب فلان عن الطريق : إذا زاغ عنها.
﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَمِ تَفَهُّمِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَدَبُّرِهِمْ لَهُ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خُصُّوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى رَسُولٍ أَكْمَلَ مِنْهُ وَلَا أَشْرَفَ، لَا سِيَّمَا وَآبَاؤُهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ كِتَابٌ وَلَا أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُقَابِلُوا النِّعْمَةَ الَّتِي أَسْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، كَمَا فَعَلَهُ النُّجَبَاءُ مِنْهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ إذًا وَاللَّهِ يَجِدُونَ (١) فِي الْقُرْآنِ زَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ لَوْ تَدَبَّرَهُ الْقَوْمُ وَعَقَلُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَذُوا بِمَا تَشَابَهَ، فَهَلَكُوا عند ذلك.
(١) في ف، أ: "تجدون".
483
ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ أَيْ: أَفَهُمْ (١) لَا يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَصِيَانَتَهُ الَّتِي نَشَأَ بِهَا فِيهِمْ، أَفَيَقْدِرُونَ (٢) عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ وَالْمُبَاهَتَةِ فِيهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِلنَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ. وَهَكَذَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِنَائِبِ كِسْرَى حِينَ بَارَزَهُمْ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ لِمَلِكِ الرُّومِ هِرَقْلَ، حِينَ سَأَلَهُ وَأَصْحَابَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبِهِ وَصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَكَانُوا بَعْدُ كَفَّارًا لَمْ يُسْلِمُوا، وَمَعَ هَذَا مَا أَمْكَنَهُمْ إِلَّا الصِّدْقُ فَاعْتَرَفُوا بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ يَحْكِي قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تقوَّل (٣) الْقُرْآنَ، أَيِ: افْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ أَنَّ بِهِ جُنُونًا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تُؤْمِنُ بِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَا لَا يُطاق وَلَا يُدافع، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، فَمَا اسْتَطَاعُوا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَبَدَ الْآبِدِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: فِي حَالِ كَرَاهَةِ (٤) أَكْثَرِهِمْ لِلْحَقِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَبَرِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكر لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ" فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّكَ لَتَدْعُونِي إِلَى أَمْرٍ أَنَا لَهُ كَارِهٌ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا". وذُكِر لَنَا أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ" فَتَصَعَّده (٥) ذَلِكَ وَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كنتَ فِي طَرِيقٍ وَعْر وَعْث، فَلَقِيتَ رَجُلًا تَعْرِفُ وَجْهَهُ، وَتَعْرِفُ نَسَبَهُ، فَدَعَاكَ إِلَى طَرِيقٍ وَاسِعٍ سَهْلٍ، أَكُنْتَ مُتَّبِعَهُ (٦) ؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: "فَوَالَّذِي (٧) نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّكَ لَفِي أَوْعَرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَوْ قَدْ كُنْتَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي لَأَدْعُوَكَ إِلَى أَسْهَلِ مِنْ ذَلِكَ لَوْ دُعِيتَ إِلَيْهِ". وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ" فَتَصَعَّدَه ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرَأَيْتَ فَتَيَيْكَ، أَحَدُهُمَا إِذَا حَدَّثَكَ صَدَقَكَ، وَإِذَا (٨) ائْتَمَنْتَهُ أَدَّى إِلَيْكَ أَهْوَ أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمْ فَتَاكَ الَّذِي إِذَا حَدَّثَكَ كَذَبَكَ وَإِذَا (٩) ائْتَمَنْتَهُ خَانَكَ؟ ". قَالَ: بَلْ فَتَايَ الَّذِي إِذَا حَدَّثَنِي صَدَقَنِي، وَإِذَا ائْتَمَنْتُهُ أَدَّى إِلَيَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ (١٠) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَاكُمْ أَنْتُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ (١١) وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُرَادُ: لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهَوَى، وَشَرَعَ الْأُمُورَ عَلَى وِفْقِ ذَلِكَ ﴿لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ (١٢) وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ أَيْ: لِفَسَادِ أَهْوَائِهِمْ وَاخْتِلَافِهَا، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣١، ٣٢] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٠] وَقَالَ: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ٥٣]،
(١) في ف: "هم" وفي أ: "أهم".
(٢) في ف، أ: "أفتقدرون".
(٣) في أ: "يقول".
(٤) في ف: "كراهته".
(٥) في ف، أ: "فصعد".
(٦) في ف: "تتبعه".
(٧) في ف: "والذي".
(٨) في ف: "وإن".
(٩) في ف: "وإن".
(١٠) في ف: "نبي الله".
(١١) في ف: "الأرض والسموات".
(١٢) في ف: "الأرض والسموات".
484
فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وَتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ (١) تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، ﴿فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا﴾ : قَالَ الْحَسَنُ: أَجْرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعْلًا ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ أَيْ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أُجْرَةً وَلَا جَعْلًا وَلَا شَيْئًا عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، بَلْ أَنْتَ فِي ذَلِكَ تَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ ثَوَابِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ﴾ [سَبَأٍ: ٤٧]، وَقَالَ: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦]، وَقَالَ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشُّورَى: ٢٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: ٢٠، ٢١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَان، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ -فِيمَا يَرَى النَّائِمُ-مَلَكَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَل هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ. فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَه وَمَثَلَ أُمَّتِهِ، كَمَثَلِ قَوْمٍ سُفْر انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازة، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَا (٢) هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حِبَرَةٍ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً، وَحِيَاضًا رِوَاءً تَتَّبِعُونِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا فَقَالَ لَهُمْ: أَلَمْ أَلْفِكُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا (٣) : بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا أَعْشَبُ مِنْ هَذِهِ، وَحِيَاضًا هِيَ أَرَوَى مِنْ هَذِهِ، فَاتَّبِعُونِي. قَالَ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللَّهِ، لِنَتَّبِعْهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ (٤).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي مُمْسِكٌ بِحَجْزِكُمْ: هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، وَتَغْلِبُونِي وَتُقَاحِمُونَ فِيهَا تَقَاحُم الْفَرَاشَ وَالْجَنَادِبِ، فَأُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ حَجْزَكُمْ وَأَنَا فَرَطكم عَلَى الْحَوْضِ، فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا، أَعْرِفُكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ، كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَ مِنَ الْإِبِلِ فِي إِبِلِهِ، فيُذْهَب بِكُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ: أَيْ رَبِّ، قومي، أي رب أمتي.
(١) في ف: "بخلقه".
(٢) في أ: "فبينما".
(٣) في أ: "فقالوا".
(٤) المسند (١/٢٦٧).
485
فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ بَعْدَكَ الْقَهْقَرَى عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ، يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا. قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ بَعِيرَا لَهُ رُغَاء، يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ (١) شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ فَرَسًا لَهَا حَمْحَمَةٌ، فَيُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ سِقَاءً مِنْ أُدْمٍ، يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ: فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ" (٢).
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، إِلَّا أَنَّ حَفْصَ بْنَ حُمَيْدٍ مَجْهُولٌ، لَا أَعْلَمَ رَوَى عَنْهُ غَيْرَ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيِّ الْقَمِّيِّ.
قُلْتُ: بَلْ قَدْ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا أَشْعَثُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ. وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ أَيْ: لَعَادِلُونَ جَائِرُونَ مُنْحَرِفُونَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: نَكَبَ فَلَانٌ عَنِ الطَّرِيقِ: إِذَا زَاغَ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ : يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ غِلَظِهِمْ (٣) فِي كُفْرِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ أَرَاحَ عِلَلَهُمْ وَأَفْهَمَهُمُ الْقُرْآنَ، لَمَا انْقَادُوا لَهُ وَلَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢٣]، وَقَالَ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٧-٢٩]، فَهَذَا مِنْ بَابِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَكُونُ، لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ (٤).
[وَ] (٥) قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا فِيهِ "لَوْ"، فَهُوَ مِمَّا لا يكون أبدا.
(١) في ف، أ: "لا أملك لك".
(٢) ورواه البزار في مسنده برقم (٩٠٠) وابن عبد البر في التمهيد (٢/٣٠٠) من طريق مالك بن إسماعيل عن يعقوب بن عبد الله الأشعري به نحوه. وقال الهيثمي في المجمع (٣/٨٥) :"رواه أبو يعلى في الكبير والبزار إلا أنه قال: يحمل قشعا مكان سقاء. ورجال الجميع ثقات".
