تفسير سورة آل عمران

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة : سورة آل عمران، ففي صحيح مسلم، عن أبي أمامة : قال سمعت رسول الله يقول أقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران وفيه عن النواس بن سمعان : قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران وروى الدارمي في مسنده : أن عثمان بن عفان قال : من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة وسماها ابن عباس، في حديثه في الصحيح، قال : بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران. ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي، وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها.
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم.
وذكر الآلوسي أنها تسمى : الأمان، والكنز، والمجادلة، وسورة الاستغفار. ولم أره لغيره، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي، في المسألة الثالثة والرابعة، من تفسير أول السورة.
وهذه السورة نزلت بالمدين بالاتفاق، بعد سورة البقرة، فقيل، أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، وقيل : نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا، ثم البقرة، ثم نزلت سورة آل عمران، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر، وهذا يقتضي : أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر، وأن فيها ذكر يوم أحد، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا. وذكر الواحدي في أسباب النزول، عن المفسرين : أن أول هذه السورة إلى قوله ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ نزل بسبب وفد نجران، وهو وفد السيد والعاقب، أي سنة اثنين من الهجرة، ومن العلماء من قالوا : نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال، وكان نزولها في وقعة أحد، أي شوال سنة ثلاث، وهذا أقرب، فقد أتفق المفسرون على أن قوله تعالى ﴿ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾ أنه قتال يوم أحد. وكذلك قوله ﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله ﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ قاله القرطبي في أول السورة، وفي تفسير قوله ﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ﴾ الآية. وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إننا بينا إمكان تقارن نزول السور عدة في مدة واحدة، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها.
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن.
وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون.
واشتملت هذه السورة، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتقسيم آيات القرآن، ومراتب الأفهام في تلقيها، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين، وأنه لا يقبل دين عند الله، بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام، والتنويه بالتوراة والإنجيل، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى، وانفراده، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله : من جعلوا له شركاء، أو اتخذوا له أبناء، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك، وتهديدهم بزوال سلطانهم، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته، وذكر معجزة ظهوره، وأنه مخلوق لله، وذكر الذين آمنوا به حقا، وإبطال إلهية عيسى، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه، وأوجب حجه على المؤمنين، وأظهر ضلالات اليهود، وسوء مقالتهم، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأمرهم بالاتحاد والوفاق، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبر على تلقي الشدائد، والبلاء، وأذى العدو، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم، ثم ذكرهم بيوم أحد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما، ونوه، بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال : من بذل المال في مواساة الأمة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وترك البخل، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله.
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن.
ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح، وفيهم رهبان مشاهير، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله :
فكعبة نجران حتم عليكِ *** حتى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب فيه ستون رجلا وأسمه عبد المسيح، وهو أمير الوفد، ومعه السيد واسمه الأيهم، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد، ومشيره وذو الرأي فيه، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدارسهم وولي دينهم، وفيهم أخو أبي حارثة، ولم يكن من أهل نجران، ولكنه كان ذا رتبة : شرفه ملوك الروم ومولوه. فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجادلهم في دينهم، وفي شأن ألوهية المسيح، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، فأجابوا ثم استعظموا ذلك، وتخلصوا منه، ورجعوا إلى أوطانهم، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق. وذكر ذلك الواحدي والفخر، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهِم وهْمًا انجرَّ إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود. والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود.

الرَّأْيِ فِيهِ، وَفِيهِمْ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ الْبَكْرِيُّ، وَهُوَ أُسْقُفُهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ وَوَلِيُّ دِينِهِمْ، وَفِيهِمْ أَخُو أَبِي حَارِثَةَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ذَا رُتْبَةٍ: شَرَّفَهُ مُلُوكُ الرُّومِ وَمَوَّلُوهُ. فَلَقوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَادَلَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَفِي شَأْنِ أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ، فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَكَابَرُوا، فَدَعَاهُمْ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، فَأَجَابُوا ثُمَّ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ، وَتَخَلَّصُوا مِنْهُ، وَرَجَعُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ، وَنَزَلَتْ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَأْنِهِمْ كَمَا فِي «سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ» عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَذَكَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ وَالْفَخْرُ، فَمَنْ ظَنَّ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ وَفَدُوا فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا انْجَرَّ
إِلَيْهِ مِنِ اشْتِهَارِ سَنَةِ تِسْعٍ بِأَنَّهَا سَنَةُ الْوُفُودِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ مِنْ أَوَائِلِ الْمَدَنِيَّاتِ، وَتَرْجِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ يُعَيِّنَانِ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ كَانَ قَبْلَ سنة الْوُفُود.
[١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
لَمَّا كَانَ أَوَّلُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ، الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، هُوَ قَضِيَّةٌ مُجَادَلَةِ نَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ وَفَدُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَيَانُ فَضْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، لَا جَرَمَ افْتُتِحَتْ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي، الْمَرْمُوزِ بِهَا إِلَى تَحَدِّي الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَكَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ، ثُمَّ لِلنَّصَارَى مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ سَكَنُوا بِلَادَ الْعَرَبِ فَتَكَلَّمُوا بِلِسَانِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَيَنْدُرُ فِيهِمُ الْبُلَغَاءُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِثْلُ السَّمَوْأَلِ، وَهَذَا وَمَا بَعْدَهُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً [آل عمرَان: ٣٣] تَمْهِيدٌ لِمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ بِسَبَبِهِ وَبَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِذَلِكَ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعَانِي الم أَوَّلَ الْبَقَرَةِ

[٢- ٤]

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٢ الى ٤]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ.
ابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِمُسْنَدٍ إِلَيْهِ خَبَرُهُ فِعْلِيٌّ: لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ اهْتِمَامًا بِهِ.
وَجِيءَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ: لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِجُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً أَوْ حَالِيَّةً، رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى النَّصَارَى خَاصَّةً. وَأُتْبِعَ بِالْوَصْفَيْنِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لِنَفْيِ اللَّبْسِ عَنْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَأْهِلُهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أَوْ غَيْرُ قَيُّومٍ، فَالْأَصْنَامُ لَا حَيَاةَ لَهَا، وَعِيسَى فِي اعْتِقَادِ النَّصَارَى قَدْ أُمِيتَ، فَمَا هُوَ الْآنَ بِقَيُّومٍ وَلَا هُوَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِقَيُّومٍ عَلَى تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، وَكَيْفَ وَقَدْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وَكُذِّبَ، وَاخْتَفَى مِنْ أَعْدَائِهِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْحَيُّ الْقَيُّومُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ.
وَقَوْلُهُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَالْخَبَرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ، أَوْ هُوَ تَعْرِيضٌ وَنِكَايَةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ- مَعَ ذَلِكَ- عَلَى الِاخْتِصَاصِ: أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْطَانِ، أَوْ مِنْ طَرَائِقِ الْكِهَانَةِ، أَوْ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.
وَالتَّضْعِيفُ فِي نَزَّلَ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُوَ يُسَاوِي الْهَمْزَ فِي أَنْزَلَ، وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ يُؤْذِنُ بِقُوَّةِ الْفِعْلِ فِي كَيْفِيَّتِهِ أَوْ كَمِّيَّتِهِ، فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِغَيْرِ التَّضْعِيفِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: فَسَرَ وَفَسَّرَ، وَفَرَقَ وَفَرَّقَ، وَكَسَرَ وَكَسَّرَ، كَمَا أَتَوْا بِأَفْعَالٍ قَاصِرَةٍ بِصِيغَةِ الْمُضَاعَفَةِ، دُونَ تَعْدِيَةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ، كَمَا قَالُوا: مَاتَ وَمَوَّتَ وَصَاحَ وَصَيَّحَ. فَإِمَّا إِذَا صَارَ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَلَا أُوقِنُ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْفِعْلِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزِ، إِلَى التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ، لِقَصْدِ مَا عُهِدَ فِي التَّضْعِيفِ مِنْ تَقْوِيَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:
147
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أَهَمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي الْمُقَدَّمَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ»، هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، أَنْ قَالَ:
إِنَّ نَزَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيمِ وَإِنَّ أَنْزَلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَيْنِ أُنْزِلَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَهَذَا لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَعْنَى التَّقْوِيَةِ الْمُدَّعَى لِلْفِعْلِ الْمُضَاعَفِ، إِلَّا أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ نَزَّلَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ التَّكْثِيرِ، وَهُوَ التَّوْزِيعُ وَرَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] فَجَمَعَ بَيْنَ التَّضْعِيفِ وَقَوْلِهِ: جُمْلَةً واحِدَةً. وَأَزِيدُ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ نَزَلَا مُفَرَّقَيْنَ كَشَأْنِ كُلِّ مَا يَنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ فِي مُدَّةِ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ: إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ كِتَابًا نَزَلَ عَلَى رَسُولٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:
بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَمَعْنَى مُلَابَسَتِهِ لِلْحَقِّ اشْتِمَالُهُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي قَالَ تَعَالَى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الْإِسْرَاء: ١٠٥].
وَمَعْنَى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ لَهُ، وَجُعِلَ السَّابِقُ بَيْنَ يَدَيْهِ: لِأَنَّهُ يَجِيءُ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ يَمْشِي أَمَامَهُ.
والتوراة اسْمٌ لِلْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ أَصْلُهُ طُورَا بِمَعْنَى الْهُدَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْأَلْوَاحِ الَّتِي فِيهَا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَبَلِ الطُّورِ لِأَنَّهَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي كتب مُوسَى، فأطق ذَلِكَ
الِاسْمُ عَلَى جَمِيعِ كُتُبِ مُوسَى، وَالْيَهُودُ يَقُولُونَ (سِفْرُ طُورا) فَلَمَّا دَخَلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ التَّعْرِيفِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْأَوْصَافِ وَالنَّكِرَاتِ لِتَصِيرَ أَعْلَامًا بِالْغَلَبَةِ: مِثْلُ الْعَقَبَةِ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ مَنْ حَاوَلُوا تَوْجِيهًا لِاشْتِقَاقِهِ اشْتِقَاقًا عَرَبيا، فَقَالُوا: إنّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَرْيِ وَهُوَ الْوَقْدُ، بِوَزْنِ تِفْعَلَةٍ أَوْ فَوْعَلَةٍ، وَرُبَّمَا أَقْدَمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا دُخُولُ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعَجَمِيَّةِ، وَأُجِيبَ بِأَنْ لَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهَا عَلَى الْمُعَرَّبِ كَمَا قَالُوا: الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَهَذَا جَوَابٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَزْنٌ عَرَبِيٌّ إِذْ هُوَ نُسِبَ إِلَى إِسْكَنْدَرٍ، فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنَّمَا أُلْزِمَ التَّعْرِيفَ لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنِ اسْمٍ بِمَعْنَى الْوَصْفِ اسْمِ عَلَمٍ فَلَمَّا عَرَّبُوهُ أَلْزَمُوهُ اللَّامَ لِذَلِكَ.
148
الثَّانِي أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِالْيَاءِ، وَهَذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَسَبَبُ كِتَابَتِهِ كَذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى لُغَةِ إِمَالَتِهِ.
وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَاسْمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَمَعَهُ أَصْحَابُهُ.
وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ قِيلَ مِنَ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ (إِثَانْجَيْلِيُومُ) أَيِ الْخَبَرُ الطَّيِّبُ، فَمَدْلُولُهُ مَدْلُولُ اسْمِ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ كَلِمَةَ التَّعْرِيفِ فِي اللُّغَةِ الرُّومِيَّةِ، فَلَمَّا عَرَّبَهُ الْعَرَبُ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ حَرْفَ التَّعْرِيفِ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ أَنَّ الْإِنْجِيلَ فِي السُّرْيَانِيَّةِ- وَهِيَ الْآرَامِيَّةُ- (أَنْكَلِيُونُ) وَلَعَلَّ الثَّعْلَبِيَّ اشْتَبَهُ عَلَيْهِ الرُّومِيَّةُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَيْسَتْ سُرْيَانِيَّةً وَإِنَّمَا لَمَّا نَطَقَ بِهَا نَصَارَى الْعِرَاقِ ظَنَّهَا سُرْيَانِيَّةً، أَوْ لَعَلَّ فِي الْعِبَارَةِ تَحْرِيفًا وَصَوَابُهَا الْيُونَانِيَّةُ وَهُوَ فِي الْيُونَانِيَّةِ (أُووَانَيْلِيُونُ) أَيِ اللَّفْظُ الْفَصِيحُ. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ جَعْلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ النُّجْلِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ تَعَسُّفٌ أَيْضًا. وَهَمْزَةُ الْإِنْجِيلِ مَكْسُورَةٌ فِي الْأَشْهَرِ لِيَجْرِيَ عَلَى وَزْنِ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ إِفْعِيلًا مَوْجُودٌ بِقِلَّةٍ مِثْلَ إِبْزِيمٍ، وَرُبَّمَا نُطِقَ بِهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
ومِنْ قَبْلُ يَتَعَلَّقُ بِ أَنْزَلَ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أُولَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَ «هَدًى» حَالٌ ثَانِيَةٌ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ مَنَوِيٌّ مَعْنًى، كَمَا اقْتَضَاهُ بِنَاءُ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ زَمَانُ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
وَتَقْدِيمُ مِنْ قَبْلُ عَلَى هُدىً لِلنَّاسِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَأَمَّا ذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ فَلِكَيْ لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هُدَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا كَالْمُقَدَّمَاتِ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، الَّذِي هُوَ تَمَامُ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْبَشَرِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] فَالْهُدَى الَّذِي سَبَقَهُ غَيْرُ تَامٍّ.
ولِلنَّاسِ تَعْرِيفُهُ إِمَّا لِلْعَهْدِ: وهم النَّاس الَّذِي خُوطِبُوا بِالْكِتَابَيْنِ، وَإِمَّا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ: فَإِنَّهُمَا وَإِنْ خُوطِبَ بِهِمَا نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَإِنَّ مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ يَهْتَدِي بِهِ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهْتَدِيَ، وَقَدْ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ تَشْمَلُهُمْ دَعْوَةُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ النَّاسُ الَّذِينَ دعاهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ
149
أَبْطَلَ أَحْكَامَ الْكِتَابَيْنِ، وَأَمَّا كَوْنُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا عِنْدَ مُعْظَمِ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَذَلِكَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ لَا مَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابَيْنِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ الِاسْتِغْرَاقِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَلْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالْفرْقَان فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَرَقَ كَالشُّكْرَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالْبُهْتَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الْأَنْفَال: ٤١] وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ. وَسُمِّيَ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان:
١] وَالْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ تَفْضِيلٌ لِهَدْيِهِ عَلَى هَدْيِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَعْظَمُ أَحْوَالِ الْهُدَى، لِمَا فِيهَا مِنَ الْبُرْهَانِ، وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. وَإِعَادَةُ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِيُوصِلَ الْكَلَامَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٤] الْآيَةَ أَيْ بِآيَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُمَهَّدٌ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِأَنَّ نَفْسَ السَّامِعِ تَتَطَلَّعُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذَا التَّنْزِيلَ.
وَشَمَلَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمُ اشْتَرَكُوا فِي الْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ- هُنَا- لِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ إِيجَازًا لِأَنَّ الصِّلَةَ تَجْمَعُهُمْ، وَالْإِيمَاءُ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مِنْ تَكْمِلَةِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ: لِمَجِيئِهِ مَجِيءَ التَّبْيِينِ لِشِدَّةِ عَذَابِهِمْ إِذْ هُوَ عَذَابُ عَزِيزٍ مُنْتَقِمٍ كَقَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٤٢].
150
وَالْعَزِيزُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩] : فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وَالِانْتِقَامُ: الْعِقَابُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ بِغَضَبٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْكَارِهِ: نَاقِمٌ. وَجِيءَ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ (ذُو) الدَّالَّةِ عَلَى الْمُلْكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ انْتِقَامٌ عَنِ اخْتِيَارٍ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَيْسَ هُوَ تَعَالَى مُنْدَفِعًا لِلِانْتِقَامِ بِدَافِعِ الطَّبْعِ أَو الحنق.
[٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٥]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥)
اسْتِئْنَافٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِوَصْفِ الْحَيِّ لِأَنَّ عُمُومَ الْعِلْمِ يُبَيِّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ. وَجِيءَ بِ (شَيْءٌ) هُنَا لِأَنَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قُصِدَ مِنْهُ عُمُومُ أَمْكِنَةِ الْأَشْيَاءِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ: بِمَا فِيهَا مِنْ بِحَارٍ، وَالْمُرَادُ بالسماء جنس السَّمَوَات: وَهِيَ الْعَوَالِمُ الْمُتَبَاعِدَةُ عَنِ الْأَرْضِ. وَابْتُدِئَ فِي الذِّكْرِ بِالْأَرْضِ لِيَتَسَنَّى التَّدَرُّجُ فِي الْعَطْفِ إِلَى الْأَبْعَدِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ أَشْيَاءَ الْأَرْضِ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أَمَّا أَشْيَاءُ السَّمَاءِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بَعْضَهَا فَضْلًا عَنْ علم جَمِيعهَا.
[٦]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٦]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ.
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ يُبَيِّنُ شَيْئًا مِنْ مَعْنَى الْقَيُّومِيَّةِ، فَهُوَ كَبَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَخُصَّ من بَين شؤون الْقَيُّومِيَّةِ تَصْوِيرُ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى فِي اعْتِقَادهم إلاهية عِيسَى مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ صَوَّرَهُ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْكَيْفِيَّاتِ الْعَارِضَةَ لِلْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ وَتَصْوِيرِهِ: سَوَاءٌ الْمُعْتَادُ، وَغَيْرُ الْمُعْتَادِ.
وكَيْفَ هُنَا لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، بَلْ هِيَ دَالَّة على مجّد مَعْنَى الْكَيْفِيَّةِ أَيِ الْحَالَةِ، فَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي أَصْلِهَا الْمَوْضُوعَةِ لَهُ فِي اللُّغَةِ إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ
151
(كَيْفَ) مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُرُوفِ مَادَّةِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالتَّكَيُّفِ، وَهُوَ الْحَالَةُ وَالْهَيْئَةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَكُونَ اسْمَ اسْتِفْهَامٍ، وَلَيْسَتْ (كَيْفَ) فِعْلًا لِأَنَّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الزَّمَانِ، وَلَا حَرْفًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَادَّةِ اشْتِقَاقٍ. وَقَدْ تَجِيءُ (كَيْفَ) اسْمَ شَرْطٍ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَا مَا
الزَّائِدَةُ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا تُفَارِقُهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْحَالَةِ، وَلَا يُفَارِقُهَا إِيلَاءُ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِيَّاهَا إِلَّا مَا شَذَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ أَنْتَ. فَإِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامًا فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ فَتَكُونُ مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، مُلْتَزَمًا تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ، وَإِذَا جُرِّدَتْ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ كَانَ مَوْقِعُهَا مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى حَسَبِ مَا يَطْلُبُهُ الْكَلَامُ الْوَاقِعَةُ هِيَ فِيهِ مِنَ الْعَوَامِلِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ.
وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا- حِينَئِذٍ- فَالْأَظْهَرُ أَنْ تُعْتَبَرَ مُضَافًا إِلَيْهَا اسْمُ كَيْفَ وَيُعْتَبَرُ كَيْفَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ. وَجَرَى فِي كَلَامِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ فَتْحَةَ (كَيْفَ) فَتْحَةَ بِنَاءٍ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ فَتْحَةَ كَيْفَ فَتْحَةُ نَصْبٍ لَزِمَتْهَا لِأَنَّهَا دَائِمًا مُتَّصِلَةٌ بِالْفِعْلِ فَهِيَ مَعْمُولَةٌ لَهُ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا، فَلِمُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْفَتْحِ إِيَّاهَا أَشْبَهَتْ فَتْحة الْبناء.
فَكيف فِي قَوْلِهِ هُنَا كَيْفَ يَشاءُ يُعْرَبُ مَفْعُولا مُطلقًا «ليصوّركم»، إِذِ التَّقْدِيرُ: حَالُ تَصْوِيرٍ يَشَاؤُهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الْفجْر: ٦].
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ:
يُصَوِّرُكُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهَا لَا تَأْتِي فِي الشَّرْطِ إلّا مقترنة بِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ النَّاسِ:
كَيْفَ شَاءَ فَعَلَ فَلَحْنٌ. وَكَذَلِكَ جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا قَدْ عُدَّ لَحْنًا عِنْدَ جُمْهُورِ أئمّة الْعَرَبيَّة.
وذلّ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ عَلَى قَصْرِ صِفَةِ التَّصْوِيرِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ إِذْ هُوَ مُكَوِّنُ أَسْبَابِ ذَلِكَ التَّصْوِيرِ وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى كشف شبة النَّصَارَى إِذْ تَوَهَّمُوا أَنَّ تَخَلُّقَ عِيسَى بِدُونِ مَاءِ أَبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَشَرٍ وَأَنَّهُ إِلَهٌ وَجَهِلُوا أَنَّ التَّصْوِيرَ فِي الْأَرْحَامِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّاتُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَلْقًا لِمَا كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ الْمُصَوَّرُ فِي الرَّحِمِ إِلَهًا.
152
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
تَذْيِيلٌ لِتَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَفِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِنُزُولِهَا فِي مُجَادَلَةِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي هَذَا الطَّالِعِ قَصْرُ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وَقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
[٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ بِإِخْبَارٍ عَنْ شَأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، مُتَعَلِّقٌ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ: وَهُوَ تَحْقِيقُ إِنْزَالِهِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِهِ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آل عمرَان: ٣] وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ لِأَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي مُجَادَلَةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَصُدِّرَتْ بِإِبْطَالِ عقيدتهم فِي إلاهية الْمَسِيح:
فالإشارة إِلَى أَوْصَافِ الْإِلَهِ الْحَقَّةِ، تَوَجَّهَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى إِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فِي شَأْنِ زَعْمِهِمُ اعْتِرَافَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ بِإِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ إِذْ وُصِفَ فِيهَا بِأَنَّهُ رُوحُ الله وأنّه يحي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فَنُودِيَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ تَعَلُّقَ اشْتِبَاه وَسُوء بأويل.
وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ قَصْرُ صِفَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ، مَعَ كَوْنِهَا تَأْكِيدًا وَتَمْهِيدًا، إِبْطَالًا أَيْضًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل:
١٠٣] وَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفرْقَان: ٥]. وَكَقَوْلِهِ:
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشُّعَرَاء: ٢١٠- ٢١٢] ذَلِك أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ قَوْلُ كَاهِنٍ، وَقَوْلُ شَاعِرٍ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَقْوَالَ الْكُهَّانِ وَأَقْوَالَ الشُّعَرَاءِ مِنْ إِمْلَاءِ الْأَرْئِيَاءِ (جَمْعِ رَئِيٍّ).
153
وَمِنْ بَدَائِعِ الْبَلَاغَةِ أَنْ ذَكَرَ فِي الْقَصْرِ فِعْلَ أَنْزَلَ، الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ بِدُونِ صِيغَةِ الْقَصْرِ، إِذِ الْإِنْزَالُ يُرَادِفُ الْوَحْيَ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ الَّذِي آتَاكَ الْكِتَابَ.
وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَ «مِنْهُ» خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وآياتٌ مُحْكَماتٌ مُبْتَدَأٌ.
وَالْإِحْكَامُ فِي الْأَصْلِ الْمَنْعُ، قَالَ جَرِيرٌ:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
وَاسْتُعْمِلَ الْإِحْكَامُ فِي الْإِتْقَانِ وَالتَّوْثِيقِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ تَطَرُّقَ مَا يُضَادُّ الْمَقْصُودَ، وَلِذَا سُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً، وَهُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ مَشْهُورٌ.
أطلق الْمُحْكَمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَاضِحِ الدَّلَالَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، مَنْعًا لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرَدُّدِ فِي المُرَاد.
وَأطلق التشابه هُنَا عَلَى خَفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ تَطَرُّقَ الِاحْتِمَالِ فِي مَعَانِي الْكَلَامِ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ تَعَيُّنِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَذَلِكَ مِثْلُ تَشَابُهِ الذَّوَاتِ فِي عَدَمِ تَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: أُمُّ الْكِتابِ أُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ كَثِيرُهُ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ فُرُوعُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ خَرِيطَةُ الرَّأْسِ، الْجَامِعَةُ لَهُ: أُمَّ الرَّأْسِ وَهِيَ الدِّمَاغُ، وَسُمِّيَتِ الرَّايَةُ الْأُمَّ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَنْضَوِي إِلَيْهَا، وَسُمِّيَتِ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ أُمَّ الْقُرَى، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ حَقِيقَةً فِي الْوَالِدَةِ، وَهِيَ أَصْلٌ لِلْمَوْلُودِ وَجَامِعٌ لِلْأَوْلَادِ فِي الْحَضَانَةِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، أُطْلِقَ اسْمُ الْأُمِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ أُمَّ الْقُرْآنِ.
وَالْكتاب: الْقُرْآنُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: أُمُّ الْكِتابِ هُنَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْد: ٣٩].
وَقَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الْمُتَشَابِهَاتُ الْمُتَمَاثِلَاتُ، وَالتَّمَاثُلُ يَكُونُ فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيُبَيَّنُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وَجْهِ التَّمَاثُلِ، وَقَدْ يُتْرَكُ بَيَانُهُ إِذَا كَانَ وَجْهُ التَّمَاثُلِ ظَاهِرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: ٧٠] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جِهَةَ التَّشَابُهِ.
154
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ: إِلَى أنّ الْآيَات الْقُرْآنِ صِنْفَانِ: مُحْكَمَاتٌ وَأَضْدَادُهَا، الَّتِي سُمِّيَتْ مُتَشَابِهَاتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ أَضْدَادُ الْمُحْكَمَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بُقُولِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمرَان: ٧] أَيْ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لَا قِبَلَ لِأَمْثَالِهِمْ بِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحِ الْمَقْصُودُ مِنْ مَعَانِيهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ صِفَةَ الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ، رَاجِعَةٌ إِلَى أَلْفَاظِ الْآيَاتِ.
وَوَصَفَ الْمُحْكَمَاتِ بِأَنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأُمِّ الْأَصْلَ، أَوِ الْمَرْجِعَ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ: أَيْ هُنَّ أَصْلُ الْقُرْآنِ أَوْ مَرْجِعُهُ، وَلَيْسَ يُنَاسِبُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ إِلَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ إِذِ الْقُرْآنُ أُنْزِلَ لِلْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، فَالْمُحْكَمَاتُ هِيَ أُصُولُ الِاعْتِقَادِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْآدَابِ وَالْمَوَاعِظِ، وَكَانَتْ أُصُولًا لِذَلِكَ: بِاتِّضَاحِ دَلَالَتِهَا، بِحَيْثُ تَدُلُّ عَلَى
مَعَانٍ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهَا أَوْ تَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورة: ١١]- لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]- وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥]- وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: ٤٠]. وَبِاتِّضَاحِ مَعَانِيهَا بِحَيْثُ تَتَنَاوَلُهَا أَفْهَامُ مُعْظَمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا وَتَتَأَهَّلُ لِفَهْمِهَا فَهِيَ أَصْلُ الْقُرْآنِ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي حَمْلِ مَعَانِي غَيْرِهَا عَلَيْهَا لِلْبَيَانِ أَوِ التَّفْرِيعِ.
وَالْمُتَشَابِهَاتُ مُقَابِلُ الْمُحْكَمَاتِ، فَهِيَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ تَشَابَهَتْ فِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا هُوَ الْمُرَادَ. وَمَعْنَى تَشَابُهِهَا: أَنَّهَا تَشَابَهَتْ فِي صِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، أَيْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ. أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهَا صَادِقًا بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ أَوْ غَيْرِ مُنَاسِبَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مُرَادًا، فَلَا يَتَبَيَّنُ الْغَرَضُ مِنْهَا، فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِيمَا أَرَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَعْيِينِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ: مَرْجِعُهَا إِلَى تَعْيِينِ مِقْدَارِ الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥١] : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَالْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٢٣] : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَأَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَاتُ الَّتِي لَمْ تُبَيَّنْ كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّورِ.
155
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَمْ يُنْسَخْ وَالْمُتَشَابِهَ الْمَنْسُوخُ وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْوَصْفَيْنِ وَلَا لِبَقِيَّةِ الْآيَةِ.
وَعَنِ الْأَصَمِّ: الْمُحْكَمُ مَا اتَّضَحَ دَلِيلُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّدَبُّرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:
١١] فَأَوَّلُهَا مُحْكَمٌ وَآخِرُهَا مُتَشَابِهٌ.
وَلِلْجُمْهُورِ مَذْهَبَانِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اتَّضَحَتْ دَلَالَتُهُ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِمَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، مِنْ جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ، وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمُوَافَقَاتِ.
وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ الْوَاضِحُ الدَّلَالَةِ، وَالْمُتَشَابِهَ الْخَفِيُّهَا، وَإِلَيْهِ مَالَ الْفَخْرُ: فالنص وَالظَّاهِر هُنَا الْمُحْكَمُ، لِاتِّضَاحِ دَلَالَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَيِ الظَّاهِرُ يَتَطَرَّقُهُ احْتِمَالٌ
ضَعِيفٌ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ هُمَا الْمُتَشَابِهُ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي خَفَاءِ الدَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا: أَيِ الْمُؤَوَّلُ دَالًّا عَلَى مَعْنًى مَرْجُوحٍ، يُقَابِلُهُ مَعْنًى رَاجِحٌ، وَالْمُجْمَلُ دَالًّا على معنى مرجوع يُقَابله مرجوع آخَرُ، وَنُسِبَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ الشَّاطِبِيُّ: فَالتَّشَابُهُ: حَقِيقِيٌّ، وَإِضَافِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ: مَا لَا سَبِيلَ إِلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَالْإِضَافِيُّ: مَا اشْتَبَهُ مَعْنَاهُ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى مُرَاعَاةِ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإِذَا تَقَصَّى الْمُجْتَهِدُ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ وَجَدَ فِيهَا مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ، وَالتَّشَابُهُ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ قَلِيلٌ جِدًّا فِي الشَّرِيعَةِ وَبِالْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ كثير.
وَقد دلّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَدَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: ١] وَقَالَ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُس: ١] وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُحْكِمَ وَأُتْقِنَ فِي بَلَاغَتِهِ، كَمَا دَلَّتْ آيَاتٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: ٢٣] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَشَابَهَ فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَقِّيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ: لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالْإِحْكَامِ وَالتَّشَابُهِ فِي مَوَاضِعِهَا، بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَقَامَاتُ.
156
وَسَبَبُ وُقُوعِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ كَوْنُهُ دَعْوَةً، وَمَوْعِظَةً، وَتَعْلِيمًا، وَتَشْرِيعًا بَاقِيًا، وَمُعْجِزَةً، وَخُوطِبَ بِهِ قَوْمٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ عَهْدٌ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّشْرِيعِ، فَجَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ مُنَاسِبٍ لِجَمْعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بِحَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَادُوا الْأَسَالِيبَ التَّدْرِيسِيَّةَ، أَوِ الْأَمَالِيَ الْعِلْمِيَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هِجِّيرَاهُمُ الْخَطَابَةَ وَالْمُقَاوَلَةَ، فَأُسْلُوبُ الْمَوَاعِظِ وَالدَّعْوَةِ قَرِيبٌ مِنْ أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ، وَهُوَ لِذَلِكَ لَا يَأْتِي عَلَى أَسَالِيبِ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ لِلْعِلْمِ، أَوِ الْقَوَانِينِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّشْرِيعِ، فأودعت الْعُلُوم الْمَقْصُود مِنْهُ فِي تَضَاعِيفِ الْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ، وَكَذَلِكَ أُودِعَ فِيهِ التَّشْرِيعُ، فَلَا تَجِدُ أَحْكَامَ نَوْعٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، كَالْبَيْعِ، مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، بَلْ تَلْفِيهِ مُوَزَّعًا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ مَقَامَاتُ الْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ، لِيَخِفَّ تَلَقِّيهِ عَلَى السَّامِعِينَ، وَيَعْتَادُوا عِلْمَ مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ فِي أُسْلُوبٍ قَدْ أَلِفُوهُ فَكَانَتْ مُتَفَرِّقَةً يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بِالتَّدَبُّرِ. ثُمَّ إِنَّ إِلْقَاءَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ كَانَ فِي زمَان طَوِيلٍ، يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً، أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ بِمِقْدَارِ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ، وَتَحَمَّلَتْهُ مَقْدِرَتُهُمْ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ تَشْرِيعِهِ أُصُولٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَبَعْضَهُ فُرُوعٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهَا عَامًّا، أَوْ مُطْلَقًا، أَوْ مُجْمَلًا، وَبَعْضَهَا خَاصًّا، أَوْ مُقَيَّدًا، أَوْ مُبَيِّنًا، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ
الْمُجْتَهِدِينَ يَرَى تَخْصِيصَ عُمُومِ بَعْضِ عُمُومَاتِهِ بِخُصُوص بعض الخصوصات مَثَلًا، فَلَعَلَّ بَعْضًا مِنْهُمْ لَا يَتَمَسَّكُ إِلَّا بِعُمُومِهِ، حِينَئِذٍ، كَالَّذِي يَرَى الْخَاصَّ الْوَارِدَ بَعْدَ الْعَامِّ نَاسِخًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ التَّارِيخِ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلُومَ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا الْقُرْآنُ هِيَ مِنَ الْعُلُومِ الْعُلْيَا: وَهِيَ عُلُومٌ فِيمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ، وَعُلُومُ مَرَاتِبِ النُّفُوسِ، وَعُلُومُ النِّظَامِ الْعُمْرَانِيِّ، وَالْحِكْمَةِ، وَعُلُومُ الْحُقُوقِ. وَفِي ضِيقِ اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَنِ الْإِيفَاءِ بِغَايَاتِ الْمُرَادَاتِ فِي هَاتِهِ الْعُلُومِ، وَقُصُورِ حَالَةِ اسْتِعْدَادِ أَفْهَامِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ لَهَا، مَا أَوْجَبَ تَشَابُهًا فِي مَدْلُولَاتِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ: مِنْهُ إِعْجَازٌ نَظْمِيٌّ وَمِنْهُ إِعْجَازٌ عِلْمِيٌّ، وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ مِنَ الْإِعْجَازِ بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدَّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدَّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. فَلَمَّا تَعَرَّضَ الْقُرْآنُ إِلَى بَعْضِ دَلَائِلِ الْأَكْوَانِ وَخَصَائِصِهَا، فِيمَا تَعَرَّضَ إِلَيْهِ، جَاءَ بِهِ مَحْكِيًّا بِعِبَارَةٍ تَصْلُحُ لِحِكَايَةِ حَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَرُبَّمَا كَانَ إِدْرَاكُ كُنْهِ حَالَتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَجْهُولًا لِأَقْوَامٍ، فَيَعُدُّونَ تِلْكَ الْآيَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فَإِذَا جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا عَدَّهُ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ مُتَشَابِهًا مَا هُوَ إِلَّا مُحْكَمٌ.
157
عَلَى أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ شَرِيعَةً دَائِمَةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فَتْحَ أَبْوَابِ عِبَارَاتِهِ لِمُخْتَلِفِ اسْتِنْبَاطِ الْمُسْتَنْبِطِينَ، حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ أَحْكَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَثَانِيهِمَا تَعْوِيدُ حَمَلَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَعُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِالتَّنْقِيبِ، وَالْبَحْثِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْمَقَاصِدِ مِنْ عَوِيصَاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ طَبَقَاتُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ صَالِحَةً- فِي كُلِّ زَمَانٍ- لِفَهْمِ تَشْرِيعِ الشَّارِعِ وَمَقْصِدِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَلَوْ صِيغَ لَهُمُ التَّشْرِيعُ فِي أُسْلُوبٍ سَهْلِ التَّنَاوُلِ لَاعْتَادُوا الْعُكُوفَ عَلَى مَا بَيْنَ أَنْظَارِهِمْ فِي الْمُطَالَعَةِ الْوَاحِدَةِ. مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتْ صَلُوحِيَّةُ عِبَارَاتِهِ لِاخْتِلَافِ مَنَازِعِ الْمُجْتَهِدِينَ، قَائِمَةً مَقَامَ تَلَاحُقِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي تَدْوِينِ كُتُبِ الْعُلُومِ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْعُصُورِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَصْلَ السَّبَبِ فِي وُجُودِ مَا يُسَمَّى بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَبَقِيَ أَنْ نَذْكُرَ لَكَ مَرَاتِبَ التَّشَابُهِ وَتَفَاوُتَ أَسْبَابِهَا. وَأَنَّهَا فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا الْآنَ عَشْرُ مَرَاتِبَ:
أُولَاهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِيدَاعُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقُصِدَ إِجْمَالُهَا: إِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ الْبَشَرِ لِفَهْمِهَا، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ قُلْنَا بِوُجُودِ الْمُجْمَلِ، الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُهُ. وَإِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِمْ لِكُنْهِ فَهْمِهَا، فَأُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ أَوْ لِعَدَمِ
قَابِلِيَّةِ بَعْضِهِمْ فِي عَصْرٍ، أَوْ جِهَةٍ، لِفَهْمِهَا بِالْكُنْهِ وَمِنْ هَذَا أَحْوَالُ الْقِيَامَة، وَبَعض شؤون الرُّبُوبِيَّةِ كَالْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَثَانِيَتُهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِشْعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَتَعَيَّنَ إِجْمَالُهَا، مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى مَعَانٍ مَعْلُومَةٍ لَكِنْ بِتَأْوِيلَاتٍ: كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَنَحْوِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الْبَقَرَة: ٢٩] (١).
ثَالِثَتُهَا: مَعَانٍ عَالِيَةٌ ضَاقَتْ عَنْ إِيفَاءِ كُنْهِهَا اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفُ أَهْلِهَا، فَعُبِّرَ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُ مَعَانِيَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ، وَهَذَا مِثْلُ أَكْثَرِ صِفَاتِ الله نَحْو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نور السَّمَوَات وَالْأَرْضِ.
_________
(١) لَعَلَّ لفعل اسْتَوَى خُصُوصِيَّة فِي اللُّغَة أدْركهَا أهل اللِّسَان يَوْمئِذٍ كَانَ بهَا أَجْدَر بِالدّلَالَةِ على معنى تمكن الْخَالِق من مخلوقه وَلذَلِك اختير فِي الْآيَتَيْنِ دون فعل غلب أَو تمكن.
158
رَابِعَتُهَا: مَعَانٍ قَصُرَتْ عَنْهَا الْأَفْهَامُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْعُصُورِ، وَأُودِعَتْ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ وُجُودُهَا مُعْجِزَةً قُرْآنِيَّةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُصُورٍ قَدْ يَضْعُفُ فِيهَا إِدْرَاكُ الْإِعْجَازِ النَّظْمِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحجر: ٢٢] يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: ٥] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْل: ٨٨] تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٠] زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: ٣٥] وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: ٧] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت:
١١] وَذِكْرُ سَدِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ (١).
خَامِسَتُهَا: مَجَازَاتٌ وَكِنَايَاتٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَهَا أَوْهَمَ مَعَانِيَ لَا يَلِيقُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى: لِإِشْعَارِهَا بِصِفَاتٍ تُخَالِفُ كَمَالَ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوَقَّفَ فَرِيقٌ فِي مَحْمَلِهَا تَنْزِيهًا، نَحْوَ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٢٧] (٢).
وَسَادِسَتُهَا: أَلْفَاظٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ لَمْ تُعْرَفْ لَدَى الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمْ: قُرَيْشٍ
وَالْأَنْصَارِ مِثْلَ: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: ٣١] وَمِثْلَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النَّحْل: ٤٧] (٣) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَة: ١١٤] وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: ٣٦] (٤).
سَابِعَتُهَا: مُصْطَلَحَاتٌ شَرْعِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِخُصُوصِهَا، فَمَا اشْتَهَرَ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعْنَاهُ، صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً: كَالتَّيَمُّمِ، وَالزَّكَاةِ، وَمَا لَمْ يَشْتَهِرْ بَقِيَ فِيهِ إِجْمَالٌ:
كَالرِّبَا قَالَ عُمَرُ: «نَزَلَتْ آيَاتُ الرِّبَا فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ فَتُوُفِّيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ثَامِنَتُهَا: أَسَالِيبُ عَرَبِيَّةٌ خَفِيَتْ عَلَى أَقْوَامٍ فَظَنُّوا الْكَلَامَ بِهَا مُتَشَابِهًا، وَهَذَا مِثْلَ زِيَادَةِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] وَمِثْلَ الْمُشَاكَلَةِ فِي قَوْلِهِ:
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاء: ١٤٢]
_________
(١) هَذِه الْآيَات دلّت على معَان عَظِيمَة كشفتها الْعُلُوم الطبيعية والرياضية والتاريخية والجغرافية وتفصيلها يحْتَاج إِلَى تَطْوِيل.
(٢) إِذْ تطلق الْعين على الْحِفْظ والعناية قَالَ النَّابِغَة- عهدتك ترعاني بِعَين بَصِيرَة- وَتطلق الْيَد على الْقُدْرَة وَالْقُوَّة قَالَ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ. وَيُطلق الْوَجْه على الذَّات تَقول: فعلته لوجه زيد.
(٣) رُوِيَ أَن عمر قَرَأَ على الْمِنْبَر أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَقَالَ: مَا تَقولُونَ فِي التخوف فَقَامَ شيخ من هُذَيْل فَقَالَ: هَذِه لغتنا، التخوف التنقص فَقَالَ عمر: هَل تعرف الْعَرَب ذَلِك فِي أشعارها قَالَ:
نعم قَول أبي بكر يصف نَاقَته- تخوف الرجل مِنْهَا تامكا قردا- كَمَا تخوف عود النبعة السفن.
(٤) عَن ابْن عَبَّاس: لَا أَدْرِي مَا الأواه وَمَا الغسلين.
159
فَيَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ إِسْنَادَ خَادِعُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِسْنَادٌ بِمَعْنًى مَجَازِيٍّ اقْتَضَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ.
وَتَاسِعَتُهَا: آيَاتٌ جَاءَتْ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ، فَفَهِمَهَا الْمُخَاطَبُونَ، وَجَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوهَا، فَظَنُّوهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: ١٥٨]، فِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ- وَكُنْتُ يَوْمَئِذٍ حَدَثًا لَمْ أَتَفَقَّهْ- لَا أَرَى بَأْسًا عَلَى أَحَدٍ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» فَقَالَتْ لَهُ: «لَيْسَ كَمَا قُلْتَ إِنَّمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ» إِلَخْ. وَمِنْهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٧] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [الْمَائِدَة: ٩٣] الْآيَةَ فَإِنَّ الْمُرَادَ فِيمَا شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا.
عَاشِرَتُهَا: أَفْهَامٌ ضَعِيفَةٌ عَدَّتْ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَمَا هُوَ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَفْهَامُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَفْهَامُ الْمُشَبِّهَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الْقَلَم: ٤٢].
وَلَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِأَنَّا لَا نَصِلُ إِلَى عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ:
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥] وَلَا مَا صُرِّحَ فِيهِ بِجَهْلِ وَقْتِهِ كَقَوْلِهِ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف:
١٨٧].
وَلَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى يُعَارِضُ الْحَمْلَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ، مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، أَوْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٦٤] مَعَ مَا فِي الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: ٧] إِنَّه لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
وَقَدْ عَلِمْتُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ مِلَاكَ التَّشَابُهِ هُوَ عَدَمُ التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْمَعَانِي وَاللُّغَةِ: إِمَّا لِضِيقِهَا عَنِ الْمَعَانِي، وَإِمَّا لِضِيقِ الْأَفْهَامِ عَنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ فِي الْمَعْنَى، وَإِمَّا لِتَنَاسِي بَعْضِ اللُّغَةِ، فَيَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ الْإِحْكَامَ وَالتَّشَابُهَ: صِفَتَانِ لِلْأَلْفَاظِ، بِاعْتِبَارِ فَهْمِ الْمَعَانِي.
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ضَمِيرِ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ، بَاسِمٍ مُفْرَدٍ لَيْسَ دَالًّا عَلَى أَجْزَاءٍ وَهُوَ أُمُّ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صِنْفَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ يَتَنَزَّلُ مِنَ الْكِتَابِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ أَيْ أَصْلِهِ وَمَرْجِعِهِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَمَقَاصِدِهِ. وَالْمَعْنَى: هُنَّ
160
كَأُمٍّ لِلْكِتَابِ.
وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ أُمٌّ لِلْكِتَابِ فِي مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَعْنَى. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ يَذْكُرُ بَنِي أَسَدٍ:
فَهُمْ دِرْعِي الَّتِي اسْتَلْأَمْتُ فِيهَا أَيْ مَجْمُوعُهُمْ كَالدِّرْعِ لِي، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ بِمَنْزِلَةِ حَلْقَةٍ مِنْ حِلَقِ الدِّرْعِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: ٧٤].
وَالْكَلَامُ عَلَى (أُخَرُ) تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: ١٨٤].
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.
تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالٍ اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَسَّمَ الْكِتَابَ إِلَى مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، وَكَانَ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي، تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَلَقِّي النَّاسِ لِلْمُتَشَابِهِ. أَمَّا الْمُحْكَمُ فَتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَاقْتَصَرَ فِي التَّفْصِيلِ عَلَى ذِكْرِ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِهِ: وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ كَيْفَ تَلَقِّيهِمْ لِلْمُتَشَابِهَاتِ لِأَنَّ بَيَانَ هَذَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ كَشْفُ شُبْهَةِ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْمُتَشَابِهَاتُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِّ تَأْوِيلِهَا، وَيُعْرَفُ حَالُ قَسِيمِهِمْ وَهُمُ
الَّذِينَ لَا زَيْغَ فِي قُلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ ثُمَّ سَيُصَرِّحُ بِإِجْمَالٍ حَالَ الْمُهْتَدِينَ فِي تلقّي ومتشبهات الْقُرْآنِ.
وَالْقُلُوبُ مَحَالُّ الْإِدْرَاكِ، وَهِيَ الْعُقُولُ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٣].
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الْمَقْصُودِ: مَا زاغَ الْبَصَرُ [النَّجْم: ١٧] وَيُقَالُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ. فَالزَّيْغُ أَخَصُّ مِنَ الْمَيْلِ لِأَنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الصَّوَابِ وَالْمَقْصُودِ.
وَالِاتِّبَاعُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُعَاوَدَةِ، أَيْ يَعْكُفُونَ عَلَى الْخَوْضِ فِي الْمُتَشَابِهِ، يُحْصُونَهُ، شُبِّهَتْ تِلْكَ الْمُلَازَمَةُ بِمُلَازَمَةِ التَّابِعِ مَتْبُوعَهُ.
161
وَقَدْ ذَكَرَ عِلَّةَ الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِتْنَةِ، وَطَلَبُ أَنْ يُؤَوِّلُوهُ، وَلَيْسَ طَلَبُ تَأْوِيلِهِ فِي ذَاتِهِ بِمَذَمَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَإِنَّمَا مَحَلُّ الذَّمِّ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَأْوِيلًا لَيْسُوا أَهْلًا لَهُ فَيُؤَوِّلُونَهُ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. وَهَذَا دَيْدَنُ الْمَلَاحِدَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ: الَّذِينَ يَتَعَمَّدُونَ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ تَكْثِيرًا لِسَوَادِهِمْ.
وَلَمَّا وَصَفَ أَصْحَابَ هَذَا الْمَقْصِدِ بِالزَّيْغِ فِي قُلُوبِهِمْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ ذَمَّهُمْ بِذَلِكَ لِهَذَا الْمَقْصِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ اشْتِغَالٍ بِالْمُتَشَابِهِ إِذَا كَانَ مُفْضِيًا إِلَى هَذَا الْمَقْصِدِ يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ. فَالَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَالزَّنَادِقَةُ، وَالْمُشْرِكُونَ مِثَالُ تَأْوِيلِ الْمُشْرِكِينَ: قِصَّةُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ- إِذْ جَاءَهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ- مِنَ الْمُسْلِمِينَ- يَتَقَاضَاهُ أَجْرًا، فَقَالَ الْعَاصِي- مُتَهَكِّمًا بِهِ- «وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ- أَيْ حَسَبَ اعْتِقَادِكُمْ- فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ» فَالْعَاصِي تَوَهَّمَ، أَوْ أَرَادَ الْإِيهَامَ، أَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ رُجُوعٌ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُوهِمَ دَهْمَاءَ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى تَكْذِيبِ الْخَبَرِ بِالْبَعْثِ، بِمُشَاهَدَةِ عَدَمِ رُجُوعِ أَحَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ: فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الدُّخان: ٣٦].
وَمِثَالُ تَأْوِيلِ الزَّنَادِقَةِ: مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليّ بن رزام الطَّائِيُّ الْكُوفِيُّ قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ حِينَ كَانَ الْجَنَّابِيُّ- زَعِيمُ الْقَرَامِطَةِ- بِمَكَّةَ، وَهُمْ يَقْتُلُونَ الْحُجَّاجَ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ قد قَالَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ الْمَكِّيُّ «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا فَأَيُّ أَمْنٍ هُنَا؟» قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا خَرَجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَة: ٢٢٨]. وَالَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلُّ قَوْمٍ يَجْعَلُونَ الْبَحْثَ فِي الْمُتَشَابِهِ دَيْدَنَهُمْ،
وَيُفْضُونَ بِذَلِكَ إِلَى خِلَافَاتٍ وَتَعَصُّبَاتٍ. وَكُلُّ مَنْ يَتَأَوَّلُ الْمُتَشَابِهَ عَلَى هَوَاهُ، بِغَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى تَأْوِيلِهِ مُسْتَنِدٌ إِلَى دَلِيلٍ وَاسْتِعْمَال عَرَبِيٍّ.
وَقَدْ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ: التَّأْوِيلُ بِحَسَبِ الْهَوَى، أَوِ التَّأْوِيلُ الْمُلْقِي فِي الْفِتْنَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الْآيَةَ، كَمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَتَّبِعُونَ أَنَّهُمْ يَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَهْتِرُونَ بِهِ، وَهَذَا مِلَاكُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَال من يتيع الْمُتَشَابِهَ لِلْإِيقَاعِ فِي الشَّكِّ وَالْإِلْحَادِ، وَبَيْنَ حَالِ مَنْ يُفَسِّرُ الْمُتَشَابِهَ وَيُؤَوِّلُهُ
162
إِذَا دَعَاهُ دَاعٍ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ» قَالَ: مَا هُوَ- قَالَ: «فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ» - وَقَالَ- «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ» وَقَالَ: «وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» وَقَالَ: «قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى ثُمَّ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ أقبل بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٢٣] فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُلْ:
«مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفَوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا»
.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى قَوْله:
أُولُوا الْأَلْبابِ [الْبَقَرَة: ٢٦٩]- قَالَتْ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»

. وَيُقْصَدُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِنَصَارَى نَجْرَانَ، إِذْ أَلْزَمُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لِكَوْنِ اللَّهِ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ بِمَا يَقَعُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ نَحْوِ خَلَقْنَا وَأَمَرْنَا وَقَضَيْنَا، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الضَّمِيرَ لَهُ وَعِيسَى وَمَرْيَمَ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا- إِنْ صَحَّ عَنْهُمْ- هُوَ تَمْوِيهٌ إِذْ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ فِي ذَلِكَ الضَّمِيرِ طَرِيقَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ إِمَّا إِرَادَةَ التَّشْرِيكِ أَوْ إِرَادَةَ التَّعْظِيمِ فَمَا أَرَادُوا مِنِ اسْتِدْلَالِهِمْ هَذَا إِلَّا التَّمْوِيهَ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
جُمْلَةُ حَالٍ أَيْ وَهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ إِذْ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ لِأَمْثَالِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرَجِي».
وَمِنْ هُنَا أَمْسَكَ السَّلَفُ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ، غَيْرِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّشْرِيعِ، فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
163
بِمَا لَا أَعْلَمُ». وَجَاءَ فِي زَمَنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ صَبِيغُ بْنُ شَرِيكٍ أَوِ ابْنُ عَسَلٍ التَّمِيمِيُّ (١) فَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ أَشْيَاءَ فَأَحْضَرَهُ عُمَرُ، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ أَيَّامًا، فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ ذَهَبَ مَا كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي» ثُمَّ أَرْجَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَأَوَّلَ عِنْدَ عُرُوضِ الشُّبْهَةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ» - «مِنَ الْكَائِدِينَ لِلْإِسْلَامِ الْبَاطِنِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ». قُلْتُ: أَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا مُعْظَمَ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا، وَتَأَوَّلُوهُ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، وَأَمَّا الظَّاهِرِيُّونَ فَقَدْ أَكْثَرُوا فِي مُتَشَابِهِهِ، وَاعْتَقَدُوا سَبَبَ التَّشَابُهِ وَاقِعًا، فَالْأَوَّلُونَ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَالْأَخِيرُونَ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَوْ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَخَالَفُوا الْخَلَفَ وَالسَّلَفَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- «فِي الْعَوَاصِمِ» - «وَأَصْلُ الظَّاهِرِيِّينَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ» يَعْنِي أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهُ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: الَّذِينَ تَمَكَّنُوا فِي عِلْمِ الْكِتَابِ، وَمَعْرِفَةِ مَحَامِلِهِ، وَقَامَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ عَلَيْهِمُ الشُّبَهُ. وَالرُّسُوخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ، يُقَالُ: رَسَخَتِ الْقَدَمُ تَرْسَخُ رُسُوخًا إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَ الْمَشْيِ وَلَمْ تَتَزَلْزَلْ، وَاسْتُعِيرَ الرُّسُوخُ لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تُضَلِّلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَتَطَرَّقُهُ الْأَخْطَاءُ غَالِبًا، وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: الثَّابِتُونَ فِيهِ الْعَارِفُونَ بِدَقَائِقِهِ، فَهُمْ يُحْسِنُونَ مَوَاقِعَ التَّأْوِيلِ، وَيَعْلَمُونَهُ.
وَلِذَا فَقَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَفِي هَذَا الْعَطْفِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ: كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمرَان: ١٨] وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ فَوْرَكٍ، وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ اسْتَأْثَرَ
_________
(١) صبيغ بصاد مُهْملَة وباء مُوَحدَة وتحتية وغين مُعْجمَة بِوَزْن أَمِير- وَعسل- بِعَين مُهْملَة مَكْسُورَة وسين مُهْملَة سَاكِنة.
164
اللَّهُ بِعِلْمِهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَضِيلَةً. وَوَصَفَهُمْ بِالرُّسُوخِ، فَآذَنَ بِأَنَّ لَهُمْ مَزِيَّةً فِي فَهْمِ الْمُتَشَابِهِ: لِأَنَّ الْمُحْكَمَ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ الْكَلَامَ، فَفِي أَيِّ شَيْءٍ رُسُوخُهُمْ، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ: «أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ».
وَقِيلَ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ جُمْلَةَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٍّ، وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ، وَقَالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الدِّينِ.
وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَصْفُهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أُثْبِتَ لِهَذَا الْفَرِيقِ، هُوَ حُكْمٌ مِنْ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ فِي الْمُعْضِلَاتِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعَطْفِ هُوَ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَيَكُونُ الرَّاسِخُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَدْخُلُونَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ. وَلَوْ كَانَ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأً وَجُمْلَة: «يَقُولُونَ ءامنّا بِهِ» خَبَرًا، لَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْخَبَرِ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا زَيْغَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ الرَّاسِخِينَ فَائِدَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «تَسْمِيَتُهُمْ رَاسِخِينَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيع من يفهم كَلَام الْعَرَب، وَفِي أيّ شَيْء هُوَ رسوخهم إِذا لم يعلمُوا إلّا مَا يُعلمهُ الْجَمِيعُ وَمَا الرُّسُوخُ إِلَّا الْمَعْرِفَةُ بِتَصَارِيفِ الْكَلَامِ بِقَرِيحَةٍ مُعَدَّةٍ» وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّة لَا يعد وَأَن يَكُونَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَلَيْسَ إِبْطَالًا لِمُقَابِلِهِ إِذْ قَدْ يُوصَفُ بِالرُّسُوخِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَسْتَقِيمُ تَأْوِيلُهُ، وَمَا لَا مَطْمَعَ فِي تَأْوِيلِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي، وَهُوَ رَأْيُ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ: بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ (وَالرَّاسِخُونَ) مُسْتَأْنَفَةً لِتَكُونَ مُعَادِلًا لِجُمْلَةِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَأَجَابَ التَّفْتَازَانِيُّ بِأَنَّ الْمُعَادِلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا، بَلْ قَدْ يُحْذَفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
165
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا قَالَ الْفَخْرُ: لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ إِذِ
الْإِيمَانُ بِمَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ أَمْرٌ غَيْرُ غَرِيبٍ وَسَنُجِيبُ عَنْ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَذَكَرَ الْفَخر حجَجًا أخر غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا غَيْرَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَأَنَّ خَفَاءَ الْمُرَادِ مُتَفَاوِتٌ، وَأَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الثَّانِي يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاوِتٌ لِأَنَّ مِنْهُ مَا يَقْبَلُ تَأْوِيلَاتٍ قَرِيبَةً، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَلَّا يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، لَكِنَّ صَنِيعَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَأْوِيلِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ سَهْلٍ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسُدُّونَ بَابَ التَّأْوِيلِ فِي الْمُتَشَابِهِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ «إِنَّ تَأْوِيلَ مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ- عَلَى الِاسْتِيفَاءِ- إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ قَالَ، مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ: بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ، وَخَافُوا أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الرَّاسِخِينَ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ عَلَى الْكَمَالِ».
وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ انْبَنَى اخْتِلَافٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي تَأْوِيلِ مَا كَانَ مُتَشَابِهًا: مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ، عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَكَانَ رَأْيُ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِهَا، عَلَى إِبْهَامِهَا وَإِجْمَالِهَا، وَتَفْوِيضَ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَلَفِ عُلَمَائِنَا، قَبْلَ ظُهُورِ شُكُوكِ الْمُلْحِدِينَ أَوِ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَذَلِكَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَعْضِ عَصْرِ تَابِعِيهِمْ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَيَقُولُونَ: طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، أَيْ أَشَدُّ سَلَامَةً لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَأَوَّلُوا تَأْوِيلَاتٍ لَا يُدْرَى مَدَى مَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَتَّسِقُ مَعَ مَا شَرَعَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الشَّرَائِعِ، مَعَ مَا رَأَوْا مِنِ اقْتِنَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ بِطَرِيقَتِهِمْ، وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي طَلَبِ التَّأْوِيلِ.
وَكَانَ رَأْيُ جُمْهُورِ مَنْ جَاءَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ تَأْوِيلَهَا بِمَعَانٍ مِنْ طَرَائِقِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مِنْ مَجَازٍ، وَاسْتِعَارَةٍ، وَتَمْثِيلٍ، مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ تَعَطُّشُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ اعْتَادُوا التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ وَفَهْمَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِطَرِيقَةِ الْخَلَفِ، وَيَقُولُونَ: طَريقَة الْخلف أَعم، أَيْ أَنْسَبُ بِقَوَاعِدِ
166
الْعِلْمِ وَأَقْوَى فِي تَحْصِيل الْعلم الْقَاطِع لِجِدَالِ الْمُلْحِدِينَ، وَالْمَقْنَعِ لِمَنْ يَتَطَلَّبُونَ الْحَقَائِقَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَقَدْ يَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا أَحْكَمُ أَيْ أَشَدُّ إِحْكَامًا لِأَنَّهَا تُقْنِعُ أَصْحَابَ الْأَغْرَاضِ كُلَّهُمْ. وَقَدْ وَقَعَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ أوّل من صَدرا
عَنْهُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- فِي «الْعَقِيدَةِ الْحَمَوِيَّةِ» - إِلَى رَدِّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَمْ يَنْسُبْهُمَا إِلَى قَائِلٍ. وَالْمَوْصُوفُ بِأَسْلَمَ وَبِأَعْلَمَ الطَّرِيقَةُ لَا أَهْلُهَا فَإِنَّ أَهْلَ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ، وَمِمَّنْ سَلِمُوا فِي دِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ.
وَلَيْسَ فِي وَصْفِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، بِأَنَّهَا أَعْلَمُ أَوْ أَحْكَمُ، غَضَاضَةٌ مِنَ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْعُصُورَ الَّذِينَ دَرَجُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى، فِيهِمْ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ مَحَامِلُهَا بِسَبَبِ ذَوْقِهِمُ الْعَرَبِيِّ، وَهَدْيِهِمُ النَّبَوِيِّ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعِيرُ الْبَحْثَ عَنْهَا جَانِبًا مِنْ هِمَّتِهِ، مِثْلَ سَائِرِ الْعَامَّةِ. فَلَا جَرَمَ كَانَ طَيُّ الْبَحْثِ عَنْ تَفْصِيلِهَا أَسْلَمَ لِلْعُمُومِ، وَكَانَ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَعْلَمَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُؤَوِّلُوهَا بِهِ لَأَوْسَعُوا، لِلْمُتَطَلِّعِينَ إِلَى بَيَانِهَا، مَجَالًا لِلشَّكِّ أَوِ الْإِلْحَادِ، أَوْ ضِيقِ الصَّدْرِ فِي الِاعْتِقَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ مِنْهُ مَا هُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ الْمُتَشَابِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ يُعَادِلُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ الْمَشْهُورَيْنِ لِأَجْلِ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْهُ. فَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ التَّأْوِيلِ حَقِيقٌ بِأَلَّا يُسَمَّى تَأْوِيلًا وَلَيْسَ أَحَدُ مَحْمَلَيْهِ بِأَقْوَى مِنَ الْآخَرِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ فِي الْوَضْعِ مِنَ الْآخَرِ، وَالْمَحْمَلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ سَبْقُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِمُقْتَضٍ تَرْجِيحَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَمْ مِنْ إِطْلَاقٍ مَجَازِيٍّ لِلَفْظٍ هُوَ أَسْبَقُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ إِطْلَاقِهِ الْحَقِيقِيِّ. وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَجَازِ بِمَقْبُولٍ عَلَى عُمُومِهِ.
وَتَسْمِيَةُ هَذَا النَّوْعِ بِالْمُتَشَابِهِ لَيْسَتْ مُرَادَةً فِي الْآيَةِ. وَعَدُّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ جُمُودٌ.
وَمِنَ التَّأْوِيلِ مَا ظَاهِرُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ أَشْهَرُ مِنْ مَعْنَى تَأْوِيلِهِ وَلَكِنَّ الْقَرَائِنَ أَوِ الْأَدِلَّةَ أَوْجَبَتْ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ فَهَذَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ.
ثُمَّ إِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِهِ قَدْ يَتَيَسَّرُ بِمَعْنًى مُسْتَقِيمٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الْمُرَادُ إِذَا جَرَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ مُسْتَعْمَلَاتِهِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِثْلَ الْأَيْدِي وَالْأَعْيُنِ فِي
167
قَوْلِهِ: بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] وَقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] فَمَنْ أَخَذُوا مِنْ مِثْلِهِ أَنَّ لِلَّهِ أَعْيُنًا لَا يُعْرَفُ كُنْهُهَا، أَوْ لَهُ يَدًا لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا، فَقَدْ زَادُوا فِي قُوَّةِ الِاشْتِبَاهِ.
وَمِنْهُ مَا يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُ احْتِمَالًا وَتَجْوِيزًا بِأَنْ يَكُونَ الصَّرْفُ عَنِ الظَّاهِرِ مُتَعَيِّنًا وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مَا أَوَّلُوهُ بِهِ فَعَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ وَالْمِثَالِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] وَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الْبَقَرَة:
٢١٠] فَمِثْلُ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ تَأْوِيلِهِ وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ، أَنَّ مَا أَوَّلَهُ بِهِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ وَجْهٌ تَابِعٌ لِإِمْكَانِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا النَّوْعُ أَشَدُّ مَوَاقِعِ التَّشَابُهِ وَالتَّأْوِيلِ.
وَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ: أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ جَاءَ عَلَى أَبْلَغِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ فِي مَقَامٍ يَسَعُ طَائِفَتَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ.
وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالٌ مِنَ (الرَّاسِخُونَ) أَيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الْكِنَايَةَ عَنِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُعْتَقِدِ أَنْ يَقُولَ مُعْتَقَدَهُ، أَيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَهْجِسُ فِي نُفُوسِهِمْ شَكٌّ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَقُولُوا: لماذَا لم يجىء الْكَلَامُ كُلُّهُ وَاضِحًا، وَيَتَطَرَّقُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الرِّيبَةِ فِي كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ يَقُولُونَ لِغَيْرِهِمْ: أَيْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الرُّسُوخِ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِدْرَاكِ تَأْوِيلِهِ، لِيُعَلِّمُوهُمُ الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ الْإِيمَانِ، وَعَدَمَ التَّطَلُّعِ إِلَى مَا لَيْسَ فِي الْإِمْكَان، وَهَذَا يَقْرُبُ مِمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ مُدْرَكِهِ لِلْعَامِّيِّ، إِذَا سَأَلَهُ عَنْ مَأْخَذِ الْحُكْمِ، إِذَا كَانَ الْمُدْرَكُ خَفِيًّا. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِ الْفَخْرِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِتَرْجِيحِ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَعَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ: يَقُولُونَ خَبرا، وَقَوْلهمْ: آمَنَّا بِهِ آمَنَّا بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ نَفْهَمْ مَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أَيْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ. وَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بَيَانٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ، فَلِذَلِكَ قُطِعَتِ الْجُمْلَةُ. أَيْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ.
168
وَزِيدَتْ كَلِمَةُ (عِنْدَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مِنْ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ دُونَ الْمَجَازِيِّ، أَيْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ، وَلَيْسَ كَقَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: ١٩٧].
وَجُمْلَةُ وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ تَذْيِيلٌ، لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ، مَسُوقٌ مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي اهْتِدَائِهِمْ إِلَى صَحِيحِ الْفَهْمِ.
وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٩٧].
[٨، ٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
دُعَاءٌ علّمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ: لِأَنَّ الْمَوْقِعَ الْمَحْكِيَّ مَوْقِعُ عِبْرَةٍ وَمَثَارٍ لِهَوَاجِسِ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ الْمَصِيرِ إِلَى حَالِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَمَا هُمْ إِلَّا مِنْ عُقَلَاءِ الْبَشَرِ، لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَا فِي سَلَامَةِ الْعُقُولِ وَالْمَشَاعِرِ، فَمَا كَانَ ضلالهم إلّا عَن حِرْمَانِهِمُ التَّوْفِيقَ، وَاللُّطْفَ، وَوَسَائِلَ الِاهْتِدَاءِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمرَان: ٧] الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا قُصِدَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهًا، إِيقَاظَ الْأُمَّةِ إِلَى ذَلِكَ لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَدَبُّرِ كِتَابِهَا: تَحْذِيرًا لَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ، الَّذِي أَوْقَعَ الْأُمَمَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ وُجُودُ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي كُتُبِهَا، وَتَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنِ اتِّبَاعِ الْبَوَارِقِ الْبَاطِلَةِ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنَ الرِّدَّةِ وَالْعِصْيَانِ، بَعْدَ وَفَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِتَوَهُّمِ أَنَّ التَّدَيُّنَ بِالدِّينِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ وُجُودِ الرَّسُولِ بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي صَلَاتِهِ مُدَّةَ ارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَصَلَّيْتُ
169
وَرَاءَهُ الْمَغْرِبَ فَقَامَ فِي الثَّالِثَةِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَادُ تَمَسُّ ثِيَابَهُ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْآيَةِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا الْآيَةَ.
فَزَيْغُ الْقَلْبِ يَتَسَبَّبُ عَنْ عَوَارِضَ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ: مِنْ خَلَلٍ فِي ذَاتِهِ، أَوْ دَوَاعٍ مِنَ الْخُلْطَةِ أَوِ الشَّهْوَةِ، أَوْ ضَعْفِ الْإِرَادَةِ، تَحَوَّلُ بِالنَّفْسِ عَنِ الْفَضَائِلِ الْمُتَحَلِّيَةِ بِهَا إِلَى رَذَائِلَ كَانَتْ تَهْجِسُ بِالنَّفْسِ فَتَذُودُهَا النَّفْسُ عَنْهَا بِمَا اسْتَقَرَّ فِي النَّفْسِ مِنْ تَعَالِيمِ الْخَيْرِ الْمُسَمَّاةِ بِالْهُدَى، وَلَا يَدْرِي الْمُؤْمِنُ، وَلَا الْعَاقِلُ، وَلَا الْحَكِيمُ، وَلَا الْمُهَذَّبُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ تَحُلُّ فِيهَا بِهِ أَسْبَابُ الشَّقَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَدْرِي الشَّقِيُّ، وَلَا الْمُنْهَمِكُ، الْأَفِنُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ تَحُفُّ فِيهَا بِهِ أَسْبَابُ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ تَغَيُّرِ خَلْقٍ، أَوْ خُلُقٍ، أَوْ تَبَدُّلِ خَلِيطٍ، قَالَ تَعَالَى:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَام: ١١٠] وَلِذَا كَانَ دَأْبُ الْقُرْآنِ قَرْنَ الثَّنَاءِ بِالتَّحْذِيرِ، وَالْبِشَارَةِ بِالْإِنْذَارِ.
وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا تَحْقِيقٌ لِلدَّعْوَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ إِذْ أَسْنَدُوا الْهُدَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ كَرَمًا مِنْهُ، وَلَا يَرْجِعُ الْكَرِيمُ فِي عَطِيَّتِهِ، وَقَدِ استعاذ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
السَّلْبِ بَعْدَ الْعَطَاءِ.
وَإِذ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي مُتَصَرِّفٌ، وَهِيَ هُنَا مُتَصَرِّفَةٌ تَصَرُّفًا قَلِيلًا لِأَنَّهَا لَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ، كَانَتْ فِي معنى الظروف، وَلَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ كَانَتْ فِيهَا شَائِبَةُ تَصَرُّفٍ، كَمَا هِيَ فِي يَوْمَئِذٍ وَحِينَئِذٍ، أَيْ بَعْدَ زَمَنِ هِدَايَتِكَ إِيَّانَا.
وَقَوْلُهُ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً طَلَبُوا أَثَرَ الدَّوَامِ عَلَى الْهُدَى وَهُوَ الرَّحْمَةُ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْعَ دَوَاعِي الزَّيْغِ وَالشَّرِّ. وَجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ تَيْسِيرَ أَسْبَابِهَا، وَتَكْوِينَ مُهَيِّئَاتِهَا، بِتَقْدِيرِ اللَّهِ إِذْ لَوْ شَاءَ لَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَرَّضًا لِنُزُولِ الْمَصَائِبِ وَالشُّرُورِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِمَوْجُودَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَيَّةٍ وَغَيْرِ حَيَّةٍ، هُوَ تِلْقَاءَهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِهِ بِإِيقَاظِ عَقْلِهِ لِاتِّقَاءِ الْحَوَادِثِ، وَبِإِرْشَادِهِ لِاجْتِنَابِ أَفْعَالِ الشُّرُورِ الْمُهْلِكَةِ، وَبِإِلْهَامِهِ إِلَى مَا فِيهِ نَفْعُهُ، وَبِجَعْلِ تِلْكَ الْقُوَى الْغَالِبَةِ لَهُ قُوَى عَمْيَاءَ لَا تَهْتَدِي سَبِيلًا إِلَى قَصْدِهِ، وَلَا تُصَادِفُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: ١٩] وَمِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ اللُّطْفِ أَحْوَالُ الِاضْطِرَارِ وَالِالْتِجَاءِ وَقَدْ كُنْتُ قُلْتُ كَلِمَةَ «اللُّطْفُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ».
170
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَجْلِ كَمَالِ الصِّفَةِ فِيهِ تَعَالَى لِأَنَّ هِبَاتِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا أَفَاضَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ شَيْءٌ لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَة تَأْكِيد بإنّ، وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَبِطَرِيقِ الْقَصْرِ.
وَقَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ اسْتَحْضَرُوا عِنْدَ طَلَبِ الرَّحْمَةِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَوْمُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ سَبَبًا لِلْفَوْزِ الْأَبَدِيِّ، فَأَعْقَبُوا بِذِكْرِ هَذَا الْيَوْمِ دُعَاءَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وَخَاصَّةً يَوْمَ تَجَمُّعِ النَّاسِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إِبْرَاهِيم: ٤١] عَلَى مَا فِي تَذَكُّرِ يَوْمِ الْجَمْعِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْغُوَاةِ وَالْمُهْتَدِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ.
وَمَعْنَى لَا رَيْبَ فِيهِ لَا رَيْبَ فِيهِ جَدِيرًا بِالْوُقُوعِ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ الرَّيْبِ فِي وُقُوعِهِ.
وَنَفَوْهُ عَلَى طَرِيقَةِ نَفْيِ الْجِنْسِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِارْتِيَابِ الْمُرْتَابِينَ، هَذَا إِذَا جَعَلْتَ (فِيهِ) خَبَرًا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ صِفَةً لِرَيْبٍ وَتَجْعَلَ الْخَبَرَ مَحْذُوفًا عَلَى طَرِيقَةِ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ، فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: عِنْدَنَا، أَوْ لَنَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ الرَّيْبِ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ بِجَمْعِ النَّاسِ لَهُ، فَلَا يُخْلِفُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ، وَالْمِيعَادُ هُنَا اسْم مَكَان.
[١٠، ١١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
اسْتِئْنَاف كَلَام ناشيء عَنْ حِكَايَةِ مَا دَعَا بِهِ الْمُؤْمِنُونَ: مِنْ دَوَامِ الْهِدَايَةِ، وَسُؤَالِ الرَّحْمَةِ، وَانْتِظَارِ الْفَوْزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِذِكْرِ حَالِ الْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ. وَتَعْقِيبُ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، بِذِكْرِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ،
171
إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ دَعْوَتَهُمُ استجيبت. وَالْمرَاد بالذين كَفَرُوا: الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا وَصْفٌ غَالِبٌ عَلَيْهِمْ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: الَّذِينَ كَفَرُوا بنبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدَ هُنَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَأَهْلُ نَجْرَانَ وَيُرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّهُمْ ذُكِّرُوا بِحَالِ فِرْعَوْنَ دُونَ حَالِ عَادٍ وَثَمُودَ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَعْلَقُ بِأَخْبَارِ فِرْعَوْنَ. كَمَا أَنَّ الْعَرَبَ أَعْلَقُ بِأَخْبَارِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَّ الرَّدَّ عَلَى النَّصَارَى مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَيَكُونَ التَّذْكِيرُ بِفِرْعَوْنَ لِأَنَّ وَعِيدَ الْيَهُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهَمُّ.
وَمَعْنَى «تُغْنِي» تَجْزِي وَتَكْفِي وَتَدْفَعُ، وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول بعن نَحْوَ:
«مَا أَغْنَى مَالِيَهْ».
وَلِدَلَالَةِ هَذَا الْفِعْلِ عَلَى الْإِجْزَاءِ وَالدَّفْعِ، كَانَ مُؤْذِنًا بِأَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا يُدْفَعُ ضُرُّهُ، وَتُكْفَى كُلْفَتُهُ، فَلِذَلِكَ قَدْ يَذْكُرُونَ مَعَ هَذَا الْفِعْلِ مُتَعَلِّقًا ثَانِيًا وَيُعَدُّونَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ بِحَرْفِ (مِنْ) كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَتَكُونُ (مِنْ) لِلْبَدَلِ وَالْعِوَضِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ أَمْرٍ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ هَذَا الْفِعْلِ، تَعْلِيقًا ثَانِيًا، بِاسْمِ ذَاتٍ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا أَخَصُّ حَالٍ اشْتُهِرَتْ بِهِ، أَوْ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ فَيُقَدَّرُ مَعْنَى اسْمٍ مُضَافٍ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَالتَّقْدِيرُ هُنَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ طَاعَتِهِ، إِذَا كَانَتْ (مِنْ) لِلْبَدَلِ وَكَذَا قَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ»، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النَّجْم: ٢٨]. وَعَلَى جَعْلِ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ تُقَدَّرُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ عَذَابِهِ، أَيْ غَنَاءً مُبْتَدِئًا مِنْ ذَلِكَ: عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: نَجَّاهُ مِنْ كَذَا أَيْ فَصَلَهُ مِنْهُ، وَلَا
يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) مَعَ هَذَا الْفِعْلِ، إِذا عدّي بعن، مماثلة لمن الْوَاقِعَةِ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يعدّ بعن، لِإِمْكَانِ اخْتِلَافِ مَعْنَى التَّعَلُّقِ بِاخْتِلَافِ مَسَاقِ الْكَلَامِ. وَالْغَالِبُ أَنْ يَأْتُوا بَعْدَ فِعْلِ أَغْنَى بِلَفْظِ (شَيْءٍ) مَعَ ذِكْرِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ كَمَا فِي الْآيَةِ، وَبِدُونِ ذِكْرِ مُتَعَلِّقَيْنِ، كَمَا فِي قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ، يَوْمَ أَسْلَمَ: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا».
172
وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: شَيْئاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ شَيْئًا مِنَ الْغَنَاءِ. وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّحْقِيرِ أَيْ غَنَاءً ضَعِيفًا، بله الْغناء المهم، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي التَّعَدِّي.
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا كَيْفِيَّةُ تَصَرُّفِ هَذَا الْفِعْلِ التَّصَرُّفَ الْعَجِيبَ فِي كَلَامِهِمْ، وَانْفَتَحَ لَكَ مَا انْغَلَقَ مِنْ عِبَارَةِ الْكَشَّافِ، وَمَا دُونَهَا، فِي مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى وُقُوعِ لَفْظِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ [الْبَقَرَة: ١٥٥]. وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ مِنْ بَيْنِ أَعْلَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْغَنَاءَ يَكُونُ بِالْفِدَاءِ بِالْمَالِ، كَدَفْعِ الدِّيَاتِ وَالْغَرَامَاتِ، وَيَكُونُ بِالنَّصْرِ وَالْقِتَالِ، وَأَوْلَى مَنْ يُدَافِعُ عَنِ الرَّجُلِ، مِنْ عَشِيرَتِهِ، أَبْنَاؤُهُ، وَعَنِ الْقَبِيلَةِ أَبْنَاؤُهَا. قَالَ قَيْسُ بْنُ الخَطِيمِ:
ثَأَرْتُ عَدِيًّا وَالْخَطِيمَ وَلَمْ أُضِعْ وَلَايَةَ أَشْيَاخٍ جُعِلْتُ إِزَاءَهَا
وَالْأَمْوَالُ الْمَكَاسِبُ الَّتِي تُقْتَاتُ وَتُدَّخَرُ وَيُتَعَاوَضُ بِهَا، وَهِيَ جَمْعُ مَالٍ، وَغَلَبَ اسْمُ الْمَالِ فِي كَلَامِ جُلِّ الْعَرَبِ عَلَى الْإِبِلِ قَالَ زُهَيْرٌ:
صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْرَمِ
وَغَلَبَ فِي كَلَامِ أَهْلِ الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ وَفِي الْحَدِيثِ «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَاله إِلَيْهِ بِئْر حاء، وَيُطْلَقُ الْمَالُ غَالِبًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَمَا
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ «أَيْنَ الْمَالُ الَّذِي عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ»
.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِأَنَّهُ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَشَأْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ عَذَابَ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.
وَجِيءَ بِالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ لِاسْتِحْضَارِهِمْ كَأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ وَقُودُ النَّارِ. وَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَلَمْ تُفْصَلْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الَّتِي قبلهَا لَا وَعِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ
بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ، فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٢].
173
وَالْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ مَا يُوقَدُ بِهِ كَالوَضُوءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ مَوْقِعُ كَافِ التَّشْبِيهِ مَوْقِعُ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: دَأْبُهُمْ فِي ذَلِكَ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، أَيْ عَادَتُهُمْ وَشَأْنُهُمْ كَشَأْنِ آلِ فِرْعَوْنَ.
وَالدَّأْبُ: أَصْلُهُ الْكَدْحُ فِي الْعَمَلِ وَتَكْرِيرُهُ، وَكَأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مَصْدَرُهُ عَلَى فَعْلٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّهَا تَأْتِي مِنْ كَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَصَارَ حَقِيقَةً شَائِعَةً قَالَ النَّابِغَةُ:
كَدَأْبِكَ فِي قَوْمٍ أَرَاكَ اصْطَنَعْتَهُمْ
أَيْ عَادَتِكَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَالْمَعْنَى: شَأْنُهُمْ فِي ذَلِكَ كَشَأْنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَقْرَوُا الْأُمَمَ الَّتِي أَصَابَهَا الْعَذَابُ، وَجَدُوا جَمِيعَهُمْ قَدْ تَمَاثَلُوا فِي الْكُفْرِ: بِاللَّهِ، وَبِرُسُلِهِ، وَبِآيَاتِهِ، وَكَفَى بِهَذَا الِاسْتِقْرَاءِ مَوْعِظَةً لِأَمْثَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ وَعِيدَ الِاسْتِئْصَالِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا إِذِ الْأَصْلُ أَنَّ حَالَ الْمُشَبَّهِ، أَظْهَرُ مَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ عِنْدَ السَّامِعِ.
وَعَلَيْهِ فَالْأَخْذُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ هُوَ أَخْذُ الِانْتِقَامِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ:
أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْعَام: ٤٤، ٤٥].
وَأُرِيدَ بِآلِ فِرْعَوْنَ فِرْعَوْنُ وَآلِهِ لِأَنَّ الْآلَ يُطْلَقُ عَلَى أَشَدِّ النَّاسِ اخْتِصَاصًا بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالِاخْتِصَاصُ هُنَا اخْتِصَاصٌ فِي الْمُتَابَعَةِ وَالتَّوَاطُؤِ عَلَى الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: ٤٦] فَلِذِكْرِ الْآلِ هُنَا مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ مَا لَيْسَ لِذِكْرِ الْقَوْمِ إِذْ قَوْمُ الرجل قد يخالفون، فَلَا يَدُلُّ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُمْ فِي
174
الْحُكْمِ، قَالَ تَعَالَى: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: ٦٠] فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ نَظَائِرِهَا، وَقَالَ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الشُّعَرَاء: ١٠، ١١].
وَقَوْلُهُ: «كَذَّبُوا» بَيَانٌ لِدَأْبِهِمُ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَتَخْصِيصُ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ- مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ- لِأَنَّ هُلْكَهُمْ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِخِلَافِ هُلْكِ عَادٍ وَثَمُودَ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَشْهَرُ وَلِأَنَّ تَحَدِّي مُوسَى إِيَّاهُمْ كَانَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ فَمَا أَغْنَتْهُمْ شَيْئًا تُجَاهَ ضَلَالِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ عَهْدًا بِزَمَان النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩] وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: ٧٦] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الْحجر: ٧٩] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨].
[١٢، ١٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، لِلِانْتِقَالِ مِنَ النِّذَارَةِ إِلَى التَّهْدِيدِ، وَمِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِأَحْوَالِ سَلَفِهِمْ فِي الْكُفْرِ، إِلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِسَابِقِ أَحْوَالِهِمُ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ أَمْرَهُمْ صَائِرٌ إِلَى زَوَالٍ، وَأَنَّ أَمْرَ الْإِسْلَامِ سَتَنْدَكُّ لَهُ صُمُّ الْجِبَالِ. وَجِيءَ فِي هَذَا التَّهْدِيدِ بِأَطْنَبِ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِطْنَابٍ لِمَزِيدِ الْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِوَصْفِ يَوْمٍ كَانَ عَلَيْهِمْ، يَعْلَمُونَهُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: ٣٩] يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١١٦] فَيَجِيءُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ (هُمْ) إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِاسْتِقْلَالِ هَذِهِ النِّذَارَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الِاسْمُ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يُؤْتَ بِالضَّمِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ إِلَى قَوْله يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا شَاهَدَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ.
175
وَقَدْ قِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا خُصُوصُ الْيَهُودِ، وَذَكَرُوا لِذَلِكَ سَبَبًا رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ، فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: أَنَّ يَهُودَ يَثْرِبَ كَانُوا عَاهَدُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُدَّةٍ فَلَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّكْبَةِ. نَقَضُوا الْعَهْدَ وَانْطَلَقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَكَّةَ وَقَالُوا لَهُمْ: لَتَكُونَنَّ كَلِمَتُنَا وَاحِدَةً، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَلَبَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، جَمَعَ الْيَهُودَ وَقَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ عَرَفْتُمْ، أَنِّي نَبِيءٌ مُرْسَلٌ» فَقَالُوا: «يَا مُحَمَّدُ لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا أَغْمَارًا لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْتَ فِيهِمْ فُرْصَةً أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْنَاكَ لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
. وَعَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فَالْغَلَبُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ هُوَ فَتْحُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ، وَأَيْضًا فَالتَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ شَامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
وَعَطْفُ بِئْسَ الْمِهادُ عَلَى سَتُغْلَبُونَ عَطْفُ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ- كِلْتَيْهِمَا بِتَاءِ الْخِطَابِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَهُمَا وَجْهَانِ فِيمَا يُحْكَى بِالْقَوْلِ لِمُخَاطَبٍ، وَالْخِطَابُ أَكْثَرُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة:
١١٧] وَلَمْ يَقُلْ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ خِطَابٌ لِلَّذِينِ كَفَرُوا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلْمُحَاجَّةِ، فَأَعْقَبَ الْإِنْذَارَ وَالْوَعِيدَ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ. فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونَ اسْتِئْنَافًا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ سَتُغْلَبُونَ إِذْ لَعَلَّ كَثْرَةَ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَوِ الْيَهُودِ، أَوْ كِلَيْهِمَا، يُثِيرُ تَعَجُّبَ السَّامِعِينَ مِنْ غَلَبِهِمْ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْفِئَتَانِ هُمَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالِالْتِقَاءُ: اللِّقَاءُ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَاللِّقَاءُ مُصَادَفَةُ الشَّخْصِ شَخْصًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَيُطْلَقُ اللِّقَاءُ عَلَى الْبُرُوزِ لِلْقِتَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
176
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] وَسَيَأْتِي. وَالِالْتِقَاءُ يُطْلَقُ كَذَلِكَ كَقَوْلِ أُنَيْفِ بْنِ زَبَّانَ:
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنَا لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: فِئَةٌ تُقاتِلُ تَفْصِيلٌ لِلْفِئَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ صَدْرُ جُمْلَةٍ لِلِاسْتِئْنَافِ فِي التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ، الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَالْجَمْعِ.
وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩].
وَالْخطاب فِي: يَرَوْنَهُمْ كَالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ.
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: رَأْيَ الْعَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكُفَّارَ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالتَّلَاحُمِ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ، فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ فَانْهَزَمُوا. فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ جُعِلَتْ آيَةً لِمَنْ رَأَوْهَا وَتَحَقَّقُوا بَعْدَ الْهَزِيمَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا وَاهِمِينَ فِيمَا رَأَوْهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَسْرَةً لَهُمْ، وَتَكُونُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ غَيْرَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَنْفَالِ [٤٤] بِقَوْلِهِ: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ فَإِنَّ تِلْكَ يُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ قَبْلَ التَّلَاحُمِ، حَتَّى يَسْتَخِفَّ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلِقَائِهِمْ، فَلَمَّا لَاقَوْهُمْ رَأَوْهُمْ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ فَدَخَلَهُمُ الرُّعْبُ وَالْهَزِيمَةُ، وَتَحَقَّقُوا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ انْكِشَافِ الْمَلْحَمَةِ فقد كَانَت إِرَادَة القلّة وَإِرَادَة الْكَثْرَةِ سَبَبَيْ نَصْرٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ، فَقَلَّلَهُمُ اللَّهُ فِي أَعْيُنِ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِمْ لَخَافُوا الْهَزِيمَةَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ هِيَ الْإِرَاءَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤٤] : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْله:
(مقليهم) رَاجِعًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَأَصْلُهُ تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْكُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَقُولِ.
177
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: تَرَوْنَهُمْ- بِتَاء الْخِطَابِ- وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ:
عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ وأُخْرى كافِرَةٌ، أَوْ مِنْ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمَرْئِيِّينَ. إِنْ كَانَ الرَّاءُونَ هُمُ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الرَّائِينَ، إِنْ كَانَ الرَّاءُونَ هُمُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا جَرَى ضَمِيرُهُ عَلَى الْغَيْبَةِ وَكِلْتَا الرُّؤْيَتَيْنِ قَدْ وَقَعَتْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكُلُّ فِئَةٍ عَلِمَتْ رُؤْيَتَهَا وَتُحُدِّيَتْ بِهَاتِهِ الْآيَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْعُدُولُ عَن التَّعْبِير بفئتكم وَفِئَتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، لِقَصْدِ صُلُوحِيَّةِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِكِلْتَا الْفِئَتَيْنِ، فَيُفِيدُ اللَّفْظُ آيَتَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ، بِطَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ.
وَ «رَأْيَ الْعَيْنِ» مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الرُّؤْيَةِ: إِذْ كَانَ «فِعْلُ رَأَى» يَحْتَمِلُ الْبَصَرَ وَالْقَلْبَ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْعَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يسْتَعْمل مصدرا لرَأى الْقَلْبِيَّةِ، كَيْفَ وَالرَّأْيُ اسْمٌ لِلْعَقْلِ، وَتُشَارِكُهَا فِيهَا رَأَى الْبَصْرِيَّةُ، بِخِلَافِ الرُّؤْيَةِ فَخَاصَّةٌ بِالْبَصَرِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ كَيْفَمَا فُسِّرَتْ تَأْيِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا
[الْأَنْفَال: ٤٤].
[١٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
زُيِّنَ.
اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمرَان: ١٠] إِذْ كَانَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالٍ وَأَوْلَادٍ إِلَى ضَمِيرِ «هُمْ» دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. قُصِدَ مِنْهُ عِظَةُ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَغْتَرُّوا بِحَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتُعْجِبَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيَا، وَتُلْهِيَهُمْ عَنِ التَّهَمُّمِ بِمَا بِهِ الْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الْغَايَاتِ يَسْتَدْعِي التَّحْذِيرَ مِنَ الْبِدَايَاتِ. وَقَدْ صُدِّرَ هَذَا الْوَعْظُ وَالتَّأْدِيبُ بِبَيَانِ مَدْخَلِ هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النُّفُوسِ، حَتَّى يَكُونُوا عَلَى أَشَدِّ الْحَذَرِ مِنْهَا لِأَنَّ مَا قَرَارَتُهُ النَّفْسُ يَنْسَابُ إِلَيْهَا مَعَ الْأَنْفَاسِ.
178
وَالتَّزْيِينُ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ زَيْنًا أَيْ حَسَنًا، فَهُوَ تَحْسِينُ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إِلَى التَّحْسِينِ، وَإِزَالَةُ مَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الْقُبْحِ أَوِ التَّشْوِيهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَلَّاقُ مُزَيِّنًا.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
الْحَرْبُ أَوَّلَ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
فَالزِّينَةُ هِيَ مَا تكون فِي الشَّيْءِ مِنَ الْمَحَاسِنِ: الَّتِي تُرَغِّبُ النَّاظِرِينَ فِي اقْتِنَائِهِ، قَالَ تَعَالَى:
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٢٨]. وَكَلِمَةُ زَيْنٍ قَلِيلَةُ الدَّوَرَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ حُسْنِهَا وَخِفَّتِهَا قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَزْمَعَتْ خُلَّتِي مَعَ الْفَجْرِ بَيْنَا جَلَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَجْهَ زَيْنَا
وَفِي حَدِيثِ «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ أَبَا بَرَزَةَ الْأَسْلَمِيَّ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ- وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيَسْأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ الْحَوْضِ- فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَرَزَةَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِجُلَسَائِهِ: إِنَّ مُحَمَّدِيَّكُمْ هَذَا الدِّحْدَاحُ. قَالَ أَبُو بَرَزَةَ: «مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنِّي أَبْقَى فِي قَوْمٍ يُعَيِّرُونَنِي بِصُحْبَةِ مُحَمَّدٍ». فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: «إِنَّ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ لَكَ زَيْنٌ غَيْرُ شَيْنٍ».
وَالشَّهَوَاتُ جَمْعُ شَهْوَةٍ، وَأَصْلُ الشَّهْوَةِ مَصْدَرُ شَهِيَ كَرَضِيَ، وَالشَّهْوَةُ بِزِنَةِ الْمَرَّةِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ مَصْدَرِ شَهِيَ أَنْ يَكُونَ بِزِنَةِ الْمَرَّةِ. وَأُطْلِقَتِ الشَّهَوَاتُ هُنَا عَلَى الْأَشْيَاءِ
الْمُشْتَهَاةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ. وَتَعْلِيقُ التَّزْيِينِ بِالْحُبِّ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْمُزَيَّنَ لِلنَّاسِ هُوَ الشَّهَوَاتُ، أَيِ الْمُشْتَهَيَاتُ نَفْسُهَا، لَا حُبُّهَا، فَإِذَا زُيِّنَتْ لَهُمْ أَحَبُّوهَا فَإِنَّ الْحُبَّ يَنْشَأُ عَنِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلَيْسَ الْحُبُّ بِمُزَيَّنٍ، وَهَذَا إِيجَازٌ يُغْنِي عَنْ أَنْ يُقَالَ زُيِّنَتْ لِلنَّاسِ الشَّهَوَاتُ فَأَحَبُّوهَا، وَقَدْ سَكَتَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ وَجْهِ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا التَّعْلِيقِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حُبُّ الشَّهَواتِ مَصْدَرًا نَائِبًا عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، مُبَيِّنًا لِنَوْعِ التَّزْيِينِ: أَيْ زُيِّنَ لَهُمْ تَزْيِينُ حُبٍّ، وَهُوَ أَشَدُّ التَّزْيِينِ، وَجُعِلَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ الشَّهَوَاتُ حُبًّا، فَحُوِّلَ وَأُضِيفَ إِلَى النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَجُعِلَ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، كَمَا جُعِلَ مَفْعُولًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ص: ٣٢]. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حُبُّ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ
179
مَحْبُوبُ الشَّهَوَاتِ أَيِ الشَّهَوَاتُ الْمَحْبُوبَةُ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ زُيِّنَ كِنَايَةً مُرَادًا بِهِ لَازِمُ التَّزْيِينِ وَهُوَ إِقْبَالُ النَّفْسِ عَلَى مَا فِي الْمُزَيَّنِ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ مَعَ سَتْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَضْرَارِ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّزْيِينِ، أَيْ تَحْسِينِ مَا لَيْسَ بِخَالِصِ الْحُسْنِ فَإِنَّ مُشْتَهَيَاتِ النَّاسِ تَشْتَمِلُ عَلَى أُمُورٍ مُلَائِمَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا مَضَارُّ، أَشَدُّهَا أَنَّهَا تُشْغِلُ عَنْ كَمَالَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلِذَلِكَ كَانَتْ كَالشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ تُغَطَّى نَقَائِصُهُ بِالْمُزَيَّنَاتِ، وَبِذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِي تَعْلِيق زيّن بحب إِشْكَالٌ.
وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ لِخَفَائِهِ عَنْ إِدْرَاكِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْغَرَائِزِ وَالسَّجَايَا، لَمَّا جُهِلَ فَاعِلُهُ فِي مُتَعَارَفِ الْعُمُومِ، كَانَ الشَّأْنُ إِسْنَادَ أَفْعَالِهِ لِلْمَجْهُولِ: كَقَوْلِهِمْ عُنِيَ بِكَذَا، وَاضْطُرَّ إِلَى كَذَا، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْكِنَايَةَ عَنْ لَازِمِ التَّزْيِينِ، وَهُوَ الْإِغْضَاءُ عَمَّا فِي الْمُزَيَّنِ مِنَ الْمَسَاوِي لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَبْقَ مَقْصُودًا بِحَالٍ، وَالْمُزَيَّنُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ إِدْرَاكُ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَحَبَّ الشَّهَوَاتِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي نِظَامِ الْخِلْقَةِ قَالَ تَعَالَى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: ٧٢].
وَلَمَّا رَجَعَ التَّزْيِينُ إِلَى انْفِعَالٍ فِي الْجِبِلَّةِ، كَانَ فَاعِلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ خَالِقَ هَذِهِ الْجِبِلَّاتِ، فَالْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ لَا بِدَعْوَتِهِ، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِذَا الْتَفَتْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الْقَرِيبَةِ الْمُبَاشِرَةِ. كَانَ الْمُزَيِّنُ هُوَ مَيْلَ النَّفْسِ إِلَى الْمُشْتَهَى، أَوْ تَرْغِيبَ الدَّاعِينَ إِلَى تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ: مِنَ الْخِلَّانِ وَالْقُرَنَاءِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْمُزَيِّنُ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّزْيِينَ بِمَعْنَى التَّسْوِيلِ وَالتَّرْغِيبِ بِالْوَسْوَسَةِ لِلشَّهَوَاتِ الذَّمِيمَةِ وَالْفَسَادِ،
وَقَصَرَهُ عَلَى هَذَا- وَهُوَ بَعِيدٌ- لِأَنَّ تَزْيِينَ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ فِي ذَاتِهِ قَدْ يُوَافِقُ وَجْهَ الْإِبَاحَةِ وَالطَّاعَةِ، فَلَيْسَ يُلَازِمُهَا تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا إِذَا جَعَلَهَا وَسَائِلَ لِلْحَرَامِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»
وَسِيَاقُ الْآيَةِ تَفْضِيلُ مَعَالِي الْأُمُورِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْمُشْتَهَيَاتِ الْمَخْلُوطَةِ أَنْوَاعُهَا بِحَلَالٍ مِنْهَا وَحَرَامٍ، وَالْمُعَرَّضَةِ لِلزَّوَالِ، فَإِنَّ الْكَمَالَ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ لِتَبْلُغَ الدَّرَجَاتِ الْقُدْسِيَّةَ، وَتَنَالَ النَّعِيمَ الْأَبَدِيَّ الْعَظِيمَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.
180
وَبَيَانُ الشَّهَوَاتِ بِـ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَمَا بَعْدَهُمَا، بَيَانٌ بِأُصُولِ الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ: الَّتِي تَجْمَعُ مُشْتَهَيَاتٍ كَثِيرَةً، وَالَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، فَالْمَيْلُ إِلَى النِّسَاءِ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبْعِ، وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةِ بَقَاءِ النَّوْعِ بِدَاعِي طَلَبِ التَّنَاسُلِ إِذِ الْمَرْأَةُ هِيَ مَوْضِعُ التَّنَاسُلِ، فَجُعِلَ مَيْلُ الرَّجُلِ إِلَيْهَا فِي الطَّبْعِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ بَقَاءُ النَّوْعِ إِلَى تَكَلُّفٍ رُبَّمَا تَعْقُبُهُ سَآمَةٌ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَشَدَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ»
وَلَمْ يَذْكُرِ الرِّجَالَ لِأَنَّ مَيْلَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ أَضْعَفُ فِي الطَّبْعِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ مِنْهُنَّ لِلرِّجَالِ بِالْإِلْفِ وَالْإِحْسَانِ.
وَمَحَبَّةُ الْأَبْنَاءِ- أَيْضًا- فِي الطَّبْعِ: إِذْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الْوَالِدَيْنِ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، شُعُورًا وِجْدَانِيًّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنْهُمَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ الْجِيلُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَبِبَقَائِهِ بَقَاءُ النَّوْعِ، فَهَذَا بَقَاءُ النَّوْعِ بِحِفْظِهِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ، وَفِي الْوَلَدِ أَيْضًا حِفْظٌ لِلنَّوْعِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْعَارِضِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الضَّعِيفِ مِنَ النَّوْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِضُ لَهُ الضَّعْفُ، بَعْدَ الْقُوَّةِ، فَيَكُونُ وَلَدُهُ دافعا عَنهُ عداء مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ، فَكَمَا دَفَعَ الْوَالِدُ عَنِ ابْنِهِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ، يَدْفَعُ الْوَلَدُ عَنِ الْوَالِدِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ.
وَالذَّهَب وَالْفِضَّةِ شَهْوَتَانِ بِحُسْنِ مَنْظَرِهِمَا وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا مِنْ حُلِيٍّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالنَّقْدَانِ مِنْهُمَا: الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، شَهْوَةٌ لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ مُنْذُ الْعُصُورِ الْمُتَوَغِّلَةِ فِي الْقِدَمِ مِنْ حُبِّ النُّقُودِ الَّتِي بِهَا دَفْعُ أَعْوَاضِ الْأَشْيَاءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا.
وَالْقَناطِيرِ جَمْعُ قِنْطَارٍ وَهُوَ مَا يَزِنُ مِائَةَ رِطْلٍ، وَأَصْلُهُ مُعَرَّبٌ قِيلَ عَنِ الرُّومِيَّةِ اللَّاتِينِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ النَّقَّاشُ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي اللَّاتِينِيَّةِ «كِينْتَالُ» وَهُوَ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ. فَمَا فِي «الْكَشَّافِ» فِي
سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ الْقِنْطَارَ مَأْخُوذ من قتطرت الشَّيْءَ إِذَا رَفَعْتَهُ، تَكَلُّفٌ. وَقَدْ كَانَ الْقِنْطَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَزْنًا وَمِقْدَارًا، مِنَ الثَّرْوَةِ، يَبْلُغُهُ بَعْضُ الْمُثْرِينَ: وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَالُهُ مِائَةَ رِطْلٍ فِضَّةً، وَيَقُولُونَ: قَنْطَرَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَ مَالُهُ قِنْطَارًا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ أَيْ مَا يُسَاوِي قِنْطَارًا مِنَ الْفِضَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ مِقْدَارُ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ.
181
وَ (الْمُقَنْطَرَةِ) أُرِيدَ بِهَا هُنَا الْمُضَاعَفَةُ الْمُتَكَاثِرَةُ، لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْوَصْفِ مِنِ اسْمِ الشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ، إِذَا اشْتُهِرَ صَاحِبُ الِاسْمِ بِصِفَةٍ، يُؤْذِنُ ذَلِكَ الِاشْتِقَاقُ بِمُبَالَغَةٍ فِي الْحَاصِلِ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ، وَإِبِلٌ مُؤَبَّلَةٌ، وَآلَافٌ مُؤَلَّفَةٌ.
وَالْخَيْلِ مَحْبُوبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا، لَمْ يُنْسِهَا مَا تَفَنَّنَ فِيهِ الْبَشَرُ مِنْ صُنُوفِ الْمَرَاكِبِ بَرًّا وَبَحْرًا وَجَوًّا، فَالْأُمَمُ الْمُتَحَضِّرَةُ الْيَوْمَ مَعَ مَا لديم مِنِ الْقِطَارَاتِ الَّتِي تَجْرِي بِالْبُخَارِ وَبِالْكَهْرَبَاءِ عَلَى السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَمِنْ سَفَائِنِ الْبَحْرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تُسَيِّرُهَا آلَاتُ الْبُخَارِ، وَمِنَ السَّيَّارَاتِ الصَّغِيرَةِ الْمُسَيَّرَةِ بِاللَّوَالِبِ تُحَرِّكُهَا حَرَارَةُ النِّفْطِ الْمُصَفَّى، وَمِنَ الطِّيَارَاتِ فِي الْهَوَاءِ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ الْبَشَرُ فِي عَصْرٍ مَضَى، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ النَّاسَ عَنْ رُكُوبِ ظُهُورِ الْخَيْلِ، وَجَرِّ الْعَرَبَاتِ بِمُطَهَّمَاتِ الْأَفْرَاسِ، وَالْعِنَايَةِ بِالْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْأَفْرَاسِ.
وَذَكَرَ الْخَيْلَ لِتَوَاطُؤِ نُفُوسِ أَهْلِ الْبَذَخِ عَلَى مَحَبَّةِ رُكُوبِهَا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ والْمُسَوَّمَةِ الْأَظْهَرُ فِيهِ مَا قِيلَ: إنّه الراعية، فو مُشْتَقٌّ مِنَ السَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ، يُقَالُ: أَسَامَ الْمَاشِيَةَ إِذَا رَعَى بِهَا فِي الْمَرْعَى، فَتَكُونُ مَادَّةُ فَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ أَيِ الَّتِي تُتْرَكُ فِي الْمَرَاعِي مُدَدًا طَوِيلَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِسَعَةِ أَصْحَابِهَا وَكَثْرَةِ مَرَاعِيهِمْ، فَتَكُونُ خَيْلُهُمْ مُكَرَّمَةً فِي الْمُرُوجِ وَالرِّيَاضِ
وَفِي الْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ الْخَيْلِ «فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ».
وَقِيلَ: الْمُسَوَّمَةُ مِنَ السُّومَةِ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهِيَ السِّمَةُ أَيِ الْعَلَامَةُ مِنْ صُوفٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ لَهَا ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِكَرَمِهَا وَحُسْنِ بَلَائِهَا فِي الْحَرْبِ، قَالَ العتّابي:
وَلَوْلَا هنّ قَدْ سَوَّمْتُ مهري وَفِي الرحمان لِلضُّعَفَاءِ كَافِ
يُرِيدُ جَعَلْتُ لَهُ سُومَةَ أَفْرَاسِ الْجِهَادِ أَيْ عَلَامَتَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ السِّمَةِ وَالسُّومَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٣].
والْأَنْعامِ زِينَةٌ لِأَهْلِ الْوَبَرِ قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦]. وَفِيهَا مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ
182
الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٥]، وَقَدْ لَا تَتَعَلَّقُ شَهَوَاتُ أَهْلِ الْمُدُنِ بِشِدَّةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَنْعَامِ لَكِنَّهُمْ يُحِبُّونَ مَشَاهِدَهَا، وَيُعْنَوْنَ بِالِارْتِيَاحِ إِلَيْهَا إِجْمَالًا.
وَالْحَرْثِ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَرَثَ الْأَرْضَ إِذَا شَقَّهَا بِآلَةٍ لِيَزْرَعَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ، وَأُطْلِقَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَحْرُوثِ فَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ وَحُقُولِ الزَّرْعِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [الْبَقَرَة: ٧١] فِيهَا.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَفْرَدَ كَافَ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، عَلَى أَنَّ عَلَامَةَ الْمُخَاطَبِ الْوَاحِدِ هِيَ الْغَالِبُ فِي الِاقْتِرَانِ بِأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ لِإِرَادَةِ الْبُعْدِ، وَالْبُعْدُ هُنَا بُعْدٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ وَالنَّفَاسَةِ.
وَالْمَتَاعُ مُؤْذِنٌ بِالْقِلَّةِ وَهُوَ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مُدَّةً.
وَمَعْنَى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَآبُ: الْمَرْجِعُ، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ، مَفْعَلٌ من آب يؤوب، وَأَصْلُهُ مَأْوَبٌ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الْهَمْزَةِ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
[١٥- ١٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٧]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، فَإِنَّهُ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: ١٤] الْمُقْتَضِي أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْغَضِّ مِنْ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ. وَافْتَتَحَ الِاسْتِئْنَافَ بِكَلِمَةِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بالمقول، والمخاطب بقل
183
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْعَرْضِ تَشْوِيقًا مِنْ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى تَلَقِّي مَا سَيُقَصُّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الصَّفّ: ١٠] الْآيَةَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كثير، وَأَبُو عمر، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٍ عَن يَعْقُوب: أأنبئكم بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَاوًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوب، وَخلف: بتَخْفِيف الْهَمْزَتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَهِيَ الْمُنَبَّأُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مُتَعَلِّقًا بقوله: «خير» و «جنّات» مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ: أَيْ لَهُمْ، أَوْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَدْ أُلْغِيَ مَا يُقَابِلُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ لَذَّةَ الْبَنِينَ وَلَذَّةَ الْمَالِ هُنَالِكَ مَفْقُودَةٌ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَذَّةُ الْخَيْلِ وَالْأَنْعَامِ إِذْ لَا دَوَابَّ فِي الْجَنَّةِ، فَبَقِيَ مَا يُقَابِلُ النِّسَاءَ وَالْحَرْثَ، وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَالْأَزْوَاجُ، لِأَنَّ بِهِمَا تَمَامُ النَّعِيمِ وَالتَّأَنُّسِ، وَزِيدَ عَلَيْهِمَا رِضْوَانُ اللَّهِ الَّذِي حُرِمَهُ مَنْ جَعَلَ حَظَّهُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى الْمُطَهَّرَةِ الْمُنَزَّهَةُ مِمَّا يَعْتَرِي نِسَاءَ الْبَشَرِ مِمَّا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ النُّفُوسُ، فَالطَّهَارَةُ هُنَا حِسِّيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ.
وَعَطَفَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا أَعَدَّ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا عِنْدَ اللَّهِ: لِأَنَّ رِضْوَانَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْمَادِّيِّ لِأَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ تَقْرِيبٌ رُوحَانِيٌّ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِضْوانٌ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَأَظْهَرَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ، دُونَ أَنْ يَقُولَ وَرِضْوَانٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ رَبِّهِمْ: لِمَا فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عَظَمَةِ ذَلِكَ الرِّضْوَانِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ الْوَعْدِ أَيْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا وَمَرَاتِبِ تَقْوَاهُمْ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ، وَلِتَضَمُّنِ بَصِيرٌ مَعْنَى عَلِيمٍ عُدِّيَ بِالْبَاءِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لِقَصْدِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ لِتَكُونَ كَالْمَثَلِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ عَطْفُ بَيَانٍ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى وَبِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ. وَمَعْنَى الْقَوْلِ هُنَا الْكَلَامُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ فِي الْخَبَرِ، وَالْجَارِي عَلَى
184
فَرْطِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّعَاءِ، فِي قَوْلِهِمْ: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِلَخْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي كَذَلِكَ إِذَا سَعَى الدَّاعِي فِي وَسَائِلِ الْإِجَابَةِ وَتَرَقَّبَهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي تُرْشِدُ إِلَيْهَا التَّقْوَى، فَلَا يُجَازَى هَذَا الْجَزَاءَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ الْآيَةَ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، أَوْ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ يَقُولُونَ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَذَكَرَ هُنَا أُصُولَ فَضَائِلِ صِفَاتِ الْمُتَدَيِّنِينَ: وَهِيَ الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي. وَالصِّدْقُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ الِاسْتِقَامَةِ وَبَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ. وَالْقُنُوتُ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْقَانُهَا وَهُوَ عِبَادَةٌ نَفْسِيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ.
وَالْإِنْفَاقُ وَهُوَ أَصْلُ إِقَامَةِ أَوَدِ الْأُمَّةِ بِكِفَايَةِ حَاجِ الْمُحْتَاجِينَ، وَهُوَ قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْمَالُ شَقِيقُ النَّفْسِ. وَزَادَ الِاسْتِغْفَارَ بِالْأَسْحَارِ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالصَّلَاةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ، وَالسَّحَرُ سُدُسُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَدُّ إِخْلَاصًا، لِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ هُدُوءِ النُّفُوسِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى اهْتِمَامِ صَاحِبِهِ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ، فَاخْتَارَ لَهُ هَؤُلَاءِ الصَّادِقُونَ آخِرَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ وَقْتُ صَفَاءِ السَّرَائِرِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الشَّوَاغِلِ.
وَعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ، وَمَا بَعْدَهُ: سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ صِفَةً ثَانِيَةً، بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ، أَمْ كَانَ ابْتِدَاءَ الصِّفَاتِ بَعْدَ الْبَيَانِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ طَرِيقَتَيْ تَعْدَادِ الصِّفَاتِ فِي الذِّكْرِ فِي كَلَامِهِمْ، فَيَكُونُ، بِالْعَطْفِ وَبِدُونِهِ، مِثْلَ تَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْوَالِ إِذْ لَيْسَتْ حُرُوفُ الْعَطْفِ بِمَقْصُورَةٍ عَلَى تَشْرِيكِ الذَّوَاتِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ نُكْتَةً زَائِدَةً عَلَى ذِكْرِهَا بِدُونِ الْعَطْفِ وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا، وَأَحَالَ تَفْصِيلَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْبَقَرَة: ٤] مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَسَكَتَ الْكَاتِبُونَ عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ هُنَا وَهُنَاكَ، وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ تَرْكُ الْعَطْفِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ عَطْفُهَا مُؤْذِنًا بِمَعْنًى خُصُوصِيٍّ، يَقْصِدُهُ الْبَلِيغُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ شَأْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ أَنْ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ فَيُنَاسِبَ الْمَعْمُولَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفَاتُ، فَإِذَا عُطِفَتْ فَقَدْ نُزِّلَتْ كُلُّ صِفَةٍ مَنْزِلَةَ ذَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِقُوَّةِ الْمَوْصُوفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، حَتَّى كَأَنَّ الْوَاحِدَ صَارَ عَدَدًا، كَقَوْلِهِمْ وَاحِدٌ كَأَلْفٍ، وَلَا أَحْسَبُ لِهَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيمًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَطْفُ الصِّفَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَة الْبَقَرَة.
185

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨]

