تفسير سورة آل عمران

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة آل عمران
فيها ست وعشرون آية.

الآية الأولى : قوله تعالى :﴿ إنّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللهِ ويقتلون النبيِّين بغير حقّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
قال بعض علمائنا : هذه الآية دليلٌ على الأمْرِ بالمعروف والنهْيِ عن المنكر، وإنْ أدَّى إلى قَتْلِ الآمِرِ به.
وقد بينّا في كتاب " المشكلين " الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر وآياته وأخباره وشروطَه وفائدتَه. وسنشيرُ إلى بعضه هاهنا فنقول :
المسلمُ البالغ القادِرُ يلزمه تغييرُ المنكر ؛ والآياتُ في ذلك كثيرة، والأخبارُ متظاهرة، وهي فائدة الرسالة وخلافة النبوة، وهي ولايةُ الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروطُ المتقدمة.
وليس من شرطه أن يكونَ عَدْلاً عند أهل السنة. وقالت المبتدعة : لا يغيِّر المنكرَ إلاَّ عَدْل، وهذا ساقط ؛ فإن العدالة محصورة في قليل من الْخَلْق والنهيُ عن المنكر عامٌّ في جميع الناس.
فإن استدلُّوا بقوله :﴿ أتأمرون الناسَ بالبِرِّ ﴾ [ البقرة : ٤٤ ]. وقوله تعالى :﴿ كَبُر مَقْتاً عند الله أنْ تقولُوا ما تفعلون ﴾ [ الصف : ٣ ] ونحوه.
قلنا : إنما وقع الذمّ هاهنا على ارتكاب ما نُهِي عنه، لا عن نَهْيه عن المنكر.
وكذلك ما رُوِي في الحديث من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً تُقْرَض شِفَاهُهم بمقاريض من نار، فقيل له : هم الذين يَنْهَوْن عن المنكر ويأتونه، إنما عوقبوا على إتيانهم.
ولا شكَّ في أن النهْيَ عنه ممَّن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه عند فاعله فيبعد قبولُه منه.
وأما القدرة فهي أصلٌ، وتكون منه في النفس وتكون في البدن إن احتاج إلى النهْي عنه بيده، فإن خاف على نفسه من تغييره الضربَ أو القتل، فإن رجا زوالَه جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغَرَر، وإن لم يَرْجُ زوالَه فأيّ فائدة فيه ؟
والذي عنده : أنَّ النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يُبالي.
فإن قيل : هذا إلقاء بيده إلى التَّهْلُكة.
قلنا : قد بينا معنى الآية في موضعها، وتمامها في شَرْح المشكلين، والله أعلم.
فإن قيل : فهل يَسْتَوي في ذلك المنكر الذي يتعلَّق به حقُّ الله تعالى مع الذي يتعلَّق به حقُّ الآدمي ؟
قلنا : لم نر لعلمائنا في ذلك نصّاً. وعندي أنَّ تخليص الآدمي أوجب من تخليص حَقِّ الله تعالى ؛ وذلك ممهَّد في موضعه.
الآية الثانية : قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُعْرِضُونَ ﴾.
قال علماؤنا : في هذا دليلٌ على وجوب ارتفاع المدعوّ إلى الحاكم ؛ لأنه دُعِي إلى كتاب الله، فإنْ لم يفعل كان مخالفاً يتعيَّنُ عليه الزَّجْرُ بالأدب على قَدْر المخالف والمخالَف.
ومثله قوله تعالى :﴿ وإذا دُعوا إلى الله ورسولِه ليَحْكم بينهم إذا فريقٌ منهم مُعْرِضون ﴾ [ النور : ٤٨ ].
الآية الثالثة : قوله تعالى :﴿ لاَ يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَليْسَ مِنَ اللهِ في شَيْءٍ. . . . ﴾.
هذا عمومٌ في أنَّ المؤمنَ لا يتخِذُ الكافرَ وليّاً في نَصْره على عدوِّه، ولا في أمانة ولا بطانة. من دونكم : يعني من غيركم وسِواكم، كما قال تعالى :﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢ ].
وقد نهى عمرُ بن الخطاب أبا موسى الأشعري عن ذِمّيّ كان استَكْتبه باليمن وأمره بعَزْلِه، وقد قال جماعةٌ من العلماء يقاتِلُ المشرك في معسكر المسلمين معهم لعدوهم، واختلف في ذلك علماؤنا المالكية.
والصحيح مَنْعه لقوله عليه السلام :«إنا لا نستعينُ بمشرك ». وأقول : إن كانت في ذلك فائدةٌ محقّقة فلا بأس به.
الآية الرابعة : قوله تعالى :﴿. . . إلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً. . . ﴾.
فيه قولان :
أحدهما : إلا أن تخافوا منهم، فإن خِفْتُم منهم فساعدوهم ووَالُوهم وقُولُوا ما يصرف عنكم من شرهم وأذاهم بظاهرٍ منكم لا باعتقادٍ، بيِّن ذلك قوله تعالى :﴿ إلاَّ مَنْ أُكْرِه وقَلْبُه مُطْمَئِن بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
الثاني : أنَّ المرادَ به إلا أن يكونَ بينكم وبينه قرابة فصِلُوها بالعطية، كما روي أنّ أسماء قالت للنبي صلى الله عليه وسلم :«إن أمي قدمت عليّ وهي مشركة وهي راغبة أَفَأَصِلُها ؟ قال : نعم. صِلِي أُمَّكِ ».
وهذا وإن كان جائزاً في الدين فليس بقويٍّ في معنى الآية وإنما فائدتها ما تقدّم في القول الأول. والله أعلم.
الآية الخامسة : قوله تعالى :﴿ إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ : رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي، إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾.
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى : في حقيقة النَّذْر، وهو التزام الفِعْل بالقول مما يكونُ طاعة للهِ عزّ وجل، من الأعمال قُرْبة.
ولا يلزم نَذْر المباح. والدليل عليه ما روي في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا إسرائيل قائماً : فسأل عنه فقالوا : نذر أن يقومَ ولا يقعد ولا يستظلّ ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«مروه فليَصُم وليقعد وليستظل » ؛ فأخبره بإتمام العبادة ونهاه عن فِعْل الْمُباح.
وأما المعصية فهي ساقطة إجماعاً ؛ ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«مَنْ نذر أن يُطيع الله فليطِعْه، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يَعْصِه ».
المسألة الثانية : في تعليق النَّذْر بالحمل :
اعلموا - علمكم الله - أنَّ الحمل في حيِّز العدم ؛ لأنَّ القضاء بوجوده غير معلوم لاحتمال أن يكون نفخ في البطن لعلَّة وحركة خلط يضطرب، وريح ينبعث، ويحتمل أن يكون لولد ؛ وقد يغلب على البطن كلُّ واحد منهما في حالة، وقد يشكل الحال ؛ فإن فرضنا غلبة الظنّ في كونه حملاً فقد اتفق العلماءُ على أنَّ العقودَ التي تَرِدُ عليه وتتعلَّق به على ضَرْبَين :
أحدهما : عقد معاوضة.
والثاني : عقد مُطْلَق لا عوضية فيه.
فأما الأول - وهو عَقْد المعاوضة - فإنه ساقط فيه إجماعاً، بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بَيْع حَبَل الْحَبلة ».
والحكمةُ فيه أنَّ العقدَ إذا تضمَّنَ العوَض وجب تنزيههُ عن الجهالة والغَرَر في حصول الفائدة التي بذل المرءُ فيها ماله، فإذا لم يتحقَّقْ حصولُ تلك الفائدة كان مِن أكل المال بالباطل.
وأما الثاني : وهو العقد المطلق المجرَّدُ من العِوَض كالوصية والهِبَة والنذْرِ فإنه يرِدُ على الحمل ؛ لأنَّ الغرر فيه مُنْتف إذ هو تبرُّع مجرّد ؛ فإن اتفق فيها ونعمت، وإن تعذّر لم يستضر أحَد.
المسألة الثالثة : في معنى الآية :
قال علماؤنا : كان لعمران بن ماثان ابنتان : إحداهما حِنّة والأخرى يلمشقع، وبنو ماثان من ملوك بني إسرائيل من نسل داود عليه السلام، وكان في ذلك الزمان لا يحرَّرُ إلا الغِلْمان، فلما نذرت قال لها زوجها عمران : أرأيتك إن كان ما في بطنك أنثى كيف نفعل ؟ فاهتمّت لذلك فقالت : إني نذرتُ لك ما في بطني محرَّراً، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. وذلك لأنها كانت لا ولدَ لها، فلما حملَتْ نذرت إن اللهُ أكْمَلَ لها الْحَمْلَ ووضعته فإنه حَبْسٌ على بيت المقدس.
المسألة الرابعة : قال أشهب عن مالك : جعلَتْه نَذْراً تفي به. قالوا : فلما وضَعَتْها ربَّتْها حتى ترعرعَتْ، وحينئذ أرسلَتْها.
وقيل :«لفَّتْها في خِرَقِها وقالت : رَبِّ إني وضعتُها أنثى، وليس الذكَرُ كالأنثى، وقد سَمَّيْتُها مَرْيم، وإني أعيذُها بك وذرِّيَّتَها من الشيطان الرجيم، وأرسلَتْها إلى المسجد وفاءً بنذرها، كما أشار إليه مالك، وتبريّاً منها حين حررَتْها للهِ، أي خلصتها.
والمحرر والحرّ : هو الخالص من كل شيء.
المسألة الخامسة : لا خلاف أنَّ امرأةَ عمران لا يتطرَّقُ إلى حملها نذر لكونها حُرّةً، فلو كانت امرأتُه أَمَةً فلا خلافَ أنَّ المرء لا يصحُّ له نَذْر ولده كيف ما تصرفَتْ حاله ؛ فإنه إنْ كان الناذر عَبْداً لم يتقرر له قولٌ في ذلك، وإن كان الناذرُ حرّاً فولدُه لا يصحُّ أن يكونَ مملوكاً له ؛ وكذلك المرأة مثله ؛ وأي وَجْه للنذر فيه ؟
وإنما معناه - والله أعلم - أنَّ المرء إنما يريد ولدَه للأنس به والاستبصار والتسلّي والمؤازرة ؛ فطلبت المرأةُ الولدَ أُنساً به وسكوناً إليه، فلما مَنَّ الله تعالى عليها به نذرت أنَّ حظَّها من الأُنس به متروكٌ فيه ؛ وهو على خدمة الله تعالى موقوف. وهذا نذْرُ الأحرارِ من الأبرار، وأرادَتْ به محرّراً من جهتي، محرراً من رِقِّ الدنيا وأشغالها. فتقبَّلْه مِنّي.
وقد قال رجل من الصوفية لأمّه : يا أمّاه ؛ ذَرِيني لله أتعبّد له وأتعلَّم العلم. فقالت : نعم، فسار حتى تبصّر ثم عاد إليها فدقّ الباب، فقالت : مَنْ ؟ قال : ابنك فلان. قالت : قد تركناك لله ولا نعوذ فيك.
المسألة السادسة : قوله :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾.
يحتمل أن تُرِيدَ به في كونها تحيض ولا تَصْلُحُ في تلك الأيام للمسجد. ويحتمل أن تريد بها أنها امرأة فلا تصلُح لمخالطة الرجال ؛ وعلى كلّ تقدير فقد تبرَّأتْ منها، ولعلَّ الحجابَ لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام.
وفي صحيح الحديث :«أنَّ امرأة سوداء كانت تَقُمّ المسجد على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم ». وفيه اختلافٌ في الرواية كثير.
المسألة السابعة : رواية أشهب عن مالك تدلُّ على أنَّ مذهبَه التعلّق بشرائع الماضين في الأحكام والآداب ؛ وقد بيّناه في أصول الفقه.
المسألة الثامنة : لو صح أنها أسْلَمَتْها في خِرَقِها إلى المسجد فكفَلَها زكريّا لكان ذلك في أنَّ الحضانة حَقٌّ للأم أصلاً.
وقد اختلفت فيه روايةُ علمائنا على ثلاثة أقوال : أحدها أنَّ الحضانةَ حقٌّ لله سبحانه. الثاني : أنها حقٌّ للأم. الثالث : أنها حقٌّ للولد. وقد بيناه في مسائل الفروع بواضح الدليل.
المسألة التاسعة : على أيّ حال كان القول والتأويل فإنَّ الآية دليلٌ على جواز النذْرِ في الْحَمْلِ، وكل عقد لا يتعلق به عوض بدليل إجماعهم على نفوذ العتْق فيه، والنذْرُ مثله.
المسألة العاشرة : فال بعضُ الشافعية : الدليل على أنَّ المطاوِعَة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساوِيه في وجوب الكفّارة عليهم قوله تعالى :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾.
قال القاضي ابنُ العربي : وعجباً لغَفْلَتِه وغَفْلة القاضي عبد الوهاب عنه حين تكلم عليه وحاجّه فيه، وهذا خَبرٌ عن شَرْع مَنْ قبلنا ؛ ولا خلافَ بين الشافعية عن بكْرَة أبيهم أنَّ شرعَ من قبلنا ليس شرعاً لنا، فاسكُتْ واصمت. ثم نقول لأنفسنا : نحن نعلم من أصول الفِقْهِ الفَرْقَ بين الأقوال التي جاءت بلفظ العموم وهي على قصد العموم، والتي جاءت بلفظ العموم وهي على قَصْد الخصوص. وهذه الصالحةُ إنما قصدَتْ بكلامها ما تشهدُ له بينةُ حالها ومقطعُ كلامها ؛ فإنها نذَرتْ خِدْمَة المسجد في ولدها، ورأته أنثى لا تصلُح أن تكونَ بَرْزَة، وإنما هي عَوْرَة ؛ فاعتذرَتْ إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدَتْه فيها، وقد بينَّا في أصول الفقه العمومَ المقصودَ به العموم وغيره، وساعدنا عليه ابن الجويني، وحققناه ؛ فلينظر هنالك.
المسألة الحادية عشرة : قالت : إني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فكانت المعاذةُ هي وابنها عيسى، فيها وقع القبولُ من جملة الذرية، وهذا يدلُّ على أن الذرية قد تقعُ على الولد خاصة، وقد بينّا ذلك في مسألة العقب من الأحكام. وفي سورة الأنعام. والله أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٥:الآية الخامسة : قوله تعالى :﴿ إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ : رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي، إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾.

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى : في حقيقة النَّذْر، وهو التزام الفِعْل بالقول مما يكونُ طاعة للهِ عزّ وجل، من الأعمال قُرْبة.
ولا يلزم نَذْر المباح. والدليل عليه ما روي في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا إسرائيل قائماً : فسأل عنه فقالوا : نذر أن يقومَ ولا يقعد ولا يستظلّ ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«مروه فليَصُم وليقعد وليستظل » ؛ فأخبره بإتمام العبادة ونهاه عن فِعْل الْمُباح.
وأما المعصية فهي ساقطة إجماعاً ؛ ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«مَنْ نذر أن يُطيع الله فليطِعْه، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يَعْصِه ».
المسألة الثانية : في تعليق النَّذْر بالحمل :
اعلموا - علمكم الله - أنَّ الحمل في حيِّز العدم ؛ لأنَّ القضاء بوجوده غير معلوم لاحتمال أن يكون نفخ في البطن لعلَّة وحركة خلط يضطرب، وريح ينبعث، ويحتمل أن يكون لولد ؛ وقد يغلب على البطن كلُّ واحد منهما في حالة، وقد يشكل الحال ؛ فإن فرضنا غلبة الظنّ في كونه حملاً فقد اتفق العلماءُ على أنَّ العقودَ التي تَرِدُ عليه وتتعلَّق به على ضَرْبَين :
أحدهما : عقد معاوضة.
والثاني : عقد مُطْلَق لا عوضية فيه.
فأما الأول - وهو عَقْد المعاوضة - فإنه ساقط فيه إجماعاً، بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بَيْع حَبَل الْحَبلة ».
والحكمةُ فيه أنَّ العقدَ إذا تضمَّنَ العوَض وجب تنزيههُ عن الجهالة والغَرَر في حصول الفائدة التي بذل المرءُ فيها ماله، فإذا لم يتحقَّقْ حصولُ تلك الفائدة كان مِن أكل المال بالباطل.
وأما الثاني : وهو العقد المطلق المجرَّدُ من العِوَض كالوصية والهِبَة والنذْرِ فإنه يرِدُ على الحمل ؛ لأنَّ الغرر فيه مُنْتف إذ هو تبرُّع مجرّد ؛ فإن اتفق فيها ونعمت، وإن تعذّر لم يستضر أحَد.

المسألة الثالثة : في معنى الآية :

قال علماؤنا : كان لعمران بن ماثان ابنتان : إحداهما حِنّة والأخرى يلمشقع، وبنو ماثان من ملوك بني إسرائيل من نسل داود عليه السلام، وكان في ذلك الزمان لا يحرَّرُ إلا الغِلْمان، فلما نذرت قال لها زوجها عمران : أرأيتك إن كان ما في بطنك أنثى كيف نفعل ؟ فاهتمّت لذلك فقالت : إني نذرتُ لك ما في بطني محرَّراً، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. وذلك لأنها كانت لا ولدَ لها، فلما حملَتْ نذرت إن اللهُ أكْمَلَ لها الْحَمْلَ ووضعته فإنه حَبْسٌ على بيت المقدس.
المسألة الرابعة : قال أشهب عن مالك : جعلَتْه نَذْراً تفي به. قالوا : فلما وضَعَتْها ربَّتْها حتى ترعرعَتْ، وحينئذ أرسلَتْها.
وقيل :«لفَّتْها في خِرَقِها وقالت : رَبِّ إني وضعتُها أنثى، وليس الذكَرُ كالأنثى، وقد سَمَّيْتُها مَرْيم، وإني أعيذُها بك وذرِّيَّتَها من الشيطان الرجيم، وأرسلَتْها إلى المسجد وفاءً بنذرها، كما أشار إليه مالك، وتبريّاً منها حين حررَتْها للهِ، أي خلصتها.
والمحرر والحرّ : هو الخالص من كل شيء.
المسألة الخامسة : لا خلاف أنَّ امرأةَ عمران لا يتطرَّقُ إلى حملها نذر لكونها حُرّةً، فلو كانت امرأتُه أَمَةً فلا خلافَ أنَّ المرء لا يصحُّ له نَذْر ولده كيف ما تصرفَتْ حاله ؛ فإنه إنْ كان الناذر عَبْداً لم يتقرر له قولٌ في ذلك، وإن كان الناذرُ حرّاً فولدُه لا يصحُّ أن يكونَ مملوكاً له ؛ وكذلك المرأة مثله ؛ وأي وَجْه للنذر فيه ؟
وإنما معناه - والله أعلم - أنَّ المرء إنما يريد ولدَه للأنس به والاستبصار والتسلّي والمؤازرة ؛ فطلبت المرأةُ الولدَ أُنساً به وسكوناً إليه، فلما مَنَّ الله تعالى عليها به نذرت أنَّ حظَّها من الأُنس به متروكٌ فيه ؛ وهو على خدمة الله تعالى موقوف. وهذا نذْرُ الأحرارِ من الأبرار، وأرادَتْ به محرّراً من جهتي، محرراً من رِقِّ الدنيا وأشغالها. فتقبَّلْه مِنّي.
وقد قال رجل من الصوفية لأمّه : يا أمّاه ؛ ذَرِيني لله أتعبّد له وأتعلَّم العلم. فقالت : نعم، فسار حتى تبصّر ثم عاد إليها فدقّ الباب، فقالت : مَنْ ؟ قال : ابنك فلان. قالت : قد تركناك لله ولا نعوذ فيك.
المسألة السادسة : قوله :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾.
يحتمل أن تُرِيدَ به في كونها تحيض ولا تَصْلُحُ في تلك الأيام للمسجد. ويحتمل أن تريد بها أنها امرأة فلا تصلُح لمخالطة الرجال ؛ وعلى كلّ تقدير فقد تبرَّأتْ منها، ولعلَّ الحجابَ لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام.
وفي صحيح الحديث :«أنَّ امرأة سوداء كانت تَقُمّ المسجد على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم ». وفيه اختلافٌ في الرواية كثير.
المسألة السابعة : رواية أشهب عن مالك تدلُّ على أنَّ مذهبَه التعلّق بشرائع الماضين في الأحكام والآداب ؛ وقد بيّناه في أصول الفقه.
المسألة الثامنة : لو صح أنها أسْلَمَتْها في خِرَقِها إلى المسجد فكفَلَها زكريّا لكان ذلك في أنَّ الحضانة حَقٌّ للأم أصلاً.
وقد اختلفت فيه روايةُ علمائنا على ثلاثة أقوال : أحدها أنَّ الحضانةَ حقٌّ لله سبحانه. الثاني : أنها حقٌّ للأم. الثالث : أنها حقٌّ للولد. وقد بيناه في مسائل الفروع بواضح الدليل.
المسألة التاسعة : على أيّ حال كان القول والتأويل فإنَّ الآية دليلٌ على جواز النذْرِ في الْحَمْلِ، وكل عقد لا يتعلق به عوض بدليل إجماعهم على نفوذ العتْق فيه، والنذْرُ مثله.
المسألة العاشرة : فال بعضُ الشافعية : الدليل على أنَّ المطاوِعَة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساوِيه في وجوب الكفّارة عليهم قوله تعالى :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾.
قال القاضي ابنُ العربي : وعجباً لغَفْلَتِه وغَفْلة القاضي عبد الوهاب عنه حين تكلم عليه وحاجّه فيه، وهذا خَبرٌ عن شَرْع مَنْ قبلنا ؛ ولا خلافَ بين الشافعية عن بكْرَة أبيهم أنَّ شرعَ من قبلنا ليس شرعاً لنا، فاسكُتْ واصمت. ثم نقول لأنفسنا : نحن نعلم من أصول الفِقْهِ الفَرْقَ بين الأقوال التي جاءت بلفظ العموم وهي على قصد العموم، والتي جاءت بلفظ العموم وهي على قَصْد الخصوص. وهذه الصالحةُ إنما قصدَتْ بكلامها ما تشهدُ له بينةُ حالها ومقطعُ كلامها ؛ فإنها نذَرتْ خِدْمَة المسجد في ولدها، ورأته أنثى لا تصلُح أن تكونَ بَرْزَة، وإنما هي عَوْرَة ؛ فاعتذرَتْ إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدَتْه فيها، وقد بينَّا في أصول الفقه العمومَ المقصودَ به العموم وغيره، وساعدنا عليه ابن الجويني، وحققناه ؛ فلينظر هنالك.
المسألة الحادية عشرة : قالت : إني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فكانت المعاذةُ هي وابنها عيسى، فيها وقع القبولُ من جملة الذرية، وهذا يدلُّ على أن الذرية قد تقعُ على الولد خاصة، وقد بينّا ذلك في مسألة العقب من الأحكام. وفي سورة الأنعام. والله أعلم.

الآية السادسة : قوله تعالى :﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراًَ ﴾.
اختلف العلماءُ في ذلك على قولين :
أحدهما : أنَّ الْحَصُور هو العنّين وهم الأكْثر، ومنهم ابن عباس.
ومنهم من قال : هو الذي يكفُّ عن النساء ولا يأتيهنّ مع القُدْرة، منهم سعيد بن المسيّب ؛ وهو الأصح لوجهين :
أحدهما : أنه مَدْحٌ وثناء عليه، والْمَدْح والثناء إنما يكون على الفَضْل المكتسب دون الجِبِلَّة في الغالب.
الثاني : أن حصوراً فعولاً ؛ وبناءُ فعول في اللغة من صيغ الفاعلين.
قال علماؤنا : الْحَصُور : البخيل، والْهَيُوب الذي يحجِم عن الشيء ؛ والكاتم السر ؛ وهذا بناء فاعل. والْحَصُور عندهم : الناقة التي لا يخرج لبنها من ضيق إحليلها.
وهذا فيه نظر، وقد جاء فعول بمعنى مُفْعَل، تقول : رسول بمعنى مُرْسَل، ولكن الغالب ما تقدم.
وإذا ثبت هذا فيحيى كان كافّاً عن النساء عن قُدْرة في شَرْعِه، فأما شَرْعُنا فالنكاح. رُوِي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون عن التبتّل، قال الراوي : ولو أذِنَ له لاختَصَيْنَا، ولهذا بالغ قوم فقالوا : النكاح واجب، وقصَّر آخرون فقالوا مباح، وتوسَّطَ علماؤنا فقالوا : مندوب.
والصحيح أنه يختلف باختلاف حال الناكح والزمان، وقد بينا ذلك في سورة النساء، وسترونه إن شاء الله.
الآية السابعة : قوله تعالى :﴿ ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيِه إلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾.
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية فعلهم :
واختلف فيه نَقْلُ المفسرين على روايتين :
الأولى : رُوي أن زكريا قال : أنا أحقُّ بها، خالتُها عندي. وقال بنو إسرائيل : نحن أحقُّ بها، بنْتُ عالمنا، فاقترعوا عليها بالأقلام، وجاء كلُّ واحد بقلمه، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري، فمن وقف قلمه ولم يَجْرِ في الماء فهو صاحبها.
قال النبي عليه السلام :«فجرَت الأقلام وعال قلم زكريا » ؛ كانت آية، لأنه نبي تجري الآيات على يده.
الثاني : أنّ زكريا كان يكفلُها حتى كان عام مَجَاعة فعجز وأراد منهم أنْ يقترعوا، فاقترعوا، فوقعت القُرْعةُ عليهم لما أراد الله من تخصيصه بها.
ويحتمل أن تكون أنها لما نذرتْها لله تخلَّت عنها حين بلغت السعْيَ، واستقلّت بنفسها، فلم يكن لها بدٌّ مِنْ قيِّم، إذ لا يمكن انفرادُها بنفسها، فاختلفوا فيه فكان ما كان.
المسألة الثانية : القرعة أصلٌ في شريعتنا ؛ ثبت أن النبي عليه السلام كان إذا أراد سفراً أقْرَع بين نسائه فأيتهنَّ خرج سهْمُها خرج بها، وهذا مما لم يره مالك شرعاً.
والصحيح أنه دين ومنهاج لا يتعَدى، وثبت عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أعتق عَبيداً له ستةً في مرضه لا مالَ له غيرهم. فأقرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة.
وهذا مما رآه مالك والشافعي ؛ وأباه أبو حنيفة ؛ واحتج بأنَّ القرعة في شان زكريا وأزواج النبي عليه السلام كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز.
وأما حديث الأعْبُد فلا يصحُّ التراضي في الحرية ولا الرضا ؛ لأن العبودية والرق إنما ثبتت بالحكم دون قرعة فجازت، ولا طريق للتراضي فيها، وهذا ضعيف ؛ فإنّ القرعةَ إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاحّ فأما ما يخرجه التراضي فيه فبابٌ آخر، ولا يصحُّ لأحدٍ أن يقول : إنَّ القرعة تجري في موضع التراضي، وإنها لا تكون أبداً مع التراضي فكيف يستحيل اجتماعها مع التراضي ؟ ثم يقال : إنها لا تجري إلاّ على حكمه ولا تكون إلاّ في محلّه ؛ وهذا بعيد.
المسألة الثالثة : قد رُوي أنّ مريم كانت بنت أخت زَوْج زكريا، ويروى أنها كانت بنْتَ عمه، وقيل من قرابته ؛ فأما القرابةُ فمقطوعٌ بها، وتعيينُها مما لم يصح.
وهذا جرى في الشريعة التي قَبْلَنا، فأما إذا وقع في شريعتنا فالخالة أحقُّ بالحضانة بعد الجدة من سائر القرابةِ والناس ؛ لما رُوِي أن النبي عليه السلام قضى بها للخالة، ونص الحديث - خرجه أبو داود - قال :«خرج زَيْدُ بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة - قال ابن العربي : واسمها أَمَة الله، وأمها سلمى بنت عُميس أخت أسماء بنت عُميس - فقال جعفر : أنا أحق بها ؛ ابنةُ عمي، وعندي خالتها، وإنما الخالة أمّ. وقال علي : أنا أحقُّ بها وعندي ابنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأنا أحقُّ بها. وقال زيد : أنا أحقُّ بها، خرجْتُ إليها وسافرتُ وقدِمْتُ بها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر شيئاً، وقال : أمّا الجارية فأقْضِي بها لجعفر تكون مع خالتها، وإنما الخالة بمنزلة الأم ».
المسألة الرابعة : هذا إذا كانت الخالةُ أَيِّماً، فأما إن تزوَّجت، وكان زوجها أجنبياً فلا حضانةَ لها ؛ لأنَّ الأمَّ تسقُط حضانتُها بالزوج الأجنبي ؛ فكيف بأختها وبأمها والبدَل عنها.
فإن كان وليّاً لم تسقط حضانتها كما لم تسقط حضانةُ زوْج جعفر ؛ لكون جعفر وليّاً لابنة حمزة وهي بنوّة العم.
وذكر ابن أبي خيثمة أن زَيْد بن حارثة كان وصيّ حمزة فتكون الخالة على هذا أحقَّ من الوصيّ، ويكون ابنُ العم إذا كان زوجاً غير قاطع للخالة في الحضانة وإن لم يكن محرّماً لها.
وقد بينا في شرح الحديث اسم الكل ووصْفَ قرابته.
الآية الثامنة : قوله تعالى :﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ﴾.
فيها مسألتان :
المسألة الأولى : في سبب نزولها : رَوَى المفسِّرون أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ناظر أهل نَجْران حتى ظهرَ عليهم بالدليل والحجّة، فأبوا الانقيادَ والإسلام ؛ فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية، فدعا حينئذ فاطمة والحسن والحسين، ثم دعا النصارى إلى المباهَلة.
المسألة الثانية : هذا يدلُّ على أن الحسن والحسين ابناه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن :«إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يُصْلِح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ».
فتعلَّق بهذا مَنْ قال : إن الابن من البنت يدخل في الوصية والحبس، ويأتي ذلك في موضعه إن شاء الله.
وليس فيها حجةٌ، فإنه يقال : إنّ هذا الإطلاق مَجازٌ، وبيانه هنالك.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا في الأُمِّيِّنَ سَبيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
فيها إحدى عشرة مسألة :
المسألة الأولى : في سبب نزولها :
قيل : نزلت في نصارى نجران. وقال ابن جريح : نزلت في قومٍ من اليهود تابَعهم جماعةٌ من العرب، فلما أسلموا قال لهم اليهود : تركتم دينكم، فليس لكم عندنا حقّ.
المسألة الثانية : الدينار أربعة وعشرون قيراطاً، والقيراط ثلاث حبات من شعير، والقنطار أربعة أرباع، والربع ثلاثون رطلاً، والرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية ستة عشر درهماً، والدرهم ست وثلاثون حبة من شعير، وقد بينا ذلك مشروحاً في مسائل الفقه.
المسألة الثالثة : فائدتها النَّهيُ عن ائتمانهم على مال. وقال شيخنا أبو عبدالله العربي : فائدتها ألا يؤتمنوا على دِين ؛ يدلُّ عليه ما بعده من قوله :﴿ وإنَّ منهم لفريقاً يَلْوُون ألسِنَتَهُمْ بالكتاب لتَحْسَبُوه من الكتاب ﴾ [ آل عمران : ٧٨ ] : فأراد ألاّ يؤتمنوا على نَقْل شيء من التوراة والإنجيل.
قال القاضي : والصحيحُ عندي أنها في المال نصٌّ، وفي الدين سنَّة ؛ فأفادت المعنيين بهذين الوجهين.
المسألة الرابعة : في قوله تعالى :﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾.
هذا يدلُّ على أن أداءَ الأمانةِ في الدينار بالنص أو بالسنة أو بالقياس، وقد بيناه في أصول الفقه.
والصحيحُ أنه قياس جَلِيّ، وهو أعلى مراتبه، وهناك تجدونه.
المسألة الخامسة : قوله تعالى :﴿ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ﴾.
تعلّق به أبو حنيفة في ملازمة الغريب للمُفْلِس ؛ وأباه سائرُ العلماء ؛ ولا حجّةَ لأبي حنيفة فيه ؛ لأن ملازمة الغريم المحكوم بعُدْمه لا فائدة فيها ؛ إذ لا يرجى ما عنده. وقد بيناه في مسائل الخلاف هناك.
وقد قال جماعة من الناس : إن معنى ﴿ لا يؤدِّه إليك ما دمتَ عليه قائماً ﴾ أي حافظاً بالشهادة، فلينظر هنالك.
المسألة السادسة : أقسام هذه الحال ثلاثة :
قسم يؤدى، وقسم لا يؤدّى إلا ما دمتَ عليه قائماً، وقسم لا يؤدى وإن دمتَ عليه قائماً، إلا أن اللهَ سبحانه ذكر القسمين، لأنه الغالب المعتاد، والثالث نادر ؛ فخرج الكلام على الغالب.
المسألة السابعة : قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبيِلٌ ﴾.
المعنى فعلوا ذلك لاعتقادهم أنَّ ظُلْمَهُم لأهل الإسلام جائز، تقديرُ كلامهم ليس علينا في ظلم الأميّين سبيل ؛ أي إثم. وقولهم هذا كذبٌ صادرٌ عن اعتقاد باطل مركب على كُفْر، فإنّهم أخبروا عن التوراة بما ليس فيها، وذلك قوله تعالى :﴿ ويقولون على اللهِ الكَذِب وهم يعلمون ﴾.
المسألة الثامنة : الأمانة عظيمة القَدْرِ في الدين، ومِنْ عظيم قَدْرِهَا أنّها تقفُ على جنبَتي الصراط، ولا يمكَّنُ من الجواز إلاّ من حفظها، وقد بيناه في شرح الحديث وكتاب شرح المشكلين ؛ ولهذا وجب عليك أن تؤدّيها إلى من ائتمنك ولا تَخُنْ من خانك ؛ فتقابل معصية فيك بمعصية فيه، على اختلاف بيناه في مسائل الخلاف.
ولذلك لم يَجُزْ لك أن تغدر بمن غدر بك. قال البخاري :«باب إثم الغادر البرّ والفاجر ».
فإن قيل : فقد قال الشعبي : من حلَّ بك فاحلل به. قال إبراهيم النخعي : يعني أنَّ المحْرِم لا يُقتَل، ولكن من غرض لك فاقتله وحلَّ أنت به أيضاً، من خانك فخُنْه.
قلنا : تحريم المحرم كان بشرط ألا يعرض له في أصل العَقْد، والأمانةُ يلزم الوفاءُ بها مِن غير شرط.
المسألة التاسعة : قال رجل لابن عباس : إنَّا نُصِيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاةَ ونقول : ليس بذلك علينا بأس.
فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : ليس علينا في الأمِّيين سبيل ؛ إنَّهم إذا أدَّوُا الجِزية لم تُحِلَّ لكم أموالُهم إلاّ عن طِيب أنفسهم.
المسألة العاشرة : قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
هذه الآية ردٌّ على الكفَرَة الذين يحلّلُون ويحرّمون من غير تحليل الله وتحريمه، ويجعلون ذلك من الشرع، ومن هذا يخرج الرَّد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولستُ أعلم أحداً من أهل القبلة قاله.
الآية العاشرة : قوله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ في الآخرة ولا يكلِّمُهم اللهُ ولا ينظُرُ إليهم يَومَ القيامةِ ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ ﴾.
فيها مسألتان :
المسألة الأولى : في سبب نزولها :
قال قوم : نزلَتْ في اليهود ؛ كتبوا كتاباً وحَلفوا أنه من عند الله.
وقيل : نزلت في رجُل حلف يميناً فاجرة لتنفق سِلْعَته في البيع ؛ قاله مجاهد وغيره.
والذي يصحُّ أنَّ عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من حلف على يمين صَبْرِ ليقتطعَ بها مالَ امرئٍ مسلم لقِيَ الله وهو عليه غضبان » ؛ فأنزل الله تعالى تصديق ذلك :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً. . . ﴾ الآية. قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال :«فيَّ نزلتْ، كان لي بئر في أرض ابن عمر، وفي رواية : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني. قال النبي عليه السلام : بيِّنتك أو يمينه. فقلت : إذاً يحلف يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم. . . وذكر الحديث ».
وذلك يحتمل ما صحّ في الحديث وما رُوي عن اليهود.
المسألة الثانية : قال علماؤنا : هذا دليلٌ على أنَّ حُكْمَ الحاكم لا يُحِلّ المالَ في الباطن بقضاءِ الظاهر، إذا عَلِمَ المحكوم له بُطلانَه.
وقد روَتْ أمُّ سلمة في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنما أنا بَشَر، وأنتم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجَّتِه من بعض، فأقضي له على نحوِ ما أسمع منه، فمن قضيْتُ له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قِطْعةً من النار ».
وهذا لا خلافَ فيه بين الأمة، وإنما ناقض أبو حنيفة وغَلاَ، فقال : إنَّ حكْمَ الحاكم المبنيّ على الشهادة الباطلة يحلّ الفَرْج لمن كان محرَّماً عليه، وسيأتي بُطْلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى.
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ، ولَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾.
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى : في سبب نزولها :
قيل : إنها نزلت في نصارى نَجْران، وكذلك رُوي أنّ السورة كلها إلى قوله :﴿ وإذ غَدَوْتَ من أهلك ﴾ كان سبب نزولها نصارى نَجْران، ولكن مُزِجَ معهم اليهود ؛ لأنهم فَعَلُوا من الْجَحْد والعناد مثل فِعْلهم.
المسألة الثانية : في قوله تعالى :﴿ رَبَّانِيِّينَ ﴾ :
وهو منسوب إلى الربّ، وقد بيّنا تفاصيلَ معنى اسم الرب في الأمد الأقصى، وهو هاهنا عبارة عن الذي يُرَبِّي الناسَ بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه وتعالى في تيسير الأمور المجملة في العَبْد على مقدار بَدَنِه من غذاءٍ وبلاء.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾.
المعنى : وإنَّ عِلْمَهم بالكتاب، ودَرْسَهم له يوجِبُ ذلك عليهم ؛ لأنَّ هذا من المعاني التي شُرِحت فيه لهم.
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً ﴾.
المعنى : ولا آمرُ الْخَلْقَ أنْ يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً يعبدونهم ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه لا يأمر بالكُفْر مَنْ أسلم فعلاً، ولا يأمر بالكُفْر ابتداء ؛ لأنه محال عقلاً، فلما لم يتقدر ولا تصوّر لم يتعلق به أمر.
المسألة الخامسة : حرَّم الله تعالى على الأنبياء أنْ يتخذوا الناسَ عباداً يتألّهون لهم، ولكن ألزمَ الْخَلْقَ طاعتهم.
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأمَتي، وليقُلْ فَتاي وفتَاتي، ولا يَقُلْ أحدكم رَبّي وليقل سيِّدي ».
وقد قال الله تعالى - مُخْبراً عن يوسف :﴿ اذْكُرْني عند ربك ﴾ [ يوسف : ٤٢ ]. وقال :﴿ والصالحين مِنْ عبادِكم وإمائِكم ﴾ [ النور : ٣٢ ]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :«مَنْ أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ. . . . » فتعارضت.
فلو تحققنا التاريخ لكان الآخر رافعاً للأول أو مبيِّناً له على اختلاف الناس في النسخ. وإذا جهلنا التاريخ وجب النظرُ في دلالة الترجيح.
وقد مهَّدْنا ذلك في شَرْح الحديث بما الكافي منه الآن لكم ترجيحُ الجواز ؛ لأنّ النهي إنما كان لتخليص الاعتقاد مِن أنْ يعتقد لغير الله عبوديةً أو في سواه ربوبيةً، فلما حصلت العقائدُ كان الجواز.
المسألة السادسة : قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ﴾
قرأ ابنُ عامر وأهلُ الكوفة بضم التاء، وكأنّ معناه لا تتخذوهم عباداً بحقّ تعليمكم، فإنه فَرْضٌ عليكم أو إشراك في نيَّتكم، أو استعجال لأجركم، أو تبديل لأمْرِ الآخرة بأمر الدنيا ؛ واختاره الطبري على قراءة فتح التاء.
قال شيخنا أبو عبدالله العربي : كذلك يقتضي صفةَ العلم وقراءته ؛ لأنَّ العلم إنما هو للتعليم لتحريم كِتْمانِ العلم، والأمر في ذلك قريبٌ ؛ وليس هذا موضع تحريره.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٩:الآية الحادية عشرة : قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ، ولَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾.

فيها ست مسائل :


المسألة الأولى : في سبب نزولها :

قيل : إنها نزلت في نصارى نَجْران، وكذلك رُوي أنّ السورة كلها إلى قوله :﴿ وإذ غَدَوْتَ من أهلك ﴾ كان سبب نزولها نصارى نَجْران، ولكن مُزِجَ معهم اليهود ؛ لأنهم فَعَلُوا من الْجَحْد والعناد مثل فِعْلهم.
المسألة الثانية : في قوله تعالى :﴿ رَبَّانِيِّينَ ﴾ :
وهو منسوب إلى الربّ، وقد بيّنا تفاصيلَ معنى اسم الرب في الأمد الأقصى، وهو هاهنا عبارة عن الذي يُرَبِّي الناسَ بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه وتعالى في تيسير الأمور المجملة في العَبْد على مقدار بَدَنِه من غذاءٍ وبلاء.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾.
المعنى : وإنَّ عِلْمَهم بالكتاب، ودَرْسَهم له يوجِبُ ذلك عليهم ؛ لأنَّ هذا من المعاني التي شُرِحت فيه لهم.
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً ﴾.
المعنى : ولا آمرُ الْخَلْقَ أنْ يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً يعبدونهم ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه لا يأمر بالكُفْر مَنْ أسلم فعلاً، ولا يأمر بالكُفْر ابتداء ؛ لأنه محال عقلاً، فلما لم يتقدر ولا تصوّر لم يتعلق به أمر.
المسألة الخامسة : حرَّم الله تعالى على الأنبياء أنْ يتخذوا الناسَ عباداً يتألّهون لهم، ولكن ألزمَ الْخَلْقَ طاعتهم.
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأمَتي، وليقُلْ فَتاي وفتَاتي، ولا يَقُلْ أحدكم رَبّي وليقل سيِّدي ».
وقد قال الله تعالى - مُخْبراً عن يوسف :﴿ اذْكُرْني عند ربك ﴾ [ يوسف : ٤٢ ]. وقال :﴿ والصالحين مِنْ عبادِكم وإمائِكم ﴾ [ النور : ٣٢ ]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :«مَنْ أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ.... » فتعارضت.
فلو تحققنا التاريخ لكان الآخر رافعاً للأول أو مبيِّناً له على اختلاف الناس في النسخ. وإذا جهلنا التاريخ وجب النظرُ في دلالة الترجيح.
وقد مهَّدْنا ذلك في شَرْح الحديث بما الكافي منه الآن لكم ترجيحُ الجواز ؛ لأنّ النهي إنما كان لتخليص الاعتقاد مِن أنْ يعتقد لغير الله عبوديةً أو في سواه ربوبيةً، فلما حصلت العقائدُ كان الجواز.
المسألة السادسة : قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ﴾
قرأ ابنُ عامر وأهلُ الكوفة بضم التاء، وكأنّ معناه لا تتخذوهم عباداً بحقّ تعليمكم، فإنه فَرْضٌ عليكم أو إشراك في نيَّتكم، أو استعجال لأجركم، أو تبديل لأمْرِ الآخرة بأمر الدنيا ؛ واختاره الطبري على قراءة فتح التاء.
قال شيخنا أبو عبدالله العربي : كذلك يقتضي صفةَ العلم وقراءته ؛ لأنَّ العلم إنما هو للتعليم لتحريم كِتْمانِ العلم، والأمر في ذلك قريبٌ ؛ وليس هذا موضع تحريره.

الآية الثانية عشرة : قوله تعالى :﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى :﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ ﴾.
معناه تُصيبوا، يقال : نالني خير ينُولُني، وأنالني خيراً ؛ ويقال : نِلتُه أنوله معروفاً ونولته، قال الله تعالى :﴿ لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دِماؤُها ﴾
[ الحج : ٣٧ ] ؛ أي لا يَصِلُ إلى الله شيء من ذلك لتقديسه عن الاتصال والانفصال.
المسألة الثانية :﴿ البر ﴾ وقد بيناه في كتاب " الأمد الأقصى " وشَفَينا النفسَ من إشكاله.
قيل : إنه ثوابُ الله، وقيل : إنه الجنة ؛ وذلك يصل البرُّ إليه لكونه على الصفات المأمور بها.
المسألة الثالثة :﴿ حَتَّى تُنْفِقُوا ﴾.
المعنى حتى تهلكوا، يقال : نَفِق إذا هلك. المعنى حتى تقدّموا من أموالكم في سبيل الله ما تتعلَّقُ به قلوبُكم.
المسألة الرابعة : في تفسير هذه النفقة :
قال ابن عمر : وهي صدقةُ الفَرْضِ والتطوّع. وقيل : هي سبُل الخير كلها، وهو الصحيح لعموم الآية.
وقد رَوَى الأئمةُ كلهم أنَّ أبا طلحة قال : يا رسول الله، إني أسمعُ الله تعالى يقول :﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرَحاء، وإنها صدقةٌ للهِ أَرْجُو برَّها وذُخْرَها عند الله، فضَعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«بَخٍ، بَخٍ. ذلك مالٌ رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعت ما قلْتَ فيها، وإني أرى أنْ تجعلها في الأقربين » ؛ فقسَّمَها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وروى الطبري : أنَّ زَيْدَ بن حارثة جاء بفرس له يُقال له سَبَل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : تصدَّقْ بهذا يا رسول الله، فأعطاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بن زيد بن حارثة، فقال : يا رسول الله ؛ إنما أردتُ أن أتصدق به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قد قبلتُ صدَقَتك ».
المسألة الخامسة :
قال العلماء : إنما تصدَّق به النبيّ صلى الله عليه وسلم على قرابة المصدق لوجهين :
أحدهما : أن الصدقةَ في القرابة أفضل ؛ لأنها كما قال في غير هذا الحديث صدقة وصلة.
الثاني : أنَّ نَفْس المتصدِّق تكون بذلك أطيب وأسلم عن تطرُّق الندَم إليها.
الآية الثالثة عشرة : قوله تعالى :﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلاَّ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : سبب نزولها، وفيه ثلاثة أقوال :
الأول : رُوِي أنَّ اليهود أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحليلَ لحوم الإبل، فأخبر اللهُ بتحليلها لهم حتى حرَّمها إسرائيلُ على نفسه.
المعنى إني لم أحرِّمْها عليكم، وإنما كان إسرائيل هو الذي حرَّمها على نفسه.
الثاني : أنّ عصابةً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له : يا أبا القاسم ؛ أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيلُ على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ فقال :«أنشدكم بالله الذي أنزل التوراةَ على موسى، هل تعلمون أنَّ إسرائيلَ مرض مرضاً شديداً طال سقمه فيه فنذر لئِنْ عافاه اللهُ مِنْ سقمه ليحرِّمَنَّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبُّ الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها ؟ فقالوا : اللهم نَعَمْ. قال : فأتوا بالتوراة فاتْلُوها إنْ كنتم صادقين في دعواكم أنَّ اللهَ سبحانه أنزل تحريمَ ذلك فيها ». رواه الطبري.
الثالث : أنها نزلَتْ في نَفَرٍ من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة زَنَيا، فرجمهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ما يأتي ببيانُه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.
فأما نزولُها في رَجْم اليهود فيأباه ظاهرُ اللَّفْظ، وأما سائرها فمحتمَل، والله أعلم.
المسألة الثانية : اختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه ؛ فقيل : كان بإذْنِ الله تعالى.
وقيل : كان باجتهادٍ، وذلك مبنيٌّ على جواز اجتهادِ الأنبياء ؛ وقد بينّاه في موضعه.
واختلف في تحريم اليهود ذلك. فقيل : إنَّ إسرائيلَ حرَّمها على نفسه وعليهم.
وقيل : اقتدوا به في تحريم ذلك، فحرَّم اللهُ تعالى عليهم بَغْيهم، ونزلت به التوراة، وذلك في قوله تعالى :﴿ فبِظُلْم من الذين هادُوا حرَّمْنا عليهم طيباتٍ أُحِلَّتْ لهم ﴾ [ النساء : ١٦٠ ].
والصحيحُ أنَّ للنبي أن يجتهد ؛ وإذا أدَّاه اجتهادُه إلى شيء كان دِيناً يلزمُ اتّباعُه لتقريرِ اللهِ سبحانه إياه على ذلك، وكما يُوحَى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يُؤْذن له ويجتهد، ويتعيّن موجبُ اجتهاده إذا قُدر عليه.
والظاهر من الآية - مع أنّ الله سبحانه أضاف التحريم إليه بقوله إلاَّ ما حرّم إسرائيلُ على نفسه مِنْ قَبْلِ أن تنزَّلَ التوراة - أنَّ اللهَ سبحانه أَذِنَ له في تحريم ما شاء، ولولا تقدّم الإذنِ له ما تسَوَّر على التحليل والتحريم، وتقدم ما يقتضي ذلك على القول بجواز الاجتهاد فحرّمه مجتهداً فأقرَّه اللهُ سبحانه عليه.
وقد حرَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم العَسَل على الرواية الصحيحة أو جاريته مارية فلم يقر الله تحريمه، ونزل قوله تعالى :﴿ يأيها النبي لِمَ تحرِّمُ ما أحلَّ اللهُ لك ﴾ [ التحريم : ١ ]. وكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاداً أو بأمْرٍ على ما يأتي بيانُه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة : حقيقةُ التحريم الْمَنْع ؛ فكلُّ من امتنع من شيء مع اعتقاده الامتناع منه فقد حرّمه، وذلك يكونُ بأسبابٍ ؛ إما بنَذْرٍ كما فعل يعقوب في تحريم الإبل وألبانها ؛ وإما بيمينٍ كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في العَسل، أو في جاريته ؛ فإن كان بِنَذْرٍ فإنه غير منعقد في شَرْعنا.
ولسنا نتحقّق كيفيةَ تحريم يعقوب ؛ هل كان بنَذْرٍ أو بيمين ؛ فإنْ كان بيمين فقد أحلَّ الله لنا اليمين بالكفارة أو بالاستثناء المتصل رخصة منه لنا، ولم يكن ذلك لغيرنا من الأمم.
فلو قال رجل : حرَّمتُ الخبْزَ على نفسي أو اللحم لم يَحْرُم ولم ينعقد يميناً ؛ فإن قال : حرمت أهلي فقد اختلف العلماءُ فيه اختلافاً كثيراً يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
والصحيح أنه يلزمه تحريمُ الأهل إذا ابتدأ بتحريمها كما يحرمها بالطلاق، ولا يلزمه تحريمٌ فيما عدا ذلك ؛ لقوله سبحانه :﴿ لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا ﴾ [ المادة : ٨٧ ].
الآية الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً، وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾.
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قيل له : أيُّ المسجدين وُضِع في الأرض أول ؟ المسجد الحرام أو المسجد الأقصى ؟ قال :«المسجد الحرام ». وذكر أنه كان بينهما أربعون عاماً ؛ وهذا ردٌّ على مَن يقول : كان في الأرض بَيْتٌ قبله تحجُّه الملائكة.
المسألة الثانية : في بركَته.
قيل : ثوابُ الأعمال. وقيل : ثواب القاصِد إليه. وقيل : أَمْن الوحْش فيه. وقيل : عزُوف النفسِ عن الدنيا عند رؤيته.
والصحيحُ أنه مبارك من كلِّ وجْهٍ من وجوه الدنيا والآخرة، وذلك بجميعه موجود فيه.
المسألة الثالثة : فأما قوله :﴿ ببكَّةَ ﴾، ففيها ثلاثة أقوال :
الأول : بَكّة : مكة. الثاني : بَكّة : المسجد، ومكة سائر الحرم.
وإنما سُمِّيت بَكّة لأنها تبكُّ أعناقَ الجبابرة، أي تقطعُها. وقال أبو جعفر وقتادة : إنَّ الله سبحانه بَكَّ بها الناسَ ؛ فتصلِّي النساءُ بين يدي الرجال، ولا يكون في بلدٍ غيرها، وصورة هذا أنَّ الناسَ يستديرون بالبيت فيكون وجوهُ البعض إلى البعض فلابدَّ من استقبال النساء من حيث صلُّوا.
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ ﴾.
فيه قولان :
أحدهما : أنه الحجر المعهود، وإنما جُعِل آيةً للناس ؛ لأنه جماد صَلْد وقف عليه إبراهيم، فأظهر اللهُ فيه أثَرَ قدَمِه آيةً باقية إلى يوم القيامة.
الثاني : قال ابنُ عباس :﴿ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ ﴾ هو الحجّ كلّه ؛ وهذا بيِّن، فإنَّ إبراهيم قام بأمْرِ اللهِ سبحانَه، ونادى بالحجِّ عبادَ الله، فجمع اللهُ العبادَ على قَصْده، وكانت شرعه من عَهْده، وحجَّةً على العرب الذين اقتَدَوْا به من بعده.
وفيه من الآيات أنَّ مَنْ دخله خائفاً عادَ آمِناً ؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كان صرفَ القلوبَ عن القَصْدِ إلى معارضته، وصَرَف الأيدي عن إذايته، وجمعها على تعظيم الله تعالى وحرمته.
وهذا خبرٌ عمَّا كان، وليس فيه إثباتُ حُكْم، وإنما هو تنبيهٌ على آيات، وتقرير نِعَم متعدّدات، مقصودها وفائدتها وتمامُ النعمة فيه بعثه محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ فمن لم يشهدْ هذه الآياتِ ويرى ما فيها من شرَفِ المقدّمات لحرمة مَنْ ظهر من تلك البقعة فهو من الأموات.
المسألة الخامسة : قال أبو حنيفة : إنَّ من اقترف ذَنْباً واستوجب به حدّاً، ثم لجأ إلى الحرَم عصمَه ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ﴾، فأوجب اللهُ سبحانه الأمْنَ لمن دخله، ورُوي ذلك عن جماعةٍ من السلف، منهم ابنُ عباس وغيره من الناس.
وكلّ مَنْ قال هذا فقد وهم من وجهين :
أحدهما : أنه لم يفهم معنى الآية أنه خبرٌ عما مضى، ولم يُقْصد بها إثباتُ حكم مستقبل.
الثاني : أنه لم يعلم أنّ ذلك الأمْن قد ذهب، وأنَّ القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبرُ الله سبحانه لا يقعُ بخلاف مخبره ؛ فدلَّ على أنه في الماضي.
هذا، وقد ناقض أبو حنيفة فقال : إنه لا يُطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلّم حتى يخرج، فاضطرارُه إلى الخروج ليس يصحّ معه أَمْن.
وروي عنه أنه قال : يقع القِصاص في الأطراف في الحرم، ولا أمْنَ أيضاً مع هذا، وقد مهَّدْناه في مسائل الخلاف.
المسألة السادسة : قال بعضُهم : مَنْ دخله كان آمِناً من النار ؛ ولا يصحُّ هذا على عمومه، ولكنه «مَن حجَّ فلم يَرْفُث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه »، «والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة ». قال ذلك كلَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيكون تفسيراً للمقصود، وبياناً لخصوص العموم، إن كان هذا القَصْد صحيحاً.
هذا، والصحيحُ ما قدمناه من أنه قصد به تعديد النعم على مَنْ كان بها جاهلاً ولها مُنْكِراً من العرب، كما قال تعالى ﴿ أوَلم يَرَوْا أنَّا جعَلْنا حَرَماً آمِناً ويُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِم، أفبالباطلِ يُؤْمِنونَ وبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرون ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
الآية الخامسة عشرة : قوله تعالى :﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً، وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾.
فيها إحدى عشرة مسألة :
المسألة الأولى : قال علماؤنا : هذا من أوْكد ألفاظ الوجوب عند العرب، إذا قال العربي : لفلان عليّ كذا فقد وكَّدَهُ وأوجبه.
قال علماؤنا : فذكر اللهُ سبحانه الحج فأبلغ ألفاظ الوجوب ؛ تأكيداً لحقّه، وتعظيماً لحرمته، وتقويةً لفَرْضِه.
المسألة الثانية : كان الحجُّ معلوماً عند العرب مشروعاً لديهم، فخُوطِبوا بما علموا وألزمُوا ما عرفوا، وقد حجّ النبيُّ معهم قبل فَرْضِ الحج ؛ فوقف بعَرفة ولم يغيِّر مِنْ شَرْع إبراهيم ما غيَّروا حيث كانت قريش تقف بالْمُزْدَلفة، ويقولون : نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ونحن الْحُمْس.
المسألة الثالثة : هذا يدلُّ على أنَّ ركْن الحج القصد إلى البيت. وللحج ركنان :
أحدهما : الطواف بالبيت. والثاني : الوقوف بعرفة : لا خلاف في ذلك، وكل ما وراءه نازل عنه مختلَف فيه.
فإن قيل : فأين الإحرام، وهو متّفق عليه ؟
قلنا : هو النية التي تلزم كلَّ عبادة، وتتعيَّن في كل طاعة، وكل عمل خلافها لم يكن به اعتداد ؛ فهي شَرْط لا رُكْن.
المسألة الرابعة : قال علماؤنا : إذا توجّه الخطاب على المكلفين بفرض، هل يكفي فيه فعلُه مرة واحدة، أو يحمل على التكرار ؟
وقد بيناه في أصول الفقه دليلاً ومذهباً.
والمختار أنه يقتضي فِعْلَه مرة واحدة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه : يا رسول الله ؛ أحجّنا هذا لعامنا أم للأبد ؟ فقال :«لا، بل لأبد الأبد ». رواه جماعة منهم عليّ ؛ قال : لما نزلت : ولله على الناس حِجُّ البيت - قالوا :«يا رسول الله ؛ أو في كل عام ؟ قال : لا - ولو قلت : نعم، لوجبت ».
وروى محمد بن زياد، عن أبي هريرة : خطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال :«إن الله سبحانه كتب عليكم الحجَّ ". فقال محصن الأسدي : أفي كلّ عام يا رسول الله ؟ قال : أما إني لو قلت نعم لوجبت، ثم لو تُرِكتم لضللتم ؟ اسكتوا عني ما سكتّ عنكم، إنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم » ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تَسْأَلُوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسُؤْكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠١ ].
المسألة الخامسة : إذا ثبت أنه لا يتعيَّنُ لامتثال الخطاب إلا فَعْلة واحده من الفعل المأمور به فقد اختلف العلماءُ ؛ هل هي على الفَوْر أم هي مسترسلة على الزمان إلى خَوْف الفَوْتِ ؟
ذَهب جمهور البغداديين إلى حَملها على الفور. ويضعفُ عندي.
واضطربت الروايات عن مالك في مطلقات ذلك.
والصحيحُ عندي من مذهبه أنه لا يحكم فيه بفَوْر ولا تراخ كما تراه ؛ وهو الحقّ، وقد بيناه في أصول الفقه.
المسألة السادسة : قوله تعالى :﴿ عَلَى النَّاسِ ﴾ عامٌّ في جميعهم، مسترسل على جميعهم من غير خلافٍ بيه الأمّة في هذه الآية، وإن كان الناسُ قد اختلفوا في مطلق العمومات، بَيْدَ أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكَرِهم وأنثاهم، خلا الصغير ؛ فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف، فلا يقال فيه : إنّ الآية مخصوصة فيه، وكذا العبد لم يدخل فيها ؛ لأنه أخْرَجَه عن مطلق العموم الأول قولُه سبحانه في تمام الآية :﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ﴾، والعبْدُ غير مستطيع ؛ لأنَّ السيد يمنعه بشَغله بحقوقه عن هذه العبادة ؛ وقد قدَّم الله سبحانه حقَّ السيدِ على حقه رفقاً بالعباد ومصلحةً لهم.
ولا خلافَ فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، ولا نهرف بما لا نعرف، ولا دليل عليه إلا الإجماع.
( توجيه وتعليم ) - تساهل بعضُ علمائنا فقال : إنما لم يثبت الحجُّ على العبد وإن أذِن له السيد لأنه كان كافراً في الأصل، ولم يكن حجُّ الكافِر معتدّاً به، فلما ضرب عليه الرقُّ ضرباً مؤبّداً لم يخاطَبْ بالحج، وهذا فاسد- فاعلموه - من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّ الكفارَ عندنا مخاطبون بفروع الشريعة، ولا خلافَ فيه في قول مالك وإن خَفِي ذلك على الأصحاب.
الثاني : أنَّ الكفْرَ قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاعُ حكمه.
الثالث : أنَّ سائرَ العبادات تلزمهُ من صلاة وصوم مع كونه رقيقاً، ولو فعلها في حال الكفر لم يعتدَّ بها، فوجب أن يكون الحجُّ مثله ؛ فتبين أنَّ المعتمد ما ذكرنا من تقدم حقوقِ السيد.
المسألة السابعة : قال جماعة من فقهاء الأمصار، منهم أبو حنيفة والشافعي وعبد العزيز بن أبي سلمة : السبيل : الزادُ والراحلة، ورفعوا في ذلك حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا يصح إسناده، وقد بيناه في مسائل الخلاف.
وهو أيضاً يَبْعُد معنى ؛ فإنه لو قال : الاستطالة الزاد والراحلة لكان أولى في النفس، فإن السبيل في اللغة هي الطريق، والاستطاعة ما يكْسِب سلوكها، وهي صحةُ البدن ووجود القُوت لمن يقدر على المشي، ومَنْ لم يقدر على المشي فالركوبُ زيادة على صحة البدن ووجود القوت.
وقد روى ابنُ القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال :«الناسُ في ذلك على طاقتهم ويسرهم وجلَدهم ».
قال أشهب : أهو الزاد والراحلة ؟ قال : لا والله، وما ذلك إلا قدر طاقة الناس، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يَقدر على السير، وآخر يقدرُ أن يمشي على رجليه، ولا صفة في ذلك أَبْين مما أنزل الله، وهذا بالغٌ في البيان منه.
وقال علماؤنا : لو صحّ حديثُ الخوزي : الزاد الراحلة لحملناه على عموم الناس، والغالب منهم في الأقطار البعيدة، وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثيرٌ في الشريعة، وفي كلام العرب وأشعارها.
المسألة الثامنة : إذا وُجدت الاستطاعة توجَّه فَرْض الحج بلا خلافٍ إلا أن تعرض له آفةٌ، والآفات أنواع :
منها الغَريم يمنعُه من الخروج حتى يؤدِّي الدَّين، ولا خِلاف فيه.
ومن كان له أبوان، أو من كان لها من النساء زَوْج، فاختلف العلماء فيهم. واختلف قولُ مالك كاختلافهم.
والصحيحُ في الزوج أنه يمنعُها لاسيما إذا قلنا : إن الحج لا يلزم على الفور، وإن قلنا إنه على الفور فحقُّ الزوج مقدَّم، وأما الأبوان فإن كانا منعاه لأجل الشوق والوَحشة فلا يُلتفَتُ إليه، وإن كان خوف الضيعة وعدم العِوض في التلطف فلا سبيلَ له إلى الحج ؛ وذلك مبيَّن في مسائل الفقه.
المسألة التاسعة : إن كان مريضاً أو مغصوباً لم يتوجَّه عليه المسير إلى الحج بإجماع من الأمة ؛ فإن الحجَّ إنما فرضه اللهُ على المستطيع إجماعاً ؛ والمريضُ والمغصوبُ لا استطاعة لهما ؛ فإنْ رووا أنَّ الصحيح قد تضمَّن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ امرأةً قالت : يا رسولَ الله، إن فريضةَ الله على عباده في الحج أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً لا يستطيعُ أن يثبت على الراحلة، أفأحُجُّ عنه ؟ قال :«نعم، حجِّي عنه ». وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«أرأيتِ لو كان على أبيك دَيْن أكنتِ قاضيته ؟ قالت : نعم. قال : فدَيْنُ اللهِ أحقُّ أن يُقْضَى ».
وقد قال بهذا الحديث جماعةٌ من المتقدمين، واختاره الشافعي من المتأخرين، وأبَى ذلك الحنفية والمالكية، وهم فيه أعدل قضية ؛ فإنَّ مقصود الحديث الحثُّ على بِرِّ الوالدين والنظر في مصالحهم دِيناً ودُنْيا، وجَلْب المنفعة إليهما جبّلة وشَرْعاً ؛ فإنه رأى من المرأة انفعالاً بيِّناً، وطواعية ظاهرة، ورَغْبَة صادقة في بِرِّ أبيها، وتأسفت أن تفوتَه بَرَكَة الحج، ويكون عن ثواب هذه العبادة بمعْزل، وطاعَتْ بأنْ تحج عنه ؛ فأذِنَ لها النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وكأن في هذا الحديث جواز حجِّ الغير عن الغير ؛ لأنها عبادة بدنيّة مالية، والبدنُ وإن كان لا يحتملُ النيابةَ فإنَ المالَ يحتملها فرُوعي في هذه العبادة جهة المال، وجازت فيه النيابة.
وقد صَرَّح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بجواز النيابة في غير هذا الموضع، وضرب المثلَ بأنه لو كان على أبيها دَيْنُ عَبْدٍ لسعت في قضائه، فدَيْنُ اللهِ أحقُّ بالقضاء، وإن كان لا يلزمُها تخليصُه من مأثم الدين وعارِ الاقتضاء، فدَينُ الله أحق بالقضاء ؛ وهذه الكلمة أقوى ما في الحديث، فإن جعله دَيْناً، ولكن لم يُرِدْ به هذا الشخص المخصوص، فإنما أراد به دَيْن الله إذا وجب فهو أحقّ بالقضاء، وال
الآية السادسة عشرة : قوله تعالى :﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعَدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى : الْحَبْل : لفظٌ لغوي يَنْطِلق على معانٍ كثيرة ؛ أعظمها السبَبُ الواصل بين شيئين.
وهو هاهنا مما اختلف العلماءُ فيه ؛ فمنهم من قال : هو عَهْد الله، وقيل : كِتابُه، وقيل : دِينُه ؛ وقد روَى الأئمة في الصحيح أنَّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له حديث رؤيا الظلَّة التي تَنْطُفُ عسلاً وسَمْناً، وفيه قال :«ورأيتُ شيئاً واصلاً من السماء إلى الأرض. . . » الحديث إلى آخره، وعبَّر الصدِّيق بحضرته عليه السلام، فقال :«وأما السبَبُ الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحقُّ الذي أنْتَ عليه، فضرب اللهُ تعالى على يدي ملك الرؤيا مثلاً للحقِّ الذي بُعِثَ به الأنبياء بالْحَبْلِ الواصل بين السماء والأرض، وهذا لأنهما جميعاً ينيران بمشكاةٍ واحدة.
المسألة الثانية : إذا ثبت هذا فالأظهر أنه كتابُ اللهِ، فإنه يتضمَّن عَهْدَه ودينه.
المسألة الثالثة : التفرق الْمَنْهيّ عنه يحتمل ثلاثة أوجه :
الأول : التفرق في العقائد، لقوله تعالى :﴿ شَرَعَ لكم مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والذي أوْحَيْنا إليكَ وما وصَّيْنا به إبراهيمَ ومُوسَى وعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيه ﴾ [ الشورى : ١٣ ].
الثاني : قوله عليه السلام :«لا تحاسَدُوا ولا تَدَابَرُوا ولا تَقَاطَعُوا وكونوا عبادَ الله إخواناً »، ويعضده قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً ﴾.
الثالث : تَرْكُ التخطئة في الفروع والتبرِّي فيها، وليمض كلُّ أحدٍ على اجتهاده ؛ فإنَّ الكلَّ بحَبْلِ الله معتصم، وبدليله عامل ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم :«لا يصلينَّ أحدٌ منكم العَصْر إلاّ في بني قُرَيظة » ؛ فمنهم من حضرَتِ العَصْرُ فأخَّرها حتى بلغ بني قريظة أخْذاً بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال : لم يُرِدْ هذا منّا، يعني وإنما أراد الاستعجال فلم يعنف النبيُّ عليه السلام أحداً منهم.
والحكمةُ في ذلك أنَّ الاختلافَ والتفرقَ المنهيّ عنه إنما هو المؤدِّي إلى الفتنة والتعصُّب وتشتيت الجماعة ؛ فأما الاختلافُ في الفروع فهو مِنْ محاسنِ الشريعة. قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلَهُ أجْران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجْرٌ واحد ». ورُوي أنَّ له إنْ أصاب عشرة أُجور.
المسألة الرابعة : قال بعضُ علمائنا قوله :﴿ وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ دليل على أنه لا يصلِّي الْمفْتَرِض خَلْفَ المتنفِّل ؛ لأنَّ نيتَهم قد تفرقت، ولو كان هذا متعلقاً لما جازت صلاةُ المتنفِّل خلْفَ المفترض ؛ لأنَّ النيةَ أيضاً قد تفرقت ؛ وفي الإجماع على جواز ذلك دليلٌ على أنَّ منزعَ الآية ما قدمناه لا ما تعلَّق به هذا العالم.
الآية السابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾.
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى :﴿ أُمَّةٌ ﴾ : كلمة ذَكَر لها علماءُ اللسان خمسة عشر معنى، وقد رأيتُ مَن بَلَّغها إلى أربعين، منها أنَّ الأمةَ بمعنى الجماعة، ومنها أنَّ الأمةَ الرجل الواحد الداعِي إلى الحقّ.
المسألة الثانية : في هذه الآية وفي التي بعدها وهي قوله :﴿ كُنْتُمْ َخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]، دليلٌ على أنَّ الأمْرَ بالمعروف والنهْيَ عن المنكر فرْضُ كفاية، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرةُ الدين بإقامة الحجَّةِ على المخالفين، وقد يكون فَرْضَ عينٍ إذا عَرَف المرءُ من نفسه صلاحيةَ النظَرِ والاستقلال بالجدال، أو عُرِف ذلك منه.
المسألة الثالثة : في مطلق قوله تعالى :﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ دليلٌ على أنَّ الأمر بالمعروف والنهْيَ عن المنكر فَرْضٌ يقومُ به المسلم، وإن لم يكن عَدْلاً، خلافاً للمبتدعة الذين يشترطون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العدالة.
وقد بينّا في كتب الأصول أنَّ شروطَ الطاعات لا تثبت إلا بالأدلَّة، وكلُّ أحد عليه فرْضٌ في نفسه أن يُطيعَ، وعليه فَرْضٌ في دينه أن ينبِّه غيرَه على ما يجهله من طاعةٍ أو معصية، وينهاه عما يكون عليه من ذَنْب. وقد بيناه في الآية الأولى قبلها.
المسألة الرابعة : في ترتيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«مَنْ رأى منكم مُنْكراً فليغيِّرْهُ بيده، فإنْ لم يستَطِعْ فبِلسانِه، فإن لم يستطع فبِقَلْبه، وذلك أضعَفُ الإيمان ». وفي هذا الحديث من غريب الفِقْهِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بدأ في البيان بالأخير في الفعل، وهو تغيير المنكر باليد، وإنما يُبْدأ باللسان والبيان، فإن لم يكن فباليد.
يعني أن يحولَ بين المنكر وبين متعاطيه بنَزْعه وبجَذْبِه منه، فإن لم يقدِرْ إلا بمقاتلةٍ وسلاح فليتركه، وذلك إنما هو إلى السلطان ؛ لأن شَهْرَ السلاح بين الناس قد يكون مُخْرجاً إلى الفتنة، وآيِلاً إلى فسادٍ أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن يَقْوَى المنكر ؛ مثل أن يرى عدوّاً يقتل عدوّاً فينزعه عنه ولا يستطيع ألاّ يدفعه، ويتحقّق أنه لو تركه قتله، وهو قادر على نَزْعه ولا يسلمه بحال، وليخرج السلاح.
وقد بيناه في موضعه.
ويعني بقوله :«وذلك أضعف الإيمان » أنه ليس وراءَه في التغيير درجة.
المسألة الخامسة : في هذه الآية دليلٌ على مسألةٍ اختلف فيها العلماء ؛ وهي إذا رأى مسلمٌ فَحْلاً يصولُ على مسلم فإنه يلزمه أن يدفَعَه عنه، وإنْ أدّى إلى قَتْلِه، ولا ضمانَ على قاتله حينئذ ؛ سواء كان القاتل له هو الذي صال عليه الفَحْل، أو مُعِيناً له من الْخَلْق ؛ وذلك أنه إذا دفعه عنه فقد قام بقَرْضٍ يلزمُ جميعَ المسلمين ؛ فناب عنهم فيه ؛ ومن جملتهم مالِكُ الفحل ؛ فيكف يكون نائباً عنه في قَتْل الصائل ويلزمه ضمانُه ؟
وقال أبو حنيفة : يلزمه الضمان ؛ وقد بيناها في مسائل الخلاف.
المسألة السادسة : في هذه الآية دليلٌ على تعظيم هذه الأمة ؛ وكذلك في قوله سبحانه :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]، وإشارةٌ لتقديمها على سائر الأمم.
وفي الأثر ينمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم :«إنكم تتمُّون سبعين أمه أنتم خَيْرُها ».
الآية الثامنة عشرة : قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وجُوهٌ ﴾.
أورد العلماءُ فيه خمسة أقوال :
الأول : أنهم المنافقون ؛ قاله الحَسن.
الثاني : أنهم المرتدّون ؛ قاله مجاهد.
الثالث : أهل الكتاب ؛ قاله الزجاج.
الرابع : أنهم جميع الكفار ؛ أقرّوا بالتوحيد في صُلْب آدم ثم كفَرُوا بعد ذلك ؛ قاله أُبيّ بن كعب.
الخامس : رواه ابن القاسم عن مالك أنهم أهل الأهواء. قال مالك : وأي كلام أبْيَنُ مِنْ هذا ؟
وهذا الذي قاله ممكن في معنى الآية، لكن لا يتعيَّنُ واحدٌ منها إلا بدليل.
والصحيح أنه عامّ في الجميع ؛ وعلى هذا فإنّ المبتدعة وأهلَ الأهواء كفّار، وقد اختلف العلماءُ في تكفيرهم.
والصحيح عندي ترتيبهم، فأما القدَرية فلا شكَّ في كُفْرهم، وأما مَنْ عداهم فنستقرئ فيهم الأدلة، ونحكمُ بما تقتضيه، وقد مهَّدنا ذلك في كتب الأصول، ففيهم نظر طويل ؛ وإذا حَكَمْنا بكفرهم فقد قال مالك : لا يصلَّى على مَوْتاهم، ولا تعاد مرضاهم. قال سُحْنون : أَدَباً لهم.
قال بعضُ الناس : وهذه إشارة من سُحْنون إلى أنه لا يكفرهم، وليس كما زعم ؛ فإنَّ الكافر من أهل الأهواء يجبُ قَتْلُه ؛ فإذا لم تستطع قَتْلَه وجب عليك هِجْرته، فلا تسلّم عليه، ولا تَعُدْه في مرضه، ولا تُصَلّ عليه إذا مات حتى تلجئه إلى اعتقاد الحق، ويتأدَّب بذلك غيرُه من الْخَلْق ؛ فكأنّ سُحْنون قال : إذا لم تَقْدِر على قتله فأدِّبْه.
وقد سُئل مالك : هل تزوّج القَدَرية ؟ فقال : قد قال الله تعالى :﴿ ولَعَبْدٌ مؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ].
الآية التاسعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾.
قال ابنُ وهب : قال مالك : يعني قائمة بالحق، يريد قَوْلاً وفعلاً ؛ فيعودُ الكلام إلى الآية المتقدمة :﴿ ولْتكن منكم أمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ ﴾.
وقد اتّفق المفسِّرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهْل الكتاب، وعليه يَدُلُّ ظاهرُ القرآن ؛ ومفتتح الكلام نَفْيُ المساواة بين مَنْ أسلم منهم وبين مَنْ بَقِيَ منهم على الكفر، إلاّ أنه رُوي عن ابن مسعود أنَّ معناه نفْيُ المساواة بين أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن ابن عباس أنها نزلَتْ في عبدالله بن سلام ومَنْ أسلم معه من أهل الكتاب.
وقوله :﴿ لَيْسُوا سَوَاءً ﴾ تمامُ كلام، ثم ابتدأ الكلامَ بوصْفِ المؤمنين بالإيمان والقرآن والصلاة ؛ وهذه الخصالُ هي من شعائر الإسلام، لاسيما الصلاة وخاصة في الليل وَقْتَ الراحة.
وقيل : إنها الصلاة مطلقاً. وقيل : إنها صلاة المغرب والعشاء الآخرة.
قال ابنُ مسعود : خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةً وقد أخَّر الصلاة فمنَّا المضطجع. ومنا المصلي ؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم :«إنه لا يصلي أحدٌ من أهل الأرض هذه الصلاة غيركم ».
والصحيحُ أنه في الصلاة مطلقاً. وعن أبي موسى عنه عليه السلام :«ما مِنْ أحد من الناس يُصَلِّي هذه الساعة غيركم ». وهذه في العَتَمة تأكيدٌ للتخصيص وتبيين للتفضيل.
الآية الموفية عشرين : قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
قد تقدم بيانها في قوله تعالى :﴿ لاَ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أولياءَ مِنْ دون المؤمنين ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ].
فيها مسألتان :
المسألة الأولى : لا خلافَ بين علمائنا أنَّ المرادَ به النهيُ عن مصاحبة الكفار مِن أهل الكتاب، حتى نهى عن التشبُّه بهم.
قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«لا تستَضِيئوا بِنَارِ أهْلِ الشرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً ».
فلم نَدْرِ ما قال حتى جاء الحسَنُ فقال : لا تستضيئوا : لا تشاوروهم في شيء من أموركم. ومعنى لا تنقشوا عَرَبياً : لا تنقشوا : محمد رسول الله.
قال الحسن : وتصديقُ ذلك في كتاب الله تعالى :﴿ يأَيُّها الَّذينَ آمَنوا لاَ تَتَّخِذُوا بطانَةً من دونكم. . . . ﴾الآية.
وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التشبه بالأعاجم.
المسألة الثانية : حسنة، وهي أنَّ شهادة العدوّ على عدوِّه لا تجوزُ، لقوله تعالى :﴿ قد بدَتِ البغْضاءُ مِن أفْوَاهِهِم وما تُخْفِي صدُورُهم أكبر ﴾ وبذلك قال أهلُ المدينة وأهل الحجاز.
وقال أبو حنيفة : تجوزُ شهادةُ العدوِّ على عدوه، والاعتراضات والانفصالات قد مهَّدناها في مسائل الخلاف.
الآية الحادية والعشرون : قوله تعالى :﴿ بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾.
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى : قيل نزلت يوم أُحد، وقيل يوم بدر، والصحيح يوم بدر، وعليه يدل ظاهر الآية.
المسألة الثانية : قال علماؤنا : أول أمر الصّوف يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم :«تسوّموا فإنَّ الملائكةَ قد تسوّمت »، وكان على الزبير ذلك اليوم عمامة صفْراء، فنزلت الملائكةُ ذلك اليوم على صِفَته ؛ نزلوا عليهم عمائم صُفْر، وقد طرحوها بين أكتافهم.
وقال ابنُ عباس : نزلت الملائكة مسوّمين بالصوف ؛ فأمر محمدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابَه فسوَّمُوا أنفسهم وخيْلَهم بالصوف.
وقال مجاهد : جاءت الملائكةُ مجزوزة أذنابُ خَيْلهم ونواصيها.
المسألة الثانية : الاشتهار بالعلامة في الحرب سنَّة ماضية، وهي هيئة باهِيَة قُصد بها الهيبة على العدوّ، والإغلاظ على الكفار، والتحريض للمؤمنين. والأعمال بالنيات. وهذا من باب الجليات لا يفتقر إلى برهان.
المسألة الرابعة : هذا يدلُّ على لباسِ الثوب الأصفر وحُسْنِه، ولولا ذلك لما نزلت الملائكةُ به.
وقد قال ابنُ عباس : من لبس نَعْلاً أصفر قُضِيت حاجتُه. ولم يصح عندي فأنظر فيه، غير أنَّ المفسرين قالوا : إنَّ الله قضى حاجةَ بني إسرائيل على بَقرٍة صفراء.
المسألة الخامسة : أما قول مجاهد في جَزّ النواصي والأذناب فضعيف لم يصحّ ؛ كيف وقد قال النبيّ عليه السلام في الخبر الصحيح :«الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ». وهذا إنْ صح تعضُده المشاهدةُ فيها. والله أعلم.
الآية الثانية والعشرون : قوله تعالى :﴿ وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ. . . ﴾.
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : إن المشاورة هي الاجتماعُ على الأمر ليستشيرَ كلُّ واحد منهم صاحبَه ويستخرجَ ما عنده، من قولهم : شُرْت الدابة أشورها إذا رُضْتَها لتستخرجَ أخلافها.
المسألة الثانية : في ماذا تقع الإشارة ؟
قال علماؤنا : المرادُ به الاستشارةُ في الحَرْب، ولا شكّ في ذلك ؛ لأنَّ الأحكام لم يكن لهم فيها رأيٌ بقولٍ، وإنما هي بوحْيِ مطلق مِن الله عز وجل، أو باجتهادٍ من النبي صلى الله عليه وسلم على مَن يجوز له الاجتهاد.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإفك حين خطب :«أشِيروا عليَّ في أناسٍ أَبَنُوا أهلي، والله ما علمتُ على أهلي إلاّ خيراً »، يعني بقوله :«أبَنُوهم » عيَّروهم.
ولم يكن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً لهم عن الواجب، وإنما أراد أن يستخرجَ ما عندهم من التعصُّب لهم وإسلامهم إلى الحق الواجب عليهم ؛ فقال له رجل من الأنصار، من الأوس : يا رسول الله ؛ أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضرَبْنا عنقه، وإن كان من أخواننا من الخزْرَج أمرتَنا فيه بأمرك.
فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن اجْتَهَلَتْهُ الحميّة، فقال لذلك الأوسي : كذبت، لعَمْرُ الله لا تقتله، ولا تقدر على قَتْله.
فقام أُسَيْد بن حُضَير، وهو ابن عم الأوسي المتكلم أولاً، فقال لسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتلنّه ؛ فإنك رجلٌ منافق تجادِلُ عن المنافقين، فتثاور الحيَّان الأوس والخزرج حتى همُّوا أن يقتتلوا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر ؛ فلم يزلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم فسكتوا.
وكانت هذه فائدةٌ لمن بعده ليُسْتنَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم في المشاورة.
وقد روى أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه قال : لما كان يوم بَدْر جيء بالأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما تقولون في هؤلاء الأسارى ؟ » فذكر في الحديث قصة طويلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يفلُتني أحدٌ منهم إلاّ بفداء أو ضَرْبِ عنق ». قال عبدالله بن مسعود :«فقلت : يا رسول الله، إلاَّ سهيل بن بيضاء فإني قد سمعته يذْكُر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : فما رأيتني في يومٍ أخوف أن يقع عليَّ حجارة من السماء منّي في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء ». قال : ونزل القرآنُ بقَوْل عمر :﴿ ما كان لنبيٍّ أن يكونَ له أَسْرَى. . . ﴾ الآية [ الأنفال : ٦٧ ].
قال القاضي : وهذا حديثٌ صحيح، وهو على النحو الأول أراد أن يختبر ما عندهم في قرابتهم وحالِ أنفسهم فيما يفعلُ بهم.
المسألة الثالثة : المراد بقوله :﴿ وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ ﴾ جميع أصحابه ؛ ورأيتُ بعضَهم قال : المراد به أبو بكر وعمر.
ولعَمْر الله إنهم أهل لذلك وأحقُّ به، ولكن لا يُقصر ذلك عليهم، فقَصْرُه عليهم دعوى.
وقد ثبت في السير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه :«أشيروا عليَّ في المنزل. فقال الْحُبَاب بن المنذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتَ هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ؟ فليس لنا أن نتقدَّمه ولا نتأخره أم هو الرأيُ والحرْب والمكيدة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل هو الرأْيُ والحرْب والمكيدة. قال : فإنَّ هذا ليس بمنزل ؛ انطلق بنا إلى أَدْنى ماء القوم. . . » إلى أخره.
الآية الثالثة والعشرون : قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.
وفيها ثماني مسائل :
المسألة الأولى : في سبب نزولها : وفيها ثلاثةُ أقوال :
الأول : روي أن قوماً من المنافقين اتهمُوا النبي صلى الله عليه بشيء من المغانم، وروي أنّ قطيفةً حمراء فُقِدَتْ، فقال قوم : لعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذَها، وأكثرُوا في ذلك، فأنزل الله سبحانه الآية.
الثاني : أنَّ قَوْماً غَلّوا من المغنم أوهمُّوا فأنزل الله الآية فيما همُّوا ونهاهم عن ذلك، رواه الترمذي.
الثالث : نهى اللهُ أن يكتُم شيئاً من الوَحْي. والصحيح هو القول الثاني.
المسألة الثانية : في حقيقة الغلول :
اعلموا - وفَّقكم الله - أنّ غلّ ينصرف في اللغة ثلاثة معان :
الأول : خيانة مطلقة. الثاني : في الحقد، يقال في الأول تغُل بضم الغين، وفي الثاني يغِل - بكسر الغين.
الثالث : أنه خيانة الغنيمة ؛ وسمي بذلك لوجهين : أحدهما لأنه جرَى على خفاء.
الثاني : قال ابن قتيبة : كان أصله من خان فيه إذا أدخله في متاعه فسترَه فيه.
ومنه الحديث :«لا إغلال ولا إسلال ». وفيه تفسيران :
أحدهما : أنَّ الإغلال خيانة المغنم، والإسلال : السرقة مطلقة.
الثاني : أن الإغلال والإسلال السرقة.
والصحيح عندي أن الإغلال خيانة المغنم، والإسلال سرقة الخطف من حيث لا تشعر، كما يفعلُ سُودان مكَّةَ اليوم.
المسألة الثالثة : في القراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يغُل بضم الغين، وفَتَحها الباقون، وهما صحيحتان قراءة ومعنى.
المسألة الرابعة : في معنى الآية :
فأما مَنْ قرأها بضم الغين فمعناه : ما كان لنبيٍّ أن يخونَ في مَغْنم ؛ فإنه ليس بمتَّهم. ولا في وَحْي، فإنه ليس بظَنِين ولا ضَنِين، أي ليس بمتهم عليه ولا بخيل فيه، فإنه إذا كان أميناً حريصاً على المؤمنين فكيف يخونُ وهو يأخذ ما أحبَّ من رأس الغنيمة ويكون له فيه سَهْم الصَّفِيّ ؛ إذا كان له أن يصطفي مِنْ رأس الغنيمة ما أراد، ثم يأخذ الْخُمْس وتكون القسمة بعد ذلك ؟ فما كان ليفعلَ ذلك كرامةَ أخلاق وطهارةَ أعراق، فكيف مع مَرْتبة النبوة وعصمة الرسالة.
ومن قرأ يغَل - بنصب الغين فله أربعة معان :
الأول : يوجد غالاًّ، كما تقول : أحمدت فلاناً.
الثاني : ما كان لنبي أن يخونه أحد، وقد روي أنّ هذا تُلِي على ابن عباس، وفسر بهذا عليّ وابن مسعود. فقال : نعم ويقتل.
وهذا لا يصحّ عندنا ؛ فإن باعَهُ في العلم والتفسير لا يَبُوعه أحد من الخلق، فإنه ليس المعنى بقوله : وما كان لنبيٍّ أن يغل - بفتح الغين، أن يخونه أحدٌ وجوداً، إنما المرادُ به أن يخونه أحدٌ شَرْعاً، نعم يكون ذلك فيهم فُجُوراً وتعدّياً، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر تعظيماً لقَدْره، وإن كان غيرُه أيضاً لا يجوزُ أن يَخُون، ولكن هو أعظم حرمة.
الثالث : ما كان لنبيٍّ أن يتهم فإنه مبرَّأ من ذلك، وهذا يدل على بطلان قولِ مَنْ قال : إنَّ شيطاناً لبَّس على النبي صلى الله عليه وسلم الوحْيَ وجاءه في صورة مَلَك، وهذا باطل قَطْعاً.
وقد بيناه في المشكلين، وخصصناه برسالة سميناها بكتاب " تنبيه الغبيّ على مقدار النبي "، وسنذكرها في سورة الحج إن شاء الله تعالى.
الرابع : ما كان لنبي أن يغَل - بفتح الغين، ولا يعلم، وإنما يتصوَّر ذلك في غير النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أما النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإذا خانه أحدٌ أطْلَعه اللهُ سبحانه عليه.
وهذا أقوى وجوه هذه الآية ؛ فقد ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثَقَله رجل يقال له كركرة فمات، فقال النبيّ عليه السلام :«هو في النار »، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوه قد غلّ عَباءة.
وقد رَوَى أبو داود وغيره، في الموطأ أنَّ رجلاً أصيب يوم خَيْبَر فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«صلُّوا على صاحِبكم »، فتغيَّرت وجُوه القوم. فقال صلى الله عليه وسلم :«والذي نَفْسي بيده إنَّ الشملة التي أخذها يوم خَيْبَر لم تُصِبها المقاسم لتَشْتَعِلُ عليه ناراً ».
وفي رواية فقال :«إن صاحبكم قد غَلَّ في سبيل الله ففتشنا متاعَه فوجدنا خرزاً من خرز يهود ما يُساوي درهمين ».
المسألة الخامسة : قوله تعالى ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ ﴾.
روى البخاري وغيره، عن أبي هريرة قال : قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فذكر الغلول وعظَّمه، وقال :«لا أُلفِيَنَّ أحدَكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغَاء، وعلى رقبته فرس لها حَمْحَمة يقول : يا رسول الله، أغِثْني. فأقول : لا أمْلِكُ لك من الله شيئاً قد بلَّغت. . » الحديث.
المسألة السادسة : إذا غلَّ الرجل في المغنم فوجدناه أخذناه منه وأدَّبْناه خلافاً للأوزاعي وأحمد وإسحاق من الفقهاء، وللحسين من التابعين، حيث قالوا : يحرق رَحْله إلا الحيوان والسلاح. قال الأوزاعي : إلا السرج، والإكاف ؛ لحديث أبي داود، عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال :«إذا وجدتم الرجل قد غَلَّ فأحْرِقُوا متاعَه واضربوه ». رواه أبو داود عن عبد العزيز بن محمد بن أبي زائدة، عن سالم، عن أبيه، عن عمر. ورواه ابن الجارود والدارقُطْني نحوه. قال ابن الجارود، عن الذهلي، عن علي بن بحر القطان، عن الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده فذكره. وذكر البخاري حديث كركرة المتقدم عن عبدالله بن عمر قال : ولم يذكر عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرق متاعه.
وهذا أصحّ. ويحتمل أن يكونَ النبيُّ إنما لم يُحْرِق رَحْل كركرة ؛ لأنّ كركرة قد فات بالموت ؛ والتحريقُ إنما هو زَجْر ورَدْع، ولا يُرْدَع مَن مات.
والجواب أنه يردع به مَن بقي، ويحتمل أنه كان ثم ترك، ويعضده أنه لا عقوبةَ في الأموال، ولكنه يؤدَّب بجنايته لخيانته بالإجماع.
المسألة السابعة : قال علماؤنا : تحريمُ الغلول دليلٌ على اشتراك الغانمين في الغنيمة، فلا يحلُّ لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر لثلاثة أوجه :
أحدها : كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم سَهْم الصَّفيّ.
الثاني : أنَّ الولي يجوزُ له أن يأخذَ من الْمَغْنَمِ ما شاء، وهذا رُكْنٌ عظيم وأمر مشكل، بيانُه في سورة الأنفال إن شاء الله.
الثالث : في الصحيح، واللفظ لمسلم، عن عبدالله بن مغفل قال : أصبْتُ جراباً من شَحْمٍ يوم خَيْبَر فالتزمته، وقلت : والله لا أُعْطِي اليوم أحداً شيئاً من هذا، فالتفتّ فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتبسم. قال علماؤنا : تبسّمُ النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنه رَأَى حقّاً من أخذ الجراب وحقاً من الاستبداد به دون الناس، ولو كان ذلك لا يجوز لم يتبسم منه ولا أقرَّهُ عليه، لأنه لا يُقِرُّ على الباطل إجماعاً كما قرَّرْناه في الأصول.
المسألة الثامنة : إذا ثبت الاشتراكُ في الغنيمة، فمن غصَبَ منها شيئاً أدِّب، فإن وطء جارية أو سرق نصاباً فاختلف العلماءُ في إقامة الحدّ عليه، فرأى جماعةٌ أنه لا قَطْع عليه، منهم عبد الملك من أصحابنا، لأنَّ له فيه حقاً وكان سهمُه كالمشترك المعين.
قلنا : الفرقُ بين المطلق والمعين ظاهر، والدليل عليه بيت المال، وقد منع بيت المال، وقال : لا يقطع مَن سَرَق منه، وقد قال يقطع، وفَرْق بينهما، فقال : إنّ حظَّه في المغنم يورَث عنه وحظّه في بيت المال لا يورث عنه، وهي مشكلة بيناها في الإنصاف.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هو خَيْراً لهم، بل هو شَرٌّ لهم سيُطَوَّقون ما بَخِلُوا به يومَ القيامةِ ولله مِيرَاثُ السمواتِ والأَرْضِ، والله بما تعملون خَبِير ﴾.
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : اختلف الناس في المراد بهذه الآية على قولين :
أحدهما : أنهم مانِعُو الزكاة.
الثاني : أنهم أهل الكتاب، بَخِلُوا بما عندهم من خَبر النبي صلى الله عليه وسلم وصِفَتِه، يروى عن ابن عباس.
المسألة الثانية : قال علماؤنا : البُخْل مَنْع الواجب، والشحُّ منع المستحبّ.
والدليلُ عليه الكتاب والسنة ؛ أما الكتاب فقوله تعالى :﴿ ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم ولو كان بهم خَصاصَةٌ، ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فأُولئكَ هم المفْلِحونَ ﴾ [ الحشر : ٩ ]. والإيثارُ مستَحَبٌّ، وسمّي مَنْعُه شحّاً.
وأما السنّةُ فثبت برواية الأئمة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«مَثَل البخيل والمنفق كمثل رَجُلَين عليهما جُبَّتان من حديد ؛ فإذا أراد المتصدق أن يتصدّقَ سبغَتْ ووفرت حتى تُجنَّ بنانَه وتُعفي أثره، وإذا أراد البخيل أن يتصدَّق تقلَّصت ولزمت كلُّ حَلْقة مكانها، فهو يوسع ولا توسع ». وهذا من الأمثال البديعة، بيانه في شرح الحديث.
المسألة الثالثة : في المختار الصحيح : أنَّ هذه الآية دليلٌ على وجوب الزكاة ؛ لأنَّ هذا وعيدٌ لمانعها، والوعيدُ المقترنُ بالفعل المأمور به والْمَنْهيِّ عنه على حساب اقتضاء الوجوب أو التحريم ؛ وهذا الوعيدُ بالعقاب مفسَّرٌ في الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ روى الأئمة عنه أنه قال :«ما مِن مالٍ لا يؤدَّى زكاتُه إلا جاء يوم القيامة شجاعاً أَقْرَع له زَبِيبتان يأخذه بشدقيه يقول : أنا مالُك، أنا كَنزك »، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولا يَحسَبنَّ الذينَ يَبْخَلُونَ بما آتاهم اللهُ مِن فَضْلِه. . . ﴾ إلى آخرها.
وهذا نصٌّ لا يُعْدَلُ عنه إلى غيره.
أما أنَّ القولَ الثاني يدخل في الآية بطريق الأولى ؛ لأنه إذا منع واجباً مما أخبر به صاحبُ الشريعة فاستحقَّ العقاب فَمَنْعه وقطعه لموجب الشريعة ومبلِّغها، وشارحُها أولى بوجوب العقاب وتضعيفه.
الآية الخامسة والعشرون : قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾.
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : فيها أربعة أقوال :
الأول : الذين يذكرون الله في الصلاة المشتملة على قيامٍ وقعودٍ ومضطجعين على جُنُوبهم.
الثاني : أنها في المريض الذي تختلِفُ أحوالُه بحسب استطاعته ؛ قاله ابن مسعود.
الثالث : أنه الذِّكْرُ المطلق.
الرابع : قاله ابن فُورك : المعنى قياماً بحقِّ الذِّكْر وقعوداً عن الدعوى فيه.
المسألة الثانية : في الأحاديث المناسبة لهذا المعنى، وهي خمسة :
الأول : روى الأئمة عن ابن عباس قال :«بتّ عند خالتي ميمونة. . . وذكر الحديث إلى قوله : فاستيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعل يمسحُ النومَ عن وجهه، ويقرأ ﴿ إنَّ في خلْق السماوات والأرض. . . ﴾ [ آل عمران : ١٩٠ ] العشر الآيات ».
الثاني : روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عمران بن حُصين أنه كان به ناسور، فسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال :«صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعَلَى جَنْب ».
الثالث : روَى الأئمةُ منهم مسلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كلِّ أحيانه.
الرابع : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجِزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة.
الخامس : روى أبو داود أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما أسَنّ وحمل اللحْم اتخذ عموداً في مصلاَّه يعتمِدُ عليه.
المسألة الثالثة : الصحيح أنَّ الآية عامة في كل ذِكْر، وقد روي عن مالك : مَنْ قدر صلَّى قائماً فإن لم يقدر صلَّى معتمداً على عصا ؛ فإنْ لم يقدر صَلَّى جالساً، فإنْ لم يقدر صلَّى نائماً على جنبه الأيمن، فإن لم يقدر صلَّى على جنبه الأيسر - ورُوي على ظهره.
والصحيح الجنب، واختلف قول مالك فيه، وما وافق الحديث فيه أولى، وهو مُبَيَّن في المسائل.
الآية السادسة والعشرون : قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : في شرح ألفاظها :
الصبر : عبارة عن حَبْس النفس عن شهواتها، والمصابرة : إدامةُ مخالفتها في ذلك ؛ فهي تَدْعُو وهو ينزع. والمرابطة : العقد على الشيء حتى لا يبخل فيعود إلى ما كان صَبَر عنه.
المسألة الثانية : في الأقوال :
فيها ثلاثة أقوال :
الأول : اصبروا على دينكم، وصابروا وَعْدِي لكم، ورابطوا أعداءكم.
الثاني : اصبروا على الجهاد، وصابروا العدوّ، ورابطُوا الخيل.
الثالث : مثله إلا قوله : رَابطوا ؛ فإنه أراد بذلك رابطوا الصلوات.
المسألة الثالثة : في حقيقة ذلك، وهو أنَّ الصبر : حَبْس النفس عن مكروهها المختصّ بها. والمصابرة : حَمْل مكروهٍ يكونُ بها وبغيرها ؛ الأول كالمرض، والثاني كالجهاد.
والرباط : حَمْلُ النفس على النية الحسنة والجسم على فِعْل الطاعة، ومن أعظمه ارتباط الخيل في سبيلِ الله، وارتباط النفس على الصلوات، على ما جاء في الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الخيلُ ثلاثة : لرجل أَجْر ولرجل سَتْر وعلى رَجلٍ وِزْر ؛ فأما الذي هي له أجْرٌ فرجُلٌ ربطها في سبيل الله فأطال لها في مَرْج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من الْمَرْج أو الروضة كانت له حسنات. ولو أنها مرَّت بنهر فشربت منه ولم يُرِدْ أن يَسقِيها كان ذلك حسنات فهي له أجر ». وذكر الحديث.
وقال عليه السلام :«ألا أدلُّكم على ما يمحو اللهُ به الخطايا ويرفَعُ به الدرجات : إسباغُ الوضوء على المكاره، وكَثْرَةُ الْخُطَا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرِّبَاط، فذلكم الرباط – ثلاثاً ».
فبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أولاه وأفْضَله في نوعي الطاعة المتعدي بالمنفعة إلى الغير وهو الأفضل، وإلزام المختصّ بالفاعل وهو دونه، وبعد ذلك تتفاضلُ العقائد والأعمال بحسب متعلّقاتها، وليس ذلك من الأحكام فنفيض منه.
Icon