(٣) في أ: "غلطهم".
(٤) في ف، أ: "ولو كان كيف كان يكون".
(٥) زيادة في ف، أ.
486
﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (٨١) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (٨٣) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ﴾ أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَيْ: فَمَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُخَالَفَةِ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَغَيِّهِمْ. ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا﴾ أَيْ: مَا خَشَعُوا، ﴿وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَيْ: مَا دَعَوْا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٤٣].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن حمزة المروزي، حدثنا علي ابن الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يَزِيدَ -يَعْنِي: النَّحْوِيَّ-عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ -يَعْنِي: الْوَبَرَ وَالدَّمَ-فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ (١). وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ (٢) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَوْا فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" (٣).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيب، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَيْسان، عَنْ (٤) وَهْبِ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: حُبِس وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَبْنَاءِ: أَلَا أَنْشُدُكَ بَيْتًا مِنْ شِعْرٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ وَهْبٌ: نَحْنُ فِي طَرَفٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ قَالَ: وَصَامَ وَهْبٌ ثَلَاثًا مُتَوَاصِلَةً، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّوْمُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَحَدَث لَنَا فَأَحْدَثْنَا. يَعْنِي: أُحْدِثَ لَنَا الْحَبْسُ، فَأَحْدَثْنَا زِيَادَةَ عِبَادَةٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ أَيْ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَجَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَأَخَذَهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أبْلَسُوا (٥) مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ رَاحَةٍ، وَانقَطَعَتْ آمَالُهُمْ وَرَجَاؤُهُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي أَنْ جَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، وَهِيَ الْعُقُولُ وَالْفُهُومُ، الَّتِي يُدْرِكُونَ (٦) بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَيَعْتَبِرُونَ بِمَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لِمَا يشاء.
(١) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٣٥٢).
(٢) في ف، أ: "عن".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٣) وصحيح مسلم برقم (٢٧٩٨) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٤) في ف، أ: "حدثني".
(٥) في أ: "أيسوا".
(٦) في ف: "تدركون"
وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ أي : حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة وأخذهم من عقاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، فعند ذلك أبْلَسُوا١ من كل خير، وأيسوا من كل راحة، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم.
١ - في أ :"أيسوا"..
ثم ذكر تعالى نعمته على عباده في أن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهي العقول والفهوم، التي يدركون١ بها الأشياء، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
وقوله :﴿ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ أي : وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم، كقوله :﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ].
١ - في ف :"تدركون".
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر، في بَرْئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم، ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم، فلا يترك منهم صغيرا ولا كبيرا، ولا ذكرا ولا أنثى، ولا جليلا ولا حقيرا، إلا أعاده كما بدأه ؛ ولهذا قال :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾أي : يحيي الرمم ويميت الأمم، ﴿ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ أي : وعن أمره تسخير الليل والنهار، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، يتعاقبان لا يفتران، ولا يفترقان بزمان غيرهما، كقوله تعالى :﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ].
وقوله :﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ أي : أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم، الذي قد قهر كل شيء، وعز كل شيء، وخضع له كل شيء.
ثم قال مخبرا عن منكري البعث، الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين :﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ. قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى، ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ يعنون :[ أن ]١ الإعادة محال، إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلاقهم. وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله تعالى إخبارا عنهم :﴿ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [ النازعات : ١١ - ١٤ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٧ - ٧٩ ].
١ - زيادة من أ..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨١:ثم قال مخبرا عن منكري البعث، الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين :﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ. قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى، ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ يعنون :[ أن ]١ الإعادة محال، إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلاقهم. وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله تعالى إخبارا عنهم :﴿ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [ النازعات : ١١ - ١٤ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٧ - ٧٩ ].
١ - زيادة من أ..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨١:ثم قال مخبرا عن منكري البعث، الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين :﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ. قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى، ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ يعنون :[ أن ]١ الإعادة محال، إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلاقهم. وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله تعالى إخبارا عنهم :﴿ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [ النازعات : ١١ - ١٤ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٧ - ٧٩ ].
١ - زيادة من أ..

وَقَوْلُهُ: ﴿قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ: وَمَا أَقَلَّ شُكْرِكُمْ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣].
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَسُلْطَانِهِ الْقَاهِرِ، فِي بَرْئة الْخَلِيقَةِ وَذَرْئِهِ لَهُمْ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ وَالْآخَرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، فَلَا يَتْرُكُ مِنْهُمْ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا، وَلَا ذِكْرًا وَلَا أُنْثَى، وَلَا جَلِيلًا وَلَا حَقِيرًا، إِلَّا أَعَادَهُ كَمَا بَدَأَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أَيْ: يُحْيِي الرِّمَمَ وَيُمِيتُ الْأُمَمَ، ﴿وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أَيْ: وَعَنْ أَمْرِهِ تَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ، وَلَا يَفْتَرِقَانِ بِزَمَانِ غَيْرِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ: أَفَلَيِسَ لَكُمْ عُقُولٌ تَدُلُّكُمْ عَلَى الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَزَّ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ، الَّذِينَ أَشْبَهُوا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ: ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ. قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ يَعْنِي يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ إِلَى الْبِلَى، ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ يَعْنُونَ: [أَنَّ] (١) الْإِعَادَةَ مُحَالٌ، إِنَّمَا يُخْبِرُ بِهَا مَنْ تَلَقَّاهَا عَنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَاخْتِلَاقِهِمْ. وَهَذَا الْإِنْكَارُ وَالتَّكْذِيبُ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النَّازِعَاتِ: ١١-١٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٧-٧٩].
﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) ﴾
(١) زيادة من أ.
﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ أي : فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك١ ﴿ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ أي : لا تذكرون ]٢ أنه لا تنبغي٣ العبادة إلا للخالق الرازق٤ لا لغيره.
١ - في ف، أ :"كذلك"..
٢ - زيادة من ف، أ..
٣ - في أ :"يليق"..
٤ - في ف :"الرزاق"..
﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ أي : من هو خالق العالم العُلْوي بما فيه من الكواكب النيّرات، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات، ومن هو رب العرش العظيم، يعني : الذي هو سقف المخلوقات، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" شأن الله أعظم من ذلك، إن١ عرشه على سمواته هكذا " وأشار بيده مثل القبة٢.
وفي الحديث الآخر :" ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة " ٣.
ولهذا قال بعض السلف : إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة، [ وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة ]٤.
وقال الضحاك، عن ابن عباس : إنما سمي عرشًا لارتفاعه.
وقال الأعمش عن كعب الأحبار : إن السموات والأرض في العرش، كالقنديل المعلق بين السماء والأرض.
وقال مجاهد : ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فَلاة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العلاء بن سالم، حدثنا وَكِيع، حدثنا٥ سفيان الثوري، عن عمار الدُّهني٦، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : العرش لا يقدر أحد قدره. وفي رواية : إلا الله عز وجل٧. وقال بعض السلف : العرش من ياقوتة حمراء.
ولهذا قال هاهنا :﴿ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ يعني : الكبير : وقال في آخر السورة :﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾
أي : الحسن البهي. فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع والعلو، والحسن الباهر ؛ ولهذا قال من قال : إنه من ياقوتة حمراء.
وقال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور٨ العرش من نور وجهه.
١ - في ف :"لأن"..
٢ - سنن أبي داود برقم (٤٧٢٦) عن حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه..
٣ - رواه الطبري في تفسيره (٥/٣٩٩) من طريق ابن وهب عن ابن زيد عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، وقد سبق من رواية ابن مردويه عند تفسير الآية : ٢ من سورة الرعد..
٤ - زيادة من أ..
٥ - في أ :"عن"..
٦ - في أ :"الذهبي"..
٧ - ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش (ق ١١٤) والحاكم في المستدرك (٢/٢٨٢) من طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان عن عمار الذهني به، وقال الحاكم :"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وأقره الذهبي..
٨ - في أ :"فوق"..
وقوله :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ﴾ أي : إذا كنتم تعترفون١ بأنه رب السموات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه، في عبادتكم معه غيره وإشراككم به ؟
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب " التفكر والاعتبار " : حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الله٢ بن جعفر، أخبرني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل، معها ابن لها يرعى غنما، فقال لها ابنها : يا أماه، من خلقك ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق أبي ؟ قالت : الله. قال : فمن خلقني ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق السماء ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الأرض ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت : الله. قال : فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع.