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
اسْتِئْنَافٌ وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] ذَلِكَ أَنَّ أَسَاسَ الْإِسْلَامِ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ، وَإِعْلَانُ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَتَخْلِيصُهُ مِنْ شَوَائِبِ الْإِشْرَاكِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي مَرَاتِبِ الْإِشْرَاكِ، وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ
عَلَى الصَّدْرِ: لِأَنَّهُ يُؤَكِّدُ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آل عمرَان: ٢، ٣].
وَالشَّهَادَةُ حَقِيقَتُهَا خَبَرٌ يُصَدَّقُ بِهِ خَبَرُ مُخْبِرٍ وَقَدْ يُكَذَّبُ بِهِ خَبَرُ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢]. وَإِذْ قَدْ كَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فِي الْحُقُوقِ، كَانَ مَظِنَّةَ اهْتِمَامِ الْمُخْبِرِ بِهِ وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ، فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المُنَافِقُونَ: ١] وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ التَّلَازُمِ، فَشَهَادَةُ اللَّهِ تَحْقِيقُهُ وَحْدَانِيَّتَهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ تَحْقِيقُهُمْ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَبْلِيغُ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ تَحْقِيقُهُمْ ذَلِكَ بِالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ.
فَإِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، أَوْ تَشْبِيهُ الْإِخْبَارِ بِالْإِخْبَارِ أَوِ الْمُخْبِرِ بِالْمُخْبِرِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ «شَهِدَ» بِمَعْنَى بَيَّنَ وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ، شَبَّهَ إِقَامَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ: مِنْ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِتَصْدِيقِ الدَّعْوَى فِي الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ بِمَا نَزَلُوا بِهِ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى الرُّسُلِ، وَمَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ مَحَامِدَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أُولُو الْعِلْمِ بِمَا أَقَامُوا مِنَ الْحُجَجِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ شَهَادَةَ اللَّهِ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ: إِقْرَارِ الْمَلَائِكَةِ، وَاحْتِجَاجِ أُولِي الْعِلْمِ، ثُمَّ تَبْنِيَهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ شَهِدَ فِي مَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ، مِثْلَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ [الْأَحْزَاب: ٥٦]، أَوْ عَلَى اسْتِعْمَالِ شَهِدَ فِي مَجَازٍ أَعَمَّ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ، حَتَّى يَكُونَ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ وَالْإِقْرَارُ وَالِاحْتِجَاجُ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ، بِنَاءً عَلَى عُمُومِ الْمَجَازِ.
186
وَانْتَصَبَ قائِماً بِالْقِسْطِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ أَيْ شَهِدَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَقِيَامِهِ بِالْعَدْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ فَيَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ شَهِدَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هَذِهِ قِيَامٌ بِالْقِسْطِ، فَالشَّاهِدُ بِهَا قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، قَالَ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ [الْمَائِدَة: ٨]. وَزَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ: أَنَّ كَوْنَهُ حَالًا مُؤَكِّدَةً وَهْمٌ، وَعَلَّلَهُ بِمَا هُوَ وَهْمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدْ الرَّصَّاعْ جَرَيَانَ بَحْثٍ فِي إِعْرَابِ مِثْلِ هَذِه الْحَال من سُورَةِ الصَّفِّ فِي دَرْسِ شَيْخِهِ مُحَمَّدْ ابْن عُقَابْ.
وَالْقِيَامُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُوَاظَبَةِ كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْد:
٣٣] وَقَوْلِهِ: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيد: ٢٥] وَتَقُولُ: الْأَمِيرُ قَائِمٌ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، كَمَا تَقُولُ: سَاهِرٌ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ «إقَام الصَّلَاةِ» وَقَوْلِ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ الْأَنْصَارِيِّ:
أَقَامَتْ غَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ لِأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ حَوْلًا قَمِيطَا
وَهُوَ فِي الْجَمِيعِ تَمْثِيلٌ.
وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْقُسْطَاسِ- بِضَمِّ الْقَافِ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ ثَابِتَةٌ فِي اللُّغَاتِ الرُّومِيَّةِ وَهِيَ مِنَ اللَّاطِينِيَّةِ، وَيُطْلَقُ الْقِسْطُ وَالْقِسْطَاسُ عَلَى الْمِيزَانِ، لِأَنَّهُ آلَةٌ لِلْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الْإِسْرَاء: ٣٥] وَقَالَ: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْأَنْبِيَاء:
٤٧]. وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْقِسْطَ فِي تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ عَلَى نُظُمِهَا، وَفِي تَقْدِيرِ بَقَاءِ الْأَنْوَاعِ، وَإِيدَاعِ أَسْبَابِ الْمُدَافَعَةِ فِي نُفُوسِ الْمَوْجُودَاتِ، وَفِيمَا شَرَعَ لِلْبَشَرِ مِنَ الشَّرَائِعِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ: لِدَفْعِ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، فَهُوَ الْقَائِمُ بِالْعَدْلِ سُبْحَانَهُ، وَعَدْلُ النَّاسِ مُقْتَبَسٌ مِنْ مُحَاكَاةِ عَدْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَمْجِيدٌ وَتَصْدِيقٌ، نَشَأَ عَنْ شَهَادَةِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ تَلْقِينُ الْإِقْرَارِ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: ٥٦] أَيِ اقْتِدَاءً بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَيُمَهِّدُ لِوَصْفِهِ تَعَالَى بِالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
187

[١٩]

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ إِنَّ الدِّينَ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ- فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هَذَا الدِّينِ بِأَجْمَعِ عِبَارَةٍ وَأَوْجَزِهَا.
وَهَذَا شُرُوعٌ فِي أَوَّلِ غَرَضٍ أُنْزِلَتْ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةُ: غَرَضِ مُحَاجَّةِ نَصَارَى نَجْرَانَ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مِنْ مُنَاسَبَاتِ افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ بِتَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ وَتَفْضِيلِهِ بِأَنَّ هَدْيَهُ يَفُوقُ هَدْيَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، إِذْ هُوَ الْفُرْقَانُ،
فَإِنَّ ذَلِكَ أُسُّ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَعْرِيضٍ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَإِبْطَالٍ لِقَوْلِ وَفْدِ نَجْرَانَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامَ- «أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ» فَقَالَ لَهُمْ: «كَذَبْتُمْ» رَوَى الْوَاحِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ تَكَلَّمَ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ: «أَسْلِمَا» قَالَا: «قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ» قَالَ: «كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ دُعَاؤُكُمَا لِلَّهِ وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ»، نَاسَبَ أَنْ يُنَوِّهَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمَلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لَا يَخْلُو انْتِظَامُهَا عَنِ الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا اسْتِئْنَافًا، وَإِنَّمَا لَا تُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْمُحَادَثَاتِ وَالِاقْتِضَابَاتِ.
وتوكيد الْكَلَام بإن تَحْقِيقٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ حَصْرِ حَقِيقَةِ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ: أَيِ الدِّينِ الْكَامِلِ.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ الدِّينَ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ- عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: ١٨] أَيْ شَهِدَ اللَّهُ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ.
وَالدِّينُ: حَقِيقَتُهُ فِي الْأَصْلِ الْجَزَاءُ، ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُطْلَقُ عَلَى: مَجْمُوعِ عَقَائِدَ، وَأَعْمَالٍ يُلَقِّنُهَا رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَعِدُ الْعَامِلِينَ بِهَا بِالنَّعِيمِ وَالْمُعْرِضِينَ عَنْهَا بِالْعِقَابِ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمَّا يَضَعُهُ بَعْضُ زُعَمَاءِ النَّاسِ مِنْ تِلْقَاءِ عَقْلِهِ فَتَلْتَزِمُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ. وَسُمِّيَ الدِّينُ دِينًا لِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ مِنْهُ مُتَّبِعُهُ الْجَزَاءَ عَاجِلًا
188
أَوْ آجِلًا، فَمَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا وَهُمْ يَتَرَقَّبُونَ جَزَاءً مِنْ رَبِّ ذَلِكَ الدِّينِ، فَالْمُشْرِكُونَ يَطْمَعُونَ فِي إِعَانَةِ الْآلِهَةِ وَوَسَاطَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْهُمْ، وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ:
اعْلُ هُبَلُ. وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ:
«لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا». وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ يَتَرَقَّبُونَ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَوَّلُ دِينٍ إِلَهِيٍّ كَانَ حَقًّا وَبِهِ كَانَ اهْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ طَرَأَتِ الْأَدْيَانُ الْمَكْذُوبَةُ، وَتَشَبَّهَتْ بِالْأَدْيَانِ الصَّحِيحَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- تَعْلِيمًا لِرَسُولِهِ- لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: ٦] وَقَالَ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ
[يُوسُف:
٧٦].
وَقَدْ عَرَّفَ الْعُلَمَاءُ الدِّينَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ «وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمُ الْمَحْمُودِ إِلَى الْخَيْرِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا».
وَالْإِسْلَامُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَجْمُوعِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانُ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ لُقِّبَ أَتْبَاعُ هَذَا الدِّينِ بِالْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِمَصْدَرِ أَسْلَمَ إِذَا أَذْعَنَ وَلَمْ يُعَانِدْ إِذْعَانًا عَنِ اعْتِرَافٍ بِحَقٍّ لَا عَنْ عَجْزٍ، وَهَذَا اللَّقَبُ أَوْلَى بِالْإِطْلَاقِ عَلَى هَذَا الدِّينِ مِنْ لَقَبِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْمَظْهَرُ الْبَيِّنُ لِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَاطِّرَاحِ كُلِّ حَائِلٍ يَحُولُ دُونَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ اعْتِقَادٌ قَلْبِيٌّ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ [الْحَج:
٧٨] وَقَالَ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: ٢٠] وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ لِأَنَّ الْفِعْلَ أَثَرُ الْإِدْرَاكِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِقَادُ مَعَ الْمُكَابَرَةِ.
وَرُبَّمَا أُطْلِقَ الْإِسْلَامُ عَلَى خُصُوصِ الْأَعْمَالِ وَالْإِيمَانُ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مُنَاسِبٌ لِحَالَتَيِ التَّفْكِيكِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَاقِعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، خِطَابًا لِقَوْمٍ أَسْلَمُوا مُتَرَدِّدِينَ- قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:
١٤]، أَوِ التَّفْكِيكِ فِي تَصْوِيرِ الْمَاهِيَّةِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِحَقَائِقِ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَوِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: مِنْ ذِكْرِ مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالْإِحْسَانِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعْنَى الْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ هُنَا وَتَعْرِيفُ الْإِسْلَامِ تَعْرِيفُ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ: لِأَنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الدِّينِ الْمُحَمَّدِيِّ.
189
فَقَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ صِيغَةُ حَصْرٍ، وَهِيَ تَقْتَضِي فِي اللِّسَانِ حَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الدِّينُ، فِي الْمُسْنَدِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، عَلَى قَاعِدَةِ الْحصْر بتعريف جزئي الْجُمْلَةِ، أَيْ لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الِانْحِصَارَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَصْفٌ لِلدِّينِ، وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الِاعْتِبَارِ وَالِاعْتِنَاءِ وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ عِلْمٍ: فَأَفَادَ، أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَيَكُونُ قَصْرًا لِلْمُسْنَدِ، إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَيْدٍ فِيهِ، لَا فِي جَمِيعِ اعْتِبَارَاتِهِ: نَظِيرَ قَوْلِ الْخَنْسَاءِ:
إِذَا قَبُحَ الْبُكَاءُ عَلَى قَتِيلٍ رَأَيْتُ بُكَاءَك الْحَسَنَ الْجَمِيلَا
فَحَصَرَتِ الْحَسَنَ فِي بُكَائِهِ بِقَاعِدَةِ أَنَّ الْمَقْصُورَ هُوَ الْحَسَنُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ، وَهَذَا الْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ التَّقْيِيد بِوَقْت حج الْبُكَاءِ عَلَى الْقَتْلَى وَهُوَ قَصْرُ حُسْنِ بُكَائِهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِيَكُونَ لِبُكَائِهَا عَلَى صَخْرٍ مَزِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى بُكَاءِ الْقَتْلَى الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ أَبَى اعْتِبَارَ الْقَصْرِ فِي الْبَيْتِ أَصْلًا صَاحِبُ الْمُطَوَّلِ.
وَإِذْ قَدْ جَاءَتْ أَدْيَانٌ صَحِيحَةٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فَالْحَصْرُ مُؤَوَّلٌ: إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ عِنْدَ اللَّهِ، حِينَ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى وَقْتِ الْإِخْبَارِ إِذِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا حَقَائِقُ فِي الْحَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَقْتَ الْإِخْبَارِ لَيْسَ فِيهِ دِينٌ صَحِيحٌ غَيْرَ الْإِسْلَامِ إِذْ قَدْ عَرَضَ لِبَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، مِنْ خَلْطِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ، مَا اخْتَلَّ لِأَجْلِهِ مَجْمُوعُ الدِّينِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ عِنْدَ اللَّهِ فَيَكُونُ الْقَصْرُ بِاعْتِبَارِ سَائِرِ الْأَزْمَانِ وَالْعُصُورِ إِذْ لَا أَكْمَلَ مِنْ هَذَا الدِّينِ، وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا غَايَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْبَشَرِ فِي صَلَاح شؤونهم، بَلْ كَانَ كُلُّ دِينٍ مَضَى مُقْتَصِرًا عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مَحْمَلَيِ الْآيَةِ، لِأَنَّ مُفَادَهُ أَعَمُّ، وَتَعْبِيرَهُ عَنْ حَاصِلِ صِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ- تُجَاهَ بَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ- أَتَمُّ.
ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَوْجِيهِ الشَّرَائِعِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ قَرْعِ الْأَسْمَاعِ بِعِبَارَاتِ التَّشْرِيعِ أَوِ التَّذَوُّقِ لِدَقَائِقِ تَرَاكِيبِهِ، بَلْ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا شَرَعَ لِلنَّاسِ هُوَ عَمَلُهُمْ بِتَعَالِيمِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَمَلَ، جَعَلَ اللَّهُ الشَّرَائِعَ مُنَاسِبَةً لِقَابِلَيَّاتِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا، وَجَارِيَةً عَلَى قَدْرِ قَبُولِ عُقُولِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعَمَلِ بِهَا بِدَوَامٍ وَانْتِظَامٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّدَيُّنِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعْلِيمُ الدِّينِيُّ
190
دَأْبًا وَعَادَةً لِمُنْتَحِلِيهِ، وَحَيْثُ النُّفُوسُ لَا تَسْتَطِيعُ الِانْصِيَاعَ إِلَى مَا لَا يَتَّفِقُ مَعَ مُدْرَكَاتِهَا، لَا جَرَمَ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ. لِيُمْكِنَ لِلْأُمَمِ الْعَمَلُ بِتَعَالِيمِ شَرَائِعِهَا بِانْتِظَامٍ وَمُوَاظَبَةٍ.
وَقَدْ كَانَتْ أَحْوَالُ الْجَمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، فِي أَوَّلِ عُهُودِ الْحَضَارَةِ، حَالَاتِ عُكُوفٍ عَلَى عَوَائِدَ وَتَقَالِيدَ بَسِيطَةٍ، ائتلفت رويدا رُوَيْدًا عَلَى حَسَبِ دَوَاعِي الْحَاجَاتِ، وَمَا تِلْكَ الدَّوَاعِي، الَّتِي تَسَبَّبَتْ فِي ائْتِلَافِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ، إِلَّا دَوَاعٍ غَيْرُ مُنْتَشِرَةٍ لِأَنَّهَا تَنْحَصِرُ فِيمَا يَعُودُ عَلَى الْفَرْدِ بِحِفْظِ حَيَاتِهِ، وَدَفْعِ الْآلَامِ عَنْهُ، ثُمَّ بِحِفْظِ حَيَاةِ مَنْ يَرَى لَهُ مَزِيدَ اتِّصَالٍ بِهِ، وَتَحْسِينِ حَالِهِ، فَبِذَلِكَ ائْتَلَفَ نِظَامُ الْفَرْدِ، ثُمَّ نِظَامُ الْعَائِلَةِ، ثُمَّ نِظَامُ الْعَشِيرَةِ، وَهَاتِهِ النُّظُمُ الْمُتَقَابِسَةُ هِيَ نُظُمٌ مُتَسَاوِيَةُ الْأَشْكَالِ إِذْ كُلُّهَا لَا يَعْدُو حِفْظَ الْحَيَاةِ، بِالْغِذَاءِ وَالدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ، وَدَفْعِ الْآلَامِ بِالْكِسَاءِ وَالْمَسْكَنِ وَالزَّوَاجِ، وَالِانْتِصَارِ لِلْعَائِلَةِ وَلِلْقَبِيلَةِ لِأَنَّ بِهَا الِاعْتِزَازَ، ثُمَّ مَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ تَعَاوُنِ الْآحَادِ عَلَى ذَلِكَ، بِإِعْدَادِ الْمُعَدَّاتِ: وَهُوَ التَّعَاوُضُ وَالتَّعَامُلُ، فَلَمْ تَكُنْ فِكْرَةُ النَّاسِ تَعْدُو هَذِهِ الْحَالَةَ، وَبِذَلِكَ لم يكن لإحدى الْجَمَاعَاتِ شُعُورٌ بِمَا يَجْرِي لَدَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى، فَضْلًا عَنِ التَّفْكِيرِ فِي اقتباس إِحْدَاهَا مِمَّا
يَجْرِي لَدَى غَيْرِهَا، وَتِلْكَ حَالَةُ قَنَاعَةِ الْعَيْشِ، وَقُصُورِ الْهِمَّةِ، وَانْعِدَامِ الدَّوَاعِي فَإِذَا حَصَلَتِ الْأَسْبَابُ الْآنِفَةُ عَدَّ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ فِي مُنْتَهَى السَّعَادَةِ.
وَكَانَ التَّبَاعُدُ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ فِي الْمُوَاطِنِ مَعَ مَشَقَّةِ التَّوَاصُلِ، وَمَا يَعْرِضُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالْمَتَاعِبِ، حَائِلًا عَنْ أَنْ يُصَادِفَهُمْ مَا يُوجِبُ اقْتِبَاسَ الْأُمَمِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَشُعُورَ بَعْضِهَا بِأَخْلَاقِ بَعْضٍ، فَصَارَ الصَّارِفُ عَنِ التَّعَاوُنِ فِي الْحَضَارَةِ الْفِكْرِيَّةِ مَجْمُوعَ حَائِلَيْنِ: عَدَمِ الدَّاعِي، وَانْسِدَادِ وَسَائِلِ الصُّدْفَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا يَعْرِضُ مِنْ وِفَادَةِ وَافِدٍ، أَوِ اخْتِلَاطٍ فِي نَجْعَةٍ أَوْ مَوْسِمٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِنْ حَصَلَ فَسُرْعَانَ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، فَيُصْبِحُ فِي خَبَرِ كَانَ.
فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْ أَقْوَامٍ، هَذِهِ حَالُهُمْ، أَنْ يَدْعُوَهُمُ الدَّاعِي إِلَى صَلَاحٍ فِي أَوْسَعَ مِنْ دَوَائِرِ مُدْرَكَاتِهِمْ، وَمُتَقَارِبِ تَصَوُّرِ عُقُولِهِمْ، أَلَيْسُوا إِذَا جَاءَهُمْ مُصْلِحٌ كَذَلِكَ لَبِسُوا لَهُ جِلْدَ النَّمِرِ، فَأَحَسَّ مِنْ سُوءِ الطَّاعَةِ حَرْقَ الْجَمْرِ، لِذَلِكَ لَمْ تَتَعَلَّقْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى،
191
فِي قَدِيمِ الْعُصُورِ، بِتَشْرِيعِ شَرِيعَةٍ جَامِعَةٍ صَالِحَةٍ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، بَلْ كَانَتِ الشَّرَائِعُ تَأْتِي إِلَى أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ
وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، فِي صِفَةِ عَرْضِ الْأُمَمِ لِلْحِسَابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَيَجِيءُ النَّبِيءُ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيءُ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيءُ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «فَجَعَلَ النَّبِيءُ وَالنَّبِيئَانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ»
الْحَدِيثَ. وَبَقِيَ الْحَقُّ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَشَاعًا بَيْنَ الْأُمَمِ، فَفِي كُلِّ أُمَّةٍ تَجِدُ سَدَادًا وَأَفْنًا، وَبَعْضُ الْحَقِّ لَمْ يَزَلْ مَخْبُوءًا لَمْ يُسْفِرْ عَنْهُ الْبَيَانُ.
ثُمَّ أَخَذَ الْبَشَرُ يَتَعَارَفُونَ بِسَبَبِ الْفُتُوحِ وَالْهِجْرَةِ، وَتَقَاتَلَتِ الْأُمَمُ الْمُتَقَارِبَةُ الْمَنَازِلِ، فَحَصَلَ لِلْأُمَمِ حَظٌّ مِنَ الْحَضَارَةِ، وَتَقَارَبَتِ الْعَوَائِدُ، وَتَوَسَّعَتْ مَعْلُومَاتُهُمْ، وَحَضَارَتُهُمْ، فَكَانَتْ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ: شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ غَيْرِهَا شَرِيعَةُ (حَمُورَابِي) فِي الْعِرَاقِ، وَشَرِيعَةُ الْبَرَاهِمَةِ، وَشَرِيعَةُ الْمِصْرِيِّينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يُوسُف: ٧٦].
ثُمَّ أَعْقَبَتْهَا شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ كُبْرَى وَهِيَ شَرِيعَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي اخْتَلَطَ أَهْلُهَا بِأُمَمٍ كَثِيرَةٍ فِي مَسِيرِهِمْ فِي التِّيهِ وَمَا بَعْدَهُ، وَجَاوَرَتْهَا أَوْ أَعْقَبَتْهَا شَرَائِعُ مِثْلَ شَرِيعَةِ (زَرَادِشْتَ) فِي الْفُرْسِ، وَشَرِيعَةِ (كُنْفُشْيُوسَ) فِي الصِّينِ، وَشَرِيعَةِ (سُولُونَ) فِي الْيُونَانِ.
وَفِي هَذِهِ الْعُصُورِ كُلِّهَا لَمْ تَكُنْ إِحْدَى الشَّرَائِعِ عَامَّةَ الدَّعْوَةِ، وَهَذِهِ أَكْبَرُ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الْمُوسَوِيَّةُ لَمْ تدع غير بَين إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَدْعُ الْأُمَمَ الْأُخْرَى الَّتِي مَرَّتْ عَلَيْهَا، وَامْتَزَجَتْ
بِهَا، وَصَاهَرَتْهَا، وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْمَسِيحِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى دَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا الْقِدِّيسُ بُولُسُ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً.
إِلَى أَنْ كَانَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَعْدَ الْمَسِيحِ حُصُولُ تَقَابُسٍ وَتَمَازُجٍ بَيْنَ أَصْنَافِ الْبَشَرِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَوَائِدِ، بِسَبَبَيْنِ: اضْطِرَارِيٍّ، وَاخْتِيَارِيٍّ. أَمَّا الِاضْطِرَارِيُّ فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَرَامَتِ الْأُمَمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاتَّجَهَ أَهْلُ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ، وَأَهْلُ الْغَرْبِ إِلَى الشَّرْقِ، بِالْفُتُوحِ الْعَظِيمَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَهُمَا يَوْمَئِذٍ قُطْبَا الْعَالَمِ، بِمَا يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُمَمٍ تَنْتَمِي إِلَى سُلْطَانِهَا، فَكَانَتِ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَوَالَتْ أَزْمَانًا طَوِيلَةً.
192
وَأَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ فَهُوَ مَا أَبْقَاهُ ذَلِكَ التَّمَازُجُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَخْلَاقٍ وَعَوَائِدَ، حَسُنَتْ فِي أَعْيُنِ رَائِيهَا، فَاقْتَبَسُوهَا، وَأَشْيَاءَ قَبُحَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَحَذِرُوهَا، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ نَشَأَتْ يَقَظَةٌ جَدِيدَةٌ، وَتَأَسَّسَتْ مَدَنِيَّاتٌ مُتَفَنِّنَةٌ، وَتَهَيَّأَتِ الْأَفْكَارُ إِلَى قَبُولِ التَّغْيِيرَاتِ الْقَوِيَّةِ، فَتَهَيَّأَتْ جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى قَبُولِ التَّعَالِيمِ الْغَرِيبَةِ عَنْ عَوَائِدِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَتَسَاوَتِ الْأُمَمُ وَتَقَارَبَتْ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ تَفَاوُتًا رُبَّمَا كَانَ مِنْهُ مَا زَاد بَعْضهَا تهيّئوا لِقَبُولِ التَّعَالِيمِ الصَّحِيحَةِ، وَقَهْقَرَ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ بِمَا دَاخَلَهَا مِنَ الْإِعْجَابِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهَا، أَوِ الْعُكُوفِ وَالْإِلْفِ عَلَى حَضَارَتِهَا.
فَبَلَغَ الْأَجَلُ الْمُرَادُ وَالْمُعَيَّنُ لِمَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الْحَقِّ الْخَاتِمَةِ الْعَامَّةِ.
فَأَظْهَرَ اللَّهُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ لِظُهُورِهِ، وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُهُ بَيْن ظَهْرَانَيْ أُمَّةٍ لَمْ تَسْبِقْ لَهَا سَابِقَةُ سُلْطَانٍ، وَلَا كَانَتْ ذَاتَ سِيَادَةٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جِهَاتِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهَا أُمَّةٌ سَلَّمَهَا اللَّهُ مِنْ مُعْظَمِ رُعُونَاتِ الْجَمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَظْهَرَ هَذَا الدِّينَ بِوَاسِطَةِ رَجُلٍ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ، وَلَا مِنْ ذُرِّيَّةِ مُلُوكٍ، وَلَا اكْتَسَبَ خِبْرَةً سَابِقَةً بِهِجْرَةٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ، لِيَكُونَ ظُهُور هَذَا تَحت الصَّرِيحِ، وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، مِنْ مِثْلِهِ آيَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ نَفَحَ بِهِ عِبَادَهُ.
ثُمَّ جَعَلَ أُسُسَ هَذَا الدِّينِ مُتَبَاعِدَةً عَنْ ذَمِيمِ الْعَوَائِدِ فِي الْأُمَمِ، حَتَّى الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ بَيْنَهَا، وَمُوَافِقَةً لِلْحَقِّ وَلَوْ كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهَا، وَكَانَتْ أُصُولُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى الْفِطْرَةِ بِمَعْنَى أَلَّا تَكُونَ نَاظِرَةً إِلَّا إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ، غَيْرَ مَأْسُورٍ لِلْعَوَائِدِ وَلَا لِلْمَذَاهِبِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: ٣٠]، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ ابْنُ سِينَا: «الْفِطْرَةُ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَصَلَ فِي الدُّنْيَا دَفْعَةً وَهُوَ عَاقِلٌ، لَمْ يَسْمَعْ
رَأْيًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يُعَاشِرْ أُمَّةً، لَكِنَّهُ شَاهَدَ الْمَحْسُوسَاتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَى ذِهْنِهِ الْأَشْيَاءَ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الشَّكُّ فِي شَيْءٍ فَالْفِطْرَةُ لَا تَشْهَدُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فِيهِ فَالْفِطْرَةُ تُوجِبُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا تُوجِبُهُ الْفِطْرَةُ بِصَادِقٍ، بَلِ الصَّادِقُ مِنْهُ مَا تَشْهَدُ بِهِ فِطْرَةُ الْقُوَّةِ الَّتِي تُسَمَّى عَقْلًا، قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِضَهُ الْوَهْمُ»
.
193
وَيَدْخُلُ فِي الْفِطْرَةِ الْآدَابُ الْعَتِيقَةُ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْهَا كَافَّةُ عُقَلَاءِ الْبَشَرِ، وَارْتَاضَتْ نُفُوسُهُمْ بِهَا، إِذَا كَانَتْ تُفِيدُهُمْ كَمَالًا، وَلَا تُفْضِي إِلَى فَسَادٍ، وَذَلِكَ أُصُولُ قَوَاعِدِ حِفْظِ النَّسَبِ وَالْعِرْضِ خَاصَّةً. فَبِهَذَا الْأَصْلِ: أَصْلِ الْفِطْرَةِ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينًا صَالِحًا لِجَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصُرِ.
ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الْأَصْلُ فِي تِسْعَةِ مَظَاهِرَ خَادِمَةٍ لَهُ وَمُهَيِّئَةٍ جَمِيعَ النَّاسِ لِقَبُولِهِ.
الْمَظْهَرُ الْأَوَّلُ: إِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ بِحَمْلِ الذِّهْنِ عَلَى اعْتِقَادٍ لَا يَشُوبُهُ تَرَدُّدٌ وَلَا تَمْوِيهٌ وَلَا أَوْهَامٌ وَلَا خُرَافَاتٌ، ثُمَّ بِكَوْنِ عَقِيدَتِهِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْخُضُوعِ لِوَاحِدٍ عَظِيمٍ، وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِاتِّصَافِ هَذَا الْوَاحِدِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ التَّامَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الخضوع إِلَيْهِ اختياريا، ثُمَّ لِتَصِيرَ تِلْكَ الْكَمَالَاتُ مَطْمَحَ أَنْظَارِ الْمُعْتَقِدِ فِي التَّخَلُّقِ بِهَا ثُمَّ بِحَمْلِ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى تَطْهِيرِ عَقَائِدِهِمْ حَتَّى يَتَّحِدَ مَبْدَأُ التَّخَلُّقِ فِيهِمْ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٦٤].
وَكَانَ إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ أَهَمَّ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَأَكْثَرَ مَا تَعَرَّضَ لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْفِكْرَةِ هُوَ مَبْدَأُ كُلِّ إِصْلَاحٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُرْجَى صَحَّ لِقَوْمٍ تَلَطَّخَتْ عُقُولُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ، وَخَسِئَتْ نُفُوسُهُمْ بِآثَارِ تِلْكَ الْعَقَائِدِ الْمُثِيرَةِ: خَوْفًا مِنْ لَا شَيْءٍ، وَطَمَعًا فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَإِذَا صَلُحَ الِاعْتِقَادُ أَمْكَنَ صَلَاحُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمَرْءَ إِنْسَانٌ بِرُوحِهِ لَا بِجِسْمِهِ.
ثُمَّ نَشَأَ عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِيِّ: عزّة النَّفس، وَأَصله الرَّأْيِ، وَحُرِّيَّةُ الْعَقْلِ، وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيمَا عَدَا الْفَضَائِلَ.
وَقَدْ أَكْثَرَ الْإِسْلَامُ شَرْحَ الْعَقَائِدِ إِكْثَارًا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ دِينٌ آخَرُ بَلْ إِنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الصَّحِيحَةِ، فَلَا تَرَى فِيهَا مِنْ شَرْحِ صِفَاتِ الْخَالِقِ إِلَّا قَلِيلًا.
الْمَظْهَرُ الثَّانِي: جَمْعُهُ بَيْنَ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، بِالتَّزْكِيَةِ، وَبَيْنَ إِصْلَاحِ نِظَامِ الْحَيَاةِ، بِالتَّشْرِيعِ، فِي حِينِ كَانَ مُعْظَمُ الْأَدْيَانِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى نِظَامِ الْحَيَاةِ بِشَيْءٍ، وَبَعْضُهَا وَإِنْ تَطَرَّقَ
إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ، بَلْ كَانَ مُعْظَمُ اهْتِمَامِهَا مُنْصَرِفًا إِلَى الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَادَاتِ،
194
وَقَدْ قَرَنَ الْقُرْآنُ الْمَصْلَحَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
الْمظهر الثَّالِثُ: اخْتِصَاصُهُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَمُجَادَلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِصُنُوفِ الْمُجَادَلَاتِ وَتَعْلِيلِ أَحْكَامِهِ، بِالتَّرْغِيبِ وَبِالتَّرْهِيبِ، وَذَلِكَ رَعْيٌ لِمَرَاتِبِ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَقْتَنِعُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، وَمِنْهُمُ الْمُكَابِرُ الَّذِي لَا يَرْعَوِي إِلَّا بِالْجَدَلِ وَالْخَطَابَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُتَرَهِّبُ الَّذِي اعْتَادَ الرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْهُمُ الْمُكَابِرُ الْمُعَانِدُ، الَّذِي لَا يُقْلِعُهُ عَنْ شَغَبِهِ إِلَّا الْقَوَارِعُ وَالزَّوَاجِرُ.
الْمَظْهَرُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ جَاءَ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ، وَهَذَا شَيْءٍ لَمْ يَسْبِقْ فِي دِينٍ قَبْلَهُ قَطُّ، وَفِي الْقُرْآنِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَاف: ١٥٨]،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- فَذَكَرَ- وَكَانَ الرَّسُولُ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّسُلَ كُلَّهُمْ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أَقْوَامِهِمْ.
وَالِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِ نُوحٍ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ: عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ انْحَصَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي أَتْبَاعِ نُوحٍ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعُمُومِ الطُّوفَانِ سَائِرَ الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: ٥٩] وأيّاما كَانَ احْتِمَالُ كَوْنِ سُكَّانِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِ نُوحٍ هُمْ مَنْ ضَمَّهُمْ وَطَنُ نُوحٍ، فَإِنَّ عُمُومَ دَعْوَتِهِ حَاصِلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
الْمَظْهَرُ الرَّابِعُ: الدَّوَامُ وَلَمْ يَدَّعِ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ أَنَّ شَرِيعَتَهُ دَائِمَةٌ، بَلْ مَا مِنْ رَسُولٍ، وَلَا كِتَابٍ، إِلَّا تَجِدُ فِيهِ بِشَارَةً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ.
الْمَظْهَرُ الْخَامِسُ: الْإِقْلَالُ مِنَ التَّفْرِيعِ فِي الْأَحْكَامِ بَلْ تَأْتِي بِأُصُولِهَا وَيُتْرَكُ التَّفْرِيعُ لِاسْتِنْبَاطِ الْمُجْتَهِدِينَ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٣٨] لِتَكُونَ الْأَحْكَامُ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ.
الْمَظْهَرُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَصَايَا الْأَدْيَانِ إِمْكَانُ الْعَمَلِ بِهَا، وَفِي أُصُولِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي تَأْتِي إِلَى النُّفُوسِ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَوَاطِرِ الشُّرُورِ لِأَنَّ
195
الشُّرُورَ، إِذَا تَسَرَّبَتْ إِلَى النُّفُوسِ، تَعَذَّرَ أَوْ عَسُرَ اقْتِلَاعُهَا مِنْهَا، وَكَانَتِ
الشَّرَائِعُ تَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى مُتَابَعَةِ وَصَايَاهَا بِالْمُبَاشَرَةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ بِطَرِيقَتَيْنِ: طَرِيقَةٍ مُبَاشِرَةٍ، وَطَرِيقَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْفَسَادِ، وَغَالِبُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَأَحْسَبُهَا أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُرِيدَ بِالْمُشْتَبِهَاتِ
فِي حَدِيثِ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»
. الْمَظْهَرُ السَّابِعُ: الرَّأَفَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ بِالِاقْتِصَارِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى مَوْضِعِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ تَطَلُّبِ إِبْرَازِ ذَلِكَ التَّشْرِيعِ فِي صُورَةٍ لَيِّنَةٍ، وَفِي الْقُرْآنِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]
وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ- وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»
وَكَانَتِ الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ تَحْمِلُ عَلَى الْمُتَابَعَةِ بِالشِّدَّةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْبَقَاءِ لِأَنَّهَا رُوعِيَ فِيهَا حَالُ قَسَاوَةِ أُمَمٍ فِي عُصُورٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ تَكُنْ بِالَّتِي يُنَاسِبُهَا مَا قُدِّرَ مَصِيرُ الْبَشَرِ إِلَيْهِ مِنْ رِقَّةِ الطِّبَاعِ وَارْتِقَاءِ الْأَفْهَامِ.
الْمَظْهَرُ الثَّامِنُ: امْتِزَاجُ الشَّرِيعَةِ بِالسُّلْطَانِ فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّشْرِيعِ إِلَّا تَأْسِيسُ قَانُونٍ لِلْأُمَّةِ، وَمَا قِيمَةُ قَانُونٍ لَا تَحْمِيهِ الْقُوَّةُ وَالْحُكُومَةُ.
وَبِامْتِزَاجِ الْحُكُومَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ أَمْكَنَ تَعْمِيمُ الشَّرِيعَةِ، وَاتِّحَادُ الْأُمَّةِ فِي الْعَمَلِ وَالنِّظَامِ.
الْمَظْهَرُ التَّاسِعُ: صَرَاحَةُ أُصُولِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَتَكَرَّرُ فِي الْقُرْآنِ مَا تُسْتَقْرَى مِنْهُ قَوَاطِعُ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى تَكُونَ الشَّرِيعَةُ مَعْصُومَةً مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّحْرِيفَاتِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَى أَهْلِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَيَزْدَادُ هَذَا بَيَانًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: ٢٠].
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
عَطَفَ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ سُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ فِي دِينِهِمْ.
196
وَجِيءَ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ بِطَرِيقَةٍ مُؤْذِنَةٍ بِوُرُودِ سُؤَالٍ إِذْ قَدْ جِيءَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ: لِبَيَانِ سَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ، وَكَأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَجِيبٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِمْ إِخْبَارًا يَتَضَمَّنُ بَيَانَ سَبَبِهِ، وَإِبْطَالَ مَا يَتَرَاءَى مِنَ الْأَسْبَابِ غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ إِظْهَارِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِ الدِّينِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَبَيْنَ سَلَامَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قَدْ آذَنَ بِأَنَّ غَيره من الأدين لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِلْعُمُومِ، وَالدَّوَامِ، قَبْلَ التَّغْيِيرِ، بَلْهَ مَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ التَّغْيِيرِ، وَسُوءِ التَّأْوِيلِ، إِلَى يَوْمِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَكْمَلِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ وَالِاخْتِلَافُ، وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ هُوَ الْبَغي بعد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ وَتَغْيِيرُهُمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا بَدَّلُوهُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ بَعِيدٌ عَنْ مِثْلِ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيفِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَظْهَرِ التَّاسِعِ، وَمِنْ ثَمَّ ذَمَّ عُلَمَاؤُنَا التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةَ، وَالَّتِي لَمْ يَدْعُ إِلَيْهَا دَاعٍ صَرِيحٌ.
وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى نَظْمٍ عَجِيبٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا التَّحْذِيرُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، أَيْ فِي أُصُولِهِ، وَوُجُوبُ تَطَلُّبِ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُنَاقِضُ مَقْصِدَ الدِّينِ، عِبْرَةً بِمَا طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الِاخْتِلَافِ.
وَمِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَصَلَ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَسَاءُوا فَهْمَ الدِّينِ.
وَمِنْهَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْحَاصِلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اخْتِلَافُ كُلِّ أُمَّةٍ مَعَ الْأُخْرَى فِي صِحَّةِ دِينِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ [الْبَقَرَة: ١١٣]، وَثَانِيهِمَا اخْتِلَافُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا فِيمَا بَيْنَهَا وَافْتِرَاقُهَا فِرَقًا مُتَبَايِنَةَ الْمَنَازِعِ. كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»
يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا صَنَعُوا.
وَمِنْهَا أنّ اخْتلَافهمْ ناشيء عَنْ بَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
197
وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ بَغْيًا مِنْهُمْ وَحَسَدًا، مَعَ ظُهُورِ أَحَقِّيَّتِهِ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْبَقَرَة: ١٤٦، ١٤٧]، وَقَالَ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: ١٠٩] أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَصَمَّمُوا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى دِينِهِمْ، وَوَدُّوا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ إِلَى الشِّرْكِ أَوْ إِلَى مُتَابَعَةِ دِينِهِمْ حَسَدًا عَلَى مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وَلِأَجْلِ أَنْ يَسْمَحَ نَظْمُ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، حُذِفَ مُتَعَلِّقُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ:
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لِيَشْمَلَ كُلَّ اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ: مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الدِّينِ الْوَاحِدِ، وَمُخَالَفَةِ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ لِأَهْلِ الدِّينِ الْآخَرِ، وَمُخَالَفَةِ جَمِيعِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الدِّينِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ لِذَلِكَ.
وَجُعِلَ «بَغْيًا» عَقِبَ قَوْلِهِ: «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ» لِيَتَنَازَعهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (اخْتَلَفَ) وَمِنْ لَفْظِ (الْعِلْمُ).
وَأُخِّرَ بَيْنَهُمْ عَنْ جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيقِ بِهِ: لِيَتَنَازَعهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (اخْتَلَفَ) وَفِعْلِ (جَاءَهُمْ) وَلَفْظِ (الْعِلْمُ) وَلَفْظِ (بَغْيًا).
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْسَعُ مَعَانِيَ مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣] وَقَوْلِهِ:
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ [٤] كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي ذَيْنِكَ الْمَوْضِعَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ.
فَاخْتِلَافُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَشْمَلُ اخْتِلَافَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَيِ اخْتِلَافَ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ فِي أُمُور دينهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تشعر بهَا صِيغَةُ اخْتَلَفَ كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ بَعْدَ مُوسَى غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاخْتِلَافِهِمْ بَعْدَ سُلَيْمَانَ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ: مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ، وَمَمْلَكَةِ يَهُوذَا، وَكَيْفَ صَارَ لِكُلِّ مَمْلَكَةٍ مِنَ الْمَمْلَكَتَيْنِ تَدَيُّنٌ يُخَالِفُ تَدَيُّنَ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ
198
اخْتِلَافُ النَّصَارَى فِي شَأْنِ الْمَسِيحِ، وَفِي رُسُومِ الدِّينِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «بَينهم» حَالا لبغيا: أَيْ بَغْيًا مُتَفَشِّيًا بَيْنَهُمْ، بِأَنْ بَغَى كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى الْآخَرِ.
وَيَشْمَلُ أَيْضًا الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: هُوَ حَقٌّ، وَقَالَ فَرِيقٌ: هُوَ مُرْسَلٌ إِلَى الْأُمِّيِّينَ، وَكَفَرَ فَرِيقٌ، وَنَافَقَ فَرِيقٌ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْفَى مُنَاسَبَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا وَصفا لبغيا: أَيْ بَغْيًا وَاقِعًا بَيْنَهُمْ.
وَمَجِيءُ الْعِلْمِ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ وَأَنْبِيَاؤُهُمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ جَاءَ مُؤْذِنَةٌ بِعِلْمٍ مُتَلَقًّى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَهُمْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَسَاءُوا فَكَانُوا عَلَى خِلَافِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ إِرْسَالِ الْهُدَى.
وَانْتَصَبَ بَغْياً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَعَامِلُ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَفَرَّغَ لِلْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ كَانَ مِنْ أَزْمَانٍ وَعِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ وَالتَّقْدِيرُ:
مَا اخْتَلَفُوا إِلَّا فِي زمن بعد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ وَمَا كَانَ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ بَغْيًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَهُوَ- وَإِن كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مَنْفِيًّا فِي اللَّفْظِ- إِلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ جَعَلَهُ فِي قُوَّةِ الْمُثْبَتِ، فَجَاءَ الْحَالُ مِنْهُ عَقِبَ ذَلِكَ، أَيْ حَالَ كَوْنِ الْمُخْتَلِفِينَ بَاغِينَ، فَالْمَصْدَرُ مُؤَوَّلٌ بِالْمُشْتَقِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهُ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ مِنِ (اخْتَلَفَ) بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صَارَ مُثْبَتًا كَمَا قَرَّرْنَا.
وَقَدْ لَمَّحَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ، وَالْبَغْيَ كُفْرٌ، لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِمْ إِلَى نَقْضِ قَوَاعِدِ أَدْيَانِهِمْ، وَإِلَى نُكْرَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ، لِأَنَّ سَرِيعَ الْحساب إنّما يبتدىء بِحِسَابِ مَنْ يَكْفُرُ بِآيَاتِهِ، والحساب هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: ١١٣].
وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقَعُوا فِي مِثْلِ مَا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وَالْمُسْلِمُونَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمْ إِلَّا
199
اخْتِلَافًا عِلْمِيًّا فَرْعِيًّا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافًا يَنْقُضُ أُصُولَ دِينِهِمْ بَلْ غَايَةُ الْكُلِّ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ مِنَ الدِّينِ، وَخِدْمَةُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَبَنُو إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَالرَّسُولُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَعَبَدُوا آلِهَةَ الْأُمَمِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالنَّصَارَى عَبَدُوا مَرْيَمَ وَالْمَسِيحَ، وَنَقَضُوا أُصُولَ التَّوْحِيدِ، وَادَّعَوْا حُلُولَ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَالَ أَحَدُ أَهْلِ التَّصَوُّفِ مِنْهُمْ كَلَامًا يُوهِمُ الْحُلُولَ حَكَمَ علماؤهم بقتْله.
[٢٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمرَان: ١٩] الْآيَةَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ قَدْ أَنْكَرُوهُ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى مُحَاجَّةِ الرَّسُولِ فِي تَبْرِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى أَقَلِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْمُحَاجَّةُ مفاعلة وَلم يجىء فِعْلُهَا إِلَّا بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. وَمَعْنَى الْمُحَاجَّةِ الْمُخَاصَمَةُ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ حَاجَّ فِي معنى المخاطمة بِالْبَاطِلِ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: ٨٠] وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨].
فَالْمَعْنَى: فَإِن خاصموك خَاصم مُكَابَرَةٍ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، بَلْ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ نُزُولِ السُّورَةِ، أَعْنِي قَضِيَّةَ وَفْدِ نَجْرَانَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ اهْتَمَّوْا بِالْمُحَاجَّةِ حِينَئِذٍ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَدْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَانْقَطَعَتْ مُحَاجَّتُهُمْ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَدْ تَظَاهَرُوا بِمُسَالَمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَة.
وَقد لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَ مُجَادَلَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَالْوَجْهُ أُطْلِقَ عَلَى النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: ٨٨] أَيْ ذَاتَهُ.
200
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا القَوْل طرايق ثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ مُتَارَكَةٌ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الْمُجَادَلَةِ أَيِ اعْتَرَفْتُ بِأَنْ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى أَنْ أَزِيدَكُمْ بَيَانًا، أَيْ إِنِّي أَتَيْتُ بِمُنْتَهَى الْمَقْدُورِ مِنَ الْحُجَّةِ فَلَمْ تَقْتَنِعُوا، فَإِذْ لَمْ يُقْنِعْكُمْ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ، فَلَيْسَتْ مُحَاجَّتُكُمْ إِيَّايَ إِلَّا مُكَابَرَةً وَإِنْكَارًا لِلْبَدِيهِيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ، وَمُبَاهَتَةً، فَالْأَجْدَرُ أَنْ أَكُفَّ عَنِ الِازْدِيَادِ. قَالَ الْفَخْرُ: فَإِنَّ الْمُحِقَّ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْمُبْطِلِ اللَّجُوجِ يَقُولُ: أَمَّا أَنَا فَمُنْقَادٌ إِلَى الْحَقِّ. وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ الْقُرْطُبِيُّ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ إِفَادَةُ قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ بِجُمْلَةِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقَوْلِهِ: أَأَسْلَمْتُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ، ضَرْبًا مِنَ الْإِدْمَاجِ إِذْ أَدْمَجَ فِي قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ إِعَادَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّينَيْنِ.
وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْصُ عَلَى اهْتِدَائِهِمْ، وَالْإِعْذَارُ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ خَارِجٌ عَنِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَرُّرٌ لِلدَّعْوَةِ، أَيِ اتْرُكْ مُحَاجَّتَهُمْ وَلَا تَتْرُكْ دَعْوَتَهُمْ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحِجَاجِ الَّذِي حَاجَّهُمْ بِهِ خُصُوصَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا دَارَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ وَفْدِ نَجْرَانَ مِنَ الْحِجَاجِ الَّذِي عَلِمُوهُ فَمِنْهُ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُ مَا طُوِيَ ذِكْرُهُ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ تَلْخِيصٌ لِلْحُجَّةِ، وَاسْتِدْرَاجٌ لِتَسْلِيمِهِمْ إِيَّاهَا، وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ مَآلُهَا إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ حَقًّا، وَأَحْسَنُهَا مَا قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا زِيَادَاتٍ زَادَتْهَا شَرَائِعُهُمْ، فَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: ١٢٣] أَمَرَهُ هُنَا أَنْ يُجَادِلَ النَّاس بِمثل قَوْله إِبْرَاهِيمَ: فَإِبْرَاهِيمُ قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: ٧٩]
وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ»
أَيْ فَقَدْ قُلْتُ مَا قَالَهُ اللَّهُ، وَأَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تنكرون أنّي عتلى الْحَقِّ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِالْإِلْزَامَاتِ وَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥].
201
الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ مَا قَالَهُ الْفَخْرُ وَحَاصِلُهُ مَعَ بَيَانِهِ أَنْ يكون هَذَا مُرْتَبِط بِقَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] أَيْ فَإِنْ حَاجُّوكَ فِي أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَقُلْ: إِنِّي بِالْإِسْلَامِ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَلَا أَلْتَفِتُ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ مِثْلَكُمْ، فَدِينَيِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ هُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ (أَيْ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ دِينًا عِنْدَ اللَّهِ).
وَعَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ خَارِجًا عَنِ الْحُجَّةِ إِذْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِ الْإِسْلَامِ هُوَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ مَرَّةً أُخْرَى بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّحْضِيضِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: ٩١] أَيْ قُلْ لِأُولَئِكَ: أَتُسْلِمُونَ.
وَعِنْدِي أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَمَّا اقْتَضَى أَنَّهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَالْمُرَادُ بِفِعْلِ: «حَاجُّوكَ» الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْمُحَاجَّةِ: أَيْ فَإِنِ اسْتَمَرَّ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى مُحَاجَّتِهِمْ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا فَصْلًا جَامِعًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ دِينِكَ الَّذِي أُرْسِلْتَ بِهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ مُتَدَيِّنُونَ بِهِ. فَمَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَخْلَصْتُ عُبُودِيَّتِي لَهُ لَا أُوَجِّهُ وَجْهِي إِلَى غَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا كُنْهُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الدِّينُ الْخَالِصُ، وَأَنَّهُمْ لَا يُلْفُونَ تَدَيُّنَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ.
وَقَوْلُهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَيَدْخُلُ الْمَعْطُوفُ فِي التَّفْرِيعِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ النَّظْمِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَقُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ:
أَأَسْلَمْتُمْ، أَيْ فَكَرِّرْ دَعْوَتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِبْطَاءِ وَالتَّحْضِيضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ
[الْمَائِدَة: ٩١]. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَأَسْلَمْتُمْ دُونَ أَنْ يَقُولَ أَتُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَرْجُو تَحَقُّقَ إِسْلَامِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ كَالْحَاصِلِ فِي الْمَاضِي.
اعْلَم أَنَّ قَوْلَهُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعَانِي كُنْهِ الْإِسْلَامِ وَأُصُولِهِ أُلْقِيَتْ إِلَى النَّاسِ لِيَتَدَبَّرُوا مَطَاوِيَهَا فَيَهْتَدِيَ الضَّالُّونَ، وَيَزْدَادَ الْمُسْلِمُونَ يَقِينًا بِدِينِهِمْ إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَجِيءَ قَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان:
١٩] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ وَتَعْقِيبَهُ بِقَوْلِهِ: أَأَسْلَمْتُمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ جَامِعِ مَعَانِي الْإِسْلَامِ حَتَّى
202
تَسْهُلَ الْمُجَادَلَةُ، وَتُخْتَصَرَ الْمُقَاوَلَةُ، وَيَسْهُلَ عَرْضُ الْمُتَشَكِّكِينَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، لِيَعْلَمُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ. وبيّنت هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يُتَرْجِمُ عَنْ حَقِيقَةِ اسْمِهِ فَإِنَّ اسْمَهُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ مُفِيدٌ مَعْنًى مَعْرُوفًا فِي لُغَتِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى الْإِلْقَاءِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ وَنُزِّلَ الْفِعْل منزلَة الْفِعْلُ اللَّازِمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَعْنَى الْفَاعِلِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَسْلَمْتُنِي أَيْ أَسْلَمْتُ نَفَسِي، فَبَيَّنَ هُنَا هَذَا الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ مِنِ اسْمِ الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهِ الْتِبَاسٌ أَوْ تَأْوِيلٌ لِمَا لَا يُطَابِقُ الْمُرَادَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَجْهِيَ) أَيْ نَفْسِي: لِظُهُورِ أَلَّا يَحْسُنَ مَحْمَلُ الْوَجْهِ هُنَا عَلَى الْجُزْءِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا يُفِيدُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، بَلِ الْمَعْنَى الْبَيِّنُ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهِ كَامِلُ الذَّاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: ٨٨].
وَإِسْلَامُ النَّفْسِ لِلَّهِ مَعْنَاهُ إِسْلَامُهَا لِأَجْلِهِ وَصَيْرُورَتُهَا مِلْكًا لَهُ، بِحَيْثُ يَكُونُ جَمِيعُ أَعْمَالِ النَّفْسِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَتَحْتَ هَذَا مَعَانٍ جَمَّةٌ هِيَ جِمَاعُ الْإِسْلَامِ: نَحْصُرُهَا فِي عَشَرَةٍ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: تَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَلَّا يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ بِاللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُسْلِمْ نَفسه لله بَلْ أَسْلَمَ بَعْضَهَا.
الْمَعْنَى الثَّانِي: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَظُ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُرَائِي وَلَا يُصَانِعُ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَا يُقَدِّمُ مَرْضَاةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ.
الثَّالِثُ: إِخْلَاصُ الْقَوْلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقُولُ مَا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ إِلَّا فِيمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى تَجِيءُ الصَّرَاحَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، عَلَى حَسَبِ الْمَقْدِرَةِ وَالْعِلْمِ، وَالتَّصَدِّي لِلْحُجَّةِ لِتَأْيِيدِ مُرَادِ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ امْتَازَ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا الْمَعْنَى النِّفَاقُ، وَالْمَلَقُ، قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ رَسُولِهِ:
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [يس: ٨٦].
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَاعِيًا لِتَعَرُّفِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ، لِيُجْرِيَ أَعْمَالَهُ عَلَى وَفْقِهِ، وَذَلِكَ بِالْإِصْغَاءِ إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنَ اللَّهِ، وَتَلَقِّيهَا بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُودِ صِدْقِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، بِدُونِ تَحَفُّزٍ لِلتَّكْذِيبِ، وَلَا
203
مُكَابَرَةٍ فِي تَلَقِّي الدَّعْوَةِ، وَلَا إِعْرَاضٍ عَنْهَا بِدَاعِي الْهَوَى وَهُوَ الْإِفْحَامُ، بِحَيْثُ يَكُونُ عِلْمُهُ بِمُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ هُوَ ضَالَّتُهُ الْمَنْشُودَةُ.
الْخَامِسُ: امْتِثَالُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ، عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ الصَّادِقِينَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى اتِّبَاعِ ذَلِكَ بِدُونِ تَغْيِيرٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، وَأَنْ يَذُودَ عَنْهُ مَنْ يُرِيدُ تَغْيِيرَهُ.
السَّادِسُ: أَلَّا يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ حُكْمًا مَعَ اللَّهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، فَلَا يَتَصَدَّى لِلتَّحَكُّمِ فِي قَبُولِ بَعْضِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَبْذِ الْبَعْضِ. كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النُّور: ٤٨، ٤٩]، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٣٦]، فَقَدْ أَعْرَضَ الْكُفَّارُ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا مَيِّتًا بُعِثَ.
السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُتَطَلِّبًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى جَرْيِهِ فِيهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ: بِتَطَلُّبِهِ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِنَظَائِرِهِ التَّامَّةِ التَّنْظِيرِ بِمَا عُلِمَ أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاء: ٨٣] وَلِهَذَا أَدْخَلَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ حُكْمَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالِاجْتِهَادِ، تَحْتَ التَّقْوَى الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغبن: ١٦].
الثَّامِنُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْهَوَى الْمَذْمُومِ فِي الدِّينِ، وَعَنِ الْقَوْلِ فِيهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: ٥٠].
التَّاسِعُ: أَنْ تَكُونَ مُعَامَلَةُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَجَمَاعَاتِهَا، وَمُعَامَلَتُهَا الْأُمَمَ كَذَلِكَ، جَارِيَةً عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ.
الْعَاشِرُ: التَّصْدِيقُ بِمَا غُيِّبَ عَنَّا، مِمَّا أَنْبَأَنَا اللَّهُ بِهِ: مِنْ صِفَاتِهِ، وَمِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْمُطْلَقُ.
وَقَوْلُهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ إِبْطَالٌ لِكَوْنِهِمْ حَاصِلِينَ عَلَى
هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَبُعْدُهمْ عَنْهُ أَشَدَّ الْبُعْدِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ أَلَّهُوا عِيسَى، وَجَعَلُوا مَرْيَمَ صَاحِبَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا أَصْلٌ لِبُطْلَانِ أَنْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ
204
لِلَّهِ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَصَانَعُوا الْأُمَمَ الْحَاكِمَةَ وَالْمُلُوكَ، فَأَسَّسُوا الدِّينَ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِذُّ لَهُمْ وَيُكْسِبُهُمُ الْحُظْوَةَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُمْ- وَإِنْ لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ- قَدْ نَقَضُوا أُصُولَ التَّقْوَى، فَسَفَّهُوا الْأَنْبِيَاءَ وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَاسْتَهْزَءُوا بِدَعْوَةِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَغَيَّرُوا الْأَحْكَامَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَقَتَلُوا الْأَحْبَارَ، فَأَنَّى يَكُونُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَسْلَمُوا لِلَّهِ، وَأَكْبَرُ مُبْطِلٍ لِذَلِكَ هُوَ تكذيبهم مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا مَعْنَاهُ: فَإِنِ الْتَزَمُوا النُّزُولَ إِلَى التَّحَقُّقِ بِمَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعُوكَ لِتَلَقِّي مَا تُبْلِغُهُمْ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَعَانِي إِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ قَوْلِكَ لَهُمْ: آسْلَمْتُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ تَبِعَةٌ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، فَقَوْلُهُ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَقَعَ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى عِلَّةُ الْجَوَابِ، فَوُقُوعُهُ مَوْقِعَ الْجَوَابِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، أَيْ لَا تَحْزَنْ، وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ عَدَمَ اهْتِدَائِهِمْ، وَخَيْبَتَكَ فِي تَحْصِيلِ إِسْلَامِهِمْ، كَانَ لِتَقْصِيرٍ مِنْكَ إِذْ لَمْ تُبْعَثْ إِلَّا لِلتَّبْلِيغِ، لَا لِتَحْصِيلِ اهْتِدَاءِ الْمُبَلَّغِ إِلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أَيْ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ أَتَمَّ الِاطِّلَاعِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرو، وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَأَبُو جَعْفَر، وَخلف «اتَّبَعَنِي» بِإِثْبَاتِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْوَصْلِ دون الْوَقْف. وقرأه الْبَاقُونَ بِإِثْبَات الْيَاء فِي الْوَصْل وَالْوَقْف.
[٢١، ٢٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٢١ إِلَى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ، الْمُنَافِيَةِ إِسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ، فَالْمُرَادُ بِأَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ خُصُوصُ الْيَهُودِ، وَهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِمَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ
205
مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْمُنَاسَبَةُ: جَرَيَانُ الْجِدَالِ مَعَ النَّصَارَى وَأَنْ جُعِلُوا جَمِيعًا فِي قَرَنِ قَوْلِهِ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمرَان: ٢٠].
وَجِيءَ فِي هَاتِهِ الصِّلَاتِ بِالْأَفْعَالِ الْمُضَارِعَةِ لِتَدُلَّ عَلَى استحضار الْحَالة الفظية، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِفَادَةَ التَّجَدُّدِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ تَأَتَّى فِي قَوْلِهِ: يَكْفُرُونَ لَا يَتَأَتَّى فِي قَوْلِهِ:
وَيَقْتُلُونَ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ فِي زَمَنٍ مَضَى. وَالْمُرَادُ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ يَهُودُ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ: لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ تَبِعَةَ أَسْلَافِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ سَدَادَ مَا فَعَلَهُ أَسْلَافُهُمُ، الَّذين قتلوا زَكَرِيَّاء لِأَنَّهُ حَاوَلَ تَخْلِيصَ ابْنِهِ يَحْيَى مِنَ الْقَتْلِ، وَقَتَلُوا يَحْيَى لِإِيمَانِهِ بِعِيسَى، وَقتلُوا النَّبِي إِرْمِياءَ بِمِصْرَ، وَقَتَلُوا حَزْقِيَالَ النَّبِيءَ لِأَجْلِ تَوْبِيخِهِ لَهُمْ عَلَى سُوءِ أَفْعَالِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ مَعْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، وَقَتَلَ مَنْشَا ابْن حَزْقِيَالَ، مَلِكُ إِسْرَائِيلَ، النَّبِيءَ أَشْعِيَاءَ: نَشَرَهُ بِالْمِنْشَارِ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَحْمُوهُ، فَكَانَ هَذَا الْقَتْلُ مَعْدُودًا عَلَيْهِمْ، وَكَمْ قَتَلُوا مِمَّنْ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، وَكُلُّ تِلْكَ الْجَرَائِمِ مَعْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِهَا، وَأَلَحُّوا فِي وُقُوعِهَا.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حَقٍّ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَضْمُونِ جملَة يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ إِذْ لَا يكون قتل النبيّين إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ لِظُهُورِ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّقْيِيدِ وَالِاحْتِرَازِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ نَبِيءٌ بِحَقٍّ، فَذِكْرُ الْقَيْدِ فِي مِثْلِهِ لَا إِشْكَالَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْإِشْكَالُ فِي الْقَيْدِ الْوَاقِعِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ تَسَلُّطَ النَّفْيِ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الْبَقَرَة: ٢٧٣] وَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤١].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ زِيَادَةُ تَشْوِيهِ فِعْلِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مُومِئًا إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ: وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَتَلُوهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْحَقِّ، فَقَدِ اكْتُفِيَ بِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّنَاعَةِ، فَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى زِيَادَةِ التَّشْنِيعِ.
206
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعَشَرَةِ يَقْتُلُونَ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ- بِسُكُونِ الْقَافِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ «وَيُقَاتِلُونَ» - بِفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا- بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَتْلِ.
وَالْفَاءُ فِي فَبَشِّرْهُمْ فَاءُ الْجَوَابِ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الشَّرْط، دَخَلَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ لِأَنَّ اسْمَ إِنَّ وَهُوَ مَوْصُولٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ، قَوْمًا مُعَيَّنِينَ، بَلْ كُلُّ من يتّصف بالصلة فَجَزَاؤُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ عَذَابًا أَلِيمًا. وَاسْتَعْمَلَ بَشِّرْهُمْ فِي مَعْنَى أَنْذِرْهُمْ تَهَكُّمًا.
وَحَقِيقَةُ التَّبْشِيرِ: الْإِخْبَارُ بِمَا يُظْهِرُ سُرُورَ الْمُخْبَرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي ضِدِّ حَقِيقَتِهِ، إِذْ أُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ الْعَذَابِ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِحُزْنِ الْمُخْبَرِينَ، فَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الضِّدِّ مَعْدُودٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، وَيُسَمُّونَهَا تَهَكُّمِيَّةً لِأَنَّ تَشْبِيهَ الضِّدِّ بِضِدِّهِ لَا يَرُوجُ فِي عَقْلِ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ، أَوِ التَّمْلِيحِ، كَمَا أَطْلَقَ عَمْرُو ابْنُ كُلْثُومٍ. اسْمَ الْأَضْيَافِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَطْلَقَ الْقِرَى عَلَى قَتْلِ الْأَعْدَاءِ، فِي قَوْلِهِ:
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَن تشتمونا
قزيناكم فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا
قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْتِزَاعِ شبه التضادّ وإلحافه بِشَبَهِ التَّنَاسُبِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لِأَنَّهُمْ تَمَيَّزُوا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا صِلَاتُ الْمَوْصُولِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِمَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُمْ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، وَقِيلَ هُوَ خَبَرُ (إِنَّ) وَجُمْلَةُ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا.
وَحَبَطُ الْأَعْمَالِ إِزَالَةُ آثَارِهَا النَّافِعَةِ مِنْ ثَوَابِ ونعيم فِي الْآخِرَةِ، وَحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَإِطْلَاقُ الْحَبَطِ عَلَى ذَلِكَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْإِبِلِ الَّتِي يُصِيبُهَا الْحَبَطُ وَهُوَ انْتِفَاخٌ فِي بُطُونِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، يَكُونُ سَبَبَ مَوْتِهَا، فِي حِينِ أَكَلَتْ مَا أَكَلَتْ لِلِالْتِذَاذِ بِهِ.
207
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٧].
وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانُوا مُتَدَيِّنِينَ يَرْجُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ النَّفْعَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَالنَّفْعَ فِي الدُّنْيَا بِآثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَجَحَدُوا نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَوَّبُوا الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، فَقَدِ ارْتَدَّوْا عَنْ دِينِهِمْ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِ بِقَوْلِهِ:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. فَلَا جَرَمَ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا بِآثَارِهَا الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مَا لَهُمْ مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ.
وَجِيء بِمن الدَّالَّةِ عَلَى تَنْصِيصِ الْعُمُومِ لِئَلَّا يُتْرَكَ لَهُمْ مَدْخَلٌ إِلَى التَّأْوِيل.
[٢٣- ٢٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ الْيَهُودِ فِي شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
أَلَمْ تَرَ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّعْجِيبِ، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِعْمَالُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ لِيَكُونَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِهِ مُحَرِّضًا لِلْمُخَاطَبِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
208
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهَا بِحَرْفِ إِلَى: الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ النَّظَرِ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٤] : أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةً، وَتَكُونَ (إِلَى) دَاخِلَةً عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَانْتِهَائِهِ الْمَجَازِيِّ إِلَيْهِ، فَتَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: ٢٥٨].
وَعُرِفَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ لَقَبِهِمْ، أَعْنِي الْيَهُودَ: لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مَا يَزِيدُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنَ الْكِتَابِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ. عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصِّلَةِ أَيْضًا مِنْ تَوْهِينِ عِلْمِهِمُ الْمَزْعُومِ.
وَالْكتاب: التَّوْرَاةُ فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: هُوَ لِلْجِنْسِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ النَّصَارَى، أَيْ أَهْلُ نَجْرَانَ.
وَالنَّصِيبُ: الْقِسْطُ وَالْحَظُّ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٢].
وَتَنْكِيرُ نَصِيباً لِلنَّوْعِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَهَاوُنٍ بِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ.
ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ النَّصِيب، فَالْمُرَاد بِالْكتاب جِنْسُ الْكُتُبِ، وَالنَّصِيبُ هُوَ كِتَابُهُمْ، وَالْمُرَادُ: أُوتُوا بَعْضَ كِتَابِهِمْ، تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ
إِلَّا حَظًّا يَسِيرًا، وَيَجُوزُ كَوْنُ مِنْ لِلْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى: أُوتُوا حَظًّا مِنْ حُظُوظِ الْكَمَالِ، هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ.
وَجُمْلَةُ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ فِي مَوْضُوع الْحَالِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ التَّعْجِيبِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ضَمِيمَةِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَهُوَ، قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَجِيبُ لَا أَصْلَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَإِذَا جَعَلْتَ (تَرَ) قَلْبِيَّةً فَجُمْلَةُ يُدْعَوْنَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَقَدْ عَلِمْتَ بُعْدَهُ.
وكِتابِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٠١]. فَهُوَ غَيْرُ الْكِتَابِ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْكِتابِ كَمَا ينبىء بِهِ تَغْيِيرُ
209
الْأُسْلُوبِ. وَالْمَعْنَى: يُدْعَوْنَ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرِ فِي مَعَانِيهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَيَأْبَوْنَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابِ اللَّهِ عَيْنَ الْمُرَادِ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا غُيِّرَ اللَّفْظُ تَفَنُّنًا وَتَنْوِيهًا بِالْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، أَيْ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِهِمْ لِيَتَأَمَّلُوا مِنْهُ، فَيَعْلَمُوا تَبْشِيرَهُ بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَتَلْمِيحَهُ إِلَى صِفَاتِهِ.
رُوِيَ، فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مِدْرَاسَ الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ- قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- قَالَا: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا. فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ التَّوْرَاةَ فَهَلُمُّوا إِلَيْهَا، فَأَبَيَا،
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ (ثُمَّ) عَاطِفَةُ جُمْلَةِ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عَلَى جملَة يُدْعَوْنَ فالمعطوفة هُنَا فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ فَدَلَّتْ (ثُمَّ) عَلَى أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُسْتَمِرٌّ فِي أَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ تَبْعُدُ عَنْ زَمَانِ الدَّعْوَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَرْعَوُونَ فَهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُعْرِضُ غَضَبًا، أَوْ لِعِظَمِ الْمُفَاجَأَةِ بِالْأَمْرِ غَيْرِ الْمُتَرَقَّبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ رُشْدُهُ، وَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ، فَيَرْجِعُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ إِثْرَ الدَّعْوَةِ دُونَ تَرَاخٍ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ.
فَدُخُولُ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَوَلَّوْنَ إِثْرَ الدَّعْوَةِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَتَوَلَّوْنَ بَعْدَ أَنْ أُوتُوا الْكِتَابَ وَنَقَلُوهُ، فَإِذَا دُعُوا إِلَى كِتَابِهِمْ تَوَلَّوْا. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَتَوَلَّوْنَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ ابْن عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
وَالتَّوَلِّي مَجَازٌ عَنِ النُّفُورِ وَالْإِبَاءِ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ وَالِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ إِذِ التَّوَلِّي هُوَ الْإِعْرَاضُ، وَلَمَّا كَانَتْ حَالًا لَمْ تَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ فَكَانَتْ دَالَّةً عَلَى تَجَدُّدِ الْإِعْرَاضِ، مِنْهُمُ الْمُفَادُ أَيْضًا مِنَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
وَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِسَبَبِ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً،
210
فَانْعَدَمَ اكْتِرَاثُهُمْ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمُ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ جَرَّأَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا الْإِعْرَاضِ. وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مَعَ بُطْلَانِهِ مُؤْذِنٌ أَيْضًا بِسَفَالَةِ هِمَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ، فَكَانُوا لَا يُنَافِسُونَ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ. وَعَبَّرَ عَنِ الِاعْتِقَادِ بِالْقَوْلِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وأنّه قَول مُفْتَرًى مُدَلَّسٌ، وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ عَقِيدَةُ الْيَهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ مَا تَقَوَّلُوهُ عَلَى الدِّينِ وَأَدْخَلُوهُ فِيهِ، فَلذَلِك أُتِي بفي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ قَوْلُهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: ٨٠]، وَكَانُوا أَيْضًا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ يَعْقُوبَ أَلَّا يُعَذِّبَ أَبْنَاءَهُ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَفَاسِدِ هَذَا الْغُرُورِ وَالِافْتِرَاءِ بِإِيقَاعِهَا فِي الضَّلَالِ الدَّائِمِ، لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَنْ غُرُورٍ فَالْإِقْلَاعُ عَنْهَا مَرْجُوٌّ، أَمَّا الْمَغْرُورُ فَلَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ إِقْلَاعٌ. وَقَدِ ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِغُرُورٍ كَثِيرٍ فِي تَفَارِيعِ دِينِهِمْ وَافْتِرَاءَاتٍ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ عَادَتْ عَلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ بِالْإِبْطَالِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجَالِ.
وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ أَيْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ غُرُورًا فَكَيْفَ حَالُهُمْ أَوْ جَزَاؤُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ وَوَفَّيْنَاهُمْ جَزَاءَهُمْ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّفْظِيعِ مَجَازًا.
«وَكَيف» هُنَا خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَى نَوْعِهِ السِّيَاقُ، وإِذا ظَرْفٌ مُنْتَصِبٌ بِالَّذِي عَمِلَ فِي مَظْرُوفِهِ: وَهُوَ مَا فِي كَيْفَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّفْظِيعِيِّ كَقَوْلِكَ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فِي سُورَة النِّسَاء [٤١].
211

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا هُوَ حَسَدٌ على زَوَال النبوءة مِنْهُمْ، وَانْقِرَاضِ الْمُلْكِ مِنْهُمْ، بِتَهْدِيدِهِمْ وَبِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّهُ لَا عَجَبَ أَن تنْتَقل النبوءة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْعَرَبِ، مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ شَرِيعَةٌ مُقَارِنَةٌ لِلسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ.
واللَّهُمَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خَاصٌّ بِنِدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ يَا اللَّهُ. وَلَمَّا كَثُرَ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مَعَهُ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْمِيمَ عِوَضٌ مِنْ حَرْفِ النِّدَاءِ يُرِيدُونَ أَنَّ لِحَاقَ الْمِيمِ بِاسْمِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَمَّا لَمْ يَقَعْ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّعَاءِ صَارَ غَنِيًّا عَنْ جَلْبِ حَرْفِ النِّدَاءِ اخْتِصَارًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمِيمَ تُفِيدُ النِّدَاءَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِيمَ عَلَّامَةُ تَنْوِينٍ فِي اللُّغَةِ الْمَنْقُولِ مِنْهَا كَلِمَةُ (اللَّهُمَّ) مِنْ عِبْرَانِيَّةٍ أَوْ قَحْطَانِيَّةٍ وأنّ أَصْلهَا لَا هم مُرَادِفُ إِلَهٍ.
وَيدل على هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ نَطَقُوا بِهِ هَكَذَا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
كَدَعْوَةٍ مِنْ أَبِي رَبَاحٍ يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الْكَبِيرُ
وَأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهِ كَذَلِكَ مَعَ النِّدَاءِ كَقَوْلِ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ:
إِنِّي إِذا مَا حدت أَلَمَّا أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَا اللَّهُ كَثِيرًا. وَقَالَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ: إِنَّ الْمِيمَ عِوَضٌ عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمَحْذُوفِ وَإِنَّهُ تَعْوِيضٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ: وَإِنَّ مَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ شُذُوذٌ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ اللَّهُمَّ مُخْتَزَلٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَجُمْلَةٍ أَصْلُهَا «يَا اللَّهُ أُمَّ» أَيْ أَقْبِلْ عَلَيْنَا بِخَيْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
212
وَالْمَالِكُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ بِجَمِيعِ مَا يَتَصَرَّفُ فِي أَمْثَالِهِ مِمَّا يُقْصَدُ لَهُ مِنْ ذَوَاتِهَا، وَمَنَافِعِهَا، وَثَمَرَاتِهَا، بِمَا يَشَاءُ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالِانْفِرَادِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِمُشَارَكَةٍ: وَاسِعَةٍ، أَوْ ضَيِّقَةٍ.
والْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ نَوْعٌ مِنَ الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ- فَالْمِلْكُ بِالْكَسْرِ-
جِنْسٌ وَالْمُلْكُ- بِالضَّمِّ- نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِهِ، وَمَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، أَوْ أُمَّةٍ عَدِيدَةٍ تصرّف التَّدْبِير للشؤون، وَإِقَامَةِ الْحُقُوقِ، وَرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْعُدْوَانِ عَنْهَا، وَتَوْجِيهِهَا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهَا، بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٧] وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: ٤]، فَمَعْنَى مَالِكِ الْمُلْكِ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي نَوْعِ الْمُلْكِ (بِالضَّمِّ) بِمَا يَشَاءُ، بِأَن يُرَاد بِالْملكِ هَذَا النَّوْعُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكِ الْأَوَّلِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ: أَيْ كُلُّ مُلْكٍ هُوَ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُلْكُ مَاهِيَّةً مِنَ الْمَوَاهِي، كَانَ مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ مَالِكَ الْمُلْكِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِتَصْرِيفِ الْمُلْكِ، أَيْ لِإِعْطَائِهِ، وَتَوْزِيعِهِ، وَتَوْسِيعِهِ، وَتَضْيِيقِهِ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فِي الْمَعْنَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِلْجِنْسِ، دُونَ اسْتِغْرَاقِ أَيِّ طَائِفَةٍ وَحِصَّةٍ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ، وَالتَّعْوِيلُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مِقْدَارِ الْجِنْسِ عَلَى الْقَرَائِنِ. وَلِذَلِكَ بُيِّنَتْ صِفَةُ مَالِكِ الْمُلْكِ بِقَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمرَان: ٢٦] فَإِنَّ إِيتَاءَهُ وَنَزْعَهُ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ: إِيجَابًا، وَسَلْبًا، وَكَثْرَةً وَقِلَّةً.
وَالنَّزْعُ: حَقِيقَةً إِزَالَةُ الْجِرْمِ مِنْ مَكَانِهِ: كَنَزْعِ الثَّوْبِ، وَنَزْعِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ، وَيُسْتَعَارُ لِإِزَالَةِ الصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الْأَعْرَاف: ٤٣] بِتَشْبِيهِ الْمَعْنَى الْمُتَمَكِّنِ بِالذَّاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَكَانِ، وَتَشْبِيهِ إِزَالَتِهِ بِالنَّزْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا:
تَنْزِعُ الْمُلْكَ أَيْ تُزِيلُ وَصْفَ الْمُلْكِ مِمَّنْ تَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تَمْثِيلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ يَكُونُ أَقْوَى تَصَرُّفِهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ بِيَدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَا يُوضَعُ فِي الْيَدِ، قَالَ عَنْتَرَةُ بْنُ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيُّ الطَّائِيُّ:
فَمَا بِيَدَيْكَ خَيْرٌ أَرْتَجِيهِ وَغَيْرُ صُدُودِكَ الْخَطْبُ الْكَبِيرُ
وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّ فِيهِ إِضَافَةَ الْيَدِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَلَا تَشَابُهَ فِيهِ: لِظُهُورِ
213
الْمُرَادِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْخَيْرِ فِي تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى اكْتِفَاءٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْل: ٨١] أَيْ وَالْبَرْدَ.
وَكَانَ الْخَيْرُ مُقْتَضًى بِالذَّاتِ أَصَالَةً وَالشَّرُّ مُقْتَضًى بِالْعَرَضِ قَالَ الْجَلَالُ الدِّوَانِيُّ فِي شَرْحِ دِيبَاجَةِ هَيَاكِلِ النُّورِ:
«وَخُصَّ الْخَيْرُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَرَجِّي الْمُسْلِمِينَ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
خَيْرَهُمْ شَرٌّ لِضِدِّهِمْ كَمَا قِيلَ:
مَصَائِبُ قوم عِنْد يَوْم فَوَائِدُ أَيِ «الْخَيْرُ مُقْتَضَى الذَّات والشرّ مقتضي بِالْعَرَضِ وَصَادِرٌ بِالتَّبَعِ لِمَا أَنَّ بَعْضَ مَا يَتَضَمَّنُ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِشَرٍّ قَلِيلٍ، فَلَوْ تُرِكَتْ تِلْكَ الْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَةُ لِذَلِكَ الشَّرِّ الْقَلِيلِ، لَصَارَ تَرْكُهَا شَرًّا كَثِيرًا، فَلَمَّا صَدَرَ ذَلِكَ الْخَيْرُ لَزِمَهُ حُصُولُ ذَلِكَ الشَّرِّ»
.
وَحَقِيقَةُ «تُولِجُ» تُدْخِلُ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِتَعَاقُبِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّ أَحَدَهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ، وَلِازْدِيَادِ مُدَّةِ النَّهَارِ عَلَى مُدَّةِ اللَّيْلِ وَعَكْسِهِ فِي الْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ عَدَا أَيَّامِ الِاعْتِدَالِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَحَظَاتٌ قَلِيلَةٌ ثُمَّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا لَكِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُدْرَكُ فِي أَوَّلِهَا فَلَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ، وَفِي الظَّاهِرِ هِيَ يَوْمَانِ فِي كُلِّ نِصْفِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْعَوَامُّ وَأَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْخَوَاصُّ وَمَا يَفْهَمُهُ الْفَرِيقَانِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ الْإِيلَاجَ يَشْمَلُ الْأَيَّامَ الَّتِي لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ وَالْفُصُولَ الَّتِي يُدْرِكُهَا سَائِرُ الْعَوَامِّ».
وَفِي هَذَا رَمْزٌ إِلَى مَا حَدَثَ فِي الْعَالَمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ وَالْإِشْرَاكِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ النَّاسُ عَلَى دِينٍ صَحِيحٍ كَدِينِ مُوسَى، وَإِلَى مَا حَدَثَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِبْطَالِ الضَّلَالَاتِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، لِيَكُونَ الِانْتِهَاءُ بِقَوْلِهِ:
وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، فَهُوَ نَظِيرُ التَّعْرِيضِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ الْآيَةَ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الرَّمْزِ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَخْ.
وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ كَخُرُوجِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْمُضْغَةِ، وَمِنْ مُحِّ الْبَيْضَةِ. وَإِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فِي عَكْسِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ:
214
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣١]. وَهَذَا رَمْزٌ إِلَى ظُهُورِ الْهُدَى وَالْمُلْكِ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، وَظُهُورِ ضَلَالِ الْكُفْرِ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَزَوَالِ الْمُلْكِ من خَلفهم يعد أَنْ كَانَ شِعَارَ أَسْلَافِهِمْ، بِقَرِينَةِ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَخْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: «الْمَيِّتِ» بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ:
بِسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي لَفْظِ الْمَيِّتِ.
وَقَوْلُهُ: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُوَ كَالتَّذْيِيلِ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
وَالرِّزْقُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعَامِ وَالثِّمَارِ كَقَوْلِهِ: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: ٣٧] وَقَوْلِهِ: فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [الْكَهْف: ١٩]، وَيُطْلَقُ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ- ثُمَّ قَالَ- إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ [ص: ٥١- ٥٤] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ رِزْقًا: لِأَنَّ بِهَا يُعَوَّضُ مَا هُوَ رِزْقٌ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا أُخْبِئَ لَهُمْ مِنْ كُنُوزِ الْمَمَالِكِ الْفَارِسِيَّةِ والقيصرية وَغَيرهَا.
[٢٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٢٨]
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
اسْتِئْنَافٌ عُقِّبَ بِهِ الْآيُ الْمُتَقَدِّمَةُ، الْمُتَضَمِّنَةُ عَدَاءَ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَحَسَدَ الْيَهُودِ لَهُمْ، وَتَوَلِّيَهُمْ عَنْهُ: مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١١٦] إِلَى هُنَا.
فَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ هَذِهِ كَالنَّتِيجَةِ لِمَا تَقَدَّمَهَا:
نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ- بَعْدَ مَا بَيَّنَ لَهُمْ بَغْيَ الْمُخَالِفِينَ وَإِعْرَاضَهُمْ- أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ- بَعْدَ أَنْ سَفَّهَ الْآخَرُونَ دِينَهُمْ وَسَفَّهُوا أَحْلَامَهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ- يُعَدُّ ضَعْفًا فِي الدِّينِ وَتَصْوِيبًا لِلْمُعْتَدِينَ.
215
وَشَاعَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ وَصْفِ الْكُفْرِ عَلَى الشِّرْكِ، وَالْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَعَلَّ تَعْلِيقَ النَّهْيِ عَنِ الِاتِّخَاذِ بِالْكَافِرِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ صِلَاتٌ، وَأَنْسَابٌ، وَمَوَدَّاتٌ، وَمُخَالَطَاتٌ مَالِيَّةٌ، فَكَانُوا بِمَظِنَّةِ الْمُوَالَاةِ مَعَ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ سَامِعٍ أَنَّ مَنْ يُشَابِهُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَوْقِفِهِ تُجَاهَ الْإِسْلَامِ يَكُونُ تَوَلِّي الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُ كَتَوَلِّيهِمُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ: مِثْلَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمرَان: ١٩]، فَلِذَلِكَ كُلِّهِ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة» وَكَانَ كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُهَاجِرِينَ وَخُلَّصِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ تَأَوَّلَ فَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْش يعلمهُمْ بتجهيز النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا اسْتَفْتَتْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرِّ وَالِدَتِهَا وَصِلَتِهَا، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ أُمُّهَا إِلَى الْمَدِينَةِ رَاغِبَةً فَإِنَّهُ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ»
أَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: صِلِي أُمَّكِ
. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي فَرِيقٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مُتَوَلِّينَ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأَبِي رَافِعِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ بِيَثْرِبَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْيَهُودَ إِذْ هُمْ كُفَّارُ جِهَتِهِمْ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ لَهُ حِلْفٌ مَعَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، قَالَ عبَادَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَعِي خَمْسَمَائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَأَسْتَظْهِرَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَعَذَّبُوهُ عَذَابًا شَدِيدًا، فَقَالَ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُ، فَكَفُّوا عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ» قَالَ: «مُطَمْئِنًّا بِالْإِيمَانِ» فَقَالَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (مِنْ) لِتَأْكِيدِ الظَّرْفِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: مُبَاعِدِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فِي الْوَلَايَةِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ لِلنَّهْيِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ اتِّخَاذَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَلَايَةَ الْمُؤْمِنِ الْكُفَّارَ الَّتِي تُنَافِي وَلَايَتَهُ الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَكُونُ فِي تَوَلِّي الْكَافِرِينَ إِضْرَارٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَصْلُ الْقُيُودِ أَنْ تَكُونَ لِلِاحْتِرَازِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِوُصْلَةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: «أَنْتَ
216
مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» فِي مَعْنَى شِدَّةِ الِاتِّصَالِ حَتَّى كَأَنَّ أَحَدَهُمَا جُزْءٌ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ فِي الِانْفِصَالِ وَالْقَطِيعَةِ: لَسْتَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْكَ قَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي فَقَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ النَّفْيِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ تَأْوِيلِ نَفْيِ الِاتِّصَالِ بِأَغْلَبِ الْأَحْوَالِ فَالْمَعْنَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ عَنِ الِانْتِمَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا يُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُنَافِقُونَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا نَظِيرُ الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: ١٤٤، ١٤٥].
وَقِيلَ: لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ آيَاتٍ كَثِيرَةً دَلَّتْ عَلَى النَّهْيِ عَنْ وَلَايَةِ الْكَافِرِينَ مُطْلَقًا: كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْمَائِدَة: ٥١]- وَقَوْلِهِ- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ
[الْمَائِدَة: ٥٧] وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ مَالَ الْفَخْرُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِمَعْنَى ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْآيَةُ نَهْيٌ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ الْقَيْدِ أَوْ مُطْلَقًا، وَالْمُوَالَاةُ تَكُونُ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَبِالظَّاهِرِ فَقَطْ، وَتَعْتَوِرُهَا أَحْوَالٌ تَتْبَعُهَا أَحْكَامٌ، وَقَدِ اسْتَخْلَصْتُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَحْوَالٍ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَّخِذَ الْمُسْلِمُ جَمَاعَةَ الْكُفْرِ، أَوْ طَائِفَتَهُ، أَوْلِيَاءَ لَهُ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ، مَيْلًا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ كُفْرٌ، وَهِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ،
وَفِي حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ قَائِلًا قَالَ فِي مَجْلِسِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ»، فَقَالَ آخَرُ: «ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» فَقَالَ الْقَائِلُ
217
: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ»
. فَجَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الِانْحِيَازَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَامَةً عَلَى النِّفَاقِ لَوْلَا شَهَادَةُ الرَّسُولِ لِمَالِكٍ بِالْإِيمَانِ أَيْ فِي قَلْبِهِ مَعَ إِظْهَارِهِ بِشَهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّكُونُ إِلَى طَوَائِفِ الْكُفْرِ وَمُظَاهَرَتُهُمْ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ وَمَحَبَّةٍ دُونَ الْمَيْلِ إِلَى دِينِهِمْ، فِي وَقْتٍ يَكُونُ فِيهِ الْكُفَّارُ مُتَجَاهِرِينَ بِعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ، والاستهزاء بهم، وَإِذا هم كَمَا كَانَ مُعْظَمُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الِانْقِطَاعِ عَنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا تُوجِبُ كُفْرَ صَاحِبِهَا، إلّا أنّ ارتكبها إِثْمٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا يُوشِكُ أَنْ يُوَالِيَهُمْ عَلَى مَضَرَّةِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ إِظْهَارُ الْحَمِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، وَالْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قل الْعَتَّابِيُّ:
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي صَدِيقُكَ إِنَّ الرَّأْيَ عَنْكَ لَعَازِبُ
وَفِي مِثْلِهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: ٩] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [الممتحنة: ٩] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: ١١٨] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ
كَانَ، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، جِوَارٌ وَحِلْفٌ فِي الْجَاهِلِيَّة، فداوموا عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانُوا يَأْنَسُونَ بِهِمْ وَيَسْتَنِيمُونَ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ أَصْحَابُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأَبِي رَافِعِ ابْن أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَا يُؤْذِيَانِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: كَذَلِكَ، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ طَوَائِفُ الْكُفَّارِ مُتَجَاهِرِينَ بِبُغْضِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بِأَذَاهُمْ، كَمَا كَانَ نَصَارَى الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: ٨٢] وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُمْ حَمَوُا الْمُؤْمِنِينَ، وَآوَوْهُمْ، قَالَ الْفَخْرُ: وَهَذِهِ وَاسِطَةٌ، وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ، إِلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذْ قَدْ يَجُرُّ إِلَى اسْتِحْسَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَانْطِلَاءِ مَكَائِدِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: مُوَالَاةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ الْإِضْرَارِ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الِانْتِصَارِ بِالْكُفَّارِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَحْكَامُهَا مُتَفَاوِتَةٌ، فَقَدْ قَالَ
218
مَالِكٌ، فِي الْجَاسُوسِ يَتَجَسَّسُ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: إِنَّهُ يُوكَلُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ التَّجَسُّسَ يَخْتَلِفُ الْمَقْصِدُ مِنْهُ إِذْ قَدْ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ غُرُورًا، وَيَفْعَلُهُ طَمَعًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْفَلْتَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ دَأْبًا وَعَادَةً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ذَلِكَ زَنْدَقَةٌ لَا تَوْبَةَ فِيهِ، أَيْ لَا يُسْتَتَابُ وَيُقْتَلُ كَالزِّنْدِيقِ، وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَام وَيسر الْكفَّار، إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ رِدَّةٌ وَيُسْتَتَابُ، وَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ.
وَقَدِ اسْتَعَانَ الْمُعْتَمِدُ ابْنُ عَبَّادٍ صَاحِبُ إِشْبِيلِيَةَ بِالْجَلَالِقَةِ عَلَى الْمُرَابِطِينَ اللَّمْتُونِيِّينَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فُقَهَاءَ الْأَنْدَلُسِ أَفْتَوْا أَمِير الْمُسلمين عليا بْنَ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، بِكُفْرِ ابْنِ عَبَّادٍ، فَكَانَتْ سَبَبَ اعْتِقَالِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ اسْتَتَابَهُ.
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَتَّخِذَ الْمُؤْمِنُونَ طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ لِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فِي حِينِ إِظْهَارِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَحَبَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَرْضِهِمُ النُّصْرَةَ لَهُمْ، وَهَذِهِ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا: فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُسْتَعَانُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَافِرٍ تَبِعَهُ يَوْمَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ: «ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»
وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
وَحَدِيثُ «لَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»
مُخْتَلَفٌ فِي سَنَدِهِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مَنْسُوخٌ، قَالَ عِيَاضٌ: حَمَلَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِغَزْوِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حُنَيْنٍ، وَفِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا
بأنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِيَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لِبَنِي
النَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ: «إِنَّا وَأَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَإِنَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ النَّصْرَ فَإِمَّا قَاتَلْتُمْ مَعَنَا وَإِلَّا أَعَرْتُمُونَا السِّلَاحَ»
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا نَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمَعُونَةَ، وَإِذَا اسْتَأْذَنُونَا لَا نَأْذَنُ لَهُمْ:
لِأَنَّ الْإِذْنَ كَالطَّلَبِ، وَلَكِن إِذا أخرجُوا مَعَنَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَمْ نَمْنَعْهُمْ، وَرَامَ بِهَذَا الْوَجْهِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَجَازَ الِاسْتِعَانَةَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَعَنْ أَصْبَغَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا بِلَا تَأْوِيلٍ.
219
الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَتَّخِذَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدًا مِنَ الْكَافِرِينَ بِعَيْنِهِ وَلِيًّا لَهُ، فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ أَوْ لِقَرَابَةٍ، لِكَمَالٍ فِيهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَبَوَيْنِ: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لُقْمَان: ١٥]
وَاسْتَأْذَنَتْ أَسْمَاءُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرِّ وَالِدَتِهَا وَصِلَتِهَا، وَهِيَ كَافِرَةٌ، فَقَالَ لَهَا: «صِلِي أُمَّكِ»
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتجنة: ٨] قِيلَ نَزَلَتْ فِي وَالِدَةِ أَسْمَاءَ، وَقِيلَ فِي طَوَائِفَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ: وَهُمْ كِنَانَةُ، وَخُزَاعَةُ، وَمُزَيْنَة، وَبَنُو الْحَرْث ابْن كَعْبٍ، كَانُوا يَوَدُّونَ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ. وَعَنْ مَالِكٍ تَجُوزُ تَعْزِيَةُ الْكَافِرِ بِمَنْ يَمُوتُ لَهُ.
وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَاحُ لِلْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، لِمَا يُبْدِيهِ مِنْ مَحَبَّةِ النَّبِيءِ، وَالتَّرَدُّدِ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَفَعَهُمْ يَوْمَ الطَّائِفِ إِذْ صَرَفَ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَخَنَسَ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الْآيَةَ.
الْحَالَةُ السَّابِعَةُ: حَالَةُ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ: كَالتِّجَارَاتِ، وَالْعُهُودِ، وَالْمُصَالَحَاتِ، أَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَفَاصِيلُهَا فِي الْفِقْهِ.
الْحَالَةُ الثَّامِنَةُ: حَالَةُ إِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ لِاتِّقَاءِ الضُّرِّ وَهَذِهِ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مُنْقَطع ناشىء عَنْ جُمْلَةِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ لَيْسَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ، ولكنّه أَشْبَهَ الْوَلَايَةَ فِي الْمُعَامَلَةِ.
وَالِاتِّقَاءُ: تَجَنُّبُ الْمَكْرُوهِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (مِنْ) إِمَّا لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ تستّر فعديّ بِمن كَمَا
يُعَدَّى فِعْلُ تَسَتَّرَ، وَإِمَّا لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى تَخَافُوا.
وتُقاةً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الِاتِّقَاءِ، وَأَصْلُهُ وُقْيَةٌ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ تَبَعًا لِفِعْلِ اتَّقَى إِذْ قُلِبَتْ وَاوُهُ تَاءً لِيَتَأَتَّى إِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ، ثُمَّ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِاسْمِ مَصْدَرِهِ كَالتُّجَاةِ
220
وَالتُّكْلَةِ والتؤدة وَالتُّخْمَةِ إِذْ لَا وَجْهَ لِإِبْدَالِ الْفَاءِ تَاءً فِي مِثْلِ تُقَاةٍ إِلَّا هَذَا. وَشَذَّ تُرَاثٌ. يَدُلُّ لِهَذَا الْمَقْصِدِ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: «وَقَوْلُهُمْ تُجَاهَكَ بُنِيَ عَلَى قَوْلِهِمُ اتَّجَهَ لَهُمْ رَأْيٌ». وَفِي «اللِّسَانِ» فِي تُخْمَةٍ، «لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا التَّاءَ أَصْلِيَّةً لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ». وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَرْنُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعَ أَفْعَالِهَا فِي نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمرَان: ١٠٢] وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةً بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ.
وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ هُنَا: الْإِشَارَةُ إِلَى تَحَقُّقِ كَوْنِ الْحَالَةِ حَالَةَ تَقِيَّةٍ، وَهَذِهِ التَّقِيَّةُ مِثْلُ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْهِجْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: ١٠٦] وَمِثْلُ الْحَالَةِ الَّتِي لَقِيَهَا مُسْلِمُو الْأَنْدَلُسِ حِينَ أَكْرَهَهُمُ النَّصَارَى عَلَى الْكُفْرِ فَتَظَاهَرُوا بِهِ إِلَى أَنْ تَمَكَّنَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، وَطَوَائِفُ مِنِ اسْتِئْذَانِ الْكُفَّارِ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَأَذِنَ لَهُمُ الْعَدُوُّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ التُّقَاةُ غَيْرَ دَائِمَةٍ لِأَنَّهَا إِذَا طَالَتْ دَخَلَ الْكُفْرُ فِي الذَّرَارِي.
وَقَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَمِنَ التَّسَاهُلِ فِي دَعْوَى التَّقِيَّةِ وَاسْتِمْرَارِهَا أَوْ طُولِ زَمَانِهَا.
وَانْتِصَابُ نَفْسَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَأَصْلُهُ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا النَّزْعُ هُوَ أَصْلُ انْتِصَابِ الِاسْمَيْنِ فِي بَابِ التَّحْذِيرِ فِي قَوْلِهِمْ إِيَّاكَ الْأَسَدَ، وَأَصْلُهُ أُحَذِّرُكَ مِنَ الْأَسَدِ.
وَقَدْ جُعِلَ التَّحْذِيرُ هُنَا مِنْ نَفْسِ اللَّهِ أَيْ ذَاتِهِ لِيَكُونَ أَعَمَّ فِي الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ غَضَبَهُ لَتُوُهِّمَ أَنَّ لِلَّهِ رِضًا لَا يَضُرُّ مَعَهُ، تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَالْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتْ تَعْمِيمَ أَحْوَالِ الذَّاتِ عَلَّقَتِ الْحُكْمَ بِالذَّاتِ: كَقَوْلِهِمْ لَوْلَا فُلَانٌ لَهَلَكَ فُلَانٌ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْح: ٢٥] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَعْلِيقُ شَرْطِ لَوْلَا عَلَى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي سَوَّغَ حَذْفَ الْخَبَرِ بَعْدَ لَوْلَا.
وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ النَّفْسِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَة: ١١٦].
وَهَذَا إِعْذَارٌ وَمَوْعِظَةٌ وَتَهْدِيدٌ بِالْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.
221
وَ (الْمَصِيرُ) : هُوَ الرُّجُوعُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ عَلِمَ مُثْبِتُو الْبَعْثِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، فَالتَّقْدِيمُ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ أَكَّدَ بِهِ صَرِيحَ التَّهْدِيدِ الَّذِي قبله.
[٢٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٢٩]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
انْتِقَالٌ مِنَ التَّحْذِيرِ الْمُجْمَلِ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ تَفْصِيلِهِ، وَهُوَ إِشْعَارُ الْمُحَذَّرِ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَى مَا يُخْفُونَهُ مِنَ الْأَمْرِ.
وَذَكَرَ الصُّدُورَ هُنَا وَالْمُرَادُ الْبَوَاطِنُ وَالضَّمَائِرُ: جَرْيًا عَلَى مَعْرُوفِ اللُّغَةِ مِنْ إِضَافَةِ الْخَوَاطِرِ النَّفْسِيَّةِ إِلَى الصَّدْرِ وَالْقَلْبِ، لِأَنَّ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ وَتَرَدُّدَاتِ التَّفَكُّرِ وَنَوَايَا النُّفُوسِ كُلَّهَا يُشْعَرُ لَهَا بِحَرَكَاتٍ فِي الصُّدُورِ.
وَزَادَ أَوْ تُبْدُوهُ فَأَفَادَ تَعْمِيمَ الْعِلْمِ تَعْلِيمًا لَهُمْ بِسِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَقَامَ إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي الْإِيضَاحَ.
وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ فَهِيَ مَعْمُولَةٌ لِفِعْلِ قُلْ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ: لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ثَابِتٌ مُطْلَقًا غَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى إِخْفَاءِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ وَإِبْدَائِهِ وَمَا فِي الْجُمْلَةِ مِنَ التَّعْمِيمِ يَجْعَلُهَا فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ ذُو قُدْرَةٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مِنَ التَّهْدِيدِ إِذِ الْمُهَدِّدُ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَحْقِيقِ وَعِيدِهِ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: الْجَهْلُ بِجَرِيمَةِ الْمُجْرِمِ، أَوِ الْعَجْزُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِعُمُومِ عِلْمِهِ، وَعُمُومِ قُدْرَتِهِ، عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُفْلِتُهُمْ مِنْ عِقَابِهِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ اللَّهِ دُونَ ضَمِيرِهِ فَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ، وَالْجُمْلَةُ لَهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ:
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ [آل عمرَان: ٢٨] الْآيَة.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٣٠]

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ فِيهَا: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أَمَدًا بَعِيدًا يَوْمَ تَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا. فَقُدِّمَ ظَرْفُهَا عَلَى عَامِلِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ عَرَبِيَّةٍ مَشْهُورَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَسْمَاءِ الزَّمَانِ، إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ، قَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ بِنَسْجٍ بَدِيعٍ. ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُ الزَّمَانِ هُوَ الْأَهَمَّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ ظَرْفًا لِشَيْءٍ مِنْ عَلَائِقِهِ، جِيءَ بِهِ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَجُعِلَ مَعْنَى بَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَصُوغًا فِي صِيغَةِ فِعْلٍ عَامِلٍ فِي ذَلِكَ الظَّرْفِ. أَوْ أَصْلُ الْكَلَامِ:
يُحْضَرُ لِكُلِّ نَفْسٍ فِي يَوْمِ الْإِحْضَارِ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، فَتَوَدُّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أَمَدًا بَعِيدًا، أَيْ زَمَانًا مُتَأَخِّرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يُحْضَرْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَبَيْنَهُ عَلَى هَذَا يَعُودُ إِلَى مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، فَحُوِّلَ التَّرْكِيبُ، وَجُعِلَ (تَوَدُّ) هُوَ الناصب ليَوْم، لِيُسْتَغْنَى بِكَوْنِهِ ظَرْفًا عَنْ كَوْنِهِ فَاعِلًا. أَوْ يَكُونُ أَصْلُ الْكَلَامِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ مُحْضَرًا، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمَدًا بَعِيدًا لِيَكُونَ ضَمِيرُ بَيْنَهُ عَائِدًا إِلَى يَوْمَ أَيْ تَوَدُّ أَنَّهُ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَحْضُرْ كَقَوْلِهِ:
رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المُنَافِقُونَ: ١٠] وَهَذَا التَّحْوِيلُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ.
وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الْكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلِ
فَإِنَّ مَقْصِدَهُ مَا حَصَلَ فِي الْيَوْمِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الِاهْتِمَامَ بِنَفْسِ الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ ظَرْفُهُ. وَمِنْهُ مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَكْثُرُ مِثْلُ هَذَا فِي الْجُمَلِ الْمَفْصُولِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْمَجْرُورَ يُشْبِهَانِ الرَّوَابِطَ، فَالْجُمْلَةُ الْمَفْصُولَةُ إِذَا صُدِّرَتْ بِوَاحِدٍ مِنْهَا أَكْسَبَهَا ذَلِكَ نَوْعَ ارْتِبَاطٍ بِمَا قَبْلَهَا: كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عِمْرَانَ: ٣٥] وَنَحْوِهِمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ».
وَقِيلَ مَنْصُوبٌ بِـ (اذْكُرْ)، وَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: الْمَصِيرُ وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ، وَقِيلَ بِقَوْلِهِ: (وَيُحَذِّرُكُمْ) وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ التَّحْذِيرَ حَاصِلٌ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ عَامِلَ الظَّرْفِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ لِعَدَمِ الْتِئَامِ الْكَلَامِ حَقَّ الِالْتِئَامِ.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَوَدُّ هُوَ مَبْدَأُ الِاسْتِئْنَافِ، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْأُخْرَى هُوَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ.
وَقَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يجوز أَن كَون تَكْرِيرًا لِلتَّحْذِيرِ الْأَوَّلِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِ لَبِيدٍ:
فَتَنَازَعَا سَبَطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتٍ عَرْنَجٍ كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ تَحْذِيرًا مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ، وَالثَّانِي تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَجِدُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا عَمِلُوا مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا.
وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمَوْعِظَةَ تَحْذِيرًا: لِأَنَّ الْمُحَذَّرَ لَا يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِالْوُقُوعِ فِي الْخَطَرِ، فَإِنَّ التَّحْذِيرَ تَبْعِيدٌ مِنَ الْوُقُوعِ وَلَيْسَ انْتِشَالًا بَعْدَ الْوُقُوعِ وَذَيَّلَهُ هُنَا بقوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ لِمَصْلَحَةِ الْمُحَذَّرِينَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِبَادِ لِلِاسْتِغْرَاقِ: لِأَنَّ رَأْفَةَ اللَّهِ شَامِلَةٌ لِكُلِّ النَّاسِ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ:
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٤٥] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: ١٩] وَمَا وَعِيدُهُمْ إِلَّا لِجَلْبِ صَلَاحِهِمْ، وَمَا تَنْفِيذُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ إِلَّا لِصِدْقِ كَلِمَاتِهِ، وَانْتِظَامِ حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (أَلْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ بِعِبَادِهِ فَيَكُونَ بِشَارَة للْمُؤْمِنين.
[٣١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٣١]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)
انْتِقَالٌ إِلَى التَّرْغِيبِ بَعْدَ التَّرْهِيبِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ التَّرْهِيبَ الْمُتَقَدِّمَ خُتِمَ بقوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمرَان: ٣٠] وَالرَّأْفَةُ تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ المرءوف بِهِ الرؤوف، فَجَعْلُ
224
مَحَبَّةِ اللَّهِ فِعْلًا لِلشَّرْطِ فِي مَقَامِ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الرَّأْفَةِ تَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ، فَالتَّعْلِيقُ عَلَيْهِ تَعْلِيقُ شَرْطٍ مُحَقَّقٍ، ثُمَّ رُتِّبَ عَلَى الْجَزَاءِ مَشْرُوطٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ لِكَوْنِهِ أَيْضًا مَقْطُوعَ الرَّغْبَةِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُ غَايَةُ قَصْدِهِ تَحْصِيلُ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ.
وَالْمَحَبَّةُ: انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ يَنْشَأُ عِنْدَ الشُّعُورِ بِحُسْنِ شَيْءٍ: مِنْ صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ.
أَوْ إِحْسَانٍ، أَوِ اعْتِقَادٍ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُسْتَحْسِنَ وَيَجُرُّ إِلَيْهِ الْخَيْرَ. فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الِانْفِعَالُ عَقَبَهُ مَيْلٌ وَانْجِذَابٌ إِلَى الشَّيْءِ الْمَشْعُورِ بِمَحَاسِنِهِ، فَيَكُونُ الْمُنْفَعِلُ مُحِبًّا، وَيَكُونُ الْمَشْعُورُ
بِمَحَاسِنِهِ مَحْبُوبًا، وَتُعَدُّ الصِّفَاتُ الَّتِي أَوْجَبَتْ هَذَا الِانْفِعَالَ جَمَالًا عِنْدَ الْمُحِبِّ، فَإِذَا قَوِيَ هَذَا الِانْفِعَالُ صَارَ تَهَيُّجًا نَفْسَانِيًّا، فَسُمِّيَ عِشْقًا لِلذَّوَاتِ، وَافْتِنَانًا بِغَيْرِهَا.
وَالشُّعُورُ بِالْحُسْنِ الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْحَوَاسِّ فِي إِدْرَاكِ الْمَحَاسِنِ الذَّاتِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَمَالِ، وَيُسْتَمَدُّ أَيْضًا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْكَمَالَاتِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا بِالْعَقْلِ وَهِيَ الْمَدْعُوَّةُ بِالْفَضِيلَةِ، وَلِذَلِكَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُحِبُّونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْظِيمًا لِلْكِمَالَاتِ، وَاعْتِقَادًا بِأَنَّهُمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَيُحِبُّ النَّاسُ أَهْلَ الْفَضْلِ الْأَوَّلِينَ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْفَاضِلِينَ، وَيُحِبُّونَ سُعَاةَ الْخَيْرِ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَهُمْ لَمْ يَلْقَوْهُمْ وَلَا رَأَوْهُمْ.
وَيَرْجِعُ الْجَمَالُ وَالْفَضِيلَةُ إِلَى إِدْرَاكِ النَّفْسِ مَا يُلَائِمُهَا: مِنَ الْأَشْكَالِ، وَالْأَنْغَامِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ، وَالْخِلَالِ. وَهَذِهِ الْمُلَاءَمَةُ تَكُونُ حِسِّيَّةً لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ الطَّبْعِ كَمُلَاءَمَةِ الْبُرُودَةِ فِي الصَّيْفِ، وَالْحَرِّ فِي الشِّتَاءِ، وَمُلَاءَمَةِ اللَّيِّنِ لِسَلِيمِ الْجِلْدِ، وَالْخَشِنِ لِمَنْ بِهِ دَاعِي حَكَّةٍ، أَوْ إِلَى حُصُولِ مَنَافِعَ كَمُلَاءَمَةِ الْإِحْسَانِ وَالْإِغَاثَةِ. وَتَكُونُ فِكْرِيَّةً لِأَجْلِ غَايَاتٍ نَافِعَةٍ كَمُلَاءَمَةِ الدَّوَاءِ لِلْمَرِيضِ، وَالتَّعَبِ لِجَانِي الثَّمَرَةِ، وَالسَّهَرِ لِلْمُتَفَكِّرِ فِي الْعِلْمِ، وَتَكُونُ لِأَجْلِ الْإِلْفِ، وَتَكُونُ لِأَجْلِ الِاعْتِقَادِ الْمَحْضِ، كَتَلَقِّي النَّاسِ أَنَّ الْعِلْمَ فَضِيلَةٌ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ مَحَبَّةُ الْأَقْوَامِ عَوَائِدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي صَلَاحِهَا، وَقَدْ تَكُونُ مَجْهُولَةَ السَّبَبِ كَمُلَاءَمَةِ الْأَشْكَالِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلنُّفُوسِ وَمُلَاءَمَةِ الْأَلْوَانِ اللَّطِيفَةِ.
225
وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَزِيدَ اتِّضَاحًا بِأَضْدَادِهَا كَالْأَشْكَالِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَةِ، وَالْأَلْوَانِ الْكَرِيهَةِ، دَائِمًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ يَرَاهُ الْمَحْمُومُ.
وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْفَلَاسِفَةُ تَوْضِيحَ عِلَّةِ مُلَاءَمَةِ بَعْضِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَمَالِ لِلنُّفُوسِ: كَكَوْنِ الذَّاتِ جَمِيلَةً أَوْ قَبِيحَةَ الشَّكْلِ، وَكَوْنِ الْمُرَبَّعِ أَوِ الدَّائِرَةِ حَسَنًا لَدَى النَّفْسِ، وَالشَّكْلِ الْمُخْتَلِّ قَبِيحًا، وَمَعَ الِاعْتِرَافِ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي بَعْضِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَمَالِ وَالْقُبْحِ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
ضُرُوبُ النَّاسِ عُشَّاقٌ ضُرُوبَا وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَسْتَجِيدُ مِنَ الْمَلَابِسِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ الْآخَرُ وَيَسْتَحْسِنُ مِنَ الْأَلْوَانِ مَا يَسْتَقْبِحُهُ الْآخَرُ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْمُشَاهَدُ أَنَّ مُعْظَمَ الْأَحْوَالِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا النَّاسُ السَّالِمُو الْأَذْوَاقِ.
فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَقَالَ سُقْرَاطُ: سَبَبُ الْجَمَالِ حُبُّ النَّفْعِ، وَقَالَ أَفْلَاطُونُ: «الْجمال أَمر إِلَّا هِيَ أَزَلِيٌّ مَوْجُودٌ فِي عَالَمِ الْعَقْلِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّغَيُّرِ قَدْ تَمَتَّعَتِ الْأَرْوَاحُ بِهِ قَبْلَ هُبُوطِهَا إِلَى الْأَجْسَامِ فَلَمَّا نَزَلَتْ إِلَى الْأَجْسَامِ صَارَتْ مَهْمَا رَأَتْ شَيْئًا عَلَى مِثَالِ مَا عَهِدَتْهُ فِي الْعَوَالِمِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ عَالَمُ الْمِثَالِ مَالَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَأْلُوفُهَا مِنْ قَبْلِ هُبُوطِهَا». وَذَهَبَ الطَّبَائِعِيُّونَ: إِلَى أَنَّ الْجَمَالَ شَيْءٌ يَنْشَأُ عِنْدَنَا عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَوَاسِّ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ «جَامِعِ أَسْرَارِ الطِّبِّ» لِلْحَكِيمِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْن زُهْرٍ الْقُرْطُبِيِّ «الْعِشْقُ الْحِسِّيُّ إِنَّمَا هُوَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحْسِنُهُ وَتَسْتَلِذُّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ النَّفْسَانِيَّ الَّذِي مَسْكَنُهُ الدِّمَاغُ قَرِيبٌ مِنَ النُّورِ الْبَصَرِيِّ الَّذِي يُحِيطُ بِالْعَيْنِ وَمُتَّصِلٌ بِمُؤَخَّرِ الدِّمَاغِ وَهُوَ الذُّكْرُ فَإِذَا نَظَرَتِ الْعَيْنُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ انْضَمَّ النُّورِيُّ الْبَصَرِيُّ وَارْتَعَدَ فَبِذَلِكَ الِانْضِمَامِ وَالِارْتِعَادِ يَتَّصِلُ بِالرُّوحِ النَّفْسَانِيِّ فَيَقْبَلُهُ قَبُولًا حَسَنًا ثُمَّ يُودِعُهُ الذُّكْرَ فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْمَحَبَّةَ. وَيَشْتَرِكُ أَيْضًا بِالرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ الَّذِي مَسْكَنُهُ الْقَلْبُ لِاتِّصَالِهِ بِأَفْعَالِهِ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْفِكْرَةُ وَالْهَمُّ وَالسَّهَرُ».
226
وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْشَأَ الشُّعُورِ بِالْجَمَالِ قَدْ يَكُونُ عَنِ الْمُلَائِمِ، وَعَنِ التَّأَثُّرِ الْعَصَبِيِّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ أَيْضًا كَتَأَثُّرِ الْمَحْمُومِ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، وَعَنِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ بِكَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:
وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِمُ مَآرِبُ قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَ
إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَ
وَعَنْ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ، وَعَنِ اعْتِقَادِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَأْلُوفِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُمَارَسَةِ بِسَبَبِ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ مِنْ صَاحِبِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ.
وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمَالِ وَمِنَ الْمَحَبَّةِ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَهُوَ اسْتِحْسَانُ الذَّوَاتِ الْحَسَنَةِ وَاسْتِقْبَاحُ الْأَشْيَاءِ الْمُوحِشَةِ فَنَرَى الطِّفْلَ الَّذِي لَا إِلْفَ لَهُ بِشَيْءٍ يَنْفِرُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَرَاهَا وَحِشَةً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْجَمَالَ هَلْ يُقْصَرَانِ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ:
فَالَّذِينَ قَصَرُوهُمَا عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ لَمْ يُثْبِتُوا غَيْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقْصُرُوهُمَا عَلَيْهَا أَثْبَتُوا الْمَحَبَّةَ الرَّمْزِيَّةَ، أَعْنِي الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَكْوَانِ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ كَمَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَفْلَاطُونُ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ الْغَزَّالِيُّ وَفَخْرُ
الدِّينِ وَقَدْ أُضِيفَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ إِلَى أَفْلَاطُونَ، فَقِيلَ مَحَبَّةٌ أَفْلَاطُونِيَّةٌ: لِأَنَّهُ بَحَثَ عَنْهَا وَعَلَّلَهَا فَإِنَّنَا نَسْمَعُ بِصِفَاتِ مَشَاهِيرِ الرِّجَالِ مِثْلِ الرُّسُلِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالَّذِينَ نَفَعُوا النَّاسَ، وَالَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَحَامِدِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْعَدْلِ، فَنَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا مَيْلًا إِلَى ذِكْرِهِمْ ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ الْمَيْلُ حَتَّى يَصِيرَ مَحَبَّةً مِنَّا إِيَّاهُمْ مَعَ أَنَّنَا مَا عَرَفْنَاهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُزَاوَلَةَ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ مِمَّا يُقَوِّي مَحَبَّةَ الْمُزَاوِلِ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى، لَمَّا كَانَتْ كُلُّهَا كَمَالَاتٍ وَإِحْسَانًا إِلَيْنَا وَإِصْلَاحًا لِفَاسِدِنَا، أَكْسَبَنَا اعْتِقَادُهَا إِجْلَالًا لِمَوْصُوفِهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ ذَلِكَ الْإِجْلَالُ يَقْوَى إِلَى أَنْ يَصِيرَ مَحَبَّةً
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
فَكَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمَحَبَّةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ عِنْدَهَا وِجْدَانُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ أَيْ وِجْدَانُهُ جَمِيلًا عِنْدَ مُعْتَقِدِهِ.
227
فَأَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ يَرَوْنَ تَعْلِيقَ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مَجَازًا بِتَشْبِيهِ الرَّغْبَةِ فِي مَرْضَاتِهِ بِالْمَحَبَّةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي يَرَوْنَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَمِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ تَطَلُّبُ الْقُرْبِ مِنَ الْمَحْبُوبِ وَالِاتِّصَالِ بِهِ وَاجْتِنَابُ فِرَاقِهِ. وَمِنْ آثَارِهَا مَحَبَّةُ مَا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ، وَاجْتِنَابُ مَا يُغْضِبُهُ، فَتَعْلِيقُ لُزُومِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الرَّسُولَ دَعَا إِلَى مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَإِلَى إِفْرَادِ الْوِجْهَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْمَحَبَّةِ فِي قَوْلِهِ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فَهُوَ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ المحبّة وَهُوَ الرضى وَسَوْقُ الْمَنْفَعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَجَلِّيَاتٍ لِلَّهِ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ. وَهُمَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ وَفِي الْقُرْآنِ:
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَة: ١٨].
وَتَعْلِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى فَاتَّبِعُونِي الْمُعَلَّقِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ يَنْتَظِمُ مِنْهُ قِيَاسٌ شَرْطِيٌّ اقْتِرَانِيٌّ. وَيَدُلُّ عَلَى الْحُبَّ الْمَزْعُومَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فَهُوَ حُبٌّ كَاذِبٌ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ، وَلِأَنَّ ارْتِكَابَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْبُوبُ إِغَاضَةٌ لَهُ وَتَلَبُّسٌ بِعَدُوِّهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
أَأُحِبُّهُ وَأُحِبُّ فِيهِ مَلَامَةً إِنَّ الْمَلَامَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ
فَعُلِمَ أَنَّ حُبَّ الْعَدُوِّ لَا يُجَامِعُ الْحُبَّ وَقَدْ قَالَ الْعِتَابِيُّ:
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي صَدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ مِثْلَ جُمْلَةِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقٌ لِلصِّفَتَيْنِ لِيَكُونَ النَّاسُ سَاعِينَ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة.
[٣٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٣٢]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
عودة إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ الْبَحْتِ: فَذْلَكَةً لِلْكَلَامِ، وَحِرْصًا عَلَى الْإِجَابَةِ،
- فَابْتَدَأَ الْمَوْعِظَةَ أَوَّلًا بِمُقَدِّمَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمرَان: ١٠]
- ثُمَّ شَرَعَ فِي الْمَوْعِظَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: ١٢] الْآيَةَ.
وَهُوَ تَرْهِيبٌ
- ثُمَّ بِذِكْرِ مُقَابِلِهِ فِي التَّرْغِيبِ بقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمرَان: ١٥] الْآيَةَ
- ثُمَّ بِتَأْيِيدِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: ١٨] الْآيَةَ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ.
- ثُمَّ جَاءَ بِطَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ [آل عمرَان: ٢٠] الْآيَةَ ثُمَّ بِتَرْهِيبٍ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ صَرِيحٍ وَلَكِنْ بِالْإِيمَاءِ إِلَى الدَّلِيلِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمرَان: ٢١]
- ثُمَّ بِطَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْإِنْذَارِ التَّعْرِيضِيِّ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمرَان: ٢٦] الْآيَاتِ.
- ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَطِيعَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ [آل عمرَان: ٢٨].
- ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَرِيقَةِ التَّرْغِيبِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: الْكَافِرِينَ
- وَخَتَمَ بِذِكْرِ عَدَمِ مَحَبَّةِ الْكَافِرِينَ رَدًّا لِلْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ [آل عمرَان: ١٠] الْآيَةَ لِيَكُونَ نَفْيُ الْمَحَبَّةِ عَنْ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، نَفْيًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَافرين المعيّنين.
[٣٣، ٣٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
انْتِقَالٌ مِنْ تَمْهِيدَاتِ سَبَبِ السُّورَةِ إِلَى وَاسِطَة بَين التَّمْهِيدِ وَالْمَقْصِدِ، كَطَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ، فَهَذَا تَخَلُّصٌ لِمُحَاجَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَابْتُدِئَ هُنَا بِذِكْرِ آدَمَ وَنُوحٍ وَهُمَا أَبَوَا الْبَشَرِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَبُو الْمَقْصُودِينَ بِالتَّفْضِيلِ وَبِالْخِطَابِ. فَأَمَّا آدَمُ فَهُوَ أَبُو الْبَشَرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَمِ كُلِّهَا إِلَّا شُذُوذًا مِنْ أَصْحَابِ النَّزَعَاتِ الْإِلْحَادِيَّةِ الَّذِينَ ظَهَرُوا فِي أُورُوبَّا وَاخْتَرَعُوا نَظَرِيَّةَ تَسَلْسُلِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَهِي نظرية فائلة.
وَآدَمُ اسْمُ أَبِي الْبَشَرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَيْهِ وَضَعَهُ لِنَفْسِهِ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا وَضَعَ مَبْدَأَ اللُّغَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَزَوْجُهُ أَنْ يُعَبِّرَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ أَسْمَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِهِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْأُدْمَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ الْمَخْصُوصُ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ اللَّوْنِ بِالْأُدْمَةِ خَاصٌّ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فَلَعَلَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا اسْمَ ذَلِكَ اللَّوْنِ أَخْذًا مِنْ وَصْفِ لَوْنِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ.
229
وَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ كِتَابِ الْعَهْدِ عِنْدَ الْيَهُودِ مَا يَقْتَضِي: أَنَّ آدَمَ وُجِدَ عَلَى الْأَرْضِ فِي وَقْتٍ يُوَافِقُ سَنَةَ ٣٩٤٢ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَثَلَاثَةِ آلَافٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَأَنَّهُ عَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَتَكُونُ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ ٣٠١٢ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثَةِ آلَافٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى هَذَا مَا تَقَبَّلَهُ الْمُؤَرِّخُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِضَبْطِ السِّنِينَ. وَالْمَظْنُونُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ النَّاظِرِينَ فِي شَوَاهِدِ حَضَارَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنَّ هَذَا الضَّبْطَ لَا يُعْتَمَدُ، وَأَنَّ وُجُودَ آدَمَ مُتَقَادِمٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَرَامِيَةِ الْبُعْدِ هِيَ أَكْثَرُ بِكَثِيرٍ مِمَّا حَدَّدَهُ سِفْرُ التَّكْوِينِ.
وَأَمَّا نُوحٌ فَتَقُولُ التَّوْرَاةُ: إِنَّهُ ابْنُ لَامَكَ وَسُمِّيَ عِنْدَ الْعَرَبِ لَمَكَ بْنَ مُتُوشَالِخَ بْنِ أَخْنُوخَ (وَهُوَ إِدْرِيسُ عِنْدَ الْعَرَبِ) ابْنِ يَارِدَ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ بْنِ مَهْلَئِيلَ بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ فَهَاءٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ. وَعَلَى تَقْدِيرِهَا وَتَقْدِيرِ سِنِيِّ أَعْمَارِهِمْ يَكُونُ قَدْ وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَأَلْفَيْنِ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَالْقَوْلُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ضَبْطِ تَارِيخ وجود ءادم.
وَفِي زَمَنِ نُوحٍ وَقَعَ الطُّوفَانُ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ وَنَجَّاهُ اللَّهُ وَأَوْلَادَهُ وَأَزْوَاجَهُمْ فِي الْفُلْكِ فَيَكُونُ أَبًا ثَانِيًا لِلْبَشَرِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَعُمَّ الْأَرْضَ وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ مُؤَرِّخُو الصِّينِ وَزَعَمُوا أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَشْمَلْ قُطْرَهُمْ فَلَا يَكُونُ نُوحٌ عِنْدَهُمْ أَبًا ثَانِيًا لِلْبَشَرِ. وَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى أَبْنَاءِ نُوحٍ الثَّلَاثَةِ سَامٍ، حام، وَيَافِثَ، وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ حَسَبِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وعمّر نوح تسعماية وَخَمْسِينَ سَنَةً عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما [العنكبوت: ١٤] وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ الطُّوفَانَ حَدَثَ وَعُمْرُ نُوحٍ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَأَنَّ نُوحًا صَارَ بَعْدَ الطُّوفَانِ فَلَّاحًا وَغَرَسَ الْكَرْمَ وَاتَّخَذَ الْخَمْرَ. وَذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ صِفَتَهُ بِدُونِ سَنَدٍ فَقَالَ:
كَانَ نُوحٌ دَقِيقَ الْوَجْهِ فِي رَأْسِهِ طُولٌ عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ غَلِيظَ الْعَضُدَيْنِ كَثِيرَ لَحْمِ الْفَخِذَيْنِ ضَخْمَ
السُّرَّةِ طَوِيلَ الْقَامَةِ جَسِيمًا طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، قِيلَ: إِنَّ مَدْفَنَهُ بِالْعِرَاقِ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ، وَقِيلَ فِي ذَيْلِ جَبَلِ لُبْنَانَ، وَقِيلَ بِمَدِينَةِ الْكَرْكِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الطُّوفَانِ: فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَذِكْرُ شَرِيعَتِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى، وَفِي سُورَةِ نُوحٍ.
230
وَالْآلُ: الرَّهْطُ، وَآلُ إِبْرَاهِيمَ: أَبْنَاؤُهُ وَحَفِيدُهُ وَأَسْبَاطُهُ، وَالْمَقْصُودُ تَفْضِيلُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. وَشَمَلَ آلُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ عَقِبِهِ كَمُوسَى، وَمَنْ قَبْلَهُ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَكَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَحَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ، وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ.
وَأَمَّا آلُ عِمْرَانَ: فَهُمْ مَرْيَمُ، وَعِيسَى، فَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ مَاتَانَ كَذَا سَمَّاهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَصَالِحِيهِمْ، وَأَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ عِمْرَامُ بِمِيمٍ فِي آخِرِهِ فَهُوَ أَبُو مَرْيَمَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَفِي كُتُبِ النَّصَارَى: أَنَّ اسْمَهُ يُوهَاقِيمُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ لَهُ اسْمَانِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا عِمْرَانَ وَالِدَ مُوسَى وَهَارُونَ إِذِ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّمْهِيدُ لِذِكْرِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى احْتِمَالِ مَعْنَى الْآلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩] وَلَكِنَّ الْآلَ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِلْحَمْلِ عَلَى رَهْطِ الرَّجُلِ وَقَرَابَتِهِ.
وَمَعْنَى اصْطِفَاءِ هَؤُلَاءِ عَلَى الْعَالَمِينَ اصْطِفَاءُ الْمَجْمُوعِ عَلَى غَيْرِهِمْ، أَوِ اصْطِفَاءُ كُلِّ فَاضِلٍ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَقَوْلُهُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ حَالٌ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ. وَالذَّرِّيَّةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤] وَقَدْ أُجْمِلَ الْبَعْضُ هُنَا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِه الذُّرِّيَّة، فَمن لِلِاتِّصَالِ لَا لِلتَّبْعِيضِ أَيْ بَيْنَ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ اتِّصَالُ الْقَرَابَةِ، فَكُلُّ بَعْضٍ فِيهَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمرَان: ٢٨].
وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ تَذْكِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِشِدَّةِ انْتِسَابِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَى النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلُوا مُوجِبَ الْقَرَابَةِ مُوجِبَ عَدَاوَةٍ وَتَفْرِيقٍ. وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ بِأَقْوَالِ بَعْضِكُمْ فِي بَعْضِ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ: كَقَوْلِ الْيَهُودِ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ وَتَكْذِيبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
231

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٣٥ الى ٣٦]

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ إِذْ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠]. وَمَوْقِعُهَا هُنَا أَظْهَرُ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِعَامِلٍ، فَهِيَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِذْ هُنَا زَائِدَةٌ، وَيَجُوزُ أَن تتَعَلَّق باذكر مَحْذُوفًا، وَلَا يجوز تعلقهَا باصطفى: لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِفَضْلِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِفَضْلِ آدَمَ وَنُوحٍ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ.
وَامْرَأَة عمرَان هِيَ حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُوذَا. قِيلَ: مَاتَ زَوْجُهَا وَتَرَكَهَا حُبْلَى فَنَذَرَتْ حَبْلَهَا ذَلِكَ مُحَرَّرًا أَيْ مُخَلَّصًا لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا يَنْذِرُونَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ ذَكَرًا.
وَإِطْلَاقُ الْمُحَرَّرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِطْلَاقُ تَشْرِيفٍ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلُصَ لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَأَنَّهُ حُرِّرَ مِنْ أَسْرِ الدُّنْيَا وَقُيُودِهَا إِلَى حُرِّيَّةِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَظُنُّهُ ذَكَرًا فَصَدَرَ مِنْهَا النَّذْرُ مُطْلَقًا عَنْ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا جَاءَ ذَكَرًا فَهُوَ مُحَرَّرٌ. وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا وَضَعَتْها وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي بَطْنِي بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ انْكَشَفَ مَا صَدَّقَهُ عَلَى أُنْثَى.
وَقَوْلُهَا: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّحْذِيرِ لِظُهُورِ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ عَلِيمًا بِكُلِّ شَيْءٍ.
وتأكيد الْخَبَر بإنّ مُرَاعَاةٌ لِأَصْلِ الْخَبَرِيَّةِ، تَحْقِيقًا لِكَوْنِ الْمَوْلُودِ أُنْثَى إِذْ هُوَ بِوُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْمُتَرَقَّبِ لَهَا كَانَ بِحَيْثُ تَشُكُّ فِي كَوْنِهِ أُنْثَى وَتُخَاطِبُ نَفْسَهَا بِنَفْسِهَا بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ، فَلِذَا أَكَّدَتْهُ. ثُمَّ لَمَّا اسْتَعْمَلَتْ هَذَا الْخَبَرَ فِي الْإِنْشَاءِ اسْتَعْمَلَتْهُ بِرُمَّتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ الْمُرْسَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَكَّبَ يَكُونُ مَجَازًا بِمَجْمُوعِهِ لَا
232
بِأَجْزَائِهِ وَمُفْرَدَاتِهِ.
وَهَذَا التَّرْكِيبُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ يَحْكِي مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهَا فِي لُغَتِهَا مِنَ الْمَعَانِي: وَهِيَ الرَّوْعَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ لِوِلَادَتِهَا أُنْثَى، وَمُحَاوَلَتُهَا مُغَالَطَةَ نَفْسِهَا فِي الْإِذْعَانِ لِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ تَحْقِيقُهَا ذَلِكَ لِنَفْسِهَا وَتَطْمِينُهَا بِهَا، ثُمَّ التَّنَقُّلُ إِلَى التَّحْسِيرِ عَلَى ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ أَوْدَعَ حِكَايَةَ كَلَامِهَا خُصُوصِيَّاتٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ تُعَبِّرُ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ قَصَدَتْهَا فِي مُنَاجَاتِهَا بِلُغَتِهَا.
وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ اللَّازِمَةُ فِي قَوْلِهَا
أُنْثى إِذْ بِدُونِ الْحَالِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُفِيدًا فَلِذَلِكَ أَنَّثَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَضَعَتْ- بِسُكُونِ التَّاءِ- فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى امْرَأَةِ عِمْرَانَ. وَهُوَ حِينَئِذٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهَا الْمَحْكِيِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ مِنْهَا بِنَفَاسَةِ مَا وَضَعَتْ، وَأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ مُطْلَقِ الذَّكَرِ الَّذِي سَأَلَتْهُ، فَالْكَلَامُ إِعْلَامٌ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ بِتَغْلِيطِهَا، وَتَعْلِيمٌ بِأَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَقَّبَ تَدْبِيرَهُ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ: بِضَمِّ التَّاءِ، عَلَى أَنَّهَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمَةِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِهَا الْمَحْكِيِّ، وَعَلَيْهِ فَاسْمُ الْجَلَالَةِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَيَكُونُ قَرِينَةً لَفْظِيَّةً عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ.
وَجُمْلَةُ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ لِفَوَاتِ مَا قصدته فِي أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ ذَكَرًا، فَتُحَرِّرُهُ لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَتَعْرِيفُ الذَّكَرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِمَا هُوَ مُرْتَكِزٌ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي مَوَالِيدِ الذُّكُورِ، أَيْ لَيْسَ جِنْسُ الذَّكَرِ مُسَاوِيًا لِجِنْسِ الْأُنْثَى. وَقِيلَ: التَّعْرِيفُ فِي وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِلْمَعْهُودِ فِي نَفْسِهَا. وَجُمْلَةُ وَلَيْسَ الذَّكَرُ تَكْمِلَةٌ لِلِاعْتِرَاضِ الْمَبْدُوءِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَالْمَعْنَى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي رَغِبَتْ فِيهِ بِمُسَاوٍ لِلْأُنْثَى الَّتِي أُعْطِيَتْهَا لَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ عُلُوَّ شَأْنِ هَاتِهِ الْأُنْثَى وَجَعَلُوا نَفْيَ الْمُشَابَهَةِ عَلَى بَابِهِ مِنْ نَفْيِ مُشَابَهَةِ الْمَفْضُولِ لِلْفَاضِلِ وَإِلَى هَذَا مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
233
وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يُقْصَدُ بِهِ معنى التَّفْصِيل فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: لَيْسَ سَوَاءً كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ كَذَا مِثْلَ كَذَا، وَلَا هُوَ مِثْلَ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]- وَقَوْلِهِ- يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: ٣٢] وَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ:
فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَوْلِهِمْ: «مَرْعًى وَلَا كَالسَّعْدَانِ، وَمَاءٌ وَلَا كَصَدَّى».
وَلِذَلِكَ لَا يَتَوَخَّوْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ فِي مِثْلِهِ أَضْعَفَ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ لِلتَّشْبِيهِ أَثَرٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى، وَلَوْ قِيلَ: وَلَيْسَتِ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ لَفُهِمَ
الْمَقْصُودُ. وَلَكِنْ قَدَّمَ الذَّكَرَ هُنَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَرْجُوُّ الْمَأْمُولُ فَهُوَ أَسْبَقُ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ يَجِيءُ النَّفْيُ عَلَى مَعْنَى كَوْنِ الْمُشَبَّهِ الْمَنْفِيِّ أَضْعَفَ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الرَّابِعَةِ: «غَدَوْتُ قَبْلَ اسْتِقْلَالِ الرِّكَابِ، وَلَا اغْتِدَاءَ اغْتِدَاءَ الْغُرَابِ» وَقَالَ فِي الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: «وَضَحِكْتُمْ وَقْتَ الدَّفْنِ، وَلَا ضَحِكَكُمْ سَاعَةَ الزَّفْنِ» وَفِي الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
«وَقُمْتُ» وَلَا كَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ» فَجَاءَ بِهَا كُلِّهَا عَلَى نَسَقِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَرَادَتْ تَسْمِيَتَهَا بِاسْمِ أَفْضَلِ نَبِيئَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهِيَ مَرْيَمُ أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ، وَخَوَّلَهَا أَنَّ أَبَاهَا سَمِيُّ أَبِي مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى.
وَتَكَرَّرَ التَّأْكِيدُ فِي وَإِنِّي سَمَّيْتُها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ لِلتَّأْكِيدِ: لِأَنَّ حَالَ كَرَاهِيَتِهَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهَا سَتُعْرِضُ عَنْهَا فَلَا تَشْتَغِلُ بِهَا، وَكَأَنَّهَا أَكَّدَتْ هَذَا الْخَبَرَ إِظْهَارًا لِلرِّضَا بِمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَتْ إِلَى الدُّعَاءِ لَهَا الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ، وَأَكَّدَتْ جُمْلَةَ أُعِيذُهَا مَعَ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِنْشَاءِ الدُّعَاءِ: لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْشَاءِ بِرُمَّتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَقْتَ الْخَبَرِيَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَكَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: «إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
234
».
[٣٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً.
تَفْرِيعٌ عَلَى الدُّعَاءِ مُؤْذِنٌ بِسُرْعَةِ الْإِجَابَةِ، وَضَمَائِرُ النَّصْبِ لِمَرْيَمَ. وَمَعْنَى تَقَبَّلَهَا: تَقَبَّلَ تَحْرِيرَهَا لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَيْ أَقَامَ اللَّهُ مَرْيَمَ مَقَامَ مُنْقَطِعٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا مِنْ قَبْلُ.
وَقَوْلُهُ: بِقَبُولٍ حَسَنٍ الْبَاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ: فَتَقَبَّلَهَا قَبُولًا حَسَنًا، فَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِيَصِيرَ كَالْآلَةِ لِلتَّقَبُّلِ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ ثَانٍ، وَهَذَا إِظْهَارٌ لِلْعِنَايَةِ بِهَا فِي هَذَا الْقَبُولِ، وَقَدْ عُرِفَ هَذَا الْقَبُولُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى زَكَرِيَّاءَ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَهَا زَكَرِيَّاءُ أَعْظَمُ أَحْبَارِهِمْ، وَأَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِإِقَامَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ قَبْلَهَا، وَكُلُّ هَذَا إِرْهَاصٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهَا رَسُولٌ نَاسِخٌ لِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ لِأَنَّ خِدْمَةَ النِّسَاءِ لِلْمَسْجِدِ الْمُقَدَّسِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً.
وَمَعْنَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: أَنْشَأَهَا إِنْشَاءً صَالِحًا، وَذَلِكَ فِي الْخُلُقِ وَنَزَاهَةِ الْبَاطِنِ، فَشُبِّهَ إِنْشَاؤُهَا وَشَبَابُهَا بِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ الْغَضِّ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، (وَنَبَاتٌ) مفعول مُطلق لأنبت وَهُوَ مَصْدَرُ نَبَتَ وَإِنَّمَا أُجْرِيَ عَلَى أَنْبَتَ للتَّخْفِيف.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا.
عُدَّ هَذَا فِي فَضَائِلِ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَزِيدُ فَضْلَهَا لِأَنَّ أَبَا التَّرْبِيَةِ يُكْسِبُ خُلُقَهُ وَصَلَاحَهُ مُرَبَّاهُ.
وَزَكَرِيَّاءُ كَاهِنٌ إِسْرَائِيلِيٌّ اسْمُهُ زَكَرِيَّاءُ مِنْ بَنِي أَبِيَّا بْنِ بَاكِرِ بْنِ بِنْيَامِينَ مِنْ كَهَنَةِ الْيَهُودِ، جَاءَتْهُ النُّبُوءَةُ فِي كِبَرِهِ وَهُوَ ثَانِي مَنِ اسْمُهُ زَكَرِيَّاءُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مُتَزَوِّجًا امْرَأَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ اسْمُهَا (الْيَصَابَاتُ) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ نَسِيبَةَ مَرْيَمَ كَمَا فِي إِنْجِيلِ لُوقَا قِيلَ:
كَانَتْ أُخْتَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَانَتْ خَالَتَهَا، أَوْ مِنْ قَرَابَةِ أُمِّهَا، وَلَمَّا وُلِدَتْ مَرْيَمُ كَانَ أَبُوهَا قَدْ مَاتَ فَتَنَازَعَ كَفَالَتَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِرْصًا.
235
عَلَى كَفَالَةِ بِنْتِ حَبْرِهِمُ الْكَبِيرِ، وَاقْتَرَعُوا عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِزَكَرِيَّاءَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَعْلَ كَفَالَتِهَا لِلْأَحْبَارِ لِأَنَّهَا مُحَرَّرَةٌ لِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ فَيَلْزَمُ أَنْ تُرَبَّى تَرْبِيَةً صَالِحَةً لِذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا- بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ مِنْ كَفَلَهَا- أَيْ تَوَلَّى كَفَالَتَهَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: وَكَفَّلَهَا- بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ- أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ زَكَرِيَّاءَ كَافِلًا لَهَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَكَرِيَّاءُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ، مَمْدُودًا وَبِرَفْعِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: بِالْقَصْرِ، وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَن عَاصِم: بِالْهَمْز فِي آخِرِهِ وَنَصَبَ الْهَمْزَةَ.
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
دَلَّ قَوْلُهُ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَكَانَتْ مَرْيَمُ مُلَازِمَةً لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَتْ تَتَعَبَّدُ بمَكَان تتخذه بهَا مِحْرَابًا، وَكَانَ زَكَرِيَّاءُ يَتَعَهَّدُ تَعَبُّدَهَا فَيَرَى كَرَامَةً لَهَا أَنَّ عِنْدَهَا ثِمَارًا فِي غَيْرِ وَقْتِ وُجُودِ صِنْفِهَا.
كُلَّما مُرَكَّبَةٌ مِنْ (كُلَّ) الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِعُمُومِ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَمِنْ (مَا) الظَّرْفِيَّةِ وَصِلَتِهَا الْمُقَدَّرَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلَّ وَقْتِ دُخُولِ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا.
وَانْتَصَبَ كُلَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥].
فَجُمْلَةُ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً حَال من زَكَرِيَّا فِي قَوْله وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا [آل عمرَان:
٣٦].
236
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جملَة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا.
والمحراب بِنَاءٌ يَتَّخِذُهُ أَحَدٌ لِيَخْلُوَ فِيهِ بِتَعَبُّدِهِ وَصَلَاتِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُتَّخَذُ فِي عُلُوٍّ يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِسُلَّمٍ أَوْ دَرَجٍ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَسْجِدِ. وَأُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ إِطْلَاقَاتٍ، عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ أَوِ التَّوَسُّعِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ صَوَّرُوهَا فِي مَذْبَحِ الْمِحْرَابِ
أَرَادَ فِي مَذْبَحِ الْبَيْعَةِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ لَا يُجْعَلُ فِيهِ مَذْبَحٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمِحْرَابَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمُتَعَبِّدَ كَأَنَّهُ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ فِيهِ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ آلَةً لِمِحْرَبِ الشَّيْطَانِ.
ثُمَّ أُطْلِقَ الْمِحْرَابُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَوْضِعٍ كَشَكْلِ نِصْفِ قُبَّةٍ فِي طُولِ قَامَةٍ وَنِصْفٍ يُجْعَلُ بِمَوْضِعِ الْقِبْلَةِ لِيَقِفَ فِيهِ الْإِمَامُ لِلصَّلَاةِ. وَهُوَ إِطْلَاقٌ مُوَلَّدٌ وَأَوَّلُ مِحْرَابٍ فِي الْإِسْلَامِ مِحْرَابُ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُنِعَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، مُدَّةَ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمِحْرابَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِحْرَابٌ جَعَلَتْهُ مَرْيَمُ لِلتَّعَبُّدِ.
وَ (أَنَّى) اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ، أَيْ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا، فَلِذَلِكَ كَانَ جَوَاب استفهامه قَوْله: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَاسْتِفْهَامُ زَكَرِيَّاءَ مَرْيَمَ عَنِ الرِّزْقِ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ وَوَقْتِ أَمْثَالِهِ. قِيلَ: كَانَ عِنَبًا فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ. وَالرِّزْقُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْد قَوْله: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ مِنْ كَلَامِ مَرْيَمَ الْمَحْكِيِّ.
وَالْحِسَابُ فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ بِمَعْنَى الْحَصْرِ لِأَنَّ الْحِسَابَ يَقْتَضِي حَصْرَ الشَّيْءِ الْمَحْسُوبِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَالْمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يُرِيدُ رِزْقَهُ بِمَا لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى فضل الله.
237

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٣٨]

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
أَيْ فِي الْمَكَانِ، قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، وَقَدْ نَبَّهَهُ إِلَى الدُّعَاءِ مُشَاهَدَةُ خَوَارِقِ الْعَادَةِ مَعَ قَوْلِ مَرْيَمَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمرَان: ٣٧] وَالْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، وَأَهْلُ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ، فَلِذَلِكَ عَمَدَ إِلَى الدُّعَاءِ بِطَلَبِ الْوَلَدِ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي حَسْرَةٍ مِنْ عَدَمِ الْوَلَدِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ حِينَئِذٍ فِي مَكَانٍ شَهِدَ فِيهِ فيضا إلاهيا. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْخَيْرِ يَتَوَخَّوْنَ الْأَمْكِنَةَ بِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ، وَالْأَزْمِنَةَ الصَّالِحَةَ كَذَلِكَ، وَمَا هِيَ إِلَّا كَالذَّوَاتِ الصَّالِحَةِ فِي أَنَّهَا مَحَالُّ تَجَلِّيَاتِ رِضَا اللَّهِ.
وَسَأَلَ الذُّرِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ لِأَنَّهَا الَّتِي يُرْجَى مِنْهَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحُصُولِ الْآثَارِ الصَّالِحَةِ النَّافِعَةِ. وَمُشَاهَدَةُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ خَوَّلَتْ لِزَكَرِيَّاءَ الدُّعَاءَ بِمَا هُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ، أَوْ مِنَ الْمُسْتَبْعَدَاتِ، لِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْفَيْضِ أَوْ مَكَانِهِ، فَلَا يُعَدُّ دُعَاؤُهُ بِذَلِكَ تَجَاوُزًا لِحُدُودِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ مِنَ الدُّعَاءِ وَمَا لَا يَجُوزُ. وَسميع هُنَا معنى مُجيب.
[٣٩- ٤١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤١]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ لِلتَّعْقِيبِ أَيِ اسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ لِلْوَقْتِ.
238
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قائِمٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا بَيَانُ سُرْعَةِ إِجَابَتِهِ لِأَنَّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي صَلَاتِهِ.
وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنالِكَ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَنَادَتْهُ أَنَّ الْمِحْرَابَ مِحْرَابُ مَرْيَمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَادَتْهُ- بِتَاءِ تَأْنِيثٍ- لِكَوْنِ الْمَلَائِكَةِ جَمْعًا، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ لِلْجَمْعِ
يَجُوزُ فِيهِ التَّأْنِيثُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْجَمَاعَةِ أَيْ نَادَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَادَاهُ مَلَكًا وَاحِدًا وَهُوَ جِبْرِيلُ وَقَدْ ثَبَتَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، فَيَكُونَ إِسْنَادُ النِّدَاءِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِ فِعْلِ الْوَاحِدِ إِلَى قَبِيلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: قَتَلَتْ بَكْرٌ كُلَيْبًا.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: فَنَادَاهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُنَادِي وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ عَلَى أَنَّهُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِبَاءٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ نَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ: إِنَّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى الْحِكَايَةِ. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فتأكيد الْكَلَام بإنّ الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَالْمَكْسُورَتِهَا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ لِغَرَابَتِهِ يُنَزِّلُ الْمُخْبَرَ بِهِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ الطَّالِبِ.
وَمَعْنَى «يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى» يُبَشِّرُكَ بِمَوْلُودٍ يُسَمَّى يَحْيَى فَعُلِمَ أَنَّ يَحْيَى اسْمٌ لَا فِعْلٌ بِقَرِينَةِ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ وَذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٧] : إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى.
وَيحيى مُعَرَّبُ يُوحَنَّا بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَهُوَ عَجَمِيٌّ لَا مَحَالَةَ نَطَقَ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى زِنَةِ الْمُضَارِعِ مَنْ حَيِيَ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ أَوْ لِوَزْنِ الْفِعْلِ. وَقُتِلَ يَحْيَى فِي كُهُولَتِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَمْرِ (هِيرُودُسَ) قَبْلَ رَفْعِ الْمَسِيحِ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ.
وَقَدْ ضُمَّتْ إِلَى بِشَارَتِهِ بِالِابْنِ بِشَارَةٌ بِطِيبِهِ كَمَا رَجَا زَكَرِيَّاءُ، فَقِيلَ لَهُ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَمُصَدِّقًا حَالٌ مِنْ يَحْيَى أَيْ كَامِلَ التَّوْفِيقِ لَا يَتَرَدَّدُ فِي كَلِمَةٍ تَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ أُجْمِلَ هَذَا الْخَبَرُ لِزَكَرِيَّاءَ لِيَعْلَمَ أَنَّ حَادِثًا عَظِيمًا سَيَقَعُ يَكُونُ ابْنُهُ فِيهِ مُصَدِّقًا بِرَسُولٍ يَجِيءُ وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
239
وَوُصِفَ عِيسَى كَلِمَةً من الله لأنّ خُلِقَ بِمُجَرَّدِ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِكَلِمَةِ «كُنْ» أَيْ كَانَ تَكْوِينُهُ غَيْرَ مُعْتَادٍ وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمرَان: ٤٥]. وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَجِيءِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ، وَمَعْرِفَةَ كَوْنِهِ صَادِقًا بِدُونِ تَرَدُّدٍ، هُدًى عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ التَّأَمُّلِ السَّرِيعِ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ فَازَ بِهَذَا الْوَصْفِ يَحْيَى فِي الْأَوَّلِينَ، وَخَدِيجَةُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: ٣٣]، وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ هُنَا التَّوْرَاةُ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا الْكَلِمَةُ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ، وَأَنَّ الْكَلِمَةَ
هِيَ التَّوْرَاةُ.
وَالسَّيِّدُ فَيْعِلٌ مِنْ سَادَ يَسُودُ إِذَا فَاقَ قَوْمَهُ فِي مَحَامِدِ الْخِصَالِ حَتَّى قَدَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتَرَفُوا لَهُ بِالْفَضْلِ. فَالسُّؤْدُدُ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَمِدُ كِفَايَةَ مُهِمَّاتِ الْقَبِيلَةِ وَالْبَذْلَ لَهَا وَإِتْعَابَ النَّفْسِ لِرَاحَةِ النَّاسِ قَالَ الْهُذَلِيُّ:
وَإِنَّ سِيَادَةَ الْأَقْوَامِ فَاعْلَمْ لَهَا صُعَدَاءُ مَطْلَبُهَا طَوِيلُ
أَتَرْجُو أَنْ تَسُودَ وَلَنْ تُعَنَّى وَكَيْفَ يَسُودُ ذُو الدَّعَةِ الْبَخِيلُ
وَكَانَ السُّؤْدُدُ عِنْدهم يعْتَمد خلال مَرْجِعُهَا إِلَى إِرْضَاءِ النَّاس عَلَى أَشْرَفِ الْوُجُوهِ، وَمِلَاكُهُ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَال العظائم، وأصالة الرَّأْيُ، وَفَصَاحَةُ اللِّسَانِ.
وَالسَّيِّدُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِ حَالِ النَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ مَعًا
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَفِيهِ «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ»
- يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ- فَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ جَامِعًا خِصَالَ السُّؤْدُدِ الشَّرْعِيِّ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَنَازَلَ عَنْ حَقِّ الْخِلَافَةِ لِجَمْعِ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ، وَلِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ ابْن أَبِي سُفْيَانَ- فَقِيلَ لَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- قَالَ: هُمَا خَيْرٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمُعَاوِيَةُ أَسْوَدُ مِنْهُمَا» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «أَشَارَ إِلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا مِنَ الِاسْتِصْلَاحِ وَإِقَامَةِ الْحُقُوقِ بِمَنْزِلَةٍ هُمَا فِيهَا خَيْرٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَلَكِنْ مَعَ تَتَبُّعِ الْجَادَّةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِرِضَا النَّاسِ يَنْخَرِمُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ خِصَالِ السُّؤْدُدِِِ
240
وَمُعَاوِيَةُ قَدْ بَرَّزَ فِي خِصَالِ السُّؤْدُدِ الَّتِي هِيَ الِاعْتِمَالُ فِي إِرْضَاءِ النَّاسِ عَلَى أَشْرَفِ الْوُجُوهِ وَلَمْ يُوَاقِعْ مَحْذُورًا».
وَوَصَفَ اللَّهُ يَحْيَى بِالسَّيِّدِ لِتَحْصِيلِهِ الرِّئَاسَةَ الدِّينِيَّةَ فِيهِ مِنْ صِبَاهُ، فَنَشَأَ مُحْتَرَمًا مِنْ جَمِيعِ قَوْمِهِ قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً [مَرْيَم: ١٢، ١٣]، وَقَدْ قِيلَ السَّيِّدُ هُنَا الْحَلِيمُ التَّقِيُّ مَعًا: قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ الْحَلِيمُ فَقَطْ: قَالَه ابْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ السَّيِّدُ هُنَا الشَّرِيفُ: قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقِيلَ السَّيِّدُ هُنَا الْعَالِمُ: قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا.
وَعَطْفُ سَيِّدًا عَلَى مُصَدِّقًا، وَعَطْفُ حَصُورًا وَمَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْعَلِيمِ، وَلَا التَّقِّيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. والحصور فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ رَسُولٍ أَيْ حَصُورٌ عَنْ قُرْبَانِ النِّسَاءِ.
وَذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي أَثْنَاءِ صِفَاتِ الْمَدْحِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدْحًا لَهُ، لِمَا تَسْتَلْزِمُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ بَرَاءَتِهِ مِمَّا يُلْصِقُهُ أَهْلُ الْبُهْتَانِ بِبَعْضِ أَهْلِ الزُّهْدِ مِنَ التُّهَمِ، وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ فِي عَصْرِهِ فِي أَشَدِّ الْبُهْتَانِ وَالِاخْتِلَاقِ، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ مَدْحًا لَهُ لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ يَحْيَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ كَانُوا مُسْتَكْمِلِينَ الْمَقْدِرَةَ عَلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ لِيَحْيَى إِعْلَامًا لِزَكَرِيَّاءَ بِأَنَّ اللَّهَ وَهَبَهُ وَلَدًا إِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ، إِذْ قَالَ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَم: ٥، ٦] وَأَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنِ انْقِطَاعِ عَقِبِ زَكَرِيَّاءَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا، وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِكَرَامَةِ زَكَرِيَّاءَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَوُسِّطَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ بَيْنَ صِفَاتِ الْكَمَالِ تَأْنِيسًا لِزَكَرِيَّاءَ وَتَخْفِيفًا مِنْ وَحْشَتِهِ لِانْقِطَاعِ نَسْلِهِ بَعْدَ يَحْيَى.
وَقَوْلُهُ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ اسْتِفْهَامٌ مُرَادٌ مِنْهُ التَّعَجُّبُ، قُصِدَ مِنْهُ تَعَرُّفُ إِمْكَانِ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَلَدَ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِحُصُولِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ إِلَّا
241
تَطَلُّبًا لِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُحَقِّقُ لَهُ الْبِشَارَةَ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ الْوَعْدِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠]، فَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَزَّ وُقُوعُهَا فِي الْعَادَةِ.
وَ (أَنَّى) فِيهِ بِمَعْنَى كَيْفَ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَكَانِ، لِتَعَذُّرِ عَمَلِ الْمَكَانَيْنِ اللَّذَيْنِ هما سَبَب التناسل وهما الْكِبَرُ وَالْعُقْرَةُ. وَهَذَا التَّعَجُّبُ يَسْتَلْزِمُ الشُّكْرَ عَلَى هَذِهِ الْمِنَّةِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشُّكْرِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجِهِ الْعَاقِرِ دُونَ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِامْرَأَةِ زَكَرِيَّاءَ.
وَقَوْلُهُ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ جَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْقَلْبِ، وَأَصْلُهُ وَقَدْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ، وَفَائِدَتُهُ إِظْهَارُ تَمَكُّنِ الْكِبَرِ مِنْهُ كَأَنَّهُ يَتَطَلَّبُهُ حَتَّى بَلَغَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النِّسَاء: ٧٨].
وَالْعَاقِرُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ عَقَرَتْ رَحِمَهَا أَيْ قَطَعَتْهُ. وَلِأَنَّهُ وَصْفٌ خَاصٌّ بِالْأُنْثَى لَمْ يُؤَنَّثْ كَقَوْلِهِمْ حَائِضٌ وَنَافِسٌ وَمُرْضِعٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤَنَّثُ فِي غَيْرِ صِيغَةِ الْفَاعِلِ فَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَقْرَى دُعَاءً عَلَى الْمَرْأَةِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «عَقْرَى حَلْقَى»
وَكَذَلِكَ نُفَسَاءُ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ كَهَذَا الْفِعْلِ الْعَجِيبِ وَهُوَ تَقْدِيرُ الْحَمْلِ مِنْ
شَيْخٍ هَرِمٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ وَلَدٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا التَّكْوِينَ حَصَلَ بِكَوْنِ زَكَرِيَّاءَ كَانَ قَبْلَ هِرَمِهِ ذَا قُوَّةٍ زَائِدَةٍ لَا تَسْتَقِرُّ بِسَبَبِهَا النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ فَلَمَّا هَرِمَ اعْتَدَلَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ فَصَارَتْ كَالْمُتَعَارَفِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالٍ فِي رَحِمِ امْرَأَتِهِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ هَذَا التَّكْوِينِ بِجُمْلَةِ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ هُوَ تَكْوِينُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَوْجَدَ أَسْبَابَهُ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ كَمَا قَالَهُ فِي جَانِبِ تَكْوِينِ عِيسَى.
وَقَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَرَادَ آيَةً عَلَى وَقْتِ حُصُولِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَهَلْ هُوَ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ، فَالْآيَةُ هِيَ الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ابْتِدَاءِ حَمْلِ زَوْجِهِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ: آيَةُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَارِدًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا فِي إِنْجِيلِ لُوقَا. وَعِنْدِي فِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْخِطَابُ الْوَارِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ وَيَعْلَمُونَهُ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ.
242
وَقَوْلُهُ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً جَعَلَ اللَّهُ حُبْسَةَ لِسَانِهِ عَنِ الْكَلَامِ آيَةً عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي تَحْمِلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَ مَا لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَعْصَابِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالدِّمَاغِ إِلَى أَعْصَابِ التَّنَاسُلِ بِحِكْمَةٍ عَجِيبَةٍ يَقْرُبُ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ مِنْ سُقُوطِ بَعْضِ الْإِحْسَاسِ لِمَنْ يَأْكُلُ الْبَلَاذِرَ لِقُوَّةِ الْفِكْرِ. أَوْ أَمَرَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ إِعَانَةً عَلَى انْصِرَافِ الْقُوَّةِ مِنَ الْمَنْطِقِ إِلَى التَّنَاسُلِ، أَيْ مَتَى تَمَّتْ ثَلَاثَةُ الْأَيَّامِ كَانَ ذَلِكَ أَمَارَةَ ابْتِدَاءِ الْحَمْلِ. قَالَ الرَّبِيعُ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهُ عُقُوبَةً لِتَرَدُّدِهِ فِي صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْمَلَكُ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّهُ سَأَلَ آيَةً فَأُعْطِيَ غَيْرَهَا.
وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَمْرٌ بِالشُّكْرِ. وَالذِّكْرُ الْمُرَادُ بِهِ:
الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَالصَّلَاةِ إِنْ كَانَ قَدْ سُلِبَ قُوَّةَ النُّطْقِ، أَوِ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ إِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهَا فَقَطْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا رَمْزًا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع.
[٤٢- ٤٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٤]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ. انْتِقَالٌ مِنْ ذِكْرِ أُمِّ مَرْيَمَ إِلَى ذِكْرِ مَرْيَمَ.
وَمَرْيَمُ عَلَمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَهُوَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمٌ قَدِيمٌ سُمِّيَتْ بِهِ أُخْتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِي كُتُبِ النَّصَارَى ذِكْرٌ لِاسْمِ أَبِي مَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى وَلَا لِمَوْلِدِهَا
وَلَكِنَّهَا تَبْتَدِئُ فَجْأَةً بِأَنَّ عَذْرَاءَ فِي بَلَدِ النَّاصِرَةِ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ النَّجَّارِ، قَدْ حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ.
243
وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ اسْمَ مَرْيَمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُتَرَجِّلَةِ الَّتِي تُكْثِرُ مُجَالَسَةَ الرِّجَالِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ.
(وَالزِّيرُ بِكَسْرِ الزَّايِ الَّذِي يُكْثِرُ زِيَارَةَ النِّسَاءِ) وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مَرْيَمُ فِي لُغَتِهِمْ- أَيْ لُغَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ- بِمَعْنَى الْعَابِدَةِ.
وَتَكَرَّرَ فِعْلُ اصْطَفاكِ لِأَنَّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذَاتِيٌّ، وَهُوَ جَعْلُهَا مُنَزَّهَةً زَكِيَّةً، وَالثَّانِي بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى الْغَيْرِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْأَوَّلُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ. وَعُدِّيَ الثَّانِي.
وَنِسَاءُ الْعَالَمِينَ نِسَاءُ زَمَانِهَا، أَوْ نِسَاءُ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ. وَتَكْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ وَالِاصْطِفَاءُ يَدُلَّانِ عَلَى نُبُوءَتِهَا وَالنُّبُوءَةُ تَكُونُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّسَالَةِ.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِقَصْدِ الْإِعْجَابِ بِحَالِهَا، لِأَنَّ النِّدَاءَ الْأَوَّلَ كَفَى فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِقْبَالِهَا لِسَمَاعِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي مُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ الَّذِي يُنْتَقَلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِعْجَابُ بِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
تَقُولُ وَقَدْ مَال الغبيط بنامعا عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
(فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ إِلَى التَّوْبِيخِ).
وَالْقُنُوتُ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٨].
وَقدم السُّجُود، لأنّ أَدْخَلُ فِي الشُّكْرِ وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ شُكْرٍ.
وَقَوْلُهُ: مَعَ الرَّاكِعِينَ إِذْنٌ لَهَا بِالصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا مِنْ بَيْنِ نسَاء إِسْرَائِيل إِظْهَارًا لِمَعْنَى ارْتِفَاعِهَا عَنْ بَقِيَّةِ النِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الرَّاكِعِينَ بِعَلَامَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ.
وَهَذَا الْخِطَابُ مُقَدِّمَةٌ لِلْخِطَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: ٤٥] لِقَصْدِ تَأْنِيسِهَا بِالْخَبَرِ الْمُوَالِي لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَاصِلُهُ يَجْلِبُ لَهَا حُزْنًا وَسُوءَ قَالَةٍ بَيْنَ النَّاسِ، مَهَّدَ لَهُ بِمَا يَجْلِبُ إِلَيْهَا مَسَرَّةً، وَيُوقِنُهَا بِأَنَّهَا بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ
تَعْلَمَ بِأَنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهَا مَخْرَجًا وَأَنَّهُ لَا يُخْزِيهَا.
244
وَقَوْلُهُ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى خُلُوِّ كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو كُتُبَهُمْ مِثْلَ: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ» أَيْ إِنَّكَ تُخْبِرُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ كَأَنَّكَ كُنْتَ لَدَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ وَهِيَ الْأَقْلَامُ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ كَانُوا يَقْتَرِعُونَ بِهَا فِي الْمُشْكِلَاتِ: بِأَنْ يَكْتُبُوا عَلَيْهَا أَسْمَاءَ الْمُقْتَرِعِينَ أَوْ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الْمُقْتَرَعِ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَصِيرُونَ إِلَى الْقُرْعَةِ عِنْدَ انْعِدَامِ مَا يُرَجِّحُ الْحَقَّ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ وَجَعَلَ الْيَهُودُ الِاقْتِرَاعَ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ فِي الْمِدْرَاسِ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ بَرَكَتُهَا مُرْشِدَةً إِلَى مَا هُوَ الْخَيْرُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ لِإِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا مَوَاضِعُ تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ الْمُتَسَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْهِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي كَفَالَةِ مَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهَا أُمُّهَا حِنَّةُ، إِذْ كَانَتْ يَتِيمَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الِامْتِنَانِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ كَفَالَةَ زَكَرِيَّاءَ مَرْيَمَ كَانَتْ بَعْدَ الِاسْتِقْسَامِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَنَافُسِهِمْ فِي كفالتها.
[٤٥، ٤٦]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ [آل عمرَان: ٤٢] قُصِدَ مِنْهُ التَّكْرِيرُ لِتَكْمِيلِ الْمَقُولِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ. وَلِكَوْنِهِ بَدَلًا لَمْ يُعْطَفْ عَلَى إِذْ قَالَتِ الْأَوَّلِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يُبَشِّرُكِ.
وَالْكَلِمَةُ مُرَادٌ بِهَا كَلِمَةُ التَّكْوِينِ وَهِيَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيُّ كَمَا
فِي حَدِيثِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ: «وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ»
إِلَخْ.
وَوَصْفُ عِيسَى بِكَلِمَةٍ مُرَادٌ بِهِ كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْمُعْتَادِ فِي تَكْوِينِ الْجَنِينِ أَيْ بِدُونِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ.
245
وَقَوْلُهُ: مِنْهُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ بِدُونِ وَاسِطَةِ أَسْبَابِ النَّسْلِ الْمُعْتَادَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِذا قَضى أَمْراً [الْبَقَرَة: ١١٧].
وَقَوْلُهُ: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَبَّرَ عَنِ الْعَلَمِ وَاللَّقَبِ وَالْوَصْفِ بِالِاسْمِ.
لِأَنَّ لِثَلَاثَتِهَا أَثَرًا فِي تَمْيِيزِ الْمُسَمَّى. فَأَمَّا اللَّقَبُ وَالْعَلَمُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْوَصْفُ الْمُفِيدُ لِلنَّسَبِ فَلِأَنَّ السَّامِعِينَ تَعَارَفُوا ذِكْرَ اسْمِ الْأَبِ فِي ذِكْرِ الْأَعْلَامِ لِلتَّمْيِيزِ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَتُذْكَرُ الْأُمُّ فِي النَّسَبِ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِالْأَبِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: زِيَادُ بن سُمَيَّةَ قَبْل أَنْ يُلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّ لِأُمِّهِ مَفْخَرًا عَظِيمًا كَقَوْلِهِمْ: عَمْرُو ابْنُ هِنْدٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْعَرَبِ.
والْمَسِيحُ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ. وَنُقِلَتْ إِلَى الْعَرَبيَّة علما بِالْغَلَبَةِ عَلَى عِيسَى وَقَدْ سَمَّى مُتَنَصِّرَةُ الْعَرَبِ بَعْضَ أَبْنَائِهِمْ «عَبْدَ الْمَسِيحِ» وَأَصْلُهَا مَسِّيِّحْ- بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ- وَنَطَقَ بِهِ بَعْضُ الْعَرَبِ بِوَزْنِ سِكِّينٍ.
وَمَعْنَى مَسِيحٍ مَمْسُوحٌ بِدُهْنِ الْمَسْحَةِ وَهُوَ الزَّيْتُ الْمُعَطَّرُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَتَّخِذَهُ لِيَسْكُبَهُ عَلَى رَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ حِينَمَا جَعَلَهُ كَاهِنًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَارَتْ كَهَنَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمْسَحُونَ بِمِثْلِهِ مَنْ يُمَلِّكُونَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ عَهْدِ شَاوِلَ الْمَلِكِ، فَصَارَ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَلِكِ: فَفِي أَوَّلِ سِفْرِ صَمْوِيلَ الثَّانِي مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ قَالَ دَاوُدُ لِلَّذِي أَتَاهُ بِتَاجِ شَاوِلَ الْمَلِكِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ بِطَالُوتَ «كَيْفَ لَمْ تَخَفْ أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ لِتُهْلِكَ مَسِيحَ الرَّبِّ».
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ عِيسَى سُمِّيَ بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا يُسَمُّونَ بِمَلِكٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَقَبٌ لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ إِذِ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَصِيرَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ بَيْنَهُمْ وَاشْتُهِرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْوَجِيهُ ذُو الْوَجَاهَةِ وَهِيَ: التَّقَدُّمُ عَلَى الْأَمْثَالِ، وَالْكَرَامَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَهِيَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَجْهِ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ، وَأَجْمَعُهَا لِوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْمَالِ، فَأُطْلِقَ الْوَجْهُ عَلَى أَوَّلِ الشَّيْءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ
246
الشَّائِعَةِ فَيُقَالُ:
وَجْهُ النَّهَارِ لِأَوَّلِ النَّهَارِ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمرَان: ٧٢] وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَلَاحَ لَهُمْ وَجْهُ الْعَشِيَّاتِ سَمْلَقُ وَيَقُولُونَ: هُوَ وَجْهُ الْقَوْمِ أَيْ سَيِّدُهُمْ وَالْمُقَدَّمُ بَيْنَهُمْ. وَاشْتُقَّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فِعْلُ وَجُهَ بِضَمِّ الْجِيمِ كَكَرُمَ فَجَاءَ مِنْهُ وَجِيهٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، فَوَجِيهُ النَّاسِ الْمُكَرَّمُ بَيْنَهُمْ، وَمَقْبُولُ الْكَلِمَةِ فِيهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً.
والْمَهْدُ شِبْهُ الصُّنْدُوقِ مِنْ خَشَبٍ لَا غِطَاءَ لَهُ يُمَهَّدُ فِيهِ مَضْجَعٌ لِلصَّبِيِّ مُدَّةَ رِضَاعِهِ يُوضَعُ فِيهِ لِحِفْظِهِ مِنَ السُّقُوطِ.
وَخُصَّ تَكْلِيمُهُ بِحَالَيْنِ: حَالِ كَوْنِهِ فِي الْمَهْدِ، وَحَالِ كَوْنِهِ كَهْلًا، مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّ لِذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فَأَمَّا تَكْلِيمُهُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ فَلِأَنَّهُ خَارِقُ عَادَةٍ إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ. وَأَمَّا تَكْلِيمُهُمْ كَهْلًا فَمُرَادٌ بِهِ دَعْوَتُهُ النَّاسَ إِلَى الشَّرِيعَةِ.
فَالتَّكْلِيمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَفِي كِنَايَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهِيَ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَمِنَ الصَّالِحِينَ فَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالصَّالِحُونَ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصَّلَاحُ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالصَّلَاحُ اسْتِقَامَةُ الْأَعْمَالِ وَطَهَارَةُ النَّفْسِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١٠٠].
وَالْكَهْلُ مَنْ دَخَلَ فِي عَشَرَةِ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ الَّذِي فَارَقَ عَصْرَ الشَّبَابِ، وَالْمَرْأَةُ شَهْلَةٌ بِالشِّينِ، وَلَا يُقَالُ كَهْلَةٌ كَمَا لَا يُقَالُ شَهْلٌ لِلرَّجُلِ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ قَدِيمًا سَمَّوْا شَهْلًا مِثْلَ شَهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الْمُلَقَّبِ الْفِنْدُ الزِّمَانِيُّ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ أُمِيتَ. وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ بُعِثَ ابْنَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ.
247
وَقَوْلُهُ: وَجِيهاً حَال من بِكَلِمَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا صَدَّقَهَا. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ، وَيُكَلِّمُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ: لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ لَهَا حُكْمُ الْمُفْرَدِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْمَهْدِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (يُكَلِّمُ). وَكَهْلًا عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، لِأَنَّهُمَا فِي مَوْضِعِ الْحَال، فعطف عَلَيْهِمَا بِالنَّصْبِ، وَمِنَ الصَّالِحِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
[٤٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٤٧]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
قَوْله: قالَتْ رَبِّ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، مِنْ كَلَامِهَا، بَيْنَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.
وَالنِّدَاءُ لِلتَّحَسُّرِ وَلَيْسَ لِلْخِطَابِ: لِأَنَّ الَّذِي كَلَّمَهَا هُوَ الْمَلَكُ، وَهِيَ قَدْ تَوَجَّهَتْ إِلَى اللَّهِ.
والاستفهام فِي قَوْلهَا أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ وَلِذَلِكَ أُجِيبَ جَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ لِرَفْعِ إِنْكَارِهَا، وَالثَّانِي إِذَا قَضَى أَمْرًا إِلَخْ لِرَفْعِ تَعَجُّبِهَا.
وَجُمْلَةُ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ إِلَخْ جَوَابُ اسْتِفْهَامِهَا وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها وَمَا بَعْدَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠] وَالْقَائِلُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْوَحْيِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ- إِلَى قَوْله- وَكَهْلًا [آل عمرَان: ٤٥، ٤٦] أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَخْلُقُ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِ الْخَبَرِ.
وَعُبِّرَ عَنْ تَكْوِينِ اللَّهِ لِعِيسَى بِفِعْلِ يَخْلُقُ: لِأَنَّهُ إِيجَادُ كَائِنٍ مِنْ غَيْرِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ لِإِيجَادِ مِثْلِهِ، فَهُوَ خَلْقٌ أنف غير ناشىء عَنْ أَسْبَابِ إِيجَادِ النَّاسِ، فَكَانَ لِفِعْلِ يَخْلُقُ هُنَا مَوْقِعٌ مُتَعَيِّنٌ، فَإِنَّ الصَّانِعَ إِذَا صَنَعَ شَيْئًا مِنْ مَوَادَّ مُعْتَادَةٍ وَصَنْعَةٍ مُعْتَادَةٍ، لَا يَقُولُ خَلَقْتُ وَإِنَّمَا يَقُول صنعت.
[٤٨، ٤٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٤٩]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
جُمْلَةُ وَيُعَلِّمُهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمرَان: ٤٦] بَعْدَ انْتِهَاءِ الِاعْتِرَاضِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ: وَيُعَلِّمُهُ- بِالتَّحْتِيَّةِ- أَيْ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِنُونِ
الْعَظَمَةِ، عَلَى الِالْتِفَاتِ.
وَالْكِتَابُ مُرَادٌ بِهِ الْكِتَابُ الْمَعْهُودُ. وَعَطْفُ التَّوْرَاةِ تَمْهِيدٌ لِعَطْفِ الْإِنْجِيلِ- وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ- وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَرَسُولًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ (يُعَلِّمُهُ) لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ، لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَحَلٍّ مِنَ الْإِعْرَابِ، هِيَ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فَنُصِبَ رَسُولًا عَلَى الْحَالِ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ قَوْلُهُ بِكَلِمَةٍ، فَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.
وَفَتْحُ هَمْزَةِ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ لِتَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ بَعْدَ رَسُولًا، أَيْ رَسُولًا بِهَذَا الْمَقَالِ لِمَا تَضَمَّنَهُ وَصْفُ رَسُولًا مِنْ كَوْنِهِ مَبْعُوثًا بِكَلَامٍ، فَهَذَا مَبْدَأُ كَلَامٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.
249
وَمَعْنَى جِئْتُكُمْ أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ [الزخرف: ٦٣].
وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا بِأَنَّهُ جَاءَ بِآيَةٍ. شَبَّهَ أَمْرَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَةً بِمَجِيءِ الْمُرْسَلِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النَّبِيءُ رَسُولًا.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِآيَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ مُقَارِنًا لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِي فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِفِعْلِ الْمَجِيءِ. وَالْمَجْرُور مُتَعَلق بجئتكم عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ مَعْنَى جِئْتُكُمْ: أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: أَنِّي أَخْلُقُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ آيَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنِّي عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ.
وَالْخَلْقُ: حَقِيقَتُهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بِقَدْرٍ، وَمِنْهُ خَلْقُ الْأَدِيمِ تَقْدِيرُهُ بِحَسْبِ مَا يُرَادُ مِنْ قَطْعِهِ قَبْلَ قَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خلقت وَبَعض الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يُرِيدُ تَقْدِيرَ الْأَدِيمِ قَبْلَ قَطْعِهِ وَالْقَطْعُ هُوَ الْفَرْيُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مَشْهُورًا أَوْ مُشْتَرَكًا فِي الْإِنْشَاءِ، وَالْإِبْدَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ وَلَا احْتِذَاءٍ، وَفِي الْإِنْشَاءِ عَلَى مِثَالِ يُبْدِعُ وَيُقَدِّرُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١] فَهُوَ إِبْدَاعُ الشَّيْءِ وَإِبْرَازُهُ لِلْوُجُودِ
وَالْخَلْقُ هُنَا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته أَيْ: أُقَدِّرُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ خَلْقَ الْحَيَوَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَأَنْفُخُ فِيهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الطَّيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٦٠]. وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَهِيَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَخْلُقُ، أَيْ شَيْئًا مُقَدَّرًا مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «الطَّيْرَ» وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ غَالِبًا وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ «الطَّائِرِ».
250
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِـ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْفُخُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكَافُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ- وَحْدَهُ- فَيَكُونُ طَائِرًا بِالْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَيَكُونُ طَيْرًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْجَمْعِ فَقِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَى مُرَاعَاةِ انْفِرَادِ الضَّمِيرِ، وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى. جَعَلَ لِنَفْسِهِ التَّقْدِيرَ، وَأَسْنَدَ لِلَّهِ تَكْوِينَ الْحَيَاةِ فِيهِ.
وَالْهَيْئَةُ: الصُّورَةُ وَالْكَيْفِيَّةُ أَيْ أُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ صُورَةً كَصُورَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْجَمِيعُ كَهَيْئَةِ بِتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ.
وَزَادَ قَوْلَهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ، وَنَفْيِ تَوَهُّمِ الْمُشَارَكَةِ فِي خَلْقِ الْكَائِنَاتِ.
وَالْأَكْمَهُ: الْأَعْمَى، أَوِ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى.
وَالْأَبْرَصُ: الْمُصَابُ بِدَاءِ الْبَرَصِ وَهُوَ دَاءٌ جِلْدِيٌّ لَهُ مَظَاهِرُ مُتَنَوِّعَةٌ مِنْهَا الْخَفِيفُ وَمِنْهَا الْقَوِيُّ وَأَعْرَاضُهُ بُقَعٌ بَيْضَاءُ شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ تَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ فَإِنْ كَانَتْ غَائِرَةً فِي الْجِلْدِ فَهُوَ الْبَرَصُ وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِسَطْحِ الْجِلْدِ فَهُوَ الْبَهَقُ ثُمَّ تَنْتَشِرُ عَلَى الْجِلْدِ فَرُبَّمَا عَمَّتِ الْجِلْدَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِيرَ أَبْيَضَ، وَرُبَّمَا بَقِيَتْ مُتَمَيِّزَةً عَنْ لَوْنِ الْجِلْدِ.
وَأَسْبَابُهُ مَجْهُولَةٌ، وَيَأْتِي بِالْوِرَاثَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْدٍ، وَشُوهِدَ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِهِ تَكْثُرُ فِي الَّذِينَ يُقَلِّلُونَ مِنَ النَّظَافَةِ أَوْ يَسْكُنُونَ الْأَمَاكِن القذرة. وَالْعرب وَالْعِبْرَانِيُّونَ وَالْيُونَانُ يُطْلِقُونَ الْبَرَصَ عَلَى مَرَضٍ آخَرَ هُوَ مِنْ مَبَادِئِ الْجُذَامِ فَكَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِالْبَرَصِ إِذَا بَدَتْ أَعْرَاضُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَأَمَّا الْعَرَبُ فَكَانَ مُلُوكُهُمْ لَا يُكَلِّمُونَ الْأَبْرَصَ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الشَّاعِرِ مَعَ الْمَلِكِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ. وَأَمَّا الْعِبْرَانِيُّونَ فَهُمْ أَشَدُّ فِي ذَلِكَ. وَقَدِ اهْتَمَّتِ التَّوْرَاةُ بِأَحْكَامِ الْأَبْرَصِ، وَأَطَالَتْ فِي بَيَانِهَا، وَكَرَّرَتْهُ مِرَارًا، وَيَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّهُ مَرَضٌ يَنْزِلُ فِي الْهَوَاءِ وَيَلْتَصِقُ بِجُدْرَانِ الْمَنَازِلِ، وَقَدْ وَصَفَهُ الْوَحْيُ لِمُوسَى لِيُعَلِّمَهُ
الْكَهَنَةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُعَلِّمَهُمْ طَرِيقَةَ عِلَاجِهِ، وَمِنْ أَحْكَامِهِمْ أَنَّ الْمُصَابَ يُعْزَلُ عَنِ الْقَوْمِ وَيُجْعَلُ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ. وَلِهَذَا كَانَ إِعْجَازُ الْمَسِيحِ بِإِبْرَاءِ الْأَبْرَصِ أَهَمَّ الْمُعْجِزَاتِ فَائِدَةً عِنْدَهُمْ دِينًا وَدُنْيَا.
وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ الْبَرَصَ فِي عُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ وَفَصَّلُوا بَيْنَ أَنْوَاعِهِ الَّتِي تُوجِبُ الْخِيَارَ وَالَّتِي لَا تُوجِبُهُ وَلَمْ يَضْبِطُوا أَوْصَافَهُ وَاقْتَصَرُوا عَلَى تَحْدِيدِ أَجْلِ بُرْئِهِ.
251
وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى مُعْجِزَةٌ لِلْمَسِيحِ أَيْضًا، كَنَفْخِ الرُّوحِ فِي الطَّيْرِ الْمُصَوَّرِ مِنَ الطِّينِ، فَكَانَ إِذَا أَحْيَا مَيِّتًا كَلَّمَهُ ثُمَّ رَجَعَ مَيِّتًا، وَوَرَدَ فِي الْأَنَاجِيلِ أَنَّهُ أَحْيَا بِنْتًا كَانَتْ مَاتَتْ فَأَحْيَاهَا عَقِبَ مَوْتِهَا. وَوَقَعَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ ١٧ أَنَّ عِيسَى صَعِدَ الْجَبَلَ وَمَعَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا أَخُوهُ وَأَظْهَرَ لَهُمْ مُوسَى وَإِيلِيَاءَ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَكَلُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمَا عِنْدَهُمْ مُدَّخَرٌ فِيهَا، لِتَكُونَ هَاتِهِ الْمُتَعَاطِفَاتُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أُنَبِّئُكُمْ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا آيَاتٍ تَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْإِيمَانَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ دَأْبُكُمُ الْمُكَابَرَةَ.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ مِنْهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ بَادَرُوا دَعْوَتَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالشَّتْمِ.
وَتَعَرُّضُ الْقُرْآنِ لِذِكْرِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى الَّذِينَ جَعَلُوا مِنْهَا دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّةِ عِيسَى، بِعِلَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَةِ الْبَشَرِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَهُوَ الْإِلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ سُفِسْطَائِيٌّ أَشَارَ اللَّهُ إِلَى كَشْفِهِ بِقَوْلِهِ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَدَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٥٠، ٥١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥١]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
عَطْفٌ عَلَى «بِآيَةٍ» بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «بِآيَةٍ» ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جِئْتُكُمْ فَيُقَدَّرُ فِعْلُ جِئْتُكُمْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَمُصَدِّقاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُقَدَّرِ مَعَهُ، وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى قَوْله: وَرَسُولًا [آل عمرَان: ٤٩] لِأَنَّ رَسُولًا مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَمُصَدِّقاً مِنْ كَلَامِ عِيسَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيَّ.
252
وَالْمُصَدِّقُ: الْمُخْبِرُ بِصِدْقِ غَيْرِهِ، وَأُدْخِلَتِ اللَّامُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلتَّقْوِيَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَصْدِيقٍ مُثْبَتٍ مُحَقَّقٍ، أَيْ مُصَدِّقًا تَصْدِيقًا لَا يَشُوبُهُ شَكٌّ وَلَا نِسْبَةٌ إِلَى خَطَأٍ. وَجُعِلَ التَّصْدِيقُ مُتَعَدِّيًا إِلَى التَّوْرَاةِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.
وَمَعْنَى مَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلِي، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ السَّابِقَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الْجَائِي فَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ السَّبْقِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ أَزْمِنَةٌ طَوِيلَةٌ، لِأَنَّهَا لَمَّا اتَّصَلَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى مَجِيئِهِ، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَسْبِقْهُ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ. وَيُسْتَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ كَذَا فِي مَعْنَى الْمُشَاهَدِ الْحَاضِرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ وَلِأُحِلَّ عَلَى رَسُولًا وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ: لِأَنَّ الْحَالَ تُشْبِهُ الْعِلَّةَ إِذْ هِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا، فَإِذَا كَانَ التَّقْيِيدُ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ شَابَهَ الْمَفْعُولَ لأَجله، وشابه الجرور بِلَامِ التَّعْلِيلِ، فَصَحَّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهَا مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَيَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ جِئْتُكُمْ. وَعَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يُنَافِي التَّصْدِيقَ لِأَنَّ النَّسْخَ إِعْلَامٌ بِتَغَيُّرِ الْحُكْمِ. وَانْحَصَرَتْ شَرِيعَةُ عِيسَى فِي إِحْيَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَمَا تَرَكُوهُ فِيهَا وَهُوَ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي تَحْلِيلِ بَعْضِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَعْيًا لِحَالِهِمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِهَذَا كَانَ رَسُولًا. قِيلَ أَحَلَّ لَهُمُ الشُّحُومَ، وَلُحُومَ الْإِبِلِ، وَبَعْضَ السَّمَكِ، وَبَعْضَ الطَّيْرِ: الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلُ، وَأَحَلَّ لَهُمُ السَّبْتَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مَا حُلِّلَ لَهُمْ، فَمَا قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الطَّلَاقَ فَهُوَ تَقَوُّلٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ وَبَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ عَوَاقِبِهِ، وَحَرَّمَ تَزَوُّجَ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَيَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ مَا لَا تَخْلُو مِنْهُ دَعْوَةٌ: مِنْ تَذْكِيرٍ، وَمَوَاعِظَ، وَتَرْغِيبَاتٍ.
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
وَقَوله: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمرَان: ٤٩]. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَحْصُلُ
253
التَّأْكِيدُ بِمُجَرَّدِ تَقَدُّمِ مَضْمُونِهِ، فَتَكُونُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اعْتِبَارَانِ يَجْعَلَانِهَا بِمَنْزِلَةِ جُمْلَتَيْنِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُونِ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ: بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ إِنَّ مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ لَا مَحَالَةَ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ كَشَأْنِهَا إِذَا وَقَعَتْ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ كَقَوْلِ بَشَّارٍ.
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ
وَلِذَلِكَ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَهُوَ لِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ حَقِيقٌ بِالتَّقْوَى، وَلِكَوْنِهِ رَبَّ عِيسَى وَأَرْسَلَهُ تَقْتَضِي تَقْوَاهُ طَاعَةَ رَسُولِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَاعْبُدُوهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ، فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي تَعْلِيلًا ثُمَّ أَصْلًا لِلتَّفْرِيعِ.
وَقَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَالَهُ كُلِّهِ أَيْ أَنَّهُ الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَشَبَّهَهُ بِصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ وَلَا يتحير.
[٥٢، ٥٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٥٢ إِلَى ٥٣]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
آذَنَ شَرْطُ لَمَّا بِجُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ، تَقْدِيرُهَا: فَوُلِدَ عِيسَى، وَكَلَّمَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَرْيَمَ، وَكَلَّمَ النَّاسَ بِالرِّسَالَةِ. وَأَرَاهُمُ الْآيَاتِ الْمَوْعُودَ بِهَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، فَكَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ إِلَى آخِرِهِ. أَيْ أَحَسَّ الْكُفْرَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِدَعْوَتِهِ فِي قَوْله: وَأَطِيعُونِ [آل عمرَان: ٥٠] أَيْ
254
سَمِعَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ وَأُخْبِرَ بِتَمَالُئِهِمْ عَلَيْهِ. «وَمِنْهُم» مُتَعَلق بأحسّ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ يُفَسِّرُهُ وَصْفُ الْكُفْرِ.
وَطلب النَّصْر الْإِظْهَار الدَّعْوَةِ لِلَّهِ، مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ الرُّسُلِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نُوحٍ
«فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» وَقَالَ مُوسَى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه: ٢٩] وَقَدْ عَرَضَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَنْصُرُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ.
وَقَوْلُهُ: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ لَعَلَّهُ قَالَهُ فِي مَلَإِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِبْلَاغًا لِلدَّعْوَةِ، وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ. وَالنَّصْرُ يَشْمَلُ إِعْلَانَ الدِّينِ وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ. وَوَصَلَ وصف أَنْصَارِي بإلى إِمَّا عَلَى تَضْمِينِ صِفَةِ أَنْصَارٍ مَعْنَى الضَّمِّ أَيْ مَنْ ضَامُّونَ نَصْرَهُمْ إِيَّايَ إِلَى نَصْرِ اللَّهِ إِيَّايَ، الَّذِي وَعَدَنِي بِهِ إِذْ لَا بدّ لِحُصُولِ النَّصْرِ مِنْ تَحْصِيلِ سَبَبِهِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: ٧] عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] أَي ضامّينها فَهُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَإِمَّا عَلَى جَعْلِهِ حَالًا مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمَعْنَى فِي حَالِ ذَهَابِي إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى تَبْلِيغِ شَرِيعَتِهِ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْكَوْنُ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْمَجْرُورُ هُوَ كَوْنٌ مِنْ أَحْوَالِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ الْحَوَارِيُّونَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ.
وَالْحَوَارِيُّونَ: لَقَبٌ لِأَصْحَابِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَلَازَمُوهُ، وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنَ النَّبَطِيَّةِ وَمُفْرَدُهُ حَوَارِيٌّ قَالَهُ فِي الْإِتْقَانِ عَنِ ابْنِ حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَلَكِنَّهُ ادَّعَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْغَسَّالُ أَيْ غَسَّالُ الثِّيَابِ.
وَفَسَّرَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ مَنْ يَكُونُ مِنْ خَاصَّةِ مَنْ يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَرَابَتِهِ.
وَغَلَبَ عَلَى أَصْحَابِ عِيسَى
وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيءٍ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ»
. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي احْتِمَالَاتِ اشْتِقَاقِهِ وَاخْتِلَافِ مَعْنَاهُ وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْصَاقٌ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي فِيهَا حُرُوفُ الْحَاءِ وَالْوَاوِ وَالرَّاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ.
255
وَالْحَوَارِيُّونَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ: سَمْعَانْ بُطْرُسْ، وَأَخُوهُ أَنْدَرَاوِسُ، وَيُوحَنَّا بْنُ زَبْدِي، وَأَخُوهُ يَعْقُوبُ- وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ صَيَّادُو سَمَكٍ- وَمَتَّى الْعَشَّارُ وتوما وفيليبس، وبرثو لماوس، وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْفِي، وَلَبَاوِسُ، وَسَمْعَانُ الْقَانْوِي، وَيَهُوذَا الْأَسْخَرْيُوطِيُّ.
وَكَانَ جَوَابُ الْحَوَارِيِّينَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ نَصْرَ عِيسَى لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ هُوَ نَصْرٌ لِدِينِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ مَا يُفِيدُ حَصْرًا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تُفِيدُ تَعْرِيفًا، فَلَمْ يَحْصُلْ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ، وَلَكِنَّ الْحَوَارِيِّينَ بَادَرُوا إِلَى هَذَا الِانْتِدَابِ.
وَقَدْ آمَنَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ أَفْرَادٌ مُتَفَرِّقُونَ مِنَ الْيَهُودِ، مِثْلَ الَّذِينَ شَفَى الْمَسِيحُ مَرْضَاهُمْ،
وَآمَنَ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ أُمُّهُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَأُمُّ يُوحَنَّا، وَحَمَاةُ سَمْعَانَ، وَيُوثَا امْرَأَةُ حُوزِي وَكِيلِ هِيرُودِسَ، وَسُوسَةُ، وَنِسَاءٌ أُخَرُ وَلَكِنَّ النِّسَاءَ لَا تُطْلَبُ مِنْهُنَّ نُصْرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: رَبَّنا آمَنَّا مِنْ كَلَامِ الْحَوَارِيِّينَ بَقِيَّةُ قَوْلِهِمْ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ الدُّعَاءِ دُعَاءً بِأَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَ الشَّاهِدِينَ أَيْ مَعَ الَّذِينَ شَهِدُوا لِرُسُلِ اللَّهِ بِالتَّبْلِيغِ، وَبِالصِّدْقِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ تَلَقَّوْا مِنْ عِيسَى- فِيمَا عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ- فَضَائِلَ مَنْ يَشْهَدُ للرسل بِالصّدقِ.
[٥٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٥٤]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ فَإِنَّهُ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ وَأَحَسَّ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ وَالْمَكْرِ.
وَضَمِيرُ مَكَرُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مِنْهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١٤] : قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ. وَالْمَكْرُ فِعْلٌ يُقْصَدُ بِهِ ضرّ ضُرُّ أَحَدٍ فِي هَيْئَةٍ تَخْفَى عَلَيْهِ، أَوْ تَلْبِيسُ فِعْلِ الْإِضْرَارِ بِصُورَةِ النَّفْعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: تَدْبِيرُ الْيَهُودِ لِأَخْذِ الْمَسِيحِ، وَسَعْيُهُمْ لَدَى وُلَاةِ الْأُمُورِ لِيُمَكِّنُوهُمْ مِنْ قَتْلِهِ. وَمَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ تَمْثِيلٌ لِإِخْفَاقِ اللَّهِ تَعَالَى مَسَاعِيَهُمْ فِي حَالِ ظَنِّهِمْ أَنْ قَدْ نَجَحَتْ مَسَاعِيهِمْ، وَهُوَ هُنَا مُشَاكَلَةٌ. وَجَازَ إِطْلَاقُ الْمَكْرِ عَلَى فِعْلِ
اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مُشَاكَلَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [٩٩] فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَبَعْضُ أَسَاتِذَتِنَا يُسَمِّي مِثْلَ ذَلِكَ مُشَاكَلَةً تَقْدِيرِيَّةً.
وَمَعْنَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ أَقْوَاهُمْ عِنْدَ إِرَادَةِ مُقَابَلَةِ مَكْرِهِمْ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى خَيْرُ الْمَاكِرِينَ: أَنَّ الْإِمْلَاءَ وَالِاسْتِدْرَاجَ، الَّذِي يُقَدِّرُهُ لِلْفُجَّارِ وَالْجَبَابِرَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، الشَّبِيهَ بِالْمَكْرِ فِي أَنَّهُ حسن الظَّاهِر سيّء الْعَاقِبَةِ، هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّلَاحُ الْعَامُّ، وَإِنْ كَانَ يُؤْذِي شَخْصًا أَوْ أَشْخَاصًا، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُجَرَّدٌ عَمَّا فِي الْمَكْرِ مِنَ الْقُبْحِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَعَالَى مُنَزَّهَةً عَنِ الْوَصْفِ بِالْقُبْحِ أَوِ الشَّنَاعَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُقَارِنُهَا الْأَحْوَالُ الَّتِي بِهَا تُقَبَّحُ بَعْضُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى سَفَاهَةِ رَأْيٍ، أَوْ سُوءِ طَوِيَّةٍ، أَوْ جُبْنٍ، أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ طَمَعٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. أَيْ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَكْرِ قُبْحٌ فَمَكْرُ اللَّهِ خَيْرٌ مَحْضٌ، وَلَكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَجْعَلَ «خَيْرُ» بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ وَبِدُونِهِ.
[٥٥، ٥٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٥٥ الى ٥٧]
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦).
اسْتِئْنَافٌ وَ (إِذْ) ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِشَيْءٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرْ إِذْ قَالَ اللَّهُ:
كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] وَهَذَا حِكَايَةٌ لِأَمْرِ رَفْعِ الْمَسِيحِ وَإِخْفَائِهِ عَنْ أَنْظَارِ أَعْدَائِهِ. وَقَدَّمَ اللَّهُ فِي خِطَابِهِ إِعْلَامَهُ بِذَلِكَ اسْتِئْنَاسًا لَهُ، إِذْ لَمْ يَتِمَّ مَا يَرْغَبُهُ مِنْ هِدَايَةِ قَوْمِهِ. مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ،
257
وَتَبْشِيرًا لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ لِأَنَّ غَايَةَ هَمِّ الرَّسُولِ هُوَ الْهُدَى، وَإِبْلَاغُ الشَّرِيعَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ:
وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالنِّدَاءُ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ،
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقْبَضُ نَبِيءٌ حَتَّى يُخَيَّرَ»
. وَقَوْلُهُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ظَاهِرُ مَعْنَاهُ: إِنِّي مُمِيتُكَ، هَذَا هُوَ مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ فِي مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِ تَوَفَّى الشَّيْءَ أَنَّهُ قَبَضَهُ تَامًّا وَاسْتَوْفَاهُ. فَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ أَيْ قَدَّرَ مَوْتَهُ، وَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ أَيْ أَنْفَذَ إِرَادَةَ اللَّهِ بِمَوْتِهِ، وَيُطْلَقُ التَّوَفِّي عَلَى النَّوْمِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الْأَنْعَام: ٦٠]- وَقَوْلِهِ- اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: ٤٢]. أَيْ وَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَمُتِ الْمَوْتَ الْمَعْرُوفَ فَيُمِيتُهَا فِي مَنَامِهَا مَوْتًا شَبِيهًا بِالْمَوْتِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ- ثُمَّ قَالَ- حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فَالْكُلُّ إِمَاتَةٌ فِي التَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا الْعُرْفُ وَالِاسْتِعْمَالُ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ بِالْبَيَانِ بِقَوْلِهِ: «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى»، فَالْكَلَامُ مُنْتَظِمٌ غَايَةَ الِانْتِظَامِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ نَظْمُهُ عَلَى بَعْضِ
الْأَفْهَامِ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ الْمَائِدَةِ: «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ الْوَفَاةَ الْمَعْرُوفَةَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ عِلْمِ مَا يَقَعُ فِي الْأَرْضِ، وَحَمْلُهَا عَلَى النَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيسَى لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَنَامَ وَلِأَنَّ النَّوْمَ حِينَئِذٍ وَسِيلَةٌ لِلرَّفْعِ فَلَا يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهِ وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمَقْصِدِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى الرَّفْعِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِيجَادُ مَعْنًى جَدِيدٍ لِلْوَفَاةِ فِي اللُّغَةِ بِدُونِ حُجَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّهَا وَفَاةُ مَوْتٍ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ «قَالَ مَالِكٌ: مَاتَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» :
«يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ».
وَقَالَ الرَّبِيعُ: هِيَ وَفَاةُ نَوْمٍ رَفَعَهُ اللَّهُ فِي مَنَامِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ، وَمُخَلِّصُكَ فِي السَّمَاءِ، وَقِيلَ: مُتَوَفِّيكَ مُتَقَبِّلٌ عَمَلَكَ. وَالَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الْوَفَاةِ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا، فَأَفْهَمَ أَنَّ لَهُ حَيَاةً خَاصَّةً أَخَصَّ مِنْ حَيَاةِ أَرْوَاحِ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ
258
أَخَصُّ مِنْ حَيَاةِ بَقِيَّةِ الْأَرْوَاحِ فَإِنَّ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ مُتَفَاوِتَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ» وَرَوَوْا أَنَّ تَأْوِيلَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ فِي مَعْنَى حَيَاتِهِ وَفِي نُزُولِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ مَعْنَى الْوَفَاةِ فَجَعَلَهُ حَيًّا بِحَيَاتِهِ الْأُولَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَى الْوَفَاةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَجَعَلَ حَيَاتَهُ بِحَيَاةٍ ثَانِيَةٍ، فَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ وَرَفَعَهُ فِيهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُ عِنْدَهُ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ. وَسَكَتَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ عَنْ تَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَلَقَدْ وُفِّقَا وَسُدِّدَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ كَحَيَاةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ- إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ- بَعْثًا لَهُ قَبْلَ إِبَّانِ الْبَعْثِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَقَدْ جَاءَ التَّعْبِيرُ عَنْ نُزُولِهِ بِلَفْظِ «يَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَلَا يَمُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ يَخْلُصُ مِنْ هُنَالِكَ إِلَى الْآخِرَةِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّ عَطْفَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إِذِ الْوَاوُ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبَ الزَّمَانِ أَيْ إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ ثُمَّ مُتَوَفِّيكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَمُوتُ فِي آخِرِ الدَّهْرِ سِوَى أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: «وَيَمْكُثُ (أَيْ عِيسَى) أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَأَنْ تُؤَوَّلَ الْأَخْبَارُ الَّتِي يُفِيدُ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ حَيٌّ عَلَى مَعْنَى حَيَاةِ كَرَامَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، كَحَيَاةِ الشُّهَدَاءِ وَأَقْوَى، وَأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ نُزُولُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ
دُونَ تَأْوِيلٍ، أَنَّ ذَلِكَ يقوم مقَام الْبَعْض، وَأَنَّ قَوْلَهُ- فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مُدْرَجٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ رَوَوْا حَدِيثَ نُزُولِ عِيسَى، وَهُمْ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالرِّوَايَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَغَيْرُ صَرِيحَةٍ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ فِي عَدِّ مَزَايَاهُ إِلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
وَالتَّطْهِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمُطَهِّرُكَ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْعِصْمَةِ وَالتَّنْزِيهِ لِأَنَّ طَهَارَةَ عِيسَى هِيَ هِيَ، وَلَكِنْ لَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ لَكَانَ ذَلِكَ إِهَانَةً لَهُ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ «كَفَرُوا» لِظُهُورِهِ أَيِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِكَ وَهُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ مَا كَفَرُوا بِاللَّهِ بَلْ كَفَرُوا بِرِسَالَةِ عِيسَى، ولأنّ عِيسَى لَمْ يُبْعَثْ لِغَيْرِهِمْ فَتَطْهِيرُهُ لَا يُظَنُّ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
259
وَالْفَوْقِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالِانْتِصَارِ، وَهِيَ فَوْقِيَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: الْحَوَارِيُّونَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ نُسِخَتْ شَرِيعَتُهُ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذْ مَضْمُونُ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ شَأْنِ جَزَاءِ اللَّهِ مُتَّبِعِي عِيسَى وَالْكَافِرِينَ بِهِ. وَثمّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْحَاصِلَ عِنْدَ مَرْجِعِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ مَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَهَمُّ مِنْ جَعْلِ مُتَّبِعِي عِيسَى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الدُّنْيَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى، وَأَنَّ ضَمِيرَ مَرْجِعُكُمْ، وَمَا مَعَهُ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ، عَائِدٌ إِلَى عِيسَى وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونَ ثُمَّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ، زِيَادَةً عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ.
وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ. وَحَقِيقَةُ الرُّجُوعِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ هُنَا فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ رُجُوعٌ مَجَازِيٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْثَ لِلْحِسَابِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِهِ وَبِمُرَادِفِهِ نَحْوَ الْمَصِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ انْتِهَاءُ إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي أَجَلٍ أَرَادَهُ فَيَنْفُذُ فِيهِمْ مُرَادُهُ فِي الدُّنْيَا.
وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازَيْهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَمْعِ الْعَذَابَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجْرِي تَفْسِيرُ حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ إِلَى قَوْله فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
وَقَوْلُهُ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ تَفْصِيلِ الضَّمَائِرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
260
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَذِكْرُ عَذَابِ الدُّنْيَا هُنَا إِدْمَاجٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا خَاطَبَ الله بِهِ عِيسَى فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مِنَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ أَيْضًا التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي ظُلْمِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُكَابَرَةٍ مِنْهُمْ وَحَسَدٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِسْنَادِ الْمَحَبَّةِ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَجُمْلَةُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تذييل لجملة فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَيْ وَلَا يَجِدُونَ ناصرين ينصرونهم علينا فِي تَعْذِيبِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَضِيَّةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ الْعَذَابَيْنِ:
فَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ يَجْرِي عَلَى نِظَامِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا: مِنْ شِدَّةٍ وَضَعْفٍ وَعَدَمِ اسْتِمْرَارٍ، فَمَعْنَى انْتِفَاءِ النَّاصِرِينَ لَهُمْ مِنْهُ انْتِفَاءُ النَّاصِرِينَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مُتَفَاوِتٌ، وَقَدْ وَجَدَ الْيَهُودُ نَاصِرِينَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ مِثْلَ قِصَةِ اسْتِيرَ فِي الْمَاضِي وَقَضِيَّةِ فِلَسْطِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ: فَهُوَ مُطْلَقٌ هُنَا، وَمُقَيَّدٌ فِي آيَات كَثِيرَة بالتأييد، كَمَا قَالَ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [الْبَقَرَة: ١٦٧].
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّفْصِيلِ كُلِّهِ فَهِيَ تَذْيِيلٌ ثَانٍ لِجُمْلَةِ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً بِصَرِيحِ مَعْنَاهَا، أَيْ أُعَذِّبُهُمْ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَتَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِهَا، بِكِنَايَةِ مَعْنَاهَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ مَحَبَّةِ اللَّهِ الظَّالِمِينَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلِذَلِكَ يُعْطِيهِمْ ثَوَابَهُمْ وَافِيًا.
وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَظَلَمَ النَّصَارَى اللَّهَ بِأَنْ نَقَصُوهُ بِإِثْبَاتِ وَلَدٍ لَهُ وَظَلَمُوا عِيسَى بِأَنْ نَسَبُوهُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَظَلَمَهُ الْيَهُودُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَذَاهُمْ.
261
وَعَذَابُ الدُّنْيَا هُوَ زَوَالُ الْمُلْكِ وَضَرْبُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْجِزْيَةِ، وَالتَّشْرِيدُ فِي الْأَقْطَارِ، وَكَوْنُهُمْ يَعِيشُونَ تَبَعًا لِلنَّاسِ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ هُوَ جَهَنَّمُ. وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ حَاوَلَهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَأَسْنَدَ فَنُوَفِّيهِمْ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظَمَةِ مَفْعُولِ هَذَا الْفَاعِلِ إِذِ الْعَظِيمُ يُعْطِي عَظِيما. وَالتَّقْدِير فيوفيهم أُجُورَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِدَلِيلِ مُقَابِلِهِ فِي ضِدِّهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَتَوْفِيَةُ الْأُجُورِ فِي الدُّنْيَا تَظْهَرُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، وَبَرَكَاتُهُ مَعَهُمْ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، وَحُسْنُ الذِّكْرِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَفِيهَا اكْتِفَاءٌ: أَيْ وَيُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنُوَفِّيهِمْ- بِالنُّونِ- وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ، فَيُوَفِّيهِمْ بِيَاءِ الْغَائِبِ على الِالْتِفَات.
[٥٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
تَذْيِيلٌ: فَإِنَّ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ أَعَمُّ مِنَ الَّذِي تُلِيَ هُنَا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: ٤٥] وَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بالْكلَام أَو بالمذكور. وَجُمْلَةُ نَتْلُوهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى حَدِّ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ وَإِنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْضُ النُّحَاةِ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الْآياتِ خَبَرُ ذلِكَ أَيْ إِنَّ تِلَاوَةَ ذَلِكَ عَلَيْكَ مِنْ آيَاتِ صِدْقِكَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَهُوَ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلنَّاسِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ نَتْلُوهُ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَمِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَيِ الْحَكِيمُ عَالِمُهُ أَو تاليه.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٥٩ إِلَى ٦٠]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ: بَيَّنَ بِهِ مَا نَشَأَ مِنَ الْأَوْهَامِ، عِنْدَ النَّصَارَى، عَن وصف عِيسَى بِأَنَّهُ
كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَضَلُّوا بِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِصَ النَّاسُوتِ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي إِبْطَالِ عَقِيدَةِ النَّصَارَى مِنْ تَأْلِيهِ عِيسَى، وَرَدِّ مَطَاعِنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَقْطَعُ دَلِيلٍ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ، فَقَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ أَنَّ آدَمَ أَوْلَى بِأَنْ يُدَّعَى لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يكن آدم إلاها مَعَ أَنَّهُ خُلِقَ بِدُونِ أَبَوَيْنِ فَعِيسَى أَوْلَى بِالْمَخْلُوقِيَّةِ مِنْ آدَمَ.
وَمَحَلُّ التَّمْثِيلِ كَون كليهمَا خلق مِنْ دُونِ أَبٍ، وَيَزِيدُ آدَمُ بِكَوْنِهِ مِنْ دُونِ أم أَيْضا، فَلذَلِك احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ وَجْهِ الشَّبَهِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ الْآيَةَ أَيْ خَلَقَهُ دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ بَلْ بِكَلِمَةِ كُنْ، مَعَ بَيَانِ كَوْنِهِ أَقْوَى فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ. وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ نِسْبَتُهُ إِلَى الله لَا يزِيد على آدم شَيْئا فِي كَوْنِهِ خَلْقًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، لَكُمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا خَلْقَهُ الْعَجِيبَ مُوجِبًا لِلْمَسِيحِ نِسْبَةً خَاصَّةً عِنْدَ اللَّهِ وَهِيَ الْبُنُوَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ:
عِنْدَ اللَّهِ نَفْسَ الْأَمْرِ وَالْوَاقِع.
وَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُ لِآدَمَ لَا لِعِيسَى إِذْ قَدْ عَلِمَ الْكُلُّ أَنَّ عِيسَى لَمْ يُخْلَقْ مِنْ تُرَابٍ، فَمَحَلُّ التَّشْبِيهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَجُمْلَةُ خَلَقَهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ كَمَثَلِ آدَمَ.
وَثمّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ تَكْوِينَهُ بِأَمْرِ كُنْ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ خَلْقِهِ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ أَسْبَقُ فِي الْوُجُودِ وَالتَّكْوِينُ الْمشَار إِلَيْهِ بكن: هُوَ تَكْوِينُهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ:
كَوَّنَهُ مِنْ تُرَابٍ وَلَمْ يَقُلْ: قَالَ لَهُ كُنْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ أَحْيَاهُ، بَلْ قَالَ خَلَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ.
وَقَوْلُ كُنْ تَعْبِيرٌ عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِتَكْوِينِهِ حَيًّا ذَا رُوحٍ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ التكوين لَيْسَ بصنع يَدٍ، وَلَا نَحْتٍ بِآلَةٍ، وَلَكِنَّهُ بِإِرَادَةٍ وَتَعَلُّقِ قُدْرَةٍ وَتَسْخِيرِ الْكَائِنَاتِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ فِي تَكْوِينِ الْمُرَادِ، حَتَّى تَلْتَئِمَ وَتَنْدَفِعَ إِلَى إِظْهَارِ الْمُكَوَّنِ وَكُلُّ ذَلِكَ
عَنْ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ بِالتَّنْجِيزِ، فَبِتِلْكَ الْكَلِمَةِ كَانَ آدَمُ أَيْضًا كَلِمَةً مِنَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوصَفْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ احْتِيَاجٌ إِلَى ذَلِكَ لِفَوَاتِ زَمَانِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: فَيَكُونُ وَلَمْ يقل فَكَانَ لاستحضار صُورَةَ تَكَوُّنِهِ، وَلَا يُحْمَلُ الْمُضَارِعُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، مِثْلَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر:
٩] وَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا هُنَا لَا وَجْهَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هَذَا الْحَقُّ. وَمن رَبِّكَ حَالٌ مِنَ
الْحَقِّ. وَالْخِطَابُ فِي فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ، وَالْمُعَرَّضُ بِهِمْ هُنَا هُمُ النَّصَارَى الْمُمْتَرُونَ الَّذِينَ امتروا فِي الإلاهية بِسَبَبِ تَحَقُّقِ أَنْ لَا أَب لعيسى.
[٦١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٦١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيمَاءٍ إِلَى أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ مُمْتَرُونَ فِي هَذَا الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: أَيْ فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مُحَاجَّتِهِمْ إِيَّاكَ مُكَابَرَةً فِي هَذَا الْحَقِّ أَوْ فِي شَأْنِ عِيسَى فَادْعُهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَالْمُلَاعَنَةِ.
ذَلِكَ أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ مُكَابَرَةٌ مَحْضَةٌ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنِ الْعِلْمِ وَبَيَّنْتَ لَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ أَوْضَحُ مِمَّا حَاجَجْتَهُمْ بِهِ فَعَلِمْتَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَاجُّونَكَ عَنْ مُكَابَرَةٍ، وَقِلَّةِ يَقِينٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ بِالْمُلَاعَنَةِ الْمَوْصُوفَةِ هُنَا.
وتَعالَوْا اسْمُ فِعْلٍ لِطَلَبِ الْقُدُومِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ أَمْرٌ مِنْ تَعَالَى يَتَعَالَى إِذَا قَصَدَ الْعُلُوَّ، فكأنّهم أَرَادوا بِهِ فِي الْأَصْلِ أَمْرًا بِالصُّعُودِ إِلَى مَكَانٍ عَالٍ تَشْرِيفًا لِلْمَدْعُوِّ، ثُمَّ شَاعَ
264
حَتَّى صَارَ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بِالْقُدُومِ أَوِ الْحُضُورِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُ اسْمِ الْفِعْلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَتْحِ آخِرِهِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي فِرَاسٍ الْحَمْدَانِيِّ:
أَيَا جَارَتَا مَا أَنْصَفَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي
فَقَدْ لَحَّنُوهُ فِيهِ.
وَمَعْنَى تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ائْتُوا وَادْعُوا أَبْنَاءَكُمْ وَنَحْنُ نَدْعُو أَبْنَاءَنَا إِلَى آخِرِهِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ نَبْتَهِلْ إِلَى آخِرِهِ.
وَ (ثُمَّ) هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ.
وَالِابْتِهَالُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَهْلِ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِاللَّعْنِ وَيُطْلَقُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الدَّاعِيَ بِاللَّعْنِ يَجْتَهِدُ فِي دُعَائِهِ وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ.
وَمعنى فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ فَنَدْعُ بِإِيقَاعِ اللَّعْنَةِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. وَهَذَا الدُّعَاءُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ إِلْجَاءٌ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ أَوْ يَكُفُّوا. رَوَى الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيرَةِ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لَمَّا دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلَاعَنَةِ قَالَ لَهُمُ العاقب: نلاعنه فو الله لَئِنْ كَانَ نَبِيئًا
فَلَاعَنَنَا لَا نُفْلِحُ أَبَدًا وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا فَلَمْ يُجِيبُوا إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَعَدَلُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَهَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ لَعَلَّهَا مِنْ طُرُقِ التَّنَاصُفِ عِنْدَ النَّصَارَى فَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا جَمَعَ فِي الْمُلَاعَنَةِ الْأَبْنَاءَ وَالنِّسَاءَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ مُكَابَرَتُهُمْ فِي الْحَقِّ وَحُبُّ الدُّنْيَا، عُلِمَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ أَهْلُهُ وَنِسَاؤُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ «أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ» وَأَنَّهُ يَخْشَى سُوءَ الْعَيْشِ، وَفُقْدَانَ الْأَهْلِ، وَلَا يَخْشَى عَذَابَ الْآخِرَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارَكِ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِينَ يَحْضُرُهُمْ لِذَلِكَ وَأَبْنَاءُ أَهْلِ الْوَفْدِ وَنِسَاؤُهُمُ اللَّائِي كُنَّ مَعَهُمْ.
265
وَالنِّسَاءُ: الْأَزْوَاجُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ إِذَا أُضِيفَ لَفْظُ النِّسَاءِ إِلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ دُونَ مَا إِذَا وَرَدَ غَيْرَ مُضَافٍ، قَالَ تَعَالَى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ
[الْأَحْزَاب: ٣٢] وَقَالَ: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا
وَالْأَنْفُسُ أَنْفُسُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَنْفُسُ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ وَإِيَّانَا وَإِيَّاكُمْ، وَأَمَّا الْأَبْنَاءُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ شُبَّانُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَشْمَلُ الصِّبْيَانَ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَعُودَ عَلَيْهِمْ آثَارُ الْمُلَاعَنَةِ.
وَالِابْتِهَالُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَهْلِ، وَهُوَ اللَّعْنُ، يُقَالُ: بَهَلَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى لَعَنَهُ وَاللَّعْنَةُ بَهْلَةٌ وَبُهْلَةٌ- بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ- ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الِابْتِهَالُ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ قَالَ الْأَعْشَى: لَا تَقْعُدَنَّ وَقَدْ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.
وَهَذِهِ دَعْوَةُ إِنْصَافٍ لَا يَدْعُو لَهَا إِلَّا وَاثِقٌ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. وَهَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ لَمْ تَقَعْ لِأَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا إِلَيْهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّ النَّبِيءَ هَيَّأَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا لِيَصْحَبَهُمْ مَعَهُ لِلْمُبَاهَلَةِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ إِحْضَارَ نِسَائِهِ وَلَا إِحْضَارَ بعض الْمُسلمين.
[٦٢، ٦٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
جُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْله: الْكاذِبِينَ [آل عمرَان: ٦١] لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ عِيسَى عبد الله، وَزَعَمُوا أَنَّهُ غُلِبَ فَإِثْبَاتُ أَنَّهُ عَبْدٌ هُوَ الْحَقُّ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ عِيسَى.
266
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَهُوَ الْقَصَصُ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّقْوِيَةِ الَّتِي أَفَادَهَا ضَمِيرُ الْفَصْلِ لِأَنَّ اللَّامَ وَحْدَهَا مُفِيدَةٌ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ وَضَمِيرَ الْفَصْلِ يُفِيدُ الْقَصْرَ أَيْ هَذَا الْقَصَصُ لَا مَا تَقُصُّهُ كُتُبُ النَّصَارَى وَعَقَائِدُهُمْ.
والْقَصَصُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَالصَّادِ- اسْمٌ لِمَا يُقَصُّ، يُقَالُ: قَصَّ الْخَبَرَ قَصًّا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْقَصُّ أَخَصُّ مِنَ الْإِخْبَارِ فَإِنَّ الْقَصَّ إِخْبَارٌ بِخَبَرٍ فِيهِ طُولٌ وَتَفْصِيلٌ وَتُسَمَّى الْحَادِثَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُخْبَرَ بِهَا قِصَّةً- بِكَسْرِ الْقَافِ- أَيْ مَقْصُوصَةً أَيْ مِمَّا يَقُصُّهَا الْقُصَّاصُ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَنْتَصِبُ لِتَحْدِيثِ النَّاسِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ قَصَّاصٌ- بِفَتْحِ الْقَافِ-. فَالْقَصَصُ اسْمٌ لِمَا يُقَصُّ: قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ وَلَيْسَ هُوَ مَصْدَرًا، وَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَذَلِكَ تَسَامُحٌ مِنْ تَسَامُحِ الْأَقْدَمِينَ، فَالْقَصُّ بِالْإِدْغَامِ مَصْدَرٌ، وَالْقَصَصُ بِالْفَكِّ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ وَاسْمٌ لِلْخَبَرِ الْمَقْصُوصِ.
وَقَوْلُهُ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ تَأْكِيدٌ لِحَقِّيَّةِ هَذَا الْقَصَصِ. وَدَخَلَتْ مِنَ الزَّائِدَةُ بَعْدَ حرف نفي تَنْصِيصًا على قصد النَّفْي الْجِنْسِ لِتَدُلَّ الْجُمْلَةُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ بِالصَّرَاحَةِ، وَدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْوَحْدَةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَيُوهِمُ أَنَّهُ قد يكون إِلَّا هان أَوْ أَكْثَرُ فِي شِقٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا يؤول إِلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ لَكِنْ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِيهِ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فَأَفَادَ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِزَّةِ وَالْحُكْمِ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ قَتَلَهُ الْيَهُودُ وَذَلِكَ ذِلَّةٌ وَعَجْزٌ لَا يَلْتَئِمَانِ مَعَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهٌ وَهُوَ غَيْرُ عَزِيزٍ وَهُوَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا إِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّتِهِ عَلَى اعْتِقَادِنَا لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا لِإِنْقَاذِهِ مِنْ أَيْدِي الظَّالِمِينَ.
وَجُمْلَةُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقُلْ تَعالَوْا [آل عمرَان:
٦١] وَهَذَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ إِذْ نَكَصُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الْمُكَابَرَةَ وَلَمْ يَتَطَلَّبُوا الْحَقَّ،
رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَبَوُا الْمُبَاهَلَةَ قَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَسْلِمُوا» فَأَبَوْا فَقَالَ: «فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ» فَأَبَوْا فَقَالَ لَهُمْ: «فَإِنِّي أَنْبِذُ إِلَيْكُمْ عَلَى سَوَاءٍ»
267
أَيْ أَتْرُكُ لَكُمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا فَقَالُوا: «مَا لَنَا طَاقَةٌ بِحَرْبِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّا نُصَالِحُكَ عَلَى أَلَّا تَغْزُوَنَا وَلَا تُخِيفَنَا وَلَا تَرُدَّنَا عَنْ دِينِنَا (١) عَلَى أَنْ نُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كُلَّ عَامٍ أَلْفَيْ حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَلْفًا فِي صَفَرٍ وَأَلْفًا فِي رَجَبٍ وَثَلَاثِينَ دِرْعًا عَادِيَّةً مِنْ حَدِيدٍ»
وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَى طَلَبِ أَمِينٍ وَلَا عَلَى مِقْدَارِ الْمُدَّةِ الَّتِي مَكَثَ فِيهَا أَبُو عُبَيْدَة بَينهم.
[٦٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٦٤]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
رُجُوعٌ إِلَى الْمُجَادَلَةِ، بَعْدَ انْقِطَاعِهَا بِالدُّعَاءِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، بَعَثَ عَلَيْهِ الْحِرْصُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَإِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ زَيْغِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ عَنْ حَقِيقَةِ إِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ بِحُجَّةٍ لَا يَجِدُونَ عَنْهَا موئلا وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ إِلَى تَخْصِيصِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذِ عَقِيدَةِ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. فَجُمْلَةُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِجُمْلَةِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا [آل عمرَان: ٦١] لِأَنَّ مَدْلُولَ الْأُولَى احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِضِعْفِ ثِقَتِهِمْ بِأَحَقِّيَّةِ اعْتِقَادِهِمْ. وَمَدْلُولَ هَذِهِ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِصِحَّةِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا النَّصَارَى: لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْمَخْلُوقَ رَبًّا وَعَبَدُوهُ مَعَ اللَّهِ.
وَتَعَالَوْا هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي طَلَبِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ وَهُوَ تَمْثِيلٌ: جُعِلَتِ الْكَلِمَةُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهَا بِشِبْهِ الْمَكَانِ الْمُرَادِ الِاجْتِمَاعُ عِنْدَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى (تَعَالَوْا) قَرِيبًا.
وَالْكَلِمَةُ هُنَا أُطْلِقَتْ عَلَى الْكَلَامِ الْوَجِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠].
_________
(١) أَي بِالْإِكْرَاهِ.
268
وَ (سَوَاءٌ) هُنَا اسْمُ مَصْدَرِ الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى قَصْدٍ لَا شَطَطَ فِيهَا، وَهَذَانِ يَكُونَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَكَانٌ سَوَاءٌ وَسِوًى وَسَوًى بِمَعْنَى مُتَوَسِّطٍ قَالَ تَعَالَى:
فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥]. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِمَعْنَى مَا يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَرْبَابًا، لَا يَكُونُ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالٍ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. وَعَلَى كُلِّ مَعْنًى فَالسَّوَاءُ غَيْرُ مُؤَنَّثٍ، وُصِفَ بِهِ كَلِمَةٍ، وَهُوَ لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْمَصْدَرِ لَا مُطَابَقَةَ فِيهِ.
وأَلَّا نَعْبُدَ بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ سَوَاءٍ، وَرَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ، فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْجِهَةِ السَّادِسَةِ مِنْ جِهَاتِ قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ مِنْ مُغْنِي اللَّبِيبِ، وَاعْتَرَضَهُ الدَّمَامِينِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَرْدُودٌ مِنْ جِهَةِ مُرَاعَاةِ الِاصْطِلَاحِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ سَوَاء وصف لكلمة وألّا نَعْبُدَ لَوْ جُعِلَ بَدَلًا من سَوَاء ءال إِلَى كَوْنِهِ فِي قُوَّة الْوَصْف لكلمة وَلَا يَحْسُنُ وَصْفُ كَلِمَةٍ بِهِ.
وَضَمِيرُ بَيْنَنَا عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ: وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ إِلَى آخِرِهِ، التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ كُلِّهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا جِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ بَعْدَ نُهُوضِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ غَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَالْمَقَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ صَالِحٌ لِاقْتِلَاعِ حُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ، فَصَارَ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ نَادِرَ الْوُقُوعِ مَفْرُوضًا، وَذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدْ صَارُوا بِحَيْثُ يُؤْيَسُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَأَمْسِكُوا أَنْتُمْ بِإِسْلَامِكُمْ، وَأَشْهِدُوهُمْ أَنَّكُمْ عَلَى إِسْلَامِكُمْ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِشْهَادِ التَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُظْهِرُوا إِعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي صُورَةِ الْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَحَقِّيَّةِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهَذَا مَعْنَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ بِأَنا مُسلمُونَ.
269

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]

يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ دُعَائِهِمْ لِكَلِمَةِ الْحَقِّ الْجَامِعَةِ لِحَقِّ الدِّينِ، إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مُحَاجَّتَهُمُ الْبَاطِلَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَعَمَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ تَوَصُّلًا إِلَى أَنَّ الَّذِي خَالَفَ دِينَهُمْ لَا يَكُونُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يَدَّعِي النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُحَاجَّةُ فَرْعٌ عَنِ الْمُخَالَفَةِ فِي الدَّعْوَى. وَهَذِهِ المحاجة على طَرِيقِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ فِي النَّفْيِ، أَو فِي مُحَاجَّتُهُمُ النَّبِيءَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، مُحَاجَّةٌ يَقْصِدُونَ مِنْهَا إِبْطَالَ مُسَاوَاةِ دِينِهِ لِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ فِي النَّفْيِ أَيْضًا.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الرَّسُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا أَيْ قُلْ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِئْنَافُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَقِبَ أَمْرِهِ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ تَعالَوْا فَيَكُونَ تَوْجِيهَ خِطَابٍ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مُبَاشَرَةً، وَيَكُونَ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ مَقُولِ الرَّسُولِ دُونَ هَذِهِ لِأَنَّ الأولى من شؤون الدَّعْوَةِ، وَهَذِهِ من طرق المجاحّة، وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، وَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الدَّعْوَةِ. وَالْكُلُّ فِي النِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ سَوَاءٌ.
وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ نَشَأَتْ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: ٦٤] لِأَنَّهُ قَدْ شَاعَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي مَكَّةَ، وَبَعْدَهَا أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَكَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ [] : ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَسَيَجِيءُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا وَأُعْلِنَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّة، وَبني الْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ، وَبَيْنَ النَّصَارَى فِي وَفْدِ نَجْرَانَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَرَثَةُ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَدِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ
270
عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي أَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمُ ادِّعَاءً قَدِيمًا أَمْ كَانُوا قَدْ تَفَطَّنُوا إِلَيْهِ مِنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَيْقَظُوا لِتَقْلِيدِهِ فِي ذَلِكَ، أَمْ كَانُوا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِفْحَامِ لِلرَّسُولِ حِينَ حَاجَّهُمْ بأنّ دينه هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَام فألجؤوه إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ مُخْرِجَةٍ عَنِ اتِّبَاعِهِ، فَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ فِي دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُخْرِجَةً عَنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ تَابِعًا لِدِينِ إِبْرَاهِيمَ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ ادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا انْتَحَلُوهُ لِبَثِّ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِهِ بَين الْعَرَب، وَلَا سِيمَا النَّصْرَانِيَّةَ، فَإِنَّ دُعَاتَهَا كَانُوا يُحَاوِلُونَ انْتِشَارَهَا بَيْنَ الْعَرَبِ
فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا يَرُوجُ عِنْدَهُمْ سِوَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتُّبِعَتْ فِي بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَهُنَالِكَ أَخْبَارٌ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ تُثِيرُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ:
فَرُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ: «عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ- قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- قَالُوا: فَقَدْ زِدْتَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ»
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمُخَاطَبُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا خُصُوصُ النَّصَارَى كَالْخِطَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَرُوِيَ: أَنَّهُ تَنَازَعَتِ الْيَهُودُ وَنَصَارَى نَجْرَانَ بِالْمَدِينَةِ، عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ دُونَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، مِنْ يَهُودَ وَنَصَارَى.
وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الْمُخَاطَبِينَ هُوَ الدَّاعِي لِتَكْرِيرِ الْخِطَابِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَنْعًا لِقَوْلِهِمْ: فَقَدْ زِدْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ هُوَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَتَفْصِيلُ هَذَا الْمَنْعِ: إِنَّكُمْ لَا قِبَلَ لَكُمْ بِمَعْرِفَةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ زَادَ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّكُمْ لَا مُسْتَنَدَ لكم فِي علمكُم بِأُمُورِ الدِّينِ إِلَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَهُمَا قَدْ نَزَلَا مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ مَا كَانَتْ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى يُعْلَمَ الْمَزِيدُ عَلَيْهَا، وَذِكْرُ التَّوْرَاةِ عَلَى هَذَا لِأَنَّهَا أَصْلُ الْإِنْجِيلِ. وَيَكُونُ عَلَى حَسَبِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ نَفْيًا لِدَعْوَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، بِأَنَّ دِينَ الْيَهُودِ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَدِينَ النَّصَارَى هُوَ الْإِنْجِيلُ، وَكِلَاهُمَا نَزَلَ
271
بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ شَرِيعَةً لَهُ.
قَالَ الْفَخْرُ: يَعْنِي وَلَمْ يُصَرَّحْ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ بِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَذِكْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى هَذَا نَشْرٌ بَعْدَ اللَّفِّ: لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ شَمِلَ الْفَرِيقَيْنِ، فَذِكْرُ التَّوْرَاةِ لِإِبْطَالِ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَذِكْرُ الْإِنْجِيلِ لِإِبْطَالِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَذِكْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ هُنَا لِقَصْدِ جَمْعِ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّخْطِئَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُود بادىء ذِي بَدْءٍ هُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ مَسَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي تَأْلِيفِ الْمُحَاجَّةِ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ وَقَوْلِهِ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَيُبْطِلُ بِذَلِكَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ فِي الدِّينِ مُنْحَصِرٌ فِيهِمَا، وَهُمَا نَزَلَا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَا عَيْنَ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَوْلُهُ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ زَادَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ انْتِسَابِ الْإِسْلَامِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَانْتِسَابِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِلَيْهِ، فَلَا يَقُولُونَ وَكَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْبَأَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا بِالْإِسْلَامِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْبِقْ أَنِ امْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَنْبَأَ بِذَلِكَ أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْتَحِلُوا هَذِهِ الْمَزِيَّةَ، وَاسْتَيْقَظْتُمْ لِذَلِكَ حَسَدًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَنَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ فِي أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مَجِيءَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لَنَا وَلَكُمْ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْلَا انْتِظَامُ الدَّلِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكَانَ مُشْتَرَكَ الْإِلْزَامِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْغَلَطِ.
272
وَقَدْ أَعْرَضَ فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ عَنْ إِبْطَالِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ صِحَّةِ النَّظَرِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ زِيَادَةِ الْفُرُوعِ، وَاتِّحَادِ الْأُصُولِ، وَأَنَّ مُسَاوَاةَ الدِّينَيْنِ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى اتِّحَادِ أُصُولِهِمَا سَنُبَيِّنُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا فَاكْتُفِيَ فِي الْمُحَاجَّةِ بِإِبْطَالِ مُسْتَنَدِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: «فَقَدْ زِدْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْعِ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمرَان: ٦٧] عَلَى طَرِيقَةِ الدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ انْقِطَاعَ الْمُعْتَرِضِ كَافٍ فِي اتِّجَاهِ دَعْوَى الْمُسْتَدلّ.
وَقَوله: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَا أَنْتُمْ بِإِثْبَاتِ أَلْفِ هَا وَبِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ، وَقَرَأَهُ قَالُونُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَتَسْهِيلِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ بِحَذْفِ أَلِفِ هَا وَبِتَسْهِيلِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ وَبِإِبْدَالِهَا أَلِفًا أَيْضًا مَعَ الْمَدِّ، وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ دُونَ أَلِفٍ.
وَوَقَعَتْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ فَيَكُونُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ سَبَبَ الْمُحَاجَّةِ فَمَا صَدَّقَ (مَا) عِلَّةٌ مِنَ الْعِلَلِ مَجْهُولَةٌ أَي سَبَب للمحاجّة مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ، فَلَا يُعْلَمُ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الإنكاري، وَلَيْسَ عَيْنَيْهِ.
وَحُذِفَتْ أَلِفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ فِيهَا إِذَا وَقَعَتْ مَجْرُورَةً بِحَرْفٍ نَحْوَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١] وَقَوْلِ ابْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:
عَلَامَ تَقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عَاتِقِي وَالْأَلِفَاتُ الَّتِي تُكْتَبُ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ عَلَى صُورَةِ الْيَاءِ. إِذَا جُرَّ بِوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ (مَا) هَذِهِ يَكْتُبُونَ الْأَلِفَاتِ عَلَى صُورَةِ الْأَلِفِ: لِأَنَّ مَا صَارَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَتْ جُزْءَ الْكَلِمَةِ فَصَارَتِ الْأَلِفَاتُ كَالَّتِي فِي أَوَاسِطِ الْكَلِمَاتِ.
273
وَقَوْلُهُ: فِي إِبْراهِيمَ مَعْنَاهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هُنَا دِينُهُ، فَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ، وَالْمُرَادُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ يَتَعَيَّنُ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٣].
وَ (هَا) من قَوْله: هَا أَنْتُمْ تَنْبِيهٌ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ أَنْتُمْ حَاجَجْتُمْ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي مَحل التَّعَجُّب والنكير وَالتَّنْبِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يُؤَكَّدُ غَالِبًا بِاسْمِ إِشَارَةٍ بعده فَيُقَال هَا أَنا ذَا، وَهَا أَنْتُم أُولَاءِ أَوْ هَؤُلَاءِ.
وحاجَجْتُمْ خَبَرُ أَنْتُمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ حَاجَجْتُمْ حَالًا هِيَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ: لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِيهِ إِنْكَارِيٌّ، فَمَعْنَاهُ:
فَلَا تُحَاجُّونَ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ مِثْلِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمرَان: ١١٩].
وَقَوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تَكْمِيلٌ لِلْحُجَّةِ أَيْ أَنَّ الْقُرْآن الَّذِي هومن عِنْدِ اللَّهِ أَثْبَتَ أَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَهْتَدُوا لِذَلِكَ لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [١٤٠] : أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ.
[٦٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٦٧]
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
نَتِيجَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ إِذْ قَدْ تَحَصْحَصَ مِنَ الْحُجَّةِ الْمَاضِيَةِ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ غَيْرُ الْحَنِيفِيَّةِ، وَأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لَمْ يُخْبِرَا بِأَنَّهُمَا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، فَأَنْتَجَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى حَالِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ إِذْ لَمْ يُؤْثَرْ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى وَلَا عِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَهَذَا سَنَدُهُ خُلُوُّ كُتُبِهِمْ عَنِ ادِّعَاءِ ذَلِكَ. وَكَيْفَ تَكُونُ الْيَهُودِيَّةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مَعَ خلوّها عَن فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِذِكْرِ فَرْضِهِ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٦] عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ أَهْلُ الْمِلَلِ: «قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ» فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: فَحُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْزَلَ
274
اللَّهُ:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: ٩٧] الْآيَةَ فَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَقَعَدَ الْكُفَّارُ». ثُمَّ تَمَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَبْطَلَتْ دَعَاوَى الْفِرَقِ الثَّلَاثِ.
وَالْحَنِيفُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥].
وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَفَادَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَ نَفْيِ الضِّدِّ حَصْرًا لِحَالِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا يُوَافِقُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ حَنِيفًا بِقَوْلِهِ: مُسْلِماً لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ، وَقَالَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَنَفَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُوَافَقَةَ الْيَهُودِيَّةِ،. وَمُوَافَقَةَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمُوَافَقَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَثَبَتَتْ مُوَافَقَتُهُ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥] فِي مَوَاضِعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَأَنَّهُ كَانَ حَنِيفًا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي كَانَ جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْقِي شَكًّا فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ إِسْلَامُ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠] الْأُصُولَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ مَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَلْنَفْرِضْهَا فِي مَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: ٧٩] فَقَدْ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَعْلَنَهُ إِعْلَانًا لَمْ يَتْرُكْ لِلشِّرْكِ مَسْلَكًا إِلَى نُفُوسِ الْغَافِلِينَ، وَأَقَامَ هَيْكَلًا وَهُوَ الْكَعْبَةُ، أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ،- وَفَرَضَ حَجَّهُ عَلَى النَّاسِ: ارْتِبَاطًا بِمَغْزَاهُ، وَأَعْلَنَ تَمَامَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ
تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً [الْأَنْعَام: ٨٠] وَأَخْلَصَ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الْأَنْعَام: ٨١] وَتَطَلَّبَ الْهُدَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [الْبَقَرَة: ١٢٨]- وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: ١٢٨] وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً [الْأَنْبِيَاء: ٥٨]، وَأَظْهَرَ الِانْقِطَاعَ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨- ٨١]، وَتَصَدَّى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِفَاتِ اللَّهِ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨]- وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَام: ٨٣]- وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: ٨٠].
275
وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَيْأَسَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَحَتَّى لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْقَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَلَكِنْ حَنِيفًا مُسْلِمًا) قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، حَيْثُ كَانَ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنهم على ملّلا إِبْرَاهِيمَ لكِنهمْ مشركون.
[٦٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٦٨]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
اسْتِئْنَاف ناشيء عَنْ نَفْيِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَلَيْسَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى وَلَا الْمُشْرِكُونَ بِأَوْلَى النَّاسِ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِدِينِكُمْ.
وَ (أَوْلَى) اسْمُ تَفْضِيلٍ أَيْ أَشَدُّ وَلْيًا أَيْ قُرْبًا مُشْتَقٌّ مِنْ وَلِيَ إِذَا صَارَ وَلِيًّا، وَعُدِّيَ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِاتِّصَالِ أَيْ أَخَصُّ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ أَوْلَى هُنَا بِمَعْنَى أَجْدَرَ فَيَضْطَرُّ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: بِإِبْراهِيمَ أَيْ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا إِبْرَاهِيمَ هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي حَيَاتِهِ: مِثْلَ لُوطٍ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمُحَاوَلَةِ الَّذِينَ حَاوَلُوا اتِّبَاعَ الْحَنِيفِيَّةِ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا، مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ ابْن أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبِيهِ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبِي قَيْسٍ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، أَنْ يُسْلِمَ»
وَهُوَ لَمْ يُدْرِكِ الْإِسْلَامَ فَالْمَعْنَى كَادَ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ يَسْأَلُ
عَنِ الدِّينِ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ عَلَى دِينِكَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّك لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ نَصِيبَكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، قَالَ زَيْدٌ: أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَا أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى دِينٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا
276
نَصْرَانِيّا وَكَانَ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَقَاوَلَهُ مِثْلَ مُقَاوَلَةِ الْيَهُودِيِّ، غَيْرَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ قَالَ: أَنْ تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدِ اتَّفَقَا لَهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يَزَلْ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي عَلَى دين إِبْرَاهِيم وَهَذَا أُمْنِيَّةٌ مِنْهُ لَا تُصَادِفُ الْوَاقِعَ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي» وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلَ بَلْدَحٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ فَأَبَى زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهَذَا تَوَهُّمٌ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ كَمَا تَفْعَلُ قُرَيْشٌ. وَإِنَّ زَيْدًا كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ أنبت لَهَا مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْله: وَهذَا النَّبِيُّ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْمُشْتَهِرِ بِوَصْفٍ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ كَقَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ: «فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ»
فَالْإِشَارَةُ اسْتُعْمِلَتْ فِي اسْتِحْضَارِ الدَّوَابِّ الْمَعْرُوفَةِ بِالتَّسَاقُطِ عَلَى النَّارِ عِنْدَ وَقُودِهَا، وَالنَّبِيءُ لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ، حِينَئِذٍ، وَلَا قُصِدَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَاتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي حُضُورِ التَّكَلُّمِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ النَّبِيءِ هُوَ النَّاطِقَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
«نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ» أَيْ وَالْمُتَكَلِّمُ الَّذِي تَحْمِلِينَهُ. وَالِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، بَدَلًا مِنْهُ، هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ جِهَةَ الْإِشَارَةِ مَا هِيَ. وَعُطِفَ النَّبِيءُ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا إِبْرَاهِيمَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُتَابَعَتَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَتْ مُتَابَعَةً عَامَّةً فَكَوْنُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهَا فِي أُصُولِهَا. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ. فَالْمَقْصُودُ مَعْنَاهُ اللَّقَبِيُّ، فَإِنَّ وَصْفَ الَّذِينَ آمَنُوا صَارَ لَقَبًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ خِطَابُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ، مِثْلَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ،
أَنَّهُمْ قَدْ تَخَلَّقُوا بِأُصُولِ شَرْعِهِ، وَعَرَفُوا قَدْرَهُ، وَكَانُوا لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ دَائِبًا بِذِكْرِهِ،
277
فَهَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنِ انْتَسَبُوا إِلَيْهِ لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا أُصُولَ شَرْعِهِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَمِنَ الَّذِينَ انْتَسَبُوا إِلَيْهِ وَأُنْسُوا ذِكْرَ شَرْعِهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا سَأَلَ عَنْ صَوْمِ الْيَهُودِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى فَقَالَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ» وَصَامَهُ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِصَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ أَيْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ إِبْرَاهِيمَ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهَذَا النَّبِيءُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ التَّذْيِيلَ يَشْمَلُ الْمُذَيَّلَ قَطْعًا، ثُمَّ يَشْمَلُ غَيْرَهُ تَكْمِيلًا كَالْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ:
كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا [آل عمرَان: ٦٧] تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ مِنْهُمْ لَيْسُوا بمؤمنين.
[٦٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
اسْتِئْنَافٌ مُنَاسَبَتُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ- إِلَى قَوْله- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ [آل عمرَان: ٦٤- ٦٨] إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ عبّر عَنْهُم بطَائفَة مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانَت المحاجة مَعَهُمُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، دَعَوْا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ.
وَجُمْلَةُ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَدَّتْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل. فَلَو شَرْطِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي مَجَازًا لِأَنَّ التَّمَنِّيَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ الِامْتِنَاعِيِّ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ وَدَّتْ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ لَحَصَلَ مَوْدُودُهُمْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّمَنِّيَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ لَوِ الِامْتِنَاعِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَقَامَاتِ. وَلَيْسَ هُوَ مَعْنًى أَصْلِيًّا مِنْ مَعَانِي لَوْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَقَوْلُهُ: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أَيْ وَدُّوا إِضْلَالَكُمْ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ وَدُّوا أَنْ يَجْعَلُوهُمْ عَلَى غَيْرِ هُدًى فِي نَظَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَيْ يُذَبْذِبُوهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِضْلَالُ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ وِدُّ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يُهَوِّدُوهُمْ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُمْ إِذَا أَضَلُّوا النَّاسَ فَقَدْ صَارُوا هُمْ أَيْضًا ضَالِّينَ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ ضَلَالٌ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ ضَالِّينَ بِرِضَاهُمْ بِالْبَقَاءِ عَلَى دِينٍ مَنْسُوخٍ وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ يُنَاسِبُ الِاحْتِمَالَيْنِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بالحالتين دَقِيق.
[٧٠، ٧١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٧٠ إِلَى ٧١]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
الْتِفَاتٌ إِلَى خِطَابِ الْيَهُودِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالْآيَاتُ: الْمُعْجِزَاتُ، وَلِذَلِكَ قَالَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. وَإِعَادَةُ نِدَائِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ ثَانِيَةً لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ وَتَسْجِيلِ بَاطِلِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَلَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ تَلْبِيسُ دِينِهِمْ بِمَا أَدْخَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْخُرَافَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، حَتَّى ارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ بِجَمِيعِهِ. وَكِتْمَانُ الْحَقِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كِتْمَانُهُمْ تَصْدِيقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كِتْمَانُهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَمَاتُوهَا وَعَوَّضُوهَا بِأَعْمَالِ أَحْبَارِهِمْ وَآثَارِ تَأْوِيلَاتِهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَهَا وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا.
[٧٢- ٧٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٧٢ الى ٧٤]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ.
عَطْفٌ عَلَى وَدَّتْ طائِفَةٌ [آل عمرَان: ٦٩]. فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى حَاوَلَتِ الْإِضْلَالَ بِالْمُجَاهَرَةِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ حَاوَلَتْهُ بِالْمُخَادَعَةِ: قِيلَ أُشِيرَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ،
279
وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، أَغْوَاهُمُ الْعُجْبُ بِدِينِهِمْ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُجَاهَرَةُ بِالْمُكَابَرَةِ دَبَّرُوا لِلْكَيْدِ مَكِيدَةً أُخْرَى، فَقَالُوا لِطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ: «آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ مُظْهِرِينَ أَنَّكُمْ صَدَّقْتُمُوهُ ثُمَّ اكْفُرُوا آخِرَ النَّهَارِ لِيَظْهَرَ أَنَّكُمْ كَفَرْتُمْ بِهِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَتَجْرِبَةٍ فَيَقُولَ الْمُسْلِمُونَ مَا صَرَفَ هَؤُلَاءِ عَنَّا إِلَّا مَا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدِّينَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ» فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ الْحِكَايَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ قَالُوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ فَحَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا تَنْوِيهًا بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِأَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ أَطْلَقُوا هَذِهِ الصِّلَةَ عَلَى أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ إِذْ صَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ. وَوجه النَّهَارِ أَوَّلُهُ وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [آل عمرَان: ٤٥].
وَقَوْلُهُ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ مِنْ كَلَامِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدُوا بِهِ الِاحْتِرَاسَ أَلَّا يَظُنُّوا مِنْ قَوْلِهِمْ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ أَنَّهُ إِيمَانٌ حَقٌّ، فَالْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِيمَانًا حَقًّا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَلَا تُؤْمِنُوا بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ دِينَكُمْ فَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ.
وَهَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ إِلْزَامِهِمْ بِأَنَّ كُتُبَهُمْ بَشَّرَتْ بِمَجِيءِ رَسُولٍ مُقَفٍّ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ لَا يَجِيءُ إِلَّا بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَضَلُّوا عَنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي مَجِيئِهِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ تَحْصِيل الْحَاصِل، فينزّه فِعْلُ اللَّهِ عَنْهُ، فَالرَّسُولُ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ مُوسَى لَا يَكُونُ إِلَّا نَاسِخًا لِبَعْضِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَجَمْعُهُمْ بَيْنَ مَقَالَةِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَبَيْنَ مَقَالَةِ: وَلا تُؤْمِنُوا مِثْلَ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الْأَنْفَال: ١٧].
وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ، أُمِرَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِبْعَادِ حُصُولِ اهْتِدَائِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِهِمْ، لِأَنَّ هُدَى غَيْرِهِ أَيْ مُحَاوَلَتَهُ هُدَى النَّاسِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ، إِذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ. فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ: لِأَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ فَهُوَ صُورَةُ الْهُدَى وَلَيْسَ بِهُدًى وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ:
280
آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ- وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، إِذْ أَرَادُوا صُورَةَ الْإِيمَانِ، وَمَا هُوَ بِإِيمَانٍ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ إِظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مُتَابَعَتِهِمْ.
أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.
أَشْكَلَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ سَابِقَتِهَا وَصْفَ نَظْمِهَا، وَمَصْرِفَ مَعْنَاهَا: إِلَى أَيِّ فَرِيقٍ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهَا أَشْكَلُ آيَةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وُجُوهًا ثَمَانِيَةً. تَرْجِعُ إِلَى احْتِمَالَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ.
الِاحْتِمَالُ الأول أَنَّهَا تكلمة لِمُحَاوَرَةِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَأَنَّ جُمْلَةَ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْحِوَارِ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَأْتِي
وُجُوهٌ نَقْتَصِرُ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ وَاضِحَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَعْلِيلَ قَوْلِهِمْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ عَلَى أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِرَادَتَهُمُ اسْتِحَالَةَ نَسْخِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَاسْتِحَالَةَ بَعْثَةِ رَسُولٍ بَعْدَ مُوسَى، وَأَنَّهُ يُقَدَّرُ لَامُ تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٌ قَبْلَ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ وَهُوَ حَذْفٌ شَائِعٌ مِثْلُهُ. ثُمَّ إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ حَرْفُ نَفْيٍ بَعْدَ (أَنْ) يدل عَلَيْهِ هَذَا السِّيَاقُ وَيَقْتَضِيهِ لَفْظُ (أَحَدٌ) الْمُرَادُ مِنْهُ شُمُولُ كُلِّ أَحَدٍ: لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ مُرَادًا مِنْهُ الشُّمُولُ إِلَّا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَمَا فِي مَعْنَى النَّفْيِ مِثْلَ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، فَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ (أَحَدٌ) فِي الْكَلَامِ الْمُوجِبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ بِالْوَحْدَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَاسِبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لِأَن لَا يوتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَحَذْفُ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ، ظَاهِرَةً وَمُقَدَّرَةً، كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء:
١٧٦]، أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ قَصْدَهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَثْبِيتُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى مُلَازَمَةِ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يُجَوِّزُونَ نَسْخَ أَحْكَامِ اللَّهِ، وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ النَّسْخَ يَقْتَضِي الْبَدَاءَ.
281
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَرَادُوا إِنْكَار أَن يوتى أحد النبوءة كَمَا أُوتِيَهَا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ قَوْلَهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ بِهَمْزَتَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَحَرْفُ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّقْسِيمِ مِثْلَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: ٢٤] (أَوْ) مَعْطُوفٌ عَلَى النَّفْيِ، أَوْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ: عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرَيْنِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ- أَو- وَكَيف يحاجونكم عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وواو الْجَمْعِ فِي يُحاجُّوكُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى (أَحَدٌ) لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الْإِنْكَارِ.
وَفَائِدَةُ الِاعْتِرَاضِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِمُ الْمُبَادَرَةُ بِمَا يُفِيدُ ضَلَالَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِمَّا أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ بَقِيَّةً
لِقَوْلِهِ: «إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ».
وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ- وَقَوْلِهِمْ- وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، فَقَوْلُهُ:
أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَيْ قُلْتُمْ ذَلِكَ حَسَدًا مِنْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَقَوْلُهُ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، أَيْ مُرَادُكُمُ التَّنَصُّلُ مِنْ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَمَعْتُمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِمَا آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُمُ الْفَوْزُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُحَاجُّونَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِأَنَّكُمْ كَافِرُونَ، وَإِذَا كَانَ الْفَوْزُ لَكُمْ كُنْتُمْ قَدْ أَخَذْتُمْ بِالْحَزْمِ إِذْ لَمْ تُبْطِلُوا دِينَ الْيَهُودِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَوَاوُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَنْسَبُ نَظْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، لِيَكُونَ لِكُلِّ كَلَامٍ حُكِيَ عَنْهُمْ تَلْقِينُ جَوَابٍ عَنْهُ:
فَجَوَابُ قَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. وَجَوَابُ قَوْلِهِمْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَخْ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
282
إِلَخْ. فَهَذَا مِلَاكُ الْوُجُوهِ، وَلَا نُطِيلُ بِاسْتِيعَابِهَا إِذْ لَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَكَلِمَةُ أَحَدٌ اسْمُ نَكِرَةٍ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَمَعْنَاهَا شَخْصٌ أَوْ إِنْسَانٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تَقَعُ إِلَّا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ عَرِيبٍ وَدِيَارٍ وَنَحْوِهِمَا وَنَدَرَ وُقُوعُهُ فِي حَيِّزِ الْإِيجَابِ، وَهَمْزَتُهُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ وَأَصْلُهُ وَحَدَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَيَرِدُ وَصْفًا بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ جُزْءٌ مِنْ حَرْفِ (أَنْ). وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ أُولَاهُمَا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ وَالثَّانِيَةُ جُزْءٌ مِنْ حَرْفِ (أَنْ) وَسَهَّلَ الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ.
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤).
زِيَادَةُ تَذْكِيرٍ لَهُمْ وَإِبْطَالٌ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ عَلَى طَرْحِ الْحَسَدِ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ كَمَا أَعْطَى اللَّهُ الرِّسَالَةَ مُوسَى كَذَلِكَ أَعْطَاهَا مُحَمَّدًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاء: ٥٤].
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَمَنْ يَحْسَبُ أَنَّ
الْفَضْلَ تَبَعٌ لِشَهَوَاتِهِمْ وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الْفَضْلَ بيد الله إِلَخ أَي أنّ الْفضل بِيَدِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِنَوَالِ فَضْلِهِ.
وواسِعٌ اسْمُ فَاعِلِ الْمَوْصُوفِ بِالسِّعَةِ.
وَحَقِيقَةُ السِّعَةِ امْتِدَادُ فَضَاءِ الْحَيِّزِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ ظَرْفٍ امْتِدَادًا يَكْفِي لِإِيوَاءِ مَا يَحْوِيهِ ذَلِكَ الْحَيِّزُ بِدُونِ تَزَاحُمٍ وَلَا تَدَاخُلٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَحْوِيِّ، يُقَالُ أَرْضٌ وَاسِعَةٌ وَإِنَاءٌ
283
وَاسِعٌ وَثَوْبٌ وَاسِعٌ، وَيُطْلَقُ الِاتِّسَاعُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ عَلَى وَفَاءِ شَيْءٍ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ نَوْعُهُ دُونَ مَشَقَّةٍ يُقَالُ: فُلَانٌ وَاسِعُ الْبَالِ، وَوَاسِعُ الصَّدْرِ، وَوَاسِعُ الْعَطَاءِ. وَوَاسِعُ الْخُلُقِ، فَتَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ أَوْ كَثْرَةِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ أَوْ يُوصَفُ بِهِ أَو يعلق بِهِ مِنْ أَشْيَاءَ وَمَعَانٍ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى ثَانِيًا.
وواسِعٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِحَالَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْمِ عَدَمُ تَنَاهِي التَّعَلُّقَاتِ لِصِفَاتِهِ ذَاتِ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَاسِعُ الْعِلْمِ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، وَاسِعُ الْعَطَاءِ، فَسِعَةُ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنَّهَا لَا حَدَّ لِتَعَلُّقَاتِهَا، فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِوَصْفِ وَاسِعٍ، لِأَنَّهُ الْوَاسِعُ الْمُطْلَقُ.
وَإِسْنَادُ وَصْفِ وَاسِعٍ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ مجازي أَيْضا لأنّ الْوَاسِعُ صِفَاتُهُ وَلِذَلِكَ يُؤْتَى بَعْدَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ فِعْلِ السِّعَةِ بِمَا يُمَيِّزُ جِهَةَ السِّعَةِ مِنْ تَمْيِيزٍ نَحْوَ:
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا. فَوَصْفُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ وَاسِعٌ هُوَ سِعَةُ الْفَضْلِ لِأَنَّهُ وَقَعَ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِصِفَةِ وَاسِعٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: عَلِيمٌ صفة ثَانِيَة بِقُوَّة عِلْمِهِ أَيْ كَثْرَةِ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى.
وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ هُنَا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُؤْتِيَهُ فَضْلَهُ وَيَدُلَّ عَلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ مَا يَظْهَرُ مِنْ آثَارِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ مَتَى ظَهَرَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ فَضَائِلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤].
وَجُمْلَةُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِجُمْلَةِ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ بَعْضٌ مِمَّا هُوَ فَضْلُهُ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٠٥].
284

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٧٥ إِلَى ٧٦]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [آل عمرَان: ٧٢] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ:
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمرَان: ٦٩] عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَالْمُنَاسَبَةُ بَيَانُ دَخَائِلِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ النَّاشِئَةِ عَنْ حَسَدِهِمْ وَفِي انْحِرَافِهِمْ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَقَدْ حَكَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خِيَانَةَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ الله هُنَا أنّ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ تَعَفُّفًا عَنِ الْخِيَانَةِ وَفَرِيقًا لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ مُتَعَلِّلِينَ لِإِبَاحَةِ الْخِيَانَةِ فِي دِينِهِمْ، قِيلَ: وَمِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَمِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ وَكِلَاهُمَا مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ ذَمُّ الْفَرِيقِ الثَّانِي إِذْ كَانَ مِنْ دِينِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ إِبَاحَةُ الْخَوْنِ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَخْ وَلِذَلِكَ طَوَّلَ الْكَلَامَ فِيهِ.
وَإِنَّمَا قَدَّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ إِنْصَافًا لِحَقِّ هَذَا الْفَرِيقِ، لِأَنَّ الْإِنْصَافَ مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِ الْإِسْلَام، وَإِذ كَانَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ دِينَهُمْ يُبِيحُ لَهُمْ خِيَانَةَ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ صَارَ النَّعْيُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِهَذَا الْقَوْلِ لَازِمًا لِجَمِيعِهِمْ أِمِينِهِمْ وَخَائِنِهِمْ، لِأَنَّ الْأَمِينَ حِينَئِذٍ لَا مَزِيَّةَ لَهُ إِلَّا فِي أَنَّهُ تَرَكَ حَقًّا يُبِيحُ لَهُ دِينُهُ أَخْذَهُ، فَتَرَفَّعَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَتَرَفَّعُ الْمُتَغَالِي فِي الْمُرُوءَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ مَضْمُونِ صِلَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا: فَفِي الْأَوَّلِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ قُوَّةِ الْأَمَانَةِ، مَعَ إِمْكَانِ الْخِيَانَةِ وَوُجُودِ الْعُذْرِ لَهُ فِي عَادَةِ أَهْلِ دِينِهِ، وَفِي الثَّانِي لِلتَّعْجِيبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَوْنُ خُلُقًا لِمُتَّبِعِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، ثُمَّ يَزِيدُ التَّعْجِيبُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا فَيُكْسِبُ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِمَا زِيَادَةَ عَجَبِ حَالٍ.
285
وَعُدِّيَ تَأْمَنْهُ بِالْبَاءِ مَعَ أَنَّ مِثْلَهُ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ [يُوسُف:
٦٤]، لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى تُعَامِلُهُ بِقِنْطَارٍ لِيَشْمَلَ الْأَمَانَةَ بِالْوَدِيعَةِ، وَالْأَمَانَةَ بِالْمُعَامَلَةِ عَلَى الِاسْتِيمَانِ، وَقِيلَ الْبَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ أَوْ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ وَهُوَ مَحْمَلٌ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْبَاءَ فِي الْبَيْتِ لِلظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح:
٢٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ يُؤَدِّهِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الضَّمَائِرِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِإِسْكَانِ هَاءِ الضَّمِيرِ فِي يُؤَدِّهِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا الْإِسْكَانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ غَلَطٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ الْهَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْزَمَ وَإِذَا لَمْ تُجْزَمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُكْسَرَ فِي الْوَصْلِ (هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ جَزْمَ الْجَوَابِ لَا يَظْهَرُ عَلَى هَاءِ الضَّمِيرِ بَلْ عَلَى آخِرِ حَرْفٍ مِنَ الْفِعْلِ وَلَا يَجُوزُ تَسْكِينُهَا فِي الْوَصْلِ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ الَّتِي سَكَّنُوا فِيهَا الْهَاءَ). وَقِيلَ هُوَ إِجْرَاءٌ لِلْوَصْلِ مُجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَأُرَاهُ كَانَ يَخْتَلِسُ الْكَسْرَ فَغَلَطَ عَلَيْهِ مَنْ نَقَلَهُ وَكَلَامُ الزَّجَّاجُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ رَاعَى فِيهِ الْمَشْهُورَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمَقِيسِ، وَاللُّغَةُ أَوْسَعُ من ذَلِك، وَالْقِرَاءَة حُجَّةٌ. وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ بِاخْتِلَاسِ الْكَسْرِ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّ مَذْهَبَ بَعْضِ الْعَرَبِ يَجْزِمُونَ الْهَاءَ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا يَقُولُونَ ضَرَبْتُهْ كَمَا يُسَكِّنُونَ مِيمَ أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ وَأَصْلُهُ الرَّفْعُ وَهَذَا كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
لَمَّا رَأَى أَلَّا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ مَالَ إِلَى أَرْطَاةِ حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ
وَالْقِنْطَارُ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمرَان: ١٤].
وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْمَسْكُوكِ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي وَزْنُهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً مِنَ الشَّعِيرِ الْمُتَوَسِّطِ وَهُوَ مُعَرَّبُ دِنَّارٍ مِنَ الرُّومِيَّةِ.
وَقَدْ جُعِلَ الْقِنْطَارُ وَالدِّينَارُ مَثَلَيْنِ لِلْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَالْمَقْصُودُ مَا يُفِيدُهُ الْفَحْوَى مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا هُوَ دُونَ الْقِنْطَارِ، وَوُقُوعِ الْخِيَانَةِ فِيمَا هُوَ فَوْقَ الدِّينَارِ.
286
وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أُطْلِقَ الْقِيَامَ هُنَا عَلَى الْحِرْصِ وَالْمُوَاظَبَةِ: كَقَوْلِهِ:
قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمرَان: ١٨] أَيْ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْعَدْلَ.
وَعُدِّيَ «قَائِمًا» بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّ الْقِيَامَ مَجَازٌ عَلَى الْإِلْحَاحِ وَالتَّرْدَادِ فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ قَرِينَةٌ وَتَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ يَصِيرُ الْفِعْلُ بَعْدَهُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَيَكْثُرُ أَنْ يُقَدَّرَ مَعَهَا اسْمُ زَمَانٍ مُلْتَزَمٍ حَذْفُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَحِينَئِذٍ يُقَالُ مَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ. وَلَيْسَتِ الظَّرْفِيَّةُ مَدْلُولَهَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا هِيَ نَائِبَةٌ عَنِ الظَّرْفِ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ مَوْقِعِ (مَا) فِي سِيَاقِ كَلَامٍ يُؤْذِنُ بِالزَّمَانِ، وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي دُخُولِ (مَا) عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَصَرِّفِ مِنْ مَادَّةِ دَامَ وَمُرَادِفِهَا.
وَ (مَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى: لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا فِي مُدَّةِ دَوَامِ قِيَامِكَ عَلَيْهِ أَيْ إِلْحَاحِكَ عَلَيْهِ. وَالدَّوَامُ حَقِيقَتُهُ اسْتِمْرَارُ الْفِعْلِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي طُولِ الْمُدَّةِ، لِتَعَذُّرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَ وُجُودِ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى الْعُمْرُ لَمْ يَحْصُلِ الْإِلْحَاحُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنْ أَوْقَاتٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَوْقِعُ (مَا) وَالتَّقْدِيرُ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ إِلَّا زَمَانًا تَدُومُ عَلَيْهِ فِيهِ قَائِمًا فَيَكُونُ مَا بَعْدَ (إِلَّا) نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا مِنْ مَصَادِرَ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَعْنَى (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ حَالًا.
وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ قائِماً لِلِاهْتِمَامِ بِمَعْنَى الْمَجْرُورِ، فَفِي تَقْدِيمِهِ مَعْنَى الْإِلْحَاحِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَكُنْ قِيَامُكَ عَلَيْهِ لَا يُرْجِعُ لَكَ أَمَانَتَكَ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَإِنَّمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ لِكَمَالِ الْعِنَايَة بتمييزه لَا ختصاصه بِهَذَا الشَّأْنِ الْعَجِيبِ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَنْ أَقْوَالٍ اخْتَلَقُوهَا، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَصْدُرُ عَنِ الِاعْتِقَادِ، فَلِذَا نَابَ مَنَابَهُ فَأُطْلِقَ عَلَى الظَّنِّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَأَرَادُوا بِالْأُمِّيِّينَ مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقَدِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْأُمِّيِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
287
وَحَرْفُ (فِي) هُنَا لِلتَّعْلِيلِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّعْلِيلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ
مَجْرُورٍ بِحَرْفِ (فِي) وَالتَّقْدِيرُ فِي مُعَامَلَةِ الْأُمِّيِّينَ.
وَمَعْنَى لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَكْلِ حُقُوقِهِمْ حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ، فَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأُمِّيِّينَ أَيْ ذَوَاتِهِمْ مُرَادٌ مِنْهُ أَعْلَقُ أَحْوَالِهِمْ بالغرض الَّذِي سبق لَهُ الْكَلَامُ.
فَالسَّبِيلُ هُنَا طَرِيقُ الْمُؤَاخَذَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ السَّبِيلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: ٩١] وَقَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ [التَّوْبَة: ٩٣] وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ الْعَرَبُ بِالطَّرِيقِ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
وَهَلْ أَنَا إِنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحَةٍ مِنَ السَّرْحِ مَوْجُودٌ عَلَيَّ طَرِيق
وقصدهم بذلك أَنْ يُحَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَطَاوَلُوا بِمَا أُوتُوهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ. أَوْ أَرَادُوا الْأُمِّيِّينَ بِمَعْرِفَةِ التَّوْرَاةِ، أَيِ الْجَاهِلِينَ: كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وأيّاما كَانَ فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا عَنْ خُلُقٍ عَجِيبٍ فِيهِمْ، وَهُوَ اسْتِخْفَافُهُمْ بِحُقُوقِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الدِّينِ، وَاسْتِبَاحَةُ ظُلْمِهِمْ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْجَاهِلَ أَوِ الْأُمِّيَّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُدْحَضَ حَقُّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا سُوءُ فَهْمِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ أَحْكَامًا فَرَّقَتْ فِيهَا بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْحُقُوقِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤَاسَاةِ وَالْمُخَالَطَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ: «فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تعْمل إِبْرَاء يبرىء كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. الْأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ» وَجَاءَ فِي «الْإِصْحَاحِ» ٢٣ مِنْهُ: «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبَا فِضَّةٍ أَوْ رِبَا طَعَامٍ وَلِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا» وَلَكِنْ شَتَّانَ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَبَيْنَ الْمُؤَاسَاةِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا إِنَّمَا كَانَ لِقَصْدِ الْمُؤَاسَاةِ، وَالْمُؤَاسَاةُ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ مَعَ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَتِ الْيَهُودُ: الْأَمْوَالُ كُلُّهَا كَانَتْ لَنَا، فَمَا فِي أَيْدِي الْعَرَبِ مِنْهَا فَهُوَ لَنَا، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونَا وَغَصَبُونَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْنَا فِي أَخْذِ أَمْوَالنَا مِنْهُم. وَهَذَا الْخُلُقَانِ الذَّمِيمَانِ اللَّذَانِ حَكَاهُمَا اللَّهُ عَنِ الْيَهُودِ قَدِ اتَّصَفَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ حُقُوقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَتَأَوَّلُوهَا بِأَنَّهُمْ صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ، فِي حِينِ لَا حَرْبَ وَلَا ضَرْبَ.
288
وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الزَّعْمِ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.
وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَال أَي يعتمدون الْكَذِبَ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا قَاسُوهُ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِمْ لَيْسَ الْقِيَاسُ فِيهِ بِصَحِيحٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِالْكَذِبِ، إِذِ الشُّبْهَةُ الضعيفة كالعهد.
و (بلَى) حَرْفُ جَوَابٍ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ فَهُوَ هُنَا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: ٧٥].
و (بلَى) غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَام الْمَنْفِيِّ بَلْ يُجَاب بهَا عِنْد قَصْدِ الْإِبْطَالِ، وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِهَا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَنْفِيِّ، وَجِيءَ فِي الْجَوَابِ بِحُكْمٍ عَامٍّ لِيَشْمَلَ الْمَقْصُودَ وَغَيْرَهُ: تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى، وَقَصْدًا فِي اللَّفْظِ، فَقَالَ: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أَيْ لَمْ يَخُنْ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ عَهْدٌ، وَاتَّقى»
رَبَّهُ فَلَمْ يَدْحَضْ حق غَيره إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَة: ١٣] أَيِ الْمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ ضِدِّ الْمَذْكُورِ بِقَرِينَة الْمقَام.
[٧٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ فِي خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ إِبْطَالًا لِلْعَهْدِ، وَلِلْحِلْفِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقُرَيْشٍ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ ذِكْرُ الْخُلُقِ الْجَامِعِ لِشَتَاتِ مَسَاوِئِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، دَعَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ جَرَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْيَهُودِ مُفَرَّقَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٠] : أَوْفُوا بِعَهْدِي، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: ٤١]. مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [الْبَقَرَة: ١٠٢]. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
289
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧٤]. فَعَلِمْنَا أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ تَسْمِيَةِ دِينِهِمْ بِالْعَهْدِ وَبِالْمِيثَاقِ، فِي مَوَاضِعَ، لِأَنَّ مُوسَى عَاهَدَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَبَيَّنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْبَارِ.
وَمَعْنَى وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ إِذْ قَدْ شَاعَ نَفْيُ
الْكَلَامِ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْغَضَبِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْإِقْبَالِ وَالْعِنَايَةِ، وَنَفْيُ النَّظَرِ فِي الْغَضَبِ فَالنَّظَرُ الْمَنْفِيُّ هُنَا نَظَرٌ خَاصٌّ. وَهَاتَانِ الْكِنَايَتَانِ يَجُوزُ مَعَهُمَا إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَا يُقْلِعُونَ عَنْ آثَامِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْ رِقَّةِ الدِّيَانَةِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ يُرْجَى لَهُ صَلَاحٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا يُنَمِّيهِمْ أَيْ لَا يُكْثِرُ حُظُوظَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ.
وَفِي مَجِيءِ هَذَا الْوَعِيدِ، عَقِبَ الصِّلَةِ، وَهِيَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الْآيَةَ، إِيذَانٌ بِأَنَّ مَنْ شَابَهَهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِمْ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ حَلَفَ يَمِينًا بَاطِلَةً، وَكُلٌّ يَظُنُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا يَعْرِفُهُ مِنْ قِصَّةِ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ،
فَفِي «الْبُخَارِيِّ»، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلْفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ الْآيَةَ فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: «مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عبد الرحمان» قُلْنَا: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي» فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيِّنَتَكَ أَوْ يَمِينَهُ- قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ
الْحَدِيثَ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ»، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الْآيَةَ.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَاتِهِ الْآيَةَ فِي قِصَّةٍ وَجَبَتْ فِيهَا يَمِينٌ لردّ دَعْوَى:
290

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٧٨]

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
أَيْ مِنَ الْيَهُودِ طَائِفَةٌ تُخَيِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ أَشْيَاءَ أَنَّهَا مِمَّا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، إِمَّا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ بَعْضِ أَفْعَالِهِمُ الذَّمِيمَةِ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَإِمَّا لِلتَّخْلِيطِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُشَكِّكُوهُمْ فِيمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ، أَوْ لِإِدْخَالِ
الشَّكِّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ مَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَاللَّيُّ مُجْمَلٌ، وَلَكِنَّهُ مُبَيَّنٌ بِقَوْلِهِ: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَاللَّيُّ فِي الْأَصْلِ: الْإِرَاغَةُ أَيْ إِدَارَةُ الْجِسْمِ غَيْرِ الْمُتَصَلِّبِ إِلَى غَيْرِ الصَّوْبِ الَّذِي هُوَ مُمْتَدٌّ إِلَيْهِ: فَمِنْ ذَلِكَ لَيُّ الْحَبْلِ، وَلَيُّ الْعِنَانِ لِلْفَرَسِ لِإِدَارَتِهِ إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ صَوْبِ سَيْرِهِ، وَمِنْهُ لَيُّ الْعُنُقِ، وَلَيُّ الرَّأْسِ بِمَعْنَى الِالْتِفَاتِ الشَّزْرِ والإعراض قَالَ تَعَالَى: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المُنَافِقُونَ: ٥].
وَاللَّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِمَعْنَى تَحْرِيفِ اللِّسَانِ عَنْ طَرِيقِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ إِلَى طَرِيقِ حَرْفٍ آخَرَ يُقَارِبُهُ لِتُعْطِيَ الْكَلِمَةُ فِي أُذُنِ السَّامِعِ جَرْسَ كَلِمَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ «رَاعِنَا» وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي السَّلَامِ عَلَى النبيء: «السام عَلَيْكُم» أَيِ الْمَوْتُ أَوِ «السِّلَامُ- بِكَسْرِ السِّينِ- عَلَيْكَ» وَهَذَا اللَّيُّ يُشَابِهُ الْإِشْمَامَ وَالِاخْتِلَاسَ وَمِنْهُ إِمَالَةُ الْأَلِفِ إِلَى الْيَاءِ، وَقَدْ تَتَغَيَّرُ الْكَلِمَاتُ بِالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ وَبِاخْتِلَافِ صِفَاتِ الْحُرُوفِ. وَالظَّاهِرُ أنّ الْكتاب هُوَ التَّوْرَاةُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا إِذا قرؤوا بَعْضَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ نَطَقُوا بِحُرُوفٍ مِنْ كَلِمَاتِهَا بَيْنَ بَيْنَ لِيُوهِمُوا الْمُسْلِمِينَ مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ مَقْدِرَةٌ وَمِرَاسٌ فِي هَذَا.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ أَنَّ بَعْضَ الْأَزَارِقَةِ أَعَادَ بَيْتَ عُمَرَ ابْن أَبِي رَبِيعَةَ فِي مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
291
فَجَعَلَ يَضْحَى يَحْزَى وَجَعَلَ يَخْصَرُ يَخْسَرُ بِالسِّينِ لِيُشَوِّهَ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ غَضِبَ مِنْ إِقْبَالِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى سَمَاعِ شِعْرِهِ. وَفِي الأحاجي والألغاز كثير مِنْ هَذَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ لِلَّاهِي إِلَهًا فَوْقَهُ فَيَقُولُهَا أَحَدٌ بِحَضْرَةِ نَاسٍ وَلَا يُشْبِعُ كَسْرَةَ اللَّاهِي يَخَالُهَا السَّامِعُ لِلَّهِ فَيَظُنُّهُ كَفَرَ.
أَوْ لَعَلَّهُم كَانُوا يقرؤون مَا لَيْسَ مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْكَيْفِيَّاتِ أَوِ اللُّحُونِ الَّتِي كَانُوا يقرؤون بِهَا التَّوْرَاةَ لِيُخَيِّلُوا للسامعين أَنهم يقرؤون التَّوْرَاةَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّيُّ هُنَا مَجَازًا عَنْ صَرْفِ الْمَعْنَى إِلَى مَعْنًى آخَرَ كَقَوْلِهِمْ لَوَى الْحُجَّةَ أَيْ أَلْقَى بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهُوَ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ: بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَوْضُوعَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى الله، وأياما كَانَ فَهَذَا اللَّيُّ يَقْصِدُونَ مِنْهُ التَّمْوِيهَ عَلَى الْمُسلمين لغَرَض، حكما فَعَلَ ابْنُ صُورِيَّا فِي إِخْفَاءِ
حُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي فِي التَّوْرَاةِ وَقَوْلِهِ: نُحَمِّمُ وَجهه.
والمخاطب يتحسبوه الْمُسْلِمُونَ دُونَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ظَنِّ الْيَهُودِ.
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي هَاتِهِ الْأَفْعَالِ: يَلْوُونَ، وَيَقُولُونَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ دَأْبُهُمْ.
وَتَكْرِيرُ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ، وَاسْمُ الْجَلَالَةِ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالِاسْمَيْنِ، وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِمَا، وَالْمُتَعَلِّقِينَ بِهِ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِ الْحَمَاسَةِ فِي بَابِ الْأَدَبِ عِنْدَ قَوْلِ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ:
رَأَتْ رَجُلًا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
لما رَأَيْتُ الشَّيْبَ لَاحَ بَيَاضُهُ بِمَفْرِقِ رَأْسِي قُلْتُ لِلشَّيْبِ مَرْحَبًا
كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: «قُلْتُ لَهُ مَرْحَبًا لَكِنَّهُمْ يُكَرِّرُونَ الْأَعْلَامَ وَأَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ كَثِيرًا وَالْقَصْدُ بِالتَّكْرِيرِ التَّفْخِيمُ» قُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ قَهَرَ الْمَوْتَ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيل ذَلِك عِنْد قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢] : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
292
وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ يَلْوُونَ: بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ مُضَارِعُ لَوَى، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَهُ: يُلَوُّونَ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ مُضَارِعُ لَوَّى بِوَزْنِ فَعَّلَ لِلْمُبَالِغَةِ وَلَمْ أَرَ نِسْبَةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فِي كتب الْقرَاءَات.
[٧٩، ٨٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٧٩ إِلَى ٨٠]
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ: فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَيَّ الْيَهُودِ أَلْسِنَتَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّحْرِيفِ، اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِ التَّحْرِيفِ الَّذِي عِنْدَ النَّصَارَى لِمُنَاسَبَةِ التَّشَابُهِ فِي التَّحْرِيفِ إِذْ تَقُولُ النَّصَارَى عَلَى الْمَسِيحِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ فَالْمُرَادُ بِالْبَشَرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ تَنْزِيهُ عِيسَى عَنْ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، رَدًّا عَلَى النَّصَارَى، فَيَكُونُ رُجُوعًا إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ- إِلَى قَوْلِهِ- بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمرَان:
٦٤].
وَفِي «الْكَشَّافِ» قِيلَ نَزَلَتْ لِأَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ. قَالَ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيئَكُمْ وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ»
. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ حَدِيثًا مَقْبُولًا فَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا قصّ مِنْهَا الرَّدُّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمُعْتَقَدَاتِ.
وَوَقَعَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ الْيَهُودِيَّ وَالسَّيِّدَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ قَالَا يَا مُحَمَّدُ: «أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
. وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِبَشَرٍ نَفْيٌ لِاسْتِحْقَاقِ أَحَدٍ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ.
وَأَصْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْكَلَامِ مَا كَانَ فُلَانٌ فَاعِلًا كَذَا، فَلَمَّا أُرِيدَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ
293
عَدَلَ عَنْ نَفْيِ الْفِعْلِ إِلَى نَفْيِ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ، وَجَعَلَ نَفْيَ الْجِنْسِ عَنِ الشَّخْصِ بِوَاسِطَةِ نَفْيِ الِاسْتِحْقَاقِ إِذْ لَا طَرِيقَةَ لِحَمْلِ اسْمِ ذَاتٍ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ إِلَّا بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ، فَصَارَ التَّرْكِيبُ: مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَيُقَالُ أَيْضًا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى [طه: ١١٨].
فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَيْسَ قَوْلُ كُونُوا عِباداً لِي حَقًّا لِبَشَرٍ أَيِّ بَشَرٍ كَانَ. وَهَذِهِ اللَّامُ هِيَ أَصْلُ لَامِ الْجُحُود الَّتِي فِي نَحْوَ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ [الْأَنْفَال: ٣٣]، فَتَرَاكِيبُ لَامِ الْجَحُودِ كُلِّهَا مِنْ قَبِيلِ قَلْبِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، بِحَيْثُ يُنْفَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَجْعُولًا لِأَجْلِ فِعْلِ كَذَا، أَيْ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جُحُودًا.
وَالْمَنْفِيُّ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِيتَاءُ الْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ، وَلَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ مَصَبَّ النَّفْيِ هُوَ الْمَعْطُوفُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي أَيْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ كُونُوا عِبَادًا لِي إِذَا آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ إِلَخْ.
وَالْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ كَالْعَبِيدِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «الَّذِي اسْتَقْرَيْتُ فِي لَفْظِ الْعِبَادِ أَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ لَا يُقْصَدُ مَعَهُ التَّحْقِيرُ، وَالْعَبِيدُ يُقْصَدُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: «يَا عِبَادِيَ» وَسَمَّتِ الْعَرَبُ طَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ سَكَنُوا الْحِيرَةَ وَدَخَلُوا تَحْتَ حُكْمِ كِسْرَى بِالْعِبَادِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ تَنَصَّرُوا فَسَمَّوْهُمْ بِالْعِبَادِ، بِخِلَافِ جَمْعِهِ عَلَى عَبِيدٍ كَقَوْلِهِمْ: هُمْ عَبِيدُ الْعَصَا، وَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ الْمُطَلِّبِ هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأبي وَمِنْه قَول الله تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
٤٦] لأنّه مَكَان تَشْفِيقٌ وَإِعْلَامٌ بِقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ، وَلَمَّا
كَانَ لَفْظَةُ الْعِبَادِ تَقْتَضِي الطَّاعَةَ لَمْ تَقَعْ هُنَا، وَلِذَلِكَ آنَسَ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّظَرِ يُسْلَكُ بِهِ سُبُلُ الْعَجَائِبِ فِي مَيْزَةِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الطَّرِيقَة الْعَرَبيَّة السلبية». اه.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ قَيْدٌ قُصِدَ مِنْهُ تَشْنِيعُ الْقَوْلِ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لِلْقَائِلِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْسَلَخُوا عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى إِلَى عُبُودِيَّةِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ لِمَعْبُودِينَ، فَإِنَّ النَّصَارَى لَمَّا جَعَلُوا عِيسَى رَبًّا لَهُمْ، وَجَعَلُوهُ ابْنًا لِلَّهِ، قَدْ لَزِمَهُمْ أَنَّهُمُ انْخَلَعُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ فَلَا جَدْوَى لقَولهم: نَحن عبد اللَّهِ وَعَبِيدُ عِيسَى، فَلِذَلِكَ
294
جُعِلَتْ مَقَالَتُهُمْ مُقْتَضِيَةً أَنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ دُونِ اللَّهِ، وَالْمعْنَى أنّ لآمر بِأَنْ يَكُونَ النَّاسُ عِبَادًا لَهُ هُوَ آمِرٌ بِانْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أَيْ وَلَكِنْ يَقُول كونُوا ربانيين أَي كُونُوا مَنْسُوبِينَ لِلرَّبِّ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ النَّسَبَ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِ الْمَنْسُوبِ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ.
وَمعنى ذَلِك أَنْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالرَّبَّانِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا يُقَالُ اللِّحْيَانِيُّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ، وَالشَّعْرَانِيُّ لِكَثِيرِ الشَّعْرِ.
وَقَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ أَيْ لِأَنَّ عِلْمَكُمُ الْكِتَابَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَنْ إِشْرَاكِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ اللَّامِ- مُضَارِعُ علم. وقرأه ابْن عَامِرٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ مُضَارِعُ عَلَّمَ الْمُضَاعَفِ.
وتَدْرُسُونَ مَعْنَاهُ تَقْرَءُونَ أَيْ قِرَاءَةً بِإِعَادَةٍ وَتَكْرِيرٍ: لِأَنَّ مَادَّةَ دَرَسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَحُومُ حَوْلَ مَعَانِي التَّأَثُّرِ مِنْ تَكَرُّرِ عَمَلٍ يُعْمَلُ فِي أَمْثَاله، فَمِنْهُ قَوْلهم: دَرَسَتِ الرِّيحُ رَسْمَ الدَّارِ إِذَا عَفَتْهُ وَأَبْلَتْهُ، فَهُوَ دَارِسٌ، يُقَالُ مَنْزِلٌ دَارِسٌ، وَالطَّرِيقُ الدَّارِسُ الْعَافِي الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ. وَثَوْبٌ دَارِسٌ خَلَقٌ، وَقَالُوا: دَرَسَ الْكِتَابَ إِذَا قَرَأَهُ بِتَمَهُّلٍ لِحِفْظِهِ، أَوْ لِلتَّدَبُّرِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ
إِلَخْ»
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فَعَطَفَ التَّدَارُسَ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الدِّرَاسَةَ أَخَصُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ. وَسَمَّوْا بَيْتَ قِرَاءَةِ الْيَهُودِ مِدْرَاسًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ
فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى مِدْرَاسَ الْيَهُودِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمُ إِلَخْ. وَمَادَّةُ دَرَسَ تَسْتَلْزِمُ التَّمَكُّنَ مِنَ الْمَفْعُولِ فَلِذَلِكَ صَارَ دَرْسُ الْكِتَابِ مَجَازًا فِي فَهْمِهِ وَإِتْقَانِهِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ عَلَى بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ.
295
وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَمَصْدَرُهُ فِي غَالِبِ مَعَانِيهِ الدَّرْسُ، وَمَصْدَرُ دَرَسَ بِمَعْنَى قَرَأَ يَجِيءُ عَلَى الْأَصْلِ دَرْسًا وَمِنْهُ سُمِّيَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ دَرْسًا.
وَيَجِيءُ عَلَى وَزْنِ الْفِعَالَةِ دِرَاسَةٌ وَهِيَ زِنَةٌ تَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ الْفِعْلِ، مِثْلَ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ، إِلْحَاقًا لِذَلِكَ بِمَصَادِرِ الصِّنَاعَاتِ كَالتِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَأْمُرُكُمْ» بِالرَّفْعِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْأَصْلُ فِيمَا إِذَا أُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ بَعْدَ فِعْلٍ مَنْفِيٍّ، ثُمَّ انْتَقَضَ نَفْيُهُ بِلَكِنْ، احْتِيجَ إِلَى إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ: أَيْ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا إِلَخْ وَلَا هُوَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ أَرْبَابًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَنْ يَقُولَ وَلَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِبَشَرٍ، وَلَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِأَنْ: لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ الْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أُوتِيَ الْكِتَابَ أَلَا يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا، وَالْمَقْصُودُ عَكْسُ هَذَا الْمَعْنَى، إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْمُرَ، فَلِذَلِكَ اضْطُرَّ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى جَعْلِ لَا زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَلَيْسَتْ لِنَفْيٍ جَدِيدٍ. وَقَرَأَهُ الدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِاخْتِلَاسِ الضَّمَّةِ إِلَى السُّكُونِ.
وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً: أَنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَصَوَّرُوا صُوَرَ النَّبِيئِينَ، مِثْلَ يَحْيَى وَمَرْيَمَ، وَعَبَدُوهُمَا، وَصَوَّرُوا صور الْمَلَائِكَة، واقتران التَّصْوِيرُ مَعَ الْغُلُوِّ فِي تَعْظِيمِ الصُّورَةِ وَالتَّعَبُّدِ عِنْدَهَا ضَرْبٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «إِنْ قِيلَ نَفْيُ الْأَمْرِ أَعَمُّ مِنَ النَّهْيِ فَهَلَّا قِيلَ وَيَنْهَاكُمْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ دَعْوَاهُمْ وَتَقَوُّلِهِمْ عَلَى الرُّسُلِ». وَأَقُولُ: لَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِلَا يَأْمُرُكُمْ مُشَاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ:
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ فَلَمَّا نُفِيَ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ نُفِيَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ أَرْبَابًا، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ كَانَ سَائِرُ أَحْوَالِهِمْ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهَا مِنْهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ
ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ هَذَا مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ تَتَلَبَّسَ بِهِ أُمَّةٌ مُتَدَيِّنَةٌ فَاقْتَصَرَ، فِي الرَّدِّ عَلَى الْأُمَّةِ، عَلَى أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَبِالظَّرْفِ الْمُفِيدِ مَزِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى ارْتِكَابِهِمْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
296
فَهُنَالِكَ سَبَبَانِ لِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُرْضِيًّا أَنْبِيَاءَهُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِالْكُفْرِ. فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّ مَنْ يَتَّبِعُونَهُمُ التَّلَبُّسَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا مِنْهُ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ فَالْمُوَاجَهُ بِالْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَمَعْنَى أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَالْخِطَابُ لِلنَّصَارَى وَلَيْسَ دِينُهُمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِسْلَامٌ. فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْإِيمَانُ أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بِالْكُفْرِ.
وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَمْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِقَوْلِ رَجُلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا نَسْجُدُ لَكَ»، وَلَا أُرَاهُ- لَوْ كَانَ صَحِيحًا- أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ قَاصِدَةً إِيَّاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: ثُمَّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالسُّجُودِ إِلَيْهِ، وَلَمَا عَرَّجَ عَلَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا بِأَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ والنبيين أَرْبَابًا.
[٨١، ٨٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٨١ إِلَى ٨٢]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
عَطَفَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ [آل عمرَان: ٨٠] أَيْ مَا أَمَرَكُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَوَّلْتُمْ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَمَرُوكُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَأَضَعْتُمُوهُ حِينَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ لِيُبَلِّغُوهُ إِلَيْكُمْ، فَالْمَعْطُوفُ هُوَ ظَرْفُ (إِذْ) وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ.
297
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ (إِذْ) بِقَوْلِهِ: أَأَقْرَرْتُمْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ (إِذْ) بِمَعْنَى
زَمَانٍ غَيْرِ ظَرْفٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ أَخَذَ الله مِيثَاق النَّبِيين، فَالْمَقْصُودُ الْحِكَايَةُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَا مَعَهُ فَيَكُونُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ مَعْطُوفًا بِحَذْفِ الْعَاطِفِ. كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي جُمَلِ الْمُحَاوَرَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: قالُوا أَقْرَرْنا.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاق النَّبِيين: مِنْ أَنَّ النَّبِيِّينَ أَعْطَوْا مِيثَاقًا لِلَّهِ فَقَالَ:
أَأَقْرَرْتُمْ قَالُوا: أَقْرَرْنَا إِلَخْ. وَيَكُونَ قَوْله: لَما آتَيْتُكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَتَنْصُرُنَّهُ هُوَ صِيغَةُ الْمِيثَاقِ.
وَهَذَا الْمِيثَاقُ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيع الْأَنْبِيَاء، يؤذنهم فِيهِ بِأَنَّ رَسُولًا يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِنَصْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِعْلَامُ أُمَمَهِمْ بذلك ليَكُون هَذَا الْمِيثَاقُ مَحْفُوظًا لَدَى سَائِرِ الْأَجْيَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ إِلَخْ إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ التَّوَلِّي وَالْفِسْقُ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أُمَمُهُمْ كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَالَ: فَاشْهَدُوا أَيْ عَلَى أُمَمِكُمْ. وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩]، وَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَالَ لِيَ الرَّبُّ أقيم لَهُم نبيئا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ». وَإِخْوَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَبِيئًا إِسْرَائِيلِيًّا لَقَالَ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا مِنْهُمْ عَلَى مَا فِي تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ مِنْ غُمُوضٍ وَلَعَلَّ النَّص الْأَصْلِيّ أصرح مِنْ هَذَا الْمُتَرْجَمِ.
وَالْبِشَارَاتُ فِي كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل وَفِي الأناجيل كَثِيرَةٌ فَفِي مَتَّى قَوْلُ الْمَسِيحِ «وَتَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ- أَيْ يَبْقَى أَخِيرًا- إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَكْرِزُ (١) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى» وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ الْمَسِيحِ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ- وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سيرسله الْأَب بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ- وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزَّى رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
_________
(١) وَقعت كلمة يكرز فِي تَرْجَمَة إنجيل متّى، وَلَعَلَّ مَعْنَاهَا وَيحسن تَبْلِيغ الدَّين. [.....]
298
وَفِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ زِيَادَةُ تَنْوِيهٍ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ ظَاهِرُ
الْآيَةِ، وَبِهِ فَسَّرَ مُحَقِّقُو الْمُفَسِّرِينَ من السّلف وَالْخلف مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْن عَبَّاس، وطاووس، وَالسُّدِّيُّ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَقِيقَةً نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ:
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (تَوَهَّمُوهُ مُتَعَيِّنًا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَنْ تَوَلَّى مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُخَاطَبِينَ، وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ) فَتَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَسَلَكُوا مَسَالِكَ مُخْتَلِفَةً مِنَ التَّأْوِيلِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ إِضَافَةَ الْمِيثَاقِ لِلنَّبِيِّينَ إِضَافَةً تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ أَيْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ مِيثَاقَ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ حَذْفَ الْمُضَافِ أَي أُمَم النبيئين أَو أَوْلَاد النبيئين وَإِلَيْهِ مَالَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: إِنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّ لَفْظَ النَّبِيئِينَ غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ.
وَقَوْلُهُ: لَمَا آتَيْنَاكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَمَا» بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَاللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، لأنّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَآتَيْنَاكُمْ صِلَتُهُ وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ وَمِنْ كِتَابٍ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَعُطِفَ ثُمَّ جاءَكُمْ عَلَى آتَيْنَاكُمْ أَيِ الَّذِي آتَيْنَاكُمُوهُ وَجَاءَكُمْ بَعْدَهُ رَسُولٌ. وَلَتُؤْمِنُنَّ اللَّامُ فِيهِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالْجَوَابُ سَدَّ مَسَدَّ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَضَمِيرُ بِهِ عَائِد على الْمَذْكُور أَي لتؤمنّن بِمَا آتيناكم وبالرسول، أَو هُوَ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ وَحُذِفَ مَا يَعُودُ عَلَى مَا آتَيْنَاكُمْ لِظُهُورِهِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: بِكَسْرِ لَامِ لَمَا فَتَكُونُ اللَّام للتَّعْلِيل مُتَعَلق بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أَيْ شُكْرًا عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ وَعَلَى أَنْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا مُصَدِّقًا لِمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَلَا يَضُرُّ عَمَلُ مَا بَعْدَ لَامِ الْقَسَمِ فِيمَا قَبْلَهَا فَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا ثُمَّ عَلَّلَ جَوَابَ الْقَسَمِ بِأَنَّهُ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ الْإِيتَاءِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى تَعْلِيق لَما آتَيْتُكُمْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ الشُّكْرَ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ، لَا لَأَخْذِ الْعَهْدِ.
وَلَامُ لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَمُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.
299
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَر: آتينكم- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ آتَيْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَجُمْلَةُ قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ.
وَالْإِقْرَارُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحْقِيقِ بِالْوَفَاءِ مِمَّا أُخِذَ مِنَ الْمِيثَاقِ.
وَالْإِصْرُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الْمُوَثَّقُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِصَارِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ مَا يُعْقَدُ وَيُسَدُّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦].
وَقَوْلُهُ: فَاشْهَدُوا إِنْ كَانَ شَهَادَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهِيَ بِمَعْنَى التَّوَثُّقِ وَالتَّحْقِيقِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: ١٨] وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً عَلَى أُمَمِهِمْ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ فَالْمَعْنَى فَاشْهَدُوا عَلَى أُمَمِكُمْ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ شَاهِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا شَهِدَ النَّبِيئُونَ عَلَى الْأُمَمِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ مَنْ تَوَلَّى مِمَّنْ شَهِدْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْأُمَمُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي خُوطِبَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٢] : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ فِسْقَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَشَدُّ فِسْقٍ فَجَعَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْفسق كَالْعدمِ.
[٨٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٨٣]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
تَفْرِيعٌ عَنِ التَّذْكِيرِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّحْذِيرِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ تَبْغُونَ بتاء الْخطاب فَهُوَ خِطَابٍ لِأَهْلِ الْكِتَابِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ [آل عمرَان: ٨٠] وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ،
300
وَيَعْقُوبُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، إِعْرَاضًا عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكُلُّهُ تَفْرِيعُ ذِكْرِ أَحْوَالِ خَلَفِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ كَيْفَ اتَّبَعُوا غَيْرَ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ بِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْجِيبِ.
وَدِينُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ لِتَشْرِيفِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَوْمَئِذٍ قَدْ نُسِخَ بِمَا هُوَ دِينُ اللَّهِ.
وَمَعْنَى تَبْغُونَ وتطلبون يُقَالُ بَغَى الْأَمْرَ يَبْغِيهِ بُغَاءً- بِضَمِّ الْبَاءِ وَبِالْمَدِّ، وَيُقْصَرُ- وَالْبُغْيَةُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَهَاءٍ فِي آخِرِهِ قِيلَ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ اسْمٌ، وَيُقَالُ ابْتَغَى بِمَعْنَى بَغَى، وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلطَّلَبِ وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ الْبَغْيُ، لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعِ الْبَغْيُ إِلَّا فِي مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ وَالْجَوْرِ، وَذَلِكَ فِعْلُهُ قَاصِرٌ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الطَّلَبِ وَبَيْنَ الِاعْتِدَاءِ، فَأَمَاتُوا الْمَصْدَرَ الْقِيَاسِيَّ لِبَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ وَخَصُّوهُ بِبَغَى بِمَعْنَى اعْتَدَى وَظَلَمَ: قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى: ٤٢] وَيُقَالُ تَبَغَّى بِمَعْنَى ابْتَغَى.
وَجُمْلَةُ وَلَهُ أَسْلَمَ» حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَى الْإِسْلَامِ لِلَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠].
وَمَعْنَى طَوْعاً وَكَرْهاً أَنَّ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ أَسْلَمَ عَنِ اخْتِيَارٍ لِظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ بِالْجِبِلَّةِ وَالْفِطْرَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوِ الْإِسْلَامِ كَرْهًا هُوَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ أَيْ أَكْرَهَتْهُ الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ أَوْ هُوَ إِسْلَامُ الْكَافِرِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَرُؤْيَةُ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، أَوْ هُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.
وَالْكَرْهُ- بِفَتْحِ الْكَافِ- هُوَ الْإِكْرَاهُ، وَالْكُرْهُ- بِضَمِّ الْكَافِ- الْمَكْرُوهِ.
وَمَعْنَى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّهُ يُرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ فَفِعْلُ رَجَعَ الْمُتَعَدِّي أُسْنِدَ إِلَى الْمَجْهُولِ.
لِظُهُورِ فَاعِلِهِ، أَيْ يُرْجِعُكُمُ اللَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْقِيَامَةِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا، عَقِبَ التَّوْبِيخِ وَالتَّحْذِيرِ، أَنَّ الرَّبَّ الَّذِي لَا مَفَرَّ مِنْ حُكْمِهِ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ دِينٍ أَمَرَهُ بِهِ، وَحَقُّهُ أَنْ يُسْلِمَ إِلَيْهِ نَفْسَهُ مُخْتَارًا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَهَا اضْطِرَارًا.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَرْهاً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بياء الْغَيْبَة.
301

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٨٤]

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
الْمُخَاطَبُ بِفِعْلِ قُلْ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُولَ ذَلِكَ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ: مُسْلِمُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَيْ أُنْزِلَ عَلَيَّ لِتَبْلِيغِكُمْ فَجَعَلَ إِنْزَالَهُ عَلَى الرَّسُولِ وَالْأُمَّةِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أُنْزِلَ، وَعَدَّى فِعْلَ (أُنْزِلَ) هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِنْزَالَ يَقْتَضِي عُلُوًّا فَوُصُولُ الشَّيْءِ الْمُنَزَّلِ وُصُولُ اسْتِعْلَاءٍ وَعُدِّيَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِحَرْفِ (إِلَى) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِنْزَالَ يَتَضَمَّنُ الْوُصُولَ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى). وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ. وَاسْتِئْنَافٌ: لِتَلْقِينِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ كَلَامًا جَامِعًا لِمَعْنَى الْإِسْلَامِ لِيَدُومُوا عَلَيْهِ، وَيُعْلِنُ بِهِ لِلْأُمَمِ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمرَان: ٨٣].
وَمَعْنَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّنَا لَا نُعَادِي الْأَنْبِيَاءَ، وَلَا يَحْمِلُنَا حُبُّ نَبِيئِنَا عَلَى كَرَاهَتِهِمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ وَتَقْدِيرُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ وَآخَرَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمرَان: ١١٩].
وَهُنَا انْتَهَتِ الْمُجَادَلَةُ مَعَ نَصَارَى نَجْرَان.
[٨٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٨٥]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، كَمَا عَلِمْتَ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: نَحْنُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَنَحْنُ
نَاجُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالْمَعْنَى مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ بِإِظْهَارِ حَرْفَيِ الْغَيْنِ مِنْ كَلِمَةِ مَنْ يَبْتَغِ وَكَلِمَةِ غَيْرَ وَرَوَى السُّوَسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِدْغَامَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى وَهُوَ الْإِدْغَام الْكَبِير.
[٨٦]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٨٦]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يُنَاسِبُ مَا سَبَقَهُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَرَفِ الْإِسْلَامِ.
(وَكَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ وَالْمَقْصُودُ إِنْكَارُ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمْ هِدَايَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ إِمَّا
الْهِدَايَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْعَبْدِ وَلُطْفِهِ بِهِ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى اللَّهِ ظَاهِرٌ وَإِمَّا الْهِدَايَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ إِعْمَالِ الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْتَاجِ مِنْهَا، وَإِسْنَادُهَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوجِدُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِبْعَادِ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا وَعَلِمُوا مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْبِيَائِهِمْ، إِذْ عَبَدَ الْيَهُودُ الْأَصْنَامَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَعَبَدَ النَّصَارَى الْمَسِيحَ، وَقَدْ شَهِدُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ لِقِيَامِ دَلَائِلِ الصِّدْقِ، ثُمَّ كَابَرُوا، وَشَكَّكُوا النَّاسَ. وَجَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ فَلَمْ يَتَّعِظُوا، فَلَا مَطْمَعَ فِي هَدْيِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تَسْرِي الْهِدَايَةُ لِمَنْ أَنْصَفَ وَتَهَيَّأَ لِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ دُونَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَرَبِ أَسْلَمُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ ثُمَّ نَدِمُوا فَرَاسَلُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْأَلُونَهُمْ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ فَنَزَلَتْ، وَمِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ.
وَقَوْلُهُ: وَشَهِدُوا عَطْفٌ عَلَى إِيمانِهِمْ أَيْ وَشَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّ الِاسْمَ الشَّبِيهَ بِالْفِعْلِ فِي الِاشْتِقَاقِ يَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَطْفُ الْفِعْل عَلَيْهِ.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٨٧ إِلَى ٨٩]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
الْإِشَارَةُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَجْمَعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦١]. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَعْنَى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٠]، وَمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ. قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِي ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِقُرَيْشٍ وَقِيلَ بِنَصَارَى الشَّامِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ لِيَسْأَلَهُمْ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَسْلَمَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عِلَّةٌ لِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ لِأَنَّهُ غَفُور رَحِيم.
[٩٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
قَالَ قَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَوْصُولُ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ، فَالْيَهُودُ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِمُوسَى كَفَرُوا بِعِيسَى وَازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: فَالْيَهُودُ كَمَا عَلِمْتَ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِعِيسَى ثُمَّ كَفَرُوا فَعَبَدُوهُ وَأَلَّهُوهُ ثمَّ ازدادوا كفرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَأْوِيلُ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِمَّا أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٤٨] أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهَا فَتُقْبَلُ وَهَذَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ.
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ وَدَلِيلُهُ الْحَصْرُ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. وَإِمَّا أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِمَا يُظْهِرُونَهُ
مِنَ الْإِسْلَامِ نِفَاقًا، فَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْقَبُولِ عَدَمُ تَصْدِيقِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَإِمَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ فَصَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا، فَإِذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ فَهُمْ كَاذِبُونَ، فَيَكُونُ عَدَمُ الْقَبُولِ بِمَعْنَى عَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ لَهُمْ، وَأَسْرَارُهُمْ مَوْكُولَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْضُ الْيَهُودِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ: مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، فَالْمُرَادُ بِالِازْدِيَادِ الِاسْتِمْرَارُ وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا بِالْمُرَادِفِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وأياما كَانَ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ مُتَعَيِّنٌ: لِأَنَّ ظَاهِرَهَا تُعَارِضُهُ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ الْكَافِرِ مَقْبُولٌ، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَأَنَّ تَوْبَةَ الْعُصَاةِ مَقْبُولَةٌ، وَلَوْ وَقَعَ نَقْضُهَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَسَيَجِيءُ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٣٧] وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا.
[٩١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، نَشَأَ عَنْ حُكْمِ فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَكَرَّرَ مِنْهُمُ الْكُفْرُ حَتَّى رَسَخَ فِيهِمْ وَصَارَ لَهُمْ دَيْدَنًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الَّذِينَ ازْدَادُوا كُفْرًا الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِلْأُولَى
أُعِيدَتْ لِيُبْنَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِالْمَوْصُولِ هُنَا الْعُمُومُ مِثْلُ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مُؤْذِنَةٌ بِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ اسْمِ الشَّرْطِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ هِيَ عِلَّةُ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتَرِنْ خَبَرُ الْمَوْصُولِ بِالْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ
305
الَّتِي قَبْلَهَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمرَان: ٩٠] لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، بِخِلَافِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَسَبَبُ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ خَبَرِ (إِنَّ) وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ إِلَى آخِرِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) وَخَبَرِهَا مُقْتَرِنَةً بِالْفَاءِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الْأَنْفَال: ١٤] وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ خَبَرَ (إِنَّ).
وَمَعْنَى فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ يَفْتَدُونَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ قَبُولِ الِافْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا ضَرُورَةً أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. وَالْمِلْءُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- مَا يَمْلَأُ وِعَاءً، وَمِلْءُ الْأَرْضِ فِي كَلَامِهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ الْمُتَعَذِّرَةِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا يَمْلَؤُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ عَدَدُ رِمَالِ الدَّهْنَاءِ، وَعَدَدُ الْحَصَى، وَمُيِّزَ هَذَا الْمِقْدَارُ بِذَهَبًا لِعِزَّةِ الذَّهَبِ وَتَنَافُسِ النَّاسِ فِي اقْتِنَائِهِ وَقَبُولِ حَاجَةِ مَنْ بَذَلَهُ قَالَ الْحَرِيرِيُّ:
وَقَارَنَتْ نُجْحَ الْمَسَاعِي خَطْرَتُهُ
وَقَوْلُهُ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ جُمْلَةٌ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ وَلَوْ فِي حَالِ فَرْضِ الِافْتِدَاءِ بِهِ، وَحَرْفُ (لَوْ) لِلشَّرْطِ وَحَذْفُ جَوَابِهِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلِكَثْرَتِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّ لَوْ وَإِنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ فِي مِثْلِهِ مُجَرَّدَتَانِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا إِلَّا الْمُبَالَغَةُ، وَلَقَّبُوهُمَا بِالْوَصْلِيَّتَيْنِ: أَيْ أَنَّهُمَا لِمُجَرَّدِ الْوَصْلِ وَالرَّبْطِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ. وَتَرَدَّدُوا أَيْضًا فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ هَذَا الْمَوْقِعَ، وَفِي الْوَاوِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا وَاوُ الْحَالِ وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ جِنِّيٍّ، وَالْمَرْزُوقِيُّ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ جَعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً عَلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضِدُّ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النِّسَاء: ١٣٥]. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ جَعَلَ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ، ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ رَادًّا
عَلَيْهِ، وَلَيْسَ حَقِيقًا بِالرَّدِّ: فَإِنَّ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ مَوْقِعًا مَعَ هَذِهِ الْوَاوِ.
306
هَذَا وَإِنَّ مَوَاقِعَ هَذِهِ الْوَاوِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي بَعْدَهَا شَرْطٌ مَفْرُوضٌ هُوَ غَايَةُ مَا يُتَوَقَّعُ مَعَهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الَّذِي قَبْلَهَا، فَيَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُ لِقَصْدِ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب:
لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ فَاعْلَمْ وَإِنْ ردّيت بردا
وَلذَلِك جَرَتْ عَادَةُ النُّحَاةِ أَنْ يُقَدِّرُوا قَبْلَهَا شَرْطًا هُوَ نَقِيضُ الشَّرْطِ الَّذِي بَعْدَهَا فَيَقُولُونَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا- إِنْ لَمْ تُرَدَّ بُرْدًا بَلْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا- وَكَذَا قَوْلُ النَّابِغَةِ:
سَأَكْعَمُ كَلْبِي أَنْ يَرِيبَكَ نَبْحُهُ وَلَوْ كُنْتُ أَرْعَى مُسْحَلَانِ فَحَامِرَا
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ، وَرَدَ إِشْكَالٌ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّ مَا بَعْدَ وَلَوِ فِيهَا هُوَ عَيْنُ مَا قَبْلَهَا، إِذِ الِافْتِدَاءُ هُوَ عَيْنُ بَذْلِ مِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ إِنْ لَمْ يَفْتَدِ بِهِ بَلْ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى تَأْوِيلَاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمَعْنَى لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبَا يُنْفِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا يَفْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا الْوَجْهُ بِعِيدٌ، إِذْ لَا يُقَدَّرُ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ افْتِدَاءً حَتَّى يُبَالَغَ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى ملْء الْأَرْضِ ذَهَبًا، يُرِيدُ أنّ كلمة بملء الْأَرْضِ فِي قُوَّةِ كَلِمَةِ فِدْيَةٍ وَاخْتُصِرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالضَّمِيرِ، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ كَلِمَةٌ (مِثْلُ) قَبْلَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ:
أَيْ وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ أَيْ وَلَوْ زَادَ ضِعْفَهُ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ [الزمر: ٤٧].
وَعِنْدِي أَنَّ مَوْقِعَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالٍ غَفَلَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الشَّرْطُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ، مُحَقَّقٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، يَتَوَهَّمُهُ الْمُتَكَلِّمُ مِنَ الْمُخَاطب فيريد تَقْرِيره، فَلَا يَقْتَضِي أَنَّ شَرْطَهَا هُوَ غَايَةٌ لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ مُجَرَّدَ اسْتِغْرَابٍ مِنَ الْحُكْمِ فَيَقَعُ بِإِعَادَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْحُكْمُ تَثْبِيتًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: «ادْرِ مَا تَقُولُ» فَيُجِيبُ الْمُتَكَلِّمُ بِإِعَادَةِ السُّؤَالِ تَقْرِيرًا لَهُ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَنْ بَيِّنَةٍ، نَعَمْ إِنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنِ الْغَايَةِ وَذَلِكَ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ هَذَا:
307
وَقَدْ يُحْذَفُ السُّؤَالُ وَيَبْقَى الْجَوَابُ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدِمًا قَالَتْ وَإِنِِْ
لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
وَقَدْ يُذْكَرُ السُّؤَالُ وَلَا يُذْكَرُ الْجَوَابُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر: ٤٣] فَلَوْ ذُكِرَ الْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ الْمُشْرِكِينَ لَأَجَابُوا بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ جَوَابُ سُؤَالِ مُتَعَجِّبٍ مِنَ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فَأُجِيبَ بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ عَلَى حَدِّ بَيْتِ كَعْبٍ. فَمُفَادُ هَذَا الشَّرْطِ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ عَطْفًا عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ افْتَدَى: أَيْ لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا يَجْعَلُهُ رَهِينَةً. وَلَوْ بَذَلَهُ فِدْيَةً، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِحَقٍّ قَدْ يُعْطِي فِيهِ رَهْنًا إِلَى أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ أَوِ الْعَفْوُ، وَكَذَلِكَ فِي الدُّيُونِ، وَكَانُوا إِذَا تَعَاهَدُوا عَلَى صُلْحٍ أَعْطَتِ الْقَبَائِلُ رَهَائِنَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ:
وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا قُدِّ مَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ قَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: «نَرْهَنُكَ السِّلَاحَ وَاللَّامَةَ».
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَذْلَكَةٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ [آل عمرَان: ٩٠] الْآيَتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تَكْمِيلٌ لِنَفْيِ أَحْوَالِ الْغَنَاءِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِشَيْءٍ قَدْ يُعْطِي فِدْيَةً مِنْ مَالٍ، وَقَدْ يَكْفُلُهُ مَنْ يُوثَقُ بِكَفَالَتِهِمْ، أَوْ يَشْفَعُ لَهُ مَنْ هُوَ مَسْمُوعُ الْكَلِمَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْكَفِيلِ وَالشَّفِيع نَاصِر.
308