قال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا الحديث.
قال عبد الله بن دينار : كان٣ ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا الحديث.
قلت : في إسناده عبد الله٤ بن جعفر المديني، والد الإمام علي بن المديني، وقد تكلموا فيه، فالله أعلم٥.
١ - في أ :"تعرفون"..
٢ - في ف، أ :"عبيد الله"..
٣ - في ف :"وكان"..
٤ - في أ :"عبيد الله"..
٥ - ورواه ابن عدي في الكامل (٤/١٧٨) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الله بن جعفر به، وقال :"غير محفوظ لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر" وعبد الله بن جعفر المديني ضعيف عند الأئمة..
﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي : بيده الملك، ﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ [ هود : ٥٦ ]، أي : متصرف فيها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا والذي نفسي بيده "، وكان إذا اجتهد في اليمين قال١ :" لا ومقلب القلوب "، فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف، ﴿ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدًا، لا يُخْفَر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه، لئلا يفتات عليه، ولهذا قال الله :﴿ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ أي : وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه، الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء٢ كان، وما لم يشأ لم يكن، وقال الله :﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ]، أي : لا يسئل عما يفعل ؛ لعظمته وكبريائه، وقهره وغلبته، وعزته وحكمته٣، والخلق كلهم يُسألون عن أعمالهم، كما قال تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢، ٩٣ ].
١ - في أ :"يقول"..
٢ - في ف، أ :"وما شاء الله"..
٣ - في ف، أ :"وحكمته وعدله"..
وقوله :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ أي : سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه، هو الله تعالى، وحده لا شريك له ﴿ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ أي : فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك.
﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) ﴾.
يُقَرِّرُ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ، وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْمُلْكِ، لِيُرْشِدَ إِلَى أَنَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ، الْمُعْتَرِفِينَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَشْرَكُوا مَعَهُ في
488
الْإِلَهِيَّةِ، فَعَبَدُوا غَيْرَهُ مَعَهُ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ أَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَبِدُّونَ بِشَيْءٍ، بَلِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى: ﴿مَا (١) نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزُّمَرِ: ٣]، فَقَالَ: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا﴾ أَيْ: مَنْ مَالِكُهَا الَّذِي خَلَقَهَا وَمَنْ (٢) فِيهَا مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثَّمَرَاتِ، وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: فَيَعْتَرِفُونَ لَكَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ (٣) ﴿قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [أَيْ: لَا تَذَكَّرُونَ] (٤) أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي (٥) الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْخَالِقِ الرَّازِقِ (٦) لَا لِغَيْرِهِ.
﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ أَيْ: مَنْ هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ العُلْوي بِمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْخَاضِعِينَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ مِنْهَا وَالْجِهَاتِ، وَمَنْ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، يَعْنِي: الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّ (٧) عَرْشَهُ عَلَى سمواته هَكَذَا" وَأَشَارَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ (٨).
وَفِي الْحَدِيثِ الآخر: "ما السموات السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ الْكُرْسِيَّ بِمَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كَتِلْكَ الْحَلْقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلَاةِ" (٩).
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مَسَافَةَ مَا بَيْنَ قُطْرَيِ الْعَرْشِ مِنْ جَانبٍ إِلَى جَانبٍ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، [وَارْتِفَاعُهُ عَنِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ] (١٠).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عن كعب الأحبار: إن السموات وَالْأَرْضَ فِي الْعَرْشِ، كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض.
وقال مجاهد: ما السموات وَالْأَرْضُ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ فِي أَرْضِ فَلاة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا (١١) سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهني (١٢)، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عباس قال: الْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (١٣).
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعَرْشُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ.
وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ يَعْنِي: الْكَبِيرَ: وَقَالَ فِي آخر السورة: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾
(١) في أ: "إنما" وهو خطأ
(٢) في ف، أ: "وما".
(٣) في ف، أ: "كذلك".
(٤) زيادة من ف، أ.
(٥) في أ: "يليق".
(٦) في ف: "الرزاق".
(٧) في ف: "لأن".
(٨) سنن أبي داود برقم (٤٧٢٦) عن حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(٩) رواه الطبري في تفسيره (٥/٣٩٩) من طريق ابن وهب عن ابن زيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وقد سبق من رواية ابن مردوية عند تفسير الآية: ٢ من سورة الرعد.
(١٠) زيادة من أ.
(١١) في أ: "عن".
(١٢) في أ: "الذهبي".
(١٣) ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش (ق ١١٤) والحاكم في المستدرك (٢/٢٨٢) من طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان عن عمار الذهني بِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.
489
أَيِ: الْحَسَنِ الْبَهِيِّ. فَقَدْ جَمَعَ الْعَرْشُ بَيْنَ الْعَظَمَةِ فِي الِاتِّسَاعِ وَالْعُلُوِّ، وَالْحُسْنِ الْبَاهِرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ (١) الْعَرْشِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ أي: إذا كنتم تعترفون (٢) بأنه رب السموات وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ وَتَحْذَرُونَ عَذَابَهُ، فِي عِبَادَتِكُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ وَإِشْرَاكِكُمْ بِهِ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ فِي كِتَابِ "التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ": حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (٣) بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُ عَنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، مَعَهَا ابْنٌ لَهَا يَرْعَى غَنَمًا، فَقَالَ لَهَا ابْنُهَا: يَا أُمَّاهُ، مَنْ خَلَقَكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ أَبِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَنِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْجَبَلَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْغَنَمَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَإِنِّي أَسْمَعُ لِلَّهِ شَأْنًا ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا هَذَا الْحَدِيثَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: كَانَ (٤) ابْنُ عُمَرَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ (٥) بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ، وَالِدُ الْإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (٦).
﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هُودٍ: ٥٦]، أَيْ: مُتَصَرِّفٌ فِيهَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"، وَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ (٧) :" لَا وَمُقَلِّبَ الْقُلُوبِ"، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ كَانتِ الْعَرَبُ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ فِيهِمْ فَأَجَارَ أَحَدًا، لَا يُخْفَر فِي جِوَارِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يُجِيرَ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَفْتَاتَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ أَيْ: وَهُوَ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، وَمَا شَاءَ (٨) كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ اللَّهُ: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣]، أَيْ: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ، وعزته وحكمته (٩)، والخلق كلهم يُسألون عن
(١) في أ: "فوق".
(٢) في أ: "تعرفون".
(٣) في ف، أ: "عبيد الله".
(٤) في ف: "وكان".
(٥) في أ: "عبيد الله".
(٦) ورواه ابن عدي في الكامل (٤/١٧٨) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الله بن جعفر به، وقال: "غير محفوظ لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر" وعبد الله بن جعفر المديني ضعيف عند الأئمة.
(٧) في أ: "يقول".
(٨) في ف، أ: "وما شاء الله".
(٩) في ف، أ: "وحكمته وعدله".
490
أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الْحِجْرِ: ٩٢، ٩٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: سَيَعْتَرِفُونَ أَنَّ السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ أَيْ: فَكَيْفَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ وَعِلْمِكُمْ بِذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ﴾، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَقَمْنَا الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الْوَاضِحَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى ذَلِكَ، ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ: فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾، فَالْمُشْرِكُونَ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ [عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِفْكِ وَالضَّلَالِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ] (١) اتِّبَاعًا لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمُ الْحَيَارَى الْجُهَّالِ، كَمَا قَالُوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٣].
﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) ﴾.
يُنَزِّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، فَقَالَ: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أَيْ: لَوْ قُدِّر تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ، لَانفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا يَخْلُقُ، فَمَا كَانَ يَنْتَظِمُ الْوُجُودُ. وَالْمُشَاهَدُ أَنَّ الْوُجُودَ مُنْتَظِمٌ مُتَّسِقٌ، كُلٌّ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الْمُلْكِ: ٣] ثُمَّ لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَطْلُبُ قَهْرَ الْآخَرِ وَخِلَافَهُ، فَيَعْلُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ صَانِعَانِ فَصَاعِدًا، فَأَرَادَ وَاحِدٌ تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَأَرَادَ الْآخَرُ سُكُونَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَا عَاجِزَيْنِ، وَالْوَاجِبُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُرَادَيْهِمَا لِلتَّضَادِّ. وَمَا جَاءَ هَذَا الْمُحَالُ إِلَّا مِنْ فَرْضِ التَّعَدُّدِ، فَيَكُونُ مُحَالًا فَأَمَّا إِنْ حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْوَاجِبُ، وَالْآخِرُ الْمَغْلُوبُ مُمْكِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِصِفَةِ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ مَقْهُورًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أَيْ: عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الْوَلَدَ أَوِ الشَّرِيكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ مَا يَغِيبُ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ، ﴿فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَالَى وَعَزَّ وَجَلَّ [عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ والجاحدون] (٢).
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) زيادة من ف، أ.
﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ أي : يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه، ﴿ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي : تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل [ عما يقول الظالمون والجاحدون ]١.
١ - زيادة من ف، أ..
﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا [نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (١) أَنَّ يَدْعُوَ هَذَا الدُّعَاءَ عِنْدَ حُلُولِ النِّقَمِ: ﴿رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ أَيْ: إِنْ عَاقَبْتَهُمْ -وَإِنِّي شاهدُ ذَلِكَ-فَلَا تَجْعَلُنِي فِيهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ-: "وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَأَرَيْنَاكَ مَا نُحِلُّ (٣) بِهِمْ مِنَ النِّقَمِ وَالْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ.
ثُمَّ قَالَ مُرْشِدًا لَهُ إِلَى التِّرْياق النَّافِعِ فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ يُسِيءُ، لِيَسْتَجْلِبَ خَاطِرَهُ، فَتَعُودُ عَدَاوَتُهُ صَدَاقَةً وَبُغْضُهُ مَحَبَّةً، فَقَالَ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٤، ٣٥] : أَيْ مَا يُلْهَمُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَوِ الْخَصْلَةُ (٤) أَوِ الصِّفَةُ ﴿إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ أَيْ: عَلَى أَذَى النَّاسِ، فَعَامَلُوهُمْ بِالْجَمِيلِ مَعَ إِسْدَائِهِمْ إِلَيْهِمُ الْقَبِيحَ، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ : أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُ (٥) مَعَهُمُ الْحِيَلُ، وَلَا يَنْقَادُونَ بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا عِنْدَ الِاسْتِعَاذَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزه ونَفْخه ونَفْثه" (٦).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ أَيْ: فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي؛ وَلِهَذَا أَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ -وَذَلِكَ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيَاطِينِ (٧) -عِنْدَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَالذَّبْحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَرَم، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَدْم وَمِنَ الْغَرَقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ" (٨).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شعيب، عن أبيه،
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) المسند (٥/٢٤٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٥) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح"
(٣) في ف، أ: "ما يحل".
(٤) في ف: "الخصلة أو الوصية".
(٥) في ف، أ: "لا ينفع".
(٦) انظر الاستعاذة عند تفسير سورة الفاتحة.
(٧) في ف: "للشيطان".
(٨) سنن أبي داود برقم (١٥٥٢).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٣:يقول تعالى آمرًا [ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ]١ أن يدعو هذا الدعاء عند حلول النقم :﴿ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴾ أي : إن عاقبتهم - وإني شاهدُ ذلك - فلا تجعلني فيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي - وصححه - :" وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون " ٢.
١ - زيادة من ف، أ..
٢ - المسند (٥/٢٤٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٥) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال :"هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : هذا حديث حسن صحيح".

وقوله :﴿ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴾ أي : لو شئنا لأريناك ما نحل١ بهم من النقم والبلاء والمحن.
١ - في ف، أ :"ما يحل"..
ثم قال مرشدًا له إلى التِّرْياق النافع في مخالطة الناس، وهو الإحسان إلى من يسيء، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة، فقال :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ﴾، وهذا كما قال في الآية الأخرى :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٤، ٣٥ ] : أي ما يلهم هذه الوصية أو الخصلة١ أو الصفة ﴿ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ أي : على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم إليهم القبيح، ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ أي : في الدنيا والآخرة.
١ - في ف :"الخصلة أو الوصية"..
وقوله :﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾ : أمره أن يستعيذ من الشياطين، لأنهم لا تنفع١ معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف.
وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من هَمْزه ونَفْخه ونَفْثه " ٢.
١ - في ف، أ :"لا ينفع"..
٢ - انظر الاستعاذة عند تفسير سورة الفاتحة..
وقوله :﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ أي : في شيء من أمري ؛ ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور - وذلك مطردة للشياطين١ - عند الأكل والجماع والذبح، وغير ذلك من الأمور ؛ ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" اللهم إني أعوذ بك من الهَرَم، وأعوذ بك من الهَدْم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت " ٢.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم، من الفزع :" بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون " قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له، فعلقها في عنقه.
ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن إسحاق٣، وقال الترمذي : حسن غريب.
١ - في ف :"للشيطان"..
٢ - سنن أبي داود برقم (١٥٥٢)..
٣ - المسند (٢/١٨١) وسنن أبي داود برقم (٣٨٩٣) وسنن الترمذي برقم (٣٥٢٨) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٦٠١)..
عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ يَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ، مِنَ الْفَزَعِ: "بِسْمِ اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ" قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ أَنْ يَقُولَهَا عِنْدَ نَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا، كَتَبَهَا لَهُ، فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ (١)، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُحْتَضِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، مِنَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُفْرِطِينَ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وِقِيلِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَسُؤَالِهِمُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، لِيُصْلِحَ مَا كَانَ أَفْسَدَهُ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: ١٠، ١١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ١٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٧، ٢٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشُّورَى: ٤٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غَافِرٍ: ١١، ١٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٣٧]، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ، فَلَا يُجَابُونَ، عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، وَيَوْمَ النُّشُورِ وَوَقْتَ الْعَرْضِ عَلَى الْجَبَّارِ، وَحِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ، وَهُمْ فِي غَمَرَاتِ عَذَابِ الْجَحِيمِ.
وَقَوْلُهُ: هَاهُنَا: ﴿كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ : كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ، أَيْ: لَا نُجِيبُهُ إلى ما طلب ولا نقبل منه.
(١) المسند (٢/١٨١) وسنن أبي داود برقم (٣٨٩٣) وسنن الترمذي برقم (٣٥٢٨) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٦٠١).
493
وَقَوْلُهُ: ﴿كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَهَا لَا مَحَالَةَ كُلُّ مُحْتَضِرٍ ظَالِمٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِلَّةً لِقَوْلِهِ: "كَلَّا"، أَيْ: لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ، أَيْ: سُؤَالُهُ الرُّجُوعَ لِيَعْمَلَ صَالِحًا هُوَ كَلَامٌ مِنْهُ، وَقَوْلٌ لَا عَمَلَ مَعَهُ، وَلَوْ رُدَّ لَمَا عَمِلَ صَالِحًا، وَلَكَانَ يَكْذِبُ فِي مَقَالَتِهِ هَذِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ قَالَ: فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: ﴿كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَة: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿كَلا﴾ فَإِنَّمَا يَقُولُ: كَذَبَ.
(١)
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ : قَالَ: كَانَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: لِيُنْزِلْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَاسْتَقَالَ رَبَّهُ فَأَقَالَهُ، فَلْيَعْمَلْ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا إِلَى عَشِيرَةٍ، وَلَكِنْ تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَانظُرُوا أُمْنِيَّةَ الْكَافِرِ الْمُفَرِّطِ فَاعْمَلُوا بِهَا، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ -يَعْنِي: ابْنَ عِيَاضٍ-عَنْ لَيْث، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّف، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا وُضِعَ -يَعْنِي: الْكَافِرَ-فِي قَبْرِهِ، فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَيَقُولُ: رَبِّ، ارْجِعُونِ أَتُوبُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا. قَالَ: فَيُقَالُ: قَدْ عُمِّرت مَا كُنْتَ مُعَمَّرا. قَالَ: فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، قَالَ: فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ، يَنَامُ وَيَفْزَعُ، تَهْوِي (٢) إِلَيْهِ هَوَامّ الْأَرْضِ وَحَيَّاتُهَا وَعَقَارِبُهَا.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ تَمَّامٍ، حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ (٣). عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ!! تَدْخُلُ (٤) عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ -أَوْ: دُهُم-حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَقْرُصَانِهِ حَتَّى يَلْتَقِيَا (٥) فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ﴾ يَعْنِي: أَمَامَهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْبَرْزَخُ: مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. لَيْسُوا (٦) مَعَ أَهْلِ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَلَا مَعَ أَهْلِ الْآخِرَةِ يُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: الْبَرْزَخُ: الْمَقَابِرُ، لَا هُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ فِي الْآخِرَةِ، فهم مقيمون إلى يوم
(١) في ف: "كذبت".
(٢) في ف، أ: "ويهوي".
(٣) في أ: "يزيد".
(٤) في ف، أ: "يدخل".
(٥) في ف: "تقرصانه حتى تلتقيا".
(٦) في ف، أ: "ليس".
494
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٩:يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ؛ ولهذا قال :﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا ﴾ كما قال تعالى :﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ المنافقون : ١٠، ١١ ]، وقال تعالى :﴿ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٧، ٢٨ ]، وقال تعالى :﴿ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [ الشورى : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١١، ١٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ]، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة، فلا يجابون، عند الاحتضار، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم.
وقوله : هاهنا :﴿ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ : كلا حرف ردع وزجر، أي : لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه.
وقوله :﴿ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم.
ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله :" كلا "، أي : لأنها كلمة، أي : سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه، وقول لا عمل معه، ولو رد لما عمل صالحا، ولكان يكذب في مقالته هذه، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾
وقال محمد بن كعب القرظي :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ قال : فيقول الجبار :﴿ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾.
وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة : إذا سمعت الله يقول :﴿ كَلا ﴾ فإنما يقول : كذب١.
وقال قتادة في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ﴾ : قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة الله عز وجل.
وقال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها، ولا قوة إلا بالله. وعن محمد بن كعب القرظي نحوه.
وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا فضيل - يعني : ابن عياض - عن لَيْث، عن طلحة بن مُصَرِّف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال : إذا وضع - يعني : الكافر - في قبره، فيرى مقعده من النار. قال : فيقول : رب، ارجعون أتوب وأعمل صالحا. قال : فيقال : قد عُمِّرت ما كنت مُعَمَّرا. قال : فيضيق عليه قبره، قال : فهو كالمنهوش، ينام ويفزع، تهوي٢ إليه هَوَامّ الأرض وحياتها وعقاربها.
وقال أيضا : حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثني سلمة بن تمام، حدثنا علي بن زيد٣. عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور ! ! تدخل٤ عليهم في قبورهم حيات سود - أو : دُهُم - حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيا٥ في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى :﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى :﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ ﴾ يعني : أمامهم.
وقال مجاهد : البرزخ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.
وقال محمد بن كعب : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة. ليسوا٦ مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم.
وقال أبو صخر : البرزخ : المقابر، لا هم في الدنيا، ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون.
وفي قوله :﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ﴾ : تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال :﴿ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾ [ الجاثية : ١٠ ] وقال ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ [ إبراهيم : ١٧ ].
وقوله :﴿ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ أي : يستمر به العذاب إلى يوم البعث، كما جاء في الحديث :" فلا يزال معذبا فيها " ٧، أي : في الأرض.
١ - في ف :"كذبت"..
٢ - في ف، أ :"ويهوي"..
٣ - في أ :"يزيد"..
٤ - في ف، أ :"يدخل"..
٥ - في ف :"تقرصانه حتى تلتقيا"..
٦ - في ف، أ :"ليس"..
٧ - رواه الترمذي في السنن برقم (١٠٧١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال :"حديث حسن غريب"..

يَبْعَثُونَ.
وَفِي قَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ : تَهْدِيدٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُحْتَضَرِينَ مِنَ الظُّلْمَةِ بِعَذَابِ الْبَرْزَخِ، كَمَا قَالَ: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ [الْجَاثِيَةُ: ١٠] وَقَالَ ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ١٧].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أَيْ: يَسْتَمِرُّ بِهِ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "فَلَا يَزَالُ مُعَذَّبًا فِيهَا" (١)، أَيْ: فِي الْأَرْضِ.
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ النُّشُورِ، وَقَامَ النَّاسُ مِنَ الْقُبُورِ، ﴿فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: لَا تَنْفَعُ الْأَنْسَابُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يَرْثِي وَالِدٌ لِوَلَدِهِ، وَلَا يَلْوِي عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ [الْمَعَارِجِ: ١٠، ١١] أَيْ: لَا يَسْأَلُ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ وَهُوَ يُبْصِرُهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْزَارِ مَا قَدْ أَثْقَلَ ظَهْرَهُ، وَهُوَ كَانَ أَعَزَّ النَّاسِ عَلَيْهِ -كَانَ-فِي الدُّنْيَا، مَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلَا حَمَلَ عَنْهُ وَزْنَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عَبَسَ: ٣٤-٣٧].
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ: أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجِئْ فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ: قَالَ: فَيَفْرَحُ (٢) الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا; وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ -مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَتْنَا أُمُّ بَكْرٍ بِنْتُ المِسْوَر بْنِ مَخْرَمَة، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ المِسْوَر -هُوَ ابْنُ مَخْرَمَة-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، يَقْبِضُني مَا يَقْبِضُهَا، ويَبْسُطني مَا يَبْسُطُهَا (٣) وَإِنَّ الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ (٤) يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِي". (٥)
هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْمِسْوَرِ أن (٦) رسول الله ﷺ قال: "فاطمة بضعة مني،
(١) رواه الترمذي في السنن برقم (١٠٧١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب".
(٢) في أ: "فيفرح والله".
(٣) في أ: "يفيضني ما يفيضها وينشطني ما ينشطها".
(٤) في أ: "منقطع".
(٥) المسند (٤/٣٢٣).
(٦) في ف، أ: "عن".
495
يُرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا" (١).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: "مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُونَ: إِنَّ رَحِمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَنْفَعُ قَوْمَهُ؟ بَلَى، وَاللَّهِ إِنَّ رَحِمِي مَوْصُولَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنِّي -أَيُّهَا النَّاسُ-فَرَطٌ لَكُمْ، إِذَا (٢) جِئْتُمْ" قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، [وَقَالَ أَخُوهُ: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ] (٣) فَأَقُولُ لَهُمْ: "أَمَّا النَّسَبُ فَقَدْ عَرَفْتُ، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ بَعْدِي وَارْتَدَدْتُمُ الْقَهْقَرَى". (٤)
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مُسْنَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (٥) مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَمَا -وَاللَّهِ-مَا بِي إِلَّا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّ سبَبٍ ونَسب فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي".
رَوَاهُ (٦) الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ وَالْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَافِظُ الضِّيَاءُ فِي "الْمُخْتَارَةِ" (٧) وَذَكَرْنَا أَنَّهُ أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا؛ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ -زَوْجِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْأَقْطَعِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عن محمد ابن عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي" (٨). وَرُوِيَ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا أَتَزَوَّجَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِي، وَلَا يَتَزَوَّجُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، إِلَّا كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ، فَأَعْطَانِي ذَلِكَ" (٩). وَمِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَوْ بِوَاحِدَةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيِ: الَّذِينَ فَازُوا فَنَجَوْا مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولَئِكَ الَّذِينَ فَازُوا بِمَا طَلَبُوا، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا.
(١) صحيح البخاري برقم (٣٧١٤) وصحيح مسلم برقم (٢٤٤٩).
(٢) في ف، أ: "فإذا".
(٣) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٤) المسند (٣/١٨).
(٥) مسند عمر بن الخطاب لابن كثير (١/٣٨٩).
(٦) في أ: "ورواه الحافظ".
(٧) المعجم الكبير (٣/٤٥) ومسند البزار برقم (٢٤٤٥) "كشف الأستار" وسنن البيهقي الكبرى (٧/٦٤) والمختارة للمقدسي برقم (٢٨١).
(٨) تاريخ دمشق (١٩/١١٩ "المخطوط") ورواه علي بن سعيد عن سليمان بن عمر الرقي عن إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عبد الله بن الزبير مرفوعا، وأخرجه الطبراني في الأوسط برقم (٣٩٦٣).
(٩) تاريخ دمشق (١٩/١١٩ "المخطوط") ورواه الطبراني في الأوسط برقم (٣٩٦١) "مجمع البحرين" من طريق يزيد بن الكميت عن عمار بن سيف به. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (٧/٨٥) :"إسناده واه" وفي الباب عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه.
496
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أَيْ: ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أَيْ: خَابُوا وهلكوا، وباؤوا بِالصَّفْقَةِ (١) الْخَاسِرَةِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ المُحَبَّر، حَدَّثَنَا صَالِحٌ المُرِّيّ، عَنْ ثَابِتٍ البُناني وَجَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالْمِيزَانِ، فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نَادَى مَلَكٌ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى مَلَكٌ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: شَقِيَ فَلَانٌ شَقَاوَةً لَا (٢) يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا" (٣).
إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ دَاوُدَ بْنَ المُحَبَّر مَتْرُوكٌ.
وَلِهَذَا قَالَ: "فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ" أَيْ: مَاكِثُونَ، دَائِمُونَ مُقِيمُونَ لَا يَظْعَنُونَ.
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٥٠]، وَقَالَ ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٩].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَة بْنُ أَبِي الْمِغْرَاءِ (٤)، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلْمَانَ الْأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ أَبِي سِنَان ضِرَار بْنِ مُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَّا سِيقَ [إِلَيْهَا] (٥) أَهْلُهَا يَلْقَاهُمْ (٦) لَهَبُهَا، ثُمَّ تَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً، فَلَمْ يَبْقَ لَحْمٌ إِلَّا سَقَطَ عَلَى الْعُرْقُوبِ". (٧)
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الفَزَّاز، حَدَّثَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُونُسَ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَضِرِ القَطَّان، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ (٨) الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ قَالَ: "تَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً، فَتَسِيلُ لُحُومُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ" (٩).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي عَابِسُونَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْسِ المُشَيَّط الَّذِي قَدْ بَدَا أَسْنَانُهُ وقَلَصت شَفَتَاهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْبَرْنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ -هُوَ ابن المبارك، رحمه
(١) في أ: "وفازوا بالصفة".
(٢) في ف: "فلا".
(٣) ورواه أبو نعيم في الحلية كما في تخريج الإحياء (٤٠٩٨) وقال: "تفرد به داود بن المحبر".
(٤) في أ: "أبي الفراء".
(٥) زيادة من ف.
(٦) في ف: "تلقيهم".
(٧) ورواه أبو نعيم في الحلية (٤/٣٦٣) وقال: "لم يروه مرفوعا متصلا عن أبي سنان عن عبد الله إلا محمد بن سليمان الأصبهاني، ورواه ابن عيينة وابن فضيل وجرير عن أبي سنان فأوقفه ابن فضيل على أبي هريرة".
(٨) في ف، أ: "سعيد بن أبي سعيد".
(٩) ورواه الضياء المقدسي في صفة النار كما في الدر المنثور (٦/١١٧) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
497
اللَّهُ-أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْح، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾، قَالَ: "تَشْويه النَّارُ فَتَقَلَّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِيَ شَفَتَهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرب سُرَّته".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُوَيْد بْنِ نَصْرٍ (١) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ (٢) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
(١) في أ: "نصير".
(٢) المسند (٣/٨٨) وسنن الترمذي برقم (٣١٧٦).
498
وقوله :﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي : من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة، قاله ابن عباس.
﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي : الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة.
وقال ابن عباس : أولئك الذين فازوا بما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ أي : ثقلت سيئاته على حسناته، ﴿ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي : خابوا وهلكوا، وباؤوا بالصفقة١ الخاسرة.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا داود بن المُحَبَّر، حدثنا صالح المُرِّيّ، عن ثابت البُناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان، عن أنس بن مالك يرفعه قال :" إن لله ملكا موكلا بالميزان، فيؤتى بابن آدم، فيوقف بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا٢ يسعد بعدها أبدًا " ٣.
إسناده ضعيف، فإن داود بن المُحَبَّر متروك.
ولهذا قال :" في جهنم خالدون " أي : ماكثون، دائمون مقيمون لا يظعنون.
١ - في أ :"وفازوا بالصفة"..
٢ - في ف :"فلا"..
٣ - ورواه أبو نعيم في الحلية كما في تخريج الإحياء (٤٠٩٨) وقال :"تفرد به داود بن المحبر"..
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ﴾ [ إبراهيم : ٥٠ ]، وقال ﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٩ ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء١، حدثنا محمد بن سلمان الأصبهاني، عن أبي سِنَان ضِرَار بن مُرَّة، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن جهنم لما سيق [ إليها ]٢ أهلها يلقاهم٣ لهبها، ثم تلفحهم لفحة، فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب ". ٤ وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى الفَزَّاز، حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القَطَّان، حدثنا سعد بن سعيد٥ المقبري، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى :﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ﴾ قال :" تلفحهم لفحة، فتسيل لحومهم على أعقابهم " ٦.
وقوله :﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : يعني عابسون.
وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود :﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ قال : ألم تر إلى الرأس المُشَيَّط الذي قد بدا أسنانه وقَلَصت شفتاه.
وقال الإمام أحمد، رحمه الله : أخبرنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله - هو ابن المبارك، رحمه الله - أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السَّمْح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾، قال :" تَشْويه النار فَتَقَلَّصُ شفته العليا حتى تبلغ وَسَطَ رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تَضْرب سُرَّته ".
ورواه الترمذي، عن سُوَيْد بن نصر٧ عن عبد الله بن المبارك، به٨ وقال : حسن غريب.
١ - في أ :"أبي الفراء"..
٢ - زيادة من ف..
٣ - في ف :"تلقيهم"..
٤ - ورواه أبو نعيم في الحلية (٤/٣٦٣) وقال :"لم يروه مرفوعا متصلا عن أبي سنان عن عبد الله إلا محمد بن سليمان الأصبهاني، ورواه ابن عيينة وابن فضيل وجرير عن أبي سنان فأوقفه ابن فضيل على أبي هريرة"..
٥ - في ف، أ :"سعيد بن أبي سعيد"..
٦ - ورواه الضياء المقدسي في صفة النار كما في الدر المنثور (٦/١١٧) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه..
٧ - في أ :"نصير"..
٨ - المسند (٣/٨٨) وسنن الترمذي برقم (٣١٧٦)..
﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) ﴾.
هَذَا تَقْرِيعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ النَّارِ، وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوا مِنَ الْكَفْرِ وَالْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالْعَظَائِمِ، الَّتِي أَوْبَقَتْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أَيْ: قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلْتُ الْكُتُبَ، وَأَزَلْتُ (١) شُبَهكم، وَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ حُجَّةٌ تُدْلُونَ بِهَا كَمَا قَالَ: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النِّسَاءِ: ١٦٥]، وَقَالَ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٥]، وَقَالَ: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الْمُلْكِ: ٨-١١]، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾ أَيْ: قَدْ قَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ، وَلَكِنْ كُنَّا أَشْقَى مِنْ أَنْ نَنْقَادَ لَهَا وَنَتَّبِعَهَا، فَضَلَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ نُرْزَقْهَا.
ثُمَّ قَالُوا: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ أَيْ: رُدَّنا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا سَلَفَ مِنَّا، فَنَحْنُ ظَالِمُونَ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ، كَمَا قَالُوا: ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ. ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غَافِرٍ: ١١، ١٢] أَيْ: لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِاللَّهِ إِذَا وَحَّدَهُ الْمُؤْمِنُونَ.
﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١) ﴾.
هَذَا جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ إِذَا سَأَلُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ وَالرَّجْعَةَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ (٢)، يَقُولُ: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا﴾ أَيِ: امْكُثُوا فِيهَا صَاغِرِينَ مُهانين أَذِلَّاءَ. ﴿وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ أَيْ: لَا تَعُودُوا إِلَى سُؤَالِكُمْ هَذَا، فَإِنَّهُ لا جواب لكم عندي.
(١) في أ: "وأرخت".
(٢) في أ: "الدنيا".
498
قَالَ العَوْفِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ قَالَ: هَذَا قَوْلُ الرَّحْمَنِ حِينَ انقَطَعَ كَلَامُهُمْ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَة بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَهَّلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا، فَلَا يُجِيبُهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. قَالَ: هَانَتْ دَعْوَتُهُمْ -وَاللَّهِ (١) -عَلَى مَالِكٍ وَرَبِّ مَالِكٍ. ثُمَّ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ قَالَ: فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ قَدْرَ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّ عَلَيْهِمُ: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ قَالَ: وَاللَّهِ مَا نَبَس (٢) الْقَوْمُ بَعْدَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. قَالَ: فَشُبِّهَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ، أَوَّلُهَا زَفِيرٌ وَآخِرُهَا شَهِيقٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمة بْنِ كُهَيْل، حَدَّثَنَا أَبُو الزَّعْرَاء قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَلَّا يُخْرِجَ مِنْهُمْ أَحَدًا -يَعْنِي: مِنْ جَهَنَّمَ-غَيَّرَ وُجُوهَهُمْ وَأَلْوَانَهُمْ، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَشْفَعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ (٣). فَيَقُولُ: مَنْ عَرَفَ أَحَدًا فَلْيُخْرِجْهُ. فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَنْظُرُ فَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا فَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ. فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ.
، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾. وَإِذَا (٤) قَالَ ذَلِكَ، أُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ فَلَا (٥) يَخْرُجُ مِنْهُمْ بَشَر.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُذَكِّرًا لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ أَيْ: فَسَخِرْتُمْ مِنْهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّايَ وَتَضَرُّعِهِمْ إِلَيَّ، ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ أَيْ: حَمَلَكُمْ بُغْضُهُمْ عَلَى أَنْ نَسِيتم مُعَامَلَتِي ﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ أَيْ: مِنْ صَنِيعِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٩، ٣٠] أَيْ: يَلْمُزُونَهُمُ اسْتِهْزَاءً.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا جَازَى بِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا﴾ أَيْ: عَلَى أَذَاكُمْ لَهُمْ وَاسْتِهْزَائِكُمْ مِنْهُمْ، ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ أَيْ: جَعَلْتُهُمْ هُمُ الْفَائِزِينَ (٦) بِالسَّعَادَةِ وَالسَّلَامَةِ والجنة، الناجين (٧) من النار.
(١) في ف، أ: "والله دعوتهم".
(٢) في ف: "فوالله ما يبس".
(٣) في ف، أ: "يا رب يا رب".
(٤) في ف، أ: "فإذا".
(٥) في ف، أ: "فلم".
(٦) في ف: "الفائزون".
(٧) في ف: "الناجون".
499
أي : قد قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها، فَضَلَلْنَا عنها ولم نُرْزَقْهَا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عَبْدَة بن سليمان المروزي، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا، فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يردّ عليهم : إنكم ماكثون. قال : هانت دعوتهم - والله٢ - على مالك ورب مالك. ثم يدعون ربهم فيقولون :﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾ قال : والله ما نَبَس٣ القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم. قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهَيْل، حدثنا أبو الزَّعْرَاء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله ألا يخرج منهم أحدًا - يعني : من جهنم - غير وجوههم وألوانهم، فيجيء الرجل من المؤمنين، فيشفع فيقول : يا رب٤. فيقول : من عرف أحدًا فليخرجه. فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدًا فيقول : أنا فلان. فيقول : ما أعرفك.
، قال : فعند ذلك يقول :﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾، فعند ذلك يقول :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾. وإذا٥ قال ذلك، أطبقت عليهم فلا٦ يخرج منهم بَشَر.

ثم قالوا :﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ أي : رُدَّنا إلى الدار الدنيا، فإن عدنا إلى ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قالوا :﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ. ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١١، ١٢ ] أي : لا سبيل إلى الخروج ؛ لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عَبْدَة بن سليمان المروزي، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا، فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يردّ عليهم : إنكم ماكثون. قال : هانت دعوتهم - والله٢ - على مالك ورب مالك. ثم يدعون ربهم فيقولون :﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾ قال : والله ما نَبَس٣ القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم. قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهَيْل، حدثنا أبو الزَّعْرَاء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله ألا يخرج منهم أحدًا - يعني : من جهنم - غير وجوههم وألوانهم، فيجيء الرجل من المؤمنين، فيشفع فيقول : يا رب٤. فيقول : من عرف أحدًا فليخرجه. فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدًا فيقول : أنا فلان. فيقول : ما أعرفك.
، قال : فعند ذلك يقول :﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾، فعند ذلك يقول :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾. وإذا٥ قال ذلك، أطبقت عليهم فلا٦ يخرج منهم بَشَر.

هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار١، يقول :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا ﴾ أي : امكثوا فيها صاغرين مُهانين أذلاء. ﴿ وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾ أي : لا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي.
قال العَوْفِي، عن ابن عباس :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾ قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عَبْدَة بن سليمان المروزي، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا، فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يردّ عليهم : إنكم ماكثون. قال : هانت دعوتهم - والله٢ - على مالك ورب مالك. ثم يدعون ربهم فيقولون :﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾ قال : والله ما نَبَس٣ القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم. قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهَيْل، حدثنا أبو الزَّعْرَاء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله ألا يخرج منهم أحدًا - يعني : من جهنم - غير وجوههم وألوانهم، فيجيء الرجل من المؤمنين، فيشفع فيقول : يا رب٤. فيقول : من عرف أحدًا فليخرجه. فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدًا فيقول : أنا فلان. فيقول : ما أعرفك.
، قال : فعند ذلك يقول :﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾، فعند ذلك يقول :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾. وإذا٥ قال ذلك، أطبقت عليهم فلا٦ يخرج منهم بَشَر.


١ - في أ :"الدنيا"..
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بذنوبهم في الدنيا، وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه، فقال :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ﴾ أي : فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إليّ، ﴿ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ أي : حملكم بغضهم على أن نَسِيتم معاملتي ﴿ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ أي : من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [ المطففين : ٢٩، ٣٠ ] أي : يلمزونهم استهزاء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٩:ثم قال تعالى مذكرًا لهم بذنوبهم في الدنيا، وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه، فقال :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ﴾ أي : فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إليّ، ﴿ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ أي : حملكم بغضهم على أن نَسِيتم معاملتي ﴿ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ أي : من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [ المطففين : ٢٩، ٣٠ ] أي : يلمزونهم استهزاء.
ثم أخبر عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين، فقال :﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ أي : على أذاكم لهم واستهزائكم منهم، ﴿ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ أي : جعلتهم هم الفائزين١ بالسعادة والسلامة والجنة، الناجين٢ من النار.
١ - في ف :"الفائزون"..
٢ - في ف :"الناجون"..
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى مَا أَضَاعُوهُ فِي عُمْرِهِمُ الْقَصِيرِ فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَلَوْ صَبَروا فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ لَفَازُوا كَمَا فَازَ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ، ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ﴾ أَيْ: كَمْ كَانَتْ إِقَامَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ أَيِ: الْحَاسِبِينَ
﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا﴾ أَيْ: مُدَّةً يَسِيرَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: لَمَا آثَرْتُمُ الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي، وَلَمَا تَصَرَّفتم لِأَنْفُسِكُمْ هَذَا التَّصَرُّفَ السَّيِّئَ، وَلَا اسْتَحْقَقْتُمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ (١) -كَمَا فَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ-لَفُزْتُمْ كَمَا فَازُوا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الوَزير، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، عَنْ أَيْفَعَ بْنِ عَبْدٍ الكَلاعي؛ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، قَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قَالَ: لَنِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ: رَحْمَتِي وَرِضْوَانِي وَجْنَّتِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ؟ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. فَيَقُولُ: بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ: نَارِي وَسُخْطِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ أَيْ: أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ مِنْكُمْ وَلَا حِكْمَةٍ لَنَا، ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: لَا تَعُودُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [الْقِيَامَةِ: ٣٦]، يَعْنِي هَمَلًا (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ أَيْ: تقدَّس أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا، فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ، ﴿لَا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾، فَذَكَرَ الْعَرْشَ؛ لِأَنَّهُ سَقْفُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، أَيْ: حَسَنُ الْمَنْظَرِ بَهِيُّ الشَّكْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لُقْمَانَ: ١٠].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسيّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ -شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ-أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ سعيد بن العاص قال:
(١) في ف: "على عبادته وطاعته".
(٢) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (١/١٨٧) بإسناده إلى الحكم بن موسى عن الوليد عن صفوان به.
(٣) في أ: "مهملا".
500
كَانَ آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَنْ (١) تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ لِلْحُكْمِ بَيْنَكُمْ وَالْفَصْلِ بَيْنَكُمْ، فَخَابَ وَخَسِرَ مَن خَرَجَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَحُرِمَ جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ هَذَا الْيَوْمَ وَخَافَهُ، وَبَاعَ نَافِدًا بِبَاقٍ، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مِنْ أَصْلَابِ الْهَالِكِينَ، وَسَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمُ الْبَاقِينَ، حَتَّى تُرَدُّونَ (٢) إِلَى خَيْرِ الْوَارِثِينَ؟ ثُمَّ إِنَّكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُشَيّعون غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَانقَضَى أَجْلُهُ، حَتَّى تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْع مِنَ الْأَرْضِ، فِي بَطْنِ صَدْعٍ غَيْرِ مُمَهَّدٍ وَلَا مُوَسَّدٍ، قَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ وَبَاشَرَ التُّرَابَ، وَوَاجَهَ الْحِسَابَ، مُرْتَهَن بِعَمَلِهِ، غَنِيٌّ عَمَّا تَرَكَ، فَقِيرٌ إِلَى مَا قَدَّمَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ قَبْلَ انقِضَاءِ مَوَاثِيقِهِ، وَنُزُولِ الْمَوْتِ بِكُمْ ثُمَّ جَعَلَ طَرَفَ رِدَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ نَصْرٍ (٣) الخَوْلاني، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَة، عَنْ أَبِي هُبَيْرَةَ عَنْ حَنَش (٤) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ رَجُلًا مُصَابًا مرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَرَأَ فِي أُذُنِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾، حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرَأ، [فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٥)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِمَاذَا قَرَأْتَ فِي أُذُنِهِ؟ " فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُوقنا قَرَأَهَا عَلَى جَبَل لَزَالَ".
وَرَوَى أَبُو (٦) نُعَيم مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ نِزَارٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرَِّية، وَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا نَحْنُ أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾، قَالَ: فَقَرَأْنَاهَا فَغَنِمْنَا وَسَلِمْنَا (٧).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْعَلَّافُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو المُسَيَّب سَلَمَةُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْس (٨)، عَنْ نَهْشَل بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا فِي السُّفُنِ: بِسْمِ اللَّهِ الْمَلِكِ الْحَقِّ، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: ٦٧]، ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: ٤١]. (٩)
(١) في ف: "ولم".
(٢) في ف: "حين تردوا".
(٣) في أ: "نصير".
(٤) في ف: "حسن".
(٥) زيادة من ف، أ.
(٦) في ف: "ابن".
(٧) معرفة الصحابة لأبي نعيم برقم (٧٢٦).
(٨) في ف: "حبيش".
(٩) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٢/١٢٤) وفي كتاب الدعاء برقم (٨٠٤) من طرق عن عبد الحميد الهلالي، عن نهشل به، وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١٣٢) :"نهشل بن سعيد متروك".
501
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٢:يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده، ولو صَبَروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون، ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾ أي : كم كانت إقامتكم في الدنيا ؟ ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾ أي : الحاسبين
﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ﴾ أي : مدة يسيرة على كل تقدير ﴿ لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي : لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته١ - كما فعل المؤمنون - لفزتم كما فازوا.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوَزير، حدثنا الوليد، حدثنا صفوان، عن أيفع بن عبد الكَلاعي ؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال : يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم. قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين ؟ ثم يقول : يا أهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يومًا أو بعض يوم. فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين " ٢.
١ - في ف :"على عبادته وطاعته"..
٢ - ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (١/١٨٧) بإسناده إلى الحكم بن موسى عن الوليد عن صفوان به..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٢:يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده، ولو صَبَروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون، ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾ أي : كم كانت إقامتكم في الدنيا ؟ ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾ أي : الحاسبين
﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ﴾ أي : مدة يسيرة على كل تقدير ﴿ لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي : لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته١ - كما فعل المؤمنون - لفزتم كما فازوا.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوَزير، حدثنا الوليد، حدثنا صفوان، عن أيفع بن عبد الكَلاعي ؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال : يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم. قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين ؟ ثم يقول : يا أهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يومًا أو بعض يوم. فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين " ٢.
١ - في ف :"على عبادته وطاعته"..
٢ - ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (١/١٨٧) بإسناده إلى الحكم بن موسى عن الوليد عن صفوان به..

وقوله :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾ أي : أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا، ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ أي : لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال :﴿ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [ القيامة : ٣٦ ]، يعني هملا١.
١ - في أ :"مهملا"..
وقوله :﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ أي : تقدَّس أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، ﴿ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾، فذكر العرش ؛ لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم، أي : حسن المنظر بهي الشكل، كما قال تعالى :﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [ لقمان : ١٠ ].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا إسحاق بن سليمان - شيخ من أهل العراق - أنبأنا شعيب بن صفوان، عن رجل من آل سعيد بن العاص قال :
كان آخر خطبة خطب عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال : أما بعد، فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولن١ تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم، فخاب وخسر مَن خرج من رحمة الله، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تردون٢ إلى خير الوارثين ؟ ثم إنكم في كل يوم تُشَيّعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صَدْع من الأرض، في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، قد فارق الأحباب وباشر التراب، وواجه الحساب، مُرْتَهَن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه، ونزول الموت بكم ثم جعل طرف ردائه على وجهه، فبكى وأبكى من حوله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن نصر٣ الخَوْلاني، حدثنا ابن وَهْب، أخبرني ابن لَهِيعَة، عن أبي هُبَيْرَةَ عن حَنَش٤ بن عبد الله ؛ أن رجلا مصابًا مرَّ به عبد الله بن مسعود، فقرأ في أذنه هذه الآية :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾، حتى ختم السورة فَبَرَأ، [ فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ]٥، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بماذا قرأت في أذنه ؟ " فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده، لو أن رجلا مُوقنا قرأها على جَبَل لزال ".
وروى أبو٦ نُعَيم من طريق خالد بن نزار، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المُنْكَدر، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرَِّية، وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾، قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا٧.
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي، حدثنا أبو المُسَيَّب سلمة بن سلام، حدثنا بكر بن خُنَيْس٨، عن نَهْشَل بن سعيد، عن الضحّاك بن مُزَاحِم، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن : بسم الله الملك الحق، ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ]، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [ هود : ٤١ ]. ٩
١ - في ف :"ولم"..
٢ - في ف :"حين تردوا"..
٣ - في أ :"نصير"..
٤ - في ف :"حسن"..
٥ - زيادة من ف، أ..
٦ - في ف :"ابن"..
٧ - معرفة الصحابة لأبي نعيم برقم (٧٢٦)..
٨ - في ف :"حبيش"..
٩ - ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٢/١٢٤) وفي كتاب الدعاء برقم (٨٠٤) من طرق عن عبد الحميد الهلالي، عن نهشل به، وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١٣٢) :"نهشل بن سعيد متروك"..
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ، وعَبَدَ مَعَهُ سِوَاهُ، وَمُخْبِرًا أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ ﴿لَا بُرْهَانَ لَهُ﴾ أَيْ: لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ -فَقَالَ: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أَيِ: اللَّهُ يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ أَخْبَرَ: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ أَيْ: لَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا فَلَاحَ لَهُمْ وَلَا نَجَاةَ.
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: "مَا تَعْبُدُ؟ " قَالَ: أَعْبُدُ اللَّهَ، وَكَذَا وَكَذَا-حَتَّى عَدَّ أَصْنَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَيُّهُمْ إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فدعوتَه، كَشْفَهُ عَنْكَ؟ ". قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: ["فَأَيُّهُمْ إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فدعوتَه أَعْطَاكَهَا؟ " قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ] (١) :"فَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ هَؤُلَاءِ مَعَهُ؟ " قَالَ: أَرَدْتُ شُكْرَهُ بِعِبَادَةِ هَؤُلَاءِ مَعَهُ أَمْ حَسِبْتُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعْلَمُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ" قَالَ (٢) الرَّجُلُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ: لَقِيتُ رَجُلًا خَصَمَنِي.
هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مُسْنَدًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْن، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ ذَلِكَ (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فالغَفْرُ -إِذَا أطلِق-مَعْنَاهُ مَحْوُ الذَّنْبِ وَسَتْرُهُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّحْمَةُ مَعْنَاهَا: أَنْ يُسَدِّدَهُ وَيُوَفِّقَهُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ.
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) في أ: "فقال".
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٤٨٣) وقال: "هذا حديث غريب".
وقوله :﴿ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ هذا إرشاد من الله إلى هذا الدعاء، فالغَفْرُ - إذا أطلِق - معناه محو الذنب وستره عن الناس، والرحمة معناها : أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.
آخر تفسير سورة المؤمنون.
Icon