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٩٢]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمرَان: ٩١] الْآيَةَ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمرَان: ٩٣].
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِبَيَانِ بَعْضِ وَسَائِلِ الْبِرِّ إِيذَانٌ بِأَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِ الْبِرِّ، وَأَنَّ الْبِرَّ مَعْنًى نَفْسَانِيٌّ عَظِيمٌ لَا يَخْرِمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا مَا يُفْضِي إِلَى نَقْضِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الِاسْتِقَامَةِ النَّفْسَانِيَّةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْرَانِ: أَوَّلُهُمَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالتَّنْوِيهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْبِرِّ، وَثَانِيهِمَا التَّنْوِيهُ بِالْبِرِّ الَّذِي الْإِنْفَاقُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ.
وَمُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ تِلْوَ سَابِقَتِهَا أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ لَمَّا بَيَّنَتْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ أَعْظَمُ مَا يُنْفِقُهُ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةَ مَا يَنْفَعُ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ يبلغ بِصَاحِبِهِ إِلَى مَرْتَبَةَ الْبِرِّ، فَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ قَدْ عَلِمَهَا الْفُطَنَاءُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ خِطَابٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ مَا يُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ.
وَالْبِرُّ كَمَالُ الْخَيْرِ وَشُمُولُهُ فِي نَوْعِهِ: إِذِ الْخَيْرُ قَدْ يَعْظُمُ بِالْكَيْفِيَّةِ، وَبِالْكَمِّيَّةِ، وَبِهِمَا مَعًا، فَبَذْلُ النَّفْسِ فِي نَصْرِ الدِّينِ يَعْظُمُ بِالْكَيْفِيَّةِ فِي مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ بِالْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَكَذَلِكَ إِنْقَاذُ الْغَرِيقِ فِي حَالَةِ هَوْلِ الْبَحْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَعَدُّدٌ، وَإِطْعَامُ الْجَائِعِ يَعْظُمُ بِالتَّعَدُّدِ، وَالْإِنْفَاقُ يَعْظُمُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْجَزَاءُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ إِذَا بَلَغَ كَمَالَ الْجَزَاءِ وَشُمُولَهُ كَانَ بَرًّا أَيْضًا.
5
وَرَوَى النَّوَّاسُ بْنُ سِمْعَانَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ
. وَمُقَابَلَةُ الْبِرِّ بِالْإِثْمِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِرَّ ضِدُّ الْإِثْمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ١٧٧].
وَقَدْ جُعِلَ الْإِنْفَاقُ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الْمُحَبِّ غَايَةً لِانْتِفَاءِ نَوَالِ الْبِرِّ، وَمُقْتَضَى الْغَايَةِ أَنَّ نَوَالَ الْبِرِّ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ قَبْلَ الْإِنْفَاقِ مَسَافَاتٍ مَعْنَوِيَّةً فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْبِرِّ، وَتِلْكَ هِيَ خِصَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا بَقِيَتْ غَيْرَ مَسْلُوكَةٍ، وَأَنَّ الْبِرَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِنِهَايَتِهَا وَهُوَ الْإِنْفَاقُ مِنَ المحبوب، فَظهر ل (حتّى) هُنَا مَوْقِعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَخْلُفُهَا فِيهِ غَيْرُهَا: لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ إِلَّا أَنْ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنَ الْمُحَبِّ وَحْدَهُ يُوجِبُ نَوَالَ الْبِرَّ، وَفَاتَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الَّتِي أَشْعَرَتْ بِهَا (حتّى) الغائية.
و (تنالوا) مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوَالِ وَهُوَ التَّحْصِيلُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبِرِّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ: لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا
الْإِنْفَاقُ الْمَخْصُوصُ، فَبِدُونِهِ لَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ.
وَالْإِنْفَاقُ: إِعْطَاءُ الْمَالِ وَالْقُوتِ وَالْكِسْوَة.
وَمَا صدق (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُحِبُّونَ الْمَالَ: أَي المَال النَّفِيسَ الْعَزِيزَ عَلَى النَّفْسِ، وَسَوَّغَ هَذَا الْإِبْهَامَ هُنَا وُجُودُ تُنْفِقُوا إِذِ الْإِنْفَاقُ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ بذل المَال ف (من) لِلتَّبْعِيضِ لَا غَيْرَ، وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْيِينِ فَقَدْ سَهَا لأنّ التبيينية لَا بدّ أَنْ تُسْبَقَ بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ.
وَالْمَالُ الْمَحْبُوبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَرَغَبَاتِهِمْ، وَسَعَةِ ثَرَوَاتِهِمْ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْهُ أَيِ التَّصُدُّقُ دَلِيلٌ عَلَى سَخَاءٍ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ بَقِيَّةِ مَا فِيهَا مِنَ الشُّحِّ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ إِذْ تَجُودُ أَغْنِيَاؤُهَا عَلَى فُقَرَائِهَا بِمَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ فَتَشْتَدُّ بِذَلِكَ أَوَاصِرُ الْأُخُوَّةِ، وَيَهْنَأُ عَيْشُ الْجَمِيعِ.
6
رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ بِئْرَ حَاءٍ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي بِئْرُ حَاءٍ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَخٍ (١) ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ خِصَالَ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
فَالْبِرُّ هُوَ الْوَفَاءُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ فِي أَفْعَالِهِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة: ٢] فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ تَعْمِيمُ أَنْوَاعِ الْإِنْفَاقِ، وَتَبْيِينُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْمُنْفِقِينَ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ نَفِيسًا بِحَسْبِ حَالِ صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [التَّوْبَة: ٧٩].
_________
(١) فِي رِوَايَة يحيى بن يحيى عَن مَالك فبخ بفاء قبل الْبَاء الْمُوَحدَة وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك فِي «صَحِيح البُخَارِيّ»
بخ بِدُونِ الْفَاء.
7
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ مُرَادٌ بِهِ صَرِيحُهُ أَيْ يَطَّلِعُ عَلَى مِقْدَارِ وَقْعِهِ مِمَّا رَغَّبَ فِيهِ، وَمُرَادٌ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْجَزَاء عَلَيْهِ.
[٩٣- ٩٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٩٣ إِلَى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
هَذَا يَرْتَبِطُ بِالْآيِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا [آل عمرَان: ٦٧] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ وَانْتِقَالَاتٌ فِي فُنُونِ الْخِطَابِ.
وَهَذِهِ حُجَّةٌ جُزْئِيَّةٌ بَعْدَ الْحُجَجِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ دِينَ الْيَهُودِيَّةِ لَيْسَ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ لَمْ يَكُنْ مَا حُرِّمَ مِنَ الطَّعَامِ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ مُحَرَّمًا فِيهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مَا حُرِّمَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا طَعَامًا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْحُجَّةُ ظَاهِرَةٌ وَيَدُلُّ لِهَذَا الِارْتِبَاطِ قَوْلُهُ فِي آخِرِهَا: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [آل عمرَان: ٩٥].
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْيَهُودَ- مَعَ ذَلِكَ- طَعَنُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَكْلَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الْيَهُودِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِتَارِيخِ تَشْرِيعِهِمْ، أَوْ تَضْلِيلًا مِنْ أَحْبَارِهِمْ لِعَامَّتِهِمْ، تَنْفِيرًا عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأُمَمَ فِي سَذَاجَتِهِمْ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُونَ بِالْمَأْلُوفَاتِ، فَيَعُدُّونَهَا كَالْحَقَائِقِ، وَيُقِيمُونَهَا مِيزَانًا لِلْقَبُولِ وَالنَّقْدِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِي بَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ، وَحَسْبُكُمْ أَنَّ دِينًا عَظِيمًا وَهُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، وَزُمْرَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِيهِ وَحَفَدَتِهِ، لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ.
8
وَتَعْرِيفُ (الطَّعَامِ) تَعْرِيف الْجِنْس، و (كلّ) لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ مَا فِي التَّوْرَاةِ دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِ النَّسَخِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَكْلَ عِرْقِ النَّسَا الَّذِي عَلَى الْفَخِذِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النُّذُرِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ نَهَوْهُ عَنْ أَكْلِ مَا فِيهِ عِرْقُ النَّسَا لِأَنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِوَجَعِ نَسَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ فِي الْبَدْوِ فَلَمْ تَسْتَقِمْ عَافِيَتُهُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهِ النَّسَا. وَمَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الطَّعَامِ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَبَعْضُهُ أَرَادَ بِهِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ الْمُشْتَهَاةِ، وَهَذَا مِنْ جِهَادِ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالْعَزْمِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي التَّشْرِيعِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَعَلَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ تَأَسَّوْا بِأَبِيهِمْ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ تَصْرِيحٌ بِمَحَلِّ الْحُجَّةِ مِنَ الرَّدِّ إِذِ الْمَقْصُودُ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا تَنَاسَوْهُ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِكَوْنِ يَعْقُوبَ كَانَ قَبْلَ مُوسَى، وَقَالَ الْعِصَامُ: يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ بِقَوْلِهِ: حِلًّا لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّهُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ حِلًّا وَتَبَيَّنَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى زَمَنِ يَعْقُوبَ، صَارَ ذِكْرُ الْقَيْدِ لَغْوًا لَوْلَا تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ، وَقَصْدُ إِعْلَانِ التَّسْجِيلِ بِخَطَئِهِمْ وَالتَّعْرِيضُ بِغَبَاوَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا قُلْنَاهُ أَوْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ: مِنْ قَوْلِكُمْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلتَّعْجِيزِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِهَا إِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الصِّدْقِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا فَاءُ التَّفْرِيعِ.
9
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ التَّفْرِيعِ الَّذِي قَبْلَهُ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
نِهَايَةٌ لِتَسْجِيلِ كَذِبِهِمْ أَيْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، أَيْ فَمَنِ افْتَرَى مِنْكُمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلْنَا
التَّوْرَاةَ فَيْصَلًا بَيْنَنَا، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدَّعُوهُ شُبْهَةً لَهُمْ فِي الِاخْتِلَاقِ، وَجُعِلَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ لِتَعَلُّقِهِ بِدِينِ اللَّهِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْأَمْرِ.
وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَهُوَ مُرَادِفُ الِاخْتِلَاقِ. وَالِافْتِرَاءُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَرْيِ، وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدِ قِطَعًا لِيُصْلَحَ بِهِ مِثْلَ أَنْ يُحْذَى النَّعْلَ وَيُصْنَعَ النَّطْعُ أَوِ الْقِرْبَةُ. وَافْتَرَى افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى لَعَلَّهُ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْفَرْيِ، يُقَالُ: افْتَرَى الْجِلْدَ كَأَنَّهُ اشْتَدَّ فِي تَقْطِيعِهِ أَوْ قَطَّعَهُ تَقْطِيعَ إِفْسَادٍ، وَهُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِ افْتَرَى. فَأَطْلَقُوا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ بِأَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَقَعِ اسْمُ الِافْتِرَاءِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، كَأَنَّ أَصْلَهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَذِبِ وَتَلْمِيحٌ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مُرَادِفًا لِلْكَذِبِ، وَنَظِيرُهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الِاخْتِلَاقِ عَلَى الْكَذِبِ، فَالِافْتِرَاءُ مُرَادِفٌ لِلْكَذِبِ، وَإِرْدَافُهُ بِقَوْلِهِ هُنَا: «الْكَذِبَ» تَأْكِيدٌ لِلِافْتِرَاءِ، وَتَكَرَّرَتْ نَظَائِرُ هَذَا الْإِرْدَافِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فَانْتَصَبَ «الْكَذِبُ» عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق الموكّد لِفِعْلِهِ. وَاللَّامُ فِي الْكَذِبِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٨].
وَالْكَذِبُ: الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى كَوْنِ الْخَبَرِ مُوَافِقًا لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ أَوْ هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْخَبَرِ الْمُخَالَفَةُ لِلْوَاقِعِ وَالْمُخَالَفَةُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ كَانَ ذَلِكَ مَذْمُومًا وَمَسَبَّةً وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدًا وُقُوعُهُ لِشُبْهَةٍ أَوْ سُوءِ تَأَمُّلٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُحَقَّرُ الْمُخْبِرُ بِهِ، وَالْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُعْنَى بِالْكَذِبِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ.
ثُمَّ أَعْلَنَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ فِي جَانِبِهِ الصِّدْقُ هُوَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجَزْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ
10
بِالتَّوْرَاةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [الْبَقَرَة: ٩٥] وَبَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ إِعْلَانِ كَذِبِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ قَالَ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِمْ لِأَنَّ صِدْقَ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْآخَرِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَالْكِنَائِيِّ.
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً تَفْرِيعٌ عَلَى صَدَقَ اللَّهُ لَأَنَ اتِّبَاعَ الصَّادِقِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مَنْجَاةٌ مِنَ الْخَطَرِ.
[٩٦، ٩٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
هَذَا الْكَلَامُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [آل عمرَان: ٩٥] لِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ الْمُنَوَّهَ بِشَأْنِهِ كَانَ مَقَامًا لِإِبْرَاهِيمَ فَفَضَائِلُ هَذَا الْبَيْتِ تُحَقِّقُ فَضِيلَةَ شَرْعِ بَانِيهِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ خِطَابِيٌّ، وَهُوَ أَيْضًا إِخْبَارٌ بِفَضِيلَةِ الْكَعْبَةِ، وَحُرْمَتِهَا- فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ-.
وَقَدْ آذَنَ بِكَوْنِ الْكَلَامِ تَعْلِيلًا مَوْقِعُ (إِنَّ) فِي أَوَّلِهِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ بِإِنَّ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ وَلَيْسَ لِرَدِّ إِنْكَارِ مُنْكِرٍ، أَوْ شَكِّ شَاكٍّ.
وَمِنْ خَصَائِصِ (إِنَّ) إِذَا وَرَدَتْ فِي الْكَلَامِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، أَنْ تُغْنِيَ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، كَمَا فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.
وَلِمَا فِي هَذِهِ مِنْ إِفَادَةِ الرَّبْطِ اسْتُغْنِيَ عَنِ الْعَطْفِ لِكَوْنِ (إِنَّ) مُؤْذِنَةً بِالرَّبْطِ. وَبَيَانُ وَجْهِ التَّعْلِيلِ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لَمَّا كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْهُدَى وَإِعْلَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِيَكُونَ عَلَمًا مَشْهُودًا بِالْحِسِّ عَلَى مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيِ الْإِشْرَاكِ، فَقَدْ كَانَ جَامِعًا لِدَلَائِلِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ شَرَفُ الْأَوَّلِيَّةِ وَدَوَامُ الْحُرْمَةِ عَلَى مَمَرِّ الْعُصُورِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْهَيَاكِلِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي نَشَأَتْ بعده، وَهُوَ مائل، كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً إِلَهِيَّةً عَلَى أَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ الَّذِي
11
قَارَنَ إِقَامَتَهُ هُوَ الدَّيْنُ الْمُرَادُ لله، وَهَذَا يؤول إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩].
وَهَذَا التَّعْلِيلُ خِطَابِيٌّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وأَوَّلَ اسْمٌ لِلسَّابِقِ فِي فِعْلٍ مَا فَإِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ فَهُوَ السَّابِقُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الشَّأْنِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ.
وَالْبَيْت بِنَاء يأوي وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، فَيَكُونُ بَيْتَ سُكْنَى، وَبَيْتَ صَلَاةٍ، وَبَيْتَ نَدْوَةٍ، وَيَكُونُ مَبْنِيًّا مِنْ حَجَرٍ أَوْ مِنْ أَثْوَابِ نَسِيجِ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ، وَيَكُونُ مِنْ أَدَمٍ فَيُسَمَّى قُبَّةً قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٨١].
وَمَعْنَى وُضِعَ أُسِّسَ وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَكَانُ مَوْضِعًا. وَأَصْلُ الْوَضْعِ أَنَّهُ الْحَطُّ ضِدُّ الرَّفْعِ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الْمَرْفُوعُ بَعِيدًا عَنِ التَّنَاوُلِ، كَانَ الْمَوْضُوعُ هُوَ قَرِيبَ التَّنَاوُلِ، فَأُطْلِقَ الْوَضْعُ لِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ لِلْمُتَنَاوَلِ، وَالتَّهْيِئَةِ للِانْتِفَاع.
و (النّاس) تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨].
وبكة اسْمُ مَكَّةَ. وَهُوَ لُغَةٌ- بِإِبْدَالِ الْمِيمِ بَاءً- فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ عُدَّتْ مِنَ الْمُتَرَادِفِ: مَثَلُ لَازِبٍ فِي لَازِمٍ، وَأَرْبَدَ وَأَرْمَدَ أَيْ فِي لَوْنِ الِرَمَادِ، وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ بَكَّةَ بِالْبَاءِ اسْمُ مَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ مَكَّةَ بِالْمِيمِ اسْمُ بَقِيَّةِ الْمَوْضِعِ، فَتَكُونُ بَاءُ الْجَرِّ- هُنَا- لِظَرْفِيَّةِ مَكَانِ الْبَيْتِ خَاصَّةً. لَا لِسَائِرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْتُ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ بَكَّةَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْبَلْدَةِ وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَمًا عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِسُكْنَى وَلَدِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَكُونَ بَلَدًا، فَيَكُونُ أَصْلُهُ
12
مِنَ اللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ، لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا مَدِينَةَ (بَعْلَبَكَّ) أَيْ بَلَدَ بَعْلٍ وَهُوَ مَعْبُودُ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَمِنْ إعجاز الْقُرْآن اخْتِيَار هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ ذِكْرِ كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ، فَلَاحِظْ أَيْضًا الِاسْمَ الْأَوَّلَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْل: ٩١] وَقَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إِبْرَاهِيم: ٣٥]. وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ بَكَّةَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَكِّ وَهُوَ الِازْدِحَامُ، وَلَا أَحْسَبُ قُصِدَ ذَلِكَ لِوَاضِعِ الِاسْمِ.
وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِ الْبَيْتِ بِاسْمِهِ الْعَلَمَ بِالْغَلَبَةِ، وَهُوَ الْكَعْبَةُ، إِلَى تَعْرِيفِهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ بِأَنَّهُ (الَّذِي بِبَكَّةَ) : لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ صَارَتْ أَشْهَرَ فِي تَعَيُّنِهِ عِنْدَ السَّامِعِينَ، إِذْ لَيْسَ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ بَيْتٌ لِلْعِبَادَةِ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ اسْمِ الْكَعْبَةِ: فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْكَعْبَةِ عَلَى الْقُلَّيْسِ الَّذِي بَنَاهُ الْحَبَشَةُ فِي صَنْعَاءَ لِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَقَّبُوهُ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ.
وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ سَبْقِ الْكَعْبَةِ فِي الْوُجُودِ قَبْلَ بُيُوتٍ أُخَرَ مِنْ نَوْعِهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْكَعْبَةَ أَوَّلُ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ، فَتَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ، وَجَمَاعَةٌ، فَقَالُوا: هِيَ أَوَّلُ بِنَاءٍ، وَقَالُوا: أَنَّهَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً مِنْ عَهْدِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ثُمَّ دُرِسَتْ، فَجَدَّدَهَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَتْ فِي هَذَا أَقَاصِيصُ أَسَانِيدُهَا ضِعَافٌ فَلِذَلِكَ تَرَكْتُهَا، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تُسَمَّى الضِّرَاحَ- بِوَزْنِ غُرَابٍ- وَلَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ وَجُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ، وَتَأَوَّلُوا الْآيَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
«كَانَ قَبْلَ الْبَيْتِ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَعْبَةَ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ تَعَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ بِنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ لَزِيدَ ذِكْرُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهَا، وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ بِنَاءٍ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ، لَأَنَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ أُمَمًا وَعُصُورًا كَانَ فِيهَا الْبِنَاءُ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ بُرْجُ بَابِلَ، بُنِيَ إِثْرَ الطُّوفَانِ، وَمَا بَنَاهُ الْمِصْرِيُّونَ قَبْلَ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا بَنَاهُ الكلدان فِي بدل إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ رِحْلَتِهِ إِلَى مِصْرَ، وَمِنْ ذَلِكَ بَيْتُ أَصْنَامِهِمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ هَاجَرُ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ مَلِكُ مِصْرَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْهُمْ قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الثافات: ٩٧] فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِوَجْهٍ ظَاهِرٍ، وَقَدْ سَلَكَ الْعُلَمَاءُ مَسَالِكَ فِيهِ: وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْوِيلِ الْأَوَّلِ، أَوْ تَأْوِيلِ الْبَيْتِ، أَوْ تَأْوِيلِ فِعْلِ وُضِعَ،
13
أَوْ تَأْوِيلِ النَّاسِ، أَوْ تَأْوِيلِ نَظْمِ الْآيَةِ، وَالَّذِي أَرَاهُ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ دِينٍ وَهُدًى، فَلَيْسَ غَرَضُ الْكَلَامِ فِيهِ ضَبْطَ أَوَائِلِ التَّارِيخِ، وَلَكِنْ أَوَائِلُ أَسْبَابِ الْهُدَى، فَالْأَوَّلِيَّةُ فِي الْآيَةِ عَلَى بَابِهَا، وَالْبَيْتُ كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتِ عِبَادَةٍ حَقَّةٍ وُضِعَ لِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وُضِعَ لِلنَّاسِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ وَاضِعٍ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْتَ سُكْنَى لَقِيلَ وَضَعَهُ النَّاسُ، وَبِقَرِينَةِ مَجِيءِ الْحَالَيْنِ بَعْدُ وَهُمَا قَوْلُهُ: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي مَعْنَى بَيْتٍ، وَإِذَا كَانَ أَوَّلَ بَيْتِ عِبَادَةٍ حَقٍّ، كَانَ أَوَّلَ مَعْهَدٍ لِلْهُدَى، فَكَانَ كلّ هدى مقتسبا مِنْهُ فَلَا مَحِيصَ لِكُلِّ قَوْمٍ كَانُوا عَلَى هُدًى مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهِ وَبِفَضْلِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْمِلَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أُسُسِ مِلَّةِ بَانِيهِ، وَهَذَا المفاد من تَفْرِيع قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الْبَقَرَة: ٩٥].
وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،
فَرَوَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ؟ قَالَ: «لَا، قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا وَهُدًى»
فَجَعَلَ مُبَارَكًا وَهُدًى حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وُضِعَ لَا مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي النَّظْمِ لَا يَنْسَاقُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْهُدَى كَمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وُضِعَ هُوَ الْخَبَرُ لِتَعَيُّنِ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ: لَلَّذِي بِبَكَّةَ بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَيْهِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: الْكَعْبَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ أَوَّلَ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا مِنْ جِنْسِ الْبُيُوتِ كُلِّهَا.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الْأَشْرَفَ مَجَازًا.
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ الْمَعْهُودِينَ وَهُمْ أَهْلُ الْكُتُبِ أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّهُمْ يَعْتَرِفُ بِأَصَالَةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَوَّلُ مَعْبَدٍ بِإِجْمَاعِهِمْ هُوَ الْكَعْبَةُ فَيَلْزَمُهُمُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ أَفْضُلُ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ.
14
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَوَّلِيَّةُ مُوجِبَةَ التَّفْضِيلِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَةِ لَا تَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ، إِذْ هِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنْ طُولِ أَزْمَانِ التَّعَبُّدِ فِيهَا، وَبِنِسْبَتِهَا إِلَى بَانِيهَا، وَبِحُسْنِ الْمَقْصِدِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: ١٠٨].
وَقَدْ جَمَعَتِ الْكَعْبَةُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَزَايَا فَكَانَتْ أَسْبَقَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْحَقِّ، وَهِيَ أَسْبَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِتِسْعَةِ قُرُونٍ. فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى الْكَعْبَةَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ١٩٠٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَسُلَيْمَانُ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَنَةَ ١٠٠٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَالْكَعْبَةُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ بِيَدِهِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بِيَدِ رَسُولٍ. وَأَمَّا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَبَنَاهَا الْعَمَلَةُ لِسُلَيْمَانَ بِأَمْرِهِ.
وَرُوِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ:
الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:
أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاسْتَشْكَلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ قُرُونًا فَكَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ دُرِسَ فَجَدَّدَهُ سُلَيْمَان.
وَأَقُول: لَا شكّ أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ كَمَا هُوَ نَصُّ كِتَابِ الْيَهُودِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ [سبأ: ١٣] الْآيَةَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا مَرَّ بِبِلَادِ الشَّامِ وَوَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يُورِثَ تِلْكَ الْأَرْضَ نَسْلَهُ عَيَّنَ الله لَهُ الْوَضع الَّذِي سَيَكُونُ بِهِ أَكْبَرُ مَسْجِدٍ تَبْنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ مَسْجِدًا صَغِيرًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الْمَجْعُولَةِ مَذْبَحًا لِلْقُرْبَانِ. وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي بَنَى سُلَيْمَانُ عَلَيْهَا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ دُثِرَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ حَتَّى هَدَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ إِلَى إِقَامَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَهْمَلَتْهُ كُتُبُ الْيَهُودِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى مَذَابِحَ فِي جِهَاتٍ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُعْطِي تِلْكَ الْأَرْضَ لِنَسْلِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَى أَيْضًا بِمَوْضِعِ مَسْجِدِ أُرْشَلِيمَ مَذْبَحًا.
15
ومُبارَكاً اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَارَكَ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَ لَهُ بَرَكَةً وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الْخَيْرِ. أَيْ جُعِلَتِ الْبَرَكَةُ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلُهُ مُثَابًا وَمُحَصَّلًا عَلَى خَيْرٍ يَبْلُغُهُ عَلَى مَبْلَغِ نِيَّتِهِ، وَقَدَّرَ لِمُجَاوِرِيهِ وَسُكَّانِ بَلَدِهِ أَنْ يَكُونُوا بِبَرَكَةِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَرَفَاهِيَةِ الْحَالِ، وَأَمَرَ بِجَعْلِ دَاخِلِهِ آمِنًا، وَقَدَّرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَرَكَةً. وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ [٩٢].
وَوَصَفَهُ بِالْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُدىً مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ سَبَبُ هُدَى.
وَجُعِلَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ: لِأَنَّ شُهْرَتَهُ وَتَسَامُعَ النَّاسِ بِهِ، يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّسَاؤُلِ عَنْ سَبَبِ وَضْعِهِ، وَأَنَّهُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَتَطْهِيرِ النُّفُوسِ مِنْ خُبْثِ الشِّرْكِ فَيَهْتَدِي بِذَلِكَ الْمُهْتَدِي، وَيَرْعَوِي الْمُتَشَكِّكُ.
وَمِنْ بَرَكَةِ ذَاتِهِ أَنَّ حِجَارَتَهُ وَضَعَتْهَا عِنْدَ بِنَائِهِ يَدُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَدُ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ يَدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا سِيَّمَا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ. وَانْتَصَبَ مُبارَكاً وَهُدىً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ اسْمُ الْمَوْصُولِ.
وَجُمْلَةُ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ بِمَا حَفَّ بِهِ مِنَ الْمَنَاقِبِ وَالْمَزَايَا فَغُيِّرَ الْأُسْلُوبُ لِلِاهْتِمَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُجْعَلِ الْجُمْلَةُ حَالًا، فَتُعْطَفُ عَلَى الْحَالَيْنِ قَبْلَهَا، لِأَنَّ مُبَارَكًا وَهُدًى وَصْفَانِ ذَاتِيَّانِ لَهُ، وَحَالَانِ مُقَارِنَانِ، وَالْآيَاتُ عَوَارِضُ عَرَضَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، أَوْ هِيَ حَالٌ ثَالِثَةٌ وَلَمْ تُعْطَفْ بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَمَا قَبْلَهَا مُفْرِدَانِ وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَاوَ فِيهَا وَاوُ الْحَالِ، فَتَكُونُ فِي صُورَتِهَا جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْأَفْصَحِ فِي مِثْلِهَا مِنْ عَدَمِ الِاقْتِرَانِ بِالْوَاوِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، فَلَوْ قُرِنَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَالْتُبِسَتْ بِوَاوِ الْحَالِ، فَكُرِهَتْ فِي السَّمْعِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْقَطْعِ لِدَفْعِ اللَّبْسِ، أَوْ نَقُولُ هِيَ حَالٌ وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى الْأَحْوَالِ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ، فَاسْتَغْنَتْ بِالضَّمِيرِ عَنْ رَابِطِ الْعَطْفِ.
وَوَصْفُ الْآيَاتِ بِبَيِّنَاتٍ لِظُهُورِهَا فِي عِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ. وَجِمَاعُ هَذِهِ
16
الْآيَاتِ هِيَ مَا يَسَرَّهُ اللَّهُ لِسُكَّانِ الْحَرَمِ وَزَائِرِيهِ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَضْرَارِ، عَلَى حَالَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَائِرُ الْعَرَبِ، وَقَمَعُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، مَعَ تَكَالُبِهِمْ عَلَى إِرْضَاءِ نُفُوسِهِمْ.
وَأَعْظَمُهَا الْأَمْنُ، الَّذِي وُطِّنَ عَلَيْهِ نُفُوسُ جَمِيعِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعَ عَدَمِ تَدَيُّنِهِمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُلَاقِي قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَنَالُهُ بِسُوءٍ، وَتَوَاضُعُ مِثْلِ هَذَا بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْقَبَائِلِ، ذَاتِ اخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، آيَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَكَذَلِكَ تَأْمِينُ وَحْشِهِ مَعَ افْتِتَانِ الْعَرَبِ بِحُبِّ الصَّيْدِ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ مَنْ قَصْمِ كُلِّ مَنْ رَامَهُ بِسُوءٍ، وَمَا انْصِرَافُ الْأَحْبَاشِ عَنْهُ بَعْدَ امْتِلَاكِهِمْ جَمِيعَ الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ إِلَّا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِيهِ. وَمِنْهَا انْبِثَاقُ الْمَاءِ فِيهِ لِإِسْمَاعِيلَ حِينَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ. وَافْتِدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ حِينَ أَرَادَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قُرْبَانَهُ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ
وَتَوَارَثُوا خَبَرَهُ أَبًا عَنْ جَدٍّ مِنْ نُزُولِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى أَبِي قَبِيسٍ بِمَرْأَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَعَلَّهُ حَجَرٌ كَوْكَبِيٌّ. وَمِنْهَا تَيْسِيرُ الرِّزْقِ لِسَاكِنِيهِ مَعَ قُحُولَةِ أَرْضِهِ، وَمُلُوحَةِ مَائِهِ.
وَقَوْلُهُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ أَصْلُ الْمَقَامِ أَنَّهُ مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِيَامُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّائِعِ وَهُوَ ضِدُّ الْقُعُودِ، وَيُطْلَقُ عَلَى خُصُوصِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَرَفْعُ مَقَامٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ عَلَى لَلَّذِي بِبَكَّةَ، أَيْ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ الْبَيْتُ الَّذِي بِبَكَّةٍ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ عَلَى الْحَذْفِ الَّذِي سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي، التَّابِعِينَ لِاصْطِلَاحِ السَّكَّاكِيِّ، بِالْحَذْفِ لِلِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي عَلَى تَرْكِهِ، وَذَلِكَ فِي الرَّفْعِ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الذَّمِّ، أَوِ التَّرَحُّمِ، بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ كَقَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ الْقَيْنِيِّ:
فَإِنَّ بَنِي لَأْمِ بْنِ عَمْرٍو أَرُومَةٌ سَمَتْ فَوْقَ صَعْبٍ لَا تُنَالُ مَرَاقِبُهُ
نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ بَدَا كَوْكَبٌ تَأْوِي إِلَيْهِ كَوَاكِبُهُ
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ.
17
وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَنَّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيْ مَحَلُّ قِيَامِهِ لِلصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَة: ١٢٥] وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمْ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَائِمْ
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْحَجَرَ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الصَّخْرَةِ الَّتِي ارْتَقَى عَلَيْهَا لِيَرْفَعَ جُدْرَانَ الْكَعْبَةِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَمَّا يُعْتَرَضُ بِهِ مِنْ لُزُومِ تَبْيِينِ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ بِأَنَّ هَذَا الْمُفْرَدَ فِي قُوَّةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُ آيَاتٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى نُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِمُعْجِزَةٍ لَهُ وَعَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ الْأَثَرِ مَعَ تَلَاشِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ فِي طِيلَةِ الْقُرُونِ آيَةٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً عَطْفٌ عَلَى مَزَايَا الْبَيْتِ وَفَضَائِلِهِ مِنَ الْأَمْنِ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَامْتِنَانٌ بِمَا تَقَرَّرَ فِي مَاضِي الْعُصُورِ، فَهُوَ خَبَرٌ لَفْظًا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ فِيهِ قَدْ تَقَرَّرَ وَاطَّرَدَ، وَهَذَا الِامْتِنَانُ كَمَا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ أَسْمَاعًا
وَأَبْصَارًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْقَضُ بِمَنْ وُلِدَ أَكْمَهَ أَوْ عَرَضَ لَهُ مَا أَزَالَ بَعْضَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا خَبَرٌ عَمَّا كَانَ وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ حُكْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ وَنِعَمٍ مُتَعَدِّدَاتٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَانَ صَرَفَ الْقُلُوبَ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى مُعَارَضَتِهِ، وَصَرَفَ الْأَيْدِي عَنْ إِذَايَتِهِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى قَبْلَ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَازِعٌ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنِ اخْتِلَالِ الْأَمْنِ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَفِي فِتْنَةِ الْقَرَامِطَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أَوَّلَ هَذِه السُّورَة [آل عمرَان: ٧].
18
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِتَأْمِينِ دَاخِلِهِ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِأَذًى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّعْبِيِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَحْمَلِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ:
هَذَا حُكْمٌ نُسِخَ يَعْنُونَ نَسَخَتْهُ الْأَدِلَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا. رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، أنّه قَالَ لعَمْرو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ- أَيْ لِحَرْبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ-: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ لَا يحلّ لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يُعْضَدَ بِهَا شَجَرَةٌ. فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ:
إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»
. قَالَ: فَقَالَ لِي عَمْرٌو: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ (الْخَرْبَةُ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- الْجِنَايَةُ وَالْبَلِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى النَّاسِ) وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِأَنْ يُقْتَلَ ابْنُ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ مَنْ أَصَابَ جِنَايَةً فِي الْحَرَمِ أَوْ خَارِجَهُ ثُمَّ عَاذَ بِالْحَرَمِ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ وَيُقَادُ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ الْأَرْبَعَةُ: لَا يُقْتَصُّ فِي الْحَرَمِ مِنَ اللَّاجِئِ إِلَيْهِ من خَارجه مَا دَامَ فِيهِ ولكنّه لَا يُبَايَعُ وَلَا يُؤَاكَلُ وَلَا يُجَالَسُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ. وَيَرْوُونَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُمَا آنِفًا.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: «مَنْ كَانَ خَائِفًا مِنَ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِآمِنٍ وَلَا تَجُوزُ إِذَايَتُهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ مُكَالَمَتِهِ».
19
وَقَالَ فَرِيقٌ: هُوَ حُكْمٌ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَتَى مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا جَنَى فِي الْحَرَمِ أُقِيدَ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: ١٩٤] أَوِ اسْتَنَدُوا إِلَى أَدِلَّةٍ مِنَ الْقِيَاسِ، وَقَالَ شُذُوذٌ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي جَنَى فِي الْحَرَمِ وَهَؤُلَاءِ طَرَدُوا دَلِيلَهُمْ.
وَقَدْ أَلْمَمْنَا بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: ١٩١].
وَقَدْ جَعَلَ الزَّجَّاجُ جُمْلَةَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آيَةً ثَانِيَةً مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَهِيَ بَيَانٌ لِ (آيَاتٌ)، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤]. وَإِنَّمَا جَازَ بَيَانُ الْمُفْرَدِ بِجُمْلَةٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ إِذِ التَّقْدِيرُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ. وَلَمْ يَنْظُرْ ذَلِكَ بِمَا اسْتُعْمِلَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حَتَّى يُقَرِّبَ هَذَا الْوَجْهُ. وَعِنْدِي فِي نَظِيره قَول الْحَرْث بْنِ حِلِّزَةَ:
مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ
آيَةٌ شَارِقُ الشَّقِيقَةِ إِذْ جَا ءَتْ مَعَدٌّ لِكُلِّ حَيٍّ لِوَاءُ
ثُمَّ قَالَ:
ثُمَّ حُجْرًا أَعْنِي ابْنَ أُمِّ قَطَامِ وَلَهُ فَارِسِيَّةٌ خَضْرَاءُ
ثُمَّ قَالَ:
وَفَكَكْنَا غُلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَا طَالَ حَبْسُهُ وَالْعَنَاءُ
فَجَعَلَ (وَفَكَكْنَا) هِيَ الْآيَةَ الرَّابِعَةَ بِاتِّفَاقِ الشُّرَّاحِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَفَكُّنَا غُلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ.
وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ آيَاتٌ بَاقِيًا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ وَقَدْ بُيِّنَ بِآيَتَيْنِ وَتُرِكَتِ الثَّالِثَةُ كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُ مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
أَيْ وَلَمْ يَذْكُرِ الثُّلُثَ الثَّالِثَ.
20
وَهُوَ تَنْظِيرٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ ظَهَرَ مِنْهُ الثُّلُثُ الثَّالِثُ، فَهُمُ الصَّمِيمُ، بِخِلَافِ الْآيَةِ فَإِنَّ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ لَمْ يُعْرَفْ. وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إِلَخْ مُتَضَمِّنًا الثَّالِثَةَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
حُكْمٌ أَعْقَبَ بِهِ الِامْتِنَانَ: لِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْبَيْتِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: مُبَارَكًا وَهُدًى، وَوَاجِبًا حَجُّهُ. فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْأَحْوَالِ.
وَالْحَجُّ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٧]، وَفِيهِ لُغَتَانِ- فَتْحُ الْحَاءِ وَكَسْرُهَا- وَلَمْ يُقْرَأْ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهِ فِي الْقُرْآنِ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-.
وَيَتَّجِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي فُرِضَ بِهَا الْحَجُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَدِلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ، فَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ حَجِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّمَا كَانَ تَقَرُّبًا إِلَى الله، واستصحابا للحنيفية. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مَرَّتَيْنِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَوَقَفَ مَعَ النَّاسِ. فَأَمَّا إِيجَابُ الْحَجِّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِهِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَدْ تَمَالَأَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، فَلَا يُعَدُّ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَجِّ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ إِلَّا تَحَنُّثًا وَتَقَرُّبًا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَيَكُونُ الْحَجُّ فُرِضَ يَوْمَئِذٍ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي وَقْتِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ، وَلَمْ يَعْزُ الْأَقْوَالَ إِلَى أَصْحَابِهَا، سِوَى أَنَّهُ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ فُرِضَ
21
عَامَ الْخَنْدَقِ، بَعْدَ انْصِرَافِ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ انْصِرَافُهُمْ آخِرَ سِنَةِ خَمْسٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّ وَجَبَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلٌ رَابِعٌ تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ أَنَّ دَلِيلَ وُجُوبِ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَيَكُونُ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَقَرَّرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ مُحْصَرِينَ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَوَقَعَتْ حَجَّةُ سَنَةِ تِسْعٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ صِيغَتَانِ: لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَحَرْفُ (عَلَى) الدَّالُّ عَلَى تَقَرُّرِ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْمَجْرُورِ بِهَا. وَقَدْ تَعَسَّرَ أَوْ تَعَذَّرَ قِيَامُ الْمُسْلِمِينَ بِأَدَاءِ الْحَجِّ عَقِبَ نُزُولِهَا، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَعَلَّ حِكْمَةَ إِيجَابِ الْحَجِّ يَوْمَئِذَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِأَدَاءِ الْحَجِّ مَهْمَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَمْنَعُونَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.
وَقَوْلُهُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ لِتَقْيِيدِ حَالِ الْوُجُوبِ، وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ حَجُّ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَصِيرُ الْكَلَامُ: لِلَّهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَنْ يَحُجَّ الْمُسْتَطِيعُ مِنْهُمْ، وَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِ جَمِيعِ النَّاسِ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ لَا يَتَّجِهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَفَنَّنُ فِي الْكَلَامِ لِعِلْمِ السَّامِعِ بِأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَرْضٌ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ فَاعِلُ حَجَّ، وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْلِكَ: اسْتَطَاعَ الصَّوْمَ، أَوِ اسْتَطَاعَ حَمْلَ الثِّقْلِ، وَمعنى اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَجَدَ سَبِيلًا وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَالْكَلَامُ بِأَوَاخِرِهِ. وَالسَّبِيلُ هُنَا مَجَازٌ فِيمَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْحَجِّ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ السَّبِيلِ أَقْوَالٌ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا، وَاتَّحَدَتْ أَغْرَاضُهَا، فَلَا يَنْبَغِي بَقَاءُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا مُثْبَتًا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا، فَسَبِيلُ الْقَرِيبِ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ سَهْلٌ جِدًّا، وَسَبِيلُ الْبَعِيدِ الرَّاحِلَةُ وَالزَّادُ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: السَّبِيلُ الْقُدْرَةُ وَالنَّاسُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ وَجَلَدِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ
22
لَا زَادَ لَهُ وَيَسْتَطِيعُ الِاحْتِرَافَ فِي طَرِيقِهِ:
فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُزْرِي فَلْيُسَافِرْ وَيَكْتَسِبْ فِي طَرِيقِهِ، وَقَالَ بِمِثْلِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهِيَةَ السَّفَرِ فِي الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ طَرِيقًا غَيْرَهُ كَأَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الْحَج: ٢٧] وَلَمْ أَجِدْ لِلْبَحْرِ ذِكْرًا. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَأْنِيسٌ مِنْ مَالِكٍ وَلَيْسَتِ الْآيَةُ بِالَّتِي تَقْتَضِي سُقُوطَ سَفَرِ الْبَحْرِ. وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ»
وَهَلِ الْجِهَادُ إِلَّا عِبَادَةٌ كالحجّ، وَكره ماك لِلْمَرْأَةِ السَّفَرَ فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ كَشَفَةٌ لَهَا، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ السَّلَامَةُ هِيَ الْغَالِبَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزِ الْإِلْقَاءُ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَحَالُ سَفَرِ الْبَحْرِ الْيَوْمَ أَسْلَمُ مِنْ سَفَرِ الْبَرِّ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ عَارِضَةٍ فِي الْحُرُوبِ إِذَا شَمِلَتِ الْبِحَارَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أَنَّ الْخِطَابَ بِالْحَجِّ وَالِاسْتِطَاعَةَ لِلْمَرْءِ
فِي عَمَلِهِ لَا فِي عَمَلِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ فِي الْحَيَاةِ لِعُذْرٍ، فَالْعَاجِزُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَرَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَجَّ التَّطَوُّعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْحَجِّ وَكَانَ لَهُ مَنْ يُطِيعُهُ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، صَارَ قَادِرًا فِي الْجُمْلَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَاحْتَجَّ
بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى
. وَأَجَابَ عَنْهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ أَجَابَهَا بِمَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى طَاعَةِ أَبِيهَا، وَطَاعَةِ رَبِّهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُبَارك. لَا تجزىء إلّا إنابة الْأُجْرَة دُونَ إِنَابَةِ الطَّاعَةِ.
23
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَتِ الِاسْتِطَاعَةُ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ يَنْدَرِجُ تَحْتَ مَسْأَلَةِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرِ أَوْ عَدَمِ اقْتِضَائِهِ إِيَّاهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي. فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ابْنُ الْقَصَّارِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَتَأَوَّلُوهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بن حَنْبَل، وداوود الظَّاهِرِيِّ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَرِوَايَةُ ابْنِ نَافِعٍ وَأَشْهَبَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِنِينَ، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ لَبَيَّنَهُ أَيْ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِذَا بَلَغَ الْمَرْءُ السِّتِّينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَوْرُ بِالْحَجِّ إِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا خَشْيَةَ الْمَوْتِ، وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَمَعْنَى الْفَوْرِ أَنْ يُوقِعَهُ الْمُكَلَّفُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي يَحِينُ وَقْتُهَا أَوَّلًا عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُقَابِلُ قَوْلِهِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَيكون المُرَاد بِمن كَفَرَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالْكُفْرِ هُنَا تَغْلِيظٌ لِأَمْرِ تَرْكِ الْحَجِّ. وَالْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ. وَيَجُوزُ
أَيْضًا أَنْ يُرَادَ تَشْوِيهُ صُنْعِهِ بِأَنَّهُ كَصَنِيعِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفَضِيلَةِ حَرَمِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ:
أَرَادَ وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ، وَقَالَ قَوْمٌ بِظَاهِرِهِ: إِنَّ تَرَكَ الْحَجِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَفَرَ. وَنُسِبَ لِلْحَسَنِ. وَلَمْ يَلْتَزِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ لِلْمُقَابَلَةِ وَجَعَلُوهَا جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً.
كَالتَّذْيِيلِ، بَيَّنَ بِهَا عَدَمَ اكْتِرَاثِ اللَّهِ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِمن كَفَرَ مَنْ كَفَرَ بِالْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُ لَا اعْتِدَادَ بِحَجِّهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَحُجَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ وَالْمُوَحِّدُونَ لَهُ.
24
وَفِي قَوْلِهِ: غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ رَمْزٌ إِلَى نَزْعِهِ وِلَايَةَ الْحَرَمِ مِنْ أَيْدِيهِمْ: لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَضَ الْحَجَّ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْهُ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ النَّاسِ، فَهُوَ لَا يُعْجِزُهُ مَنْ يَصُدُّ النَّاسَ عَنْ مُرَاده تَعَالَى.
[٩٨، ٩٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٩٨ إِلَى ٩٩]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
ابْتِدَاء كرم رَجَعَ بِهِ إِلَى مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَوْعِظَتِهِمْ فَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ الْآيَةَ.
أَمَرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالصَّدْعِ بِالْإِنْكَارِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. بَعْدَ أَنْ مَهَّدَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ دَلَائِلَ صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ وَلِذَلِكَ افْتَتَحَ بِفِعْلِ قُلْ اهْتِمَامًا بِالْمَقُولِ، وَافْتَتَحَ الْمَقُولَ بِنِدَاءِ أَهْلَ الْكِتَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ: إِمَّا الْقُرْآنُ، وَإِمَّا دَلَائِلُ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْكُفْرُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ وَاضِحٌ، وَإِمَّا آيَاتُ فَضِيلَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْكُفْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَجَحْدُهُمْ لِآيَاتِهِ مَعَ ذَلِكَ الْيَقِينِ أَشَدُّ إِنْكَارًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ وَاللَّهُ شَهِيدٌ مُجَرَّدَ خَبَرٍ إِلَّا إِذَا نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ تَوْبِيخٌ ثَانٍ وَإِنْكَارٌ عَلَى مُجَادَلَتِهِمْ لِإِضْلَالِهِمُ
الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ضَلَالَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ، وَفُصِلَ بِلَا عَطْفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِالْقَصْدِ، وَلَوْ عُطِفَ لَصَحَّ الْعَطْفُ.
25
وَالصَّدُّ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا: يُقَالُ صَدَّهُ عَنْ كَذَا فَصَدَّ عَنْهُ. وَقَاصِرُهُ بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ. فَمُتَعَدِّيهِ بِمَعْنَى جَعْلِ الْمَصْدُودِ مُعْرَضًا أَيْ صَرْفُهُ، وَيُقَالُ: أَصُدُّهُ عَنْ كَذَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَسَبِيلُ اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَدِلَّةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ. وَالْمُرَادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِمَّا مُحَاوَلَةُ إِرْجَاعِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ بِإِلْقَاءِ التَّشْكِيكِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُلَاقِي مَعْنَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْهِ الرَّاجِعَيْنِ لِلْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ.
وَإِمَّا صَدُّ النَّاسِ عَنِ الْحَجِّ أَيْ صَدُّ أَتْبَاعِهِمْ عَنْ حَجِّ الْكَعْبَة، وترغيبهم فِي حَجِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، بِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَا يُلَاقِي الْكُفْرَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِهِمُ الْقِبْلَةَ فِي قَوْلِهِمْ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: ١٤٢] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ صَدُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ.
وَقَوْلُهُ: تَبْغُونَها عِوَجاً أَيْ تَبْغُونَ السَّبِيلَ فَأَنَّثَ ضَمِيرَهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ:
قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: ١٠٨]. وَالْبَغْيُ الطَّلَبُ أَيْ تَطْلُبُونَ. وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ- ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ عَوِجَ كَفَرِحَ، وَمَصْدَرُهُ الْعَوَجُ كَالْفَرَحِ.
وَقَدْ خَصَّ الِاسْتِعْمَالُ غَالِبًا الْمَصْدَرَ بِالِاعْوِجَاجِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ، ، كَالْحَائِطِ وَالْقَنَاةِ.
وَخَصَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَصْدَرِ بِالِاعْوِجَاجِ الَّذِي لَا يُشَاهَدُ كَاعْوِجَاجِ الْأَرْضِ وَالسَّطْحِ، وَبِالْمَعْنَوِيَّاتِ كَالدِّينِ.
وَمَعْنَى تَبْغُونَها عِوَجاً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَجًا بَاقِيًا عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، فَيَكُونُ عِوَجاً مَفْعُولَ تَبْغُونَها، وَيَكُونُ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَبْغُونَهَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ كَمَا قَالُوا: شَكَرْتُكَ وَبِعْتُكَ كَذَا: أَيْ شَكَرْتُ لَكَ وَبِعْتُ لَكَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا، أَيْ تَتَطَلَّبُونَ نِسْبَةَ الْعِوَجِ إِلَيْهَا، وتصوّرونها بَاطِلَة زائغة. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَجًا، وَصْفًا لِلسَّبِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ تَبْغُونَهَا عَوْجَاءَ شَدِيدَةَ الْعِوَجِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي تَبْغُونَها مَفْعُولَ تَبْغُونَ، وَيَكُونُ عِوَجًا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ أَيْ تَرُومُونَهَا مُعْوَجَّةً أَيْ تَبْغُونَ سَبِيلًا مُعْوَجَّةً وَهِيَ سَبِيلُ الشِّرْكِ.
26
وَالْمَعْنَى: تَصُدُّونَ عَنِ السَّبِيلِ الْمُسْتَقِيمِ وَتُرِيدُونَ السَّبِيلَ الْمُعْوَجَّ فَفِي ضَمِيرِ تَبْغُونَها اسْتِخْدَامٌ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ الْمَصْدُودَ عَنْهَا هِيَ الْإِسْلَامُ، وَالسَّبِيلُ الَّتِي يُرِيدُونَهَا هِيَ
مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ حَالٌ أَيْضًا تُوَازِنُ الْحَالَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهَا وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ وَمَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ أَنَّهَا سَبِيلُ اللَّهِ. وَقَدْ أَحَالَهُمْ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَخْزِ قُلُوبِهِمْ، وَانْثِنَائِهِمْ بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَهُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ وَتَذْكِيرٌ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورَ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي مَوْعِظَتِهِمُ السَّابِقَةِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ إِلَّا أَنَّ هَذَا أَغْلَظُ فِي التَّوْبِيخِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ اعْتِقَادِ غَفْلَتِهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ حَالَهُمْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ حَالِ مَنْ يعْتَقد ذَلِك.
[١٠٠، ١٠١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٠ إِلَى ١٠١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كَيْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسُوءِ دُعَائِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ خَاطَبَهُمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ خِلَافَ خِطَابِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذْ قَالَ:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ [آل عمرَان: ٩٨] وَلَمْ يَقُلْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
وَالْفَرِيقُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَأَشَارَ بِهِ هُنَا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ أَرَادَ شَاسًا وَحْدَهُ، وَجَعَلَهُ فَرِيقًا كَمَا جَعَلَ أَبَا سُفْيَانَ نَاسًا فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» وَسِيَاقُ الْآيَةِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا جَرَتْ
27
عَلَى حَادِثَةٍ حَدَثَتْ وَأَنَّ لِنُزُولِهَا سَبَبًا.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ تَخَاذَلُوا وَتَحَارَبُوا حَتَّى تَفَانَوْا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَآخِرُهَا يَوْمُ بُعَاثٍ الَّتِي انْتَهَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ زَالَتْ تِلْكَ الْأَحْقَادُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَأَصْبَحُوا عُدَّةً لِلْإِسْلَامِ، فَسَاءَ ذَلِكَ يَهُودَ يَثْرِبَ فَقَامَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ، وَهُوَ شَيْخٌ قَدِيمٌ مِنْهُمْ، فَجَلَسَ إِلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ حُرُوبَ بُعَاثٍ، فَكَادُوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَنَادَى كُلُّ فَرِيقٍ: يَا لَلْأَوْسِ! وَيَا لَلْخَزْرَجِ! وَأَخَذُوا السِّلَاحَ، فَجَاءَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ: أَتَدْعُونَ الْجَاهِلِيَّةَ- وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! وَفِي رِوَايَةٍ: أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟! أَيْ أَتَدْعُونَ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ- وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
، فَمَا فَرَغَ مِنْهَا حَتَّى أَلْقَوُا السِّلَاحَ، وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كَانَ طَالِعٌ أَكْرَهَ إِلَيْنَا مِنْ طُلُوعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْلَحَ اللَّهُ بَيْنَنَا
مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ وَلَا أَوْحَشَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَأَصْلُ الرَّدِّ الصَّرْفُ وَالْإِرْجَاعُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الْحَج:
٥] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَغَيُّرِ الْحَالِ بَعْدَ الْمُخَالَطَةِ فَيُفِيدُ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ، فِيمَا أَنْشَدَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ:
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضًا وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودًا
وكافِرِينَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ يَرُدُّوكُمْ وَالْقَصْدُ من التّصريح بِهِ تَوْضِيحُ فَوَاتِ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ كَانُوا فِيهَا لَوْ يَكْفُرُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِبْعَادِ استبعادا لكفرهم ونفيا لَهُ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
28
وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ حَالِيَّةٌ، وَهِيَ مَحَطُّ الِاسْتِبْعَادِ وَالنَّفْيِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيهِمْ وَازِعٌ لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَأَيُّ وَازِعٍ، فَالْآيَاتُ هُنَا هِيَ الْقُرْآنُ وَمَوَاعِظُهُ.
وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَفِيكُمْ رَسُولُهُ حَقِيقِيَّةٌ وَمُؤْذِنَةٌ بِمَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنَّةٍ جَلِيلَةٍ، وَهِيَ وُجُودُ هَذَا الرَّسُولِ الْعَظِيمِ بَيْنَهُمْ، تِلْكَ الْمَزِيَّةُ الَّتِي فَازَ بِهَا أَصْحَابُهُ الْمُخَاطَبُونَ. وَبِهَا- يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «لَا تسبّوا أَصْحَابِي فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»
النَّصِيفُ نِصْفُ مُدٍّ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الصَّحَابَةِ وَأَنَّ لَهُمْ وَازِعَيْنِ عَنْ مُوَاقَعَةِ الضَّلَالِ: سَمَاعُ الْقُرْآنِ، وَمُشَاهَدَةُ أَنْوَارِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّ وُجُودَهُ عِصْمَةٌ مِنْ ضَلَالِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ:
أَمَّا الرَّسُولُ فَقَدْ مَضَى إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَبَاقٍ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بالدّين فَلَا يخْش عَلَيْهِ الضَّلَالُ. فَالِاعْتِصَامُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلتَّمَسُّكِ.
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَدِينِهِ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا حَيَاةَ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[١٠٢، ١٠٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٢ إِلَى ١٠٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
29
(١٠٣)
انْتَقَلَ مِنْ تَحْذِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الِانْخِدَاعِ لِوَسَاوِسِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَى تَحْرِيضِهِمْ عَلَى تَمَامِ التَّقْوَى، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ صَلَاحٍ لَهُمْ وَرُسُوخًا لِإِيمَانِهِمْ، وَهُوَ خِطَابٌ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْرِي إِلَى جَمِيعِ مَنْ يَكُونُ بَعْدَهُمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَالتَّقْوَى تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وحاصلها امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فِي الْأَعْمَالِ الظّاهرة، والنّوايا الْبَاطِنَة. وَحَقُّ التَّقْوَى هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا تَقْصِيرٌ، وَتَظَاهُرٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ الْقُدْرَة، والتّقوى مقدورة لِلنَّاسِ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَعَارُضٌ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَلَا نَسْخٌ، وَقِيلَ: هَاتِهِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لِأَنَّ هَاتِهِ دَلَّتْ عَلَى تَقْوَى كَامِلَةٍ كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَرَوَوْا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يقوى لهَذَا» فَنزلت قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَ هَذِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَتَيْنِ للْوُجُوب، وَعَلَى اخْتِلَافِ الْمُرَادِ مِنَ التَّقَوَيَيْنِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لَا نَسْخٌ، كَمَا حَقَّقَهُ المحقّقون، وَلَكِن شا عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْبَيَانَ.
وَالتُّقَاةُ اسْمُ مَصْدَرِ. اتَّقَى وَأَصْلُهُ وُقَيَةٌ ثُمَّ وُقَاةٌ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً تَبَعًا لِإِبْدَالِهَا فِي الِافْتِعَالِ إِبْدَالًا قَصَدُوا مِنْهُ الْإِدْغَامَ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: ٢٨].
وَقَوْلُهُ: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى حَالَةٍ فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَمَحَطُّ النَّهْيِ هُوَ الْقَيْدُ: أَعْنِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفَ وَالْمُسْتَثْنَى وَهُوَ جُمْلَةُ الْحَالِ، لِأَنَّهَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ، وَهَذَا الْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ مُفَارَقَةِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ
30
مُدَّةَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ عِلَاقَتُهُ اللُّزُومُ، لِمَا
شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ سَاعَةَ الْمَوْتِ أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ:
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
فَالنَّهْيُ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ فِي سَائِرِ أَحْيَانِ الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ، لَكَانَ تَرْخِيصًا فِي مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَعْنًى فَاسِدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ثَنَّى أَمْرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ لَأُخْرَاهُمْ، بِأَمْرِهِمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ حَالِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَذَلِكَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ لِيَكْتَسِبُوا بِاتِّحَادِهِمْ قُوَّةً وَنَمَاءً. وَالِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنْ عَصَمَ وَهُوَ طَلَبُ مَا يَعْصِمُ أَيْ يَمْنَعُ.
وَالْحَبْلُ: مَا يُشَدُّ بِهِ لِلِارْتِقَاءِ، أَوِ التَّدَلِّي، أَوْ لِلنَّجَاةِ مِنْ غَرَقٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ اجْتِمَاعِهِمْ وَالْتِفَافِهِمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَوَصَايَاهُ وَعُهُودِهِ بِهَيْئَةِ اسْتِمْسَاكِ جَمَاعَةٍ بِحَبْلٍ أُلْقِيَ إِلَيْهِم من مُنْقِذٍ لَهُمْ مِنْ غَرَقٍ أَوْ سُقُوطٍ، وَإِضَافَةُ الْحَبْلِ إِلَى اللَّهِ قَرِينَةُ هَذَا التَّمْثِيلِ.
وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً حَالٌ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ إِرَادَةَ التَّمْثِيلِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْرَ بِاعْتِصَامِ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي حَالِ انْفِرَادِهِ اعْتِصَامًا بِهَذَا الدِّينِ، بَلِ الْمَقْصُودُ الْأَمْرُ بِاعْتِصَامِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَيَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الدّين، فَالْكَلَام أَمر لَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى هَاتِهِ الْهَيْئَةِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمُنَاسِبُ لِتَمَامِ الْبَلَاغَةِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الِاعْتِصَامُ لِلتَّوْثِيقِ بِالدِّينِ وَعُهُودِهِ، وَعَدَمِ الِانْفِصَالِ عَنْهُ، وَيُسْتَعَارُ الْحَبْلُ لِلدِّينِ وَالْعُهُودِ كَقَوْلِهِ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمرَان: ١١٢] وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعَارَتَيْنِ تَرْشِيحًا لِلْأُخْرَى، لِأَنَّ مَبْنَى التَّرْشِيحِ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْوِيَةِ التَّشْبِيهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ لَفْظِ مَا هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُسْتَعَارِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُلَائِمِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى، إِذْ
31
لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ إِلَّا قُوَّةً. وَلَيْسَت الِاسْتِعَارَةُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى جَدِيدٍ حَتَّى يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ الْجَدِيدَةَ، الْحَاصِلَةَ فِي الِاسْتِعَارَةِ الثَّانِيَةِ، صَارَتْ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ فِي الِاسْتِعَارَةِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا هِيَ اعْتِبَارَاتٌ لَطِيفَةٌ تَزِيدُ كَثْرَتُهَا الْكَلَامَ حُسْنًا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّوْرِيَةُ، فَإِنَّ فِيهَا حُسْنًا بِإِيهَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْآخَرُ مَقْصُودًا، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ صَرِيحًا فِي الْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الدِّينِ
بَلْ ظَاهِرُهُ أنّه أَمر للْمُؤْمِنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إِلَى أَمْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: جَمِيعاً مُحْتَمِلًا لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَفَرَّقُوا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ اعتصموا جَمِيعًا كَقَوْلِهِم: ذَمَمْتُ وَلَمْ تُحْمَدْ.
عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا تَفَرَّقُوا أَمْرًا ثَانِيًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى طَلَبِ الِاتِّحَادِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٠] وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ.
وَقَوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَصْوِير لِحَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا لِيَحْصُلَ مِنِ اسْتِفْظَاعِهَا انْكِشَافُ فَائِدَةِ الْحَالَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا عَلَيْهَا وَهِيَ الِاعْتِصَامُ جَمِيعًا بِجَامِعَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نَجَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي اخْتَارَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ، وَفِي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى إِجَابَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ مَوَاعِظِ الرُّسُلِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩] وَقَالَ عَنْ شُعَيْبٍ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٦] وَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: ٥]. وَهَذَا التَّذْكِيرُ خَاصٌّ بِمن أسلم من الْمُسلمين بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ
32
لِلصَّحَابَةِ وَلَكِنَّ الْمِنَّةَ بِهِ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ كُلَّ جِيلٍ يُقَدِّرُ أَنْ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ إِسْلَامُ الْجِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ لَكَانُوا هُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ.
وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً مُعْتَبَرٌ فِيهَا التَّعْقِيبُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ إِذِ النِّعْمَةُ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْعَدَاوَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَ حُصُولِ التَّأْلِيفِ عَقِبَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَفْرَادٌ قَلِيلُونَ مِنْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْقَرِيبَةِ، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي عَدَاوَةٍ وَحُرُوبٍ، فَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ دَامَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهَا كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ، وَالْعَرَبُ كَانُوا فِي حُرُوبٍ وَغَارَاتٍ (١) بَلْ وَسَائِرُ الْأُمَمِ الَّتِي دَعَاهَا الْإِسْلَامُ كَانُوا فِي تَفَرُّقٍ وَتَخَاذُلٍ فَصَارَ
الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ إِخْوَانًا وَأَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ أَنْسَابٍ، وَلَا تَبَاعُدُ مَوَاطِنَ، وَلَقَدْ حَاوَلَتْ حُكَمَاؤُهُمْ وَأُولُو الرَّأْيِ مِنْهُمُ التَّأْلِيفَ بَيْنَهُمْ، وَإِصْلَاحَ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، بِأَفَانِينِ الدَّعَايَةِ مِنْ خَطَابَةٍ وَجَاهٍ وَشِعْرٍ (٢) فَلَمْ يَصِلُوا إِلَى مَا ابْتَغَوْا حَتَّى أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالْإِسْلَامِ فَصَارُوا بِذَلِكَ التَّأْلِيفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَانِ.
_________
(١) كَانَت قبائل الْعَرَب أَعدَاء بَعضهم لبَعض فَمَا وجدت قَبيلَة غرّة من الْأُخْرَى إِلَّا شنّت عَلَيْهَا الْغَارة.
وَمَا وجدت الْأُخْرَى فرْصَة إِلَّا نادت بالثارة. وَكَذَلِكَ تَجِد بطُون الْقَبِيلَة الْوَاحِدَة وَكَذَلِكَ تَجِد بني الْعم من بطن وَاحِد أَعدَاء متغالبين على الْمَوَارِيث والسؤدد، قَالَ أَرْطَأَة بن سهية الذبياني من شعراء الأموية:
وَنحن بَنو عَم على ذَات بَيْننَا... زرابي فِيهَا بغضة وتنافس
(٢) مثل خطاب شُيُوخ بني أَسد لامرى الْقَيْس حِين عزم على قِتَالهمْ أخذا بثأره.
وَمثل توَسط هرم بن سِنَان والْحَارث بن عَوْف.
وَقَالَ زُهَيْر:
وَمَا الْحَرْب إِلَّا مَا علمْتُم وذقتم... الأبيات.
وَقَالَ النَّابِغَة:
أَلا يَا لَيْتَني والمرء ميت... الأبيات
33
وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ الْأَخِ، مِثْلُ الْإِخْوَةِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْإِخْوَانُ بِالْأَخِ الْمَجَازِيِّ وَالْإِخْوَةُ بِالْأَخِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ تَعَالَى: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ [النُّور: ٦١] وَقَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠] وَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ صِيغَةٌ خَاصَّةٌ فِي الْجَمْعِ أَوِ الْمُفْرَدِ وَإِلَّا لَبَطَلَ كَوْنُ اللَّفْظِ مَجَازًا وَصَارَ مُشْتَرَكًا، لَكِنْ لِلِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُغَلِّبَ إِطْلَاقُ إِحْدَى الصِّيغَتَيْنِ الْمَوْضُوعَتَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُغَلِّبُهَا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَالْأُخْرَى فِي الْحَقِيقِيِّ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَغْيِيرِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ أَشْنَعِ حَالَةٍ إِلَى أَحْسَنِهَا: فَحَالَةٌ كَانُوا عَلَيْهَا هِيَ حَالَةُ الْعَدَاوَةِ وَالتَّفَانِي وَالتَّقَاتُلِ، وَحَالَةٌ أَصْبَحُوا عَلَيْهَا وَهِيَ حَالَةُ الْأُخُوَّةِ وَلَا يُدْرِكُ الْفرق بَين الْحَالَتَيْنِ إِلَّا مَنْ كَانُوا فِي السُّوأَى فَأَصْبَحُوا فِي الْحُسْنَى، وَالنَّاسُ إِذَا كَانُوا فِي حَالَةِ بُؤْسٍ وَضَنْكٍ وَاعْتَادُوهَا صَارَ الشَّقَاءُ دَأْبَهَمْ، وَذَلَّتْ لَهُ نُفُوسُهُمْ فَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَا هُمْ فِيهِ، وَلَا يتفظّنوا لِوَخِيمِ عَوَاقِبِهِ، حتّى إِذا هيّىء لَهُمُ الصَّلَاحُ، وَأَخَذَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمُ اسْتَفَاقُوا مِنْ شَقْوَتِهِمْ، وَعَلِمُوا سُوءَ حَالَتِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى جَمَعَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الِامْتِنَانِ بَيْنَ ذِكْرِ الْحَالَتَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَتِهِ الْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ بِمَعْنَى (مَعَ) أَيْ أَصْبَحْتُمْ إِخْوَانًا مصاحبين نعْمَة من اللَّهِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْأُخُوَّةِ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ اللِّهْبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا
وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها عَطْفٌ عَلَى كُنْتُمْ أَعْداءً فَهُوَ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ الْإِنْقَاذِ مِنْ حَالَةٍ أُخْرَى بَئِيسَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمُهْلِكَاتِ.
وَالشَّفَا مِثْلُ الشَّفَةِ هُوَ حَرْفُ الْقَلِيبِ وَطَرَفِهِ، وَأَلِفُهُ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ. وَأَمَّا وَاوُ شَفَةٍ فَقَدْ حُذِفَتْ وَعُوِّضَتْ عَنْهَا الْهَاءُ مِثْلُ سَنَةٍ وَعِزَةٍ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوهُ عَلَى شَفَوَاتٍ وَلَا على شفين بَلْ قَالُوا شِفَاهٌ كَأَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِالْهَاءِ كَالْأَصْلِ.
34
فَأَرَى أَنَّ شَفَا حُفْرَةِ النَّارِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانُوا عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ وَالتَّفَانِي الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ زُهَيْرٌ بِقَوْلِهِ:
تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَمِ بِحَالِ قَوْمٍ بَلَغَ بِهِمُ الْمَشْيُ إِلَى شَفَا حَفِيرٍ مِنَ النَّارِ كَالْأُخْدُودِ فَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهَلَاكِ السَّرِيعِ التَّامِّ إِلَّا خُطْوَةٌ قَصِيرَةٌ، وَاخْتِيَارُ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا هُنَا لِأَنَّ النَّارَ أَشَدُّ الْمُهْلِكَاتِ إِهْلَاكًا، وَأَسْرَعُهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي حَمْلِ الْآيَةِ لِيَكُونَ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَتَيْنِ مَحْسُوسَتَيْنِ هُمَا: نِعْمَةُ الْأُخُوَّةِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ، وَنِعْمَةُ السَّلَامَةِ بَعْدَ الْخَطَرِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
نَجَاةً مِنَ الْبَأْسَاءِ بَعْدَ وُقُوعِ وَالْإِنْقَاذُ مِنْ حَالَتَيْنِ شَنِيعَتَيْنِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ نَارَ جَهَنَّمَ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: شَفا حُفْرَةٍ مُسْتَعَارًا لِلِاقْتِرَابِ اسْتِعَارَةَ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ. وَالنَّارُ حَقِيقَةٌ، وَيُبْعِدُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُفْرَةٍ إِذْ لَيْسَتْ جَهَنَّمُ حُفْرَةً بل هِيَ عَالَمٌ عَظِيمٌ لِلْعَذَابِ.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ»
لَكِن ذَلِكَ رُؤْيَا جَاءَتْ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ وَإِلَّا فَهِيَ لَا يُحِيطُ بِهَا النَّظَرُ. وَيَكُونُ الِامْتِنَانُ عَلَى هَذَا امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَهُمْ لِيَقِينِهِمْ بِدُخُولِ الْكَفَرَةِ النَّارَ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَفَاهَا.
وَقِيلَ: أَرَادَ نَارَ الْحَرْبِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ نَارَ الْحَرْبِ لَا تُوقَدُ فِي حُفْرَةٍ بَلْ تُوقَدُ فِي الْعَلْيَاءِ لِيَرَاهَا مَنْ كَانَ بَعِيدًا كَمَا قَالَ الْحَارِثُ:
وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَدَتْ هِنْدُ النَّارَ عِشَاءً تُلْوِي بِهَا الْعَلْيَاءُ
فَتَنَوَّرَتْ نَارُهَا مِنْ بَعِيدٍ بِخَزَازَى أَيَّانَ مِنْكَ الصِّلَاءُ
وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُلَابِسِينَ لَهَا وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى مُقَارَبَتِهَا.
وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها لِلنَّارِ عَلَى التَّقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ لِشَفَا حُفْرَةٍ وَعَادَ عَلَيْهِ بالتأنيث لاكتسابه التّأنيث مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
35
وَتَشْرَقَ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ، وَإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ حَتَّى تَكْمُلَ عُقُولُهُمْ، وَيَتَبَيَّنُوا مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَالْبَيَانُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالْإِيضَاحِ. وَالْآيَاتُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا النعم، كَقَوْل الْحَرْث بْنِ حِلِّزَةَ:
مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا دَلَائِلُ عِنَايَتِهِ تَعَالَى بِهِمْ وَتَثْقِيفِ عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا غَايَةٌ فِي الْإِفْصَاحِ عَنِ الْمَقَاصِدِ وَإِبْلَاغِ الْمَعَانِي إِلَى الأذهان.
[١٠٤، ١٠٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٤ إِلَى ١٠٥]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
هَذَا مُفَرَّعٌ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ لَهُمْ نِعْمَةَ نَقْلِهِمْ مِنْ حَالَتَيْ شَقَاءٍ وَشَنَاعَةٍ إِلَى حَالَتَيْ نَعِيمٍ وَكَمَالٍ، وَكَانُوا قَدْ ذَاقُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ الْأَمَّرَيْنِ ثُمَّ الْأَحْلَوَيْنِ، فَحَلَبُوا الدَّهْرَ أَشَطْرَيْهِ، كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يَسْعَوْا بِكُلِّ عَزْمِهِمْ إِلَى انْتِشَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ سُوءِ مَا هُوَ فِيهِ إِلَى حُسْنَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً خَيِّرَةً. وَفِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ حُبُّ الْمُشَارِكَةِ فِي الْخَيْرِ لِذَلِكَ تَجِدُ الصَّبِيَّ إِذَا رَأَى شَيْئًا أَعْجَبَهُ نَادَى مَنْ هُوَ حَوْلَهُ لِيَرَاهُ مَعَهُ.
وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ حَرِيًّا بِأَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ، وَلَوْ عُطِفَ بِهَا لَكَانَ أُسْلُوبًا عَرَبِيًّا إِلَّا أَنَّهُ عُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ
36
مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ لَكَانَ هُوَ حَرِيًّا بِأَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مَذْكُورًا لِأَجْلِ التَّفَرُّعِ عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّبَعِ.
وَفِيهِ مِنْ حُسْنِ الْمُقَابَلَةِ فِي التَّقْسِيمِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْخَطَابَةِ: وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كُفْرَهُمْ وَصَدَّهُمُ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٩٨، ٩٩] الْآيَةَ.
وَقَابَلَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ إِذْ قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمرَان: ١٠٢] وَقَوْلُهُ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ الْآيَةَ.
وَصِيغَةُ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ صِيغَةُ وُجُوبٍ لِأَنَّهَا أَصْرَحُ فِي الْأَمْرِ مِنْ صِيغَةِ افْعَلُوا لِأَنَّهَا أَصْلُهَا. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ غَيْرَ مَعْلُومٍ بَيْنَهُمْ مِنْ قِبَلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَالْأَمْرُ لِتَشْرِيعِ الْوُجُوبِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان:
١١٠] فَالْأَمْرُ لِتَأْكِيدِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَوُجُوبِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَقَدْ كَانَ الْوُجُوبُ مُقَرَّرًا مِنْ قَبْلُ بِآيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: ٣]، أَوْ بِأَوَامِرَ نَبَوِيَّةٍ. فَالْأَمْرُ لِتَأْكِيدِ الْوُجُوبِ أَيْضًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، مِثْلُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ وَالطَّائِفَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَاف:
٣٨].
وأصل الأمّة فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَؤُمُّ قَصْدًا وَاحِدًا: مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَوْطِنٍ أَوْ دِينٍ، أَوْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ مَا يَجْمَعُهَا بِالْإِضَافَةِ أَوِ الْوَصْفِ كَقَوْلِهِمْ: أُمَّةُ الْعَرَبِ وَأُمَّةُ غَسَّانَ وَأُمَّةُ النَّصَارَى.
وَالْمُخَاطَبُ بِضَمِيرِ (مِنْكُمْ) إِنْ كَانَ هُمْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ
37
الْخِطَابَاتِ السَّابِقَةِ آنِفًا جَازَ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) بَيَانِيَّةً وَقُدِّمَ الْبَيَانُ عَلَى المبيّن وَيكون مَا صدق الْأُمَّةِ نَفْسُ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلْتَكُونُوا أُمَّةً يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَصْحَابُ هَذَا الْوَصْفِ قَدْ أُمِرُوا بِأَنْ يُكَوِّنُوا مِنْ مَجْمُوعِهِمُ الْأُمَّةَ الْمَوْصُوفَةَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْمَقْصُودُ تَكْوِينُ هَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ التَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ فَإِذَا تَخَلَّقُوا بِهِ تَكَوَّنَتِ الْأُمَّةُ الْمَطْلُوبَةُ. وَهِيَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ. وَهِيَ أَهْلُ الْمَدِينَة الفاضلة المنشود لِلْحُكَمَاءِ مِنْ قَبْلُ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ الْمُوجَزِ.
وَفِي هَذَا مُحَسِّنُ التَّجْرِيدِ: جُرِّدَتْ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أُمَّةٌ أُخْرَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَمَا يُقَالُ: لِفُلَانٍ مِنْ بَنِيهِ أَنْصَارٌ. وَالْمَقْصُودُ: وَلْتَكُونُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى تَكُونُوا أُمَّةً هَذِهِ صِفَتُهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَيَكُونُ جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُوطِبُوا بِأَنْ يَكُونُوا دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ، وَلَا جَرَمَ فَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِتَبْلِيغِهَا. وَأَعْلَمُ بِمَشَاهِدِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَيَشْهَدُ لهَذَا
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ: «لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ»
وَإِلَى هَذَا الْمَحْمَلِ مَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ الضَّمِيرِ خِطَابًا لأَصْحَاب محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ وَالْفَرِيقُ، أَيْ: وَلْيَكُنْ بَعْضُكُمْ فَرِيقًا يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالطَّبَرِيُّ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَهُمْ خَاصَّةُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ وَهُمْ خَاصَّةُ الرُّوَاةِ.
وَأَقُولُ: عَلَى هَذَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ جِيلٍ بَعْدَهُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْهُدَى. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ،
38
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ [التَّوْبَة: ١٢٢] الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِالضَّمِيرِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِيَّاهُمْ أَيْضًا، كَانَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الطَّائِفَةَ إِذْ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مَأْمُورِينَ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلْ يَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالطَّبَرِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ جَمَاعَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ حُصُولُ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي فُرِضَ عَلَى الْأُمَّةِ وُقُوعُهُ.
عَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) بَيَانِيَّةً بِمَعْنَى أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأُمَّةَ وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِقَامَةُ ذَلِكَ فِيهِمْ وَأَنْ لَا يَخْلُوا عَنْ ذَلِكَ عَلَى حَسْبِ الْحَاجَةِ وَمِقْدَارِ الْكَفَاءَةِ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ هَذَا جَارِيًا عَلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ وَصْفِ الْقَبِيلَةِ بِالصِّفَاتِ الشَّائِعَةِ فِيهَا الْغَالِبَةِ عَلَى أَفْرَادِهَا كَقَوْلِهِمْ: بَاهِلَةُ لِئَامٍ، وَعُذْرَةُ عُشَّاقٍ.
وَعَلَى هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ تَجْرِي الِاعْتِبَارَاتُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا كَمَا سَيَأْتِي.
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ تَتَفَاوَتُ: فَمِنْهَا مَا هُوَ بَيِّنٌ يَقُومُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ فَيَقُومُ بِهِ أَهْلُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، يَعْنِي إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ كَفَى عَنْ قِيَامِ الْبَاقِينَ، وَتَتَعَيَّنُ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا بِتَوَفُّرِ شُرُوطِ الْقِيَامِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيهَا. كَالْقُوَّةِ عَلَى السِّلَاحِ فِي الْحَرْبِ، وَكَالسِّبَاحَةِ فِي إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، وَالْعِلْمِ بِأُمُورِ الدِّينِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَذَلِكَ تَعَيُّنُ الْعَدَدِ الَّذِي يَكْفِي لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ مِثْلَ كَوْنِ الْجَيْشِ نِصْفَ عَدَدِ جَيْشِ الْعَدُوِّ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ مُتَعَلِّقًا فَالْمَأْمُورُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ فِيهِمُ الشُّرُوطُ، وَمَجْمُوعُ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوِ الْقَبِيلَةِ،
39
لِتَنْفِيذِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْعَدَدُ الْكَافِي مِمَّنْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا لَمْ يَقُومُوا بِهِ كَانَ الْإِثْمُ عَلَى الْبَلَدِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، لِسُكُوتِ جَمِيعِهِمْ، وَلِتَقَاعُسِ الصَّالِحِينَ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، مَعَ سُكُوتِهِمْ أَيْضًا ثُمَّ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ فَإِنَّمَا يُثَابُ الْبَعْضُ خَاصَّةً.
وَمَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَثُّ دَعْوَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْخَيْرَ اسْمٌ يَجْمَعُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ: فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ» الْحَدِيثَ، وَلِذَلِكَ يَكُونُ عَطْفُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى مُغَايِرِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الْعَطْفِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْخَيْرِ مَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ، وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَكُونُ الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَحُذِفَتْ مَفَاعِيلُ يَدْعُونَ وَيَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ أَيْ يَدْعُونَ كُلَّ أَحَدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس: ٢٥].
وَالْمَعْرُوفُ هُوَ مَا يُعْرَفُ وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْمَقْبُولِ الْمَرْضِيِّ بِهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا كَانَ مَأْلُوفًا مَقْبُولًا مَرْضِيًّا بِهِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ، وَفِي الشَّرَائِعِ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالصَّلَاحُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعَوَارِضِ.
وَالْمُنْكَرُ مَجَازٌ فِي الْمَكْرُوهِ، وَالْكُرْهُ لَازِمٌ للإنكار لأنّ النكر فِي أَصْلِ اللِّسَانِ هُوَ الْجَهْلُ وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ غَيْرِ الْمَأْلُوفِ نَكِرَةً، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْبَاطِلُ وَالْفَسَادُ، لِأَنَّهُمَا مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي الْجِبِلَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعَوَارِضِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْخَيْرِ- وَالْمَعْرُوف- وَالْمُنكر) تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِحَسْبِ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْعِلْمُ وَالْمَقْدِرَةُ فَيُشْبِهُ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ عَيَّنَ جَعْلَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ لِلْبَيَانِ،
40
وَتَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِتَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلْتَكُنْ أُمَّةٌ هِيَ أَنْتُمْ أَيْ وَلْتَكُونُوا أُمَّةً يَدْعُونَ مُحَاوَلَةً لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمرَان: ١١٠] الْآيَة. وَمُسَاوَاةُ مَعْنَيَيِ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ هَاتِهِ الْأُمَّةُ، الَّتِي قَامَتْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَالِكَ.
وَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ أَنْ تَقُومَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ أَقْسَامِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ هُوَ بَيَانُ الْمَعْرُوفِ، وَالْأَمْرُ بِهِ، وَبَيَانُ الْمُنْكَرِ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَمَّا امْتِثَالُ الْمَأْمُورِينَ وَالْمَنْهِيِّينَ لِذَلِكَ، فَمَوْكُولٌ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ
فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ»
فَذَلِكَ مَرْتَبَةُ التَّغْيِيرِ، وَالتَّغْيِيرُ يَكُونُ بِالْيَدِ، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ، أَيْ تَمَنِّي التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلَا يَكُونَانِ بِهِمَا.
وَالْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ إِنْ كَانَا ضَرُورِيَّيْنِ كَانَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَا نَظَرِيَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيهِمَا أَهْلُ الْعِلْمِ.
وَلِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ شُرُوطٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْفِقْهِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، إلَّا أَنِّي أُنَبِّهُ إِلَى شَرْطٍ سَاءَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاء: يشْتَرط أَن لَا يَجُرَّ النَّهْيُ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ. وَهَذَا شَرْطٌ قَدْ خَرَمَ مَزِيَّةَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاتَّخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ ذَرِيعَةً لِتَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ. وَلَقَدْ سَاءَ فهمهم فِيهِ إِذا مُرَادُ مُشْتَرِطِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْأَمْرَ أَنَّ أَمْرَهُ يَجُرُّ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ لَا أَن يخَاف أَو يُتَوَهَّمَ إِذِ الْوُجُوبُ قَطْعِيٌّ لَا يُعَارِضُهُ إِلَّا ظَنٌّ أَقْوَى.
وَلَمَّا كَانَ تَعْيِينُ الْكَفَاءَةِ لِلْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ، فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَمَرَاتِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ، وَإِفْهَامِ النَّاسِ ذَلِك، رأى أيمة الْمُسْلِمِينَ تَعْيِينَ وُلَاةٍ لِلْبَحْثِ عَنْ
41
الْمُنَاكِرِ وَتَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ بِتَغْيِيرِهَا، وَسَمَّوْا تِلْكَ الْوِلَايَةَ بِالْحِسْبَةِ، وَقَدْ أَوْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي هَاتِهِ الْوِلَايَةِ أُمِّ الشِّفَاءِ،
وَأَشْهَرُ مِنْ وَلِيَهَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ابْنُ عَائِشَةَ، وَكَانَ رَجُلًا صُلْبًا فِي الْحَقِّ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي الْمَغْرِبِ وِلَايَةُ السُّوق وَقد وَليهَا فِي قُرْطُبَةَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مَرْتَنِيلَ الْقُرْطُبِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْأَشَجِّ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْقَاسِمِ تُوُفِّيَ سَنَةَ ٢٢٠. وَكَانَتْ فِي الدَّوْلَةِ الْحَفْصِيَّةِ وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ مِنَ الْوِلَايَاتِ النَّبِيهَةِ وَرُبَّمَا ضُمَّتْ إِلَى الْقَضَاءِ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي تُونُسَ بَعْدَ الدَّوْلَةِ الْحَفْصِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِفَاتِ أُمَّةٍ وَهِيَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا جُمَلُ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَهُمْ مُفْلِحُونَ: لِأَنَّ الْفَلَاحَ لَمَّا كَانَ مُسَبِّبًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةٍ لَهُمْ، وَيَجُوزُ جَعْلُ جُمْلَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ حَالًا مِنْ أُمَّةٍ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ.
وَالْمَقْصُودُ بِشَارَتُهُمْ بِالْفَلَاحِ الْكَامِلِ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا بِدُونِ عَطْفٍ، مِثْلَ فَصْلِ جُمْلَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] لَكِنَّ هَذِهِ عُطِفَتْ أَوْ جَاءَتْ حَالًا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا جَزَاءً عَنِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَهِيَ أَجْدَرُ بِأَنْ تُلْحَقَ بِهَا.
وَمُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرُ صِفَةِ الْفَلَاحِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ إِمَّا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ مَعَ الْمَقْدِرَةِ عَلَيْهِ وَإِمَّا قَصْرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِفَلَاحِ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ- قَبْلُ-: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمرَان: ١٠٣] لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ التَّفَرُّقِ فِي أَبْشَعِ صُوَرِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَدَيْهِمْ من مطالعة أَحْوَال الْيَهُودِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ إِذْ تَكْثُرُ النَّزَعَاتُ وَالنَّزَغَاتُ وَتَنْشَقُّ الْأُمَّةُ بِذَلِكَ انْشِقَاقًا شَدِيدًا.
42
وَالْمُخَاطَبُ بِهِ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ مَعَ أنّه لَا شَكَّ فِي أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ يَعُمُّ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْحَالَةُ الشَّبِيهَةُ بِحَالِ الَّذِينَ تفرّقوا وَاخْتلفُوا.
وَأُرِيد بالّذين تفرّقوا وَاخْتلفُوا الّذين اخْتلفُوا فِي أُصُولِ الدِّينِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَانِعَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ. وَقُدِّمَ الِافْتِرَاقُ عَلَى
الِاخْتِلَافِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ عِلَّةُ التَّفَرُّقِ وَهَذَا مِنَ الْمُفَادَاتِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ وَذِكْرِ الْأَشْيَاء مَعَ مقارناتها، وَفِي عَكْسِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة:
٢٨٢].
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ وَالَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الِافْتِرَاقِ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِ الْأُمَّةِ بَعْضًا، أَوْ تَفْسِيقِهِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَعْصَارِ، وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَنَحْنُ إِذَا تَقَصَّيْنَا تَارِيخَ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا نَجِدُ افْتِرَاقًا نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عَنِ اخْتِلَافٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأُصُولِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الَّتِي فِيهَا عِصْمَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الِاخْتِلَافِ لَوْ قُيِّضَتْ لَهَا أَفْهَامٌ.
وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مُقَابِلَ قَوْلِهِ فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَهَذَا جَزَاء لَهُم عَلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَعَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي تجنّب أَسبَابه.
[١٠٦، ١٠٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٦ إِلَى ١٠٧]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
43
(١٠٧)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ، مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي قَوْلِهِ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ مَعْنَى كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ: أَيْ يَكُونُ عَذَابٌ لَهُمْ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى أَكْثَرِ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِضَافَةِ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ إِلَى الْجُمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ اذْكُرْ مَحْذُوفًا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ صفة ل (يَوْم) عَلَى تَقْدِيرِ: تَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ فِيهِ وُجُوهٌ.
وَفِي تَعْرِيفِ هَذَا الْيَوْمِ بِحُصُولِ بَيَاضِ وُجُوهٍ وَسَوَادِ وُجُوهٍ فِيهِ، تَهْوِيلٌ لِأَمْرِهِ، وَتَشْوِيقٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ تَفْصِيلِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ الْمُبْيَضَّةِ، وَالْوُجُوهِ الْمُسْوَدَّةِ: تَرْهِيبًا لِفَرِيقٍ وَتَرْغِيبًا لِفَرِيقٍ آخَرَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ عِلْمَ السَّامِعِينَ بِوُقُوعِ تَبْيِيضِ وُجُوهٍ وَتَسْوِيدِ وُجُوهٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ: فِي الْآيَاتِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠] وَقَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: ٣٨- ٤١].
وَالْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ حَقِيقِيَّانِ يُوسَمُ بِهِمَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُمَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ خَاصَّانِ لِأَن هَذَا م أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فَلَا دَاعِيَ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ السَّابِقِ، سُلِكَ فِيهِ طَرِيقُ النَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، وَفِيهِ إِيجَازٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَهُمُ الْكَافِرُونَ يُقَالُ لَهُمْ أكفرتم إِلَى آخر: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
قدّم عِنْدَ وَصْفِ الْيَوْمِ ذِكْرُ الْبَيَاضِ، الَّذِي هُوَ شِعَارُ أَهْلِ النَّعِيمِ، تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ ظُهُورِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ، وَلِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ سِمَةِ أَهْلِ النَّعِيمِ، عَقِبَ وَعِيدِ بِالْعَذَابِ، حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، إِذْ
44
يَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا فِي يَوْمٍ فِيهِ نُعَيْمٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ قَدَّمَ فِي التَّفْصِيلِ ذِكْرَ سِمَةِ أَهْلِ الْعَذَابِ تَعْجِيلًا بِمُسَاءَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ أَكَفَرْتُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُحْذَفُ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ لِظُهُورِهِ: لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مُسْتَفْهِمٍ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ جَوَابُ أَمَّا، وَلذَلِك لم تدحل الْفَاءُ عَلَى أَكَفَرْتُمْ لِيَظْهَرَ أَنْ لَيْسَ هُوَ الْجَوَابُ وَأَنَّ الْجَوَابَ حُذِفَ بِرُمَّتِهِ.
وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مَجْهُولٌ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ لَهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوهُمْ فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ رَأَوْهُمْ وَعَلَيْهِمْ سِمَةُ الْكُفْرِ، كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ «فَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ ثُمَّ يُخْتَلَجُونَ دوني، فَأَقُول: أصيحابي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»
وَالْمُسْتَفْهِمُ سَلَفُهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ أَوْ رَسُولِهِمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَعَ كِنَايَتِهِ عَنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ.
وَيحْتَمل أنّه يَقُوله تَعَالَى لَهُمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ مَجَازٌ عَنِ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْلِيطِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ تَغْيِيرُهُمْ شَرِيعَةَ أَنْبِيَائِهِمْ وَكِتْمَانُهُمْ مَا كَتَمُوهُ فِيهَا، أَوْ كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَعِيسَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ [آل عمرَان: ٩٠] وَهَذَا هُوَ الْمَحْمَلُ الْبَيِّنُ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ وَلَفْظُهُ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّهُ مَسُوقٌ لِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وَوَقَعَتْ تَأْوِيلَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَعُوا بِهَا فِيمَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ الْقُرْآنُ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ: الَّذِينَ
قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
مِثْلَ أَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ، فَمَعْنَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأَوَّلَ الْآيَةَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ فِي ثَالِثَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ كِتَابِ
الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُحَارِبِينَ مِنَ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: «مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ» يَوْمَ
45
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» قَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا هَذِهِ لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ. يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وَرَوَاهُ أَبُو غَسَّانَ مَالِكٌ الْهَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ الَّذِينَ أَحْدَثُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرًا بِالرِّدَّةِ أَوْ بِشَنِيعِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ وَنَقْضِ الشَّرِيعَةِ، مِثْلُ الْغُرَابِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ النُّبُوءَةَ لَعَلِيٍّ، وَمِثْلُ غُلَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَتْبَاعِ حَمْزَةَ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَتْبَاعِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ بِهِ مَقَالَتُهُ إِلَى الْكُفْرِ تَصْرِيحًا وَلَا لُزُومًا بَيِّنًا مِثْلِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ فِي حُكْمِ المتأوّلين وَمن يؤول قَوْلَهُمْ إِلَى لَوَازِمَ سَيِّئَةٍ.
وَذَوْقُ الْعَذَابِ مَجَازٌ لِلْإِحْسَاسِ وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ علاقته التَّقْيِيد.
[١٠٨، ١٠٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٨ إِلَى ١٠٩]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
تَذْيِيلَاتٌ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ.
وَالتِّلَاوَةُ اسْمٌ لِحِكَايَةِ كَلَامٍ لِإِرَادَةِ تَبْلِيغِهِ بِلَفْظِهِ وَهِيَ كَالْقِرَاءَةِ إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ تَخْتَصُّ بِحِكَايَةِ كَلَامٍ مَكْتُوبٍ فَيَتَّجِهُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِشَارَةِ هِيَ الْآيَاتُ الْمَبْدُوءَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: ٥٩] إِلَى هُنَا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خُتِمَ بِتَذْيِيلٍ قَرِيبٍ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمرَان:
٥٨] فَيَكُونُ كُلُّ تَذْيِيلٍ مُسْتَقِلًّا بِطَائِفَةِ الْجُمَلِ الَّتِي وَقَعَ هُوَ عَقِبَهَا.
وَخُصَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْإِشَارَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ صِحَّةَ عَقِيدَةِ الْإِسْلَام، والمبطلة لدعازي الْفِرَقِ الثَّلَاثِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
46
وَالْمُشْرِكِينَ، مِثْلَ قَوْلِهِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: ٥٩] وَقَوْلِهِ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [الْمَائِدَة: ٧٤] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمرَان: ٦٦] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: ٦٨] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمرَان: ٧٩] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمرَان: ٨١] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها [آل عمرَان: ٩٣] وَقَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً
[آل عمرَان: ٩٦]، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أَمْثَالٍ وَمَوَاعِظَ وَشَوَاهِدَ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْإِخْبَارِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَيْ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْوَاقِعِ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ بَيَّنَتْ عَقَائِدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفَصَّلَتْ أَحْوَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِنَ الْحَقِّ اسْتِحْقَاقُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لِمَا عُومِلَ بِهِ عَدْلًا من الله، وَلذَا قَالَ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ النَّاسَ وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ لِفَعَلَهُ، لَكِنَّهُ وَعَدَ بِأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدًا فَحَقَّ وَعْدُهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الظُّلْمَ إِذْ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَاسْتِحَالَتِهِ.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا لِإِفَادَةِ تَقْوَى الْحُكْمِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ إِرَادَةِ ظُلْمِ الْعَالَمِينَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَنْكِيرُ (ظُلْمًا) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ جِنْسِ الظُّلْمِ عَنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَا يُعَدُّ ظُلْمًا فِي مَجَالِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مُنْتَفٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] عَطْفٌ عَلَى التَّذْيِيلِ: لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يُرِيدُ صَلَاحَ حَالِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِإِضْرَارِهِمْ إِلَّا لِلْجَزَاءِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ. فَلَا يُرِيدُ ظُلْمَهُمْ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا فَلَا يَفُوتُهُ ثَوَابُ مُحْسِنٍ وَلَا جَزَاءُ مُسِيءٍ.
وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ الَّتِي بَعْدَ الْأَوْلَى
47
بِدُونِ إِضْمَارٍ لِلْقَصْدِ إِلَى أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِنَفْسِهَا، غَيْرَ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى غَيْرِهَا، حَتَّى تَصْلُحَ لِأَنْ يُتَمَثَّلَ بِهَا، وَتَسْتَحْضِرَهَا النُّفُوسُ وَتَحْفَظَهَا الْأَسْمَاعُ.
[١١٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٠]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
يَتَنَزَّلُ هَذَا مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِأَمْرِهِمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَمَا بَعْدَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كُنْتُم، فَهُوَ موذن بِتَعْلِيلِ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ خَيْرِيَّتُهُمْ يَجْدُرُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ يُؤَكَّدَ عَلَيْهِمْ
فَرْضُهُ، إِنْ كَانَ قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ إِمَّا لِأَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ لِأَوَّلِنَا وَلَا تَكُونُ لِآخِرِنَا. وَإِضَافَةُ خَيْرَ إِلَى أُمَّةٍ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ: أَيْ كُنْتُمْ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ، وَأَهْلُ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ، مِثْلُ الْقَرْنِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَشْهُورٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُف: ٤٥] أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ كَمُدَّةِ عَصْرٍ كَامِلٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَفْضَلَ الْقُرُونِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْعَالَمِ، لِأَنَّ رَسُولَهُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ لَا يُمَاثِلُهُ هَدْيُ أَصْحَابِ الرُّسُلِ الَّذِينَ مَضَوْا، فَإِنْ أَخَذْتَ الْأُمَّةَ بِاعْتِبَارِ الرَّسُولِ فِيهَا فَالصَّحَابَةُ أَفْضَلُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مَعَ رَسُولِهَا،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي»
. وَالْفضل ثَابت للجموع عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ أُخِذَتِ الْأُمَّةُ مَنْ عَدَا الرَّسُولَ، فَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ بِدُونِ رُسُلِهَا، وَهَذَا تَفْضِيلٌ لِلْهُدَى الَّذِي اهْتَدَوْا بِهِ، وَهُوَ هُدَى رَسُولِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِضَمِيرِ كُنْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ فِي كُلِّ جِيلٍ ظَهَرُوا
48
فِيهِ، وَمَعْنَى تَفْضِيلِهِمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَا تَقُومُ بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ لَا يَخْلُو مُسْلِمٌ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، عَلَى حَسْبِ مَبْلَغِ الْعِلْمِ وَمُنْتَهَى الْقُدْرَةِ، فَمِنَ التَّغْيِيرِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِلَى التَّغْيِيرِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوْ لِأَنَّ وُجُودَ طَوَائِفِ الْقَائِمِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ أَوْجَبُ فَضِيلَةٍ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِكَوْنِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ مِنْهَا كَمَا كَانَتِ الْقَبِيلَةُ تفتخر بِمَحَامِد طوائقها، وَفِي هَذَا ضَمَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِعْلُ (كَانَ) يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي زَمَنٍ مَضَى، دُونَ دَلَالَةٍ عَلَى اسْتِمْرَارٍ، وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ، قَالَ تَعَالَى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: ٩٦] أَيْ وَمَا زَالَ، فَمَعْنَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وُجِدْتُمْ عَلَى حَالَةِ الْأَخْيَرِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَيْ حَصَلَتْ لَكُمْ هَذِهِ الْأَخْيَرِيَّةُ بِحُصُولِ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا، لأنّهم اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ، وَالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى وَجهه، والذبّ عَنهُ النُّقْصَانِ وَالْإِضَاعَةِ لِتَحَقُّقِ أَنَّهُمْ لَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبِهِمْ، وَقَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا اسْتَطَاعَ، فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِهِ، كُلَّمَا سَنَحَ سَانِحٌ يَقْتَضِيهِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ عَلَى الْإِجْمَالِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ. هَذَا إِذا بنينَا عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
[آل عمرَان: ١٠٤] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا [آل عمرَان: ١٠٥] الْآيَةَ، لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عِنْدَهُمْ مِنْ قَبْلُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِيمَا مَضَى تَفْعَلُونَهَا إِمَّا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، حِرْصًا عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَاسْتِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ فِي مُصَادَفَتِكُمْ لِمَرْضَاتِهِ وَمُرَادِهِ، وَإِمَّا بِوُجُوبٍ سَابِقٍ حَاصِلٍ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ:
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ [الْعَصْر: ٣] وَحِينَئِذٍ فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمرَان: ١٠٤] تَأْكِيدًا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، أَوْ بِتَأْكِيدِ وُجُوبِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ.
49
وَمِنَ الْحَيْرَةِ الْتِجَاءُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى جَعْلِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ بِكَوْنِهِمْ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ أُمَّةٍ بِمَعْنَى كَوْنِهِمْ كَذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ أَوْ ثُبُوتِ هَذَا الْكَوْنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ جَعْلِ كَانَ بِمَعْنَى صَارَ.
وَالْمُرَادُ بِأُمَّةٍ عُمُومُ الْأُمَمِ كُلِّهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي إِضَافَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِلَى النَّكِرَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ فَتُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.
وَقَوْلُهُ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِظْهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [طه: ٨٨] أَيْ أَظْهَرَ بِصَوْغِهِ عِجْلًا جَسَدًا.
وَالْمَعْنَى: كُنْتُمْ خَيْرَ الْأُمَمِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا. وَفَاعِلُ أُخْرِجَتْ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ مُوجِدُ الْأُمَمِ، وَالسَّائِقُ إِلَيْهَا مَا بِهِ تَفَاضُلُهَا. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ جَمِيعُ الْبَشَرِ مِنْ أَوَّلِ الْخَلِيقَةِ.
وَجُمْلَةُ: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ حَالٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ إِذْ مَدْلُولُهَا لَيْسَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ حَتَّى تَحْكِيَ الْخَيْرِيَّةَ فِي حَالِ مُقَارَنَتِهَا لَهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ الصَّالِحَةِ لِلتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّوْصِيفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَالْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا قَرِيبًا.
وَإِنَّمَا قَدَّمَ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى قَوْلِهِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُمَا الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمَسُوقِ لِلتَّنْوِيهِ بِفَضِيلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الْحَاصِلَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ
[آل عمرَان: ١٠٤] وَالِاهْتِمَامُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّقْدِيمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ ثَابِتٌ مُحَقَّقٌ مِنْ قَبْلُ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ فِي عِدَادِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا التَّفْضِيلَ عَلَى الْأُمَمِ، لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَفْضَلِيَّةِ أَثَرًا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى
50
بَعْضِ الْفِرَقِ، فَالْإِيمَانُ قُصِدَ بِهِ التَّفْضِيلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذين كَانُوا يفتخروم بِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: ١٩] وَذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، قُصِدَ بِهِ التَّفْضِيلُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ أَضَاعُوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [الْمَائِدَة: ٧٩].
فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ وَجْهُ التَّفْضِيلِ عَلَى الْأُمَمِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ، فَقَدْ شَارَكَنَا فِي هَذِهِ الْفَضِيلَةِ بَعْضُ الْجَمَاعَاتِ مِنْ صَالِحِي الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَنَا، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ عَلَى حَسْبِ شَرَائِعِهِمْ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، لَتَعَذَّرَ أَنْ يَتْرُكَ الْأُمَمُ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّ الْغَيْرَةَ عَلَى الدِّينِ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي نُفُوسِ الصَّادِقِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ.
قُلْتُ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ صَالِحِي الْأُمَمِ كَانُوا يَلْتَزِمُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّعُونَ فِي حِلِّ التَّقِيَّةِ، وَهَذَا هَارُونُ فِي زَمَنِ مُوسَى عَبَدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ مُحَاوَرَةَ مُوسَى مَعَهُ بِقَوْلِهِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: ٩٢- ٩٤] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: ١١٣، ١١٤] الْآيَةَ فَتِلْكَ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَقَدْ كَانُوا فِئَةً قَلِيلَةً بَيْنَ قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا جَمْهَرَةَ الْأُمَّةِ.
وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَعِصْمَتِهِ مِنَ الْخَطَأِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَإِذَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مُنْكَرًا، وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَأْمُورَةَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي
51
ضَمْنِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ سُكُوتُهَا مُنْكَرٍ يَقَعُ، وَلَا عَنْ مَعْرُوفٍ يُتْرَكُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِنْ كَانَ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِمَعْنَى الشَّرْعِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ مِنَ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ فِي هَذَا النَّوْعِ بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعَاتِ الْمُنْعَقِدَةِ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَيْهِ سُفُسْطَائِيٌّ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ لَا يُعْتَبَرُ مُنْكَرًا إِلَّا بَعْدَ إِثْبَاتِ حُكْمِهِ شَرْعًا، وَطَرِيقُ إِثْبَاتِ حُكْمِهِ الْإِجْمَاعُ، فَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى مُنْكَرٍ عِنْدَ اللَّهِ خَطَأً مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مُنْكَرًا حَتَّى يَنْهَى عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُمْ هُوَ غَايَةُ وُسْعِهِمْ.
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ.
عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ قَدْ غَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فَنَبَّهَهُمْ هَذَا الْعَطْفُ إِلَى إِمْكَانِ تَحْصِيلِهِمْ عَلَى هَذَا الْفَضْلِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُتَرَدِّدُونَ فِي أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانَ مُخَيْرِيقُ مُتَرَدِّدًا زَمَانًا ثُمَّ أَسْلَمَ، وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ تَرَدَّدُوا فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ.
وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَصَدَ بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ نَفَرٌ قَلِيلٌ
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَآمَنَ بِي الْيَهُودُ كُلُّهُمْ»
. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ (آمَنَ) هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوِ اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ لَقَبٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الَّذِي مِنْهُ أُطْلِقَتْ صِلَةُ الَّذِينَ
52
آمَنُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ أَسْلَمَ، وَصَبَأَ، وَأَشْرَكَ، وَأَلْحَدَ، دُونَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقَاتِ لَهَاتِهِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ اتَّصَفَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي صَارَتْ أَعْلَامًا عَلَى أَدْيَانٍ مَعْرُوفَةٍ، فَالْفِعْلُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَأَظْهَرُ مِنْهُ: تَهَوَّدَ، وتنصّر، وَتَزَنْدَقَ، وَتَحَنَّفَ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرَةٌ وَهِيَ جَعْلُ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَرْطِ الِامْتِنَاعِ، مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ مَعْرُوفٌ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْمُرَادَ: لَوْ آمَنُوا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَهُ.
وَأَجْمَلُ وَجْهَ كَوْنِ الْإِيمَانِ خَيْرًا لَهُمْ لِتَذْهَبَ نُفُوسُهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ فِي الرَّجَاءِ وَالْإِشْفَاقِ. وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِامْتِنَاعِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِمُقْتَضَى جَعْلِ إِيمَانِهِمْ فِي حَيِّزِ شَرْطِ (لَوِ) الِامْتِنَاعِيَّةِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ بَقِيَ بِوَصْفِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ وَصْفٌ لَا يُبْقِي وَصْفَهُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَدَيَّنُوا بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ وَصْفَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَشْمَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَوْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَجِيءَ بِالِاحْتِرَاسِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَقَ عَلَيْهِ لَقَبُ الْمُؤْمِنِ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَامٍ، وَكَانَ اسْمُهُ حُصَيْنًا وَهُوَ مِنْ بَنِي قينقاع، وأخيه، وعمصته خَالِدَةَ، وَسَعْيَةَ أَوْ سِنْعَةَ بْنِ غَرِيضِ بْنِ عَادِيًّا التَّيْمَاوَيِّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيًّا، وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وَأَسَدِ بْنِ سَعْيَةَ الْقُرَظِيِّ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُخَيْرِيقٍ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَوْ مِنْ بَنِي قينقاع، وَمثل أصمحة النَّجَاشِيِّ، فَإِنَّهُ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَعَوَّضَ عَنْ إِظْهَارِهِ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ نَصْرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَحِمَايَتَهُ لَهُمْ بِبَلَدِهِ، حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ، فَقَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا وَصَلَّى عَلَيْهِ حِينَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَرِيقٌ مُتَّقٍ فِي دِينِهِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَؤُلَاءِ مِثْلُ مَنْ بَقِيَ مُتَرَدِّدًا فِي الْإِيمَانِ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَذَى الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ النَّصَارَى مِنْ نَجْرَانَ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ، وَمِثْلُ مُخَيْرِيقٍ الْيَهُودِيِّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، عَلَى الْخِلَافِ فِي إِسْلَامِهِ، فَإِنَّهُ أَوْصَى بِمَالِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُرَادُ بِإِيمَانِهِمْ
53
صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِدِينِهِمْ. وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ فَاسِقٌ عَنْ دِينِهِ، مُحَرِّفٌ لَهُ، مِنَاوٍ لِأَهْلِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ مِثْلُ الَّذِينَ سَمُّوا الشَّاةَ لِرَسُولِ اللَّهِ يَوْمَ خَيْبَرٍ، وَالَّذِينَ حَاوَلُوا أَنْ يَرْمُوا عَلَيْهِ صَخْرَة.
[١١١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١١]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)
اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: ١١٠] لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ يُؤْذِنُ بِمُعَادَاتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ خَشْيَةً مِنْ بَأْسِهِمْ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ حِيَالَ الْمَدِينَةِ فِي خَيْبَرَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، وَقُرَيْظَةَ، وَكَانُوا أَهْلَ مَكْرٍ، وَقُوَّةٍ، وَمَالٍ، عدّة، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فِي قِلَّةٍ فَطَمْأَنَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ بَأْسَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْشَوْنَ ضُرَّهُمْ، لَكِنْ أَذَاهُمْ.
أَمَّا النَّصَارَى فَلَا مُلَابَسَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَخْشَوْهُمْ. وَالْأَذَى هُوَ الْأَلَمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ الْأَلَمُ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الضُّرُّ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ إِسْحَاقِ بْنِ خَلَفٍ:
أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ وَكُنْتُ أُبْقِي عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ
وَمَعْنَى يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ يَفِرُّونَ مُنْهَزِمِينَ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ احْتِرَاسٌ أَيْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ تَوْلِيَةَ مُنْهَزِمِينَ لَا تَوْلِيَةَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ مُتَأَمِّلِينَ فِي الْأَمْرِ. وَفِي الْعُدُولِ عَنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ إِلَى جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ مَعًا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا دَيْدَنُهُمْ وَهَجِيرَاهُمْ. لَوْ قَاتَلُوكُمْ، وَكَذَلِكَ فِي قِتَالِهِمْ غَيْرَكُمْ.
وَ (ثُمَّ) لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ. وَمَعْنَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ كَوْنُ رُتْبَةِ مَعْطُوفِهَا أَعْظَمَ مِنْ رُتْبَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ. وَهُوَ غَيْرُ التَّرَاخِي الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ التَّرَاخِي الْمَجَازِيَّ أَنْ يُشَبَّهَ مَا لَيْسَ بِمُتَأَخِّرٍ عَنِ الْمَعْطُوفِ بِالْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ يَنْهَزِمُونَ، وَإِغْرَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِهِمْ.
[١١٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٢]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ.
يَعُودُ ضَمِيرُ (عَلَيْهِمْ) إِلَى وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: ١١٠] وَهُوَ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ.
وَالْجُمْلَةُ بَيَانِيَّةٌ لِذِكْرِ حَالٍ شَدِيدٍ مِنْ شَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَمَعْنَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ اتِّصَالُهَا بِهِمْ وَإِحَاطَتُهَا، فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَبَعِيَّةٌ شُبِّهَتِ الذِّلَّةُ، وَهِيَ أَمر مَعْقُول، بَقِيَّة أَوْ خَيْمَةٍ شَمِلَتْهُمْ وَشُبِّهَ اتِّصَالُهَا وَثَبَاتُهَا بِضَرْبِ الْقُبَّةِ وَشَدِّ أَطْنَابِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ.
وثُقِفُوا فِي الْأَصْلِ أُخِذُوا فِي الْحَرْبِ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الْأَنْفَال: ٥٧] وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنٍ مِنْ أَخْذِ الشَّيْءِ، وَتَصَرُّفٍ فِيهِ بِشِدَّةٍ، وَمِنْهَا سُمِّيَ الْأَسْرُ ثِقَافًا، وَالثِّقَافُ آلَةٌ كَالْكَلُّوبِ تُكْسَرُ بِهِ أَنَابِيبُ قَنَا الرِّمَاحِ. قَالَ النَّابِغَة:
عضّ الشّقاف عَلَى صُمِّ الْأَنَابِيبِ وَالْمَعْنَى هُنَا: أَيْنَمَا عُثِرَ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَيْنَمَا وُجِدُوا، أَيْ هُمْ لَا يُوجَدُونَ إِلَّا مَحْكُومِينَ،
شَبَّهَ حَالَ مُلَاقَاتِهِمْ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ بِحَالِ أَخْذِ الْأَسِيرِ لِشِدَّةِ ذُلِّهِمْ.
55
وَقَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ الْحَبَلُ مُسْتَعَارٌ لِلْعَهْدِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٦] وَعَهْدُ اللَّهِ ذِمَّتُهُ، وَعَهْدُ النَّاسِ حِلْفُهُمْ، وَنَصْرُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ أَحْوَالٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ الَّتِي لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ مُتَلَبِّسِينَ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا مُتَلَبِّسِينَ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبُوا بِذِلَّةٍ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الذِّلَّةِ إِلَّا إِذَا تَلَبَّسُوا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِذَا اسْتَنْصَرُوا بِقَبَائِلَ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَمَّا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ فَلَا نَصْرَ لَهُمْ. وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا أعزّة بيشرب وَخَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، فَأَصْبَحُوا أَذِلَّةً، وَعَمَّتْهُمُ الْمَذَلَّةُ فِي سَائِرِ أقطار الدُّنْيَا.
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ رَجَعُوا وَهُوَ مَجَازٌ لِمَعْنَى صَارُوا إِذْ لَا رُجُوعَ هُنَا.
وَالْمَسْكَنَةُ الْفَقْرُ الشَّدِيدُ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْمِسْكِينِ وَهُوَ الْفَقِيرُ، وَلَعَلَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ السُّكُونِ وَهُوَ سُكُونٌ خَيَالِيٌّ أُطْلِقَ عَلَى قِلَّةِ الْحِيلَةِ فِي الْعَيْشِ. وَالْمُرَادُ بِضَرْبِ الْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ تقديرها لَهُم وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمُغَيَّبٍ لِأَنَّ الْيَهُودَ الْمُخْبِرَ عَنْهُمْ قَدْ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ حِينَ أُخِذَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ، ثُمَّ بِإِجْلَائِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زمن عمر.
مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
الْإِشَارَةُ إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ. وَمَعْنَى يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٢١] أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
56
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالْبَاءُ سَبَبُ السَّبَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً ثَانِيَةً إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ فَيَكُونُ سَبَبًا ثَانِيًا. (وَمَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَهَذَا نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ فَكُفْرُهُمْ بِالْآيَاتِ سَبَبُهُ الْعِصْيَانُ، وَقَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ سَببه الاعتداء.
[١١٣، ١١٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١١٣ إِلَى ١١٤]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ إِنْصَافُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى مُعْظَمِهِمْ بِصِيغَةٍ تَعُمُّهُمْ، تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: ١١٠] فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ آنِفًا، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا منزلَة التَّمْهِيد.
و (سَوَاء) اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْوِيَةِ.
وَجُمْلَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ إِلَخْ... مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ لَيْسُوا سَواءً وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلِاهْتِمَامِ بهؤلاء الْأمة، فلأمّة هُنَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ.
وَإِطْلَاقُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكتاب: ليَكُون ذَا الثَّنَاءُ شَامِلًا لِصَالِحِي الْيَهُودِ، وَصَالِحِي النَّصَارَى، فَلَا يُخْتَصُّ بِصَالِحِي الْيَهُودِ، فَإِنَّ صَالِحِي الْيَهُودِ قَبْلَ بَعْثَةِ عِيسَى كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ، مُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسَى وَاتَّبَعُوهُ، وَكَذَلِكَ صَالِحُو النَّصَارَى قَبْلَ
بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَهْلُ تَهَجُّدٍ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ وَقَدْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ وَالْجَمَاعَةُ.
وَمَعْنَى قَائِمَةٌ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِلْعَمَلِ بِدِينِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ، كَمَا يُقَالُ: سُوقٌ قَائِمَةٌ وَشَرِيعَةٌ قَائِمَةٌ.
وَالْآنَاءُ أَصْلُهُ أَأْنَاءُ بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ، وَهُوَ جَمْعُ إِنًى- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ النُّونِ مَقْصُورًا- وَيُقَالُ أَنَى- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- قَالَ تَعَالَى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: ٥٣] أَيْ مُنْتَظَرِينَ وَقْتَهُ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَسْجُدُونَ حَالٌ، أَيْ يَتَهَجَّدُونَ فِي اللَّيْلِ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِمْ، فَقُيِّدَتْ تِلَاوَتُهُمُ الْكِتَابَ بِحَالَةِ سُجُودِهِمْ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ أَبْلَغُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: يَتَهَجَّدُونَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صُورَةِ فِعْلِهِمْ.
وَمَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يُسَارِعُونَ إِلَيْهَا أَيْ يَرْغَبُونَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا.
وَالْمُسَارَعَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، تَشْبِيهًا لِلِاسْتِكْثَارِ وَالِاعْتِنَاءِ بِالسَّيْرِ السَّرِيعِ لِبُلُوغِ الْمَطْلُوبِ. وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ تَخْيِيلِيَّةٌ تُؤْذِنُ بِتَشْبِيهِ الْخَيْرَاتِ بِطَرِيقٍ يَسِيرُ فِيهِ السَّائِرُونَ، وَلِهَؤُلَاءِ مَزِيَّةُ السُّرْعَةِ فِي قَطْعِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَجْمُوعَ الْمُرَكَّبِ مِنْ قَوْلِهِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ تَمْثِيلًا لِحَالِ مُبَادَرَتِهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ بِحَالِ السَّائِرِ الرَّاغِبِ فِي الْبُلُوغِ إِلَى قَصْدِهِ يُسْرِعُ فِي سَيْرِهِ. وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧٦].
وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِسَبَبِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ من الْأَوْصَاف.
[١١٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٥]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
58
(١١٥)
تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمرَان: ١١٣] إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمرَان: ١١٤] وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفْعَلُوا- بِالْفَوْقِيَّةِ- فَهُوَ وَعْدٌ لِلْحَاضِرِينَ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّالِحِينَ السَّابِقِينَ مِثْلُهُمْ، بِقَرِينَةِ مَقَامِ الِامْتِنَانِ، وَوُقُوعِهُ عَقِبَ ذِكْرِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ وَيَفْعَلُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا لِخِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَائِدًا إِلَى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ.
وَالْكُفْرُ: ضِدُّ الشُّكْرِ أَيْ هُوَ إِنْكَارُ وُصُولِ النِّعْمَةِ الْوَاصِلَةِ. قَالَ عَنْتَرَةُ:
نُبِّئْتُ عَمْرًا غَيْرَ شَاكِرِ نِعْمَتِي وَالْكَفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ
وَقَالَ تَعَالَى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ وَأَصْلُ الشُّكْر وَالْكفْر أيتعديا إِلَى وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُمَا النِّعْمَةَ كَمَا فِي الْبَيْتِ. وَقَدْ يُجْعَلُ مَفْعُولُهُمَا الْمُنْعِمُ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ شَكَرْتُ لَهُ وَكَفَرْتُ لَهُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: ١٥٢] وَقد عدّي تَكْفُرُونِ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَائِبُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى خَيْرٍ بِتَأْوِيلِ خَيْرٍ بِجَزَاءِ فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْدَامِ وَأُطْلِقَ الْكُفْرُ هُنَا عَلَى تَرْكِ جَزَاءِ فِعْلِ الْخَيْرِ، تَشْبِيهًا لِفِعْلِ الْخَيْرِ بِالنِّعْمَةِ. كَأَنَّ
فَاعِلَ الْخَيْرِ أَنْعَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [التغابن: ١٧] فَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِمَا هـ من لَوَازِم الْعُرْفِيَّةِ. وَهُوَ الْكُفْرُ، عَلَى أَنَّ فِي الْقَرِينَةِ اسْتِعَارَةً مُصَرِّحَةً مِثْلَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٧]. وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِذْ جَعَلَ طَاعَتَنَا إِيَّاهُ كَنِعْمَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا شُكْرًا، وَتَرْكَ ثَوَابِهَا كُفْرًا فَنَفَاهُ. وَسَمَّى نَفْسَهُ الشَّكُورَ.
وَقد عدّي الْكفْر أَن هُنَا إِلَى النِّعْمَةِ عَلَى أصل تعديته.
59

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٦]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ وَعْدِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَإِنَّمَا عَطْفُ الْأَوْلَادِ هُنَا لِأَنَّ الْغَنَاءَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ يَكُونُ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَالْمَالُ يَدْفَعُ بِهِ الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ فِي فِدَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَالْوَلَدُ يُدَافِعُونَ عَنْ أَبِيهِمْ بِالنَّصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ فِي طَالِعَةِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَكَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ مَعَ الْمَعْطُوفِ فِي قَوْلِهِ وَلا أَوْلادُهُمْ لِتَأْكِيدِ عَدَمِ غَنَاءِ أَوْلَادِهِمْ عَنْهُمْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ أَنَّ الْأَوْلَادَ لَا يَقْعُدُونَ عَنِ الذَّبِّ عَنْ آبَائِهِمْ.
وَيَتَعَلَّقُ مِنَ اللَّهِ بِفِعْلِ لَنْ تُغْنِيَ عَلَى مَعْنَى (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ أَيْ غَنَاءٍ يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِالْعَفْوِ عَنْ كُفْرِهِمْ.
وَانْتَصَبَ (شَيْئًا) عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِفِعْلِ لَنْ تُغْنِيَ أَيْ شَيْئًا مِنْ غَنَاءٍ. وَتَنْكِيرُ شَيْئًا لِلتَّقْلِيلِ.
وَجُمْلَةُ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً، عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ فِي أَمْثَالِهَا أَنْ يَكُونَ بِدُونِ عَطْفٍ، لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُنْصَبًّا عَلَيْهَا التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنْ) فَيَكْمُلُ لَهَا مِنْ أَدِلَّةِ تَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا خَمْسَةُ أَدِلَّة هِيَ: التّكيد ب إِنَّ، وَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَوصف خَالدُونَ.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٧]

مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ... إِلَخْ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ إِنْفَاقِهِمُ الْأَمْوَالَ فِي الْخَيْرِ مِنْ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَإِعْطَاءِ الدِّيَاتِ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْقَتْلَى.
ضَرَبَ لِأَعْمَالِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْوَالِ مَثَلًا، فَشَبَّهَ هَيْئَةَ إِنْفَاقِهِمُ الْمُعْجِبِ ظَاهِرُهَا، الْمُخَيِّبِ آخِرُهَا، حِينَ يُحْبِطُهَا الْكُفْرُ، بِهَيْئَةِ زَرْعٍ أَصَابَتْهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ فَأَهْلَكَتْهُ، تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَلَمَّا كَانَ التَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيًّا لَمْ يَتَوَخَّ فِيهِ مُوَالَاةَ مَا شَبَّهَ بِهِ إِنْفَاقَهُمْ لِأَدَاةِ التَّمْثِيلِ، فَقِيلَ: كَمَثَلِ رِيحٍ، وَلَمْ يَقُلْ: كَمَثَلِ حَرْثِ قَوْمٍ.
وَالْكَلَامُ عَلَى الرِّيحِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالصِّرُّ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُمِيتُ لِكُلِّ زَرْعٍ أَوْ وَرَقٍ يَهُبُّ عَلَيْهِ فَيَتْرُكُهُ كَالْمُحْتَرِقِ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الصِّرِّ عَلَى الرِّيحِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ وَإِنَّمَا الصِّرُّ اسْمُ الْبَرْدِ. وَأَمَّا الصَّرْصَرُ فَهُوَ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ وَقَدْ تَكُونُ بَارِدَةً. وَمَعْنَى الْآيَةِ غَنِيٌّ عَنِ التَّأْوِيلِ، وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الصِّرُّ هُنَا اسْمًا لِلرِّيحِ الْبَارِدَةِ وَجَعَلَهُ مُرَادِفَ الصَّرْصَرِ. وَقَدْ أَقَرَّهُ الْكَاتِبُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْإِطْلَاقَ فِي الْأَسَاسِ وَلَا ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ.
وَفِي قَوْله يها صِرٌّ
إِفَادَةُ شِدَّةِ بِرْدِ هَذِهِ الرِّيحِ، حَتَّى كَأَنَّ جِنْسَ الصِّرِّ مَظْرُوفٌ فِيهَا، وَهِيَ تَحْمِلُهُ إِلَى الْحَرْثِ.
وَالْحَرْثُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ: أَيْ مَحْرُوثُ قَوْمٍ أَيْ أَرْضًا مَحْرُوثَةً وَالْمُرَادُ أَصَابَتْ زَرْعَ حَرْثٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِي الْحَرْثِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمرَان: ١٤] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَقَوْلُهُ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
إِدْمَاجٌ فِي خِلَالِ التَّمْثِيلِ يُكْسِبُ التَّمْثِيلَ تَفْظِيعًا وَتَشْوِيهًا وَلَيْسَ جُزْءًا مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا. وَقَدْ يَذْكُرُ الْبُلَغَاءُ مَعَ الْمُشَبَّهِ بِهِ صِفَاتٍ لَا يَقْصِدُونَ مِنْهَا غَيْرَ التَّحْسِينِ أَوِ التَّقْبِيحِ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بَيْضٌ يَعَالِيلُ
فَأَجْرَى عَلَى الْمَاءِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْمُشَبَّهِ بِهِ صِفَاتٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي التَّشْبِيهِ.
وَالسَّامِعُونَ عَالِمُونَ بِأَنَّ عِقَابَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ غَايَةٌ فِي الشِّدَّةِ، فَذَكَرَ وَصْفَهُمْ بِظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ لِتَذْكِيرِ السَّامِعِينَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ، وَجِيء بقوله ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ
غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ.
وَقَوْلُهُ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
الضَّمَائِرُ فِيهِ عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ حِينَ لَمْ يَتَقَبَّلْ نَفَقَاتِهِمْ بَلْ هُمْ تَسَبَّبُوا فِي ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ جَعَلَهُ اللَّهُ شَرْطًا فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَأَنْذَرَهُمْ لَمْ يَكُنْ عِقَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُمْ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الله لَا يُخَالف وَعْدَهُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ عَن نَفسه.
[١١٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
الْآنَ إِذْ كَشَفَ اللَّهُ دَخَائِلَ مَنْ حَوْلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَتَمَّ كَشْفٍ، جَاءَ مَوْقِعُ التَّحْذِيرِ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِمْ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِلْقَاءِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمِِْ
62
بِقَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا [آل عمرَان:
١١٩] إِلَخْ... وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، دُونَ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَهَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِنْتَاجِ فِي صِنَاعَةِ الْخَطَابَةِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّمْهِيدَاتِ وَالْإِقْنَاعَاتِ. وَحَقُّهُ الِاسْتِئْنَافُ الِابْتِدَائِيُّ كَمَا هُنَا.
وَالْبِطَانَةُ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- فِي الْأَصْلِ دَاخِلُ الثَّوْبِ، وَجَمْعُهَا بَطَائِنُ، وَفِي الْقُرْآنِ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرَّحْمَن: ٥٤] وَظَاهِرُ الثَّوْبِ يُسَمَّى الظِّهَارَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ-. وَالْبِطَانَةُ أَيْضًا الثَّوْبُ الَّذِي يُجْعَلُ تَحْتَ ثَوْبٍ آخَرَ، وَيُسَمَّى الشِّعَارَ، وَمَا فَوْقَهُ الدِّثَارَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ» ثُمَّ أُطْلِقَتِ الثِّيَابِ فِي شِدَّةِ الْقُرْبِ مِنْ صَاحِبِهَا.
وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً أَنهم كَانُوا يحالفونهم وَيَوَدُّونَهُمْ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ بَقِيَتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ كَانُوا أَحْلَافَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْيَهُودِ مَنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى دِينِهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) فِيهِ زَائِدَةٌ وَ (دُونَ) اسْمُ مَكَانٍ بِمَعْنَى حَوْلَكُمْ، وَهُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَظْهَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا
رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
[التَّوْبَة: ١٦] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَ (دُونَ) بِمَعْنَى غَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الْفَتْح: ٢٧] مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَدَخَائِلُهُمْ تَقْتَضِي التَّحْذِيرَ مِنِ اسْتِبْطَانِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا صِفَةٌ لِبِطَانَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَيْسَ مِنَ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تُفِيدُ تَخْصِيصَ النَّكِرَةِ عَمَّا شَارَكَهَا، لَكِنَّهُ يَظْهَرُ بِظُهُورِ آثَارِهِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ هَذَا شَأْنُهَا وَسَمْتُهَا، وَوَكَلَهُمْ إِلَى تَوَسُّمِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ وَقَوْلُهُ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ جُمْلَتَيْنِ فِي مَحَلِّ الْوَصْفِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقَةِ تَرْكِ عطف الصِّفَات، ويومىء إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
63
أَيْ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ عَلَامَاتِ عَدَاوَتِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَتَتَوَسَّمُونَ تِلْكَ الصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يُجْعَلُ مِنْ دُونِكُمْ وَصْفًا، وَتَكُونُ الْجُمَلُ بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفَاتٍ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنْ غَيْرِ أهل ملّتنا، وهذ الْخِلَالُ ثَابِتَةٌ لَهُمْ فَهِيَ صَالِحَةٌ لِلتَّوْصِيفِ، وَلِتَعْلِيلِ النَّهْيِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ عَدَاوَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ لَا سِيَّمَا عَدَاوَةُ قَوْمٍ يَرَوْنَ هَذَا الدِّينَ قَدْ أَبْطَلَ دِينَهُمْ، وَأَزَالَ حُظُوظَهُمْ. كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَمَعْنَى لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لَا يقصّرون فِي حبالكم، وَالْأَلْوُ التَّقْصِيرُ وَالتَّرْكُ، وَفِعْلُهُ أَلَا يَأْلُو، وَقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ فَيُعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى الْمَنْعِ فِيمَا يَرْغَبُ فِيهِ الْمَفْعُولُ، فَقَالُوا لَا آلُوكَ جَهْدًا، كَمَا قَالُوا لَا أَدَّخِرُكَ نُصْحًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَاعَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ التَّضْمِينُ مَنْسِيًّا، فَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرِّ كَمَا يُعَدَّى إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ هُنَا: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي خَبَالِكُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَا يَمْنَعُونَكُمْ، لِأَنَّ الْخَبَالَ لَا يُرْغَبُ فِيهِ وَلَا يُسْأَلُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالْبِطَانَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْبِطَانَةِ أَنْ يَسْعَوْا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ مَنِ اسْتَبْطَنَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ بِضِدِّ ذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ سَعْيِهِمْ بِالضُّرِّ، بِالْفِعْلِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي السَّعْيِ بِالْخَيرِ.
والخبال اختلال الْأَمْرِ وَفَسَادُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ فَسَادُ الْعَقْلِ خَبَالًا، وَفَسَادُ الْأَعْضَاءِ.
وَقَوْلُهُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ الْوُدُّ: الْمَحَبَّةُ، وَالْعَنَتُ: التَّعَبُ الشَّدِيدُ، أَيْ رَغِبُوا فِيمَا يعنتكم و (مَا) هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ، غَيْرُ زَمَانِيَّةٍ، فَفِعْلُ عَنِتُّمْ لَمَّا صَارَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ زَالَتْ
دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُضِيِّ.
وَمَعْنَى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ظَهَرَتْ مِنْ فَلَتَاتِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فَعَبَّرَ بِالْبَغْضَاءِ عَنْ دَلَائِلِهَا.
64
وَجُمْلَةُ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ حَالِيَّةٌ.
(وَالْآيَاتُ) فِي قَوْلِهِ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ بِمَعْنَى دَلَائِلِ سُوءِ نَوَايَا هَذِهِ الْبِطَانَةِ كَمَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحجر: ٧٥] وَلَمْ يَزَلِ الْقُرْآنُ يُرَبِّي هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى إِعْمَالِ الْفِكْرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَتَعَرُّفِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهَا: فِي التَّشْرِيعِ، وَالْمُعَامَلَةِ لِيُنْشِئَهَا أُمَّةَ عِلْمٍ وَفِطْنَةٍ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَاتِ آيَاتِ فِرَاسَةٍ وَتَوَسُّمٍ، قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَوْ تَفْقَهُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ أَعَمُّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ.
وَجُمْلَةُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ مُسْتَأْنَفَةٌ.
[١١٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٩]
هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، قُصِدَ مِنْهُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ خُلُقِ الْفَرِيقَيْنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ يُحِبُّونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُبْغِضُونَهُمْ، وَكُلُّ إِنَاءٍ بِمَا فِيهِ يَرْشَحُ، وَالشَّأْنُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَجْلِبُ الْمَحَبَّةَ إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَقَاصِدُ وَالْأَخْلَاقُ.
وَتَرْكِيبُ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ ونظائره مثل هأنا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥]-: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ. وَلَمَّا كَانَ التَّعْجِيبُ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجْمُوع الْحَالين قيل: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ فَالْعَجَبُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي حَالِ بُغْضِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ إِلَّا وَالْقَصْدُ التَّعَجُّبُ مِنْ مَضْمُونِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يُحِبُّونَكُمْ جُمْلَةُ حَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: تُحِبُّونَهُمْ لِأَنَّ محلّ التّعجيب هُوَ مَجْمُوعُ الْحَالَيْنِ.
وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّعْجِيبِ شَيْءٌ مِنَ التَّغْلِيطِ، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ إِيقَاظٍ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ كَالْعُذْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِبْطَانِهِمْ
65
أَهْلَ الْكِتَابِ بَعْدَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا آمَنُوا بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّهِ وَكُتُبِهِمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى هُدًى ذَهَبَ زَمَانُهُ، وَأَدْخَلُوا فِيهِ التَّحْرِيفَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ يَرْمُقُونَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالضَّلَالَةِ وَاتِّبَاعِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ. وَهَذَانَ النَّظَرَانِ، مِنَّا وَمِنْهُمْ، هُمَا أَصْلُ تَسَامُحِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قُوَّتِهِمْ، وَتَصَلُّبِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِمْ.
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ.
جُمْلَةُ وَتُؤْمِنُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تُحِبُّونَهُمْ كَمَا أَنَّ جُمْلَةَ وَإِذا لَقُوكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَكُلُّهَا أَحْوَالٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى ضَمَائِرِ الْخِطَابِ وَضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ.
والتعريف فِي بِالْكِتابِ لِلْجِنْسِ وَأُكِّدَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ، وَأَرَادَ بِهَذَا جَمَاعَةً مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ أَشْهَرُهُمْ زَيْدُ بْنُ الصِّتِيتِ الْقَيْنُقَاعِيُّ.
وَالْعَضُّ: شَدُّ الشَّيْءِ بِالْأَسْنَانِ. وَعَضُّ الْأَنَامِلِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَالتَّحَسُّرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَضَّ أَنَامِلَ مَحْسُوسًا، وَلَكِنْ كُنِّيَ بِهِ عَنْ لَازَمِهِ فِي الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اضْطَرَبَ بَاطِنُهُ مِنَ الِانْفِعَالِ صَدَرَتْ عَنْهُ أَفْعَالٌ تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِنْفِعَالَ، فَقَدْ تَكُونُ مُعِينَةً عَلَى دَفْعِ انْفِعَالِهِ كَقَتْلِ عَدُوِّهِ، وَفِي ضِدِّهِ تَقْبِيلُ مَنْ يُحِبُّهُ، وَقَدْ تَكُونُ قَاصِرَةً عَلَيْهِ يَشْفِي بِهَا بَعْضَ انْفِعَالِهِ، كَتَخَبُّطِ الصَّبِيِّ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَضِبَ، وَضَرْبِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ مِنَ الْغَضَبِ، وَعَضِّهِ أَصَابِعَهُ مِنَ الْغَيْظِ، وَقَرْعِهِ سِنَّهُ مِنَ النَّدَمِ، وَضَرْبِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ مِنَ التَّحَسُّرِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّأَوُّهُ وَالصِّيَاحُ وَنَحْوُهَا، وَهِيَ ضُرُوبٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْجَزَعِ، وَبَعْضُهَا جِبِلِّيٌّ كَالصِّيَاحِ، وَبَعْضُهَا عَادِيٌّ يُتَعَارَفُهُ النَّاسُ وَيَكْثُرُ بَيْنَهُمْ، فَيَصِيرُونَ يَفْعَلُونَهُ بِدُونِ تَأَمُّلٍ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ الْمُرِّيُّ:
66
فَأَقْبَلَ أَقْوَامٌ لِئَامٌ أَذِلَّةٌ يَعَضُّونَ من غيظ رُؤُوس الْأَبَاهِمِ
وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ عَلَى فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ ضَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ بِتَقْدِيرِ حَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَيْ عَلَى الْتِئَامِكُمْ وَزَوَالِ الْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ [آل عمرَان: ١٠٠]، وَنَظِيرُ هَذَا التَّعْلِيقِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لِتَقْرَعِنَّ عَلَى السِّنِّ مِنْ نَدَمٍ إِذَا تَذَكَّرْتِ يَوْمًا بَعْضَ أَخْلَاقِي
ومِنَ الْغَيْظِ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ. وَالْغَيْظُ: غَضَبٌ شَدِيدٌ يُلَازِمُهُ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ كَلَامٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ مُخَاطَبُونَ مُعَيَّنُونَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى الَّذِينَ يَعَضُّونَ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا خَلَوْا، فَلَا يُتَصَوَّرُ مُشَافَهَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ قُصِدَ إِسْمَاعُهُ لِكُلِّ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الِاتِّصَافَ بِالْغَيْظِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ عُمُومُ كُلِّ مُخَاطَبٍ نَحْوَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَة: ١٢].
وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ بِالْغَيْظِ صَرِيحُهُ طَلَبُ مَوْتِهِمْ بِسَبَبِ غَيْظِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مُلَازَمَةِ الْغَيْظِ لَهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ إِنْ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ سَبَبِ غَيْظِهِمْ، وَهُوَ حُسْنُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْتِظَامُ أَمْرِهِمْ، وَازْدِيَادُ خَيْرِهِمْ، وَفِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِلُزُومِ أَلَمِ الْغَيْظِ لَهُمْ، وَبِتَعْجِيلِ مَوْتِهِمْ بِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُكَنِّي بِهِمَا مُرَادٌ هُنَا، وَالتَّكَنِّي بِالْغَيْظِ وَبِالْحَسَدِ عَنْ كَمَالِ الْمُغِيظِ مِنْهُ الْمَحْسُودِ مَشْهُورٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ مُحَسَّدٌ، أَيْ هُوَ فِي حَالَةِ نِعْمَةٍ وَكَمَالٍ.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وَمَا بَيْنَهَا كَالِاعْتِرَاضِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مُطْلِعُكَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ.
67

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٢٠]

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها.
زَادَ اللَّهُ كَشْفًا لِمَا فِي صُدُورِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أَيْ تُصِبْكُمْ حَسَنَةٌ وَالْمَسُّ الْإِصَابَةُ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالْخَيْرِ وَالْآخَرُ بِالشَّرِّ، فَالتَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ، وَبِالْآخَرِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ، تَفَنُّنٌ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٥].
وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هُنَا الْحَادِثَةُ أَوِ الْحَالَةُ الَّتِي تَحْسُنُ عِنْدَ صَاحِبِهَا أَوْ تَسُوءُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا الِاصْطِلَاحَ الشَّرْعِيَّ.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي أَذَى الْعَدُوِّ: بِأَنْ يَتَلَقَّوْهُ بِالصَّبْرِ وَالْحَذَرِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْحَذَرِ بِالِاتِّقَاءِ أَيِ اتِّقَاءَ كَيْدِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، وَقَوْلِهِ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أَيْ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الضُّرُّ كُلُّهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَذًى، فَالْأَذَى ضُرٌّ خَفِيفٌ، فَلَمَّا انْتَفَى الضُّرُّ الْأَعْظَمُ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي دَفْعِهِ إِلَى شَدِيدِ مقاومة من الْقِتَال وَحِرَاسَةٍ وَإِنْفَاقٍ، كَانَ انْتِفَاءُ مَا بَقِيَ مِنَ الضُّرِّ هَيِّنًا، وَذَلِكَ بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، مَعَ الْحَذَرِ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ الْأَذَى إِلَى مَا يُوصِلُ ضُرًّا عَظِيمًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ يَدْعُونَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ».
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: لَا يَضُرُّكُمْ- بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ بِمَعْنَى أَضَرَّهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الضَّادِ
وَضَمِّ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً- مِنْ ضَرَّهُ يَضُرُّهُ، وَالضَّمَّةُ ضَمَّةُ إِتْبَاعٍ لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ الْإِدْغَامِ لِلتَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ: سُكُونِ الْجَزْمِ وَسُكُونِ الْإِدْغَامِ، وَيَجُوزُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ فِي الْمُضَارِعِ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ: الضَّمُّ لِإِتْبَاعِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَالْفَتْحُ لِخِفَّتِهِ، وَالْكَسْرُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِالضَّمِّ فِي الْمُتَوَاتر.
[١٢١، ١٢٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢١ إِلَى ١٢٢]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
وُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مَانِعٌ مِنْ تَعْلِيقِ الظَّرْفِ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمرَان: ١١٨] وَمِثْلُ يَفْرَحُوا بِها [آل عمرَان: ١٢٠] وَعَلَيْهِ فَهُوَ آتٍ كَمَا أَتَتْ نَظَائِرُهُ فِي أَوَائِلِ الْآيِ وَالْقِصَصِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَقِصَّةٍ عَلَى وَذَلِكَ انْتِقَالٌ اقْتِضَابِيٌّ فَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ. وَلَا يَأْتِي فِي هَذَا تَعَلُّقُ الظَّرْفِ بِفِعْلٍ مِمَّا بَعْدَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: تُبَوِّئُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مَبْدَأَ الْغَرَضِ، وَقَوْلُهُ:
هَمَّتْ لَا يَصْلُحُ لِتَعْلِيقِ إِذْ غَدَوْتَ لِأَنَّهُ مَدْخُولُ (إِذْ) أُخْرَى.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِنْ أَوْضَحِ مَظَاهِرِ كَيْدِ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ، الْمُنَافِقين، وَلَمَّا كَانَ شَأْن الْمُنَافِقين من الْيَهُود وَأَهْلِ يَثْرِبَ وَاحِدًا، وَدَخِيلَتُهُمَا
سَوَاءً، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى مَا تُدَبِّرُهُ الْيَهُودُ، جَمَعَ اللَّهُ مَكَائِدَ الْفَرِيقَيْنِ بِذِكْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ الْكَائِنَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ حِينَ نَزَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَحْلَافِهِمْ سَفْحَ جَبَلِ أُحُدٍ، حَوْلَ الْمَدِينَةِ، لِأَخْذِ الثَّأْرِ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَاسْتَشَارَ
69
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَفْعَلُونَ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، فَأَشَارَ جُمْهُورُهُمْ بِالتَّحَصُّنِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ الْمَدِينَةَ قَاتَلُوهُمْ فِي الدِّيَارِ والحصون فغلبوهم، وَإِن رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ، وَأَشَارَ فَرِيقٌ بِالْخُرُوجِ وَرَغِبُوا فِي الْجِهَادِ وَأَلَحُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِ الْمُشِيرِينَ بِالْخُرُوجِ، وَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، ثُمَّ عَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ تَرَدُّدٌ فِي الْخُرُوجِ فَرَاجَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيءٍ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ»
. وَخَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى جَبَلِ أُحُدٍ وَكَانَ الْجَبَلُ وَرَاءَهُمْ، وَصَفَّهُمْ لِلْحَرْبِ، وَانْكَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ هَزِيمَةٍ خَفِيفَةٍ لَحِقَتِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَكِيدَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأس الْمُنَافِقين، إِذا انْخَزَلَ هُوَ وَثُلُثُ الْجَيْشِ، وَكَانَ عَدَدُ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ سَبْعَمِائَةٍ، وَعَدَدُ جَيْشِ أَهْلِ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَهَمَّتْ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ من الْمُسلمين بالانخذال، ثُمَّ عَصَمَهُمُ اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أَيْ نَاصِرُهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْهَمِّ الشَّيْطَانِيِّ، الَّذِي لَوْ صَارَ عَزْمًا لَكَانَ سَبَبَ شَقَائِهِمَا، فَلِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمَا بَرَّأَهُمَا اللَّهُ مِنْ فِعْلِ مَا هَمَّتَا بِهِ، وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلَمَةَ وَفِينَا نَزَلَتْ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ وَاللَّهُ يَقُولُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَانْكَشَفَتِ الْوَاقِعَةُ عَنْ مَرْجُوحِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: «اعْلُ هُبْلُ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» وَقُتِلَ حَمْزَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَمَثَّلَتْ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ، إِذْ بَقَرَتْ عَنْ بَطْنِهِ وَقَطَعَتْ قِطْعَةً مِنْ كَبِدِهِ لِتَأْكُلَهَا لِإِحْنَةٍ كَانَتْ فِي قَلْبِهَا عَلَيْهِ إِذْ قَتَلَ أَبَاهَا عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا. وَشُجَّ وَجْهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ. وَالْغُدُوُّ: الْخُرُوجُ فِي وَقْتِ الْغَدَاةِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِكَ ابْتِدَائِيَّةٌ.
70
وَالْأَهْلُ: الزَّوْجُ. وَالْكَلَامُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ غَدَوْتَ أَيْ مِنْ بَيْتِ أَهْلِكَ وَهُوَ بَيْتُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-.
وتُبَوِّئُ تَجْعَلُ مَبَاءً أَيْ مَكَانَ بَوْءٍ.
وَالْبَوْءُ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ هُنَا الْمَقَرُّ لِأَنَّهُ يَبُوءُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَانْتَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ (تُبَوِّئُ)، ومقاعد مَفْعُولٌ ثَانٍ إِجْرَاء لفعل تبوّىء مَجْرَى تُعْطِي. وَالْمَقَاعِدُ جَمْعُ مَقْعَدٍ. وَهُوَ مَكَانُ الْقُعُودِ أَيِ الْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْقُعُودُ ضِدُّ الْوُقُوفِ وَالْقِيَامِ، وَإِضَافَةُ مقاعد لاسم لِلْقِتالِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِالْقِتَالِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْجَيْشُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا لِأَنَّهَا لَائِقَةٌ بِحَرَكَاتِهِ، فَأَطْلَقَ الْمَقَاعِدَ هُنَا عَلَى مَوَاضِعِ الْقَرَارِ كِنَايَةً، أَوْ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْمَقَرَّ وَالْمَكَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [الْقَمَر: ٥٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ مَقَاعِدَ جَرَى فِيهَا عَلَى الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ نَقْدٌ إِذْ قَالَ فِي رِثَاءِ أبي إِسْحَاق الصابىء:
أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلَا عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ الْعُوَّادِ
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ أَنَّ ابْنَ سِنَانٍ قَالَ: إِيرَادُهُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُكْرَهُ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَضَافَهُ إِلَى مَنْ تَحْتَمِلُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ وَهُمُ الْعُوَّادُ، وَلَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ الْأَمْرُ سَهْلًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: قَدْ جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْقُرْآنِ فَجَاءَتْ مَرْضِيَّةً وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَى مَنْ تَقْبُحُ إضافتها إِلَيْهِ.
[١٢٣، ١٢٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢٣ إِلَى ١٢٥]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
71
(١٢٥)
إِذْ قَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ لَمْ تَنْكَشِفْ عَنْ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، عَقَّبَ اللَّهُ ذِكْرَهَا بِأَنْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى نَصْرَهُ إِيَّاهُمُ النَّصْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ نَصْرٌ عَظِيمٌ إِذْ كَانَ نَصْرَ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ عَلَى جَيْشٍ كَثِيرٍ، ذِي عُدَدٍ وَافِرَةٍ، وَكَانَ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ سادة قُرَيْش، وأئمّة الشِّرْكِ، وَحَسْبُكَ بِأَبِي جَهْلِ بن هِشَامٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أَيْ ضُعَفَاءُ.
وَالذُّلُّ ضِدُّ الْعِزِّ فَهُوَ الْوَهَنُ وَالضَّعْفُ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ انْهِزَامَ يَوْمِ أُحُدٍ لَا يَفِلُّ حِدَّةَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا أَعِزَّةً. وَالْحَرْبُ سِجَالٌ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَمُتَعَلِّقِ فِعْلِهَا أَعْنِي إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالْفَاءُ تَقَعُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ.. فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَّرَهُمْ بِتِلْكَ الْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلشُّكْرِ فَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ بِمُلَازَمَةِ التَّقْوَى تَأَدُّبًا بِنِسْبَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: ٧٠].
وَمِنَ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ النَّصْرِ أَنْ يَثْبُتُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ لَا تَفُلَّ حِدَّتَهُمْ هَزِيمَةُ يَوْمِ أُحُدٍ.
وَظَرْفُ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ زَمَانِيٌّ وَهُوَ متعلّق «بنصركم» لِأَنَّ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ لَا يَوْمَ أُحُدٍ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَخُصَّ هَذَا الْوَقْتُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتَ ظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَكَانَ جَدِيرًا بِالتَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ.
وَالْمَعْنَى: إِذْ تَعِدُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِ اللَّهِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَمَا كَانَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَقَالَةَ إِلَّا بِوَعْدٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُولَهُ.
72
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالتَّقْرِيرِيُّ يَكْثُرُ أَنْ يُورَدَ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٣].
وَإِنَّمَا جِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الَّذِي يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِقِلَّتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَشَوْكَتِهِ، كَالْآيِسِينَ مِنْ كِفَايَةِ هَذَا الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ تَلْقِينًا لِمَنْ يُخَالِجُ نَفْسَهُ الْيَأْسُ مِنْ كِفَايَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بِأَنْ يُصَرِّحَ بِمَا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ لَازِمُهُ، وَهَذَا إِثْبَاتُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ كَافٍ.
وَلِأَجْلِ كَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ كَانَ جَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ: بَلى لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَسَعُ الْمُمَارَاةُ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٩]، فَكَانَ (بَلَى) إِبْطَالًا لِلنَّفْيِ، وَإِثْبَاتًا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَافِيًا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَقَالَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ جَاءَ- فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٩]- عِنْدَ ذِكْرِهِ وَقْعَةَ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِمَدَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَدَدُهُ أَلْفٌ بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى خَمْسَةِ آلَافٍ.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الله وعدهم بِثَلَاثَة آلَاف ثمّ صيّرهم إِلَى خَمْسَة آلَاف. وَوجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ أنّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَطْمَعَهُمْ بِالزِّيَادَةِ بقوله: مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: ٩] أَيْ مُرْدَفِينَ بِعَدَدٍ آخَرَ، وَدَلَّ كَلَامُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا وَجِلِينَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ الْعَدُوِّ،
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ»
أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ زِيَادَةَ تَثْبِيتِهِمْ ثُمَّ زَادَهُمْ أَلْفَيْنِ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا. وَبِهَذَا الْوَجْهِ فَسَرَّ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَاهَدَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَعْضُهُمْ شَهِدَ آثَارَ قَتْلِهِمْ رِجَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
73
وَوَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِـ (مُنْزَلِينَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ فِي مَوْقِعِ الْقِتَالِ عِنَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْحجر: ٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُنْزَلِينَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيف الزَّاي- وقرأه ابْن عَامر- بِفَتْح النّون وَتَشْديد الزَّايِ-. وَأَنْزَلَ وَنَزَّلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
فَالضَّمِيرَانِ: الْمَرْفُوعُ وَالْمَجْرُورُ، فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ عَائِدَانِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ جَرَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَعَلَيْهِ فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مَوْقِعُ وَعْدٍ، فَهُوَ الْمَعْنَى مَعْطُوفٌ عَلَى يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَرِدَ بَعْدَهُ، وَلَكِنَّهُ قُدِّمَ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، تَعْجِيلًا لِلطُّمَأْنِينَةِ إِلَى نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ تَقْدِيمُهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ كَمَا فِي قَوْلِ صَنَّانِ بْنِ عَبَّادٍ الْيَشْكُرِيِّ:
ثُمَّ اشْتَكَيْتُ لْأَشْكَانِي وَسَاكِنُهُ قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أَوْ قَبْرٌ عَلَى قَهَدِ
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي شَرْحِ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ: قُدِّمَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَحَسَّنَهُ شِدَّةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ (أَيْ فَالْعَامِلُ وَهُوَ الْفِعْلُ آخِذٌ حَظَّهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَلَا الْتِفَاتَ لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا عَنِ الْمَعْطُوفِ) وَلَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُ وَزَيْدًا عَمْرًا كَانَ أَضْعَفَ، لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ لَيْسَ فِي قُوَّةِ اتِّصَالِ الْفَاعِلِ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قُلْتَ:
مَرَرْتُ وَزَيْدٌ بِعَمْرٍو، لَمْ يَجُزْ مِنْ جِهَةِ أَنَّكَ لَمْ تُقَدِّمِ الْعَامِلَ، وَهُوَ الْبَاءُ، عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ. وَمِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ بِهِ قَوْلُ زَيْدٍ:
جَمَعْتَ وَعَيْبًا غِيبَةً وَنَمِيمَةً ثَلَاثَ خِصَالٍ لَسْتَ عَنْهَا بِمُرْعَوِي
وَمِنْهُ قَوْلُ آخَرَ:
74
وَلَا يَجُوزُ وَعَيْبًا جَمَعْتَ غِيبَةً وَنَمِيمَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ فَمِمَّا قَرُبَ مَأْخَذُهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَلَكِنَّ الْجَمَاعَةَ لَمْ تَتَلَقَّ هَذَا الْبَيْتَ إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ التَّقْدِيمِ فِيهِ، وَوَافَقَهُ الْمَرْزُوقِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْطُوفِ فِي مِثْلِ مَا حَسُنَ تَقْدِيمُهُ فِيهِ خَاصٌّ بِالضَّرُورَةِ فِي الشِّعْرِ، فَلِذَلِكَ خَرَّجْنَا عَلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْآيَةِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْجُمَلِ أَوْسَعُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ صُورِيٌّ.
وَوَقَعَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» - فِي حَرْفِ الْوَاوِ- أَنَّ تَقْدِيمَ مَعْطُوفِهَا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ السِّيدِ فِي شَرْحِ أَبْيَات الْجمل، والتفتازانيّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الدَّمَامِينِيُّ فِي «تُحْفَةِ الْغَرِيبِ».
وَجَعَلَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ عَائِدَيْنَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ سَيَمُدُّونَ جَيْشَ الْعَدُوِّ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَمَنْ مَعَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَخَافُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الْآيَةَ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ «الْكَشَّافُ» وَمُتَابِعُوهُ. فَيَكُونُ مُعَادُ الضَّمِيرَيْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ لِلنَّاسِ الَّذِينَ حَضَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ يَأْتُوكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الشَّرْطِ: أَيْ إِنْ صَبَرْتُمْ وَاتَّقَيْتُمْ وَأَتَاكُمْ كُرْزٌ وَأَصْحَابُهُ يُعَاوِنُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِأَكْثَرِ مِنْ أَلْفٍ وَمِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، قَالُوا فَبَلَغَتْ كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَدَلَ عَنْ إِمْدَادِهِمْ فَلَمْ يُمِدَّهُمُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ، أَيْ بِالْمَلَائِكَةِ الزَّائِدِينَ عَلَى الْأَلْفِ. وَقِيلَ: لَمْ يُمِدَّهُمْ بِمَلَائِكَةٍ أَصْلًا، وَالْآثَارُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ: مِثْلُ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالزُّهْرِيِّ: إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلٌ صَادِرٌ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالُوا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَصْبِرُوا، فَلَمَّا لَمْ يَصْبِرُوا
75
وَاسْتَبَقُوا إِلَى طَلَبِ الْغَنِيمَةِ لَمْ يُمْدِدْهُمُ اللَّهُ وَلَا بِمَلَكٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
بَدَلًا مِنْ وَإِذْ غَدَوْتَ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَيَأْتُوكُمْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا، لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ تَحْقِيقِ سُرْعَةِ النَّصْرِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ وَيَأْتُوكُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَمَعْنَى مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا الْمُبَادَرَةُ السَّرِيعَةُ، فَإِنَّ الْفَوْرَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِضَافَةُ الْفَوْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْآتِينَ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ اخْتِصَاصِ الْفَوْرِ بِهِمْ، أَيْ شِدَّةِ اتِّصَافِهِمْ بِهِ حَتَّى صَارَ يُعْرَفُ بِأَنَّهُ فَوْرُهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ خَرَجَ من فوره. و (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ (هَذَا) إِلَى الْفَوْرِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ الْقَرِيبِ، وَتِلْكَ كِنَايَة أَو استعادة لِكَوْنِهِ عَاجِلًا.
ومُسَوِّمِينَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ سَوَّمَهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّومَةِ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهِيَ الْعَلَامَةُ مَقْلُوبُ سِمَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ سِمَةٍ وَسْمَةٌ. وَتُطْلَقُ السُّومَةُ عَلَى عَلَامَةٍ يَجْعَلُهَا الْبَطَلُ لِنَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ مِنْ صُوفٍ أَوْ رِيشٍ مُلَوَّنٍ، يَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى رَأْسِ فَرَسِهِ، يَرْمُزُ بِهَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَّقِي أَنْ يَعْرِفَهُ أَعْدَاؤُهُ، فَيُسَدِّدُوا إِلَيْهِ سِهَامَهُمْ، أَوْ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ بِسُيُوفِهِمْ، فَهُوَ يَرْمُزُ بِهَا إِلَى أَنَّهُ وَاثِقٌ بِحِمَايَتِهِ نَفْسَهُ بِشَجَاعَتِهِ، وَصِدْقِ لِقَائِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمرَان: ١٤] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ وَالِاسْتِفْعَالِ تَكْثُرَانِ فِي اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ.
وَوَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ كِنَايَةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ شِدَادًا.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَعْدَادَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مُنَاسِبَةٌ لِجَيْشِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ جَيْشَ الْعَدُوِّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ أَلْفًا فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِمَدَدِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا خَشُوا أَنْ يَلْحَقَ بِالْعَدُوِّ مَدَدٌ مِنْ كُرْزٍ الْمُحَارِبِيِّ. وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَيْ بِجَيْشٍ لَهُ قَلْبٌ.
76
وَمَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ كُلُّ رُكْنٍ مِنْهَا أَلْفٌ، وَلَمَّا لَمْ تَنْقَشِعْ خَشْيَتُهُمْ مِنْ إِمْدَادِ الْمُشْرِكِينَ لِأَعْدَائِهِمْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَهُوَ جَيْشٌ عَظِيمٌ لَهُ قَلْبٌ وَمَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ وَمُقَدِّمَةٌ وَسَاقَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَمِيسُ، وَهُوَ أَعْظَمُ تَرْكِيبًا وَجَعَلَ كُلَّ رُكْنٍ مِنْهُ مُسَاوِيًا لِجَيْشِ العدوّ كلّه.
[١٢٦- ١٢٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢٦ إِلَى ١٢٨]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [الْبَقَرَة: ١٢٣] وَالْمَعْنَى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ حِينَ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ بِهِ فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ ذَلِكَ الْوَعْدَ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ وَعَدَكُمُ النَّصْرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٧٠] الْآيَةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَطْفَ الْإِخْبَارِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِمْدَادِ الْمُسْتَفَادِ من يُمْدِدْكُمْ [آل عمرَان: ١٢٥] أَوْ إِلَى الْوَعْدِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمرَان: ١٢٥] الْآيَةَ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. وبُشْرى مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ (جَعَلَهُ) أَيْ مَا جَعَلَ اللَّهُ الْإِمْدَادَ وَالْوَعْدَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ بُشْرَى، أَيْ جَعَلَهُ بُشْرَى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَ (لكم) متعلّق ب (بشرى). وَفَائِدَةُ التَّصْرِيحِ بِهِ مَعَ ظُهُورِ أَنَّ الْبُشْرَى إِلَيْهِمْ هِيَ
77
الدَّلَالَةُ عَلَى تَكْرِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِأَنْ بَشَّرَهُمْ بُشْرَى لِأَجْلِهِمْ كَمَا فِي التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١].
وَالْبُشْرَى اسْمٌ لِمَصْدَرِ بَشَّرَ كَالرُّجْعَى، وَالْبُشْرَى خَبَرٌ بِحُصُولِ مَا فِيهِ نَفْعٌ وَمَسَرَّةٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ أَيْقَنُوا بِهِ فَكَانَ فِي تَبْيِينِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ طَمْأَنَةٌ لِنُفُوسِهِمْ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَرْكَنُ إِلَى الصُّوَرِ الْمَأْلُوفَةِ.
وَالطَّمْأَنَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ: السُّكُونُ وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِيَقِينِ النَّفْسِ بِحُصُولِ الْأَمْرِ تَشْبِيهًا لِلْعِلْمِ الثَّابِتِ بِثَبَاتِ النَّفْسِ أَيْ عَدَمِ اضْطِرَابِهَا، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٠]-.
وَعُطِفَ وَلِتَطْمَئِنَّ عَلَى بُشْرى فَكَانَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ عِلَلٍ، أَيْ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَجْلِ شَيْءٍ إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ.
وَجُمْلَةُ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَذْيِيلٌ أَيْ كُلُّ نَصْرٍ هُوَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَإِجْرَاءُ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُنَا لِأَنَّهُمَا أَوْلَى بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّ الْعَزِيزَ يَنْصُرُ مَنْ يُرِيدُ نَصْرَهُ، وَالْحَكِيمُ يَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ نَصْرَهُ وَكَيْفَ يُعْطَاهُ.
وَقَوْلُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً متعلّق ب (النّصر) بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِبَعْضِ أَحْوَالِ النَّصْرِ، أَيْ لِيَقْطَعَ يَوْمَ بَدْرٍ طَرَفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالطَّرَفُ- بِالتَّحْرِيكِ- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّاحِيَةِ، وَيُخَصُّ بِالنَّاحِيَةِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى الْمَكَانِ، قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
لَعَنَ الْإِلَهُ وَزَوْجَهَا مَعَهَا هِنْدَ الْهُنُودِ طَوِيلَةَ الْفِعْلِ
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاتَّصَلَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: ٤١] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْجُزْءِ الْمُتَطَرِّفِ مِنَ الْجَسَدِ
78
كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسِ فَيَكُونُ مُسْتَعَارًا هُنَا لِأَشْرَافِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لِيَقْطَعَ مِنْ جِسْمِ الشِّرْكِ أَهَمَّ أَعْضَائِهِ، أَيْ لِيَسْتَأْصِلَ صَنَادِيدَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَتَنْكِيرُ (طَرَفًا) لِلتَّفْخِيمِ، وَيُقَالُ: هُوَ مِنْ أَطْرَافِ الْعَرَبِ، أَيْ مِنْ أَشْرَافِهَا وَأَهْلِ بُيُوتَاتِهَا.
وَمَعْنَى أَوْ يَكْبِتَهُمْ يُصِيبَهُمْ بِغَمٍّ وَكَمَدٍ، وَأَصْلُ كَبَتَ كَبَدَ بِالدَّالِ إِذَا أَصَابَهُ فِي كَبِدِهِ. كَقَوْلِهِمْ: صُدِرَ إِذَا أُصِيبَ فِي صَدْرِهِ، وَكُلِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي كُلْيَتِهِ، وَمُتِنَ إِذَا أُصِيبَ فِي مَتْنِهِ، وَرُئِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي رِئَتِهِ، فَأُبْدِلَتِ الدَّالُ تَاءً وَقَدْ تُبْدَلُ التَّاءُ دَالًا كَقَوْلِهِمْ: سَبَدَ رَأْسَهُ وَسَبَتَهُ أَيْ حَلَقَهُ. وَالْعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ مَقَرُّهُ الْكَبِدُ، وَالْغَضَبَ مَقَرُّهُ الصَّدْرُ وَأَعْضَاءُ التَّنَفُّسِ. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ يَمْدَحُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ حِينَ سَفَرِهِ عَنْ أَنْطَاكِيَةَ:
لِأَكْبِتَ حَاسِدًا وَأُرِي عَدُوًّا كَأَنَّهُمَا وَدَاعُكَ وَالرَّحِيلُ
وَقَدِ اسْتَقْرَى أَحْوَالَ الْهَزِيمَةِ فَإِنَّ فَرِيقًا قُتِلُوا فَقُطِعَ بِهِمْ طَرَفٌ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفَرِيقًا كُبِتُوا وَانْقَلَبُوا خَائِبِينَ، وَفَرِيقًا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمُوا، وَفَرِيقًا عُذِّبُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالذُّلِّ، وَالصَّغَارِ، وَالْأَسْرِ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ، بَعْدَ أَخْذِ بَلَدِهِمْ وَ «أَوْ» بَيْنَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِلتَّقْسِيمِ.
وَهَذَا الْقَطْعُ وَالْكَبْتُ قَدْ مَضَيَا يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ فِي ذَلِكَ النَّصْرِ الْمُبِينِ الْعَزِيزِ النَّظِيرِ.
وَجُمْلَةُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِ لَفْظِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى نَفْيُ أَنْ يكون للنّبيء، أَي لِقِتَالِهِ الْكُفَّارَ بِجَيْشِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي قِلَّةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْقِتَالِ، أَيْ فَالنَّصْرُ حَصَلَ بِمَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال:
١٧].
79
وَلَفْظُ (الْأَمْرِ) مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ الشَّأْنُ، وَ (الْ) فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَيْ مِنَ الشَّأْنِ الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ وَهُوَ النَّصْرُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ صَرْفِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الِاشْتِغَالِ بِشَأْنِ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ قَطْعِ طَرَفِهِمْ، وَكَبْتِهِمْ أَوْ تَوْبَةٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ تَعْذِيبٍ لَهُم: أَي فَذَلِك مَوْكُولٌ إِلَيْنَا نُحَقِّقُهُ مَتَى أَرَدْنَا، وَيَتَخَلَّفُ مَتَى أَرَدْنَا عَلَى حَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُنَا، وَذَلِكَ كَالِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَلَفْظُ (الْأَمْرِ) بِمَعْنَى شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِهِمُ اهْتِمَامٌ. وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ تَخَوُّفِ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِلْحَاحِهِ فِي الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ. وَلَعَلَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يودّ استيصال جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ وَجَدَ مُقْتَضَى ذَلِكَ وَهُوَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ لِإِهْلَاكِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرِ اسْتِيصَالَهُمْ جَمِيعًا بَلْ جَعَلَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ أَلْوَانًا فَانْتَقَمَ مِنْ طَائِفَةٍ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُمْ، وَمِنْ بَقِيَّتِهِمْ بِالْكَبْتِ، وَهُوَ الْحُزْنُ عَلَى قَتْلَاهُمْ، وَذَهَابُ رُؤَسَائِهِمْ، وَاخْتِلَالُ أُمُورِهِمْ، وَاسْتَبْقَى طَائِفَةً لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ، فَيَكُونُوا قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَيَوْمَ الْفَتْحِ: مِثْلُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخِي أَبِي جَهْلٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَذَّبَ طَائِفَةً عَذَابَ الدُّنْيَا بِالْأَسْرِ، أَوْ بِالْقَتْلِ: مِثْلَ ابْنِ خَطَلٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ:
«لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ». وَوُضِعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْأَمر هُوَ الْأَمْرِ الدَّائِرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اسْتِئْنَاسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُمْ، ثُمَّ
80
أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عِقَابِهِمْ، فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِرْضَاءٌ لَهُ مِنْ جَانِبِ الِانْتِصَارِ لَهُ، وَفِي بَعْضِهَا إِرْضَاءٌ لَهُ مِنْ جَانِبِ تَطْوِيعِهِمْ لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى بَقِيَّةِ عُقُوبَاتِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوْ يُعَذِّبَهُمْ.
وَلِكَوْنِ التَّذْكِيرِ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَقَعَ فِي خِلَالِ الْإِشَارَةِ إِلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ، كَأَنَّ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ إِيمَاءً إِلَى مَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِحِكْمَةِ الْهَزِيمَةِ اللَّاحِقَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، إِذْ كَانَ فِي اسْتِبْقَاءِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَمْ يُصِبْهُمُ الْقَتْلُ يَوْمَئِذٍ، ادِّخَارُ فَرِيقٍ عَظِيمٍ مِنْهُمْ لِلْإِسْلَامِ فِيمَا بَعْدُ، بَعْدَ أَنْ حَصَلَ رُعْبُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ، وَإِنْ حَسَبُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَيَّ حِسَابٍ بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ شَجَاعَتِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مُتَعَلِّقًا بِأَحْوَالِ يَوْمِ أُحُدٍ: لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَنْبُو عَنْهُ، وَحَالُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: خائِبِينَ.
وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَّ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ يَمْسَحُونَ الدَّمَ عَنْ وَجْهِ نَبِيِّهِمْ، فَقَالَ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ»
أَيْ فِي حَالِ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْخَيْرِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَمَعْنَاهُ: لَا تَسْتَبْعِدْ فَلَاحَهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَوِّلٌ عَلَى إِرَادَةِ:: فَذُكِّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِظُهُورِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِأَنَّ النَّبِيءَ تَعَجَّبَ مِنْ فَلَاحِهِمْ أَوِ اسْتَبْعَدَهُ، وَلَمْ يَدَّعِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، أَوْ عَمَلًا، حَتَّى يُقَالَ: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ».
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَسَمَّى أُنَاسًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِنَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْلَمُوا
. وَقِيلَ:
إِنَّهُ هَمَّ بِالدُّعَاءِ، أَوِ اسْتَأْذَنَ اللَّهَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِيصَالِ، فَنُهِيَ. وَيَرُدُّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مَا
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نبيئا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يعلمُونَ
. و
81
ورد أَنَّهُ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:
إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
. وَمَا ثَبَتَ مِنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ.
وَأَغْرَبَ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ نَسْخًا لِمَا كَانَ يَدْعُو بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُنُوتِهِ عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَلِحْيَانَ، الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَسَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي «الْبُخَارِيِّ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامٌ ضَعِيفٌ كُلُّهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ لِنَسْخِ ذَلِكَ وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ
عِلَلِ النَّصْرِ الْوَاقِعِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَتَفْسِيرُ مَا وَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة أخذا بكامل الْأَدَبِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَعْلَمَهُ فِي هَذَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ نَفْعُ الْإِسْلَامِ، وَنِقْمَةُ الْكُفْرِ، تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَعَلَّهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا. وَإِذْ جَعَلْنَا دُعَاءَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبَائِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُنُوتِ شَرْعًا تَقَرَّرَ بِالِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَدُّوِ مُبَاحٌ، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ قَبِيلِ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ، نَسَخَتْ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ اسْتِوَاءُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ أَوْلَوِيَّةِ الْفِعْلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ الْمَرْمَى، وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا، وَأَنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى حَتَّى: أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ إِيمَانِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا تَابَ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ يَجْهَلُ هَذَا أَحَدٌ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانِهِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ عِلَلِ النَّصْرِ، فَكَيْفَ يشتّت الْكَلَام، وتنتثر الْمُتَعَاطِفَاتُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الْأَمْرِ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ شَيْءٌ، مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَوْ تَوْبَتِهِمْ شَيْءٌ، أَوْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ تَوْبَةٌ عَلَيْهِمْ.
82
فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا جَمَعَ الْعُقُوبَاتِ مُتَوَالِيَةً: فَقَالَ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، قُلْتُ: رُوعِيَ قَضَاءُ حَقِّ جَمْعِ النَّظِيرِ أَوَّلًا، وَجَمْعِ الضِّدَّيْنِ ثَانِيًا، بِجَمْعِ الْقَطْعِ وَالْكَبْتِ، ثُمَّ جَمْعِ التَّوْبَةِ وَالْعَذَابِ، عَلَى نَحْوِ مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو الطَّيِّبِ عَن نقد من نَقْدِ قَوْلِهِ فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
إِذْ قَدَّمَ مِنْ صِفَتَيْهِ تَشْبِيهَهُ بِكَوْنِهِ فِي جَفْنِ الرَّدَى لِمُنَاسَبَةِ الْمَوْتِ، وَأَخَّرَ الْحَالَ وَهِيَ وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ لِمُضَادَّةِ قَوْلِهِ كَلْمَى حَزِينَةً، فِي قِصَّةٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ.
وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لَامُ الْمِلْكِ، وَكَافُ الْخِطَابِ لِمُعَيَّنٍ، وَهُوَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ إِذْ رُكِّبَتْ تَرْكِيبًا وَجِيزًا مَحْذُوفًا مِنْهُ بَعْضُ الْكَلِمَاتِ، وَلَمْ أَظْفَرْ، فِيمَا حَفِظْتُ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلَعَلَّهَا مِنْ
مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: ٤] وَسَيَجِيءُ قَرِيبٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمرَان: ١٥٤] ويَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمرَان: ١٥٤] فَإِنْ كَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ بِلَفْظِهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى فَلَا.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ أَجْدَرُ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ إِنْ وَقَعَتْ فَضْلٌ مِنَ الله تَعَالَى.
[١٢٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٢٩]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(١٢٩)
تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْحَالين على التَّوْزِيع بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمَّا كَانَ مَظِنَّةَ التَّطَلُّعِ لِمَعْرِفَةِ تَخْصِيصِ فَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ، أَوْ تَعْمِيمِ الْعَذَابِ، ذَيَّلَهُ بِالْحِوَالَةِ عَلَى إِجْمَالِ حَضْرَةِ الْإِطْلَاقِ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ أَسْرَارَ تَخْصِيصِ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يُعَيَّنُ لَهُ، أَسْرَارٌ خَفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خلق لَهُ.
[١٣٠- ١٣٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٣٠ إِلَى ١٣٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
لَوْلَا أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى يَوْمِ أُحُدٍ لَمْ يَكْمُلْ، إِذْ هُوَ سَيُعَادُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ إِلَى قَوْلِهِ: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ... [آل عمرَان: ١٧١] الْآيَةَ لَقُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا اقْتِضَابُ تَشْرِيعٍ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ نَعْتَبِرَهُ اسْتِطْرَادًا فِي خِلَالِ الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، ثُمَّ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ فِي وُقُوعِهِ فِي هَذَا الْأَثْنَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا أَحْفَظُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ مَرْوِيًّا. وَقَالَ الْفَخْرُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ:
لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْجِهَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمَّا أَنْفَقَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى جُيُوشِهِمْ أَمْوَالًا جَمَعُوهَا مِنَ الرِّبَا، خِيفَ أَنْ يَدْعُوَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا. وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ مُسْتَبْعَدَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ وَعِيدَ الْكُفَّارِ عَقَّبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْوَعِيدَ لَا يَخُصُّهُمْ بَلْ يَتَنَاوَلُ الْعُصَاةَ، وَذَكَرَ أَحَدَ صُوَرِ
الْعِصْيَانِ وَهِيَ أَكْلُ الرِّبَا. وَهُوَ فِي ضَعْفِ مَا قبله، وَعِنْدِي بادىء ذِي بَدْءٍ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى اطِّرَادِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ مُدَّةَ نُزُولِ السُّورَةِ قَابِلَةٌ، لِأَنْ تَحْدُثَ فِي خِلَالِهَا حَوَادِثُ يَنْزِلُ فِيهَا قُرْآنٌ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ
84
السُّورَةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ، فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ مَا نَزَلَ قَبْلَهَا فَكُتِبَتْ هُنَا وَلَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ إِذْ هُوَ مُلْحَقٌ إِلْحَاقًا بِالْكَلَامِ.
وَيَتَّجِهُ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ وَجْهِ إِعَادَةِ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ- بِمَا هُوَ أَوْفَى مِمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ- سُورَةِ الْبَقَرَةِ- فَكَانَتْ هَذِهِ تَمْهِيدًا لِتِلْكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّهْيُ فِيهَا بَالِغًا مَا فِي- سُورَةِ الْبَقَرَةِ- وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا وَأَنَّ ثَقِيفًا قَالُوا:
كَيْفَ نُنْهَى عَنِ الرِّبَا، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْعِ، وَيَكُونُ وَصْفُ الرِّبَا بِ أَضْعافاً مُضاعَفَةً نَهْيًا عَنِ الرِّبَا الْفَاحِشِ وَسَكَتَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْأَضْعَافِ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي- سُورَةِ الْبَقَرَةِ- وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ دَايَنَ بَعْضًا بِالْمُرَابَاةِ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي مُدَّةِ نُزُولِ قِصَّةِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى أَكْلِ الرِّبَا، وَعَلَى مَعْنَى الرِّبَا، وَوَجْهُ تَحْرِيمِهِ،- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ-.
وَقَوْلُهُ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً حَال من الرِّبَوا وَالْأَضْعَافُ جَمْعُ ضِعْفٍ- بِكَسْرِ الضَّادِ- وَهُوَ معادل الشَّيْء فِي الْمِقْدَارِ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ وَمُمَاثِلُهُ مُتَلَازِمَيْنِ، لَا تَقُولُ: عِنْدِي ضِعْفُ دِرْهَمِكَ، إِذْ لَيْسَ الْأَصْلُ عِنْدَكَ، بَلْ يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: عِنْدِي دِرْهَمَانِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَضِعْفُهُ، إِذَا كَانَ أَصْلُ الدِّرْهَمِ عِنْدَكَ، وَتَقُولُ: لَكَ دِرْهَمٌ وَضِعْفُهُ، إِذَا فَعَلْتَ كَذَا.
وَالضِّعْفُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِأَلْ نَحْوَ ضِعْفِهِ، فَإِذَا أُرِيدَ الْجَمْعُ جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا هُنَا، وَإِذَا عُرِّفَ الضِّعْفُ بِأَلْ صَحَّ اعْتِبَارُ الْعَهْدِ وَاعْتِبَارُ الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ: ٣٧] فَإِنَّ الْجَزَاءَ أَضْعَافٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ.
وَقَوْلُهُ: مُضاعَفَةً صِفَةٌ لِلْأَضْعَافِ أَيْ هِيَ أَضْعَافٌ يَدْخُلُهَا التَّضْعِيفُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَايَنُوا أَحَدًا إِلَى أَجَلٍ دَايَنُوهُ بِزِيَادَةٍ، وَمَتَى أَعْسَرَ عِنْدَ الْأَجَلِ أَوْ رَامَ التَّأْخِيرَ زَادَ مِثْلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَيَصِيرُ الضِّعْفُ ضِعْفًا، وَيَزِيدُ، وَهَكَذَا، فَيَصْدُقُ
85
بِصُورَةِ أَنْ يجْعَلُوا الدَّيْنَ مُضَاعَفًا بِمِثْلِهِ إِلَى الْأَجَلِ، وَإِذَا ازْدَادَ أَجَلًا ثَانِيًا زَادَ مِثْلَ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَالْأَضْعَافُ مِنْ أَوَّلِ التَّدَايُنِ لِلْأَجَلِ الْأَوَّلِ، وَمُضَاعَفَتُهَا فِي الْآجَالِ الْمُوَالِيَةِ، وَيَصْدُقُ بِأَنْ يُدَايِنُوا بِمُرَابَاةٍ دُونَ مِقْدَارِ الدَّيْنِ ثُمَّ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْآجَالِ، حَتَّى يَصِيرَ الدَّيْنُ أَضْعَافًا، وَتَصِيرَ الْأَضْعَافُ أَضْعَافًا،
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْحَالُ وَارِدَةٌ لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ فَلَا تُفِيدُ مَفْهُومًا: لِأَنَّ شَرْطَ اسْتِفَادَةِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْقُيُودِ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَيْدُ الْمَلْفُوظُ بِهِ جَرَى لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْحَالُ وَارِدَةٌ لقصد التشنيع وإراءة هَذِهِ الْعَاقِبَةِ الْفَاسِدَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ غَالِبُ الْمَدِينِينَ تَسْتَمِرُّ حَاجَتُهُمْ آجَالًا طَوِيلَةً، كَانَ الْوُقُوعُ فِي هَذِهِ الْعَاقِبَةِ مُطَّرِدًا، وَحِينَئِذٍ فَالْحَالُ لَا تُفِيدُ مَفْهُومًا كَذَلِكَ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهَا التَّقْيِيدُ بَلِ التَّشْنِيعُ، فَلَا يَقْتَصِرُ التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرِّبَا الْبَالِغِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ الرِّبَا أَقَلَّ مِنْ ضِعْفِ رَأْسِ الْمَالِ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. فَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ هُوَ مَصَبَّ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا حَتَّى يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دُونَ الضَّعْفِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَجَاءَتْ بَعْدَهَا آيَةُ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ صِيغَةَ هَذِهِ الْآيَةِ تُنَاسِبُ ابْتِدَاءَ التَّشْرِيعِ، وَصِيغَةُ آيَةِ الْبَقَرَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَذَابَ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا. وَذَكَرَ غُرُورَ مَنْ ظَنَّ الرِّبَا مِثْلَ الْبَيْعِ، وَقِيلَ فِيهَا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ [الْبَقَرَة: ٢٧٥] الْآيَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَمَفْهُومُ الْقَيْدِ مُعَطَّلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا هِيَ قَصْدُ الشَّرِيعَةِ حَمْلَ الْأُمَّةِ عَلَى مُوَاسَاةِ غَنِيِّهَا مُحْتَاجِهَا احْتِيَاجًا عَارِضًا مُوَقَّتًا بِالْقَرْضِ، فَهُوَ مَرْتَبَةٌ دُونَ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمُوَاسَاةِ إِلَّا أَنَّ الْمُوَاسَاةَ مِنْهَا فَرْضٌ كَالزَّكَاةِ، وَمِنْهَا نَدْبٌ كَالصَّدَقَةِ وَالسَّلَفِ، فَإِنِ انْتَدَبَ لَهَا الْمُكَلَّفُ حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُ عِوَضٍ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ، وَذَلِكَ أَن الْعَادة الْمَاضِيَةَ فِي الْأُمَمِ، وَخَاصَّةً الْعَرَبَ، أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتَدَايَنُ إِلَّا لِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّ الْأُمَّةِ مُوَاسَاتَهُ.
وَالْمُوَاسَاةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا، فَهُوَ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ يُرِيدُ الْمُعَامَلَةَ لِلرِّبْحِ كَالْمُتَبَايِعِينَ
86
وَالْمُتَقَارِضَيْنِ: لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ فِي الْعُرْفِ بَيْنَ التَّعَامُلِ وَبَيْنَ التَّدَايُنِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ميّز هاته الواهي بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِحَقَائِقِهَا الذَّاتِيَّةِ، لَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَعَاقِدِينَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْمَحْ لِصَاحِبِ الْمَالِ فِي اسْتِثْمَارِهِ بِطَرِيقَةِ الرِّبَا فِي السَّلَفِ، وَلَو كَانَ المستسلف غَيْرَ مُحْتَاجٍ، بَلْ كَانَ طَالِبَ سَعَةٍ وَإِثْرَاءٍ بِتَحْرِيكِ المَال الّذي يتسلّفه فِي وُجُوهِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسُمِحَ لِصَاحِبِ الْمَالِ فِي اسْتِثْمَارِهِ بِطَرِيقَةِ الشَّرِكَةِ وَالتِّجَارَةِ وَدَيْنِ السَّلَمِ، وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ الرِّبَا تَفْرِقَةً بَيْنَ الْمَوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْبُعْدَ بِالْمُسْلِمِينَ عَنِ الْكَسَلِ فِي استثمار المَال، وإلجاؤهم إِلَى التَّشَارُكِ والتعاون فِي شؤون الدُّنْيَا، فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، مَعَ تَجْوِيزِ الرِّبْحِ مِنَ التِّجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا تَحْقِيقًا لِهَذَا
الْمَقْصِدِ.
وَلَقَدْ قَضَى الْمُسْلِمُونَ قُرُونًا طَوِيلَةً لَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّعَامُلِ بِالرِّبَا، وَلَمْ تَكُنْ ثَرْوَتُهُمْ أَيَّامَئِذٍ قَاصِرَةً عَنْ ثَرْوَةِ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ فِي الْعَالَمِ، أَزْمَانَ كَانَتْ سيادة الْعَالم بيدهم، أَوْ أَزْمَانَ كَانُوا مستقلّين بإدارة شؤونهم، فَلَمَّا صَارَتْ سِيَادَةُ الْعَالَمِ بِيَدِ أُمَمٍ غَيْرِ إِسْلَامِيَّةٍ، وَارْتَبَطَ الْمُسْلِمُونَ بِغَيْرِهِمْ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، وَانْتَظَمَتْ سُوقُ الثَّرْوَةِ الْعَالَمِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ الْقَوَانِينِ الَّتِي لَا تَتَحَاشَى الْمُرَابَاةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا تَعْرِفُ أَسَالِيبَ مُوَاسَاةِ الْمُسْلِمِينَ، دُهِشَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمُ الْيَوْمَ يَتَسَاءَلُونَ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِي الْآيَةِ صَرِيحٌ، وَلَيْسَ لِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مُبِيحٌ. وَلَا مُخَلِّصَ من هَذَا الْمضيق إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الدُّوَلُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَوَانِينَ مَالِيَّةً تُبْنَى عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَصَارِفِ، وَالْبُيُوعِ، وَعُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ المركبة من رُؤُوس الْأَمْوَالِ وَعَمَلِ الْعُمَّالِ. وَحَوَالَاتِ الدُّيُونِ وَمُقَاصَّتِهَا وَبَيْعِهَا. وَهَذَا يَقْضِي بِإِعْمَالِ أَنْظَارِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّدَارُسِ بَيْنَهُمْ فِي مَجْمَعٍ يَحْوِي طَائِفَةً مِنْ كُلِّ فُرْقَةٍ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّبَا وَالْبُيُوعِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ الْآيَاتِ الْخَمْسَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
87
وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ تَحْذِيرٌ وَتَنْفِيرٌ مِنَ النَّارِ وَمَا يُوقِعُ فِيهَا، بِأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ لِلْكَافِرِينَ وَإِعْدَادُهَا لِلْكَافِرِينَ. عَدْلٌ مِنَ الله تَعَالَى وَحِكْمَة لأنّ ترتّب الْأَشْيَاءِ عَلَى أَمْثَالِهَا مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْحِرْمَانَ مِنْ رَحَمَاتِهِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَرْضَوْنَ بِمُشَارَكَةِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الْحَقَّ يُوجِبُ كَرَاهِيَةَ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْكُفْرِ. وَذَاكَ تَعْرِيضٌ وَاضِحٌ فِي الْوَعِيدِ عَلَى أَخْذِ الرِّبَا.
وَمُقَابِلُ هَذَا التَّنْفِيرِ التَّرْغِيبُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمرَان: ١٣٣]، وَالتَّقْوَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ.
وَتَعْرِيفُ النَّارِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْوَصْفُ لِلنَّارِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التَّحْرِيم: ٦]، وَقَوْلِهِ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاء: ٩١] الْآيَةَ.
[١٣٣، ١٣٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٣٣ إِلَى ١٣٤]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ سارِعُوا دُونَ وَاوِ عَطْفٍ.
تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ سارِعُوا.. مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ، أَوْ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ، لِجُمْلَةِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ مُسَارَعَةٌ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَلِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَة والجنّة يؤول إِلَى الْأَمْرِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ جَازَ عَطْفُ الْجُمْلَة على الْجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، فَلِذَلِكَ قَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ وَسارِعُوا. بِالْعَطْفِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُنْبِئُنَا بِأَنَّهُ يجوز الْفَصْل والوصل فِي بَعْضِ الْجُمَلِ بِاعْتِبَارَيْنِ.
وَالسُّرْعَةُ الْمُشْتَقُّ مِنْهَا سَارِعُوا مَجَازٌ فِي الْحِرْصِ وَالْمُنَافَسَةِ وَالْفَوْرِ إِلَى عَمَلِ الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةُ حَقِيقَةً، وَهِيَ سُرْعَةُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَاد عِنْد النفير كَقَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»
88
وَالْمُسَارَعَةُ، عَلَى التَّقَادِيرِ كُلِّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَتَعْلِيقُهَا بِذَاتِ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالذَّوَاتِ عَلَى إِرَادَةِ أَحْوَالِهَا عِنْدَ ظُهُورِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالذَّاتِ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، مُجَرَّدَةً عَنِ مَعْنَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ، قَصْدَ الْمُبَالِغَةِ فِي طَلَبِ الْإِسْرَاعِ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِمَا يَدُلُّ فِي الْوَضْعِ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّأْكِيدَ وَالْمُبَالَغَةَ دُونَ التَّكْرِيرِ، وَنَظِيرُهُ التَّثْنِيَةُ فِي قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤].
وَتَنْكِيرُ (مَغْفِرَةٍ) وَوَصْلُهَا بِقَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ مَعَ تأتّي الْإِضَافَةِ بِأَنْ يُقَالَ إِلَى مَغْفِرَةِ رَبِّكُمْ، لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَوَصْفِ الْجَنَّةِ بِأَنَّ عَرْضَهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ فِي نَظِيرَتِهَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ.
وَالْعَرْضُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ الطُّولَ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاتِّسَاعِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْعَرِيضَ هُوَ الْوَاسِعُ فِي الْعُرْفِ بِخِلَافِ الطَّوِيلِ غَيْرِ الْعَرِيضِ فَهُوَ ضَيِّقٌ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعُدَيْلِ:
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تَنَالَنِي بِسَاطٌ بِأَيْدِي النَّاعِجَاتِ عَرِيضُ
وَذِكْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي تَمْثِيلِ شِدَّةِ الِاتِّسَاعِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ عَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيُوَافِقَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ مِنْ عُلَمَائِنَا بِأَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ، وَأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ عَرْضُهَا حَقِيقَةً، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ لَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَدْ
رُوِيَ: الْعَرْشُ سَقْفُ الْجَنَّةِ
. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقِ الْآنَ وَسَتُخْلَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الظَّاهِرِيُّ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ تُخْلَقَ فِي سَعَةِ الْفَضَاءِ الَّذِي كَانَ يَمْلَؤُهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَوْ فِي سَعَةِ فَضَاءٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَفِي حَدِيثِ رُؤْيَا رَآهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ الَّذِيِِ
89
فِيهِ
قَوْلُهُ: «إنّ جِبْرِيل وميكاييل قَالَا لَهُ:
ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعَ فَإِذَا فَوْقَهُ مِثْلُ السَّحَابِ، قَالَا: هَذَا مَنْزِلُكَ، قَالَ: فَقُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ»
.
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤).
أَعْقَبَ وَصْفَ الْجَنَّةِ بِذِكْرِ أَهْلِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يزِيد التّنويه بِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُقَلَاءُ يَتَخَيَّرُونَ حُسْنَ الْجِوَارِ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
مَنْ مَبْلَغٌ أَفَنَاءَ يَعْرُبَ كُلِّهَا أَنِّي بَنَيْتُ الْجَارَ قَبْلَ الْمَنْزِلِ
وَجُمْلَةُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ ذِكْرَ الْجَنَّةِ عَقِبَ ذِكْرِ النَّارِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَعَرَّفُوا مَنِ الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمْ: فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُتَّقِينَ أَكْمَلُ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّقْوَى، فَإِعْدَادُهَا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا- فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى- الَّذِينَ لَا يَلِجُونَ النَّارَ أَصْلًا- عَدْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى- فَيَكُونُ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمرَان: ١٣١]، وَيَكُونُ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ التَّائِبِينَ قَدْ أَخَذُوا بحظّ من الدَّارَيْنِ، لِمُشَابِهَةِ حَالِهِمْ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ عَدْلًا مِنَ اللَّهِ وَفَضْلًا، وَبِمِقْدَارِ الِاقْتِرَابِ مِنْ أَحَدِهِمَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِنَصِيبٍ مِنْهُ، وَأُرِيدَ الْمُتَّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ فَالْإِعْدَادُ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ مُقَدَّرُونَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْعَاقِبَةِ.
وَقَدْ أَجْرَى عَلَى الْمُتَّقِينَ صِفَاتِ ثَنَاءٍ وَتَنْوِيهٍ، هِيَ لَيْسَتْ جِمَاعَ التَّقْوَى، وَلَكِنَّ اجْتِمَاعَهَا فِي مَحَلِّهَا مُؤذن بأنّ ذَلِك الْمَحَلَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا قَدِ اسْتَكْمَلَ مَا بِهِ التَّقْوَى، وَتِلْكَ هِيَ مُقَاوَمَةُ الشُّحِّ الْمُطَاعِ، وَالْهَوَى الْمُتَّبَعِ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: الْإِنْفَاقُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْإِنْفَاقُ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَإِعْطَاءُ الْمَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالسَّرَّاءُ فَعْلَاءُ، اسْمٌ لِمَصْدَرِ
90
سَرَّهُ سَرًّا وسرورا. والضّراء كَذَلِك مِنْ ضَرَّهُ، أَيْ فِي حَالَيِ الِاتِّصَافِ بِالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ، وَكَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُنَا لِأَنَّ السَّرَّاءَ فِيهَا مَلْهَاةٌ عَنِ الْفِكْرَةِ فِي شَأْنِ غَيْرِهِمْ، وَالضَّرَّاءَ فِيهَا مَلْهَاةٌ وَقِلَّةُ مَوْجِدَةٍ. فَمُلَازَمَةُ الْإِنْفَاقِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ نَفْعِ الْغَيْرِ بِالْمَالِ، الَّذِي هُوَ عَزِيزٌ على النّفس، قد صَارَت لَهُمْ خُلُقًا لَا يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ حَاجِبٌ وَلَا يَنْشَأُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ نَفْسٍ طَاهِرَةٍ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ. وَكَظْمُ الْغَيْظِ إِمْسَاكُهُ وَإِخْفَاؤُهُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَظَمَ الْقِرْبَةَ إِذَا مَلَأَهَا وَأَمْسَكَ فَمَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْإِمْسَاكِ مَعَ الِامْتِلَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْوَى الْقُوَى تَأْثِيرًا عَلَى النَّفْسِ الْقُوَّةُ الْغَاضِبَةُ فَتَشْتَهِي إِظْهَارَ آثَارِ الْغَضَبِ، فَإِذَا اسْتَطَاعَ إِمْسَاكَ مَظَاهِرِهَا، مَعَ الِامْتِلَاءِ مِنْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَزِيمَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ، وَقَهْرِ الْإِرَادَةِ لِلشَّهْوَةِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ قُوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَفْوُ عَنِ النّاس فِيمَا أساؤوا بِهِ إِلَيْهِمْ. وَهِيَ تَكْمِلَةٌ لِصِفَةِ كَظْمِ الْغَيْظِ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ لِأَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ قَدْ تَعْتَرِضُهُ نَدَامَةٌ فَيَسْتَعْدِي عَلَى مَنْ غَاظَهُ بِالْحَقِّ، فَلَمَّا وُصِفُوا بِالْعَفْوِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ وَصْفٌ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ، مُسْتَمِرٌّ مَعَهُمْ. وَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي نَفْسٍ سَهُلَ مَا دُونَهَا لَدَيْهَا.
وَبِجِمَاعِهَا يَجْتَمِعُ كَمَالُ الْإِحْسَانِ وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مُحْسِنُونَ وَاللَّهُ يحبّ الْمُحْسِنِينَ.
[١٣٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٣٥]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
91
(١٣٥)
إِنْ كَانَ عَطْفَ فَرِيقٍ آخَرَ، فَهُمْ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ الْكَامِلِينَ، بَلْ هُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَإِنْ كَانَ عَطْفَ صِفَاتِ، فَهُوَ تَفْضِيلٌ آخَرُ لِحَالِ الْمُتَّقِينَ بِأَنْ ذَكَرَ أَوَّلًا حَالَ كَمَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ تَدَارُكِهِمْ نَقَائِصَهُمْ.
وَالْفَاحِشَةُ الْفَعْلَةُ الْمُتَجَاوِزَةُ الْحَدِّ فِي الْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [النَّجْم: ٣٢] وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ فَحَشَ بِمَعْنَى قَالَ قَوْلًا ذَمِيمًا، كَمَا
فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا»
، أَوْ فَعَلَ فِعْلًا ذَمِيمًا،
وَمِنْهُ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: ٢٨].
وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّعْرِيفَ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ فَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، وَظُلْمُ النَّفْسِ هُوَ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ، وَعَطْفُهَا هُنَا عَلَى الْفَوَاحِشِ كَعَطْفِ الْفَوَاحِشِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [النَّجْم: ٣٢]. فَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الْمَعْصِيَةُ الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الْكَبِيرَةُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ هِيَ الْكَبِيرَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى الْغَيْرِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ الْكَبِيرَةُ الْقَاصِرَةُ عَلَى النَّفْسِ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى مَعْنَى الْمِثَالِ.
وَالذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ ذِكْرُ الْقَلْبِ وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَنْهُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ وَأَمَّا ذِكْرُ اللِّسَانِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ هُنَا ذِكْرُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ.
وَالِاسْتِغْفَار: طلب الغفر أَيِ السِّتْرُ لِلذُّنُوبِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، وَلِذَلِكَ صَارَ يُعَدَّى إِلَى الذَّنْبِ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: ٥٥]. وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الصَّفْحِ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ نَدَامَةٍ، وَنِيَّةِ إِقْلَاعٍ عَنِ الذَّنْبِ، وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، كَانَ الِاسْتِغْفَارُ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ، إِذْ كَيْفَ يَطْلُبُ الْعَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ مَنْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ، أَوْ عَازِمٌ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ، وَلَوْ طَلَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَكَانَ أَكْثَرَ إِسَاءَةً مِنَ
92
الذَّنْبِ، فَلِذَلِكَ عُدَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا رُتْبَةً مِنْ مَرَاتِبِ التَّقْوَى. وَلَيْسَ الِاسْتِغْفَارُ مُجَرَّدَ قَوْلِ (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) بِاللِّسَانِ وَالْقَائِلُ مُلْتَبِسٌ بِالذُّنُوبِ. وَعَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: «اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ» وَفِي كَلَامِهَا مُبَالَغَةٌ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِالْقَوْلِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِتَذَكُّرِ الذَّنْبِ وَالْحِيلَةِ لِلْإِقْلَاعِ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَاسْتَغْفَرُوا وَجُمْلَةِ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ تَسْدِيدُ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى اسْتِغْفَارِ اللَّهِ عَقِبَ الذَّنْبِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالنَّصَارَى فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عِيسَى رَفَعَ الْخَطَايَا عَنْ بَنِي آدَمَ بِبَلِيَّةِ صَلْبِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا إِتْمَامٌ لِرُكْنَيِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يُشِيرُ إِلَى النَّدَمِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْإِصْرَارِ، وَهَذَانِ رُكْنَا التَّوْبَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ:
«النَّدَمُ تَوْبَةٌ»، وَأَمَّا تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ فِيهِ بِسَبَبِ الذَّنْبِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ إِذَا تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ، وَكَيْفَ يُؤْخَذُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنَ التَّدَارُكِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي «ذَكَرُوا» أَيْ:
ذَكَرُوا اللَّهَ فِي حَالِ عَدَمِ الْإِصْرَارِ. وَالْإِصْرَارُ: الْمَقَامُ عَلَى الذَّنْبِ، وَنَفْيُهُ هُوَ مَعْنَى الْإِقْلَاعِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ يَعْلَمُونَ سُوءَ فِعْلِهِمْ، وَعِظَمَ غَضَبِ الرَّبِّ، وَوُجُوبَ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ تَفَضَّلَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ فَمَحَا بِهَا الذُّنُوبَ الْوَاقِعَةَ.
وَقَدِ انْتَظَمَ مِنْ قَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يُصِرُّوا وَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَنْتَظِمُ مِنْهَا مَعْنَى التَّوْبَةِ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ
93
الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» إِذْ قَالَ: «وَهِيَ عِلْمٌ، وَحَالٌ، وَفِعْلٌ. فَالْعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ ضُرِّ الذُّنُوبِ، وَكَوْنِهَا حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ مَا يُحِبُّهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ رَبِّهِ، وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْأَلَمُ يُسَمَّى نَدَمًا، فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ على الْقلب انبعثت مِنْهُ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ هُوَ تَرْكُ الذَّنْبِ (الْإِقْلَاعُ)، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (نَفْيُ الْإِصْرَارِ)، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمَاضِي بِتَلَافِي مَا فَاتَ».
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَكَرُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى انْفِعَالِ الْقَلْبِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا إِشَارَةٌ إِلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْإِقْلَاعُ وَنَفْيُ الْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ الْمُثِيرِ لِلِانْفِعَالِ النفساني. وَقد رتّبت هَاتِهِ الْأَرْكَانَ فِي الْآيَةِ بِحَسْبِ شِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَقْصُودِ: لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَحْصُلُ بَعْدَ الذَّنْبِ، فَيَبْعَثُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ الِاسْتِغْفَارَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْلَا حُصُولُهُ لَمَا كَانَتِ الْفَعْلَةُ مَعْصِيَةً. فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ بَعْدَ الذِّكْرِ وَنَفْيِ الْإِصْرَارِ، عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيب حُصُول مَضْمُونِهَا بَعْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ مَا جِيءَ بِهِ قَبْلَهَا فِي الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ.
ثُمَّ إِن كَانَ الْإِصْرَارِ، وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ، كَمَا فُسِّرَ بِهِ كَانَ نَفْيُهُ بِمَعْنَى الْإِقْلَاعِ لِأَجْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ بِحَسْبِ
الظَّاهِرِ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَنْبٍ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِصْرَارِ اعْتِقَادُ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ فَنَفْيُهُ هُوَ التَّوْبَةُ الْخَالِصَةُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الْإِقْلَاعِ مَعَهُ إِذِ التَّلَبُّسُ بِالذَّنْبِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِهِ من الْآن.
94

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٣٦]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
اسْتِئْنَاف للتنويه بِسَدَادِ عَمَلِهِمْ: مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَقَبُولِ اللَّهِ مِنْهُمْ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي اسْتَوْجَبُوا الْإِشَارَةَ لِأَجْلِهَا.
وَهَذَا الْجَزَاءُ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ وَعْدٌ مِنَ الله تَعَالَى، تفضّلا مِنْهُ: بِأَنْ جَعَلَ الْإِقْلَاعَ عَنِ الْمَعَاصِي سَبَبًا فِي غُفْرَانِ مَا سَلَفَ مِنْهَا. وَأَمَّا الْجَنَّاتُ فَإِنَّمَا خَلَصَتْ لَهُمْ لِأَجْلِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَوْ أُخِذُوا بِسَالِفِ ذُنُوبِهِمْ لَمَا اسْتَحَقُّوا الْجَنَّاتِ فَالْكُلُّ فَضْلٌ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ تَذْيِيلٌ لِإِنْشَاءِ مَدْحِ الْجَزَاءِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَهُوَ كثير فِي فَصِيحٌ الْكَلَامِ، وَسُمِّيَ الْجَزَاءُ أَجْرًا لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ وَعْدٍ لِلْعَامِلِ بِمَا عَمِلَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْعَامِلِينَ) لِلْعَهْدِ أَيْ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ هَذَا الْجَزَاءُ، وَهَذَا تَفْضِيل لَهُ وَالْعَمَل الْمُجَازَى عَلَيْهِ أَيْ إِذَا كَانَ لِأَصْنَافِ الْعَامِلِينَ أُجُورٌ، كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، فَهَذَا نِعْمَ الْأجر لعامل.
[١٣٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٣٧]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: تَمْهِيدٌ لِإِعَادَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ، كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَهَذَا مُقَدِّمَةُ التّسلية والبشارة الْآيَتَيْنِ. ابْتُدِئَتْ هَاتِهِ الْمُقَدِّمَةُ بِحَقِيقَةٍ تَارِيخِيَّةٍ: وَهِيَ الِاعْتِبَارُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
95
وَجِيءَ بِ (قَدْ)، الدَّالَّةِ عَلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ، تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنِ انْكِسَارِ الْخَوَاطِرِ مِنْ جَرَّاءِ الْهَزِيمَةِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِنَصْرِ دِينِ اللَّهِ، وَبَعْدَ أَنْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ سنّة هَذَا
الْعَامِل أَنْ تَكُونَ الْأَحْوَالُ فِيهِ سِجَالًا وَمُدَاوَلَةً، وَذَكَّرَهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَقَالَ:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ. وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِهِمْ، وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَحْسَبُ أَنَّ النَّصْرَ حَلِيفُهُمْ. وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَانْقَرَضَتْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمرَان: ١٣٧].
وَالسُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ- وَهِيَ السِّيرَةُ مِنَ الْعَمَلِ أَوِ الْخُلُقِ الَّذِي يلازم الْمَرْء صُدُورَ الْعَمَلِ عَلَى مِثَالِهَا قَالَ لَبِيدٌ:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا
وَقَالَ خَالِدٌ الْهُذَلِيُّ يُخَاطِبُ أَبَا ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيَّ:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سُرَّتُهَا فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وَقَدْ تردّد اعْتِبَار أئمّة اللُّغَةِ إِيَّاهَا جَامِدًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ، أَوِ اسْمَ مَصْدَرِ سَنَّ، إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ السَّنُ بِمَعْنَى وَضْعِ السُّنَّةِ، وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٣٨] : سُنَّةَ اللَّهِ اسْمٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِمْ تُرْبًا وَجَنْدَلَا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ كَمَا أُقِيمَ تُرْبًا وَجَنْدَلًا مَقَامَ تَبًّا وَسُحْقًا فِي النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْمَصَادِرِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى تُرَابٌ لَهُ وَجَنْدَلٌ لَهُ أَيْ حُصِبَ بِتُرَابٍ وَرُجِمَ بِجَنْدَلٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي مَادَّةِ سَنَّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ السنّة اسْم مصدر، وَلَا أَتَى بِهَا عَقِبَ فِعْلِ سَنَّ، وَلَا ذَكَرَ مَصْدَرًا لِفِعْلِ سَنَّ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُ سَنَّ هُوَ الْمُشْتَقُّ مِنَ السُّنَّةِ اشْتِقَاقَ الْأَفْعَالِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ، وَهُوَ اشْتِقَاقٌ نَادِرٌ. وَالْجَارِي بِكَثْرَةٍ عَلَى أَلْسِنَة المفسّرين والمعربين: أَنَّ السُّنَّةَ اسْمُ مَصْدَرِ سَنَّ وَلَمْ يَذْكُرُوا لِفِعْلِ سَنَّ مَصْدَرًا
96
قِيَاسِيًّا. وَفِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [فاطر: ٤٣] وَفَسَّرُوا السُّنَنَ هُنَا بِسُنَنِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
وَالْمَعْنَى: قَدْ مَضَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أَحْوَالٌ لِلْأُمَمِ، جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ عَادَةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ، وَهِيَ أَنَّ قُوَّةَ الظَّالِمِينَ وَعُتُوَّهُمْ عَلَى الضُّعَفَاءِ أَمْرٌ زَائِلٌ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الْمُحِقِّينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِ رَبِّهِمْ وَأُرِيدَ النَّظَرُ فِي آثَارِهِمْ لِيَحْصُلَ مِنْهُ تَحَقُّقُ مَا بَلَغَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، أَوِ السُّؤَالُ عَنْ أَسْبَابِ هَلَاكِهِمْ، وَكَيْفَ كَانُوا أُولِي قُوَّةٍ، وَكَيْفَ طَغَوْا عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، فاستأصلهم الله أَو لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُشَاهَدَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ مُشَاهَدَةَ عَيَانٍ، فَإِنَّ لِلْعَيَانِ
بَدِيعَ مَعْنًى لِأَنَّ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُ الْمُكَذِّبِينَ، وَمِنَ الْمُكَذِّبِينَ عَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ، وَكُلُّهُمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ يَسْتَطِيعُونَ مُشَاهَدَةَ آثَارِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ عِلْمِ التَّارِيخِ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ، وَأَسْبَابِ صَلَاحِ الْأُمَمِ وَفَسَادِهَا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَالْمَعْنَوِيُّ هُوَ النَّظَرُ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِلنَّاظِرِ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَمَا يَقْرُبُ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِعَجْزِ الْإِنْسَانِ وَقُصُورِهِ».
وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ دُونَ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ مَنْ كَانُوا أُمِّيِّينَ، وَلِأَنَّ الْمُشَاهِدَةَ تُفِيدُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ عِلْمًا وَتَقْوًى عِلْمَ مَنْ قَرَأَ التَّارِيخَ أَوْ قصّ عَلَيْهِ.
[١٣٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٣٨]
هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
تَذْيِيلٌ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ الْحَاضِرِينَ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَجْيَالِ، وَالْإِشَارَةُ إِمَّا إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَإِمَّا إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ.
وَالْبَيَانُ: الْإِيضَاحُ وَكَشْفُ الْحَقَائِقِ الْوَاقِعَةِ. وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ النَّاسِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَوْعِظَةُ: التَّحْذِيرُ وَالتَّخْوِيفُ. فَإِنْ جَعَلْتَ الْإِشَارَةَ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٧] الْآيَةَ فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ عَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَ النَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَلَا بَيْنَ الْهَزِيمَةِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَهِيَ هُدًى لَهُمْ لِيَنْتَزِعُوا الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّ سَبَبَ النَّجَاحِ حَقًّا هُوَ الصَّلَاحُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَهِيَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ لِيَحْذَرُوا الْفَسَادَ وَلَا يغترّوا كَمَا اغترّت عَادٌ إِذْ قَالُوا: «مَنْ أَشَدُّ منّا قوّة».
[١٣٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا نَهْيٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَسْبَابِ الْفَشَلِ. وَالْوَهَنُ:
الضَّعْفُ، وَأَصْلُهُ ضَعْفُ الذَّاتِ: كَالْجِسْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: ٤]، وَالْحَبْلُ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا خَلَقًا وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي خَوَرِ الْعَزِيمَةِ وَضِعْفِ الْإِرَادَةِ وَانْقِلَابِ الرَّجَاءِ يَأْسًا، وَالشَّجَاعَةِ
جُبْنًا، وَالْيَقِينِ شَكًّا، وَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ. وَأَمَّا الْحُزْنُ فَهُوَ شِدَّةُ الْأَسَفِ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْكَآبَةِ وَالِانْكِسَارِ. وَالْوَهَنُ وَالْحَزَنُ حَالَتَانِ لِلنَّفْسِ تَنْشَآنِ عَنِ اعْتِقَادِ الْخَيْبَةِ وَالرُّزْءِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الِاسْتِسْلَامُ وَتَرْكُ الْمُقَاوَمَةِ. فَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ وَالْحُزْنِ فِي الْحَقِيقَةِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، كَمَا يُنْهَى عَنِ النِّسْيَانِ، وَكَمَا يُنْهَى أَحَدٌ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فِي نَحْوِ لَا أَرَيَنَّ فُلَانًا فِي مَوْضِعِ كَذَا أَيْ لَا تَتْرُكْهُ يَحُلُّ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ عَلَى هَذَا النَّهْيِ قَوْلَهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٧] إِلَخْ... وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَهَذِهِ بِشَارَةٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْعُلُوُّ هُنَا علوّ مَجَازِيٌّ وَهُوَ عُلُوُّ الْمَنْزِلَةِ.
وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قُصِدَ بِهِ تَهْيِيجُ غَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِذْ قَدْ عَلِمَ الله أنّهم مُؤمنُونَ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَاحَ عَلَيْهِمُ الْوَهَنُ وَالْحَزَنُ مِنَ الْغَلَبَةِ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ عَلِمْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْإِيمَانَ، وَجِيءَ بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا عَدَمُ تَحْقِيقِ شَرْطِهَا، إِتْمَامًا لِهَذَا الْمَقْصِدِ.
[١٤٠، ١٤١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٤٠ الى ١٤١]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ.
تَسْلِيَةٌ عَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ عَجِيبٍ فِي الْحَرْبِ، إِذْ لَا يَخْلُو جَيْشٌ مِنْ أَنْ يُغْلَبَ فِي بَعْضِ مَوَاقِعِ الْحَرْبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعَدُوَّ غَلَبَ. وَالْمَسُّ هُنَا الْإِصَابَةُ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٤] مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ. وَالْقَرْحُ- بِفَتْحِ الْقَافِ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ- الْجُرْحُ، وَبِضَمِّهَا فِي لُغَةِ غَيرهم، وقرأه الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْقَافِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ: بِضَمِّ الْقَافِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلْهَزِيمَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ، فَإِنَّ الْهَزِيمَةَ تُشَبَّهُ بِالثُّلْمَةِ وَبِالِانْكِسَارِ، فَشُبِّهَتْ هُنَا بِالْقَرْحِ حِينَ يُصِيبُ الْجَسَدَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ الْجِرَاحَ الَّتِي تُصِيبُ الْجَيْشَ لَا يُعْبَأُ بِهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا النَّصْرُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّسْلِيَةَ وَقَعَتْ عَمَّا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ.
وَالْقَوْمُ هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُمْ.
وَالْمَعْنَى إِنْ هُزِمْتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكُنْتُمْ كفافا. وَلذَلِك أعقبه بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يَمْسَسْكُمْ لِقُرْبِهِ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ، وَعَمَّا أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِبُعْدِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَقَوْلُهُ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ لَيْسَ هُوَ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ أَغْنَى عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، وَالْمعْنَى: إِن يمسكم قَرْحٌ فَلَا تَحْزَنُوا أَوْ فَلَا تَهِنُوا وَهُنَا بِالشَّكِّ فِي وَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ دِينِهِ إِذْ قَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
99
فَلَمْ تَكُونُوا مَهْزُومِينَ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ كَفَافًا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرٌ مُبِينٌ. وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ بِمَا أَصَابَ الْعَدُوَّ يَوْمَ بَدْرٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَسْلِيَةً وَلَيْسَ إِعْلَامًا بِالْعُقُوبَةِ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَان: كَيفَ كَانَ قتالكم لَهُ قَالَ «الْحَرْب بَيْننَا سِجَال ينَال منّا وننال مِنْهُ، فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ».
وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ بَعْدُ، فَالْإِشَارَةُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَهَذَا الْخَبَرُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ تَعْلِيلٍ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.
والْأَيَّامُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعَ يَوْمٍ مُرَادٍ بِهِ يَوْمَ الْحَرْبِ، كَقَوْلِهِمْ: يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ بُعَاثٍ وَيَوْمُ الشَّعْثَمَيْنِ، وَمِنْهُ أَيَّامُ الْعَرَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى الزَّمَانِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
وَمَا تَنْقُصُ الْأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدُ أَيِ الْأَزْمَانُ.
وَالْمُدَاوَلَةُ تَصْرِيفُهَا غَرِيبٌ إِذْ هِيَ مَصْدَرُ داول فلَان فلَانا الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ عِنْدَهُ دُولَةً وَدُولَةً عِنْدَ الْآخَرِ أَيْ يدوله كلّ مِنْهُمَا أَيْ يُلْزِمُهُ حَتَّى يَشْتَهِرَ بِهِ، وَمِنْهُ دَالَ يَدُولُ دَوْلًا اشْتَهَرَ، لِأَنَّ الْمُلَازِمَةَ تَقْتَضِي الشُّهْرَةَ بِالشَّيْءِ، فَالتَّدَاوُلُ فِي الْأَصْلِ تَفَاعُلٌ مِنْ دَالَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ وَالْكَلَامِ، يُقَالُ: كَلَامٌ مُدَاوَلٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوا دَاوَلْتُ الشَّيْءَ مَجَازًا، إِذَا جَعَلْتَ غَيْرَكِ يَتَدَاوَلُونَهُ، وَقَرِينَةُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَقُولَ: بَيْنَهُمْ. فَالْفَاعِلُ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ لَا حَظَّ لَهُ مِنِ الْفِعْلِ، وَلَكِنْ لَهُ الْحَظُّ فِي الْجَعْلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: اضْطَرَرْتُهُ إِلَى كَذَا، أَيْ جَعَلْتُهُ مُضْطَرًّا مَعَ أَنَّ أَصْلَ اضْطَرَّ أَنَّهُ مُطَاوِعُ ضَرَّهُ.
والنَّاسِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ لِأَنَّ هَذَا مِنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، فَلَا يُخْتَصُّ بِالْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ
عَنْهُمْ.
100
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١).
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ، فَمَضْمُونُ هَذِهِ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُتَحَقِّقٌ مِنْ قبل أَن يمسهم الْقَرْحُ.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا هُنَا مَعْنَى الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا رَاسِخًا كَامِلًا فَقَدْ صَارَ الْمَعْنَى: أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِرُسُوخِ إِيمَانِهِمْ يَحْصُلُ بَعْدَ مَسِّ الْقَرْحِ إِيَّاهُمْ، وَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ بِأَسْرِهَا، أَيْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، عِلْمًا كَالْعِلْمِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ فِي الْفَلْسَفَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ صِفَةُ كَمَالٍ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ عِلْمًا بِوَجْهٍ كُلِّيٍّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِزَمَانٍ، مِثَالُهُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقَمَرَ جِسْمٌ يُوجَدُ فِي وَقْتِ تَكْوِينِهِ، وَأَنَّ صِفَتَهُ تَكُونُ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَّ عَوَارِضَهُ النُّورَانِيَّةَ الْمُكْتَسَبَةَ مِنَ الشَّمْسِ وَالْخُسُوفِ وَالسَّيْرِ فِي أَمَدِ كَذَا. أَمَّا حُصُولُهُ فِي زَمَانه عِنْد مَا يَقَعُ تَكْوِينُهُ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ عَوَارِضِهِ، فَغَيْرُ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ عَلِمَ الْجُزْئِيَّاتِ عِنْدَ حُصُولِهَا فِي أَزْمِنَتِهَا لَلَزِمَ تَغَيُّرُ عِلْمِهِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَغَيُّرَ الْقَدِيمِ، أَوْ لَزِمَ جَهْلُ الْعَالِمِ، مِثَالُهُ: أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسِفُ سَاعَةَ كَذَا عِلْمًا أَزَلِيًّا، فَإِذَا خَسَفَ بِالْفِعْلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فَيَلْزَمُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ السَّابِقِ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَغَيُّرُ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِهِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ إِذْ حُدُوثُ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الْمَوْصُوفِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَزُولَ الْعِلْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْقَلِبُ الْعِلْمُ جَهْلًا، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَلِمَ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسِفُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْقَمَرُ الْآنَ قَدْ خَسَفَ بِالْفِعْلِ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالُوا: إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ زَمَانِيٍّ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ:
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ قَبْلَ حُصُولِهَا، وَعِنْدَ حُصُولِهَا. وَأَجَابُوا عَنْ شُبْهَةِ الْفَلَاسِفَةِ بِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ مِنْ
101
قَبِيلِ الْإِضَافَةِ أَيْ نِسْبَةٍ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمَعْلُومِ، وَالْإِضَافَاتُ اعْتِبَارِيَّاتُ، وَالِاعْتِبَارِيَّاتُ عَدَمِيَّاتٌ، أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الصِّفَةِ ذَاتِ الْإِضَافَةِ: أَيْ صِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ، أَيْ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْلُومِهَا. فَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ إِضَافَةً فَتَغَيُّرُهَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ مَوْصُوفِهَا وَهُوَ الْعَالِمُ، وَنَظَّرُوا ذَلِكَ بِالْقَدِيمِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ قَبْلَ الْحَادِثِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي ذَاتِ
الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ صِفَةً ذَاتَ إِضَافَةٍ أَيْ ذَاتَ تَعَلُّقٍ، فَالتَّغَيُّرُ يَعْتَرِي تَعَلُّقَهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ الصِّفَةُ فَضْلًا عَنْ تَغَيُّرِ الْمَوْصُوفِ، فَعِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسَفُ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ خَاسِفٌ الْآنَ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ كَانَ خَاسِفًا بِالْأَمْسِ، عِلْمٌ وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ مَوْصُوفُهُ، وَإِنْ تَغَيَّرَتِ الصِّفَةُ، أَوْ تَغَيَّرَ مُتَعَلِّقُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، إِلَّا أَنَّ سَلَفَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةَ أَبَوُا التَّصْرِيحَ بَتَغَيُّرِ التَّعَلُّقِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِمْ ذِكْرُ تَعَلُّقَيْنِ لِلْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ وَالْآخَرُ حَادِثٌ، كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، نَظَرًا لِكَوْنِ صِفَةِ الْعِلْمِ لَا تَتَجَاوَزُ غَيْرَ ذَاتِ الْعَالِمِ تَجَاوُزًا مَحْسُوسًا.
فَلِذَلِكَ قَالَ سَلَفُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فِي الْأَزَلِ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسَفُ فِي سَنَتِنَا هَذِهِ فِي بَلَدِ كَذَا سَاعَةَ كَذَا، فَعِنْدَ خُسُوفِ الْقَمَرِ كَذَلِكَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ خَسَفَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مَجْمُوعٌ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْأَزَلِ، وَمَنْ كَوْنِهِ يَحْصُلُ فِي وَقْتِهِ فِيمَا لَا يَزَالُ، قَالُوا: وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِنَا حِينَ نَعْلَمُ أَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسِفُ بِمُقْتَضَى الْحِسَابِ ثُمَّ عِنْدَ خُسُوفِهِ نَعْلَمُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ خُسُوفُهُ بِعِلْمٍ جَدِيدٍ، لِأَنَّ احْتِيَاجَنَا لِعِلْمٍ مُتَجَدِّدٍ إِنَّمَا هُوَ لَطَرَيَانِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِثْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَهُشَامِ بْنِ الْحَكَمِ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ فِي الْأَزَلِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْحَقَائِقِ، وَأَمَّا عِلْمُهُ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَحَاصِلٌ بَعْدَ حُدُوثِهَا لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مِنَ التَّصْدِيقَاتِ، وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ سَبْقِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، رَادًّا عَلَى السَّلَفِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّ الْقَمَرَ سَيَخْسَفُ عَيْنُ عِلْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَوْنِهِ سَيَقَعُ غَيْرُ حَقِيقَةِ كَوْنِهِ وَقَعَ، فَالْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا يُغَايِرُ الْعِلْمَ بِالْآخَرِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَعَلِّقَيْنِ يَسْتَدْعِي اخْتِلَافَ
102
الْعَالِمِ بِهِمَا. الثَّانِي التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْطِ فَإِنَّ شَرْطَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ سَيَقَعُ هُوَ عَدَمُ الْوُقُوعِ، وَشَرْطُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَقَعَ الْوُقُوعُ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمَانِ شَيْئًا وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ شَرْطَاهُمَا. الثَّالِثُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ وَقَعَ الْجَهْلُ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ وَبِالْعَكْسِ وَغَيْرُ الْمَعْلُومِ غَيْرُ الْمَعْلُومِ (هَكَذَا عَبَّرَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَيِ الْأَمْرُ الْغَيْرُ الْمَعْلُومِ مُغَايِرٌ لِلْمَعْلُومِ) وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِالْتِزَامِ وُقُوعِ التَّغَيُّرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُتَغَيِّرَاتِ، وأنّ ذَاته تَعَالَى تَقْتَضِي اتِّصَافَهُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ الَّتِي سَتَقَعُ، بِشَرْطِ وُقُوعِهَا، فَيَحْدُثُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا وُجِدَتْ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَيَزُولُ عِنْدَ زَوَالِهَا، وَيَحْصُلُ عِلْمٌ آخَرُ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ جَهْمٍ وَهِشَامٍ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْحَوَادِثِ، وَهَذَا تَجْهِيلٌ. وَأَجَابَ عَنْهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْمَوَاقِفِ» بِأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ فِي الْأَزَلِ أَنَّ الْحَادِثَ سَيَقَعُ عَلَى الْوَصْفِ الْفُلَانِيِّ، فَلَا جَهْلَ فِيهِ، وَأَنَّ عَدَمَ شُهُوده تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ قَبْلَ حُدُوثِهَا لَيْسَ
بِجَهْلٍ، إِذْ هِيَ مَعْدُومَةٌ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ لَوْ عَلِمَهَا تَعَالَى شُهُودِيًّا حِينَ عَدِمَهَا لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ الْجَهْلُ، لِأَنَّ شُهُودَ الْمَعْدُومِ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَالْعِلْمُ الْمُتَغَيِّرُ الْحَادِثِ هُوَ الْعِلْمُ الشُّهُودِيُّ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ ثَمَّةَ عِلْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَشْرُوطُ بِالشُّرُوطِ، وَالْآخَرُ حَادث وَهُوَ الْمَعْلُوم الْحَاصِلَةُ عِنْدَ حُصُولِ الشُّرُوط وَلَيْسَت بِصفة مستقلّة، وإنّما هِيَ تعلّقات وإضافات، وَلذَلِك جرى فِي كَلَام المتأخّرين، مِنْ عُلَمَائِنَا وَعُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِطْلَاقُ إِثْبَاتِ تَعَلُّقِ حَادِثٍ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَوَادِثِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» الَّتِي جَعَلَهَا لِتَحْقِيقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَنْسُوبٍ لِقَائِلٍ، بَلْ عَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلَ، وَقد رَأَيْت التفتازانيّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَعَلَّ الشّيخ عبد الْحَكِيمَ نَسِيَ أَنْ يَنْسُبَهُ.
وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ: فأمّا الّذين أَبُو إِطْلَاقَ الْحُدُوثِ عَلَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَطْلَقَ الْعِلْمَ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمَعْلُومِ أَيْ تَمَيُّزُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِالْبُرْهَانِ،
103
وَهَذَا كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ.
وَأَقْبَلْتُ والخطي يخْطر بَينا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَيْ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ فَأُطْلِقَ الْعَلَمُ وَأُرِيدَ مَلْزُومُهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ تَمْثِيلًا أَيْ فِعْلُ ذَلِكَ فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ وَإِلَيْهِ مَالَ فِي «الْكَشَّافِ»، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْعِلَّةُ هِيَ تَعَلُّقُ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَادِثِ وَهُوَ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ، أَيْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مَوْجُودِينَ. قَالَه الْبَيْضَاوِيّ والتفتازانيّ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ». وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا ظَاهِرُهُ أَيْ لِيَعْلَمَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، تَعَيَّنَ التَّأْوِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا لِأَجْلِ لُزُومِ حُدُوثِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ أُحُدٍ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمُ الْقَرْحِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَرَادَ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ ثَبَاتُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَدَمُ تزلزلهم فِي حَال الشدّة، وَأَشَارَ التفتازانيّ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَارِدٌ مورد التَّمْثِيل، نَاظر إِلَى كَوْنِ الْعِلْمِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَاصِلًا مِنْ قَبْلُ، لَا لِأَجْلِ التَّحَرُّزِ عَنْ لُزُومِ حُدُوثِ الْعِلْمِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ عَطْفٌ عَلَى الْعِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَجَعَلَ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ اتِّخَاذِ الْقَتْلَى شُهَدَاءَ عِلَّةً مِنْ عِلَلِ الْهَزِيمَةِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْقَتْلَى هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتِ
الْهَزِيمَةَ.
وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبَّرَ عَنْ تَقْدِير الشَّهَادَة لَهُم بِالِاتِّخَاذِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فَضِيلَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَاقْتِرَابٌ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أَيِ الْكَافِرِينَ فَهُوَ فِي جَانِبِ الْكُفَّارِ، أَيْ فَقَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَة: ٥٢].
والتّمحيص: التنقية والتخليص مِنَ الْعُيُوبِ. وَالْمَحْقُ: الْإِهْلَاكُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَسَّ الْقَرْحِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ فَاعِلًا فِعْلًا وَاحِدًا: هُوَ فَضِيلَةٌ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَزِيَّةٌ فِي جَانِبِ الْكَافِرِينَ، فَجَعَلَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَمْحِيصًا وَزِيَادَةً فِي
104
تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِبَارًا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ لِلْكَافِرِينَ هَلَاكًا، لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ فِي بَدْرٍ تَنَاسَوْهُ، وَمَا انْتَصَرُوهُ فِي أُحُدٍ يَزِيدُهُمْ ثِقَةً بِأَنْفُسِهِمْ فَيَتَوَاكَلُونَ يَظُنُّونَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَهَبَ بَأْسُهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ازْدِيَادٍ، فَلَا يُنْقِصُهُمْ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، والكفّار فِي تنَاقض فَمَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ نَفِدَ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْعِبَرِ قَدْ تُكْسِبُ بَعْضَ النُّفُوسِ كَمَالًا وَبَعْضَهَا نَقْصًا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
فَحُبُّ الْجَبَانِ الْعَيْشَ أَوْرَدَهُ التُّقَى وَحُبُّ الشُّجَاعِ الْعَيْشَ أَوْرَدَهُ الْحَرْبَا
وَيَخْتَلِفُ الْقَصْدَانِ وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ إِلَى أَنْ نَرَى إِحْسَانَ هَذَا لَنَا ذَنْبًا
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٤، ١٢٥]، وَقَالَ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: ٨٢] وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ تَقْدِيرِ الله تَعَالَى.
[١٤٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤٢]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، هِيَ بِمَعْنَى (بَلِ) الِانْتِقَالِيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَهِيَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ مُنْقَطِعَةً تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ، لِمُلَازَمَتِهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، حَتَّى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهَا لَا تُفَارِقُ الدَّلَالَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، وَقَالَ غَيره:
ذَلِك هُوَ الْغَالِبُ وَقَدْ تُفَارِقُهُ، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى مُفَارَقَتِهَا لِلِاسْتِفْهَامِ بِشَوَاهِدٍ تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ.
فَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَهِنُوا [آل عمرَان: ١٣٩] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا مَسَّهُمُ الْقَرْحُ فَحَزِنُوا وَاعْتَرَاهُمُ الْوَهَنُ حَيْثُ لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَ النَّصْرِ الَّذِي شَاهَدُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ،
بَيَّنَ اللَّهُ أَنْ لَا وَجْهَ لِلْوَهَنِ لِلْعِلَلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ هُنَا: أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ الَّذِي هُوَ مَرْغُوبُهُمْ لَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ يَبْذُلُوا نُفُوسَهُمْ فِي نَصْرِ الدِّينِ فَإِذَا حَسِبُوا دُخُولَ الْجَنَّةِ يَحْصُلُ دُونَ ذَلِك، فقد أخطأوا.
105
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغْلِيطِ وَالنَّهْيِ، وَلذَلِك جَاءَ ب (أم) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّغْلِيطِ: أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ دُونَ أَنْ تُجَاهِدُوا وَتَصْبِرُوا عَلَى عَوَاقِبِ الْجِهَادِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من قدّر ل (أم) هُنَا مُعَادِلًا مَحْذُوفًا، وَجَعَلَهَا مُتَّصِلَةً، فَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا [آل عمرَان: ١٣٩] كَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
وَجُمْلَةُ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ مَصَبُّ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حِينَ لَا يَعْلَمُ اللَّهُ الّذين جاهدوا.
و (لمّا) حَرْفُ نَفْيٍ أُخْتُ (لَمْ) إِلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ نَفْيًا مِنْ (لَمْ)، لِأَنَّ (لَمْ) لِنَفْيِ قَوْلِ الْقَائِلِ فَعَلَ فُلَانٌ، و (لمّا) لِنَفْيِ قَوْلِهِ قَدْ فَعَلَ فُلَانٌ. قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ (لَا) لنفي يَفْعَلُ وَ (لَنْ) لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ وَ (مَا) لِنَفْيِ لَقَدْ فَعَلَ وَ (لَا) لِنَفْيِ هُوَ يَفْعَلُ. فَتَدُلُّ (لَمَّا) عَلَى اتِّصَالِ النَّفْيِ بِهَا إِلَى زَمَنِ التَّكَلُّمِ، بِخِلَافِ (لَمْ)، وَمِنْ هَذِهِ الدَّلَالَةِ اسْتُفِيدَتْ دَلَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُتَرَقَّبُ الثُّبُوتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِكَ اسْتَمَرَّ النَّفْيُ إِلَى الْآنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: و (لمّا) بِمَعْنَى (لَمْ) إِلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ [١٤] :
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَابَ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ.
وَالْقَوْلُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ.
وَأُرِيدَ بِحَالَةِ نَفْيِ عِلْمِ اللَّهِ بِالَّذِينَ جَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ الْكِنَايَةُ عَنْ حَالَةِ نَفْيِ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا فَذَلِكَ الْمَعْلُومُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فَكَمَا كَنَّى بِعِلْمِ اللَّهِ عَنِ التَّحَقُّقِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: ١٤٠] كَنَّى بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ نَفْيِ الْوُقُوعِ. وَشَرْطُ الْكِنَايَةِ هُنَا مُتَوَفِّرٌ وَهُوَ جَوَازُ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَلْزُومِ مَعَ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِجَوَازِ إِرَادَةِ انْتِفَاءِ عِلْمِ اللَّهِ بِجِهَادِهِمْ مَعَ إِرَادَةِ انْتِفَاءِ
106
جِهَادِهِمْ. وَلَا يَرِدُ مَا أوردهُ التفتازانيّ،
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ فِي النَّفْيِ بُنِيَتْ عَلَى الْكِنَايَةِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ، إِذْ شَأْنُ التَّرَاكِيبِ اسْتِقْلَالُهَا فِي مُفَادِهَا وَلَوَازِمِهَا.
وَعَقَّبَ هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ مَعْطُوفًا بِوَاوِ الْمَعِيَّةِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُول مَعَه، لتنتظم الْقُيُودِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: أَتَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ فِي حَالِ انْتِفَاءِ عِلْمِ اللَّهِ بِجِهَادِكُمْ مَعَ انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِصَبْرِكُمْ، أَيْ أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَجْتَمِعِ الْعِلْمَانِ. وَالْجِهَادُ يَسْتَدْعِي الصَّبْرَ، لِأَنَّ الصَّبْرَ هُوَ سَبَبُ النَّجَاحِ فِي الْجِهَادِ، وَجَالِبُ الِانْتِصَارِ،
وَقَدْ سُئِلَ عَلِيٌّ عَنِ الشَّجَاعَةِ، فَقَالَ: صَبْرُ سَاعَةٍ
. وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ، يَعْتَذِرُ عَنِ انْتِصَارِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ.
سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
وَقَدْ تَسَبَّبَ فِي هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ضَعْفُ صَبْرِ الرُّمَاةِ، وَخِفَّتُهُمْ إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَفِي الْجِهَادِ يُتَطَلَّبُ صَبْرُ المغلوب على الغلب حَتَّى لَا يَهِنَ وَلَا يستسلم.
[١٤٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤٣]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
كَلَامٌ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ بِإِجْمَالٍ بَالِغٍ غَايَةَ الْإِيجَازِ، لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ، وَالْمَعْذِرَةِ، وَالْمَلَامِ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ.
وَالْخِطَابُ لِلْأَحْيَاءِ، لَا مَحَالَةَ، الَّذِينَ لَمْ يَذُوقُوا الْمَوْتَ، وَلَمْ يَنَالُوا الشَّهَادَةَ، وَالَّذِينَ كَانَ حَظُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ الْهَزِيمَةُ، فَقَوْلُهُ: كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أُرِيدَ بِهِ تَمَنِّي لِقَاءَ الْعَدُوِّ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَدَمُ رِضَاهُمْ بِأَنْ يَتَحَصَّنُوا بِالْمَدِينَةِ، وَيَقِفُوا مَوْقِفَ الدِّفَاعِ، كَمَا أَشَارَ بِهِ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الشُّجَاعَةَ وَحُبَّ اللِّقَاءِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْمَوْتُ، نَظَرًا لِقُوَّةِ الْعَدُوِّ وَكَثْرَتِهِ،
107
فَالتَّمَنِّي هُوَ تَمَنِّي اللِّقَاءِ وَنَصْرُ الدِّينِ بِأَقْصَى جُهْدِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ اكْتِرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَلَفِ نَفْسِهِ فِي الدِّفَاعِ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ هَلَاكِهِ قَدْ أَبْلَى فِي الْعَدُوِّ، وَهَيَّأَ النَّصْرَ لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَهُ، جَعَلَ تَمَنِّيَهُمُ اللِّقَاءَ كَأَنَّهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، تَنْزِيلًا لِغَايَةِ التَّمَنِّي مَنْزِلَةَ مَبْدَئِهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَمْرًا مَعَ الْإِغْضَاءِ عَنْ شِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، فَتَمَنِّيهِمْ إِيَّاهُ كَتَمَنِّي شَيْءٍ قَدْ جَهِلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْمَصَائِبِ.
وَقَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيْ رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ، وَمَعْنَى رُؤْيَتِهِ مُشَاهَدَةُ أَسْبَابِهِ الْمُحَقَّقَةِ، الَّتِي رُؤْيَتُهَا كَمُشَاهَدَةِ الْمَوْتِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ تَمْثِيلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ الرُّؤْيَةُ عَلَى شِدَّةِ التَّوَقُّعِ، كَإِطْلَاقِ الشَّمِّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ:
وَشَمَمْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ
وَكَإِطْلَاقِهِ فِي قَول ابْن معد يكرب يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ: فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَنْ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ وَالتَّقْدِيرُ:
وَأُجِبْتُمْ إِلَى مَا تَمَنَّيْتُمْ فقد رَأَيْتُمُوهُ، أَو التَّقْدِير: فَإِن كَانَ تمنّيكم حقّا فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، وَالْمَعْنَى: فَأَيْنَ بَلَاءُ مَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الْفرْقَان: ١٩] وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٦] : فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ.
وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى رَأَيْتُمُوهُ، أَوْ هُوَ تَفْرِيعٌ أَيْ: رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ وَكَانَ حَظُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرَ، دُونَ الْغَنَاءِ فِي وَقْتِ الْخَطَرِ، فَأَنْتُمِِْ
108
مَبْهُوتُونَ. وَمَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَطْلُبُ أَمْرًا حَتَّى يُفَكِّرَ فِي عَوَاقِبِهِ، وَيَسْبُرَ مِقْدَارَ تَحَمُّلِهِ لِمَصَائِبِهِ. وَمَحَلُّ الْمَعْذِرَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وَقَوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وَقَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَمَحَلُّ الْمُلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ بِمَعْنَى تَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ رَأَيْتُمْ مُشَارَفَةَ الْمَوْتِ إِيَّاكُمْ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ مَنْ مَاتَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، أَيْ فَكَيْفَ وَجَدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ، وَكَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَقَامِ مَنْ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ. إِذْ قَدْ جَبُنُوا وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَخَفُّوا إِلَى الْغَنِيمَةِ، فَالْكَلَامُ مَلَامٌ مَحْضٌ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ بِمَلُومٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ اللَّوْمَ على تمنّي مَا لَا يَسْتَطِيعُ كَمَا قيل: (إِذْ لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ). كَيْفَ وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ»
. وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ» وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ:
لكنّني أسأَل الرّحمان مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْتِ، بِمَعْنَى أَسْبَابِهِ، تَنْزِيلًا لِرُؤْيَةِ أَسْبَابِهِ مَنْزِلَةَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ كَالِاسْتِخْدَامِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ عَادَ إِلَى أَسْبَابِ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ تَنْزِيلِهَا منزلَة الْمَوْت.
[١٤٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
عُطِفَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْمَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [آل عمرَان: ١٤٢] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمرَان: ١٤٣] وَكُلُّ هَاتِهِ
109
الْجُمَلِ تَرْجِعُ إِلَى الْعِتَابِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ، كَانَتْ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ مِنْ هَذَا الْمَلَامِ بِنَصِيبِهِ الْمُنَاسِبِ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَالِهِ ظَاهِرًا كَانَ أَمْ بَاطِنًا.
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاضْطِرَابِ حِينَ أُرْجِفَ بِمَوْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى دِينِكُمُ الْقَدِيمِ وَإِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنُكَلِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَمُّوا بِتَرْكِ الْقِتَالِ وَالِانْضِمَامِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَثَبَتَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ.
وَمُحَمّد اسْمُ رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ لَهُ: لِمَ سَمَّيْتَهُ مُحَمَّدًا وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ آبَائِكَ؟ فَقَالَ: رَجَوْتُ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ. وَقَدْ قِيلَ: لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مُحَمَّدًا قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ. ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ» أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ وِلَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، جَدُّ جَدِّ الْفَرَزْدَقِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَوْسِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْرَانَ مِنْ رَبِيعَةَ.
وَهَذَا الِاسْم مَنْقُول مِنِ اسْمِ مَفْعُولِ حَمَّدَهُ تَحْمِيدًا إِذَا أَكْثَرَ مِنْ حَمْدِهِ، وَالرَّسُولُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَلُوبٌ وَرَكُوبٌ وَجَزُورٌ.
وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَانْقَرَضَتْ كَقَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٧]
وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: (مَنْ كَانَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِي) وَقَصَرَ مُحَمَّدًا عَلَى وَصْفِ الرِّسَالَةِ قَصْرَ مَوْصُوفٍ عَلَى الصِّفَةِ. قَصْرًا إِضَافِيًّا، لِرَدِّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ رَدَّ إِنْكَارٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَصْرَ قَلْبٍ أَوْ قَصْرَ إِفْرَادٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ «لِرَسُولٍ»، فَتَكُونُ هِيَ مَحَطَّ الْقَصْرِ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مَوْصُوفٌ بِخُلُوِّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ أَيِ انْقِرَاضِهِمْ.
110
وَهَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِرَدِّ اعْتِقَادِ مَنْ يَعْتَقِدُ انْتِفَاءَ خُلُوِّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا صَدَرَ عَنْهُمْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ عَزْمُهُمْ عَلَى تَرْكِ نُصْرَةِ الدِّينِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِلْعَدُوِّ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يُنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ انْتِفَاءَ خُلُوِّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، حَيْثُ يَجِدُونَ أَتْبَاعَهُمْ ثَابِتِينَ عَلَى مِلَلِهِمْ حَتَّى الْآنَ فَكَانَ حَالُ الْمُخَاطَبِينَ حَالَ مَنْ يَتَوَهَّمُ التَّلَازُمَ بَيْنَ بَقَاءِ الْمِلَّةِ وَبَقَاءِ رَسُولِهَا، فَيَسْتَدِلُّ بِدَوَامِ الْمِلَّةِ عَلَى دَوَامِ رَسُولِهَا، فَإِذَا هَلَكَ رَسُولُ مِلَّةٍ ظَنُّوا انْتِهَاءَ شَرْعِهِ وَإِبْطَالَ اتِّبَاعِهِ.
فَالْقَصْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَصْرُ قَلْبٍ، وَهُوَ قَلْبُ اعْتِقَادِهِمْ لَوَازِمَ ضِدَّ الصِّفَةِ الْمَقْصُورِ عَلَيْهَا، وَهِيَ خُلُوُّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، وَتِلْكَ اللَّوَازِمُ هِيَ الْوَهَنُ وَالتَّرَدُّدُ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهَذَا يُشْعِرُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ».
وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ هُوَ وَصْفُ الرِّسَالَةِ فَيَكُونُ مَحَطُّ الْقَصْرِ هُوَ قَوْلُهُ:
«رَسُولٌ» دُونَ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَيَكُونُ الْقَصْرُ قَصْرَ إِفْرَادٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنِ اعْتَقَدَ وَصْفَهُ بِالرِّسَالَةِ مَعَ التَّنَزُّهِ عَنِ الْهَلَاكِ، حِينَ رَتَّبُوا عَلَى ظَنِّ مَوْتِهِ ظُنُونًا لَا يَفْرِضُهَا إِلَّا مَنْ يَعْتَقِدُ عِصْمَتَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِئْنَافًا لَا صِفَةً، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ مَا يَقْتَضِي اسْتِبْعَادَ خَبَرِ مَوْتِهِ، بَلْ هُمْ ظَنُّوهُ صِدْقًا.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ نُزِّلَ الْمُخَاطَبُونَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ قَصْرَ الْمَوْصُوفِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَيُنْكِرُهُ، فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا بِطَرِيقِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، الَّذِي كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي خِطَابِ مَنْ يَجْهَلُ الْحُكْمَ الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ وَيُنْكِرُهُ دُونَ طَرِيقٍ، إِنَّمَا كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ».
وَقَوْلُهُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ إِلَخْ... وَالْفَاءُ لِتَعْقِيبِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ، وَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ إِنْشَاءَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى مَضْمُونِهَا، وَهُوَ الشَّرْطُ وَجَزَاؤُهُ، لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْقِيبِ الْمُفَادِ مِنْ فَاءِ الْعَطْفِ
111
مَعْنًى إِلَّا ترتّب مَضْمُون
المعطوفة عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، فَالْفَاءُ حِينَئِذٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ، كَشَأْنِهَا مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى تَرَتُّبُ إِنْكَار أَن ينقبلوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ عَلَى تَحَقَّقَ مَضْمُونُ جملَة الْقصر: لأنّه إِذا تحقّق مَضْمُون جُمْلَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَلْبُ الِاعْتِقَادِ أَوْ إِفْرَادُ أَحَدِ الِاعْتِقَادَيْنِ، تَسَبَّبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ انْقِلَابُهُمْ عَلَى الْأَعْقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ أَمْرًا مُنْكَرًا جَدِيرًا بِعَدَمِ الْحُصُولِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ مِنْهُمْ، وَهَذَا الْحُكْمُ يُؤَكِّدُ مَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ الْقَصْرِ، مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ خِلَافَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْقَصْرِ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالتَّعْرِيضِ الْمُسْتَفَادِ، مِنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ، وَالْأُخْرَى بِالتَّصْرِيحِ الْوَاقِعِ فِي هَاتِهِ الْجُمْلَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ تَسَبُّبِ الِانْقِلَابِ عَلَى خُلُوِّ الرَّسُولِ، وَهُوَ التَّسَبُّبُ الْمُفَادُ مِنَ الْفَاءِ أَيْ إِنْكَارُ مَجْمُوعِ مَدْلُولِ الْفَاءِ وَمَدْلُولِ مَدْخُولِهَا مثل إِنْكَار الترتّب وَالْمُهْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [يُونُس: ٥١] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَثُمَّ تَعَذَّرَانِ إِلَيَّ مِنْهَا فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ وَقَدْ رَأَيْتُ
بِأَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَعْلَهُمْ خُلُوَّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ سَبَبًا لِارْتِدَادِهِمْ عِنْدَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِ. وَعَلَى هَذَا فَالْهَمْزَةُ غَيْرُ مُقَدَّمَةٍ مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى فَاءِ السَّبَبِيَّةِ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهُمْ بِخُلُوِّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ- مَعَ بَقَاءِ أَتْبَاعِهِمْ مُتَمَسِّكِينَ- سَبَبًا لِانْقِلَابِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا خُلُوَّ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلَلِهِمْ، وَلَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ جعلُوا علمهمْ بذلك سَبَبًا فِي تَحْصِيلِ نَقِيضِ أَثَرِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا يَعْرِضُ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْجَدَلِيِّ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَكَلُّفٌ وَتَدْقِيقٌ كَثِيرٌ.
وَذَهَبَ جمَاعَة إِلَى أنّ الْفَاء لمجرّد التّعقيب الذِّكْرِيِّ، أَوِ الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّهُ عَطْفُ إِنْكَارٍ تَصْرِيحِيٍّ عَلَى إِنْكَارٍ تَعْرِيضِيٍّ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَإِنْ كَانَ سَهْلًا غير أنّه يفيت خُصُوصِيَّةَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ دُونَ غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّ شَأْنَ الْفَاءِ الْمُفِيدَةِ
112
لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْمَحْضِ أَنْ يَعْطِفَ بِهَا الْأَوْصَافَ نَحْوَ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصافات: ١، ٢] أَوْ أَسْمَاءَ الْأَمَاكِنِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ... فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ... إِلَخْ
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، يُقَالُ: انْقَلَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، أَيْ حَالِ الْكُفْرِ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْأَصْلِ يَكُونُ مُسَبَّبًا عَلَى طَرِيقٍ. وَالْأَعْقَابُ جَمْعُ عقب وَهُوَ مؤخّر الرَّجُلِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النّار»
وَالْمرَاد مِنْهُ جِهَةُ الْأَعْقَابِ أَيِ الْوَرَاءُ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَلَوْ قَلِيلًا، لِأَنَّ الِارْتِدَادَ عَنِ الدِّينِ إِبْطَالٌ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ، فَالْمُرْتَدُّ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَبِالنَّاسِ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الشَّاكِرَ الثَّابِتَ عَلَى الْإِيمَانِ يُجَازَى بِالشُّكْرِ لِأَنَّهُ سَعَى فِي صَلَاح نَفسه وَصَلَاح النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّلَاحَ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْعِتَابُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الَّذِينَ ثَبَتُوا وَوَعَظُوا النَّاسَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ وُقُوعِ الِارْتِدَادِ عِنْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَدْ وَقَعَ مَا حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَظَنُّوا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ مَقْصُورًا عَلَى حَيَاتِهِ، ثُمَّ هَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ فِيهَا إِنْبَاءٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ.
[١٤٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤٥]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاو اعتراضية.
فَإِن كَانَت مِنْ تَتِمَّةِ الْإِنْكَارِ عَلَى هَلَعِهِمْ عِنْدَ ظَنِّ مَوْتِ الرَّسُولِ، فَالْمَقْصُودُ عُمُومُ الْأَنْفُسِ لَا خُصُوصُ نَفْسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَتَكُونُ الْآيَةُ لَوْمًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى ذُهُولِهِمْ عَنْ حِفْظِ اللَّهِ رَسُولَهُ مِنْ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ، وَمِنْ أَنْ
113
يُخْتَرَمَ عُمُرُهُ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَة: ٦٧] عَقِبَ قَوْلِهِ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: ٦٧] الدَّالِّ عَلَى أَنَّ عِصْمَتَهُ مِنَ النَّاسِ لأجل تَبْلِيغ الشّلايعة. فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْحَيَاةَ حَتَّى يُبَلِّغَ شَرْعَهُ، وَيُتِمَّ مُرَادَهُ، فَكَيْفَ يَظُنُّونَ قَتْلَهُ بِيَدِ أَعْدَائِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْإِعْلَانِ بِإِتْمَامِ شَرْعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: ٣] الْآيَةَ. بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَعَلِمَ أَنَّ أَجَلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَرُبَ، وَقَالَ: مَا كَمُلَ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ. فَالْجُمْلَةُ، عَلَى هَذَا، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ.
وَإِنْ كَانَ هَذَا إِنْكَارًا مُسْتَأْنَفًا عَلَى الَّذِينَ فَزِعُوا عِنْدَ الْهَزِيمَةِ وَخَافُوا الْمَوْتَ، فَالْعُمُومُ فِي النَّفس مَقْصُود أَي مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمُ الْخَوْفُ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلًا.
وَجِيءَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِصِيغَةِ الْجُحُودِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ مَوْتٌ قَبْلَ الْأَجَلِ،
فَالْجُمْلَةُ، عَلَى هَذَا، مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ تُلْقَى فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا مُدَاوَاةُ النُّفُوسِ مِنْ عَاهَاتٍ ذَمِيمَةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ انْتِهَاءَ الْأَجَلِ مَنُوطٌ بِعِلْمِ اللَّهِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ وَقْتَهُ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لُقْمَان: ٣٤]، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ حَيَاتِهِ، إِلَّا فِي سَبِيل الله، فتعيّن عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمَوْتَ بِالْأَجَلِ، وَالْمُرَادُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَوَضْعُهُ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُلُوغِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ مَرَّةً بِ (كُنْ)، وَمَرَّةً بِقَدَرٍ مَقْدُورٍ، وَمَرَّةً بِالْقَلَمِ، وَمَرَّةً بِالْكِتَابِ.
وَالْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ: كِتاباً مُؤَجَّلًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْإِذْنِ، أَوْ مِنَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: ٣٨] و «مؤجّلا» حَالًا ثَانِيَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتاباً مَصْدَرَ كَاتَبَ الْمُسْتَعْمَلِ فِي كُتُبٍ لِلْمُبَالِغَةِ، وَقَوْلُهُ:
مُؤَجَّلًا صِفَةٌ لَهُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ كِتَابًا مُؤَجَّلًا أَيْ مؤقتا.
وَجعله صَاحب «الْكَشَّافُ» مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا أَيْ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَما كانَ لِنَفْسٍ الْآيَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُ مَعَ صِفَتِهِ وَهِيَ
114
مُؤَجَّلًا يُؤَكِّدُ مَعْنَى إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ يُفِيدُ أَنَّ لَهُ وَقْتًا قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء:
٢٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] الْآيَةَ.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ.
عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ.
أَيْ مَنْ يُرِدِ الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، كَالَّذِي يُفَضِّلُ الْحَيَاةَ عَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ كَالَّذِينَ اسْتَعْجَلُوا لِلْغَنِيمَةِ فَتَسَبَّبُوا فِي الْهَزِيمَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُظُوظَهَا يُحْرَمُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَحُظُوظِهَا، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ خَيْرِ الدُّنْيَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ حَسَنٌ، وَهَلْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ إِلَّا لِإِصْلَاحِ الدُّنْيَا وَالْإِعْدَادِ لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ الْكَامِلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمرَان:
١٤٨] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أَيِ الْغَنِيمَةَ أَوِ الشَّهَادَةَ، وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ. وَجُمْلَةُ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ تَذْيِيلٌ يَعُمُّ الشَّاكِرِينَ مِمَّنْ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِيدُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ. وَيَعُمُّ الْجَزَاءَ كُلٌّ بِحَسْبِهِ، أَيْ يَجْزِي الشَّاكِرِينَ جَزَاءَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ جَزَاءَ الدُّنْيَا فَقَط.
[١٤٦- ١٤٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٤٦ إِلَى ١٤٨]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
115
(١٤٨)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ [آل عمرَان: ١٤٤] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَهُوَ عَطْفُ الْعِبْرَةِ عَلَى الْمَوْعِظَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ مَوْعِظَةٌ لِمَنْ يَهُمُّ بِالِانْقِلَابِ، وَقَوْلَهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ عِبْرَةٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ صَبْرِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ إِصَابَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ قَتْلِهِمْ، فِي حَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِمُمَاثَلَةِ الْحَالَيْنِ. فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ أَصْحَابِ أُحُدٍ بِحَالِ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَثَلِ لَيْسَ هُوَ خُصُوصُ الِانْهِزَامِ فِي الْحَرْبِ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْمُمَثَّلُ. وَأَمَّا التّشبيه فَهُوَ بَصِير الْأَتْبَاعِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ أَوْ مَوْتِ الْمَتْبُوعِ.
«وَكَأَيِّنْ» كَلِمَةٌ بِمَعْنَى التَّكْثِيرِ، قِيلَ: هِيَ بَسِيطَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْثِيرِ، وَقِيلَ: هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَأَيِّ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَتْ (أَيُّ) هَذِهِ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا تَذْكِيرُ الْمُسْتَفْهِمِ بِالتَّكْثِيرِ، فَاسْتِفْهَامُهَا مَجَازِيٌّ، وَنُونُهَا فِي الْأَصْلِ تَنْوِينٌ، فَلَمَّا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً جُعِلَ تَنْوِينُهَا نُونًا وَبُنِيَتْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ وَفِيهَا لُغَاتٌ أَرْبَعُ، أَشْهَرُهَا فِي النَّثْرِ كَأَيِّنْ بِوَزْنِ كَعَيِّنْ (هَكَذَا جَرَتْ عَادَةُ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ إِذَا وَزَنُوا الْكَلِمَاتِ الْمَهْمُوزَةَ أَنْ يُعَوِّضُوا عَنْ حَرْفِ الْهَمْزَةِ بِحَرْفِ الْعَيْنِ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ الْهَمْزَةُ بِالْأَلْفِ أَوِ الْيَاءِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي صُورَةِ إِحْدَاهُمَا)، وَأَشْهَرُهَا فِي الشّعْر كَائِن بِوَزْن اسْمُ فَاعِلِ كَانَ، وَلَيْسَتْ بَاسِمِ فَاعِلٍ خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، بَلْ هِيَ مُخَفَّفُ كَأَيِّنْ.
وَلَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَخْفِيفِهَا تَوْجِيهَاتٌ أَصْلُهَا قَوْلُ الْخَلِيلِ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْعَرَبُ بِالْقَلْبِ وَالْحَذْفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: وَتَفْصِيلُهُ يَطُولُ. وَأَنَا أَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا رَامُوا التَّخْفِيفَ جَعَلُوا الْهَمْزَةَ أَلِفًا، ثُمَّ الْتَقَى سَاكِنَانِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ السَّاكِنَةَ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ الْمَكْسُورَةُ فَشَابَهَتِ اسْمَ فَاعِلِ (كَانَ) فَجَعَلُوهَا هَمْزَةً كَالْيَاءِ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ أَلْفٍ زَائِدَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ كَأَيِّنْ لِأَنَّهَا أَخَفُّ فِي النَّظْمِ وَأَسْعَدُ بِأَكْثَرِ الْمَوَازِينِ فِي أَوَائِل الأبيات وأواسطها بِخِلَافِ كَائِنٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: اللُّغَتَانِ الْجَيِّدَتَانِ كَأَيِّنٍ وَكَائِنٍ.
وَحَكَى الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ الْحُبَابِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا
116
أَحْمَدُ بْنُ
يُوسُفَ السُّلَمِيُّ الْكِنَانِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِشَيْخِنَا ابْنِ عُصْفُورٍ: لِمَ أَكْثَرْتَ فِي شَرْحِكَ لِلْإِيضَاحِ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى كَائِنٍ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي دَخَلْتُ عَلَى السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ الْمُسْتَنْصِرِ (يَعْنِي مُحَمَّدَ الْمُسْتَنْصِرَ ابْنَ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْحَفْصِيَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ وَلِيُّ الْعَهْدِ) فَوَجَدْتُ ابْنَ هِشَامٍ (يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيَّ نَزِيلَ تُونُسَ وَدَفِينَهَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٦٤٦) فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَمَّا يَحْفَظُ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى قِرَاءَةِ كَأَيِّنْ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ غَيْرَ بَيْتِ الْإِيضَاحِ:
وَكَائِنٍ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ يَرَانِي لَوْ أُصِبْتُ هُوَ الْمُصَابَا
قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: فَلَمَّا سَأَلَنِي أَنَا قُلْتُ: أَحْفَظُ فِيهَا خَمْسِينَ بَيْتًا فَلَمَّا أَنْشَدْتُهُ نَحْوَ عَشْرَةٍ قَالَ: حَسْبُكَ، وَأَعْطَانِي خَمْسِينَ دِينَارًا، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ ابْنَ هِشَامٍ جَالِسًا بِالْبَابِ فَأَعْطَيْتُهُ نِصْفَهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، عَلَى وَزْنِ كَلِمَةِ كَصَيِّبٍ وَقَرَأَهُ ابْنُ كثير كَأَيِّنْ بِأَلْفٍ بَعْدَ الْكَافِ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ بِوَزْنِ كَاهِنٍ.
وَالتَّكْثِيرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ كَأَيِّنْ وَاقِعٌ عَلَى تَمْيِيزِهَا وَهُوَ لَفْظُ (نَبِيءٍ) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْعَدَدِ، فَلَا يَتَجَاوَزُ جَمْعَ الْقِلَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا فِي مَعْنَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَلِمْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَعْلَمْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، وَيَحْضُرُنِي أَسْمَاءُ سِتَّةٍ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْأَنْبِيَاء: أرمياء قتلته بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَحَزْقِيَالُ قَتَلُوهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَشْعِيَاءُ قَتَلَهُ منسا بن حزقيال مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ وَبَّخَهُ وَوَعَظَهُ عَلَى سُوءِ فِعْلِهِ فَنَشَرَهُ بِمِنْشَارٍ، وزكرياء، وَيحيى، قتلتهما بَنُو إِسْرَائِيلَ لِإِيمَانِهِمَا بِالْمَسِيحِ، وَقَتَلَ أَهْلُ الرَّسِّ مِنَ الْعَرَبِ نَبِيئَهُمْ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ فِي مُدَّةِ عَدْنَانَ، وَالْحَوَارِيُّونَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ قُتِلَ وَلَمْ يَهِنُوا فِي إِقَامَةِ دِينِهِ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِثَبَاتِ أَتْبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ مَعَ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ إِذِ الْعِبْرَةُ فِي خُلُوِّ الرَّسُولِ وَبَقَاءِ أَتْبَاعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ رَسُولٌ إِلَّا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانٍ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَيْضًا مَنْ قُتِلَ فِي جِهَادٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا سَمِعْنَا بِنَبِيءٍ قُتِلَ فِي الْقِتَالِ.
117
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: (قُتِلَ) بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ:
(قَاتَلَ) بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ فَعَلَى قِرَاءَةِ (قُتِلَ) - بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ- فَمَرْفُوعُ الْفِعْلِ هُوَ ضَمِيرُ نَبِيءٍ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعُ الْفِعْلَيْنِ ضَمِيرَ نَبِيءٍ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ
جُمْلَةً حَالِيَّةً مِنْ (نَبِيءٍ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعُ الْفِعْلَيْنِ لِفْظُ (رِبِّيُّونَ) فَيَكُونُ قَوْلُهُ (مَعَهُ) حَالًا مِنْ (رِبِّيُّونَ) مُقَدَّمًا.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ الصَّالِحِ لِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى تَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْهَزِيمَةِ وَفِي حَالِ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ مَعَهُ رِبِّيُّونَ يَخْتَلِفُ حُسْنُ الْوَقْفِ عَلَى كَلِمَةِ (قُتِلَ) أَوْ عَلَى كلمة (كثير).
و (الرّبيّون) جَمْعُ رِبِّيٍّ وَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِشَرِيعَةِ الرَّبِّ مِثْلُ الرَّبَّانِيِّ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَتَلَامِذَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَجُوزُ فِي رَائِهِ الْفَتْحُ، عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْكَسْرُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ وَهُوَ الَّذِي قرىء بِهِ فِي الْمُتَوَاتِرِ.
وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ هُوَ ثَبَاتُ الرَّبَّانِيِّينَ عَلَى الدِّينِ مَعَ مَوْتِ أَنْبِيَائِهِمْ وَدُعَاتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: كَثِيرٌ صِفَةُ رِبِّيُّونَ وَجِيءَ بِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ، مَعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ جَمْعٌ، لِأَنَّ لَفْظَ كَثِيرٌ وَقَلِيل يُعَامل موصوفهما مُعَامَلَةَ لِفَظِ شَيْءٍ أَوْ عَدَدٍ، قَالَ تَعَالَى:
وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء: ١] وَقَالَ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: ١٠٩] وَقَالَ: اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الْأَنْفَال: ٢٦] وَقَالَ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً [الْأَنْفَال: ٤٣].
وَقَوْلُهُ: فَما وَهَنُوا أَيِ الرِّبِّيُّونَ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَهِنُونَ فَالْقُدْوَةُ الْمَقْصُودَةُ هُنَا، هِيَ الِاقْتِدَاءُ بِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَجْدَرَ بِالْعَزْمِ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجَمَعَ بَيْنَ الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ تَقَارُبًا قَرِيبًا مِنَ التَّرَادُفِ فَالْوَهَنُ قِلَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى النُّهُوضِ فِي الْأَمْرِ، وَفِعْلُهُ كَوَعَدَ وَوَرِثَ
118
وَكَرُمَ. وَالضَّعْفُ- بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا- ضِدُّ الْقُوَّةِ فِي الْبَدَنِ، وَهُمَا هُنَا مَجَازَانِ، فَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى خَوَرِ الْعَزِيمَةِ، وَدَبِيبِ الْيَأْسِ فِي النُّفُوسِ وَالْفِكْرِ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالْفَشَلِ فِي الْمُقَاوَمَةِ.
وَأَمَّا الِاسْتِكَانَةُ فَهِيَ الْخُضُوعُ وَالْمَذَلَّةُ لِلْعَدُوِّ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ تَرْتِيبُهَا فِي الذِّكْرِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْحُصُولِ: فَإِنَّهُ إِذَا خَارَتِ الْعَزِيمَةُ فَشَلَتِ الْأَعْضَاءُ، وَجَاء الاستسلام، فتبعته الْمَذَلَّةُ وَالْخُضُوعُ لِلْعَدُوِّ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاء، وَكَانَت النّبوءة هَدْيًا وَتَعْلِيمًا، فَلَا بِدْعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا شَأْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَتْبَاعِ الْحَقِّ، أَنْ لَا يُوهِنَهُمْ، وَلَا يُضْعِفَهُمْ، وَلَا
يُخْضِعَهُمْ، مُقَاوَمَةُ مُقَاوِمٍ، وَلَا أَذَى حَاسِدٍ، أَوْ جَاهِلٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ خَبَّابًا قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً أَلَا تَدْعُو اللَّهَ» فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: «لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمَشَّطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ»
الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الْآيَةُ عَطْفٌ عَلَى فَما وَهَنُوا لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِرَبَاطَةِ الْجَأْشِ، وَثَبَاتِ الْقَلْبِ، وَصَفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الثَّبَاتِ مِنْ أَقْوَالِ اللِّسَانِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِ عِنْدَ الِاضْطِرَابِ وَالْجَزَعِ، أَيْ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ لَمْ يُخَالِجْهُمْ بِسَبَبِهِ تَرَدُّدٌ فِي صِدْقِ وَعْدِ اللَّهِ، وَلَا بَدَرَ مِنْهُمْ تَذَمُّرٌ، بَلْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ جَزَاءً عَلَى تَقْصِيرٍ مِنْهُمْ فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبِ نَصْرِ دِينِهِ، أَوْ فِي الْوَفَاءِ بِأَمَانَةِ التَّكْلِيفِ، فَلِذَلِكَ ابْتَهَلُوا إِلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَهُمْ جَزَاءً عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ النَّصْرَ وَأَسْبَابَهُ ثَانِيًا فَقَالُوا: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَلَمْ يَصُدُّهُمْ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ عَنْ رَجَاءِ النَّصْرِ،
وَفِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»
فَقَصَرَ قَوْلَهَمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي يَنْدُرُ
119
فِيهَا صُدُورُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إِلَى آخِرِهِ، فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِرَدِّ اعْتِقَادِ مَنْ قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ قَالُوا أقوالا تنبىء عَنِ الْجَزَعِ، أَوِ الْهَلَعِ، أَوِ الشَّكِّ فِي النَّصْرِ، أَوِ الِاسْتِسْلَامِ لِلْكُفَّارِ. وَفِي هَذَا الْقَصْرِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ جَزِعُوا مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ كَلَّمْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقُدِّمَ خَبَرُ (كَانَ) عَلَى اسْمِهَا فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْصُورٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ أَقْوَالِهِمْ حِينَئِذٍ فِي مَقَالَةِ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فَالْقَصْرُ حَقِيقِيّ لأنّه قصر لِقَوْلِهِمُ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، حِينَ حُصُولِ مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْقَيْدُ مُلَاحَظٌ مِنَ الْمَقَامِ، نَظِيرَ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النُّور: ٥١] فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ خَاصٍّ، تَقْيِيدًا مَنْطُوقًا بِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ تَوْجِيهِ تَقْدِيمِ الْخَبَرِ فِي الْآيَةِ بِأَنَّ الْمصدر المنسبك المؤوّل أَعْرَفُ مِنَ الْمَصْدَرِ الصّريح لدلَالَة المؤوّل عَلَى النِّسْبَةِ وَزَمَانِ الْحَدَثِ،
بِخِلَافِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي بَابِ (كَانَ) فِي غَيْرِ صِيَغِ الْقَصْرِ، وَأَمَّا فِي الْحَصْرِ فَمُتَعَيِّنٌ تَقْدِيمُ الْمَحْصُورِ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الذُّنُوبِ جَمِيعِهَا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ بَعْضَ الذُّنُوبِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِالْإِسْرَافِ فِي الْأَمْرِ، وَالْإِسْرَافُ هُوَ الْإِفْرَاطُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ، فَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْكَبَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمْرِنَا، أَيْ دِينِنَا وَتَكْلِيفِنَا، فَيَكُونُ عَطْفَ خَاصٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِطَلَبِ غُفْرَانِهِ، وَتَمَحُّضُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِبَقِيَّةِ الذُّنُوبِ وَهِيَ الصَّغَائِرُ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِسْرَافِ فِي الْأَمْرِ التَّقْصِيرُ فِي شَأْنِهِمْ وَنِظَامِهِمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أُهْبَةِ الْقِتَالِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، أَوِ الْحَذَرِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الظَّاهِرُ مِنْ كَلِمَةِ أَمْرٍ، بِأَنْ يَكُونُوا شَكُّوا أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ مَعَ عَدُوِّهِمْ نَاشِئًا عَنْ سَبَبَيْنِ: بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ، فَالْبَاطِنُ هُوَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الذُّنُوبِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ تَقْصِيرُهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
120
وَقَوْلُهُ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ إِعْلَامٌ بِتَعْجِيلِ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ لِحُصُولِ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَثَوَابُ الدُّنْيَا هُوَ الْفَتْحُ وَالْغَنِيمَةُ، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ هُوَ مَا كتب لَهُم حِينَئِذٍ مِنْ حُسْنِ عَاقِبَةِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الثَّوَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٣]- لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تَذْيِيلٌ أَيْ يُحِبُّ كُلَّ مُحْسِنٍ، وَمَوْقِعُ التَّذْيِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ هُمْ مِنَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا، فَاللَّامُ لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَذِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ (الْ) الْجِنْسِيَّةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، وَأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ الْمُفَادَ مِنْ (الْ) إِذَا كَانَ مَدْخُولُهَا مُفْرَدًا وَجُمْلَة سَوَاء.
[١٤٩، ١٥٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٤٩ إِلَى ١٥٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنَ التَّوْبِيخِ وَاللَّوْمِ وَالْعِتَابِ إِلَى التَّحْذِيرِ، لِيَتَوَسَّلَ مِنْهُ إِلَى مُعَاوَدَةِ التَّسْلِيَةِ، عَلَى مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ كُلِّهِ، مِنَ الْحَقَائِقِ الْحُكْمِيَّةِ وَالْمَوَاعِظِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالْعِبَرِ التَّارِيخِيَّةِ، مَا لَا يُحْصِيهِ مُرِيدُ إِحْصَائِهِ.
وَالطَّاعَةُ تُطْلَقُ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الْآمِرِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ
الْغَالِبِ، فَيُقَالُ طَاعَتْ قَبِيلَةُ كَذَا وَطَوَّعَ الْجَيْشُ بِلَادَ كَذَا.
والَّذِينَ كَفَرُوا شَائِعٌ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَاللَّفْظُ صَالِحٌ بِالْوَضْعِ لِكُلِّ كَافِرٍ مِنْ مُشْرِكٍ وَكِتَابِيٍّ، مُظْهِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ.
وَالرَّدُّ عَلَى الْأَعْقَابِ: الِارْتِدَادُ، وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمَا عِنْد قَوْله: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمرَان: ١٤٤] فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
121
أَرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يُخَامِرَهُمْ خَاطِرُ الدُّخُولِ فِي صُلْحِ الْمُشْرِكِينَ وَأَمَانِهِمْ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِظْهَارَ الضَّعْفِ أَمَامَهُمْ، وَالْحَاجَةَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا مَالُوا إِلَيْهِمُ اسْتَدْرَجُوهُمْ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، بِإِظْهَارِ عَدَمِ كَرَاهِيَةِ دِينِهِمُ الْمُخَالِفِ لَهُمْ، حَتَّى يَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مِلَّتِهِمْ، فَالرَّدُّ عَلَى الْأَعْقَابِ عَلَى هَذَا يَحْصُلُ بِالْإِخَارَةِ وَالْمَآلِ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ فِي طَاعَةِ مُسْلِمِي الْأَنْدَلُسِ لِطَاغِيَةِ الْجَلَالِقَةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى تَسْفِيهِ رَأْيِ مَنْ قَالَ: «لَوْ كَلَّمْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ» كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الطَّاعَةِ طَاعَةُ الْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ، أَيِ الِامْتِثَالُ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيئًا مَا قُتِلَ فَارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ. وَمَعْنَى الرَّدِّ عَلَى الْأَعْقَابِ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَحْصُلُ مُبَاشَرَةً فِي حَالِ طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ مَا تَضَمَّنَهُ مَا قَبْلَهُ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ غَايَةَ الظُّهُورِ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُوَالَاةِ وَالْحَلِفِ فَنَاسَبَ إِبْطَالَهَا بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا التَّذْكِيرِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ: وَهُوَ أَنَّ نَقْضَ الْوَلَاءِ وَالْحِلْفِ أَمْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنَّ لِلْوَلَاءِ عِنْدَهُمْ شَأْنًا كَشَأْنِ النَّسَبِ، وَهَذَا مَعْنًى قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ
فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوْ فَتْحِ مَكَّةَ «مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْوَلَاءُ وَلَاءَ سَيِّدِ الْمُوَالِي كُلِّهِمْ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا تَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي طَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ وَتَرْكِ وَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ يُقَوِّي مُنَاسِبَةَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَيَزِيدُ إِرَادَتَهُ ظُهُورًا.
وخَيْرُ النَّاصِرِينَ هُوَ أَفْضَلُ الْمَوْصُوفِينَ بِالْوَصْفِ، فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ، وَفِي مَوْقِعِهِ، وَفَائِدَتِهِ،
فَالنَّصْرُ يُقْصَدُ مِنْهُ دَفْعُ الْغَلَبِ عَنِ الْمَغْلُوبِ، فَمَتَى كَانَ الدَّفْعُ أَقْطَعَ لِلْغَالِبِ كَانَ النَّصْرُ أَفْضَلَ، وَيُقْصَدُ مِنْهُ دَفْعُ الظُّلْمِ فَمَتَى كَانَ النَّصْرُ
122
قَاطِعًا لِظُلْمِ الظَّالِمِ كَانَ مَوْقِعُهُ أَفْضَلَ، وَفَائِدَتُهُ أَكْمَلَ، فَالنَّصْرُ لَا يَخْلُو مِنْ مِدْحَةٍ لِأَنَّ فِيهِ ظُهُورَ الشُّجَاعَةِ وَإِبَاءَ الضَّيْمِ وَالنَّجْدَةِ.
قَالَ وَدَّاكُ بْنُ ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ:
إِذَا اسْتَنْجَدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ
وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ تَأْيِيدًا لِظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ، كَانَ فِيهِ دَخَلٌ وَمَذَمَّةٌ، فَإِذَا كَانَ إِظْهَارًا لِحَقِّ الْمُحِقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، اسْتَكْمَلَ الْمَحْمَدَةَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصْرَ الظَّالِمِ بِمَا يُنَاسِبُ خُلُقَ الْإِسْلَامِ لَمَّا
قَالَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا ومظلوما» فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذَا أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ ظَالِمًا؟ فَقَالَ: «أَنْ تَنْصُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَكُفُّهُ عَن ظلمه».
[١٥١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥١]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
رُجُوعٌ إِلَى تَسْلِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَطْمِينِهِمْ، وَوَعْدِهِمْ بِالنَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ. وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَتُهُ رَمْيُ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ [الشُّعَرَاء: ٤٤]، أَوْ فِي الْمَاءِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [الْقَصَص: ٧] وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِفْضَاءِ بِالْكَلَامِ يُلْقُونَ السَّمْعَ [الشُّعَرَاء: ٢٢٣] وَعَلَى حُصُولِ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ كَأَنَّ مُلْقِيًا أَلْقَاهُ أَيْ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تهيّؤ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ [الْمَائِدَة: ٦٤] وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْجَعْلِ وَالتَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الْأَحْزَاب: ٢٦].
والرعب: الْفَزَعُ مِنْ شِدَّةِ خَوْفٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ الرُّعْبُ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ- وَالرُّعُبُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ- بِضَمِّ الْعَيْنِ-.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ لِلْعِوَضِ وَتُسَمَّى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هَذِهِ بِتِلْكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزاءً بِما كَسَبا [الْمَائِدَة: ٣٨]، وَهَذَا جَزَاءٌ دُنْيَوِيٌّ رَتَّبَهُ
123
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ رَتَّبَ عَلَى الْأُمُورِ الْخَبِيثَةِ آثَارًا خَبِيثَةً، فَإِنَّ الشِّرْكَ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ مَنْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ يَرْتَكِزُ فِي نُفُوسِ مُعْتَقَدِيهِ عَلَى غَيْرِ دَلِيلٍ، كَانَ مِنْ شَأْنِ مُعْتَقِدِهِ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرِبَ النَّفْسِ مُتَحَيِّرًا فِي الْعَاقِبَةِ فِي تَغَلُّبِ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ هُمْ أَخَصُّ بِهِ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ
لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ مَا لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْغَيْرَةِ. فَلَا تَزَالُ آلِهَتُهُمْ فِي مُغَالَبَةٍ وَمُنَافَرَةٍ. كَمَا لَا يَزَالُ أَتْبَاعُهُمْ كَذَلِكَ، وَالَّذِينَ حَالُهُمْ كَمَا وَصَفْنَا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ فِي الثِّقَةِ بِالنَّصْرِ فِي حُرُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ لَا يَدْرُونَ هَلِ الرِّبْحُ مَعَ آلِهَتِهِمْ أَمْ مَعَ أَضْدَادِهَا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً صِلَةٌ أُجْرِيَتْ عَلَى الْمُشْرِكِ بِهِ لَيْسَ الْقَصْدُ بِهَا تَعْرِيفُ الشُّرَكَاءِ، وَلَكِنْ قُصِدَ بِهَا الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ فِيمَا أَشْرَكُوا وَاعْتَقَدُوا، فَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مُتَزَلْزِلَةٌ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ سُلْطَانٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا ذَكَرْتَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشِّرْكَ سَبَبٌ فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الرُّعْبُ نَازِلًا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَاللَّهُ يَقُولُ سَنُلْقِي» أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَسْتَكِنُّ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يَدْعُوَ دَاعِي ظُهُورِهَا، فَالرُّعْبُ وَالشَّجَاعَةُ صِفَتَانِ لَا تَظْهَرَانِ إِلَّا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَتَقْوَيَانِ وَتَضْعُفَانِ، فَالشُّجَاعُ تَزِيدُ شَجَاعَتُهُ بِتَكَرُّرِ الِانْتِصَارِ، وَقَدْ يَنْزَوِي قَلِيلًا إِذَا انْهَزَمَ ثُمَّ تَعُودُ لَهُ صِفَتُهُ سَرْعَى. كَمَا وَصَفَهُ عَمْرُو بْنُ الْإِطْنَابَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَقُولِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
وَقَوْلِ الْحُصَيْنِ بْنِ الْحُمَامِ:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسَيْ حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
وَكَذَلِكَ الرُّعْبُ وَالْجُبْنُ قَدْ يَضْعُفُ عِنْدَ حُصُولِ بَارِقَةِ انْتِصَارٍ، فَالْمُشْرِكُونَ لما انْهَزمُوا بادىء الْأَمْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَّتْ عَزِيمَتُهُمْ، ثُمَّ لَمَّا ابْتَلَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْهَزِيمَةِ رَاجَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالِازْدِهَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ
124
عَاوَدَتْهمُ صِفَاتُهُمْ، (وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ). فَقَوْلُهُ: سَنُلْقِي أَيْ إِلْقَاءَ إِعَادَةِ الصِّفَةِ إِلَى النُّفُوسِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ السِّينَ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ أَيْ أَلْقَيْنَا وَنُلْقِي، وَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الرُّعْبَ كَانَتْ لَهُ مَظَاهِرُ: مِنْهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ فِي مُكْنَتِهِمْ أَنْ يُوغِلُوا فِي اسْتِيصَالِهِمْ إِلَّا أَنَّ الرُّعْبَ صَدَّهُمْ عَنْ ذَلِك، لأنّهم خَافُوا أَن تعود عَلَيْهِم الْهَزِيمَة، وتدور عَلَيْهِم الدائرة، وَمِنْهَا أنّهم لَمَّا انْصَرَفُوا قَاصِدِينَ الرُّجُوعَ إِلَى مَكَّةَ عَنَّ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ نَدَمٌ، وَقَالُوا: لَوْ رَجَعْنَا فَاقْتَفَيْنَا آثَارَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّا قَتَلْنَاهُمْ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَلُّ وَالطَّرِيدُ، فَلْنَرْجِعْ إِلَيْهِمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى لِقَائِهِمْ، فَانْتَدَبُوا، وَكَانُوا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَمُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحَةِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَحْمِلُ الْآخَرَ ثُمَّ يَنْزِلُ الْمَحْمُولُ فَيَحْمِلُ الَّذِي
كَانَ حَامِلَهُ، فَقَيَّضَ اللَّهُ مَعْبَدَ بْنَ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّ وَهُوَ كَافِرٌ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ:
«إِنَّ خُزَاعَةَ قَدْ سَاءَهَا مَا أَصَابَكَ وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ لَمْ تُرْزَأْ فِي أَصْحَابِكَ» ثُمَّ لَحِقَ مَعْبَدٌ بِقُرَيْشٍ فَأَدْرَكَهُمْ بِالرَّوْحَاءِ قَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ، قَالَ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ خَرَجُوا يَطْلُبُونَكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، مَا تَقُولُ؟! قَالَ: مَا أَرَى أَنَّكَ تَرْتَحِلُ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ وَلَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْهُ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ:
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ
تَرْدِي بِأَسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مَيْلٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ أَعْدُو وأظنّ الْأَرْضَ مَائِلَةً لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: لَا تَرْجِعُوا فَإِنِّي أَرَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لِلْقَوْمِ قِتَالٌ غَيْرُ الَّذِي كَانَ.
125
وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ مَا لَا سُلْطَانَ لَهُ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ لِأَنَّهُ يَتَسَلَّطُ عَلَى النَّفْسِ، وَنُفِيَ تَنْزِيلُهُ وَأُرِيدَ نَفْيُ وَجُودِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِنَزَلَ أَيْ لَأَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُمِ النَّاسَ الْإِرْشَادَ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ اعْتِقَادٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَالتَّنْزِيلُ إِمَّا بِمَعْنَى الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى نصب الأدلّة عَلَيْهِم كَقَوْلِهِمْ: «نَزَلَتِ الْحِكْمَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَعُقُولِ الْفُرْسِ وَأَيْدِي الصِّينِ» وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ لَا يَعْدُو هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْوَحْيِ، أَوْ بِالْأَمَارَاتِ، كَانَ نَفْيُ تَنْزِيلِ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِشْرَاكِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ السُّلْطَانِ نَفْسِهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ:
لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
وَقَوْلُهُ: وَمَأْواهُمُ النَّارُ ذَكَرَ عِقَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمَأْوَى مَفْعَلٌ مِنْ أَوَى إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَالْمَثْوَى مَفْعَلٌ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ فَالنَّارُ مَصِيرُهُمْ وَمَقَرُّهُمْ وَالْمرَاد الْمُشْركُونَ.
[١٥٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمرَان: ١٥١] وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى التَّسْلِيَةِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَإِظْهَارٌ لِاسْتِمْرَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ، وَرَمَزَ إِلَى الثِّقَةِ بِوَعْدِهِمْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَبْيِينٍ لِسَبَبِ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ: تَطْمِينًا لَهُمْ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ وَمُمَاثِلِهِ السَّابِقِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ (التَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ) وَلِيَتَوَسَّلَ
126
بِذَلِكَ إِلَى إِلْقَاءِ تَبِعَةِ الْهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْلِفْهُمْ وَعْدَهُ، وَلَكِنَّ سُوءَ صَنِيعِهِمْ أَوْقَعَهُمْ فِي الْمُصِيبَةِ كَقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: ٧٩].
وَصِدْقُ الْوَعْدِ: تَحْقِيقُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى الصِّدْقِ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، وَقَدْ عُدِّيَ صَدَقَ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَحَقُّهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٢٣]-: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ- يُقَالُ: صَدَقَنِي أَخُوكَ وَكَذَبَنِي إِذَا قَالَ لَكَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَأَمَّا الْمَثَلُ (صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ) فَمَعْنَاهُ صَدَقَنِي فِي سِنِّ بَكْرِهِ بِطَرْحِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ. فَنُصِبَ وَعْدَهُ هُنَا عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ صَدَقَكُمْ فِي وَعْدِهِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ صَدَقَ مَعْنَى أَعْطَى.
وَالْوَعْدُ هُنَا وَعْدُ النَّصْرِ الْوَاقِعِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: ٧] أَوْ بِخَبَرٍ خَاصٍّ فِي يَوْمِ أُحُدٍ.
وَإِذْنُ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وتيسير الْأَسْبَاب.
و (إِذْ) فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِقَوْلِهِ: صَدَقَكُمُ أَيْ: صَدَقَكُمُ اللَّهُ الْوَعْدَ حِينَ كُنْتُمْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحِسَّ تَحْقِيقٌ لِوَعْدِ اللَّهِ إيّاهم بالنّصر، و (إِذْ) فِيهِ لِلْمُضِيِّ، وَأُتِيَ بَعْدَهَا بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ أَيْ لِحِكَايَةِ تَجَدُّدِ الْحَسِّ فِي الْمَاضِي.
وَالْحَسُّ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- الْقَتْلُ أَطْلَقَهُ أَكْثَرُ اللُّغَوِيِّينَ، وَقَيَّدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِالْقَتْلِ الذَّرِيعِ، وَهُوَ أَصْوَبُ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ (حَتَّى) حَرْفُ انْتِهَاءٍ وَغَايَةٍ، يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْمَعْنَى: إِذْ تَقْتُلُونَهُمْ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ، وَاسْتَمَرَّ قَتْلُكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى حُصُولِ الْفَشَلِ لَكُمْ والتنازع بَيْنكُم.
و (حتّى) هُنَا جارّة و (إِذا) مجرور بهَا.
127
(إِذا) اسْمُ زَمَانٍ، وَهُوَ فِي الْغَالِبِ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى الزَّمَانِ مُطْلَقًا كَمَا هُنَا، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ أَنَّهُ أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ تَبَعًا لقَوْله: تَحُسُّونَهُمْ.
و (إِذا) هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّهَا إِذَا صَارَتْ لِلْمُضِيِّ انْسَلَخَتْ عَنِ الصَّلَاحِيَةِ لِلشَّرْطِيَّةِ، إِذِ الشَّرْطُ لَا يَكُونُ مَاضِيًا إِلَّا بِتَأْوِيلٍ لِذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ لِجَوَابٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكَلُّفِ تَقْدِيرِهِ: انْقَسَمْتُمْ، وَلَا إِلَى جَعْلِ الْكَلَامِ بَعْدَهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إِلَى آخِرِهَا.
وَالْفَشَلُ: الْوَهَنُ وَالْإِعْيَاءُ، وَالتَّنَازُعُ: التَّخَالُفُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِصْيَانِ هُنَا عِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَقد رتّبت الْأَفْعَال الثَّلَاثَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى حَسْبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْحُصُولِ، إِذْ كَانَ الْفَشَلُ، وَهُوَ ضَجَرُ بَعْضِ الرُّمَاةِ مِنْ مُلَازَمَةِ مَوْقِفِهِمْ لِلطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، قَدْ حَصَلَ أَوَّلًا فَنَشَأَ عَنْهُ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ فِي مُلَازَمَةِ الْمَوْقِفِ وَفِي اللَّحَاقِ بِالْجَيْشِ لِلْغَنِيمَةِ، وَنَشَأَ عَنِ التَّنَازُعِ تَصْمِيمُ مُعْظَمِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَوْقِفِ الَّذِي أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمُلَازَمَتِهِ وَعَدَمِ الِانْصِرَافِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ يَقْتَضِ الْحَالُ الْعُدُولَ عَنْهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْأَمْرِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ فِي أَمْرِكُمْ أَيْ شَأْنِكُمْ.
وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ أَرَادَ بِهِ النَّصْرَ إِذْ كَانَتِ الرِّيحُ أَوَّلَ يَوْمِ أُحُدٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، حَتَّى شُوهِدَتْ نِسَاؤُهُمْ مُشَمِّرَاتٍ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي أَعْلَى الْجَبَلِ هَارِبَاتٍ مِنَ الْأَسْرِ، وَفِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أَنْ يَثْبُتُوا لِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ، الْغَنِيمَةَ، الْتَحَقُوا بِالْغُزَاةِ، فَرَأَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ قَائِدُ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، غِرَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَاهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ فَانْكَشَفُوا وَاضْطَرَبَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَبَادَرُوا الْفِرَارَ وَانْهَزَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِفَشَلِهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَشْدِيدٌ فِي الْمَلَامِ وَالتَّنْدِيمِ.
128
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَا تُحِبُّونَ هُوَ الْغَنِيمَةُ فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ (فَشِلْتُمْ، وَتَنَازَعْتُمْ، وَعَصَيْتُمْ)، وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْغَنِيمَةِ بِاسْمِهَا، إِلَى الْمَوْصُولِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ عَجِلُوا فِي طَلَبِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْمَعْذِرَةِ إِذْ كَانَ فَشَلُهُمْ وَتَنَازُعُهُمْ وَعِصْيَانُهُمْ عَنْ سَبَبٍ مِنْ أَغْرَاضِ الْحَرْبِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ جُبْنٍ، وَلَا عَنْ ضَعْفِ إِيمَانٍ، أَوْ قَصْدِ
خِذْلَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّهُ تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ تَفْصِيل لتنازعتم، وَتَبْيِينٌ لِ (عَصَيْتُمْ)، وَتَخْصِيصٌ لَهُ بِأَنَّ الْعَاصِينَ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ الْمُتَنَازِعِينَ، إِذِ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ لَيْسُوا بِعَاصِينَ، وَلِذَلِكَ أُخِّرَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ إِلَى بَعْدِ الْفِعْلَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَقِّبَ بِهَا قَوْلَهُ: وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْجُمْلَةِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ ثَلَاثِ جُمَلٍ وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إِرَادَةُ نِعْمَةِ الدُّنْيَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ الْغَنِيمَةَ لَمْ يَحْرِصْ عَلَى ثَوَابِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُفَرِّطًا فِي الْآخِرَةِ مُطْلَقًا، وَلَا حَاسِبًا تَحْصِيلَ خَيْرِ الدُّنْيَا فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ مُفِيتًا عَلَيْهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَرَادُوا ثَوَابَ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ، إِذْ لَيْسَ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ فَائِدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ مِنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، مَعَ عَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِدَالٍّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِالْآخِرَةِ، وَإِنْكَارٍ لَهَا، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، فَقَطْ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُخَالَفَةُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ عِصْيَانًا، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ كَانَتْ عَنِ اجْتِهَادٍ لَا عَنِ اسْتِخْفَافٍ، إِذْ كَانُوا قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَنَا بِالثَّبَاتِ هُنَا لِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَنَا وَلِلْوُقُوفِ هُنَا حَتَّى تَفُوتَنَا الْغَنَائِمُ، فَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ، فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هُنَا
129
عِصْيَانًا لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ اجْتِهَادٍ، فَإِنَّ شَأْنَ الْحَرْبِ الطَّاعَةُ لِلْقَائِدِ مِنْ دُونِ تَأْوِيلٍ، أَوْ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ كَانَ بَعِيدًا فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ تَأْوِيلًا لِإِرْضَاءِ حُبِّ الْمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا لِدَلِيلِ وُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّرْفَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، كَمَا كَانَ الْقَتْلُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَنَّ حِكْمَتَهُ الِابْتِلَاءُ، لِيَظْهَرَ لِلرَّسُولِ وَلِلنَّاسِ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ أَسْرَارًا عَظِيمَةً فِي الْمُحَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ أَجْمَلَ هَذَا الِابْتِلَاءَ هُنَا وَسَيُبَيِّنُهُ.
وَعَقَّبَ هَذَا الْمَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ تَسْكِينًا لِخَوَاطِرِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَلَطُّفٌ مَعَهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَقْرِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْعَفْوِ عَلَى الْمَلَامِ فِي مَلَامِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣]، فَتِلْكَ رُتْبَةٌ أَشْرَفُ مِنْ رُتْبَةِ تَعْقِيبِ الْمَلَامِ بِذِكْرِ الْعَفْوِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِمْ إِذْ
عَجَّلَ لَهُمُ الْإِعْلَامَ بِالْعَفْوِ لِكَيْلَا تَطِيرَ نُفُوسُهُمْ رَهْبَةً وَخَوْفًا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَأْكِيدُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَفْوٌ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون عفوا بعد مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ صَالِحَةً لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تسلب الْإِيمَان.
[١٥٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
130
(١٥٣)
إِذْ تُصْعِدُونَ متعلّق بقوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١٥٢] أَيْ دَفَعَكُمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَنْتُمْ مُصْعِدُونَ.
وَالْإِصْعَادُ: الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى صَعِيدًا، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ:
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ وَالْإِصْعَادُ أَيْضًا السَّيْرُ فِي الْوَادِي، قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: أَصْعِدُوا يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْوَادِي.
وَالْمَعْنَى: تَفِرُّونَ مُصْعِدِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَذْهَبُونَ فِي الْأَرْضِ أَي فِرَارًا، ف إِذْ) ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي عَقِبَ صَرْفَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَكَانَ مِنْ آثَارِهِ.
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أَيْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَاللَّيُّ مَجَازٌ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالرِّفْقُ مِثْلُ الْعَطْفِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، فَالْمَعْنَى وَلَا يَلْوِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَأُوجِزَ بِالْحَذْفِ، وَالْمُرَادُ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، يَعْنِي: فَرَرْتُمْ لَا يَرْحَمُ أَحَدٌ أَحَدًا وَلَا يَرْفُقُ بِهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْجِدِّ فِي الْهُرُوبِ حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ لِيَدُوسَ الْآخَرَ لَوْ تَعَرَّضَ فِي طَرِيقِهِ.
وَجُمْلَةُ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ حَالٌ، وَالْأُخْرَى آخِرُ الْجَيْشِ أَيْ مِنْ وَرَائِكُمْ. وَدُعَاءُ الرَّسُولِ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ لِلثَّبَاتِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْهَزِيمَةِ، وَهَذَا هُوَ دُعَاءُ الرَّسُولِ النَّاسَ بِقَوْلِهِ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ مَنْ يَكُرُّ فَلَهُ الْجَنَّةُ».
وَقَوْلُهُ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا إِنْ كَانَ ضَمِيرُ فَأَثابَكُمْ ضَمِيرَ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ [آل عمرَان: ١٥٤] فَهُوَ عَطْفٌ على صَرَفَكُمْ [آل عمرَان: ١٥٢] أَيْ تَرَتَّبَ عَلَى الصَّرْفِ إِثَابَتُكُمْ. وَأَصْلُ الْإِثَابَةِ إِعْطَاءُ الثَّوَابِ
وَهُوَ شَيْءٌ يَكُونُ جَزَاءً عَلَى عَطَاءٍ أَوْ فِعْلٍ. وَالْغَمُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ، فَيَكُونُ أَثَابَكُمْ إِمَّا اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ قبيل الصُّبْح مُرَادة طَحُونًا
أَيْ جَازَاكُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِصْعَادِ الْمُقَارِنِ لِلصَّرْفِ أَنْ أَثَابَكُمْ غَمًّا أَيْ قَلَقًا لَكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ، وَالْمُرَادُ أَنْ عَاقَبَكُمْ بِغَمٍّ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمرَان: ٢١]
131
وَفِي هَذَا الْوَجْهِ بُعْدٌ: لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَلَامٍ لَا تَوْبِيخٍ، وَمَقَامُ لَا تَنْدِيمٍ. وَإِمَّا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا لِلْحَرْبِ خَرَجُوا طَالِبِينَ الثَّوَابَ، فَسَلَكُوا مَسَالِكَ بَاءُوا مَعَهَا بِعِقَابٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
أَخَافُ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا (١)
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً قَمِيصًا.
وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْمُشَاكَلَةِ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا نَشَأَ عَنْ هَذَا الْغَمِّ مِنْ عِبْرَة، وَمن توجّه عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ بَعْدَهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَمٍّ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْغُمُومِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْبَةِ الْأَمَلِ فِي النَّصْرِ بَعْدَ ظُهُورِ بَوَارِقِهِ، وَمِنَ الِانْهِزَامِ، وَمِنْ قَتْلِ مَنْ قُتِلَ، وَجَرْحِ مَنْ جُرِحَ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْبَاءِ لِلْعِوَضِ، أَيْ: جَازَاكُمُ اللَّهُ غَمًّا فِي نُفُوسِكُمْ عِوَضًا عَنِ الْغَمِّ الَّذِي نَسَبْتُمْ فِيهِ لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ عَائِدًا إِلَى الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ، فَالْإِثَابَةُ مَجَازٌ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ الْجَمِيلِ بِمِثْلِهِ أَيْ جَازَاكُمْ بِغَمٍّ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَمٍّ بَاءُ الْعِوَضِ. وَالْغَمُّ الْأَوَّلُ غَمُّ نَفْسِ الرَّسُولِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي غَمُّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ اغْتَمَّ وَحَزِنَ لِمَا أَصَابَكُمْ، كَمَا اغْتَمَمْتُمْ لِمَا شَاعَ مِنْ قَتْلِهِ فَكَانَ غمّه لأجلكم جزاءا عَلَى غَمِّكُمْ لِأَجْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ تَعْلِيلٌ أَوَّلُ لِ (أَثَابَكُمْ) أَيْ أَلْهَاكُمْ بِذَلِكَ الْغَمِّ لِئَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، فَهُوَ أَنْسَاهُمْ بِمُصِيبَةٍ صَغِيرَةٍ مُصِيبَةً كَبِيرَةً، وَقِيلَ: (لَا) زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى: لِتَحْزَنُوا، فَيَكُونُ زِيَادَةً فِي التَّوْبِيخِ
وَالتَّنْدِيمِ إِنْ كَانَ قَوْله: فَأَثابَكُمْ تَهَكُّمًا أَوِ الْمَعْنَى فَأَثَابَكُمُ
_________
(١) محدرجة بحاء مُهْملَة وبجيم بعد الرَّاء أَي مفتولة: وَهُوَ صفة لموصوف مَحْذُوف أَرَادَ أسواطا.
132
الرَّسُولُ غمّا لكيلا تحزنوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ: أَيْ سَكَتَ عَنْ تَثْرِيبِكُمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ إِلَّا الِاغْتِمَامُ لِأَجْلِكُمْ، لِكَيْلَا يُذَكِّرَكُمْ بِالتَّثْرِيبِ حُزْنًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ جَبْرًا لِخَوَاطِرِكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَصَابَكُمْ بِالْغَمِّ الَّذِي نَشَأَ عَنِ الْهَزِيمَةِ لِتَعْتَادُوا نُزُولَ الْمَصَائِبِ، فَيَذْهَبُ عَنْكُمُ الْهَلَعُ وَالْجَزَعُ عِنْدَ النَّوَائِبِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا فاتَكُمْ وَمَا أَصابَكُمْ طِبَاقٌ يُؤْذِنُ بِطِبَاقٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ، لِأَنَّ مَا فَاتَ هُوَ النَّافِعِ وَمَا أَصَابَ هُوَ مِنَ الضَّارِّ.
[١٥٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهُوَ يرجّح كَون الضَّمِير فَأَثابَكُمْ مِثْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ هَذَا رُجُوعًا إِلَى سِيَاقِ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَالْمَعْنَى ثُمَّ أَغْشَاكُمْ بِالنُّعَاسِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ. وَسُمِّيَ الْإِغْشَاءُ إِنْزَالًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نُعَاسًا مُقَدَّرًا مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَةٍ خَاصَّةٍ، كَانَ كَالنَّازِلِ مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُشَرَّفَةِ كَمَا يُقَالُ:
نَزَلَتِ السَّكِينَةُ.
وَالْأَمَنَةُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- الْأَمْنُ، وَالنُّعَاسُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ أَوْ أَوَّلُ النَّوْمِ، وَهُوَ يُزِيلُ التَّعَبَ وَلَا يَغِيبُ صَاحِبُهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَمَنَةً إِذْ لَو نَامُوا نوما ثَقِيلًا لَأَخَذُوا، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالزُّبَيْرُ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: غَشِيَنَا نُعَاسٌ حَتَّى إِنَّ السَّيْفَ لِيَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِنَا.
وَقَدِ اسْتَجَدُّوا بِذَلِكَ نَشَاطَهُمْ، وَنَسُوا حُزْنَهُمْ، لِأَنَّ الْحُزْنَ تَبْتَدِئُ خِفَّتُهُ بَعْدَ أَوَّلِ نَوْمَةٍ تُعْفِيهِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَحْزَانِ الْمَوْتِ وَغَيْرِهَا. وَ (نُعَاسًا) بَدَلٌ عَلَى (أَمَنَةٍ) بَدَلٌ مُطَابِقٌ.
وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَدَّمَ النُّعَاسُ وَيُؤَخَّرَ أَمَنَةٌ: لِأَنَّ أَمَنَةً بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ أَوِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا جَاءَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ [١١] : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً
مِنْهُ
ولكنّه قدّم الأمنة هُنَا تَشْرِيفًا لِشَأْنِهَا لِأَنَّهَا جُعِلَتْ كَالْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ لِنَصْرِهِمْ، فَهُوَ كَالسَّكِينَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مَفْعُولَ أَنْزَلَ، وَيُجْعَلَ النُّعَاسُ بَدَلًا مِنْهُ.
133
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَغْشَى- بِالتَّحْتِيَّةِ- عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى نُعَاسٍ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِالْفَوْقِيَّةِ- بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى أَمَنَةً، وَلِذَلِكَ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ.
وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا.
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ طَائِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، تَخَلَّصَ مِنْهُ لِذِكْرِ حَالِ طَائِفَةِ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ وَصَفَهَا بِمِنْكُمْ كَمَا وَصَفَ الْأُولَى.
وَطائِفَةٌ مُبْتَدَأٌ وُصِفَ بِجُمْلَةِ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ. وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [آل عمرَان: ١٥٥] الْآيَةَ.
وَمَعْنَى أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْهَمُّ وَذَلِكَ بِعَدَمِ رِضَاهُمْ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَبِشِدَّةِ تَلَهُّفِهِمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَتَحَسُّرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِمَّا يَظُنُّونَهُ مُنْجِيًا لَهُمْ لَوْ عَمِلُوهُ: أَيْ مِنَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَاتَ، وَإِذْ كَانُوا كَذَلِكَ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ فِي اضْطِرَاب وتحرّق يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ وَمِنَ الْمَنَامِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ الْآتِي: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمرَان: ١٥٦]. وَقِيلَ مَعْنَى أَهَمَّتْهُمْ أَدْخَلَتْ عَلَيْهِمُ الْهَمَّ بِالْكُفْرِ وَالِارْتِدَادِ، وَكَانَ رَأْسُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مُعَتَّبُ بْنَ قُشَيْرٍ.
وَجُمْلَةُ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ إِمَّا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَإِمَّا حَالٌ مِنْ (طَائِفَةٌ). وَمَعْنَى يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أَنَّهُمْ
134
ذَهَبَتْ بِهِمْ هَوَاجِسُهُمْ إِلَى أَن ظنُّوا بِاللَّهِ ظُنُونًا بَاطِلَةً مِنْ أَوْهَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يُخْلِصُوا الدِّينَ لِلَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضَ مَا لَهُمْ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَهل لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، بِقَرِينَةِ زِيَادَةِ (مِنْ) قَبْلَ النَّكِرَةِ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ النَّفْيِ، وَهُوَ تَبْرِئَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا سَبَبًا فِي مُقَابَلَةِ
الْعَدُوِّ. حَتَّى نَشَأَ عَنْهُ مَا نَشَأَ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأٌ وَغُرُورٌ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ إِذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُؤَيَّدًا بِالنَّصْرِ.
وَالْقَوْلُ فِي هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ كَالْقَوْلِ فِي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا شَأْنُ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ. وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى السِّيَادَةِ الَّذِي مِنْهُ الْإِمَارَةُ، وَمِنْهُ أُولُو الْأَمْرِ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَظُنُّونَ لِأَنَّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمَعْنَى لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَيْ مِنْ شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ، أَو من أَمر تَدْبِيرِ النَّاسِ شَيْءٌ، أَيْ رَأْيٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، أَيْ مَا قُتِلَ قَوْمُنَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِفَاءَ الْقَتْلِ مَعَ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، بَلِ الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: (هَاهُنَا)، فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْخَزْرَجِ يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا تَنَصُّلٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ وَتَعْرِيضٌ بِالنَّبِيءِ وَمَنْ أَشَارَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَغِبُوا فِي إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ غَيْرَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ تَخْلِيطٌ فِي مَعْرِفَةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ رَسُولِهِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ، فَإِنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَهَدْيًا وَلَهُ قَدَرٌ وَتَيْسِيرٌ، وَكَذَلِكَ لِرَسُولِهِ الدَّعْوَةُ وَالتَّشْرِيعُ وَبَذْلُ الْجُهْدَ فِي تَأْيِيدِ الدِّينِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعْصُومٌ، وَلَيْسَ مَعْصُومًا مِنْ جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ سِجَالًا، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ وَقَدْ سَأَلَهُ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ لَهُ؟
135
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. فَظَنُّهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ ظَنُّ الْجَاهِلِيَّةَ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِيمَانَ أَصْلًا فَهَؤُلَاءِ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ فَبَقِيَتْ مَعَارِفُهُمْ كَمَا هِيَ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْجَاهِلِيَّةُ صِفَةٌ جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِالْفِئَةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ، وَرُبَّمَا أُرِيدَ بِهِ حَالَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نِسْبَةٌ إِلَى الْجَاهِلِ أَيِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الدِّينَ وَالتَّوْحِيدَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقَتِ الْجَهْلَ عَلَى مَا قَابَلَ الْحِلْمَ، قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:
بِجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُنْتَضَى وَحِلْمٍ كَحِلْمِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُغْمَدُ
وَأُطْلِقَتِ الْجَهْلُ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ قَالَ السَّمَوْأَلُ.
فَلَيْسَ سَوَاءٌ عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَأَحْسَبُ أَنَّ لَفْظَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، وَصَفَ بِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ تَنْفِيرًا مِنَ الْجَهْلِ، وَتَرْغِيبًا فِي الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْقُرْآنُ فِي مَقَامَاتِ الذَّمِّ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: ٥٠] وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى [الْأَحْزَاب: ٣٣] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [الْفَتْح: ٢٦]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا، وَفِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَانَ يَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ. وَقَالُوا: شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَيَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ الْحَقِّ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَظُنُّونَ كَأَنَّهُ قِيلَ الْبَاطِلُ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ إِذْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ عَقَائِدَ الْجَاهِلِيَّةِ إِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهَا أَو تَارِكًا بهَا.
136
وَجُمْلَةُ يُخْفُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُولُونَ أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ نِيَّتِهِمْ غَيْرَ ظَاهِرِهِ، فَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ إِعْلَانٌ بِنِفَاقِهِمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَقَوْلَهُمْ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا هُوَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ صُورَةَ الْعِتَابِ عَنْ تَرْكِ مَشُورَتِهِمْ فَنِّيَّتُهُمْ مِنْهُ تَخْطِئَةُ النَّبِيءِ فِي خُرُوجِهِ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى أُحُدٍ، وَأَنَّهُمْ أَسَدُّ رَأْيًا مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إِذْ كَانُوا قَدْ قَالُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُظْهِرُوهُ، أَوْ هِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ إِذَا أَظْهَرُوا قَوْلَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَرْجِعُ الْجُمْلَةُ إِلَى مَعْنَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ يَظُنُّونَ لِأَنَّهَا لَمَّا بَيَّنَتْ جُمْلَةَ هِيَ بَدَلٌ فَهِيَ أَيْضًا كَالَّتِي بَيَّنَتْهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَجْلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْقَالَةَ فَشَتْ وَبَلَغَتِ الرَّسُولَ، وَلَا يَحْسُنُ كَوْنُ جُمْلَةِ يَقُولُونَ لَوْ كانَ إِلَى آخِرِهِ مُسْتَأْنَفَةً خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ صَدَرَتْ مِنْ مَعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: غَشِيَنِي النُّعَاسُ فَسَمِعْتُ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. فَحَكَى الْقُرْآنُ مَقَالَتَهُ كَمَا قَالَهَا، وَأُسْنِدَتْ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهَا وَرَضُوا بِهَا.
وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعُذْرَ الْبَاطِلَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ غَيْرُ مُحْتَاجَيْنِ إِلَى أَمْرِكُمْ. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُلَّهُ- بِالنَّصْبِ- تَأْكِيدًا لِاسْمِ إِنَّ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَلَى نِيَّةِ الِابْتِدَاءِ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ.
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ.
137
لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.
وَالْجَوَابُ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ، وَتَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الرَّيْبِ، إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ هُوَ جَوَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَيَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ جَرْيًا عَلَى حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَةِ كَمَا قَرَّرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا الْجَوَابُ جَارٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ جَرَيَانُ الْأَشْيَاءِ عَلَى قَدَرٍ مِنَ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمُ لِذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي مُصَادَفَةِ الْمَأْمُولِ، فَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ وَنَظَائِرُهُ بِمُقْتَضٍ تَرْكَ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّ قَدَرَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَاءَهُ غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ لَنَا إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالسَّعْيِ فِيمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ كَاشِفًا عَنْ مُصَادَفَةِ قدر اللَّهِ لِمَأْمُولِنَا، فَإِنِ اسْتَفْرَغْنَا جُهُودَنَا وَحُرِمْنَا الْمَأْمُولَ، عَلِمْنَا أَنَّ قَدَرَ اللَّهِ جَرَى مِنْ قَبْلُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِنَا. فَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنَّا، وَإِعْرَاضٌ عَمَّا أَقَامَنَا اللَّهُ فِيهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ لِمَعْنَى الْقَدَرِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ لَمْ تَكُونُوا هَاهُنَا وَكُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَخَرَجَ الَّذِينَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمُوتُوا مَقْتُولِينَ فَقُتِلُوا فِي مَضَاجِعِهِمُ الَّتِي اضْطَجَعُوا فِيهَا يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ مَصَارِعِهِمْ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ قدّر، وَمعنى لَبَرَزَ خَرَجَ إِلَى الْبَرَازِ وَهُوَ الْأَرْضُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَاءَ (بُيُوتِكُمْ) - بِالْكَسْرِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالضَّمِّ-.
وَالْمَضَاجَعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ- وَهُوَ مَحَلُّ الضُّجُوعِ، وَالضُّجُوعُ:
وَضْعُ الْجَنْبِ بِالْأَرْضِ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَمَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ الضَّجْعُ، وَأَمَّا الضُّجُوعُ فَغَيْرُ قِيَاسِيٍّ، ثُمَّ غَلَبَ إِطْلَاقُ الْمَضْجَعِ عَلَى مَكَانِ النَّوْمِ قَالَ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: ١٦] وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ». فَحَقِيقَةُ الضُّجُوعِ هُوَ وَضْعُ الْجَنْبِ لِلنَّوْمِ وَالرَّاحَةِ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَصَارِعِ الْقَتْلَى عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِعَارَةِ، وَحُسْنُهَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَوْ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ، مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ كَانُوا يَبْقُونَ فِي بُيُوتِهِمْ مُتَمَتِّعِينَ بِفُرُوشِهِمْ.
138
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ [آل عمرَان: ١٥٣] وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ بَعْضُهَا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعَلِّلَةِ، وَبَعْضُهَا مُعْتَرِضَةٌ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمرَان: ١٥٣].
والصّدور هُنَا بِمَعْنَى الضَّمَائِرِ، وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ أَثَره، وَهُوَ إِظْهَاره لِلنَّاسِ وَالْحُجَّةُ عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الضَّمَائِرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: ١٤٠].
وَالتَّمْحِيصُ تَخْلِيصُ الشَّيْءِ مِمَّا يُخَالِطُهُ مِمَّا فِيهِ عَيْبٌ لَهُ فَهُوَ كَالتَّزْكِيَةِ. وَالْقُلُوبُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَقَائِدِ، وَمَعْنَى تمحيص مَا فِيهِ قُلُوبِهِمْ تَطْهِيرُهَا مِمَّا يُخَامِرُهَا مِنَ الرَّيْبِ حِينَ سَمَاعِ شُبَهِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي يَبُثُّونَهَا بَيْنَهُمْ.
وَأُطْلِقَ الصُّدُورُ عَلَى الضَّمَائِرِ لِأَنَّ الصَّدْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِثْمُ مَا حاك فِي الصّدر»
وَأُطْلِقَ الْقَلْبُ عَلَى الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ مَا بِهِ يَحْصُلُ التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِقَادُ. وَعُدِّيَ إِلَى الصُّدُورِ فِعْلُ الِابْتِلَاءِ لِأَنَّهُ اخْتِبَارُ الْأَخْلَاقِ وَالضَّمَائِرِ: مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلِيَتَمَيَّزَ مَا فِي النَّفْسِ. وَعُدِّيَ إِلَى الْقُلُوبِ فِعْلُ التَّمْحِيصِ لِأَنَّ الظُّنُونَ وَالْعَقَائِدَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّمْحِيصِ لِتَكُونَ مَصْدَرَ كلّ خير.
[١٥٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ سَبَبِ الْهَزِيمَةِ الْخَفِيِّ، وَهِيَ اسْتِزْلَالُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ، وَأَرَادَ بِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَ (اسْتَزَلَّهُمُ) بِمَعْنَى أَزَلَّهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ زَالِّينَ، وَالزَّلَلُ
139
مُسْتَعَارٌ لِفِعْلِ الْخَطِيئَةِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، مِثْلُ اسْتَفَادَ وَاسْتَبْشَرَ وَاسْتَنْشَقَ وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْجَوِّ عَنْوَةً أَبَا جَابر فاستنكحنوا أُمَّ جَابِرِ
أَيْ نَكَحُوا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: ٦] وَقَوْلُهُ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: ٣٤]. وَلَا يَحْسُنُ حَمْلُ السِّينِ وَالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى الطَّلَبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَوْمُهُمْ عَلَى
وُقُوعِهِمْ فِي مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، فَهُوَ زَلَلٌ وَاقِعٌ.
وَالْمُرَادُ بِالزَّلَلِ الِانْهِزَامُ، وَإِطْلَاقُ الزَّلَلِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ كَإِطْلَاقِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ النَّصْرُ قَالَ تَعَالَى: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا [آل عمرَان: ١٤٧].
وَالْبَاءُ فِي بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَأُرِيدَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا مُفَارَقَةُ مَوْقِفِهِمْ، وَعِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَالتَّنَازُعُ، وَالتَّعْجِيلُ إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ كَانَ مِنْ آثَار الشَّيْطَان، رماهم فِيهِ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا إِلْقَاءُ تَبِعَةِ ذَلِكَ الِانْهِزَامِ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَإِبْطَالُ مَا عَرَّضَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ رَمْيِ تَبِعَتِهِ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْخُرُوجِ، وَتَحْرِيضِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ. وَذَلِكَ شَأْنُ ضِعَافِ الْعُقُولِ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِمْ مُقَارِنُ الْفِعْلِ بِسَبَبِهِ، وَلِأَجْلِ تَخْلِيصِ الْأَفْكَارِ مِنْ هَذَا الْغَلَطِ الْخَفِيِّ وَضَعَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ بَابَ الْقَضِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ وَالْقَضِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَرْتَبَةَ حَقِّ الْيَقِينِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ انْتَقَلَ بِهِمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْأَسْبَابِ تَأْثِيرٌ فَسَبَبُ مُصِيبَتِهِمْ هِيَ أَفْعَالُهُمُ الَّتِي أَمْلَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَيْهِمْ وَأَضَلَّهُمْ، فَلَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى السَّبَبِ، وَالْتُبِسَ عَلَيْهِمْ بِالْمُقَارَنِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذَا الضَّلَالِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَبَيْنَ تَدَارُكِ خَطَئِهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَتَحْبِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَهُمْ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنَِِ
140
الَّذِينَ تَوَلَّوْا نَفْسُ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ... [آل عمرَان: ١٥٢] الْآيَاتِ. وَضَمِيرُ مِنْكُمْ رَاجِعٌ إِلَى عَامَّةِ جَيْشِ أُحُدٍ فَشَمِلَ الَّذِينَ ثَبَتُوا وَلَمْ يَفِرُّوا. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا جَمَاعَةٌ هَرَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا احْتِمَالَاتٌ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْفَخْرُ، وَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْقَصْدِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أُعِيدَ الْإِخْبَارُ بِالْعَفْوِ تَأْنِيسًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ.
[١٥٦]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
تَحْذِيرٌ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مُخَالَجَةِ عَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَانٌ لِسُوءِ عَاقِبَةِ تِلْكَ الْعَقَائِدِ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ. وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ تَلَطُّفٌ بِهِمْ جَمِيعًا بَعْدَ تَقْرِيعِ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَاللَّام فِي قَوْلهم: لِإِخْوانِهِمْ لَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ بَلْ هِيَ لَامُ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا لِأَنَّ الْإِخْوَانَ لَيْسُوا مُتَكَلَّمًا مَعَهُمْ بَلْ هُمُ الَّذِينَ مَاتُوا وَقُتِلُوا، وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَانِ الْأَقَارِبُ فِي النَّسَبِ، أَيْ مِنَ الْخَزْرَجِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ مِنَ الْمُؤمنِينَ.
و (إِذْ) هُنَا ظَرْفٌ لِلْمَاضِي بِدَلِيلِ فِعْلَيْ (قَالُوا وضربوا)، وَقَدْ حُذِفَ فِعْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
مَا ماتُوا تَقْدِيرُهُ: فَمَاتُوا فِي سَفَرِهِمْ أَوْ قُتِلُوا فِي الْغَزْوِ.
وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ هُوَ السَّفَرُ، فَالضَّرْبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّيْرِ لِأَنَّ أَصْلَ الضَّرْبِ
141
هُوَ إِيقَاعُ جِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ وَقَرْعُهُ بِهِ، فَالسَّيْرُ ضَرْبٌ فِي الْأَرْضِ بِالْأَرْجُلِ، فَأُطْلِقَ عَلَى السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠]، وَعَلَى مُطْلَقِ السَّفَرِ كَمَا هُنَا، وَعَلَى السَّفَرِ لِلْغَزْوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: ٩٤] وَقَوْلُهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النِّسَاء: ١٠١] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا السَّفَرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَلُومُهُمْ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ التِّجَارَةُ.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَرْنُهُ مَعَ الْقَتْلِ فِي الْغَزْوِ لِكَوْنِهِمَا كَذَلِكَ فِي عَقِيدَةِ الْكُفَّارِ.
وغُزًّى جَمْعُ غَازٍ. وَفُعَّلٌ قَلِيلٌ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ النَّاقِصِ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ فَصِيحٌ.
وَنَظِيرُهُ عُفًّى فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
لَهَا قُلُبٌ عُفَّى الْحِيَاضِ أُجُونُ وَقَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ عِلَّةٌ لِ (قَالُوا) بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ اعْتِقَادِ ذَلِكَ مَعَ الْإِعْلَانِ بِهِ تَوْجِيهًا لِلنَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيهِ بِهِمْ أَيْ فَإِنَّكُمْ إِنِ اعْتَقَدْتُمُ اعْتِقَادَهُمْ لَحِقَكُمْ أَثَرُهُ كَمَا لَحِقَهُمْ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ) إِلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّعْلِيلُ خَارِجٌ عَنِ التَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
قَالُوا فَتَرَتَّبَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ كَانَ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ صِلَةِ (الَّذِينَ)، وَمِنْ جملَة الْأَحْوَال المشبّه بِهَا، فَيُعْلَمُ أَنَّ النّهي عَن التّشبّه بِهِمْ فِيهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الضُّرِّ.
وَالْحَسْرَةُ: شِدَّةُ الْأَسَفِ أَيِ الْحُزْنِ، وَكَانَ هَذَا حَسْرَةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ مُصَابَهُمْ نَشَأَ عَنْ تَضْيِيعِهِمُ الْحَزْمَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا سَلَكُوا غَيْرَ مَا سَلَكُوهُ لَنَجَوْا فَلَا يَزَالُونَ متلهّفين على مافتهم. وَالْمُؤْمِنُ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فَإِذَا خَابَ سَلَّمَ لِحُكْمِ الْقَدَرِ.
142
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُضْمِرُوا الْعَوْدَ إِلَى مَا نهوا عَنهُ.
[١٥٧، ١٥٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٥٧ إِلَى ١٥٨]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
ذَكَرَ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، فَجَعَلَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَوْتَ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، إِذَا أَعْقَبَتْهُمَا الْمَغْفِرَةُ خَيْرًا مِنَ الْحَيَاةِ وَمَا يَجْمَعُونَ فِيهَا، وَجَعَلَ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسِيلَةً لِلْحَشْرِ وَالْحِسَابِ فَلْيَعْلَمْ أَحَدٌ بِمَاذَا يُلَاقِي رَبَّهُ. وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَعَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمرَان: ١٥٦].
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ أَيْ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ قَبْلَهَا قَسَمًا مُقَدَّرًا، وَرَدَ بَعْدَهُ شَرْطٌ فَلِذَلِكَ لَا تَقَعُ إِلَّا مَعَ الشَّرْطِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَغْفِرَةٌ هِيَ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَالْجَوَابُ هُوَ قَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ لِظُهُورِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: لَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ لَكُمْ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: مِتُّمْ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا مَاضِيَهُ مِثْلَ خَافَ، اعْتَبَرُوهُ مَكْسُورَ الْعَيْنِ وَجَعَلُوا مُضَارِعَهُ مِنْ بَابِ قَامَ فَقَالُوا: يَمُوتُ، وَلَمْ يَقُولُوا: يُمَاتُ، فَهُوَ مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَتَيْنِ. وَأَمَّا سُفْلَى مُضَرَ فَقَدْ جَاءُوا بِهِ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ بَاب: قَامَ فقرأوه: مُتُّمْ. وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، مِمَّا تَجْمَعُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي جَمَعُوهَا وَطَمِعْتُمْ أَنْتُمْ فِي غُنْمِهَا.
وَقُدِّمَ الْقَتْلُ فِي الْأُولَى وَالْمَوْتُ فِي الثَّانِيَةِ اعْتِبَارًا بِعَطْفِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْحُكْمِ فَإِنَّ كَوْنَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ أَمْرٌ قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الْمَوْتِ فِي غَيْرِ السَّبِيلِ مِثْلُ ذَلِكَ أَمْرٌ خَفِيٌّ مُسْتَبْعَدٌ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمَوْتِ فِي
الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ
يُظَنُّ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ أَنْ يُعْقِبَهُ الْحَشْرُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّفَنُّنِ، وَمِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ وَجَعْلِ الْقَتْلِ مَبْدَأَ الْكَلَام وَعوده.
[١٥٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ الَّذِي حُكِيَ فِيهِ مُخَالَفَةُ طَوَائِفٍ لِأَمْرِ الرَّسُولِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَمُنَافِقِينَ، وَمَا حُكِيَ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِيمَا صَنَعُوا. وَلِأَنَّ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ مَظَاهِرَ كَثِيرَةً مِنْ لين النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ اسْتَشَارَهُمْ فِي الْخُرُوجِ، وَحَيْثُ لَمْ يُثَرِّبْهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ مُغَادَرَةِ مَرَاكِزِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ عَفْوُ اللَّهِ عَنْهُمْ يُعْرَفُ فِي مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ، أَلَانَ اللَّهُ لَهُمُ الرَّسُولَ تَحْقِيقًا لِرَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِرَحْمَتِهِ فَلَانَ لَهُمُ الرَّسُولُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ إِيَّاهُ رَاحِمًا، قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧].
وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ لِنْتَ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ: إِذْ كَانَ لِينُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِينًا لَا تَفْرِيطَ مَعَهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، وَلَا مُجَارَاةً لَهُمْ فِي التَّسَاهُلِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِاسْمِ الرَّحْمَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ، أَيْ: بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَهَذَا الْقَصْرُ مُفِيدٌ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مُسْتَوْجِبَةً الْغِلَظَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَانَ خُلُقَ رَسُولِهِ رَحْمَةً بِهِمْ، لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ فِي سِيَاسَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَزِيدَتْ (مَا) بَعْدَ بَاءِ الْجَرِّ لِتَأْكِيدِ الْجُمْلَة بِمَا فِيهِ مِنَ الْقصر، فتعيّن بزيادتها كَوْنِ التَّقْدِيمِ لِلْحَصْرِ، لَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، وَنُبِّهَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ».
144
وَاللِّينُ هُنَا مَجَازٌ فِي سِعَةِ الْخَلْقِ مَعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الصَّفْحِ عَنْ جَفَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ. وَدَلَّ فِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: لِنْتَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ تَقَرَّرَ وَعُرِفَ مِنْ خُلُقِهِ، وَأَنَّ فِطْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ خَلَقَهُ كَذَلِكَ واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤]، فَخُلُقُ الرَّسُولِ مُنَاسِبٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِهِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَجِيءُ بِشَرِيعَةٍ يُبَلِّغُهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّبْلِيغُ مُتَعَيَّنٌ لَا مُصَانَعَةَ فِيهِ، وَلَا يَتَأَثَّرُ بِخُلُقِ الرَّسُولِ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِسِيَاسَةِ أُمَّتِهِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَتَنْفِيذِهَا فِيهِمْ،
وَهَذَا عَمَلٌ لَهُ ارْتِبَاطٌ قَوِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ خُلُقِ الرَّسُولِ لِطِبَاعِ أُمَّتِهِ حَتَّى يُلَائِمَ خُلُقَهُ الْوَسَائِلُ الْمُتَوَسَّلُ بِهَا لِحَمْلِ أُمَّتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ النَّاجِحَةِ فِي الْبُلُوغِ بِهِمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ.
أرسل محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفْطُورًا عَلَى الرَّحْمَة، فَكَانَ لينه رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِالْأُمَّةِ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ بِدُونِ تَسَاهُلٍ وَبِرِفْقٍ وَإِعَانَةٍ عَلَى تَحْصِيلِهَا، فَلِذَلِكَ جُعِلَ لِينُهُ مُصَاحِبًا لِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهِ، إِذْ هُوَ قد بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنِ اخْتَارَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ بَيْنَ الْعَرَبِ أَوَّلَ شَيْءٍ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ هُمْ مُبَلِّغِي الشَّرِيعَةِ لِلْعَالَمِ.
وَالْعَرَبُ أُمَّةٌ عُرِفَتْ بِالْأَنَفَةِ، وَإِبَاءِ الضَّيْمِ، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ. وَسُرْعَةِ الْفَهْمِ. وَهُمُ الْمُتَلَقُّونَ الْأَوَّلُونَ لِلدِّينِ فَلَمْ تَكُنْ تَلِيقُ بِهِمُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ، وَلَكِنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى اسْتِنْزَالِ طَائِرِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ لَهُمْ، لِيَتَجَنَّبُوا بِذَلِكَ الْمُكَابَرَةَ الَّتِي هِيَ الْحَائِلُ الْوَحِيدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِذْعَانِ إِلَى الْحَقِّ. وَوَرَدَ أَنَّ صفح النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَفْوَهُ وَرَحْمَتَهُ كَانَ سَبَبًا فِي دُخُولِ كَثِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ ذَلِكَ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ.
فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَقَامِ التَّشْرِيعِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ:
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ إِذْ لَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ:
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْمُشَاوَرَةَ
145
لِلِاسْتِعَانَةِ بِآرَائِهِمْ، بَلِ الْمَعْنَى: لَوْ كُنْتَ فَظًّا لَنَفَرَكَ كَثِيرٌ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَكَ فَهَلَكُوا، أَوْ يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمرَان: ١٥٤] فَالْمَعْنَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا لَأَعْلَنُوا الْكُفْرَ وَتَفَرَّقُوا عَنْكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّكَ لِنْتَ لَهُمْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ خَاصَّةً، لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهُ:
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ إِلَخْ يُنَافِي ذَلِكَ الْمحمل.
والفظّ: السيء الْخُلُقِ، الْجَافِي الطَّبْعِ.
وَالْغَلِيظُ الْقَلْبِ: الْقَاسِيهِ، إِذِ الْغِلْظَةُ مَجَازٌ عَنِ الْقَسْوَةِ وَقِلَّةِ التَّسَامُحِ، كَمَا كَانَ اللِّينُ مَجَازًا فِي عَكْسِ ذَلِكَ، وَقَالَتْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ لِعُمَرَ- حِينَ انْتَهَرَهُنَّ- «أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ» يُرِدْنَ أَنْتَ فَظٌّ وَغَلِيظٌ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ.
وَالِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ. ومِنْ حَوْلِكَ أَيْ مِنْ جِهَتِكَ وَإِزَائِكَ، يُقَالُ: حوله وحوليه وحواليه وحواله وحياله وَبِحِيَالِهِ. وَالضَّمِيرُ لِلَّذِينَ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ، أَيِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الدِّينِ لِأَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ الشِّدَّةَ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ: شُبِّهَتْ هَيْئَةُ النُّفُورِ مِنْهُ وَكَرَاهِيَةُ الدُّخُولِ فِي
دِينِهِ بِالِانْفِضَاضِ مِنْ حَوْلِهِ أَيِ الْفِرَارِ عَنْهُ مُتَفَرِّقِينَ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ حَوْلَهُ مُتَّبِعُونَ لَهُ.
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْفُ عَنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: لِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا مُنَاسِبٌ لِلِّينِ، فَأَمَّا الْعَفْوُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَأَمْرُهُمَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَطْفُ وَشاوِرْهُمْ فَلِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ كَانَ عَنْ تَشَاوُرٍ مَعَهُمْ وَإِشَارَتِهِمْ، وَيَشْمَلُ هَذَا الضَّمِيرُ جَمِيعَ الَّذِينَ لَان لَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ سَوَاءٌ مَنْ صَدَرَ مِنْهُمْ أَمْرٌ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَالْمُشَاوَرَةُ مَصْدَرُ شَاوَرَ، وَالِاسْمُ الشُّورَى وَالْمَشُورَةُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الشِّينِ- أَصْلُهَا مَفْعُلَةٌ- بِضَمِّ الْعَيْنِ، فَوَقَعَ فِيهَا نَقْلُ حَرَكَةِ الْوَاوِ إِلَى السَّاكِنِ-. قِيلَ: الْمُشَاوَرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الدَّابَّةَ إِذَا اخْتَبَرَ جَرْيَهَا عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَفِعْلُ شَارَ الدَّابَّةَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمِشْوَارِ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تَرْكُضُ فِيهِ الدَّوَابُّ. وَأَصْلُهُ
146
مُعَرَّبُ (نَشْخُوَارْ) بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ مَا تُبْقِيهِ الدَّابَّةُ مِنْ عَلَفِهَا. وَقِيلَ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الْعَسَل أَي جناه مِنَ الْوَقْبَةِ لِأَنَّ بِهَا يُسْتَخْرَجُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ الْمُشكل من شؤون الْمَرْءِ فِي نَفسه أَو شؤون الْقَبِيلَة أَو شؤون الْأُمَّةِ.
وَ (الْ) فِي الْأَمْرِ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْمُهِمُّ الَّذِي يُؤْتَمَرُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَمْرٌ أَمِرٌ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِهِ- فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ-: «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ». وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَمْرِ أَمْرُ الْحَرْبِ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ.
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشَاوَرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الِاسْتِعَانَةُ بِرَأْيِ الْمُسْتَشَارِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فضمير الْجَمِيع فِي قَوْلِهِ:
وَشاوِرْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً: أَيْ شَاوِرِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ بَيْنِ مَنْ لِنْتَ لَهُمْ، أَيْ لَا يَصُدُّكَ خَطَلُ رَأْيِهِمْ فِيمَا بَدَا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ أَنْ تَسْتَعِينَ بِرَأْيِهِمْ فِي مَوَاقِعَ أُخْرَى، فَإِنَّمَا كَانَ مَا حَصَلَ فلتة مِنْهُم، وَعشرَة قَدْ أَقَلْتُهُمْ مِنْهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ اسْتِشَارَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَالْمُرَادُ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَتَأْلِيفِهِمْ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِسْلَامَ أَوْ لَا يَزِيدُوا نِفَاقًا، وَقَطْعًا لِأَعْذَارِهِمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشُّورَى مَأْمُورٌ بهَا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِ (الْأَمْرِ) وَهُوَ مُهِمَّاتُ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحُهَا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَمْرِ التّشريع لأنّ أَمر التَّشْرِيعِ إِنْ كَانَ فِيهِ وَحْيٌ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَحْيٌ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الِاجْتِهَاد للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي التَّشْرِيعِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الشُّورَى لِأَنَّ شَأْنَ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا لِلْآرَاءِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَسْتَشِيرُ غَيْرَهُ إِلَّا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِاجْتِهَادِهِ. كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ.
فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هُنَا هِيَ الْمُشَاورَة فِي شؤون الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هُنَا وَمَدَحَهَا فِي ذِكْرِ الْأَنْصَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى:
٣٨]
147
وَاشْتَرَطَهَا فِي أَمْرِ الْعَائِلَةِ فَقَالَ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما [الْبَقَرَة: ٢٣٣]. فَشَرَعَ بِهَاتِهِ الْآيَاتِ الْمُشَاوَرَةَ فِي مَرَاتِبِ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا: وَهِيَ مَصَالِحُ الْعَائِلَةِ وَمَصَالِحِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْبَلَدِ، وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ: وَشاوِرْهُمْ هَلْ هُوَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، وَهَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السّلام-، أَوْ عَامٌّ لَهُ وَلِوُلَاةِ أُمُورِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْوُجُوبِ وَالْعُمُومِ، قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ الْمُشَاوَرَةُ، فَيُشَاوِرُونَ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يُشْكِلُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَيُشَاوِرُونَ وُجُوهَ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَيُشَاوِرُونَ وُجُوهَ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِهِمْ وَيُشَاوِرُونَ وُجُوهَ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى وُجُوبِهَا بِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلصَّوَابِ فَقَالَ: وَالشُّورَى مِسْبَارُ الْعَقْلِ وَسَبَبُ الصَّوَابِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِتَحَرِّي الصَّوَابِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
الشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ. وَاعْتِرَاض عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ قَوْلَهُ: فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ وَلَمْ يَعْتَرِضْ كَوْنَهَا وَاجِبَةً، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ ذَكَرَ ذَلِكَ جَازِمًا بِهِ وَابْنُ عَرَفَةَ اعْتَرَضَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ بِعَدَمِ عَزْلِ الْأَمِيرِ إِذَا ظَهَرَ فِسْقُهُ، يَعْنِي وَلَا يَزِيدُ تَرْكُ الشُّورَى عَلَى كَوْنِهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فَهُوَ فِسْقٌ. وَقُلْتُ: مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَإِنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ فَارِقٌ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّ الْفِسْقَ مَضَرَّتُهُ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَتَرْكُ التَّشَاوُرِ تَعْرِيضٌ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِلْخَطَرِ وَالْفَوَاتِ، وَمَحْمَلُ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْوُجُوبِ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ فِي التَّشْرِيعِ إِلَّا لِدَلِيلٍ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أنّ هَذَا الْأَمر لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمَّةُ، وَهُوَ عَامٌّ لِلرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، تَطْيِيبًا لِنُفُوسِ أَصْحَابِهِ وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَابْنِ إِسْحَاقَ. وَرَدَّ هَذَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْجَصَّاصِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَفْرَغُوا
148
جُهْدَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ الصَّوَابِ عَمَّا سُئِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ
يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ، بَلْ فِيهِ إِيحَاشُهُمْ فَالْمُشَاوَرَةُ لَمْ تُفِدْ شَيْئًا فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ، فِي صَدْرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَالَ الْفَخْرُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ.
وَلَمْ يَنْسِبِ الْعُلَمَاءُ لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلًا فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّ الْجَصَّاصَ قَالَ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ: هَذَا يَدُلُّ على جلالة وَقع الْمَشُورَةِ لِذِكْرِهَا مَعَ الْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِهَا. وَمَجْمُوعُ كَلَامَيِ الْجَصَّاصِ يَدُلُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوبُهَا.
وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْوُجُوب بالنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ الْحسن وسُفْيَان، قَالَا: وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ وَتَشِيعَ فِي أُمَّتِهِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا وَحْيَ فِيهِ. وَقَدِ اسْتَشَارَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي الْخُرُوجِ لِبَدْرٍ، وَفِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَفِي شَأْنِ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَاسْتَشَارَ عُمُومَ الْجَيْشِ فِي رَدِّ سَبْيِ هَوَازِنَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِنْ كَانَتْ بِوَحْيٍ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتِ اجْتِهَادِيَّةً، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَاد للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالِاجْتِهَادُ إِنَّمَا يَسْتَنِدُ لِلْأَدِلَّةِ لَا لِلْآرَاءِ وَإِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يَسْتَشِيرُ فِي اجْتِهَادِهِ، فَكَيْفَ تَجِبُ الِاسْتِشَارَةُ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الْخَطَإِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَإٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَمْ يَزَلْ مِنْ سُنَّةِ خُلَفَاءِ الْعَدْلِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ «صَحِيحِهِ» :«وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بعد النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ: كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ».
وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْأَمْرُ يَنْزِلُ بَعْدَكَ لَمْ ينزل فِيهِ قُرْآن وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْكَ فِيهِ شَيْءٌ- قَالَ: اجْمَعُوا لَهُ الْعَابِدَ مِنْ أُمَّتِي وَاجْعَلُوهُ بَيْنَكُمْ شُورَى وَلَا تَقْضُوهُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ»
وَاسْتَشَارَ أَبُو
149
بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِي أَمْرِ الْخَلِيفَةِ بَعْدَ وَفَاة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْأَمْرَ شُورَى بَعْدَهُ فِي سِتَّةٍ عَيَّنَهُمْ، وَجَعَلَ مُرَاقَبَةَ الشُّورَى لِخَمْسِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ عُمَرُ يَكْتُبُ لِعُمَّالِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّشَاوُرِ، وَيَتَمَثَّلُ لَهُم فِي كِتَابه بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ) :
خَلِيلَيَّ لَيْسَ الرَّأْيُ فِي صَدْرِ وَاحِدٍ أَشِيرَا عَلَيَّ بِالَّذِي تَرَيَانِ
هَذَا وَالشُّورَى ممّا جبل لله عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ أَيْ فَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الصَّلَاحِ وَتَطَلُّبِ النَّجَاحِ فِي الْمَسَاعِي، وَلِذَلِكَ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ أَصْلِ الْبَشَرِ بِالتَّشَاوُرِ فِي
شَأْنِهِ إِذْ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠]، إِذْ قَدْ غَنِيَ اللَّهُ عَنْ إِعَانَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الرَّأْيِ وَلَكِنَّهُ عَرَضَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مُرَادَهُ لِيَكُونَ التَّشَاوُرُ سُنَّةً فِي الْبَشَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِتَكْوِينِهِ، فَإِنَّ مُقَارَنَةَ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ فِي أَصْلِ التَّكْوِينِ يُوجِبُ إِلْفَهُ وَتَعَارُفَهُ، وَلَمَّا كَانَتِ الشُّورَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا ذَاتَ لَهَا فِي الْوُجُودِ جَعَلَ اللَّهُ إِلْفَهَا لِلْبَشَرِ بِطَرِيقَةِ الْمُقَارَنَةِ فِي وَقْتِ التَّكْوِينِ. وَلَمْ تَزَلِ الشُّورَى فِي أَطْوَارِ التَّارِيخِ رَائِجَةً فِي الْبَشَرِ فَقَدِ اسْتَشَارَ فِرْعَوْنُ فِي شَأْنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَماذا تَأْمُرُونَ [الْأَعْرَاف: ١١٠]. وَاسْتَشَارَتْ بِلْقِيسُ فِي شَأْنِ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ وَإِنَّمَا يُلْهِي النَّاسَ عَنْهَا حُبُّ الِاسْتِبْدَادِ، وَكَرَاهِيَةُ سَمَاعِ مَا يُخَالِفُ الْهَوَى، وَذَلِكَ مِنَ انْحِرَافِ الطَّبَائِعِ وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَلِذَلِكَ يُهْرَعُ الْمُسْتَبِدُّ إِلَى الشُّورَى عِنْدَ الْمَضَائِقِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: الشُّورَى مَحْمُودَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَضِيَ الِاسْتِبْدَادَ إِلَّا رَجُلٌ مَفْتُونٌ مُخَادِعٌ لِمَنْ يَطْلُبُ عِنْدَهُ فَائِدَةً، أَوْ رَجُلٌ فَاتِكٌ يُحَاوِلُ حِينَ الْغَفْلَةِ، وَكِلَا الرَّجُلَيْنِ فَاسِقٌ. وَمَثَلُ أَوَّلِهُمَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
وَمَثَلُ ثَانِيهِمَا قَوْلُ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ:
150
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبَا
وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي أَمْرِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الشُّورَى قَوْلُ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ:
إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِحَزْمِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَحْسَبِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً مَكَانُ الْخَوَافِي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
وَهِيَ أَبْيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُثْبَتَةٌ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الْعَزْمُ هُوَ تَصْمِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْفِعْلِ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (عَزَمْتَ) لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَنْ قَوْلِهِ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ التَّفْرِيعِ أَنَّ الْمُرَادَ: فَإِذَا عَزَمْتَ بَعْدَ الشُّورَى أَيْ تَبَيَّنَ لَكَ وَجْهُ السَّدَادِ فِيمَا يَجِبُ أَنْ تَسْلُكَهُ فَعَزَمْتَ عَلَى تَنْفِيذِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَفْقِ بَعْضِ آرَاءِ أَهْلِ الشُّورَى أَمْ كَانَ رَأْيًا آخَرَ لَاحَ لِلرَّسُولِ سَدَادُهُ فَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ آرَاءِ أَهْلِ الشُّورَى رَأْيٌ، وَفِي
الْمَثَلِ: «مَا بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ رَأْيٌ».
وَقَوْلُهُ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التَّوَكُّلُ حَقِيقَتُهُ الِاعْتِمَادُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ مَعَ رَجَاءِ السَّدَادِ فِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ شَأْنُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَالتَّوَكُّلُ انْفِعَالٌ قَلْبِيٌّ عَقْلِيٌّ يَتَوَجَّهُ بِهِ الْفَاعِلُ إِلَى اللَّهِ رَاجِيًا الْإِعَانَةَ وَمُسْتَعِيذًا مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْعَوَائِقِ، وَرُبَّمَا رَافَقَهُ قَوْلٌ لِسَانِيٌّ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ إِذَا، وَفَرْعٌ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَبَادِرْ وَلَا تَتَأَخَّرْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ لِلتَّأَخُّرِ آفَاتٍ، وَالتَّرَدُّدُ يُضَيِّعُ الْأَوْقَاتِ، وَلَوْ كَانَ التَّوَكُّلُ هُوَ جَوَابُ إِذَا لَمَا كَانَ لِلشُّورَى فَائِدَةٌ لِأَنَّ الشُّورَى كَمَا عَلِمْتَ لِقَصْدِ اسْتِظْهَارِ أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ لِحُصُولِ الْفِعْلِ الْمَرْغُوبِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَقْرَبِهِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا الْعَمَلُ بِمَا يَتَّضِحُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ حُصُولَ التَّوَكُّلِ مِنْ أَوَّلِ خُطُورِ الْخَاطِرِ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِالشُّورَى مِنْ فَائِدَةٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ آيَةٍ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى مَعْنَى التَّوَكُّلِ الَّذِي حَرَّفَ الْقَاصِرُونَ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مَعْنَاهُ، فَأَفْسَدُوا هَذَا الدِّينَ مِنْ مَبْنَاهُ.
151
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَامَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ مُلَاحَظَةُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَاعْتِقَادُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَهَذَا، أَدَبٌ عَظِيمٌ مَعَ الْخَالِقِ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَلِذَلِكَ أحبّه الله.
[١٦٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [آل عمرَان: ١٥٧] أَوْ عَنْ قَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ [آل عمرَان: ١٥٦] الْآيَةَ.
وَلَوْ حُمِلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ لَكَانَ إِخْبَارًا بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ هُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَا يَجْهَلُ مُؤْمِنٌ أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَدَّرَ نَصْرَ أَحَدٍ فَلَا رَادَّ لِنَصْرِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَ خَذْلَهُ فَلَا مَلْجَأَ لَهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ فِي جَانِبِ اللَّهِ لَا يَجْهَلُهُ مُعْتَرِفٌ بِإِلَهِيَّتِهِ، مُؤْمِنٌ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَهَلْ بَعْدَ اعْتِقَادِ نَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ فِي مُلْكِهِ مَجَالٌ لِاعْتِقَادِ وُجُودِ مُمَانِعٍ لَهُ فِي إِرَادَتِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَر مرَادا بِهِ غَيْرَ ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ، وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرًا لِتَسْلِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ، حَتَّى لَا يَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ لِأَنَّ رَدَّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَدَارُكِهَا مَسْلَاةٌ لِلنَّفْسِ، وَعَزَاءٌ
عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَوْمًا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَخَذْلَهُ إِيَّاهُمْ فِي بَعْضِهَا، لَا يَكُونُ إِلَّا لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ، فَعَلَيْهِمُ السَّعْيُ فِي أَسْبَابِ الرِّضَا الْمُوجِبُ لِلنَّصْرِ، وَتَجَنُّبُ أَسْبَابِ السُّخْطِ الْمُوجِبِ لِلْخَذْلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: ٧] وَقَوْلُهُ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمرَان: ١٥٣] وَقَوْلُهُ الْآتِي:
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمرَان: ١٦٥] وَعَلَيْهِمُ التَّطَلُّبُ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي قُدِّرَ لَهُمُ النَّصْرُ لِأَجْلِهَا فِي مِثْلِ يَوْمِ بَدْرٍ، وَأَضْدَادِهَا الَّتِي كَانَ بِهَا الْخَذْلُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، وَفِي التَّفْكِيرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ وَاسِعٌ لِمُكَاشَفَاتِ الْحَقَائِقِ وَالْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ
152
عَلَى قَدْرِ سَعَةِ التَّفْكِيرِ الْجَائِلِ فِي ذَلِكَ، فَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقٌ لِلْأَفْكَارِ مِنْ عِقَالِهَا، وَزَجٌّ بِهَا فِي مَسَارِحِ الْعِبَرِ، وَمَرَاكِضِ الْعِظَاتِ، وَالسَّابِقُونَ الْجِيَادُ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْحَضُّ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَهُ: لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَاطَبَهُمْ بِفُنُونِ الْمَلَامِ وَالْمَعْذِرَةِ وَالتَّسْلِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٧] إِلَى هُنَا، جَمَعَ لَهُمْ كُلَّ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ جَامِعٍ نَافِعٍ فِي تَلَقِّي الْمَاضِي، وَصَالِحٍ لِلْعَمَلِ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ مَبْنِيًّا عَلَى تَنْزِيلِ الْعَالِمِ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ، حَيْثُ أَظْهَرُوا مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَمِنَ التَّأَوُّلِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ لَهُمْ فِي الثَّبَاتِ، وَمِنَ التَّلَهُّفِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، مَا جَعَلَ حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّ النَّصْرَ وَالْخَذْلَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ غَلَبِ الْعَدُوِّ وَمُرِيدِ الْإِضْرَارِ.
وَالْخِذْلَانُ ضِدُّهُ: وَهُوَ إِمْسَاكُ الْإِعَانَةِ مَعَ الْقُدْرَة، مَأْخُوذ مِنْ خَذَلَتِ الْوَحْشِيَّةُ إِذَا تَخَلَّفَتْ عَنِ الْقَطِيعِ لِأَجْلِ عَجْزِ وَلَدِهَا عَنِ الْمَشْيِ.
وَمَعْنَى إِنْ يَنْصُرْكُمُ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ إِنْ يُرِدْ هَذَا لَكُمْ، وَإِلَّا لَمَا اسْتَقَامَ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فَلا غالِبَ لَكُمْ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَرْتِيبِ عَدَمِ الْغَلَبِ عَلَى حُصُولِ النَّصْرِ بِالْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ نَفْيِ الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ: فَلا غالِبَ لَكُمْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْلُومِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ قُمْتَ فَأَنْتَ لَسْتَ بِقَاعِدٍ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ:
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَيُقَدَّرُ كَذَلِكَ حَمْلًا عَلَى نَظِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِ تَأْوِيلٍ فِيهِ.
وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ.
وَجَعْلُ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: فَلا غالِبَ لَكُمْ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا تُغْلَبُوا، لِلتَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْجَوَابِ، لِأَنَّ عُمُومَ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ أَغْلَبِيٌّ وَقَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا أَيْ لَا تُغْلَبُوا مِنْ بَعْضِ الْمُغَالِبِينَ، فَأُرِيدَ بِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ دَفْعُ التَّوَهُّمِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ إِنْكَارِيٌّ أَيْ فَلَا يَنْصُرُكُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُ.
153
وَكَلِمَةُ مِنْ بَعْدِهِ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهَا وَهُوَ الْمُغَايرَة والمجاوزة: أَيْ فَمَنِ الَّذِي يَنْصُرُكُمْ دُونَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَيْ دُونَ اللَّهِ، فَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لَا مَحَالَةَ، وَاسْتِعْمَالُ (بَعْدُ) فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣] وَأَصْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ كَالتَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ: بِأَنْ مُثِّلَتِ الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ تَقْدِيرِ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ مَنْ أَسْلَمَ الَّذِي اسْتَنْصَرَ بِهِ وَخَذَلَهُ فَتَرَكَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ مَعَكَ إِذَا وَلَّى عَنْك فقد خذللك فَحَذَفَ مَا يَدُلُّ على الْحَالة الْمُشبه بِهَا وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِلَازِمَةٍ وَهُوَ لَفْظُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى ارْتِكَابِ أَسْبَابِ نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ، وَأَسْبَابٍ نَفْسَانِيَّةٍ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَاتِّبَاعُ رِضَى الله تَعَالَى.
[١٦١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ عطف الْغَرَض رعلى الْغَرَضِ وَمَوْقِعُهُ عَقِبَ جُمْلَةِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ [آل عمرَان: ١٦٠]. الْآيَةَ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللَّهِ والخذل بِيَدِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيضَ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ لِيَكُونَ لَطِيفًا بِمَنْ يُرْضُونَهُ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ النَّصَائِحُ وَالْمَوَاعِظُ مُوَجَّهَةً إِلَيْهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ، نُبِّهُوا إِلَى شَيْءٍ يَسْتَخِفُّ بِهِ الْجَيْشُ فِي الْغَزَوَاتِ، وَهُوَ الْغُلُولُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَيَحْذَرُوهُ وَيَكُونُوا مِمَّا هُوَ أَدْعَى لِغَضَبِ اللَّهِ أَشَدَّ حَذَرًا فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْغُلُولِ وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ هَزِيمَتِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ تَعَجُّلُهُمْ إِلَى أَخْذِ الْغَنَائِمِ.
وَالْغُلُولُ: تَعَجُّلٌ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ غَالِّ الْغَنِيمَةِ.
وَلَا تَجِدُ غَيْرَ هَذَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِتَعْقِيبِ آيَةِ النَّصْرِ بِآيَةِ الْغُلُولِ، فَإِنَّ غَزْوَةَ
أُحُدٍ الَّتِي أَتَتِ السُّورَةُ عَلَى قِصَّتِهَا لَمْ يَقَعْ فِيهَا غُلُولٌ وَلَا كَائِنٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا غَنِيمَةٌ وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَضِيَّةِ غُلُولٍ وَقَعَتْ يَوْمَ بَدْرٍ
154
فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ أَوْ فِي سَيْفٍ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا لِبُعْدِ مَا بَيْنَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَزْوَةِ أُحُدٍ فَضْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي حِرْصِ الْأَعْرَابِ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ يَوْمَ حُنَيْنٍ الْوَاقِعِ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ بِخَمْسِ سِنِينَ.
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ: يُغَلَّ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ-.
وَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغُلُولِ وَهُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِدُونِ إِذْنِ أَمِيرِ الْجَيْشِ، وَالْغُلُولُ مَصْدَرٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، وَيُطْلَقُ الْغُلُولُ عَلَى الْخِيَانَةِ فِي الْمَالِ مُطْلَقًا.
وَصِيغَةُ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ صِيغَةُ جَحُودٍ تُفِيدُ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمرَان: ٧٩] فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِنْشَاءِ كَمَا هُنَا أَفَادَتِ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّهْيِ. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ نَهْيُ جَيْشِ النَّبِيءِ عَن أَن يغلو لِأَنَّ الْغُلُولَ فِي غَنَائِم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلُولٌ لِلنَّبِيءِ، إِذْ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ فَمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءَ لَا يَغُلُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْغُلُولُ فِي جَيْشِهِ فَإِسْنَادُ الْغُلُولِ إِلَى النّبيء مجَاز عَقْلِي لِمُلَابَسَةِ جَيْشِ النَّبِيءِ نَبِيئَهُمْ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا كَانَ لِجَيْشِ نَبِيءٍ أَنْ يَغُلَّ.
وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَأْوِيلَاتٌ لِلْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا سَمَاجَةٌ.
وَمَعْنَى ومَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مُشَهَّرًا مَفْضُوحًا بِالسَّرِقَةِ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ مَا فِي الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ لِلْجَاحِظِ: أَنَّ مَزْيَدًا- رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ- سَرَقَ نَافِجَةَ مِسْكٍ فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَسْرِقُهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ فَقَالَ: إِذَنْ أَحْمِلُهَا طَيِّبَةَ الرِّيحِ خَفِيفَةَ الْمحمل. وَهَذَا تلميح وَتَلَقِّي الْمُخَاطَبِ بِغَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالدَّرْكُ عَلَى مَنْ حَكَاهُ قَالُوا:
لَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ لِيُسَلِّمَ
155
مُصْحَفَهُ لِيَحْرِقَهُ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُصْحَفِ الَّذِي كُتِبَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ
وَإِنِّي غَالٌّ مُصْحَفِي فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَغُلَّ مُصْحَفَهُ فَلْيَفْعَلْ. وَلَا أَثِقُ بِصِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْغُلُولِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ بَعْدَ التَّفْضِيحِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ مَسُوقٌ مَسَاقُ النَّهْيِ، وَجِيءَ بِ (ثُمَّ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى طُولِ مُهْلَةِ التَّفْضِيحِ، وَمِنْ جُمْلَةِ النُّفُوسِ الَّتِي تُوَفَّى مَا كَسَبَتْ نَفْسُ مَنْ يَغْلُلْ، فَقَدْ دَخَلَ فِي الْعُمُومِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهِيَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ.
وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَهُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْمَغْنَمِ بِغَيْرِ إِذْنِ أَمِيرِ الْجَيْشِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مِثْلُ السَّرِقَةِ، وَأَصَحُّ مَا فِي الْغُلُولِ
حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ مِنْ خَيْبَرَ قَاصِدًا وَادِيَ الْقُرَى وَكَانَ لَهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ يُدْعَى مِدْعَمًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ تَصُبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا»
. وَمَنْ غَلَّ فِي الْمَغْنَمِ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا غَلَّهُ وَيُؤَدَّبُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا قَطْعَ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَجَمَاعَةٌ: يُحْرَقُ مَتَاعُ الْغَالِّ كُلُّهُ عَدَا سِلَاحَهُ وَسَرْجَهُ، وَيُرَدُّ مَا غَلَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ
رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ»
وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ سَأَلْتُ مُحَمَّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- عَنْهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَأْوِيلِهِ فَالْأَخْذُ بِهِ إِغْرَاقٌ فِي التَّعَلُّقِ بِالظَّوَاهِرِ وَلَيْسَ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي شَيْء.
156

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٦٢ إِلَى ١٦٣]

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَهُوَ كَالْبَيَانِ لِتَوْفِيَةِ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِلْمُمَاثَلَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ فَهُوَ بِمَعْنَى لَا يَسْتَوُونَ. وَالِاتِّبَاعُ هُنَا بِمَعْنَى التَّطَلُّبِ: شَبَّهَ حَالَ الْمُتَوَخِّي بِأَفْعَالِهِ رِضَى اللَّهِ بِحَالِ الْمُتَطَلِّبِ لِطِلْبَةٍ فَهُوَ يَتْبَعُهَا حَيْثُ حَلَّ لِيَقْتَنِصَهَا، وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ حُسْنُ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مُحْتَاجٌ إِلَى فَرْطِ اهْتِمَامٍ، وَفِي فِعْلِ (بَاءَ) مِنْ قَوْلِهِ: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ صَاحِبِ الْمَعَاصِي بِالَّذِي خَرَجَ يَطْلُبُ مَا يَنْفَعُهُ فَرَجَعَ بِمَا يَضُرُّهُ، أَوْ رَجَعَ بِالْخَيْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦]. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ حَالُ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، أَوْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ.
وَقَوْلُهُ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَادَ الضّمير ل فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَلِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: دَرَجاتٌ لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ مَنَازِلُ رِفْعَةٍ.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ تشريف لمنازلهم.
[١٦٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
اسْتِئْنَافٌ لِتَذْكِيرِ رِجَالِ يَوْمِ أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّ فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ عَلَى مُصِيبَةِ الْهَزِيمَةِ حَظًّا عَظِيمًا، إِذْ قَدْ
157
شَاعَ تَصْبِيرُ الْمَحْزُونِ وَتَعْزِيَتُهُ بِتَذْكِيرِهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، وَلَهُ مَزِيدُ ارْتِبَاطٍ بِقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩]، وَكَذَلِكَ جَاءَتْ آيُ هَذَا الْغَرَضِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ نَاشِئًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، مُتَفَنِّنَةً فِي مَوَاقِعِهَا بِحَسَبِ مَا سَمَحَتْ بِهِ فُرَصُ الْفَرَاغِ مِنْ غَرَضٍ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ فَمَا تَجِدُ طَرَّادَ الْكَلَامِ يَغْدُو طَلْقًا فِي حَلْبَةِ الِاسْتِطْرَادِ إِلَّا وَتَجِدُ لَهُ رَوَاحًا إِلَى مُنْبَعَثِهِ.
وَالْمَنُّ هُنَا: إِسْدَاءُ الْمِنَّةِ أَيِ النِّعْمَةِ، وَلَيْسَ هُوَ تَعْدَادُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٤]، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْمَنِّ مَنًّا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ. وَالْكُلُّ مَحْمُودٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَنَّ إِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْدَاءِ التَّطَاوُلِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَطَوْلُ اللَّهِ لَيْسَ بمجحود.
وَالْمرَاد بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَي من أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ.
وَ (إِذْ) ظَرْفٌ لِ (مَنَّ) لِأَنَّ الْإِنْعَامَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ حَصَلَ أَوْقَاتَ الْبَعْثِ.
وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْمُمَاثَلَةُ لَهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا سَبَبًا لِقُوَّةِ التَّوَاصُلِ، وَهِيَ هُنَا النَّسَبُ، وَاللُّغَةُ، وَالْوَطَنُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ صَمِيمِهِمْ لَيْسَ انْتِسَابُهُ إِلَيْهِمْ بِوَلَاءٍ أَو لصق، وكأنّه هَذَا وَجْهُ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ نَسَبِهِمْ أَيْ كَوْنُهُ عَرَبِيًّا يُوجِبُ أُنْسَهُمْ بِهِ وَالرُّكُونَ إِلَيْهِ وَعَدَمَ الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِمْ يَجْعَلُهُمْ سَرِيعِينَ إِلَى فَهْمِ مَا يَجِيءُ بِهِ، وَكَوْنُهُ جَارًا لَهُمْ وَرَبِيًّا فِيهِمْ يُعَجِّلُ لَهُمُ التَّصْدِيقَ بِرِسَالَتِهِ، إِذْ يَكُونُونَ قَدْ خَبَرُوا أَمْرَهُ، وَعَلِمُوا فَضْلَهُ، وَشَاهَدُوا اسْتِقَامَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ. وَعَنِ النِّقَاشِ: قِيلَ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا وِلَادَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَغْلِبَ، وَبِذَلِكَ فُسِّرَ: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى».
158
وَهَذِهِ الْمِنَّةُ خَاصَّةٌ بِالْعَرَبِ وَمَزِيَّةٌ لَهُمْ، زِيَادَةً عَلَى الْمِنَّةِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فَالْعَرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الدَّعْوَةَ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ظُهُورَ الدِّينِ بَيْنَهُمْ لِيَتَلَقَّوْهُ التَّلَقِّيَ الْكَامِلَ الْمُنَاسِبَ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَسُرْعَةِ فَهْمِهِمْ لِدَقَائِقِ اللُّغَةِ، ثُمَّ يَكُونُوا هُمْ حَمَلَتَهُ إِلَى الْبَشَرِ، فَيَكُونُوا أَعْوَانًا عَلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَلِمَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْعَرَبِ وَأَتْقَنَ لِسَانَهُمْ وَالْتَبَسَ بِعَوَائِدِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمُ اقْتِرَابٌ مِنْ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ وَهُوَ مُعْظَمُهَا، إِذْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا إِلَّا النَّسَبُ وَالْمَوْطِنُ وَمَا هُمَا إِلَّا مُكَمِّلَانِ لِحُسْنِ التَّلَقِّي، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُدَّةَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً بِحَيْثُ إِنَّ تَلَقِّيَهُمُ الدَّعْوَةَ كَانَ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْفَهْمِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الدِّينُ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِنَ الْعَرَب»
. وَقَوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَسُمِّيَتْ جُمَلُ الْقُرْآنِ آيَاتٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ بَلَاغَةِ اللَّفْظِ وَكَمَالِ الْمَعْنَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَكَانُوا صَالِحِينَ لِفَهْمِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِتُرْجُمَانٍ.
وَالتَّزْكِيَةُ: التَّطْهِيرُ، أَيْ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ بِهَدْيِ الْإِسْلَامِ.
وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ هُوَ تَبْيِينُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ وَأَمَرَهُمْ بِحِفْظِ أَلْفَاظِهِ، لِتَكُونَ مَعَانِيهِ حَاضِرَةً عِنْدَهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَقْنِينِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ كلّه مَانع للأنفس مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْحِكْمَةِ، وَتَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩].
وَعَطْفُ الْحِكْمَةِ عَلَى الْكِتَابِ عَطْفُ الْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ مَا هُوَ فِي الْكِتَابِ نَحْوُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» وَفِي الْكِتَابِ مَا هُوَ عِلْمٌ وَلَيْسَ حِكْمَةً مِثْلُ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.
159
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ حَالٌ، وَإِن مُخَفَّفَةٌ مُهْمَلَةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُ عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ التَّحْقِيقُ إِذْ لَا وَجْهَ لِزَوَالِ عَمَلِهَا مَعَ بَقَاءِ مَعْنَاهَا، وَلَا وَجْهَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَفْتُوحَةِ إِذَا خُفِّفَتْ فَقَدْ قَدَّرُوا لَهَا اسْمًا هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، بَلْ نَجِدُ الْمَكْسُورَةَ أَوْلَى بِبَقَاءِ الْعَمَلِ عِنْدَ التَّخْفِيفِ لِأَنَّهَا أُمُّ الْبَابِ فَلَا يَزُولُ عَمَلُهَا بِسُهُولَةٍ، وَقَالَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ: يَبْطُلُ عَمَلُهَا وَتَكُونُ بَعْدَهَا جُمْلَةً، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِإِهْمَالِهَا أَنَّهَا لَا تَنْصِبُ مُفْرَدَيْنِ بَلْ تَعْمَلُ فِي ضَمِيرِ شَأْنٍ وَجُمْلَةٍ إِمَّا اسْمِيَّةٍ، أَوْ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مِنَ النَّوَاسِخِ غَالِبًا.
وَوُصِفَ الضَّلَالُ بِالْمُبِينِ لِأَنَّهُ لِشِدَّتِهِ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى أَحَدٍ بِشَائِبَةِ هُدًى، أَوْ شُبْهَةٍ، فَكَانَ حَالُهُ مُبَيِّنًا كَوْنَهُ ضَلَالًا كَقَوْلِهِ: قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النَّمْل: ١٣].
وَالْمُرَادُ بِهِ ضَلَالُ الشِّرْكِ وَالْجَهَالَةِ وَالتَّقَاتُلِ وَأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ قَوْلُهُ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ الْعُصُورِ وَيُرَادُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ. وَيُرَادُ بِإِسْنَادِ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ إِلَيْهِ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْإِسْنَادِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْهُ مُبَاشَرَةً أَو بالواسطة.
[١٦٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٦٥]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
عُطِفَ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ التَّعْجِيبِيُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: أَنَّى هَذَا مِمَّا يُنْكَرُ وَيَتَعَجَّبُ السَّامِعُ مِنْ صُدُورِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ مَا عَلِمُوا مَا أَتَوْا مِنْ أَسْبَابِ الْمُصِيبَةِ، إِذْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ، وَقَدْ جَاءَ مَوْقِعُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَ مَا تَكَرَّرَ: مِنْ تَسْجِيلِ تَبِعَةِ الْهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ بِمَا ارْتَكَبُوا مِنْ عِصْيَانِ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَمِنَ الْعَجَلَةِ إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالرِّضَا بِمَا وَقَعَ، وَذَكَّرَهُمُ النَّصْرَ الْوَاقِعَ يَوْمَ بَدْرٍ، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ هُنَا إِنْكَارَ
تَعَجُّبِهِمْ مِنْ إِصَابَةِ الْهَزِيمَةِ إِيَّاهُمْ
160
(وَلَمَّا) اسْمُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُودِ جَوَابِهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ مُلَازِمُ الْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ شَرْطِهِ، فَالْمَعْنَى: قُلْتُمْ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ: أَنَّى هَذَا،.
وَجُمْلَةُ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها صفة «لمصيبة»، وَمَعْنَى أَصَبْتُمْ غَلَبْتُمُ الْعَدُوَّ وَنِلْتُمْ مِنْهُ مِثْلَيْ مَا أَصَابَكُمْ بِهِ، يُقَالُ: أَصَابَ إِذا غلب، وَأُصِيب إِذَا غَلَبَ، قَالَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ:
ثُمَّ انْصَرَفْتُ وَقَدْ أَصَبْتُ وَلَمْ أُصَبْ جَذَعَ الْبَصِيرَةِ قَارِحَ الْإِقْدَامِ
وَالْمُرَادُ بِمِثْلَيْهَا الْمُسَاوِيَانِ فِي الْجِنْسِ أَوِ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ أَيْ: إِنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ مِثْلَيْ مَا أَصَابَكُمْ، وَالْمُمَاثَلَةُ هُنَا مُمَاثَلَةٌ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ، لَا فِي الْجِنْسِ، فَإِنَّ رَزَايَا الْحَرْبِ أَجْنَاسٌ: قَتْلٌ، وَأَسْرٌ، وَغَنِيمَةٌ، وَأَسْلَابٌ، فَالْمُسْلِمُونَ أَصَابَهُمْ يَوْمَ أحد الْقَتْل: إِذا قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَكَانُوا قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، فَهَذَا أَحَدُ الْمِثْلَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ فَذَلِكَ مِثْلٌ آخَرُ فِي الْمِقْدَارِ إِذِ الْأَسِيرُ كَالْقَتِيلِ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ أَصَابُوا قَتْلَى إِلَّا أَنَّ عَدَدَهُمْ أَقَلُّ فَهُوَ مِثْلٌ فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْمِقْدَارِ وَالْقِيمَةِ.
وَ (أَنَّى) اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ قَصَدُوا بِهِ التَّعَجُّبَ وَالْإِنْكَارَ، وَجُمْلَةُ قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا جَوَابُ (لمّا)، والاستفهام بأنّى هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ.
ثُمَّ ذُيِّلَ الْإِنْكَارُ وَالتَّعَجُّبُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ إِنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ عَلَى نَصْرِكُمْ وَعَلَى خِذْلَانِكُمْ، فَلَمَّا عَصَيْتُمْ وَجَرَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الْغَضَبَ قَدَّرَ اللَّهُ لكم الخذلان.
161

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٦٦ إِلَى ١٦٨]

وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمرَان: ١٦٥] وَهُوَ كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى مَعْنَى التَّسْلِيمِ أَيْ: هَبُوا أَنَّ هَذِهِ مُصِيبَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْهَا عِوَضٌ، فَهِيَ بِقَدَرِ اللَّهِ، فَالْوَاجِبُ
التَّسْلِيمُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ بَعْضِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَصابَكُمْ أَرَادَ بِهِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ وَهِيَ مُصِيبَةُ الْهَزِيمَةِ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ مَا أَصَابَكُمْ لِيُعَيِّنَ الْيَوْمَ بِأَنَّهُ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَمَّا مَا أَصَابَكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما أَصابَكُمْ مَعْنَاهُ بَيَانُ سَبَبِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَلِذَلِكَ قَرَنَ الْخَبَرَ بِالْفَاءِ. ويَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ هُوَ يَوْمُ أُحُدٍ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَهِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِعْلَانُ ذِكْرِ الْمُصِيبَةِ وَأَنَّهَا بِإِذْنِ اللَّهِ إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ إِظْهَارِ الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ مَا أَصابَكُمْ دُونَ أَنْ يُعَادَ لَفْظُ الْمُصِيبَةِ فَتَفَنُّنٌ، أَوْ قَصْدُ الْإِطْنَابِ.
وَالْإِذْنُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ إِذْ لَا مَعْنَى لِتَوَجُّهِ الْإِذْنِ إِلَى الْمُصِيبَةِ فَهُوَ مَجَازٌ فِي تَخْلِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَسْبَابِ الْمُصِيبَةِ وَبَيْنَ الْمُصَابِينَ، وَعَدَمِ تَدَارُكِ ذَلِكَ بِاللُّطْفِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْإِذْنَ تَخْلِيَةٌ بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَمَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبِّبَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى نِظَامٍ، فَإِذَا جَاءَتِ الْمُسَبَّبَاتُ مِنْ قِبَلِ أَسْبَابِهَا فَلَا عَجَبَ، وَالْمُسْلِمُونَ أَقَلُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدًا وَعُدَدًا فَانْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَرَامَةٌ لَهُمْ، وَانْهِزَامُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ عَادَةٌ وَلَيْسَ بِإِهَانَةٍ. فَهَذَا الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى فَبِإِذْنِ اللَّهِ عذف الْعِلَّةَ عَلَى السَّبَبِ. وَالْعِلْمُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الظُّهُورِ وَالتَّقَرُّرِ فِي الْخَارِجِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
162
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شجاعها
أَرَادَ لتظهر شَجَاعَتِي وَجُبْنِ الْآخَرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا.
والَّذِينَ نافَقُوا هُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبيّ وَمن انخزل مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قيل لَهُم: تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا. قَالَهُ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لمّا رأى انخزالهم قَالَ لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيئَكُمْ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا. وَالْمُرَادُ بِالدَّفْعِ حِرَاسَةُ الْجَيْشِ وَهُوَ الرِّبَاطُ أَيِ: ادْفَعُوا عَنَّا مَنْ يُرِيدُنَا مِنَ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ ذَلِكَ أَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتّبعناكم، أَي لم نَعْلَمُ أَنَّهُ قِتَالٌ، قِيلَ: أَرَادوا أنّ هَذَا لَيْسَ بِقِتَالٍ بَلْ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ قُرَيْشًا لَا يَنْوُونَ الْقِتَالَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا حَاصِلا قبل انخزالهم، وَعَلَى هَذَيْنِ فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ
الْمُسَمَّى بِالتَّصْدِيقِ عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا لَوْ نُحْسِنُ الْقِتَالَ لَاتَّبَعْنَاكُمْ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَقَوْلُهُمْ حِينَئِذٍ تَهَكُّمٌ وَتَعَذُّرٌ.
وَمَعْنَى هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أَنَّ مَا يُشَاهَدُ مِنْ حَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ دلَالَة على أَنهم يبطنون الْكُفْرِ مِنْ دَلَالَةِ أَقْوَالِهِمْ: إِنَّا مُسْلِمُونَ، وَاعْتِذَارِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. أَيْ إِنَّ عُذْرَهُمْ ظَاهِرُ الْكَذِبِ، وَإِرَادَةِ تَفْشِيلِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقُرْبِ مَجَازٌ فِي ظُهُورِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ.
وَيَتَعَلَّقُ كُلٌّ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ بِقَوْلِهِ: أَقْرَبُ لِأَنَّ أَقْرَبُ تَفْضِيلٌ يَقْتَضِي فَاضِلًا وَمَفْضُولًا، فَلَا يَقَعُ لبس فِي تعلّق مَجْرُورَيْنِ بِهِ لِأَنَّ السَّامِعَ يَرُدُّ كُلَّ مَجْرُورٍ إِلَى بَعْضِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ.
وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَغْزَى هَذَا الِاقْتِرَابِ، لِأَنَّهُمْ يُبْدُونَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ جُعِلُوا إِلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ، فَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي يُبْدُونَهُ لَيْسَ مُوَافِقًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ لِلْكُفْرِ أَهْلَ الْكُفْرِ.
163
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ نافَقُوا، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، إِذَا كَانَ مَضْمُونُ صِلَتِهِ أَشْهَرَ عِنْدَ السَّامِعِينَ، إِذْ لَعَلَّهُمْ عُرِفُوا مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا فَذَكَرَ هُنَا وَصْفًا لَهُمْ لِيَتَمَيَّزُوا كَمَالَ تَمْيِيزٍ. وَاللَّامُ فِي (لِإِخْوَانِهِمْ) لِلتَّعْلِيلِ وَلَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، قَالُوا: كَمَا هِيَ فِي قَوْله: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمرَان: ١٥٦].
وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَانِ هَنَا عَيْنُ الْمُرَادِ هُنَاكَ، وَهُمُ الْخَزْرَجُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُمْ مِنْ جِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَقَعَدُوا حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَمَعْنَى لَوْ أَطَاعُونَا أَيِ امْتَثَلُوا إِشَارَتَنَا فِي عَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَفَعَلُوا كَمَا فَعَلْنَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا قُتِلُوا- بِتَخْفِيفِ التَّاءِ- من الْقَتْل.
وقرأه هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- مِنَ التَّقْتِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ، وَهُوَ يُفِيدُ مَعْنَى تَفْظِيعِهِمْ مَا أَصَابَ إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ طَعْنًا فِي طَاعَتِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَي ادرأوه عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ سَبَبَ مَوْتِ إخْوَانكُمْ هُوَ
عصين أَمركُم.
[١٦٩- ١٧٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٦٩ إِلَى ١٧٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
164
(١٧٢)
قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ عَطْفٌ على قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمرَان:
١٦٨]، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا فِيهِ تَبْكِيتُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ إِخْوَانِهِمْ قَدْ ذَهَبُوا سُدًى، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَوْتَ لَا مَفَرَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَعْرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ خِطَابِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِيَّتِهِمْ، وَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ مَنْ يَسْتَأْهِلُ الْمَعْرِفَةَ، فَقَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً وَهُوَ إِبْطَالٌ لِمَا تَلَهَّفَ مِنْهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى إِضَاعَةِ قَتْلَاهُمْ.
وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهُ، وَلِيُعَلِّمَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي عَدَمِ إِرَادَةِ مُخَاطَبٍ مُعَيَّنٍ.
وَالْحُسْبَانُ: الظَّنُّ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ وَبِالْأَحْرَى يَكُونُ نهيا عَن الْجَزْم بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الَّذِينَ قُتِلُوا- بتَخْفِيف التَّاء- وقرأه ابْنُ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- أَيْ قُتِّلُوا قَتْلًا كَثِيرًا.
وَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فَلِذَلِكَ كَانَ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ غَيْرُ مُفْرَدٍ، لِأَنَّهَا أَضْرَبَتْ عَنْ حُكْمِ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تُضْرِبْ عَنْ مُفْرَدٍ مِنَ الْجُمْلَةِ، فَالْوَجْهُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنْ تَكُونَ اسْمِيَّةً مِنَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ وَالْخَبَرِ الظَّاهِرِ، فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهُ السَّبْعَة- بِالرَّفْع-، وقرىء- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ فِعْلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَحَسِبْتُمْ أَحْيَاءً، وَأَنْكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ.
وَقَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ لِلْمُجَاهِدِينَ مَوْتًا ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: قُتِلُوا، وَنَفَى عَنْهُمُ الْمَوْتَ الْحَقِيقِيَّ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَمْوَاتَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ
أَحْيَاءُ الْأَرْوَاحِ، حَيَاةً زَائِدَةً عَلَى حَقِيقَةِ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ، غَيْرَ مُضْمَحِلَّةٍ، بَلْ هِيَ حَيَاةٌ بِمَعْنَى تَحَقُّقِ آثَارِ الْحَيَاةِ لِأَرْوَاحِهِمْ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّاتِ وَالْمُدْرَكَاتِ السَّارَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمَسَرَّتِهِمْ بِإِخْوَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ حياتهم حَيَاة خَاصَّةٌ بِهِمْ، لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَعَارَفَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، أَعْنِي حَيَاةَ
165
الْأَجْسَامِ وَجَرَيَانِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، وَنَبَضَاتِ الْقَلْبِ، وَلَا هِيَ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ الثَّابِتَةُ لِأَرْوَاحِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الرِّزْقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُلَائِمًا لِحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ وَهُوَ رِزْقُ النَّعِيمِ فِي الْجَنَّةِ. فَإِنْ عَلَّقْنَا عِنْدَ رَبِّهِمْ بِقَوْلِهِ:
أَحْياءٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ عَلَّقْنَاهُ بِقَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَمَّا كَانَ الرِّزْقُ النَّاشِئُ عَنْهَا كَائِنًا عِنْدَ اللَّهِ، كَانَتْ حَيَاةً غَيْرَ مَادِّيَّةٍ وَلَا دُنْيَوِيَّةٍ، وَحِينَئِذٍ فَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِكَيْنُونَةِ هَذَا الرِّزْقِ. وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُرْزَقُونَ.
وَالِاسْتِبْشَارُ: حُصُولُ الْبِشَارَةِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ كَمَا هما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: ٦] وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ بَيْنَ الْمَسَرَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالْمَسَرَّةِ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، لِأَنَّ فِي بَقَائِهِمْ نِكَايَةً لِأَعْدَائِهِمْ، وَهُمْ مَعَ حُصُولِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ لَهُمْ عَلَى أَيْدِي الْأَعْدَاءِ يَتَمَنَّوْنَ هَلَاكَ أَعْدَائِهِمْ، لِأَنَّ فِي هَلَاكِهِمْ تَحْقِيقَ أُمْنِيَّةٍ أُخْرَى لَهُمْ وَهِيَ أُمْنِيَّةُ نَصْرِ الدِّينِ.
فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ رُفَقَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُجَاهِدُونَ مَعَهُمْ، وَمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَمْ يُسْتَشْهَدُوا فَيَصِيرُوا إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ.
ومِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ بِمَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَصِيرُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ رِفَاقِهِمْ بِأَمْنِهِمْ وَانْتِفَاءِ مَا يُحْزِنُهُمْ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَ (لَا) عَامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ وَمُفِيدَةٌ مَعْنَاهَا، وَلَمْ يُبْنَ اسْمُ (لَا) عَلَى الْفَتْحِ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْجِنْسِ وَلَا احْتِمَالَ لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ فَلَا حَاجَةَ لِبِنَاءِ النَّكِرَةِ عَلَى الْفَتْحِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوجي كليل نهامة، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَهْ» بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ الثَّلَاثَةِ.
وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ مُنِحَتِ الْكَشْفَ عَلَى مَا يَسُرُّهَا مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ يَهُمُّهُمْ شَأْنُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَنَّ هَذَا الْكَشْفَ ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ يَكُونُ خاصّا الْأَحْوَال السَّارَّةِ لِأَنَّهَا لَذَّةٌ لَهَا. وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ لَذَّةَ الْأَرْوَاحِ تَحْصُلُ بِالْمَعْرِفَةِ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ الرَّازِيَّ حَصَرَ اللَّذَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ فِي الْمَعَارِفِ. وَهِيَ لَذَّةُ الْحُكَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ سَيِّئَةً.
وَفِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ لِأَصْحَابِ أُحُدٍ بِأَنَّهُمْ لَا تَلْحَقُهُمْ نَكْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
166
وَضَمِيرُ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حُزْنٌ فَهُمْ مُسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا وَالضَّمِيرُ لِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبِشَارَةِ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣] فَكَرَّرَ أَغْوَيْنَاهُمْ، وَلِأَنَّ هَذَا اسْتِبْشَارٌ مِنْهُ عَائِدٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهُ عَائِدٌ لِرِفَاقِهِمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ الْقَرْحِ، وَالْأُولَى عَائِدَةٌ لِإِخْوَانِهِمْ. وَالنِّعْمَةُ: هِيَ مَا يَكُونُ بِهِ صَلَاحٌ، وَالْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي النِّعْمَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) - عَلَى أَنَّهُ عطف على بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَفْخِيمُ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِبْشَارِ وَانْشِرَاحِ الْأَنْفُسِ بِأَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمُ الْمَسَرَّةَ الْجُثْمَانِيَّةَ الْجُزْئِيَّةَ وَالْمَسَرَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ لَذَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِشَرَفِ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ وَشَرَفِ الْعِلْمِ بِهَا، وَحُصُولِ الْمَسَرَّةِ لِلنَّفْسِ مِنَ انْكِشَافِهَا لَهَا وَإِدْرَاكِهَا، أَيِ اسْتَبْشَرُوا بِأَنْ عَلِمُوا حَقِيقَةً كُلِّيَّةً وَسِرًّا جَلِيلًا مِنْ أَسْرَارِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَكَمَالَاتِهِ، الَّتِي تَعُمُّ آثَارُهَا، أَهْلَ الْكَمَالِ كُلَّهُمْ، فَتَشْمَلُ الَّذِينَ أَدْرَكُوهَا وَغَيْرَهُمْ، وَلَوْلَا هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيلُ لَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى زِيَادَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ بِزِيَادَتِهِ زِيَادَةُ نِعْمَةٍ وَفَضْلٍ لِلْمُسْتَبْشِرِينَ مِنْ جِنْسِ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ الْأَوَّلَيْنِ، بَلْ حَصَلَتْ نِعْمَةٌ وَفضل آخرَانِ. وقرأه الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) - عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَسْتَبْشِرُونَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا اسْتَبْشَرَ بِهِ الشُّهَدَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، فَتَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ إِثْرَ أُحُدٍ مِنَ الْإِرْجَافِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ، بَعْدَ أَنْ بَلَغُوا الرَّوْحَاءَ، خَطَرَ لَهُمْ أَنْ لَوْ لَحِقُوا الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ. وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ هَذَا وَمَا وَقَعَ لِمَعْبَدِ بْنِ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ
167
تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمرَان: ١٤٩]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقَرْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمرَان: ١٤٠]. وَالظَّاهِرُ أنّه هُنَا للقرح الْمَجَازِيُّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ فَيُقَال القروح.
[١٧٣- ١٧٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٧٣ إِلَى ١٧٥]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِلَى آخِرِهِ، بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [آل عمرَان: ١٧٢]، أَوْ صِفَةً لَهُ، أَوْ صِفَةً ثَانِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: ١٧١] عَلَى طَرِيقَةِ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي الْأَخْبَارِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ، دُونَ أَنْ تُعْطَفَ الصِّلَةُ عَلَى الصِّلَةِ، اهْتِمَامًا بِشَأْنِ هَذِهِ الصِّلَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَا تَكُونَ كَجُزْءِ صِلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ:
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [آل عمرَان: ١٧٥] أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، كَمَا سَيَأْتِي. وَهَذَا تَخَلُّصٌ بِذِكْرِ شَأْن من شؤون الْمُسْلِمِينَ كَفَاهُمُ اللَّهُ بِهِ بَأْسَ عَدُوِّهِمْ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ بِعَامٍ، إِنْجَازًا لِوَعْدِهِمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ قَالَ: مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ كَرِهَ الْخُرُوجَ إِلَى لِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَكَادَ لِلْمُسْلِمِينَ لِيُظْهِرَ إِخْلَافَ الْوَعْدِ مِنْهُمْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الْإِرْجَافِ بَيْنَ الْعَرَبِ بِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَاعَلَ رَكْبًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَارِّينَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قُرْبَ مَكَّةَ قَاصِدِينَ الْمَدِينَةَ لِلْمِيرَةِ، أَنْ يُخْبِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَهُمْ جَيْشًا عَظِيمًا، وَكَانَ مَعَ الرَّكْبِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ، فَأَخْبَرَ نُعَيْمٌ وَمَنْ مَعَهُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَزَادَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ اسْتِعْدَادًا وَحَمِيَّةً لِلدِّينِ، وَخَرَجُوا إِلَى الْمَوْعِدِ
168
وَهُوَ بَدْرٌ، فَلَمْ يَجِدُوا الْمُشْرِكِينَ وانتظروهم هُنَالك، وَكَانَتْ هُنَالِكَ سُوقٌ فَاتَّجَرُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ غَيْرَ مَذْمُومِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَيِ الرَّكْبُ الْعَبْدِيُّونَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَيْ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ جَمَعُوا أَيْ جَمَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَعَدَدَهُمْ وَأَحْلَافَهُمْ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ لَفْظَ النَّاسَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، وَجَعَلُوهُ شَاهِدًا عَلَى اسْتِعْمَالِ النَّاسِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسَ مُرَادًا بِهِ وَاحِدٌ أَوْ نَحْوُهُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي بِ (النَّاسَ) مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: فَزادَهُمْ إِيماناً أَيْ زَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ الْمُسْتَتِرِ فِي
فَزادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ فِعْلِ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسُ، ولمّا كَانَ ذَاك الْقَوْلُ مُرَادًا بِهِ تَخْوِيفُ الْمُسْلِمِينَ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ قَصْدِهِمْ. وَحَصَلَ مِنْهُ خِلَافُ مَا أَرَادَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، جَعَلَ مَا حَصَلَ بِهِ زَائِدًا فِي إِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيمَانَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ الْعَزْمِ عَلَى النَّصْرِ وَالْجِهَادِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَمَسْأَلَةُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِيمَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٣] يَعْنِي صَلَاتَكُمْ. أَمَّا التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، فَلَا يَقْبَلُ النَّقْصَ، وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَلِذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اللَّفْظِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ إِذَا تَكَرَّرَتْ أَدِلَّتُهُ، أَوْ طَالَ زَمَانُهُ، أَوْ قَارَنَتْهُ التَّجَارِبُ، يَزْدَادُ جَلَاءً وَانْكِشَافًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَلَكَةِ، فَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ، بِقَرِينَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُطْلِقْ وَصْفَ النَّقْصِ فِي الْإِيمَانِ بَلْ مَا ذَكَرَ إِلَّا الزِّيَادَةَ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠].
169
وَقَوْلُهُمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ كَلِمَةٌ لَعَلَّهُمْ أُلْهَمُوهَا أَوْ تَلَقَّوْهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَسْبُ أَيْ كَافٍ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ، قَالُوا: وَمِنْهُ اسْمُهُ تَعَالَى الْحَسِيبُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ. وَقِيلَ: الْإِحْسَابُ هُوَ الْإِكْفَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى كَفَى، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقَامُوسِ. وَرَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي تَوْضِيحِهِ بِأَنَّ دُخُولَ الْعَوَامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، وَقَوْلهمْ: بحسبك دِرْهَمٌ، يُنَافِي دَعْوَى كَوْنِهِ اسْمَ فِعْلٍ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْعَوَامِلُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ لَفْظًا دُونَ مَعْنًى، فَيُبْنَى عَلَى الضَّمِّ مِثْلُ: قَبْلُ وَبَعْدُ، كَقَوْلِهِم:
أعْطه درهيمن فَحَسْبُ، وَيَتَجَدَّدُ لَهُ مَعْنَى حِينَئِذٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى لَا غَيْرَ. وَإِضَافَتُهُ لَا تفيده تعريفا لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ الْمُشْتَقِّ وَلِذَلِكَ تُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ، وَهُوَ مُلَازِمُ الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ لِأَنَّهُ لَجُمُودِهِ شَابَهَ الْمَصْدَرَ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمَ فِعْلٍ فَهُوَ كَالْمَصْدَرِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ شَأْنُ الْمَصَادِرِ، وَمَعْنَاهَا: إِنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِاللَّهِ نَاصِرًا وَإِنْ كَانُوا فِي قِلَّةٍ وَضَعْفٍ.
وَجُمْلَةُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَسْبُنَا اللَّهُ فِي كَلَامِ الْقَائِلِينَ، فَالْوَاوُ مِنَ الْمَحْكِيِّ لَا مِنَ الْحِكَايَةِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَا تُطْلَبُ فِيهِ إِلَّا
الْمُنَاسَبَةُ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِتَقَدُّمِ دَلِيلِهِ.
والْوَكِيلُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَوْكُولٍ إِلَيْهِ. يُقَالُ: وَكَلَ حَاجَتَهُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي قَضَائِهَا وَفَوَّضَ إِلَيْهِ تَحْصِيلَهَا، وَيُقَالُ لِلَّذِي لَا يَسْتَطِيع الْقيام بشؤونه بِنَفْسِهِ:
رَجُلٌ وَكَلٌ- بِفَتْحَتَيْنِ- أَيْ كَثِيرُ الِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِهِ، فَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَائِمُ بِشَأْنِ مَنْ وَكَّلَهُ، وَهَذَا الْقِيَامُ بِشَأْنِ الْمُوَكِّلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْمُوَكَّلِ فِيهَا، وَبِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْوَكِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ فِي دَفْعِ الْعَدَاءِ وَالْجَوْرِ فَالْوَكِيلُ النَّاصِرُ وَالْمُدَافِعُ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الْأَنْعَام: ٦٦]، وَمِنْهُ فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
[النِّسَاء: ١٠٩]. وَمِنْهُ الْوَكِيلُ فِي الْخُصُومَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي شؤون الْحَيَاةِ فَالْوَكِيلُ الْكَافِلُ وَالْكَافِي مِنْهُ:
170
أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الْإِسْرَاء: ٢] كَمَا قَالَ: قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النَّحْل: ٩١] وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْوَكِيلُ، وَقَوْلُهُ: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَمِنْهُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَالِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا اسْمُ الْكَفِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. وَقَدْ حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَكِيلَ عَلَى مَا يَشْمَلُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٢]، فَقَالَ: وَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ رَقِيبٌ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلرَّقِيبِ وَالْحَافِظِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُعْنَى النَّاسُ بِحِفْظِهَا وَرِقَابَتِهَا وَادِّخَارِهَا، وَلِذَلِكَ يَتَقَيَّدُ وَيَتَعَمَّمُ بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعْقِيبٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ ثَبَاتِ إِيمَانِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَهُوَ تَعْقِيبٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ فَانْقَلَبُوا، لِأَنَّ الِانْقِلَابَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ الَّذِي بَلَغَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَمَعُوا لَهُم وَلم يعبأوا بِتَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخَرَجُوا فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ مُلَابِسِينَ لِنِعْمَةٍ وَفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ. فَالنِّعْمَةُ هِيَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْفَضْلُ فَضْلُ الْجِهَادِ. وَمَعْنَى لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لَمْ يُلَاقُوا حَرْبًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ إِمَّا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ بَدَلًا أَوْ صِفَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ مُبْتَدَأً، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِلَى آخِرِهِ إِنَّمَا مَقَالُهُمْ يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ بِهِ. وَرَابِطُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» عَلَى هَذَا التَّقْدِير، هُوَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ.
ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى الْمَقَالِ فَلَفْظُ الشَّيْطَانِ عَلَى هَذَا مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَلَفْظُهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِك الْمقَال ناشىء
171
عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ دَبَّرُوا مَكِيدَةَ الْإِرْجَافِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ لِتَخْوِيفِ الْمُسْلِمِينَ بِوَاسِطَةِ رَكْبِ عَبْدِ الْقَيْسِ.
وَإِمَّا أَنْ تَعُودَ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ لَهُمُ النَّاسُ لِأَنَّ النَّاسَ مُؤَوَّلٌ بشخص، أَعنِي نعميا بْنَ مَسْعُودٍ، فَالشَّيْطَانُ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ شَيْطَانٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَقَوْلُهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ تَقْدِيرُهُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، فَحَذَفَ الْمَفْعُول الأول لفعل (يُخَوِّفُ) بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَلا تَخافُوهُمْ فَإِنَّ خَوَّفَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذْ هُوَ مُضَاعَفُ خَافَ الْمُجَرَّدِ، وَخَافَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَصَارَ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمرَان: ٢٨].
وَضَمِيرُ فَلا تَخافُوهُمْ عَلَى هَذَا يَعُودُ إِلَى أَوْلِياءَهُ وَجُمْلَةُ وَخافُونِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَلا تَخافُوهُمْ وَجُمْلَةِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شَرْطٌ مُؤَخَّرٌ تَقَدَّمَ دَلِيلُ جَوَابِهِ، وَهُوَ تَذْكِيرٌ وَإِحْمَاءٌ لِإِيمَانِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مُؤمنُونَ حقّا.
[١٧٦]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٧٦]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
نَهْيٌ لِلرَّسُولِ عَنْ أَنْ يَحْزَنَ مِنْ فِعْلِ قَوْمٍ يَحْرِصُونَ عَلَى الْكُفْرِ أَيْ عَلَى أَعْمَالِهِ وَمَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يَتَوَغَّلُونَ فِيهِ وَيُعَجِّلُونَ إِلَى إِظْهَارِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرَصِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ:
يُسارِعُونَ، فَقِيلَ: ذَلِكَ مِنَ التَّضْمِينِ ضَمَّنَ يُسَارِعُونَ مَعْنَى يَقَعُونَ، فَعُدِّيَ بِفِي، وَهِيَ طَرِيقَةُ «الْكَشَّافِ» وَشُرُوحِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ
172
تَمْثِيلِيَّةٌ: شَبَّهَ حَالَ حِرْصِهِمْ وجدّهم فِي تفكير النَّاسِ وَإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَتَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ وَانْتِهَازِهِمُ الْفُرَصَ بِحَالِ الطَّالِبِ الْمُسَارِعِ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ يَخْشَى أَنْ يَفُوتَهُ وَهُوَ مُتَوَغِّلٌ فِيهِ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِفِي الدَّالَّةِ عَلَى سُرْعَتِهِمْ سُرْعَةِ طَالِبِ التَّمْكِينِ، لَا طَالِبِ الْحُصُولِ، إِذْ هُوَ حَاصِلٌ عِنْدَهُمْ وَلَوْ عُدِّيَ بِإِلَى لَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا عِنْدَ الْمُسَارَعَةِ. قِيلَ: هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ:
قَوْمٌ أَسْلَمُوا ثُمَّ خَافُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَارْتَدُّوا.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَنْ يُحْزِنَهُ تَسَارُعُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِعِلَّةٍ يُوقِنُ بِهَا الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَمَوْقِعُ إِنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ إِفَادَةُ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَنَفْيُ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ مُرَادٌ بِهِ نَفْيُ أَنْ يُعَطِّلُوا مَا أَرَادَهُ إِذْ قَدْ كَانَ اللَّهُ وَعَدَ الرَّسُولَ إِظْهَارَ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَانَ سَعْيُ الْمُنَافِقِينَ فِي تَعْطِيلِ ذَلِكَ، نَهَى اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَحْزُنَ لِمَا يَبْدُو لَهُ مِنَ اشْتِدَادِ الْمُنَافِقِينَ فِي مُعَاكَسَةِ الدَّعْوَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا إِبْطَالَ مُرَادِ اللَّهِ، تَذْكِيرًا لَهُ بِأَنَّهُ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ.
وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا النَّهْيِ: هُوَ أَنَّ نَفْسَ الرَّسُولِ، وَإِنْ بَلَغَتْ مُرْتَقَى الْكَمَالِ، لَا تعدو أَن تَعْتَرِيهَا فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الشِّدَّةِ أَحْوَالُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ: مِنْ تَأْثِيرِ مَظَاهِرِ الْأَسْبَابِ، وَتَوَقُّعِ حُصُولِ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَّةِ عِنْدَهَا، كَمَا وَقَعَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ، وَإِذَا انْتَفَى إِضْرَارُهُمُ اللَّهَ انْتَفَى إِضْرَارُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَحْزُنْكَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- مِنْ حَزَنَهُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْحُزْنَ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ- مِنْ أَحْزَنَهُ.
وَجُمْلَةُ يُرِيدُ اللَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ جَزَائِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ السَّلَامَةَ مِنْ كَيْدِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَذَلَهُمْ وَسَلَبَهُمُ التَّوْفِيقَ فَكَانُوا مُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ. وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ مِنْ شَيْء نَافِع.
173

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٧٧]

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
تَكْرِيرٌ لِجُمْلَةِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً قُصِدَ بِهِ، مَعَ التَّأْكِيدِ، إِفَادَةُ هَذَا الْخَبَرِ اسْتِقْلَالًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ. وَفِي اخْتِلَافِ الصِّلَتَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ كُلِّ صِلَةٍ مِنْهُمَا هُوَ سَبَبُ الْخَبَرِ الثَّابِتِ لِمَوْصُولِهَا، وَتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ:
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً الْمُتَقَدِّمُ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٌ أَسْنَامُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ:
كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا مَعَ زِيَادَةِ بَيَانِ اشْتِهَارِهِمْ هُمْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ.
وَالِاشْتِرَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِبْدَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦].
[١٧٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٧٨]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمرَان: ١٦٩] وَالْمَقْصُودُ مُقَابَلَةُ الْإِعْلَامِ بِخِلَافِ الْحُسْبَانِ فِي حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا تَلُوحُ لِلنَّاظِرِ حَالَةَ ضُرٍّ، وَالْأُخْرَى تَلُوحُ حَالَةَ خَيْرٍ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا يَتَرَاءَى لِلنَّاظِرِينَ.
وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمرَان:
١٧٦] إِذْ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِحُزْنِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ اللَّهَ شَيْئًا، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِ خَبَرًا لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِخْوَانِهِمُ الْمُنَافِقِينَ: أَنْ لَا يَحْسَبُوا أَنَّ بَقَاءَهُمْ نَفْعٌ لَهُمْ بَلْ هُوَ إِمْلَاءٌ لَهُمْ يَزْدَادُونَ بِهِ آثَامًا، لِيَكُونَ أَخْذُهُمْ بَعْدَ
174
ذَلِكَ أَشَدَّ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَفَاعِلُ الْفِعْلِ (الَّذِينَ كَفَرُوا)، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-.
فَالْخِطَابُ إِمَّا لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ حُسْبَانٍ لَمْ يَقَعْ، فَالنَّهْيُ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ أَوْ عَنْ حُسْبَانٍ هُوَ خَاطِرٌ خَطَرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ حُسْبَانُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِمْلَاءَ لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ، أَوِ الْمُخَاطَبُ الرَّسُولُ وَالْمَقْصُودُ غَيْرُهُ، مِمَّنْ يَظُنُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ مِثْلِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥]، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْخِطَابِ كُلُّ مُخَاطَبٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ- الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- فَالنَّهْيُ مَقْصُودٌ بِهِ بُلُوغَهُ إِلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ، وَيُمِرَّ عَيْشَهُمْ بِهَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْسَبُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ فِي الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا تَأْخِيرُ حَيَاتِهِمْ، وَعَدَمُ اسْتِئْصَالِهِمْ فِي الْحَرْبِ، حَيْثُ فَرِحُوا بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبِأَنَّ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلَاهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِمْلَاءِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْمَالِهِمْ فِي كَيْدِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرْبِهِمْ وَعَدَمُ
الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، يُقَالُ: أَمْلَى لِفَرَسِهِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الطِّوَلَ فِي الْمَرْعَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَلْوِ بِالْوَاوِ وَهُوَ سَيْرُ الْبَعِيرِ الشَّدِيدِ، ثُمَّ قَالُوا: أَمْلَيْتُ لِلْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ إِذَا وَسَّعْتُ لَهُ فِي الْقَيْدِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنَ الْخَبَبِ وَالرَّكْضِ، فَشُبِّهَ فِعْلُهُ بِشِدَّةِ السَّيْرِ، وَقَالُوا: أَمْلَيْتُ لِزَيْدٍ فِي غَيِّهِ أَيْ تَرَكْتُهُ: عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَأَمْلَى اللَّهُ لِفُلَانٍ أَخَّرَ عِقَابَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَاف: ١٨٣] وَاسْتُعِيرَ التَّمَلِّي لِطُولِ الْمُدَّةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ فَقَالُوا: مَلَّأَكَ اللَّهُ حَبِيبَكَ تَمْلِيئَةً، أَيْ أَطَالَ عُمُرَكَ مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ (أَنَّ) أُخْتُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَلَيْسَتِ الزَّائِدَةُ، وَقَدْ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ كَلِمَةً وَاحِدَةً كَمَا تُكْتَبُ إِنَّمَا الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) أُخْتِ (أَنَّ) وَ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ، الَّتِي هِيَ حَرْفُ حَصْرٍ بِمَعْنَى (مَا) وَ (إِلَّا)، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَدَثَ بَعْدَ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا فِي الرَّسْمِ الْقَدِيمِ، عَلَى هَذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَاتُ
175
الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَنَا أَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَنَّمَا) مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ هِيَ أَنَّمَا أُخْتُ إِنَّمَا الْمَكْسُورَةِ وَأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنْ) وَ (مَا) الْكَافَّةِ الزَّائِدَةِ وَأَنَّهَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا انْحِصَارَ إِمْهَالِنَا لَهُمْ فِي أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَرِحُوا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْقَتْلِ وَبِالْبَقَاءِ بِقَيْدِ الْحَيَاةِ قَدْ أَضْمَرُوا فِي أَنْفُسِهِمُ اعْتِقَادَ أَنَّ بَقَاءَهُمْ مَا هُوَ إِلَّا خَيْرٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ الْقَتْلَ شَرًّا لَهُمْ، إِذْ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَزَاءِ الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ لِكُفْرِهِمْ بِالْبَعْثِ. فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ فِي ظَنِّهِمْ.
وَلِهَذَا يَكُونُ رَسْمُهُمْ كَلِمَةَ (أَنَّمَا) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ فِي الْمُصْحَفِ جَارِيًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اصْطِلَاحُ الرَّسْمِ. وأَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَيَكُونُ سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ صَارَ كَالْمَتْرُوكِ، وَسُلِكَتْ طَرِيقَةُ الْإِبْدَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ، ثُمَّ التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الظَّنِّ بِالْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ يَسْتَدْعِي تَشَوُّفَ السَّامِعِ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الظَّنُّ، وَهِيَ مَدْلُولُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْ نَفْسِهِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ وَزَادَ تَقْرِيرًا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنْ حُسْبَانِ الْإِمْلَاءِ خَيْرًا، أَيْ مَا هُوَ بِخَيْرٍ لِأَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِثْمًا.
وَ (إِنَّمَا) هَذِهِ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنَّ) حَرْفُ التَّوْكِيدِ وَ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ وَهِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ أَيْ: مَا نُمْلِي لَهُمْ إِلَّا لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، أَيْ فَيَكُونُ أَخْذُهُمْ بِهِ أَشَدَّ فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَزْدَادُونَ إِثْمًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَيَشْتَدُّ عِقَابُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْإِمْلَاءُ لَهُمْ خَيْرًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ.
وَاللَّام فِي لِيَزْدادُوا إِثْماً لَامُ الْعَاقِبَةِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨] أَيْ: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ فَيَزْدَادُونَ إِثْمًا، فَلَمَّا كَانَ ازْدِيَادُ الْإِثْمِ
176
نَاشِئًا عَنِ الْإِمْلَاءِ، كَانَ كَالْعِلَّةِ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَازْدِيَادُ الْإِثْمِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَهُوَ حِينَ أَمْلَى لَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ بِهِ إِثْمًا، فَكَانَ الِازْدِيَادُ مِنَ الْإِثْمِ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالْعِلَّةِ، أَمَّا عِلَّةُ الْإِمْلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فَهِيَ شَيْءٌ آخَرُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ حِكْمَةِ خلق أَسبَاب الضلال وَأَهْلِهِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ الْحِكْمَةِ فِي شَأْنِهِ. وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَلَى حُسْبَانِ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ حَاصِلٌ، لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى التَّلَازُمِ بَيْنَ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ وَبَيْنَ ازْدِيَادِهِمْ مِنَ الْإِثْمِ فِي مدّة الْإِمْلَاء.
[١٧٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٧٩]
مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ مَا فِي مُصِيبَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْحِكَمِ النَّافِعَةِ دُنْيَا وَأُخْرَى، فَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: ١٦٦] بَيَّنَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ دَوَامَ اللَّبْسِ فِي حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاخْتِلَاطِهِمْ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ زَمَانًا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي مِثْلِهِ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَذَلِكَ أَيَّامَ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ عَقِبَ هِجْرَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الِاقْتِنَاعِ مِنَ النَّاسِ بِحُسْنِ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَبْدَأَ الِانْشِقَاقُ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي النُّفُوسِ، وَقَرَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ الْمُقَامَ فِي أَمْنٍ، أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْهِيَةِ الِاخْتِلَاطِ وَأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَكْتُمُونَ نِفَاقَهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِقْبَالٍ، وَرَأَوُا انْتِصَارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْضَحَهُمْ وَيُظْهِرَ نِفَاقَهُمْ، بِأَنْ أصَاب الْمُؤمنِينَ يقرح الْهَزِيمَةِ حَتَّى أَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ فَرَحَهُمْ بِنُصْرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَجَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نِفَاقَهُمْ بَادِيًا لِلْعِيَانِ كَمَا قَالَ:
177
جَزَى اللَّهُ الْمَصَائِبَ كُلَّ خَيْرٍ عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صديقي
وَمَا صدق مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ هُوَ اشْتِبَاهُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ.
وَحَرْفَا (عَلَى) الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، فِي قَوْلِهِ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ مَعْنَى مَجْرُورِهَا وَيَتَبَيَّنُ الْوَصْفُ الْمُبْهَمُ فِي الصِّلَةِ بِمَا وَرَدَ بَعْدَ (حَتَّى) من قَوْله:
عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ.
وَمَعْنَى مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْيُ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِلَّهِ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ [آل عمرَان:
٧٩] إِلَخْ...
فَقَوْلُهُ: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ الْخَالِصِ وَالْمُنَافِقِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصِ مِنَ النِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُلْ: لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ غَايَةٌ لِلْجُحُودِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْوَذْرَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ بَعْدَ وَقْتِ الْإِخْبَارِ وَلَا وَاقِعًا مِنْهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ يَحْصُلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، فَإِذَا حَصَلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ صَارَ هَذَا الْوَذْرَ مُمْكِنًا، فَقَدْ تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِحُصُولِهِ وَبِعَدَمِ حُصُولِهِ، وَمَعْنَاهُ رُجُوع إِلَى حَال الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِحَالَةِ الِاسْتِحَالَةِ.
وَلِحَتَّى اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بَعْدَ نَفْيِ الْجُحُودِ، فَمَعْنَاهَا تَنْهِيَةُ الِاسْتِحَالَةِ: ذَلِكَ أَنَّ الْجُحُودَ أَخَصُّ مِنَ النَّفْيِ لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ الصِّيغَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ اسْمِ كَانَ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ كَالْمُسْتَحِيلِ، فَإِذَا غَيَّاهُ الْمُتَكَلِّمُ بِغَايَةٍ كَانَتْ تِلْكَ الْغَايَةُ غَايَةً لِلِاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْجُحُودِ، وَلَيْسَتْ
178
غَايَةً لِلنَّفْيِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهَا أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ الْغَايَةِ يَثْبُتُ مَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَهَذَا كُلُّهُ لَمْحٌ لِأَصْلِ وَضْعِ صِيغَةِ الْجُحُودِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُبَالَغَةِ النَّفْيِ لَا لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي مَعْنَى مُطْلَقِ النَّفْيِ، وَقَدْ أَهْمَلَ التَّنْبِيهَ عَلَى إِشْكَالِ الْغَايَةِ هُنَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمُتَابِعُوهُ، وَتَنَبَّهَ لَهَا أَبُو حَيَّانٍ، فَاسْتَشْكَلَهَا حَتَّى اضطرّ إِلَى تأوّل النَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ، فَجَعَلَ التَّقْدِيرَ: إِنَّ اللَّهَ يُخَلِّصُ بَيْنَكُمْ بِالِامْتِحَانِ، حَتَّى يَمِيزَ. وَأَخَذَ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَوَّلَ تَأْوِيلًا أَحْسَنَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُعَطِّلًا لِوُجُودِ قَرِينَةٍ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمَفْهُومِ، وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ وُضُوحٌ وَتَوْقِيفٌ عَلَى اسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ رَشِيقٍ.
وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الطَّيِّبِ مَعْنَاهَا الْفَصْلُ أَيْ فَصْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَبَحَثَ فِيهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٠].
وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِضَمِيرِ مَا أَنْتُمْ لِلْكُفَّارِ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ جَاهِلِينَ بِأَحْوَالِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَمِيزَ- بِفَتْحِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَهَا سَاكِنَةٍ- مِنْ مَازَ يَمِيزُ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ- مِنْ مَيَّزَ مُضَاعَفِ مَازَ.
وَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ لَكُمُ الْخَبِيثَ فَتَعْرِفُوا أَعْدَاءَكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ إِطْلَاعُكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ أَسْبَابًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِزَّ أَعْدَاءَكُمْ فَيُظْهِرُوا لَكُمُ الْعَدَاوَةَ فَتَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ مُؤَسَّسًا عَلَى اسْتِفَادَةِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَالنَّتَائِجِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا.
179
وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يَجُوزُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حَتَّى لَا يَجْعَلَهُ الْمُنَافِقُونَ حُجَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
فِي نَفْيِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ رَسُولَهُ وَمِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ أَنْ لَا يُفْشِيَ مَا أَسَرَّهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦، ٢٧] الْآيَةَ، فَيَكُونُ كَاسْتِثْنَاءٍ مِنْ عُمُومِ لِيُطْلِعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ مِنِ انْتِفَاءِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ كَاسْتِثْنَاءٍ مِنْ مُفَادِ الْغَيْبِ أَيْ: إِلَّا الْغَيْبَ الرَّاجِعَ إِلَى إِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَلَمْ يَضْمَنِ اللَّهُ لِرُسُلِهِ إِطْلَاعَهُمْ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يُطْلِعُهُمْ، وَقَدْ لَا يُطْلِعُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الْأَنْفَال: ٦٠].
وَقَوْلُهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِيمَانُ الْخَاصُّ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ عَنِ الْهَوَى، وَبِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلَفُ، فَعَلَيْهِمُ الطَّاعَةُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ أَوْ أُرِيدَ الدَّوَامُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْحَالَةَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهَا قَدْ يُتَوَقَّعُ
مِنْهَا تَزَلْزُلُ إِيمَانِ الضُّعَفَاءِ وَرَوَاجُ شُبَهِ الْمُنَافِقِينَ، وَمَوْقِعُ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ظَاهِرٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَآمِنُوا خِطَابًا لِلْكُفَّارِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لِلْكَفَّارِ فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ ظَاهِرٌ، وَمُنَاسَبَةُ تَفْرِيعِهِ عَمَّا تَقَدَّمَ انْتِهَازُ فُرَصِ الدَّعْوَةِ حَيْثُمَا تأتّت.
[١٨٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
عَطْفٌ عَلَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا أُنْزِلَ فِي شَأْنِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ
180
عَنْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣٧] بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا فِي شَأْنِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُسلمين يَوْمئِذٍ مبرّؤون مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَمِنْ هَذَا الْحُسْبَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، أَيْ فِيمَنْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ، وَهَلْ يَمْنَعُهَا يَوْمَئِذٍ إِلَّا مُنَافِقٌ. وَلَعَلَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ مَنَعَ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَمَعْنَى حُسْبَانِهِ خَيْرًا أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ قَدِ اسْتَبْقَوْا مَالَهُمْ وَتَنَصَّلُوا عَنْ دَفْعِهِ بِمَعَاذِيرَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ.
أَمَّا شُمُولُهَا لِمَنْعِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعُمُومِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ إِنْ كَانَ الْمَوْصُولُ لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ، فَبِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَحْسِبَنَّ- بِكَسْرِ السِّينِ-، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ- بِفَتْحِ السِّينِ-.
وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْراً لَهُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (هُوَ) ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَقَدْ يُبْنَى كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ لَا يَخْتَصُّ بِالْوُقُوعِ مَعَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَطْلُبُ اسْمًا وَخَبَرًا، وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فَصْلًا مَعَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، يَعْنِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا ضَمِيرُ فَصْلٍ وَلِذَلِكَ حَكَى أَبُو الْبَقَاءِ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ (هُوَ) ضَمِيرًا وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِنَابَةِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ عَنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ، وَلَعَلَّ الَّذِي
حَسَّنَهُ أَنَّ الْمَعَادَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَلَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ بِضَمِيرِ النَّصْبِ، بِخِلَافِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ كَالْعُمْدَةِ فِي الْكَلَامِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبُخْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ يَبْخَلُونَ، مِثْلُ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]، وَمِثْلُ قَوْلِهِ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
ثُمَّ إِذَا كَانَ ضَمِيرَ فَصْلٍ فَأَحَدُ مَفْعُولَيْ حَسِبَ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ
181
ضَمِيرِ الْفَصْلِ عَلَيْهِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَوْقِيَّةِ فَالْمَحْذُوفُ مُضَافٌ حَلَّ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحَلَّهُ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا وَعَلَى قِرَاءَةِ التَّحْتِيَّةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بُخْلَهُمْ خَيْرًا.
وَالْبُخْلُ- بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ- وَيُقَالُ: بَخَلٌ بِفَتْحِهِمَا، وَفِعْلُهُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ مَضْمُومُ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ. وَبَقِيَّةُ الْعَرَبِ تَجْعَلُهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَبِلُغَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ جَاءَ الْقُرْآنُ لِخِفَّةِ الْكَسْرَةِ وَالْفَتْحَةِ وَلِذَا لَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِهَا. وَهُوَ ضِدُّ الْجُودِ، فَهُوَ الانقباض عَن إِعْطَاءِ الْمَالِ بِدُونِ عِوَضٍ، هَذَا حَقِيقَتُهُ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْعِ صَاحِبِ شَيْءٍ غَيْرُ مَالٍ أَنْ يَنْتَفِعَ غَيْرُهُ بِشَيْئِهِ بِدُونِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ إِلَّا مَجَازًا، وَقَدْ
وَرَدَ فِي أَثَرٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَخِيلُ الَّذِي أُذْكَرُ عِنْدَهُ فَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ»
وَيَقُولُونَ:
بَخِلَتِ الْعَيْنُ بِالدُّمُوعِ، وَيُرَادِفُ الْبُخْلَ الشُّحُّ، كَمَا يُرَادِفُ الْجُودَ السَّخَاءُ وَالسَّمَاحُ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ كَوْنِهِ خَيْرًا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
«وَتَعْطُو برخص غير ششن» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْمُقَامِ إِفَادَةَ نَفْيِ تَوَهُّمِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَجُمْلَةُ سَيُطَوَّقُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ.
وَيُطَوَّقُونَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّاقَةِ، وَهِيَ تَحَمُّلُ مَا فَوْقَ الْقُدْرَةِ أَيْ سَيَحْمِلُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ، أَيْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وِزْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّوْقِ، وَهُوَ مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الرَّقَبَةِ فَوْقَ الصَّدْرِ، أَيْ تُجْعَلُ أَمْوَالُهُمْ أَطْوَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُعَذَّبُونَ بِحَمْلِهَا، وَهَذَا
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ فِي أَمْثَالِهِمْ تَقَلَّدَهَا (أَيِ الْفِعْلَةَ الذَّمِيمَةَ) طَوْقَ الْحَمَامَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشَهَّرُونَ بِهَذِهِ الْمَذَمَّةِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، وَيَلْزَمُونَ عِقَابَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَذْيِيلٌ لِمَوْعِظَةِ الْبَاخِلِينَ وَغَيْرِهِمْ: بِأَنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ، وَمَا مِنْ
بَخِيلٍ إِلَّا سَيَذْهَبُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ
182
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللَّهُ، فَهُوَ يَرِثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَيْ يَسْتَمِرُّ مُلْكُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ زَوَالِ الْبَشَرِ كُلِّهِمُ الْمُنْتَفِعِينَ بِبَعْضِ ذَلِكَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَا فِي ضمنهما تَبَعًا لَهُمَا، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُ النَّاسُ مِنْ بُخْلٍ وَصَدَقَةٍ، فَالْآيَةُ مَوْعِظَةٌ وَوَعِيدٌ وَوَعْدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ قَوْله: خَبِيرٌ.
[١٨١، ١٨٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٨١ إِلَى ١٨٢]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
اسْتِئْنَافُ جُمْلَةِ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْبُخْلِ لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي مَعْرِضِ دَفْعِ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ آخِرَ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَائِلُ ذَلِكَ: قِيلَ هُوَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ، حَبْرُ الْيَهُودِ، لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: ٢٤٥] فَقَالَ حُيَيٌّ: إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ، وَقِيلَ: قَالَهُ فَنِحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى يَهُودِ قَيْنُقَاعَ يَدْعُوهُمْ، فَأَتَى بَيْتَ الْمِدْرَاسِ فَوَجَدَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى فنحَاص حَبْرهمْ، فَدَعَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فَنِحَاصُ: مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَاجَةٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمَا اسْتَقْرَضَنَا أَمْوَالَنَا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ وَلَطَمَ فَنِحَاصَ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَشَاعَ قَوْلُهُمَا فِي الْيَهُودِ.
وَقَوْلُهُ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ تَهْدِيدٌ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِبُطْلَانِ كَلَامِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِهَاتِهِ الْعِبَارَةِ بِدُونِ مُحَاشَاةٍ، وَلِأَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِالرَّسُولِ وَقُرْآنِهِ إِثْمٌ عَظِيمٌ وَكُفْرٌ عَلَى كُفْرٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ سَمِعَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّهْدِيدُ عَلَى كَلَامٍ فَاحِشٍ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
183
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ بَلْ لَازَمَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ إِمَّا كِتَابَتُهُ فِي صَحَائِفِ آثَامِهِمْ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُكْتَبَ فِي صَحَائِفِ الْحَسَنَاتِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ وُجُودَ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَمْرٌ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنَ الْكِتَابَةِ عَدَمُ الصَّفْحِ عَنْهُ وَلَا الْعَفْوُ بَلْ سَيُثْبَتُ لَهُمْ وَيُجَازُونَ عَنْهُ فَتَكُونُ الْكِتَابَةُ كِنَايَةً عَنِ الْمُحَاسَبَةِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَعِيدًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَهْدِيدًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مِنْ (سَنَكْتُبُ) وَبِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلَهُمُ) عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ (نَكْتُبُ) وَ (نَقُولُ) بِنُونٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: سَيُكْتَبُ- بِيَاءِ الْغَائِبِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْكِتَابَةِ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِرَفْعِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلُهُمُ) عَلَى أَنه نَائِب الْفَاعِل. (وَيَقُولُ) بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ.
وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ زِيَادَةٌ فِي مَذَمَّتِهِمْ بِذِكْرِ مَسَاوِي أَسْلَافِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ هُمْ غَيْرُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ بَلْ هُمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، فَذُكِرَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ الِاجْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَاتِّحَادُ الضَّمَائِرِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُعَادِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الْمَحَامِدِ وَالْمَذَامِّ الَّتِي تُنَاطُ بِالْقَبَائِلِ.
قَالَ الْحَجَّاجُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ يَوْمِ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ يُخَاطِبُ أَهْلَ الْعِرَاقِ: أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ أَضْمَرْتُمُ الشَّرَّ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَوْمُ الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ.. إِلَخْ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ مَاتَ وَمَنْ طَرَأَ بَعْدُ.
وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عُطِفَ أَثَرُ الْكُتُبِ عَلَى الْكُتُبِ أَيْ سَيُجَازَوْنَ عَنْ ذَلِكَ بِدُونِ صَفْحٍ، وَنَقُولُ ذُوقُوا وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ.
وَالذَّوْقُ حَقِيقَتُهُ إِدْرَاكُ الطُّعُومِ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ فَعَلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الذَّوْقَ فِي الْعُرْفِ يَسْتَتْبِعُ تَكَرُّرَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ لِأَنَّ الذَّوْقَ يَتْبَعُهُ الْأَكْلُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ «ذُوقُوا» اسْتِعَارَةً.
184
وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الذَّوْقِ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالشَّرِّ، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ لِلْعَذَابِ الْمُشَاهَدِ يَوْمَئِذٍ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ لِلْعَذَابِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لِعِظَمِ هَوْلِهِ مِمَّا يُتَسَاءَلُ عَنْ سَبَبِهِ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عَلَى مَجْرُورِ الْبَاءِ، لِيَكُونَ لِهَذَا الْعَذَابِ سَبَبَانِ: مَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ، وَعَدْلُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَوْجَبَ حُصُولَ الْعَذَابِ، وَعَدْلُ اللَّهِ أَوْجَبَ كَوْنَ هَذَا الْعَذَابِ فِي مِقْدَارِهِ الْمُشَاهَدِ مِنَ الشِّدَّةِ حتّى لَا يظنّوا أَنَّ فِي شِدَّتِهِ إِفْرَاطًا عَلَيْهِمْ فِي التعذيب.
[١٨٣، ١٨٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٨٣ إِلَى ١٨٤]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
أُبْدِلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمرَان: ١٨١] لِذِكْرِ قَوْلَةٍ أُخْرَى شَنِيعَةٍ مِنْهُمْ، وَهِيَ كَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِقُرْبَانٍ، أَيْ حَتَّى يَذْبَحَ قُرْبَانًا فَتَأْكُلَهُ نَارٌ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَتِلْكَ عَلَامَةُ الْقَبُولِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا حصل فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ذُبِحَ أَوَّلُ قُرْبَانٍ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ فَأَحْرَقَتْهُ. كَمَا فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ. إِلَّا أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَا تَطَّرِدُ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا زَعَمَهُ الْيَهُودُ لِأَنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ تَجِيءُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ تَصْدِيقَ الْأُمَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلَهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ.
185
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْجَدَلِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسْلِيمِ، أَيْ إِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ امْتِنَاعُكُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ انْتِظَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّكُمْ قَدْ كَذَّبْتُمُ الرُّسُل الَّذين جاؤوكم بِهَا وَقَتَلْتُمُوهُمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّسْلِيمَ يَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بهم، مثل زَكَرِيَّاء وَيَحْيَى وَأَشْعِيَاءَ وَأَرْمِيَاءَ، فَالْإِيمَانُ بِهِمْ أَوَّلَ الْأَمْرِ يسْتَلْزم أَنهم جاؤوا بِالْقُرْبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَقَتْلُهُمْ آخِرًا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ عَدَمَ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْيَهُودِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَأْتِيَ خَلَفُهُمْ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ سَلَفُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْعَهْدِ لَهُمْ بِذَلِكَ كَذِبٌ وَمَعَاذِيرُ بَاطِلَةٌ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَبِالَّذِي قُلْتُمْ عُدِلَ إِلَى الْمَوْصُولِ لِلِاخْتِصَارِ وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ لَهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً إِلَى قَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: ٧٧، ٨٠] أَيْ نَرِثُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ.
ثمَّ سلى الله نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ»
وَالْمَذْكُورُ بَعْدَ
الْفَاءِ دَلِيلُ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَلَا عَجَبَ أَو فَلَا تخزن لِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ مِثْلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِيمَا جِئْتَ بِهِ. والبيّنات: الدَّلَائِلُ عَلَى الصِّدْقِ، وَالزُّبُرُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلِ رَسُولٍ، أَيْ مَزْبُورٍ بِمَعْنَى مَخْطُوطٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ زَبَرَ إِذَا زَجَرَ أَوْ حَبَسَ لِأَنَّ الْكِتَابَ يُقْصَدُ لِلْحُكْمِ. وَأُرِيدَ بِالزُّبُرِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، مِمَّا يَتَضَمَّنُ مَوَاعِظَ وَتَذْكِيرًا مثل كتاب دَاوُود وَالْإِنْجِيلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ: إِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ فَهُوَ كُتُبُ الشَّرَائِعِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَهْدِ فَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَوَصْفُهُ بِالْمُنِيرِ مَجَازٌ بِمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِلْحَقِّ كَقَوْلِهِ:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤] وَالْعَطْفُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى التَّوْزِيعِ، فَبَعْضُ الرُّسُلِ جَاءَ بِالزُّبُرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، وَكُلُّهُمْ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ.
186
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالزُّبُرِ بِعَطْفِ الزُّبُرِ بِدُونِ إِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: وَبِالزُّبُرِ- بِإِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ- وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْكِتَابِ- بِدُونِ إِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ- وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ- وَبِالْكِتَابِ- بِإِعَادَةِ بَاءِ الْجَرِّ- وَهَذَا انْفَرَدَ بِهِ هِشَامٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كُتِبَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ مَصَاحِفِ الشَّامِ الْعَتِيقَةِ، وَلَيْسَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِهِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ شَاذَّةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي كُتِبَتْ بِإِثْبَاتِ الْبَاءِ فِي قَوْله:
وَبِالْكِتابِ [فاطر: ٢٥] كَانَتْ مُمْلَاةً مِنْ حُفَّاظِ هَذِهِ الرِّوَايَة الشاذّة.
[١٨٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
هَذِهِ الْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِأَصْلِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَفْنِيدُ الْمُنَافِقِينَ فِي مَزَاعِمِهِمْ أَنَّ النَّاسَ لَوِ اسْتَشَارُوهُمْ فِي الْقِتَالِ لَأَشَارُوا بِمَا فِيهِ سَلَامَتُهُمْ فَلَا يَهْلِكُوا، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَدْفَعُ تَوَهُّمَهُمْ أَنَّ الِانْهِزَامَ كَانَ خِذْلَانًا مِنَ اللَّهِ وَتَعَجُّبَهُمْ مِنْهُ كَيْفَ يَلْحَقُ قَوْمًا خَرَجُوا لِنَصْرِ الدِّينِ وَأَنْ لَا سَبَبَ لِلْهَزِيمَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ [آل عمرَان: ١٥٥] ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ فِي تِلْكَ الرَّزِيَّةِ فَوَائِدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ [آل عمرَان: ١٥٣] وَقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: ١٦٦]، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ فَقَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
فَبِإِذْنِ اللَّهِ
[آل عمرَان: ١٦٦] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ [آل عمرَان: ١٥٦] الْآيَةَ. وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ حَزِنُوا لَهُمْ إِنَّمَا هُمْ أَحْيَاءٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَا يُضَيِّعُ اللَّهُ أَجَرَهُمْ وَلَا فَضْلَ ثَبَاتِهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ سَلَامَةَ الْكُفَّارِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْزِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَنْ
187
تَسُرَّ الْكَافِرِينَ، وَأَبْطَلَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَقَالَ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [آل عمرَان: ١٥٤] وَبِقَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمرَان: ١٦٨] إِلَى قَوْله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: ١٦٨] خَتَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَا هُوَ جَامِعٌ لِلْغَرَضَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ وَالْحُزْنَ إِنَّمَا نَشَآ عَلَى مَوْتِ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنْ خِيرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي أَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ غَايَةَ كُلِّ حَيٍّ فَلَوْ لَمْ يَمُوتُوا الْيَوْمَ لَمَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَأْسَفُوا عَلَى مَوْتِ قَتْلَاكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَفْتِنْكُمُ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَصْرَ قَلْبٍ لِتَنْزِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى قَتْلَاهُمْ وَعَلَى هَزِيمَتِهِمْ، مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَتَرَقَّبُ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ، مَعَ أَنَّ نِهَايَةَ الْأَجْرِ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ أَيْ تُكْمَلُ لَكُمْ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ، بِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ أُجُورٌ عَظِيمَةٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَأْيِيدِهِمْ لِلدِّينِ: مِنْهَا النَّصْرُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِنْهَا كَفُّ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فِي أَيَّامِ مَقَامِهِمْ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ تَمَكَّنُوا مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَالذَّوْقُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى وِجْدَانِ الْمَوْتِ، تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمرَان: ١٨١] وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى حُصُولِ الْمَوْتِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدُّخان: ٥٦] وَيُقَالُ ذَاقَ طَعْمَ الْمَوْتِ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا. وَيُطْلِقُهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى مُطْلَقِ الْإِعْطَاءِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْأُجُورُ جَمْعُ الْأَجْرِ بِمَعْنَى الثَّوَابِ، وَوَجْهُ جَمْعِهِ مُرَاعَاةُ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ. وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْحَشْرِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ خُمُودِ الْمَوْتِ إِلَى نُهُوضِ الْحَيَاةِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ زُحْزِحَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ، وَمَعْنَى: زُحْزِحَ أُبْعِدَ. وَحَقِيقَةُ فِعْلِ زُحْزِحَ أَنَّهَا جَذْبٌ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مُضَاعَفُ زَحَّهُ عَنِ الْمَكَانِ إِذَا جَذَبَهُ بِعَجَلَةٍ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّ فِي الثَّانِي غُنْيَةً عَنِ
188
الْأَوَّلِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى نِعْمَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ.
وَمَعْنَى فَقَدْ فازَ نَالَ مُبْتَغَاهُ مِنَ الْخَيْرِ لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْفَوْزِ عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالزَّحْزَحَةِ عَنِ النَّارِ مَعْلُومٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ الشَّرْطِ إِلَّا لِهَذَا. وَالْعَرَبُ تَعْتَمِدُ فِي هَذَا عَلَى الْقَرَائِنِ، فَقَدْ يَكُونُ الْجَوَابُ عَيْنَ الشَّرْط لبَيَان التحقّق، نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَقَدْ يَكُونُ عَيَّنَهُ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَقَدْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى بُلُوغِ أَقْصَى غَايَاتِ نَوْعِ الْجَوَابِ وَالشَّرْطِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ، وَقَوْلِ الْعَرَبِ: «مَنْ أَدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّانِ فَقَدْ أَدْرَكَ» وَجَمِيعُ مَا قُرِّرَ فِي الْجَوَابِ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ وَنَحْوِهَا كَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣].
[١٨٦]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
اسْتِئْنَافٌ لِإِيقَاظِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَعْتَرِضُ أَهْلَ الْحَقِّ وَأَنْصَارَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَلْوَى، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُوهِنُهُمُ الْهَزِيمَةُ فَلَيْسُوا أَحْرِيَاءَ بِنَصْرِ الْحَقِّ، وَأَكَّدَ الْفِعْلَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ الِابْتِلَاءِ، إِذْ نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْكِيدِ مِنَ الْخَفِيفَةِ.
فَأَصْلُ لَتُبْلَوُنَّ لَتُبْلَوُونَنَّ فَلَمَّا تَوَالَى ثَلَاثُ نُونَاتٍ ثَقُلَ فِي النُّطْقِ فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ فَالْتَقَى سَاكِنَانِ: وَاوُ الرَّفْعِ وَنُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ، فَحُذِفَتْ وَاوُ الرَّفْعِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَصْلًا فِي الْكَلِمَةِ فَصَارَ لَتُبْلَوُنَّ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ وَفِي تَوْكِيدِهِ.
وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَيُرَادُ بِهِ هُنَا لَازِمَةٌ وَهُوَ الْمُصِيبَةُ، لِأَنَّ فِي الْمَصَائِبِ اخْتِبَارًا لِمِقْدَارِ الثَّبَاتِ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ هُوَ نَفَقَاتُ الْجِهَادِ، وَتَلَاشِي أَمْوَالِهِمُ الَّتِي تَرَكُوهَا بِمَكَّةَ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ هُوَ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ. وَجُمِعَ مَعَ ذَلِكَ سَمَاعُ الْمَكْرُوهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ وَبَعْدَهُ.
وَالْأَذَى هُوَ الضُّرُّ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: ١١١] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ هُنَا بِالْكَثِيرِ، أَيِ الْخَارِجِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي تَحْتَمِلُهُ النُّفُوسُ غَالِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْفَشَلِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمُ النَّصْرُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى أَيِ الدَّوَامِ عَلَى أُمُورِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى بَثِّهِ وَتَأْيِيدِهِ، فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى
الِابْتِلَاءِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فَيَشْمَلُ الْجِهَادَ، وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فَفِي وَقْتَيِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً عَدَمَ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ حَتَّى تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِآيَاتِ السَّيْفِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. قَالَهُ الْقَفَّالُ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى بِتَأْوِيلٍ: فَإِنَّ الْمَذْكُورَ.
وَ (عَزْمِ الْأُمُورِ) مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيِ الْأُمُورِ الْعَزْمِ، وَوَصَفَ الْأُمُورَ وَهُوَ جَمْعٌ بِعَزْمٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ أَصْلَ عَزْمٍ أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَيَلْزَمُ لَفْظُهُ حَالَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهَا. وَالْعَزْمُ إِمْضَاءُ الرَّأْيِ وَعَدَمُ التَّرَدُّدِ بَعْدَ تَبْيِينِ السَّدَادِ. قَالَ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان:
١٥٩] وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَزْمُ فِي الْخَيِّرَاتِ، قَالَ تَعَالَى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٣٥] وَقَالَ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥].
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا تَنَالُوا ثَوَابَ أَهْلِ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عزم الْأُمُور.
[١٨٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
190
(١٨٧)
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمرَان: ١٨٦] فَإِنَّ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّ الطَّعْنَ فِي كَلَامِهِ وَأَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمرَان: ١٨١]. وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى أَخْذِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَة: ٣٤] وَنَحْوِهِ.
والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هُمُ الْيَهُودُ، وَهَذَا الْمِيثَاقُ أُخِذَ عَلَى سَلَفِهِمْ مِنْ عَهْدِ رَسُولِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ لِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِمْ فِي سَائِرِ أَجْيَالِهِمْ إِلَى أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ.
وَجُمْلَةُ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ بَيَانٌ لِلْمِيثَاقِ، فَهِيَ حِكَايَةُ الْيَمِينِ حِينَ اقْتُرِحَتْ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ بِصِيغَةِ خِطَابِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ كَمَا قَرَأَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: لَيُبَيِّنُنَّهُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى طَرِيقَةِ الْحِكَايَةِ بِالْمَعْنَى، حَيْثُ
كَانَ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَهْدَ غَائِبِينَ فِي وَقَتِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ. وَلِلْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وُجُوهٌ: بِاعْتِبَارِ كَلَامِ الْحَاكِي، وَكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ وَجْهَانِ كَالْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ فِي نَحْوِ: أَقْسَمَ زَيْدٌ لَا يَفْعَلُ كَذَا، وَأُقْسِمُ لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: ٤٩] قرىء- بِالنُّونِ وَالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- لَنُبَيِّتَنَّهُ لَتُبَيِّتَنَّهُ لَيُبَيِّتَنَّهُ، إِذَا جُعِلَ تَقَاسَمُوا فِعْلًا مَاضِيًا فَإِذَا جُعِلَ أَمْرًا جَازَ وَجْهَانِ: فِي لَنُبَيِّتَنَّهُ النُّونُ وَالتَّاءُ الْفَوْقِيَّةُ. وَالْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ وَإِعْرَابِ لَتُبَيِّنُنَّهُ كَالْقَوْلِ فِي لَتُبْلَوُنَّ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا.
وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بأمرين: هما بَيَان الْكِتَابُ أَيْ عَدَمُ إِجْمَالِ مَعَانِيهِ أَوْ تَحْرِيفِ تَأْوِيلِهِ، وَعَدَمُ كِتْمَانِهِ أَيْ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَلا تَكْتُمُونَهُ عَطْفٌ عَلَى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يُقْرَنْ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهَا لَا تُقَارِنُ الْفِعْلَ الْمَنْفِيَّ لِتَنَافِي مُقْتَضَاهُمَا.
وَقَوْلُهُ: فَنَبَذُوهُ عُطِفَ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُسَارَعَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَالَّذِينَ نَبَذُوهُ هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ فِي عُصُورِهِمُ الْأَخِيرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ عَهْدِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي بَيْنَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ نَبْذِهِمْ إِيَّاهُ مَنْظُورٌ
191
فِيهِ إِلَى مُبَادَرَتِهِمْ بِالنَّبْذِ عَقِبَ الْوَقْتِ الَّذِي تحقّق فِيهِ أثر أَخْذُ الْمِيثَاقِ، وَهُوَ وَقْتُ تَأَهُّلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ لِتَبْيِينِ الْكِتَابِ وَإِعْلَانِهِ فَهُوَ إِذَا أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى فَهْمِ الْكِتَابِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَعَانِيهِ بَادَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ الْمَقْدِرَةَ وَسِيلَةً لِسُوءِ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْكِتْمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مُسْتَعْمَلَةً فِي لَازِمِ التَّعْقِيبِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْمُسَارَعَةِ لِذَلِكَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْحَالِ إِيَّاهُ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ وَصَرْفِ الْفِكْرَةِ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْقِيبُ بِحَسَبِ الْحَوَادِث الَّتِي أساؤوا فِيهَا التَّأْوِيلَ وَاشْتَرَوْا بِهَا الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، لِأَنَّ الْمِيثَاقَ لَمَّا كَانَ عَامًّا كَانَتْ كُلُّ جُزْئِيَّةٍ مَأْخُوذًا عَلَيْهَا الْمِيثَاقُ، فَالْجُزْئِيَّةُ الَّتِي لَمْ يَعْمَلُوا فِيهَا بِالْمِيثَاقِ يَكُونُ فِيهَا تَعْقِيبُ مِيثَاقِهَا بِالنَّبْذِ وَالِاشْتِرَاءِ.
وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالْعَهْدِ تَشْبِيهًا لِلْعَهْدِ بِالشَّيْءِ الْمَنْبُوذِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
وَوَرَاءُ الظُّهُورِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلْإِضَاعَةِ وَالْإِهْمَالِ، لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الْمُهْتَمِّ بِهِ الْمُتَنَافَسِ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ نُصْبَ الْعَيْنِ وَيُحْرَسَ وَيُشَاهَدَ. قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨]. وَشَأْنُ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ عَنْهُ أَنْ يُسْتَدْبَرَ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا التَّمْثِيلِ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ النَّبْذِ لِإِخْلَافِ الْعَهْدِ.
وَالضَّمِيرَانِ: الْمَنْصُوبُ وَالْمَجْرُورُ، يَجُوزُ عَوْدُهُمَا إِلَى الْمِيثَاقِ أَيِ اسْتَخَفُّوا بِعَهْدِ اللَّهِ
وَعَوَّضُوهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ أَهْمَلُوا مَا وَاثَقُوا عَلَيْهِ مِنْ تَبْيِينِ الْكِتَابِ وَعَدَمُ كِتْمَانِهِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُمَا إِلَى الْكِتَابِ أَيْ أَهْمَلُوا الْكِتَابَ وَلَمْ يَعْتَنُوا بِهِ، وَالْمُرَادُ إِهْمَالُ أَحْكَامِهِ وَتَعْوِيضُ إِقَامَتِهَا بِنَفْعٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَوْعَيِ الْإِهْمَالِ، وَهُمَا إِهْمَالُ آيَاتِهِ وَإِهْمَالُ مَعَانِيهِ.
وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمُبَادَلَةِ وَالثَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرُّشَى وَالْجَوَائِزِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالظُّلْمِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْعَامَّةِ عَلَى تَأْيِيدِ الْمَظَالِمِ وَالْمَفَاسِدِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَتَأْوِيلُ كُلِّ حُكْمٍ فِيهِ ضَرْبٌ عَلَى أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ وَالظَّلَمَةِ بِمَا يُطْلِقُ أَيْدِيَهُمْ فِي ظُلْمِ الرَّعِيَّةِ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَتَحْذِيرَاتِ الَّذِينَ يَصْدَعُونَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكِرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ
192
الْكِتَابِ إِلَّا أَنَّ حُكْمَهَا يَشْمَلُ مَنْ يَرْتَكِبُ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْحُكْمِ والعلّة فِيهِ.
[١٨٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٨]
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
تَكْمِلَةٌ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِبَيَانِ حَالَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اخْتِلَالَ أَمَانَتِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ، وَهَذَا ضَرْبٌ آخَرُ جَاءَ بِهِ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى ذِكْرِ صِلَتِهِ الْعَجِيبَةِ مِنْ حَالِ مَنْ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَالْخِسَّةَ ثُمَّ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الِانْكِسَارِ لِمَا فَعَلَ أَوْ تَطَلُّبِ السِّتْرِ عَلَى شَنْعَتِهِ، بَلْ يَرْتَقِي فَيَتَرَقَّبُ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَى سُوءِ صُنْعِهِ، وَيَتَطَلَّبُ الْمَحْمَدَةَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَوْصُولُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُعَرَّفِ بلام الْعَهْد لأنّ أُرِيدَ بِهِ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، فَمَعْنَى يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُوا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ نَبْذُ الْكِتَابِ وَالِاشْتِرَاءُ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا وإنّما فَرَحهمْ بِمَا نَالُوا بِفِعْلِهِمْ مِنْ نَفْعٍ فِي الدُّنْيَا.
وَمَعْنَى: يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ حَفَظَةُ الشَّرِيعَةِ وَحُرَّاسُهَا وَالْعَالِمُونَ بِتَأْوِيلِهَا، وَذَلِكَ خِلَافُ الْوَاقِعِ. هَذَا ظَاهِرُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَتَوْا إِضْلَالَ أَتْبَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَبُّوا الْحَمْدَ بِأَنَّهُمْ عُلَمَاءٌ بِكُتُبِ الدِّينِ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ»، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَن الْغَزْو ويعتذرون بِالْمَعَاذِيرِ، فَيَقْبَلُ مِنْهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّ لَهُمْ نِيَّةَ
الْمُجَاهِدِينَ، وَلَيْسَ الْمَوْصُولُ بِمَعْنَى لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِبَوَّابِهِ: «اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
193
فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «وَمَا لَكَمَ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ» - ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمرَان: ١٨٧] حَتَّى قَوْله: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [آل عمرَان:
١٨٨] الْآيَةَ.
وَالْمَفَازَةُ: مَكَانُ الْفَوْزِ. وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي مَنْ يحلّه يفوز بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَدُوِّ سُمِّيَتِ الْبَيْدَاءُ الْوَاسِعَةُ مَفَازَةً لِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ فِيهَا يَفُوزُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَطَلَبَةِ الْوَتَرِ عِنْدَهُ وَكَانُوا يَتَطَلَّبُونَ الْإِقَامَةَ فِيهَا. قَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ أَضَعُ الْبَيْتَ فِي صَمَّاءَ مُظْلِمَةٍ تُقَيِّدُ الْعِيرَ لَا يَسْرِي بِهَا السَّارِي
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ
وَلَمَّا كَانَتِ الْمَفَازَةُ مُجْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْفَوْزِ الْحَاصِلِ فِيهَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْعَذابِ. وَحَرْفُ (مِنْ) مَعْنَاهُ الْبَدَلِيَّةُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: ٧]، أَوْ بِمَعْنَى (عَنْ) بِتَضْمِينِ مَفَازَةٍ مَعْنَى مَنْجَاةٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامر، وَأَبُو عمور، وَأَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ- بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-.
وأمّا سِينُ (تَحْسَبَنَّ) فَقَرَأَهَا- بِالْكَسْرِ- نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ. وَقَرَأَهَا- بِالْفَتْحِ- الْبَاقُونَ.
وَقَدْ جَاءَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ عَلَى نَظْمٍ بَدِيعٍ إِذْ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ الْحُسْبَانِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَفْعُولُ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ إِلَخْ أَنْفُسَهُمْ. وَأُعِيدَ فِعْلُ الْحُسْبَانِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمرَان: ١٨٨] مُسْنَدًا إِلَى الْمُخَاطَبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ بِالْفَاءِ وَأُتِيَ بَعْدَهُ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي: وَهُوَ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: ١٨٨] فَتَنَازَعَهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: لَا تَحْسَبَنَّ
194
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمرَان: ١٨٨]- بِتَاءِ الْخِطَابِ- يَكُونُ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ اعْتِرَاضًا بِالْفَاءِ أَيْضًا وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا فِي حَذْفِ
الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ الْحُسْبَانِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْفَائِدَةِ، مِنْ تَشْوِيقِ السَّامِعِ إِلَى سَمَاعِ الْمَنْهِيِّ عَنْ حُسْبَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلَا تَحْسِبَنَّهُمْ:- بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِخِطَابِ الْوَاحِدِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- عَلَى أَنَّهُ لِخِطَابِ الْجَمْعِ، وَحَيْثُ إنّهما قرءا أَوَّلَهُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- فَضَمُّ الْبَاءِ- يَجْعَلُ فَاعِلَ (يَحْسَبَنَّ) وَمَفْعُولَهُ مُتَّحِدَيْنِ أَيْ لَا يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَاتِّحَادُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لِلْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الظَّنِّ كَمَا هُنَا وَأُلْحِقَتْ بِهَا أَفْعَالٌ قَلِيلَةٌ، وَهِي: (وجد) و (عدم) و (فقد).
وَأَمَّا سِينُ «تَحْسَبَنَّهُمْ» فَالْقِرَاءَاتُ مُمَاثِلَةٌ لِمَا فِي سين يَحسبن.
[١٨٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٩]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
تَذْيِيلٌ بِوَعِيدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَكْتُمُونَ من خلائقهم.
[١٩٠- ١٩٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٩٠ إِلَى ١٩٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ
195
(١٩٤)
هَذَا غَرَضٌ أُنُفٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَتَابَعَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، انْتُقِلَ بِهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقْصِدِ وَالْمُتَخَلِّلَاتِ بِالْمُنَاسَبَاتِ، إِلَى غَرَضٍ جَدِيدٍ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا وَالتَّنْوِيهُ بِالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ آيَاتٍ.
وَمِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ يَكُونُ إِيذَانًا بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ عَلَى أَغْرَاضِ السُّورَةِ، عَلَى تَفَنُّنِهَا، فَقَدْ كَانَ التَّنَقُّلُ فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ إِلَى مُشَاكِلِهِ وَقَدْ وَقَعَ الِانْتِقَالُ الْآنَ إِلَى غَرَضٍ عَامٍّ: وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الِاتِّعَاظِ بِذَلِكَ، وَهَذَا النَّحْوُ فِي الِانْتِقَالِ يَعْرِضُ لِلْخَطِيبِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَغْرَاضِهِ عَقِبَ إِيفَائِهَا حَقَّهَا إِلَى غَرَضٍ آخَرَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَشَأْنُ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ بِالْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ أَغْرَاضِ الرِّسَالَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي خِتَامِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِ خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هُنَا: إِمَّا آثَارُ خَلْقِهَا، وَهُوَ النِّظَامُ الَّذِي جُعِلَ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١]. وَأولُوا الْأَلْبَابِ أَهْلُ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ لبّ الشَّيْء هُوَ خُلَاصَتُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [الْبَقَرَة: ١٦٤] إِلَخْ.
ويَذْكُرُونَ اللَّهَ إِمَّا مِنَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ وَإِمَّا مِنَ الذِّكْرِ القلبي وَهُوَ التفكّر، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ عُمُومَ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَهُ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَقَوْلِهِمْ: اشْتَهَرَ كَذَا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ هِيَ مُتَعَارَفُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي السَّلَامَةِ، أَيْ أَحْوَالِ الشُّغْلِ وَالرَّاحَةِ وَقَصْدِ النَّوْمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَحْوَالَ الْمُصَلِّينَ:
مِنْ قَادِرٍ، وَعَاجِزٍ، وَشَدِيدِ الْعَجْزِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَطْفٌ مُرَادِفٌ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِيمَا سبق التفكّر، وَإِعَادَتَهُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمُتَفَكَّرِ فِيهِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ مُغَايِرٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ ذكر اللِّسَان. والتفكّر عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ
196
شَأْنُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ:
كَانَ أَكْثَرَ شَأْنِهِ التَّفَكُّرُ، قِيلَ لَهُ: أَتَرَى التَّفَكُّرَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ.
وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى كَيْفِيَّةِ أَثَرِ الْخَلْقِ، أَوِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَالْإِضَافَةُ إِمَّا عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى (فِي).
وَقَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ: أَيْ يَتَفَكَّرُونَ قَائِلِينَ: رَبَّنَا إِلَخْ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أُرِيدَ بِهِ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الدُّعَاءِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيفَ تواطأ الْجمع مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ عَلَى قَوْلِ هَذَا التَّنْزِيهِ وَالدُّعَاء عِنْد التفكّر مَعَ اخْتِلَافِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَأَثُّرِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا يُلَازِمُونَهُ عِنْدَ التَّفَكُّرِ وَعَقِبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ فَصَارَ هَجِّيرَاهُمْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا [الْبَقَرَة: ٢٨٥] الْآيَاتِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ
حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ»
إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا حِكَايَةً لِتَفَكُّرِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ، فَهُوَ كَلَامُ النَّفْسِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُتَفَكِّرِينَ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي صِحَّةِ التَّفَكُّرِ لِأَنَّهُ تَنَقَّلَ مِنْ مَعْنًى إِلَى مُتَفَرِّعٍ عَنْهُ، وَقَدِ اسْتَوَى أُولُو الْأَلْبَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ هُنَا فِي إِدْرَاكِ هَذِهِ الْمعَانِي، فأوّل التفكّر أَنْتَجَ لَهُمْ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تُخْلَقْ بَاطِلًا، ثُمَّ تَفَرَّعَ عَنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَسُؤَالِهِ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي الْمَخْلُوقَاتِ طَائِعًا وَعَاصِيًا، فَعَلِمُوا أَنَّ وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، فَاسْتَعَاذُوا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَتَوَسَّلُوا إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا غَايَةَ مَقْدُورِهِمْ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ إِذِ اسْتَجَابُوا لِمُنَادِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَأَلُوا غُفْرَانَ الذُّنُوبِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْمَوْتَ عَلَى الْبِرِّ إِلَى آخِرِهِ... فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ يَخْلُو مِنْ هَذِهِ التَّفَكُّرَاتِ وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَشَاعَتْ بَيْنَهُمُ، اهْتَدَى لِهَذَا التَّفْكِيرِ مَنْ لَمْ يَكُنِ انْتَبَهَ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَصَارَ شَائِعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ.
197
وَمَعْنَى مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا، أَوْ مَا خَلَقْتَ هَذَا فِي حَالِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَهِيَ حَالٌ لَازِمَةُ الذِّكْرِ فِي النَّفْيِ وَإِنْ كَانَتْ فَضْلَةً فِي الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: ٣٨] فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ عَقَائِدِ مَنْ يُفْضِي اعْتِقَادُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ بَاطِلٌ أَوْ خُلِّيَ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَالْعَرَبُ تَبْنِي صِيغَةَ النَّفْيِ عَلَى اعْتِبَارِ سَبْقِ الْإِثْبَاتِ كَثِيرًا.
وَجِيءَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ لِأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ حَقٌّ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ أَنْ لَا يَسْتَوِيَ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، فَعَلِمُوا أَنَّ لِكُلٍّ مُسْتَقَرًّا مُنَاسِبًا فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الْمُجَنَّبِينَ عَذَابَ النَّارِ.
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مَسُوقٌ مَسَاقُ التَّعْلِيلِ لِسُؤَالِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّار، كَمَا توذن بِهِ (إِنَّ) الْمُسْتَعْمَلَةُ لِإِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَقَامَ لِلتَّأْكِيدِ هُنَا. وَالْخِزْيُ مَصْدَرُ خَزِيَ يَخْزَى بِمَعْنَى ذَلَّ وَهَانَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ، وَأَخْزَاهُ أذلّه على رُؤُوس الْأَشْهَادِ، وَوَجْهُ تَعْلِيلِ طَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ بِأَنَّ دُخُولَهَا خِزْيٌ بَعْدَ الْإِشَارَة إِلَى مُوجب ذَلِكَ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِمْ: عَذابَ النَّارِ أَنَّ النَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِيهَا قَهْرٌ لِلْمُعَذَّبِ وَإِهَانَةٌ عَلَنِيَّةٌ، وَذَلِكَ مَعْنًى مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [بالشعراء: ٨٧] وَذَلِكَ لِظُهُورِ وَجْهِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ مَنْ يَدْخُلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. وَالْخِزْيُ لَا تُطِيقُهُ الْأَنْفُسُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ تَأَوَّلُوهُ عَلَى مَعْنَى فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ
خِزْيًا عَظِيمًا. وَنَظَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِ رُعَاةِ الْعَرَبِ: «مَنْ أَدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّانِ فَقَدْ أَدْرَكَ» أَيْ فَقَدْ أدْرك مرعى مخصبا لِئَلَّا يَكُونَ مَعْنَى الْجَزَاءِ ضَرُورِيَّ الْحُصُولِ مِنَ الشَّرْطِ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّهُ يُخَلِّي الْكَلَامَ عَنِ الْفَائِدَةِ حِينَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمرَان: ١٨٥].
وَلِأَجْلِ هَذَا أَعْقَبُوهُ بِمَا فِي الطِّبَاعِ التَّفَادِي بِهِ عَنِ الْخِزْيِ وَالْمَذَلَّةِ بِالْهَرَعِ إِلَى أَحْلَافِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، فَعَلِمُوا أَنْ لَا نَصِيرَ فِي الْآخِرَةِ لِلظَّالِمِ فَزَادُوا بِذَلِكَ
198
تَأْكِيدًا لِلْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِذْ قَالُوا: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أَيْ لأهل النَّار من أَنْصَارٌ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْخِزْيَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً أَرَادُوا بِهِ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُنَادِي، الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْكَلَامِ. وَالنِّدَاءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ رَفْعًا قَوِيًّا لِأَجْلِ الْإِسْمَاعِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النِّدَاءِ- بِكَسْرِ النُّونِ وَبِضَمِّهَا- وَهُوَ الصَّوْتُ الْمُرْتَفِعُ. يُقَالُ: هُوَ أَنْدَى صَوْتًا أَيْ أَرْفَعُ، فَأَصْلُ النِّدَاءِ الْجَهْرُ بِالصَّوْتِ وَالصِّيَاحُ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ دُعَاءُ الشَّخْصِ شَخْصًا لِيُقْبِلَ إِلَيْهِ نِدَاءً، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْفَعَ الصَّوْتَ بِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ حُرُوفًا مَمْدُودَةً مِثْلَ (يَا) وَ (آ) وَ (أَيَا) وَ (هَيَا). وَمِنْهُ سُمِّي الْأَذَانُ نِدَاءً، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِسْمَاعِ وَالدَّعْوَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَفْعُ صَوْتٍ، وَيُطْلَقُ النِّدَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْفَهْمِ بِحُرُوفٍ مَعْلُومَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [فصلت: ١٠٤، ١٠٥] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ هُنَا لِأَنَّ النَّبِيءَ يَدْعُو النَّاسَ بِنَحْوِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَيَا بَنِي فُلَانٍ وَيَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ مَعَانِي النِّدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٣]. وَاللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
وَ (أَنْ) فِي أَنْ آمِنُوا تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي فِعْلِ (يُنَادِي) مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَجَاءُوا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي (فَآمَنَّا) : لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالسَّبْقِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَقَدْ تَوَسَّمُوا أَنْ تَكُونَ مُبَادَرَتُهُمْ لِإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مَشْكُورَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ فَرَّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَذَلُوا كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ مِنَ اتِّبَاعِ الدِّينِ كَانُوا حَقِيقِينَ بِتَرَجِّي الْمَغْفِرَةِ.
وَالْغَفْرُ وَالتَّكْفِيرُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَادَّةِ الْمُشْتَقَّيْنِ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ الْغَفْرُ وَالْغُفْرَانُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ وَالتَّكْفِيرِ فِي تَعْوِيضِ الذَّنْبِ بِعِوَضٍ، فَكَأَنَّ الْعِوَضَ كَفَّرَ الذَّنْبَ أَيْ سَتَرَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ. وَكَفَّارَةُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالذُّنُوبِ
مَا كَانَ قَاصِرًا عَلَى ذَوَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ طَلَبُوا مَغْفِرَتَهُ،
199
وَأَرَادُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا كَانَ فِيهِ حَقُّ النَّاسِ، فَلِذَلِكَ سَأَلُوا تَكْفِيرَهَا عَنْهُمْ. وَقِيلَ هُوَ مُجَرَّدُ تَأْكِيدٍ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقِيلَ أَرَادُوا مِنَ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرَ وَمِنَ السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرَ لِأَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ أَدَلُّ عَلَى الْإِثْمِ مِنَ السَّيِّئَةِ.
وَسَأَلُوا الْوَفَاةَ مَعَ الْأَبْرَارِ، أَيْ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى حَالَةِ الْبِرِّ، بِأَنْ يُلَازِمَهُمُ الْبِرُّ إِلَى الْمَمَاتِ وَأَنْ لَا يَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، فَإِذَا مَاتُوا كَذَلِكَ مَاتُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَبْرَارِ. فَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُشَارَكَةُ فِي الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ، وَالْمَعِيَّةُ مَعَ الْأَبْرَارِ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالدَّلَالَةِ، لِأَنَّهُ بِرٌّ يُرْجَى دَوَامُهُ وَتَزَايُدُهُ لِكَوْنِ صَاحِبِهِ ضِمْنُ جَمْعٍ يَزِيدُونَهُ إِقْبَالًا عَلَى الْبِرِّ بِلِسَانِ الْمَقَالِ وَلِسَانِ الْحَالِ.
ولمّا سَأَلُوا أَسبَاب الْمَثُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَرَقَّوْا فِي السُّؤَالِ إِلَى طَلَبِ تَحْقِيقِ الْمَثُوبَةِ، فَقَالُوا: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.
وَتَحْتَمِلُ كَلِمَةُ (عَلَى) أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْوَعْدِ، وَمَعْنَاهَا التَّعْلِيلُ فَيَكُونُ الرُّسُلُ هُمُ الْمَوْعُودُ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى الْوَعْدِ عَلَى الرُّسُلِ أَنَّهُ وَعْدٌ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ (عَلَى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا، أَيْ وَعْدًا كَائِنًا عَلَى رُسُلِكَ أَيْ، مُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ، وَمُتَعَلِّقُ الْجَارِّ فِي مِثْلِهِ كَوْنٌ غَيْرُ عَامٍّ بَلْ هُوَ كَوْنٌ خَاصٌّ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ، وَمَعْنَى (عَلَى) حِينَئِذٍ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ، أَوْ تُجْعَلُ (عَلَى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ مَا وَعَدْتَنا أَيْضًا، بِتَقْدِيرِ كَوْنٍ عَامٍّ لَكِنْ مَعَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَى رُسُلِكَ، أَيْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ.
وَالْمَوْعُودُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ أَوْ عَلَى التَّصْدِيقِ بِهِمُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَثَوَابُ الدُّنْيَا: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمرَان: ١٤٨] وَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّور:
٥٥] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥]. وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: عَلى رُسُلِكَ خُصُوصُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفُ «رُسُلٍ» تَعْظِيمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إِبْرَاهِيم: ٤٧]. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: ٣٧].
200
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ وَبِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَمَا فَائِدَةُ سُؤَالِهِمْ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِمْ؟ قُلْتُ: لَهُ وُجُوه: أَحدهَا: أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ لِيَكُونَ حُصُولُهُ أَمَارَةً
عَلَى حُصُولِ قَبُولِ الْأَعْمَالِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِمَا سَأَلُوهُ فَقَدْ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ آتِينَ بِمَا يُبَلِّغُهُمْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ وَيَخْشَوْنَ لَعَلَّهُمْ قَدْ خَلَطُوا أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ بِمَا يُبْطِلُهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَجِيءِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا دُونَ الْفَاءِ إِذْ جَعَلُوهُ دَعْوَةً مُسْتَقِلَّةً لِتَتَحَقَّقَ وَيَتَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَلَمْ يَجْعَلُوهَا نَتِيجَةَ فِعْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُصُولِهِ. وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمرَان: ١٩٥] مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا هُنَا عَدَمَ إِضَاعَةِ أَعْمَالِهِمْ.
الثَّانِي: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَرَادُوا طَلَبَ التَّوْفِيقِ إِلَى أَسْبَابِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ. فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ مِنَ التَّوْفِيقِ لِلْأَعْمَالِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهَا.
الثَّالِثُ: قَالَ فِيهِ مَا حَاصِلُهُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ حَتَّى لَا يَظْهَرُوا بِمَظْهَرِ الْمُسْتَحِقِّ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَذَلُّلًا، أَيْ كَسُؤَالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمَغْفِرَةَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ.
الرَّابِعُ: أَجَابَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفرق (٢٧٣) بأنّهم سَأَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَهُ مَشْرُوطٌ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا قَبْلَهُ قَوْلَهُمْ: وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ لَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَأَعَادُوا سُؤَالَ النَّجَاةِ مِنْ خِزْيِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَوْعُودَ الَّذِي سَأَلُوهُ هُوَ النَّصْرَ عَلَى الْعَدُوِّ خَاصَّةً، فَالدُّعَاءُ بِقَوْلِهِمْ:
وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَعْجِيلُ ذَلِكَ لَهُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ إِذَا دَعَا بِهَذَا فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يَرَى مِصْدَاقَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِ خَبَّابِ بن الْأَرَتِّ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيءِ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا، وَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا بُرْدَةً» إِلَخْ.
201
وَقَدِ ابتدأوا دُعَاءَهُمْ وَخَلَّلُوهُ بِنِدَائِهِ تَعَالَى: خمس مَرَّات إِظْهَار لِلْحَاجَةِ إِلَى إِقْبَالِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فَقَالَ: يَا رَبِّ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِمَّا يَخَافُ وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ»
، واقرأوا: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.
[١٩٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٩٥]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُنَاجَاةَ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الدُّعَاءِ قَابِلٌ لِلْإِجَابَةِ.
وَ (اسْتَجَابَ) بِمَعْنَى أَجَابَ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ، مِثْلَ:
اسْتَوْقَدَ وَاسْتَخْلَصَ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ، وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبَعِيِّ: أَنَّ اسْتَجَابَ أَخَصُّ مِنْ أَجَابَ لِأَنَّ اسْتَجَابَ يُقَالُ لِمَنْ قَبِلَ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَأَجَابَ أَعَمُّ، فَيُقَالُ لِمَنْ أَجَابَ بِالْقَبُولِ وَبِالرَّدِّ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاسْتِجَابَةُ هِيَ التَّحَرِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ، لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِجَابَةِ لِقِلَّةِ انْفِكَاكِهَا مِنْهَا. وَيُقَالُ: اسْتَجَابَ لَهُ وَاسْتَجَابَهُ، فَعُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِاللَّامِ، كَمَا قَالُوا: حَمِدَ لَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ أَيْضًا مِثْلُهُمَا. قَالَ كَعْبُ بْنُ سَعْدٍ الْغَنَوِيُّ، يَرْثِي قَرِيبًا لَهُ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وَتَعْبِيرُهُمْ فِي دُعَائِهِمْ بِوَصْفِ رَبَّنا دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ بِالْمَرْبُوبِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُ، وَمِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَلِتَتَأَتَّى الْإِضَافَةُ الْمُفِيدَةُ التَّشْرِيفَ وَالْقُرْبَ، وَلِرَدِّ حُسْنِ دُعَائِهِمْ بِمِثْلِهِ بِقَوْلِهِمْ: «رَبَّنَا، رَبَّنَا».
202
وَمَعْنَى نَفْيِ إِضَاعَةِ عَمَلِهِمْ نَفْيُ إِلْغَاءِ الْجَزَاءِ عَنْهُ: جَعْلُهُ كَالضَّائِعِ غَيْرِ الْحَاصِلِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ.
فَنَفْيُ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ وَعْدٌ بِالِاعْتِدَادِ بِعَمَلِهِمْ وَحُسْبَانِهِ لَهُمْ، فَقَدْ تَضَمَّنَتِ الِاسْتِجَابَةُ تَحْقِيقَ عَدَمِ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ مِنْ وَجَلِ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمرَان: ١٩٤] تَحْقِيقَ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْحَبَطِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَيَانٌ لِعَامِلٍ وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ هُنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَتَوْا بِهَا أَكْبَرُهَا الْإِيمَانُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ أَكْثَرَ تَكَرُّرًا خِيفَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَا حَظَّ لَهُنَّ فِي تَحْقِيقِ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَدَفَعَ هَذَا بِأَنَّ لِلنِّسَاءِ حَظَّهُنَّ فِي ذَلِكَ فَهُنَّ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ يُسَاوِينَ الرِّجَالَ، وَهُنَّ لَهُنَّ حَظُّهُنَّ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ لِأَنَّهُنَّ يَقُمْنَ عَلَى الْمَرْضَى وَيُدَاوِينَ الْكَلْمَى، وَيَسْقِينَ
الْجَيْشَ، وَذَلِكَ عَمَلٌ عَظِيمٌ بِهِ اسْتِبْقَاءُ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ لَا يُقْصَرُ عَنِ الْقِتَالِ الَّذِي بِهِ إِتْلَافُ نُفُوسِ عَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (مِنْ) فِيهِ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ بَعْضُ الْمُسْتَجَابِ لَهُمْ مُتَّصِلٌ بِبَعْضٍ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ بِمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ وَاحِدٌ وَأَمْرَهُمْ سَوَاءٌ. قَالَ تَعَالَى:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ [التَّوْبَة: ٦٧] إِلَخْ... وَقَوْلُهُمْ: هُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَفِي عَكْسِهِ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَدْ حَمَلَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ نِسَاءَكُمْ وَرِجَالَكُمْ يَجْمَعُهُمْ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أَيْ لِأَنَّ شَأْنَكُمْ وَاحِدٌ، وَكُلٌّ قَائِمٌ بِمَا لَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَضَاعَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا سَوَاءً فِي تَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: ٣٢].
203
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ لَيْسَ هَذَا تَعْلِيلًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِلتَّسَاوِي فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ أَنْتُمْ فِي عِنَايَتِي بِأَعْمَالِكُمْ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَضَاءٌ لِحَقِّ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُتَسَاوِينَ فِيهَا، لِيَكُونَ تَمْهِيدًا لِبِسَاطِ تَمْيِيزِ الْمُهَاجِرِينَ بِفَضْلِ الْهِجْرَةِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا، الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْخَاصِّ، وَاشْتَمَلَ عَلَى بَيَانِ مَا تَفَاضَلُوا فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْهِجْرَةُ الَّتِي فَازَ بِهَا الْمُهَاجِرُونَ.
وَالْمُهَاجَرَةُ: هِيَ تَرْكُ الْمَوْطِنِ بِقَصْدِ اسْتِيطَانِ غَيْرِهِ، وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهَا لِلتَّقْوِيَةِ كَأَنَّهُ هَجَرَ قَوْمَهُ وَهَجَرُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْرِصُوا عَلَى بَقَائِهِ، وَهَذَا أَصْلُ الْمُهَاجَرَةِ أَنْ تَكُونَ لِمُنَافَرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ تَصْدُقُ بِهِجْرَةِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَبِهِجْرَةِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عَلَى هاجَرُوا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي هَاجَرَ أَيْ هَاجَرُوا مُهَاجِرَةً لَزَّهُمْ إِلَيْهَا قَوْمُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِخْرَاجُ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ أَمْ بِالْإِلْجَاءِ، مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَقَدْ هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ الْهِجْرَةَ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَة لما
لَا قوه مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِجْرَتَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، لِمَا لَاقَوْهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَا يُوجَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ، وَكَيْفَ وَاخْتِفَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَدُلُّ عَلَى حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صَدِّهِ عَنِ الْخُرُوجِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ كَعْبٍ:
فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
أَيْ قَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْرُجُوا مِنْ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِمَّا فِيهِ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ الْإِلْجَاءُ إِلَى الْخُرُوجِ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَرَقَةَ ابْن نَوْفَلٍ:
«يَا لَيْتَنِي أَكُونُ مَعَكَ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ»،
وَقَوْلُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «أَو مخرجيّ هُمْ؟ فَقَالَ: مَا جَاءَ نَبِيءٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ
204
بِهِ إِلَّا عُودِيَ»
. وَقَوْلُهُ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ أَصَابَهُمُ الْأَذَى وَهُوَ مَكْرُوهٌ قَلِيلٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَصَابَهُمُ الضُّرُّ أَوْلَى بِالثَّوَابِ وَأَوْفَى.
وَهَذِهِ حَالَةٌ تَصْدُقُ بِالَّذِينَ أُوذُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا.
وَقَوْلُهُ: وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِلْقِسْمَيْنِ ثَوَابًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا- عَكْسَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ- وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ تَصْدُقُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فَاسْتَشْهَدُوا أَوْ بَقُوا. وَقَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ إِلَخْ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ.
وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ تقدّم آنِفا.
[١٩٦- ١٩٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٩٦ إِلَى ١٩٨]
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمرَان: ١٩٥] بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ عَدَمُ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ جَزَاءً كَامِلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ ذَلِكَ مِنْ حِرْمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَاعِي الْإِيمَانِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرَّاءِ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَغُرَّهُ حُسْنُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْغَرُّ وَالْغُرُورُ: الْإِطْمَاعُ فِي أَمْرٍ مَحْبُوبٍ عَلَى نِيَّةِ عَدَمِ وُقُوعِهِ، أَوْ إِظْهَارِ الْأَمْرِ الْمُضِرِّ فِي صُورَةِ النَّافِعِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغِرَّةِ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- وَهِيَ الْغَفْلَةُ، وَرَجُلٌ غِرٌّ-
بِكَسْرِ الْغَيْنِ- إِذَا كَانَ يَنْخَدِعُ لِمَنْ خَادَعَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ» أَيْ يَظُنُّ الْخَيْرَ بِأَهْلِ الشَّرِّ إِذَا أَظْهَرُوا لَهُ الْخَيْرَ.
205
وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِظُهُورِ الشَّيْءِ فِي مَظْهَرٍ مَحْبُوبٍ، وَهُوَ فِي الْعَاقِبَةِ مَكْرُوهٌ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ الْغُرُورِ إِلَى التَّقَلُّبِ لِأَنَّ التَّقَلُّبَ سَبَبُهُ، فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَالْمَعْنَى لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّكَ. وَنَظِيرُهُ: «لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ». وَ (لَا) نَاهِيَةٌ لِأَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا تَجِيءُ مَعَ النَّفْيِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَغُرَّنَّكَ- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ وَقَرَأَهَا رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِنُونٍ سَاكِنَةٍ-، وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ.
وَالتَّقَلُّبُ: تَصَرُّفٌ عَلَى حَسَبِ الْمَشِيئَةِ فِي الْحُرُوبِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر:
٤].
والبلاد: الْأَرْضُ. وَالْمَتَاعُ: الشَّيْءُ الَّذِي يُشْتَرَى لِلتَّمَتُّعِ بِهِ.
وَجُمْلَةُ مَتاعٌ قَلِيلٌ إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ لَا يَغُرَّنَّكَ. وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ الْعَاجِلَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [آل عمرَان: ١٨٥].
وَجُمْلَةُ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى آخِرِهَا افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا ضِدُّ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا لِأَنَّ مَعْنَى لَا يَغُرَّنَّكَ إِلَخْ وَصْفُ مَا هُمْ فِيهِ بِأَنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَيْ غَيْرُ دَائِمٍ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ لَهُمْ مَنَافِعُ دَائِمَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: لَكِن- بِتَخْفِيفِ النُّونِ سَاكِنَةً مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ- وَهِيَ مُهْمَلَةٌ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَفْتُوحَةً- وَهِيَ عَامِلَةٌ عَمَلَ إِنَّ.
وَالنُّزُلُ- بِضَمِّ النُّونِ وَالزَّايِ وَبِضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الزَّايِ- مَا يُعَدُّ لِلنَّزِيلِ وَالضَّيْفِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْقِرَى، قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
[فصلت: ٣١، ٣٢].
206
وَ (الْأَبْرَارِ) جَمْعُ الْبَرِّ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْمَبَرَّةِ وَالْبِرِّ، وَهُوَ حُسْنُ الْعَمَلِ ضدّ الْفُجُور.
[١٩٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٩٩]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمرَان: ١٩٨] اسْتِكْمَالًا لِذِكْرِ الْفَرْقِ فِي تَلَقِّي الْإِسْلَامِ: فَهَؤُلَاءِ فَرِيقُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُظْهِرُوا إِيمَانَهُمْ لِخَوْفِ قَوْمِهِمْ مِثْلِ النَّجَاشِيِّ أَصْحَمَةَ، وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُحَرِّفُونَ الدِّينَ، وَالْآيَةُ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ عُرِفُوا بِالْإِيمَانِ لَمَا كَانَ مِنْ فَائِدَةٍ فِي وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا الصِّنْفُ بعكس حَال المنافين. وأكّد الْخَبَر بأنّ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ لَمَّا صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ: انْظُرُوا إِلَيْهِ يُصَلِّي عَلَى نَصْرَانِيٍّ لَيْسَ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَرَهُ قَطُّ. عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ وَفَاةَ النَّجَاشِيِّ حَصَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ هُنَا مَنْ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ وَتَصْدِيقَهُ مِنَ الْيَهُودِ مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ، وَكَذَا مَنْ آمَنَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ أَيِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَرَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ إِنْ صَحَّ خَبَرُ إِسْلَامِهِمْ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِهِ أَحْرِيَاءٌ بِمَا سَيَرِدُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ اسْمَ الْإِشَارَةِ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ إِلَى أَنَّهُ يُبَادِرُ لَهُمْ بِأَجْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيَجْعَلُهُ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٢٠٠]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
خُتِمَتِ السُّورَةُ بِوِصَايَةٍ جَامِعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تُجَدِّدُ عَزِيمَتَهُمْ وَتَبْعَثُ الْهِمَمَ إِلَى دَوَامِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ كَيْ لَا يُثَبِّطَهُمْ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ جُمَّاعُ الْفَضَائِلِ وَخِصَالُ الْكَمَالِ، ثُمَّ بِالْمُصَابَرَةِ وَهِيَ الصَّبْرُ فِي وَجْهِ الصَّابِرِ، وَهَذَا أَشَدُّ الصَّبْرِ ثَبَاتًا فِي النَّفْسِ وَأَقْرَبُهُ إِلَى التَّزَلْزُلِ، ذَلِك أَنَّ الصَّبْرَ فِي وَجْهِ صَابِرٍ آخَرَ شَدِيدٌ عَلَى نَفْسِ الصَّابِرِ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ قِرْنٍ لَهُ فِي الصَّبْرِ قَدْ يُسَاوِيهِ أَوْ يَفُوقُهُ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُصَابِرَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَبْرِهِ حَتَّى يَمَلَّ قِرْنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَنِي مِنْ صَبْرِهِ شَيْئًا، لِأَنَّ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ تَكُونُ لِأَطْوَلِ الصَّابِرِينَ صَبْرًا، كَمَا قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فِي اعْتِذَارِهِ عَنِ الِانْهِزَامِ:
سَقَيْنَاهُمُ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
فَالْمُصَابَرَةُ هِيَ سَبَبُ نَجَاحِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ:
لَا أَنْتَ مُعْتَادٌ فِي الْهَيْجَا مُصَابَرَةً يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا
وَقَوْلُهُ: وَرابِطُوا أَمْرٌ لَهُمْ بِالْمُرَابَطَةِ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّبْطِ، وَهُوَ رَبْطُ الْخَيل للحراسة فِي غَيْرِ الْجِهَادِ خَشْيَةَ أَنْ يَفْجَأَهُمُ الْعَدُوُّ، أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونُوا دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَكِيدُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُفَاجَأَتِهِمْ عَلَى غِرَّةٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ فَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَيْقَاظًا مِنْ عَدُوِّهِمْ. وَفِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنَ «الْبُخَارِيِّ» : بَابُ فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا إِلَخْ. وَكَانَتِ الْمُرَابَطَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ رَبْطُ الْفَرَسِ لِلْحِرَاسَةِ فِي الثُّغُورِ أَيِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ الْعَدُوُّ الْوُصُولَ مِنْهَا إِلَى الْحَيِّ مِثْلِ الشِّعَابِ بَيْنَ الْجِبَالِ. وَمَا رَأَيْتُ مَنْ وَصَفَ ذَلِكَ مِثْلَ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ إِذْ قَالَ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتِي فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامُهَا
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبًا عَلَى ذِي هَبْوَةٍ حَرِجٍ إِلَى إِعْلَامِهِنَّ قَتَامُهَا
208
فَذَكَرَ أَنَّهُ حَرَسَ الْحَيَّ عَلَى مَكَانٍ مُرْتَقَبٍ، أَيْ عَالٍ بِرَبْطِ فَرَسِهِ فِي الثَّغْرِ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُرَابِطُونَ فِي ثُغُورِ بِلَادِ فَارِسٍ وَالشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ فِي الْبَرِّ، ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَ سُلْطَانُ الْإِسْلَامِ وَامْتَلَكُوا الْبِحَارَ صَارَ الرِّبَاطُ فِي ثغور البخار وَهِيَ الشُّطُوطُ الَّتِي يُخْشَى نُزُولُ الْعَدُوِّ مِنْهَا: مِثْلَ رِبَاطِ الْمِنِسْتِيرِ بِتُونِسَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَرِبَاطِ سَلَا بِالْمَغْرِبِ، وَرُبُطِ تُونِسَ وَمَحَارِسِهَا: مِثْلِ مَحْرَسِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ قُرْبَ صَفَاقِسَ. فَأَمَرَ اللَّهُ بِالرِّبَاطِ كَمَا أَمَرَ بِالْجِهَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ خُفِيَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرابِطُوا إِعْدَادَ الْخَيْلِ مَرْبُوطَةً لِلْجِهَادِ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ فِي الثُّغُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرابِطُوا انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، لِمَا
رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: «فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فذلكم الرِّبَاط، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»
. وَنُسِبَ هَذَا لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ» وَقَوْلِهِ:
«لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ»، أَيْ
وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَجَعْنَا مِنَ
الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»

. وَأَعْقَبَ هَذَا الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى لِأَنَّهَا جُمَّاعُ الْخَيْرَاتِ وَبِهَا يُرْجَى الْفَلَاحُ.
209

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤- سُورَةُ النِّسَاءِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ سُورَةَ النِّسَاءِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ». وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: «لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى» يَعْنِي سُورَةَ الطَّلَاقِ- أَنَّهَا شَارَكَتْ هَذِهِ السُّورَةَ فِي التَّسْمِيَةِ بِسُورَة النِّسَاء، وأنّ هَذِه السُّورَة تميّز عَن سُورَة الطَّلَاق باسم سُورَة النّساء الطُّولَى، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ صَرِيحًا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ «بَصَائِرِ ذَوي التَّمْيِيز» للفيروزآبادي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ النِّسَاءِ الْكُبْرَى، وَاسْمُ سُورَةِ الطَّلَاقِ سُورَةُ النِّسَاءِ الصُّغْرَى. وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ (١).
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِإِضَافَةٍ إِلَى النِّسَاءِ أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِأَحْكَامِ صِلَةِ الرَّحِمِ، ثُمَّ بِأَحْكَامٍ تَخُصُّ النِّسَاءَ، وَأَنَّ فِيهَا أَحْكَامًا كَثِيرَةً مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ: الْأَزْوَاجُ، وَالْبَنَاتُ، وَخُتِمَتْ بِأَحْكَامٍ تَخُصُّ النِّسَاءَ.
وَكَانَ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ، لِمَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ، لِثَمَانِ أَشْهُرٍ خَلَتْ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا مُتَأَخِّرًا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: نَزَلَتْ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي خِلَالِ سَنَةِ ثَلَاثٍ أَيْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ الْأَنْفَالِ ثُمَّ
آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ سُورَةُ الْأَحْزَابِ، ثُمَّ الْمُمْتَحَنَةِ، ثُمَّ النِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَكُونُ سُورَةُ النِّسَاءِ نَازِلَةً بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي هِيَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ أَوَّلِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي هُوَ فِي سَنَةِ سِتٍّ حَيْثُ تَضَمَّنَتْ سُورَةُ
_________
(١) صفحة ١٦٩ جُزْء ١ مطابع شركَة الإعلانات الشرقية بِالْقَاهِرَةِ سنة ١٣٨٤.
211
الْمُمْتَحَنَةِ شَرْطَ إِرْجَاعِ مَنْ يَأْتِي الْمُشْرِكِينَ هَارِبًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَدَا النِّسَاءِ، وَهِيَ آيَةُ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: ١٠] الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آيَةَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ يَتِيمٌ، وَغَطَفَانُ أَسْلَمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ، إِذْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ، أَيْ بَعْدَ سَنَةِ خَمْسٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ عِنْدَ الْهِجْرَةِ. وَهُوَ بَعِيدٌ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ لأنّها افتتحت بيا أَيُّهَا النَّاسُ، وَمَا كَانَ فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَهُوَ مَكِّيٌّ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْفَتْحِ لَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَكِّيَّ بِإِطْلَاقَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ صَدْرُهَا بِمَكَّةَ وَسَائِرُهَا بِالْمَدِينَةِ. وَالْحَقُّ أنّ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى إِرَادَةِ دُخُولِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْخِطَابِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، وَلَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَدَنِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَانْتِظَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَفِيهَا آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَالتَّيَمُّمُ شرع يَوْم غزَاة الْمُرَيْسِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ نُزُولَ سُورَةِ النِّسَاءِ كَانَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ وَطَالَتْ مُدَّةُ نُزُولِهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِيهَا مُفَصَّلَةٌ تَقَدَّمَتْ مُجْمَلَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْتَامِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَوَارِيثِ، فَمُعْظَمُ مَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ شَرَائِعُ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي مُعْظَمِ نَوَاحِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ نُظُمِ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْحُكْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، هِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ نُزُولِ سَائِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَبَيْنَ نُزُولِ آيَةِ الْكَلَالَةِ، الَّتِي فِي آخِرِهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ أُمِرُوا بِإِلْحَاقِهَا بِسُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي فِيهَا الْآيَةُ الْأُولَى. وَوَرَدَتْ فِي السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى آيَةَ الشِّتَاءِ، وَآيَةِ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ آيَةَ الصَّيْفِ. وَيَتَعَيَّنُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النِّسَاء: ٧٥] يَعْنِي مَكَّةَ. وَفِيهَا آيَةُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاء:
٥٨] نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الشَّيْبِيِّ، صَاحِبِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سِوَى تَحْقِيرِ دِينِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا
عَظِيمًا- فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا»
إِلَخْ،
212
وَسِوَى التَّهْدِيدِ بِالْقِتَالِ، وَقَطْعِ مَعْذِرَةِ الْمُتَقَاعِدِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَتَوْهِينِ بَأْسِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَارَ إِلَى وَهْنٍ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مُعْظَمَهَا، بَعْدَ التَّشْرِيعِ، جِدَالٌ كَثِيرٌ مَعَ الْيَهُودِ وَتَشْوِيهٌ لِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَجِدَالٌ مَعَ النَّصَارَى لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَلَكِنَّهُ أَوْسَعُ مِمَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّصَارَى أَخَذَتْ تَظْهَرُ بِسَبَبِ تَفَشِّي الْإِسْلَامِ فِي تُخُومِ الْحِجَازِ الشَّامِيَّةِ لِفَتْحِ مُعْظَمِ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ.
وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةُ وَالتِّسْعِينَ مِنَ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الزلزلة: ١].
وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ، وَمِائَةٌ وَسِتٌّ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَغْرَاضٍ وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرُهَا تَشْرِيعُ مُعَامَلَاتِ الْأَقْرِبَاءِ وَحُقُوقِهِمْ، فَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِأَنْ يَشْكُرُوا رَبَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يُرَاعُوا حُقُوقَ النَّوْعِ الَّذِي خُلِقُوا مِنْهُ، بِأَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمُ الْقَرِيبَةَ وَالْبَعِيدَةَ، وَبِالرِّفْقِ بِضُعَفَاءَ النَّوْعِ مِنَ الْيَتَامَى، وَيُرَاعُوا حُقُوقَ صِنْفِ النِّسَاءِ مِنْ نَوْعِهِمْ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِنَّ، وَالْإِشَارَة إِلَى عُقُود النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ، وَشَرْعِ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النِّسَاءِ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِانْحِرَافِ مِنْ كِلَا الزَّوْجَيْنِ، وَمُعَاشَرَتِهِنَّ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَهُنَّ، وَبَيَانِ مَا يَحِلُّ لِلتَّزَوُّجِ مِنْهُنَّ، وَالْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الصِّهْرِ، وَأَحْكَامِ الْجَوَارِي بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ حُقُوقُ مَصِيرِ الْمَالِ إِلَى الْقَرَابَةِ، وَتَقْسِيمِ ذَلِكَ، وَحُقُوقُ حِفْظِ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَحِفْظِهَا لَهُمْ وَالْوِصَايَةِ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَحْكَامُ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَأَحْكَامُ الْقَتْلِ عَمْدًا وَخَطَأً، وَتَأْصِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُقُوقِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بِدُونِ مُصَانَعَةٍ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالْأَمْرُ بِالْبِرِّ، وَالْمُوَاسَاةُ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَالتَّمْهِيدُ لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ.
213
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا