تفسير سورة الأحزاب

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال: خط رسول الله - ﷺ - الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله سبحانه من بطن الخندق صخرةً بيضاء مدورةً، فأخذ رسول الله - ﷺ - المعول، فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة، فكبر وكبر المسلمون، ثم ضرب الثانية فصدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبر وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبر وكبر المسلمون، فسئل عن ذلك فقال: ضربت الأولى فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فأضاءت لي قصور قيصر من أرض الروم، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فأضاء لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون، يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق، لا تستطيعون أن تبرزوا، فأنزل الله عز وجل قوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)﴾. قال: ابن أبي حاتم. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في متعب بن قشير الأنصاري، وهو صاحب هذه المقالة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾؛ أي (٢): يا أيها النبي الكريم، خف الله بطاعته وأداء
(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
406
فريضته، وواجب حقوقه عليك، وترك محارمه، وانتهاك حدوده.
والخلاصة: يا أيها المخبر عنا، المأمون على وحينا، أثبت ودم على تقوى الله تعالى.
وناداه (١) تعالى بالنبي لا باسمه؛ أي: لم يقل يا محمد، كما قال يا آدم ويا نوح ويا موسى ويا عيسى ويا زكريا ويا يحيي، تشريفًا له، فهو من الألقاب المشرفة، الدالة على علو جنابه - ﷺ -، وله - ﷺ - أسماء وألقاب غير هذا، وكثرة الأسماء والألقاب تدل على شرف المسمى، وأما تصريحه باسمه في قوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ فلتعليم الناس أنه رسول الله، وليعتقدوه كذلك، ويجعلوه من عقائدهم الحقة.
وقيل المعنى: يا أيها النبي اتق في نقض العهد، ونبذ الأمان، واثبت على التقوى، وزد منها، فإنه ليس لدرجات التقوى نهاية، وإنما حملت على الدوام، لأن المشتغل بالشيء لا يؤمر به، فلا يقال للجالس مثلًا: أجلس، أمره الله تعالى بالتقوى تعظيمًا لشأن التقوى، فإن تعظيم المنادي، ذريعة إلى تعظيم شأن المنادى له.
وقال ابن عطاء: معناه يا أيها المخبر عن خبر صدق، والعارف بي معرفةً حقيقةً، اتق الله في أن يكون لك الالتفات إلى شيء سواي. انتهى.
ولما وجه إلى رسوله - ﷺ - الأمر بتقوى الولي الودود.. أتبعه بالنهي عن الالتفات نحو العدو والحسود، فقال: ﴿وَلَا تُطِعِ﴾؛ أي: لا توافق ﴿الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: المجاهرين للكفر كأهل مكة، ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾؛ أي: المظهرين للإسلام، المضمرين للكفر، كأهل المدينة فيما طلبوا منك، ولا تساعدهم على شيءٍ، واحترس منهم، فإنهم أعداء الله والمؤمنين.
روي (٢): أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جعل وأبا الأعور عمر بن سفيان
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
407
السلمي، قدموا المدينة بعد غزوة أحد فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول، وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه، فقالوا: ارفض ذكر آلهتنا وقيل: إنها تنفع وتشفع وندعك وربك، ووازرهم المنافقون على ذلك، فهم المسلمون بقتلهم فنزلت الآية؛ أي: اتق الله في نقض العهد، ولا تطع الكافرين من أهل مكة، والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك.
وقيل المعنى (١): أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك: اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين حتى نجالسك، والمنافقين الذين يظهرون الإيمان والنصيحة، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالًا، فلا تقبل لهم رأيًا، ولا تستشرهم مستنصحًا بهم، فإنهم أعداؤك، ويودون هلاكك، وإطفاء نور دينك.
روي: أنه لما قدم رسول الله - ﷺ -. المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقًا، وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعًا، فحذره الله منهم، ونبهه إلى عداوتهم، ثم علل ما تقدم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ﴾ (٢) على الاستمرار والدوام، لا في جانب الماضي فقط ﴿عَلِيمًا﴾ بالمصالح والمفاسد، فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة، ولا ينهاك إلا عما فيه مفسدة، ﴿حَكِيمًا﴾ لا يحكم بما تقتضيه الحكمة البالغة.
قال أبو السعود: وهذه الجملة للأمر والنهي: مؤكدة لمضمون وجوب الامتثال. أو المعنى: أي إن الله سبحانه عليم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة، وبالذي تنطوي عليه جوانحهم، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك، وسائر شؤون خلقه، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع.
والخلاصة: أنه تعالى هو العلم بعواقب الأمور، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير شؤون خلقه،
٢ - ثم أكد وجوب الامتثال، بأن الأمر هو مربيك في نعمه، الغامر لك بإحسانه، فهو الجدير أن يتبع أمره، ويجتنب نهيه، فقال: ﴿وَاتَّبِعْ﴾ يا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
محمد ﴿مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ من القرآن؛ أي: واعمل بما ينزله إليك ربك من وحيه، وآي كتابه في كل أمورك، ولا تتبع شيئًا مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين، ولا من الرأي البحث، فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك.
ثم علل ذلك بما يرغبه في اتباع الوحي، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بما تعمل أنت وأصحابك ﴿خَبِيرًا﴾ لا يخفى عليه شيء منه، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء، وجملة ﴿إن﴾ معللة لأمره باتباع ما أوحي إليه، والأمر له - ﷺ - أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن، كما هو مأمور باتباعه، ولذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ على قراءة الجمهور، بالفوقية للخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ أبو عمرو السلمي وابن أبي إسحاق (١): ﴿بما يعملون﴾ بياء الغيبة هنا، وفيما سيأتي في قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾؛ أي: بما يعمل الكفار والمنافقون، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات، وقرأ باقي السبعة ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ بتاء الخطاب في الموضعين.
٣ - ثم بعد أن أمره باتباع ما أوحي إليه من القرآن، وترك مراسيم الجاهلية، أمره بتفويض أموره إليه وحده، فقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: اعتمد عليه في شؤونك، وفوض أمورك إليه وحده ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ سبحانه ﴿وَكِيلًا﴾؛ أي: حافظًا يحفظ من توكل عليه، وكفيلًا له في جميع شؤونه، فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره.
والخلاصة: حسبك الله، فإنه إن أراد لك نفعًا.. لم يدفعه عنك أحد، وإن أراد بك ضرًا.. لم يمنعه منك أحد. قال الزروقي في "شرح الأسماء الحسنى": الوكيل: هو المتكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر، ومن عرف أنه الوكيل.. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه، وخاصيته
(١) البحر المحيط.
نفي الجوائح والمصائب وصرفها، فمن خاف ريحًا أو صاعقة أو نحوهما.. فليكثر منه، فإنه يصرف ويفتح له أبواب الخير والرزق.
٤ - ثم ذكر سبحانه مثلًا توطئةً وتمهيدًا لما يعقبه من الأحكام القرآنية، التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه، فقال: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ﴾؛ أي: ما خلق الله سبحانه وتعالى ﴿لِرَجُلٍ﴾؛ أي: لشخص، وهو مخصوص بالذكر من الإنسان، والتنكير (١) فيه، و ﴿من﴾ الاستغراقية في قوله: ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾ لإفادة التعميم، والقلب: مضغة صغيرة في هيئة الصنوبرة، خلقها الله تعالى في الجانب الأيسر من صدر الإنسان، معلقة بعرق الوتين، وجعلها محلًا للعلم ﴿فِي جَوْفِهِ﴾؛ أي: في صدره، وذكره لزيادة التقرير، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
وقيل: ﴿من﴾ في قوله: ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾: زائدة في المفعول، وإنما (٢) امتنع تعدد القلب؛ لأنه معدن الروح الحيواني، المتعلق للنفس الإنساني، ومنبع القوى بأسرها، فيمتنع تعدده، لأنه يؤدي إلى التناقض، وهو أن يكون كل منهما أصلًا لكل القوى، وغير أصل لها. اهـ. "كرخي".
قيل (٣): نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أسد الفهري، كما سبق، كان رجلًا لبيبًا حافظًا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا من أجل أن له قلبين، وكان هو يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين يوم بدر.. انهزم أبو معمر، فلقيه أبو سفيان، وإحدى نعليه بيده، والأخرى برجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال: انهزموا، فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده.
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
(٣) المرح.
410
وقيل (١): هي مثل ضربه الله للمظاهر؛ أي: كما لا يكون للرجل قلبان، كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه، حتى يكون لَهُ أُمَّان، وكذلك لا يكون الدعي ابنًا لرجلين، وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب ينهاني عن كذا، فنزلت الآية لرد النفاق، وبيان أن النفاق لا يجتمع مع الإِسلام، كما لا يجتمع قلبان في جوف واحد.
﴿وَمَا جَعَلَ﴾ سبحانه ﴿أَزْوَاجَكُمُ﴾؛ أي: نساءَكم وزوجاتكم أيها الرجال جمع زوج ﴿اللَّائِي﴾ جمع التي ﴿تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ﴾؛ أي: تقولون لهن، أنتن علينا كظهور أمهاتنا؛ أي: في التحريم، فإن معنى ظاهر من امرأته: قال لها: أنت علي كظهر أمي، فهو مأخوذ من الظهر بحسب اللفظ، كما يقال: لبى المحرم: إذا قال: لبيك، وأفف الرجل: إذا قال: أفٍّ، وتعديته بـ ﴿من﴾ لتضمينه التجنب، وكان طلاقًا في الجاهلية، وكانوا يجتنبون المظاهر، منها كما يجتنبون المطلقة.
فمعنى أنت علي كظهر أمي (٢): أنت علي حرام كبطن أمي، فكنوا عن البطن بالظهر، لئلا يذكروا البطن، الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية بالظهر عن البطن، لأنه عمود البطن قوام البنية، ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾؛ أي: كأمهاتكم في الحرمة.
والمعنى: ما جمع الله الزوجية والأمومة في امرأة؛ لأن الأم مخدومة لا يتصرف فيها، والزوجة خادمة يتصرف فيها، والمراد بذلك: نفي ما كانت العرب تزعمه، من أن الزوجة المظاهر منها كالأم؛ أي: ولم يجعل (٣) الله سبحانه لكم أيها الرجال نساءكم اللاتي تقولون لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم، بل جعل ذلك من قبلكم كذبًا، لا من قبل الله سبحانه، بل ألزمكم عقوبةً وكفارةً على ذلك، كما سيأتي بيانها في سورة المجادلة.
وقد كان الرجل في الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته.. صارت حرامًا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
411
حرمةً مؤيدةً، فجاء الإِسلام ومنع هذا التأبيد، وجعل الحرمة مؤقتة، حتى تؤدى كفارة - غرامة - لانتهاكه حرمة الدين، إذ حرم ما أحل الله له.
وقرأ قالون وقنبل (١): ﴿اللَّائِي﴾ هنا، وفي المجادلة والطلاق بالهمز من غير ياء، وقرأ ورش: بهمزة مكسورة مسهلة كالياء، بدون ياء بعدها، وقرأ البزي وأبو عمرو: بياء ساكنة بعد ألف محضة بدلًا من الهمزة، وهو بدل مسموع لا مقيس، قال أبو عمرو بن العلاء: هي لغة قريش التي أمر الناس أن يقرؤوا بها، وقرأ باقي السبعة: بالهمز وياء بعدها.
وقرأ عاصم: ﴿تُظَاهِرُونَ﴾ هنا بتاء الخطاب المضمومة مع كسر الهاء أيضًا، مضارع ظاهر، من باب فاعل الرباعي، وقرأ الحرميان: نافع وابن كثير وأبو عمرو: ﴿تظهرون﴾ بشد الظاء والهاء وفتح التاء بدون ألف، أصله: تتظهرون، وقرأ ابن عامر: ﴿تظاهرون﴾ بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء، مضارع تظاهر، من باب تفاعل، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿تظاهرون﴾ بتخفيف الظاء وبالألف بحذف إحدى التاءين؛ لأن أصله: تتظاهرون، ووافقهما ابن عامر في المجادلة، وقرأ باقي السبعة في المجادلة: ﴿تظاهرون﴾ بشد الظاء، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية: ﴿يظهرون﴾ بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء، مضارع أظهر، وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه: بتخفيف الظاء، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء، وقرأ الحسن: ﴿تظهرون﴾ بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء، مضارع ظهر مشدد الهاء، وقرأ هارون عن أبي عمرو: ﴿تظهرون﴾ بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مخفف الهاء، من ظهر الثلاثي، وفي مصحف أبي: ﴿تتظهرون﴾ بتاءين فتلك تسع قراءات.
﴿وَمَا جَعَلَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿أَدْعِيَاءَكُمْ﴾ الذين تبنيتم، جمع دعي فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مدعو، وهو الذي يدعى ولدًا لغير أبيه ويتخذ ابنًا؛ أي: متبنى، بتقديم الباء الموحدة على النون، ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾؛ أي: كأبنائكم حقيقة في
(١) البحر المحيط بتصرف.
412
حكم الميراث والحرمة والنسب؛ أي (١): ما جعل الدعوة والنبوة في رجلٍ واحدٍ؛ لأن الدعوة عرض، والبنوة: أصل في النسب، ولا يجتمعان في الشيء، وهذا أيضًا ردّ لما كانوا يزعمون، من أن دعي الرجل ابنه، فيجعلون له من الميراث مثل نصيب الذكر من أولادهم، ويحرمون نكاح زوجته إذا طلقها أو مات عنها.
والمعنى (٢): أي ولم يجعل الله من أدعى أحدكم أنه ابنه، وهو ابن غيره ابنًا له بدعواه فحسب، وفي هذا إبطال لما كان في الجاهلية وصدر الإِسلام، من أنه إذا تبنى الرجل ابن غيره.. أجريت عليه أحكام الابن النسبي، وقد تبنى رسول الله - ﷺ - قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطَّاب عامر بن ربيعة، وأبو حذيفة سالمًا.
ويجوز أن يكون نفي القلبين لتمهيد أصل يحمل عليه نفي الأمومة عن المظاهر منها، والبنوة عن المتبنى، كما مر.
والمعنى (٣): لما لم يجعل الله قلبين في جوف واحدٍ لأدائه إلى التناقض، وهو أن يكون كل منهما أصلًا لكل القوى، وغير أصلٍ، كذلك لم يجعل الله الزوجة أمًا، والدعي ابنًا لأحدٍ، يعني كون المظاهر منها أمًا، وكون الدعي ابنًا؛ أي: بمنزلة الأم والابن في الآثار والأحكام المعهودة بينهم في الاستحالة، بمنزلة اجتماع قلبين في جوف واحد.
وفيه إشارة إلى أن في القرابة النسبية خواص لا توجد في القرابة السببية، فلا سبيل لأحد أن يضع في الأزواج بالظهار وما وضع الله في الأمهات، ولا أن يضع في الأجانب بالتبني ما وضع الله في الأبناء، فإن الولد سر أبيه، فما لم يجعل الله فليس في مقدور أحد أن يجعله.
﴿ذَلِكُمْ﴾ المذكور (٤) من قولكم للزوجة: أنت علي كظهر أمي، أو للدعي
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) النسفي.
413
أنت ابني ﴿قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ فقط؛ أي: قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له ولا تأثير له إذ الإبن يكون بالولادة وكذلك الأم فلا تصير به المرأة أمًا، ولا ابن الغير به ابنًا، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة، وقيل: الإشارة (١) إلى الأخير فقط، لأنه المقصود من سياق الكلام؛ أي: دعاؤكم الدعي بقولكم: هذا ابني قولكم بألسنتكم، لا تأثير له في الأعيان، فهو بمعزل عن أحكام البنوة كما زعمتم، والأفواه جمع فم، كما سيأتي. قال الراغب: وكل موضع علق الله فيه حكم القول بالفم فإشارة إلى الكذب، وتنبيه على أن الاعتقاد لا يطابقه.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَقُولُ﴾ القول ﴿الْحَقَّ﴾ والصدق، والكلام المطابق للواقع الذي يجب اتباعه لكونه حقًا في نفسه، لا باطلًا، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم، أو يحكم الحكم الحق، وهو أن غير الابن لا يكون ابنًا، ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَهْدِي﴾ ويرشد ﴿السَّبِيلَ﴾؛ أي: سبيل الحق لا غيره، فدعوا أقوالكم وخذوا بقوله هذا؛ أي: يدل على الطريق الموصلة إلى الحق.
وقرأ الجمهور: ﴿يَهْدِي﴾ مضارع هدى، وقتادة: بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. ذكره أبو حيان.
والمعنى (٢): أي والله هو الصادق الذي يقول الحق، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة أمًا إذا حكم بذلك، وهو يبيّن لعباده سبيل الحق، ويهديهم إلى طريق الرشاد، فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزّ اسمه.
وفي هذا: إرشاد للعباد إلى قول الحق، وترك قول الباطل والزور.
وخلاصة ما سلف:
١ - أنه لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، وهذا يؤدي إلى التناقض في أعمال الإنسان،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
414
فيكون مريدًا للشيء كارهًا له، وظانًا له موقنًا به في حال واحدة، وهذا لن يكون.
٢ - أنه لم ير أن تكون المرأة أمًا لرجل وزوجًا له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة في المصالح الزوجية على وجوه شتى.
٣ - لم يشأ في حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيًا لرجل وابنًا له؛ لأن البنوة نسب أصيل عريق، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلًا وغير أصيلٍ.
٥ - ولما ذكر أنه يقول الحق.. فصل هذا الحق بقوله: ﴿ادْعُوهُمْ﴾؛ أي: أنسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم ﴿لِآبَائِهِمْ﴾؛ أي: إلى آبائهم الذين ولدوهم، فقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا: زيد بن محمد، وكذا غيره ﴿هُوَ﴾؛ أي: الدعاء لآبائهم، فالضمير (١) لمصدر ﴿دعوا﴾، كما في قوله: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ﴿أَقْسَطُ﴾ وأعدل ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه، وأصوب في حكمه من دعائكم إياهم لغير آبائهم، وأقسط أفعل تفضيل، قصد به الزيادة المطلقة.
والمعنى: بالغ في العدل والصدق، وهذه الجملة معللة لما قبلها.
وفي "كشف الأسرار": هو أعدل وأصدق من دعائهم إياهم لغير آبائهم.
﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا﴾ أنتم أيها الناس، ولم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم، حتى تنسبوهم إليهم، وتلحقوهم بهم ﴿فَـ﴾ هم ﴿إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إن كانوا قد دخلوا في دينكم ﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾ إن كانوا محررين؛ أي: قولوا: هو مولى فلان، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة، وكان قد تبناه من قبل، قال الزجاج: ويجوز (٢) أن يكون ﴿مواليكم﴾ أولياؤكم في الدين، وقيل المعنى: فإن كانوا محررين، ولم يكونوا أحرارًا.. فقولوا: موالي فلان.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
415
فائدة: قال بعضهم (١): متى عرض ما يحيل معنى الشرط.. جعلت إن بمعنى إذ، وإذ: يكون للماضي، فلا منافاة هاهنا بين حرفي الماضي والاستقبال، قال البيضاوي: في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ إن تفعلوا جزم بـ ﴿لَمْ﴾ فإنها لما صيرته؛ أي: المضارع ماضيًا صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع، وكأنه قال: فإن تركتم الفعل، ولذلك ساغ اجتماعهما؛ أي: حرف الشرط ولم. انتهى.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها الناس ﴿جُنَاحٌ﴾؛ أي: ذنب وإثم ﴿فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: فيما فعلتموه من تلك الدعوة، مخطئين قبل النهي أو بعده، نسيانًا أو سبق لسان.
قال ابن عطية: لا تتصف التسمية بالخطأ إلا بعد النهي، والخطأ: العدول عن الجهة المقصودة؛ أي: لا إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد بالنسيان، أو سبق اللسان، فقول القائل لغيره: يا بني، بطريق الشفقة، أو يا أبي، أو يا عمي، بطريق التعظيم، فإنه مثل الخطأ لا بأس به، ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان.
﴿وَلَكِنْ﴾ الجناح والإثم فيـ ﴿مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾؛ أي: فيما قصدت قلوبكم به بعد النهي، على أن ما في محل الجر عطفًا على ﴿مَا أَخْطَأْتُمْ﴾، أو المعنى: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، على أن محل ﴿ما﴾ الرفع على الابتداء محذوف الخبر؛ أي: ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين، من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك.
وخلاصة ما سلف (٢): أنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأً غير مقصود، كان سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك تعمدين.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وعن قتادة، أنه قال في الآية: لو دعوت رجلًا
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
416
لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه.. لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
وفي الحديث: "من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه.. فالجنة عليه حرام".
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا﴾؛ أي: ستارًا لذنب من ظاهر زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنًا له، إذا تابا ورجعا إلى أمر الله، وانتهيا عن قيل الباطل، بعد أن نهاهما - ﴿رَحِيمًا﴾ بهما بقبول توبتهما، فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.
فالمغفرة (١): هو أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته، والرحمة: هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه، لا لعوض.
٦ - ثم ذكر سبحانه لرسوله مزيةً عظيمةً، وخصوصيةً جليلةً لا يشاركه فيها أحد من العباد، فقال: النبي محمد - ﷺ - ﴿أَوْلَى﴾؛ أي: أرأف وأشفق وأحرس ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: النبي أشد (٢) ولايةً ونصرةً لهم من أنفسهم، فإن النبي - ﷺ - لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم في دنياهم وآخرتهم، أما النفس، فإنها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع.
روي: أن النبي - ﷺ - أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نشاور آباءنا وأمهاتنا فنزلت.
والمعنى (٣): النبي - ﷺ - أحرى وأجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من أمور الدين والدنيا، كما يشهد به الإطلاق على معنى أنه لو دعاهم إلى شيء ودعتهم نفوسهم إلى شيء آخر.. كان النبي أولى بالإجابة إلى ما يدعوهم إليه من
(١) المراح.
(٢) المراغى.
(٣) روح البيان.
417
إجابة ما تدعوهم إليه نفوسهم لأن النبي - ﷺ - لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نجاتهم وفوزهم، وأما نفوسهم فربما تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وبوارهم، كما قال تعالى حكايةً عن يوسف الصديق عليه السلام: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ فيجب أن يكون عليه السلام أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وآثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعولها فداءه في الخطوب والحروب، ويتبعوه في كل ما دعاهم إليه، ويجعلوه مقدمًا على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾.
وخلاصة ذلك: أنه تعالى علم شفقته - ﷺ - على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وفي الحديث: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة"؛ أي: في الشفقة من أنفسهم ومن آبائهم، وفيه أيضًا: "مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهو يذب عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي". وفيه أيضًا: "لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين".
قال في "الأسئلة المقحمة": وفي الآية إشارة إلى أن اتباع الكتاب والسنة أولى، من متابعة الآراء والأقيسة، حسبما ذهب إليه أهل السنة والجماعة.
وقيل (١): المراد بـ ﴿أَنْفُسِهِمْ﴾ في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبي - ﷺ - أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل: هي خاصة بالقضاء؛ أي: هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى به بينهم، وقيل: أولى بهم في الجهاد بين يديه، وبذل النفس دونه، والأول أولى.
﴿وَأَزْوَاجُهُ﴾؛ أي: زوجاته - ﷺ - ﴿أُمَّهَاتُهُمْ﴾؛ أي: مثل أمهاتهم، ومنزلات منزلتهن في التحريم والاحترام والتوقير والإكرام، فلا يحل لأحد منهم أن يتزوج
(١) الشوكاني.
418
بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج أمه كما قال تعالى: ﴿وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن، وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، والميراث، فهن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ ولا الخلوة بهن، ولا المسافرة معهن، ولا يرثن المؤمنين، ولا يرثونهن.
ثم إن (١) حرمة نكاحهن من احترام النبي - ﷺ - واحترامه واجب على الأمة، وتخصيص التحريم بهن، يدل على أنه لا يتعدى إلى عشيرتهن فلا يقال لبناتهن: أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، ولهذا قال الشافعي: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل: هي خالة المؤمنين.
وقال القرطبي: الذي يظهر لي: أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيمًا لحقهن على الرجال والنساء، كما يدل عليه قوله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورةً قال: ثم إن في مصحف أبي بن كعب: ﴿وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم﴾، وقرأ ابن عباس: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم﴾.
قيل: كن (٢) أمهات الرجال دون النساء، بدليل ما روي عن مسروق: إن امرأة قالت لعائشة: يا أمه، فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم، فبان بذلك أن معنى الأمومة: إنما هو تحريم نكاحهن.
وظاهر قوله (٣): ﴿وَأَزْوَاجُهُ﴾: عموم كل من أطلق عليها أنها زوجة له - ﷺ -؛ أي: سواء دخل بهن أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وقيل: لا يثبت هذا الحكم لطلقة، وقيل: من دخل بها ثبتت حرمتها قطعًا.
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
419
وفي "فتح الرحمن": وإنما (١) جعلهن الله كالأمهات، ولم يجعل نبيه كالأب حتى قال: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ لأنه تعالى أراد أن أمته يدعون أزواجه بأشرف ما تنادى به النساء، وهو الأم، وأشرف ما ينادى به النبي - ﷺ - لفظ الرسول، ولأنه تعالى جعلهن كالأمهات، إجلالًا لنبيه، لئلا يطمع أحد في نكاحهن بعده، ولو جعله أبًا للمؤمنين.. لكان أبًا للمؤمنات أيضًا فيحرمن عليه، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه، ولأنه تعالى جعله أولى بنا من أنفسنا، وذلك أعظم من الأب في القرب والحرمة، إذ لا أقرب للإنسان من نفسه، ولأن من الآباء من يتبرأ من ابنه، ولا يمكنه أن يتبرأ من نفسه. انتهى.
ثم بين سبحانه: أن القرابة أولى بالإرث بها من الأخوة في الدين، فقال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾؛ أي: ذوو القربات النسبية ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى﴾ وأحق ﴿بـ﴾ إرث ﴿بَعْضٍ﴾ آخر منهم، فالكلام على حذف مضاف.
وهذه الآية كانت ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، وكان (٢) التوارث في بدء الإِسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته، وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله - ﷺ - حين الهجرة، فقد آخى بين أبي بكر - رضي الله عنه - وخارجة بن زيد، وبين عمر وشخص آخر، وبين الزبير وكعب بن مالك، ثم نسخ ذلك بهذه الآية.
وقوله تعالى: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى: يجوز (٣) أن يتعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ لأن أفعل التفضيل يعمل في الظروف.
والمعنى: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله تعالى، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في ﴿أَوْلَى﴾، والعامل فيها ﴿أَوْلَى﴾ لأنها شبيهة بالظرف؛ أي: حالة كون أولويتهم ثابتةً في كتاب الله تعالى، ولا يجوز أن يكون حالًا من ﴿أولوا﴾ للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها
(١) فتح الرحمن.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
420
على مذهب الجمهور. انتهى. من "الكرخي".
والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، أو القرآن، أو آية المواريث، وقوله: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: الأنصار ﴿وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ يجوز في ﴿من﴾ وجهان:
أحدهما: أنها من الجارة للمفضل عليه، كهي في زيد أفضل من عمرو، المعنى عليه: وأولو الأرحام والقرابات، أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب.
والثاني: أنا للبيان، جيء بها بيانًا لأولي الأرحام، فتتعلق بمحذوف، والمعنى: وأولو الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، أولى بالإرث من الأجانب. اهـ. "سمين".
والمعنى (١): أي وأولو الأرحام أولى بالإرث بحق القوابة، من إرث المؤمنين بحق الدين، ومن إرث المهاجرين بحق الهجرة، فيما كتبه الله سبحانه، وفرضه على عباده.
والخلاصة: أن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكمًا شرع لضرورةٍ عارضةٍ في بدء الإِسلام، وهو الإرث بالتآخي في الدين، والتآخي حين الهجرة بين الماجرين والأنصار، حين كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه.
ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ﴾ وأصدقائكم؛ أي: إلا أن تحسنوا إلى أصدقائكم من الأجانب ﴿مَعْرُوفًا﴾؛ أي: وصيةً من الثلث؛ أي (٢): إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا.. فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
وهذا الاستثناء إما متصل من أعم ما تقدر فيه الأولوية من النفع، كقولك: القريب أولى من الأجنبي، إلا في الوصية، تريد أحق منه في كل نفع، من
(١) المراغي.
(٢) المراح.
421
ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية، والمراد بالأولياء: من يوادونهم ويصادقونهم، ومن يوالونهم ويؤاخونهم، وبفعل المعروف الوصية؛ أي: التوصية بثلث المال، أو أقل منه، لا بما زاد عليه.
والمعنى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل نفع، من ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقةٍ وغير ذلك، إلا أن تفعلوا إلى أصدقائكم معروفًا بتوصيةٍ لهم من ثلث المال، فهم أولى بالوصية، لأنه لاوصية لوارث، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا؛ أي: الأقارب أحق بالميراث من الأجانب، لكن فعل التوصية أولى للأجانب من الأقارب، لأنه لا وصية لوارث.
ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة.. أباح أن يوصى لهم.
ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل في الإرث، وهو الحكم الثابت في كتابه، الذي لا يغير ولا يبدل، فقال: ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ المذكور في الآيتين: من أولوية النبي - ﷺ - بأنفسهم، ونسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ متعلق بقوله: ﴿مَسْطُورًا﴾؛ أي: مكتوبًا؛ أي: كان ذلك المذكور من الحكمين مثبتًا في اللوح المحفوظ، أو مكتوبًا في القرآن الكريم.
والمعنى: أي (١) إن هذا الحكم، وهو كون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض: حكم من الله تعالى مقدر مكتوب في الكتاب، الذي لا يبدل ولا يغير وإن كان قد شرع غيره في وقتٍ ما لمصلحةٍ عارضةٍ، وحكمةٍ بالغةٍ، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جارٍ في قدره الأزلي، وقضائه التشريعي.
واعلم: أنه (٢) لا توارث بين المسلم والكافر، ولكن صحت الوصية بشيء من مال المسلم للذمي، لأنه كالمسلم في المعاملات، وصحت الوصية بعكسه؛ أي: من الذمي للمسلم، ولذا ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأولياء: هم الأقارب
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
422
من غير المسلمين؛ أي: إلا أن توصوا لذوي قرابتكم بشيء، وإن كانوا من غير أهل الإيمان، وذلك فإن القريب غير المسلم، يكون كالأجنبي، فتصح الوصية له مثله، وأما الوصية لحربي فلا تصح مطلقًا؛ أي: قريبًا أو أجنبيًا؛ لأنه ليس من أهل المواساة، والمعروف له كتربية الحية الضارة لتلدغه، وندبت الوصية. عند الجمهور في وجوه الخير، لتدارك التقاصير.
٧ - والظرف في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك، أو ليكن ذكر منك، يعني لا تنس قصة وقت أخذنا من الأنبياء كافةً عند تحميلهم الرسالة ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾؛ أي: عهودهم المؤكدة باليمين على تبليغ الرسالة، والدعوة إلى التوحيد والدين الحق.
ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم فقال: ﴿وَمِنْكَ﴾؛ أي: وأخذنا منك يا حبيبي خاصةً، وقدم تعظيمًا وإشعارًا بأنه أفضل الأنبياء وأولهم في القرب، وإن كان آخرهم في البعث، وفي الحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"؛ أي: لا أقول هذا بطريق الفخر، ﴿و﴾ أخذنا ﴿مِنْ نُوحٍ﴾ شيخ الأنبياء وأول الرسل بعد الطوفان ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل ﴿وَمُوسَى﴾ الكليم ﴿وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ روح الله وكلمته خصهم (١) بالذكر مع اندراجهم في النبيين، للإيذان بمزيد فضلهم، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع، وأساطين أولي العزم من الرسل، قال الزجاج: وأخذ الميثاق حين أخرجوا من صلب آدم مثل الذر، ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق، بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ، فقال: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ﴾؛ أي: من النبيين ﴿مِيثَاقًا﴾؛ أي: عهدًا مؤكدًا وثيقًا ﴿غَلِيظًا﴾؛ أي: شديدًا على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالات، وأداء الأمانات، وهذا هو الميثاق الأول بعينه، والتكرير لبيان هذا الوصف، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين، فأخذ عليهم في المرة الأولى مجرد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانيًا مغلظًا مشددًا.
(١) روح البيان.
والمعنى (١): أي واذكر أيها الرسول الكريم، العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على أولى العزم الخمسة، وبقية الأنبياء، ليقيمن دينه ويبلغن رسالته، ويتناصرن، كما قال في آية أخرى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ الآية. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال: ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولًا وأمره بشيء، وقبله.. كان ذلك ميثاقًا عليه، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول، ويفعل.. كان ذلك تغليظًا للميثاق، حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة.
فإن قلت: لم (٢) قدم النبي - ﷺ - في هذه الآية، وقدم نوحًا في آية ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ الآية؟
قلت: قدمه - ﷺ - هنا إظهارًا لشرفه وفضله عليهم - ﷺ - عليهم أجمعين، وقدم نوحًا هناك، لأن الآية سيقت لوصف ما بعث به نوح من العهد القديم، وما بعث به نبينا من العهد الحديث، وما بعث به من توسطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح فيها أشد مناسبةً للمقصود من بيان أصالة الدين وقدمه. اهـ. "كرخي".
٨ - ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ﴿لِيَسْأَلَ﴾ الله سبحانه ﴿الصَّادِقِينَ﴾؛ أي: الأنبياء ﴿عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ في تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم؛ لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم.
وقيل: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم، كما في قوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)﴾ و (اللام) فيه: لام كي، إما متعلقة بـ ﴿أَخَذْنَا﴾؛ أي: وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم، لكي نسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل أقوامهم فيما بلغوهم عن ربهم من الرسالة، وقيل: متعلق بمحذوف مستأنف، مسوق لبيان ما هو داع، إلى ما ذكر من أخذ الميثاق وغاية
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
424
له، لا بـ ﴿أَخَذْنَا﴾ فإن المقصود نفس الميثاق، ثم بيان الغرض منه بيانًا قصديًا، كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة.
والمعنى: فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوا لقومهم وفي الخبر: "أنه يسأل القلم يوم القيامة، فيقول: ما فعلت بأمانتي؟ فيقول: يا رب سلمتها إلى اللوح، ثم يصير القلم يرتعد مخافة أن لا يصدقه اللوح، فيسأل اللوح، فيقر بأن القلم قد أدى الأمانة، وأنه قد سلمها إلى إسرافيل، فيقول لإسرافيل: ما فعلت بأمانتي التي سلمها إليك اللوح؟ فيقول: سلمتها إلى جبريل، فيقول لجبريل: ما فعلت بأمانتي؟ فيقول: سلمتها إلى أنبيائك، فيسأل الأنبياء فيقولون: سلمناها إلى خلقك، فذلك قوله: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ قال القرطبي: إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعَدَّ﴾؛ أي: هيأ في الآخرة ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾؛ أي: للمكذبين الرسل ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: وجيعًا معطوف على محذوف، دل عليه ﴿لِيَسْأَلَ...﴾ إلخ، فكأنه قال: فأثاب المؤمنين بهم، وأعد للكافرين بهم عذابًا أليمًا، وقيل: إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابلة في الثاني، والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم، وأعد لهم عذابًا أليمًا.
ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ وتكون جملة ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ﴾ مستأنفة، لبيان ما أعده للكفار.
غزوة الأحزاب المسماة بغزوة الخندق
وخلاصة هذه القصة، على ما قاله أرباب السير: أن نفرًا من اليهود قدموا على قريش في شوال سنة، خمس من الهجرة بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله - ﷺ -، وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاؤوا غطفان وقيسًا وغيلان، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه، فخرجت هذه القبائل، ومعها قادتها وزعماؤها، ولما سمع رسول الله - ﷺ - بمسيرهم.. أمر المسلمين
425
بحفر خندق حول المدينة، بإشارة سلمان الفارسي، وعمل فيه رسول الله - ﷺ - والمسلمون، وأحكموه، وكان رسول الله - ﷺ - يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول:
لَا هُمَّ لَوْلاَ أنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيُنَا
فَأَنْزَلَنْ سَكِيْنَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُوْنَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أرَادُوْا فِتْنَةً أَبَيْنَا
وفي أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء في بطن الخندق، فكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فلما علم بها - ﷺ -.. أخذ المعول من سلمان، وضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها - جانبي المدينة - حتى كأن مصباح في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله - ﷺ - تكبير فتح، وكبر المسلمون، وهكذا مرة ثانيةً وثالثةً، فكانت تضيء وكان التكبير، ثم قال رسول الله - ﷺ -: "ضربت ضربتي الأولى، فبرق البرق الذي رأيتم، فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق البرق الذي رأيتم، أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فبرق البرق الذي رأيتم، أضاء لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فابشروا" فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، فقال المنافقون: ألا تعجبون! يمنيكم، ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وإنكم إنما تحفرون الخندق من الفرق، لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ...﴾ إلخ. ونزل: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ...﴾ الآية.
ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب، الذين حزبهم اليهود، وأتوا إلى المدينة.. رأوا الخندق حائلًا بينهم وبينها، فقالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقعت مصادمات بين القوم كرًا وفرًا، فمن المشركين من كان يقتحم
426
الخندق فيرمى بالحجارة، ومنهم من يقتحمه بفرسه فيهلك.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان، أتى رسول الله - ﷺ - فأعلمه أنه أسلم، وأن قومه لم يعلموا بذلك، فقال - ﷺ -: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة" فأتى قريظة وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان، إلا إذا أخذتم منهم رهنًا من أشرافهم، يكونون بأيديكم تقية لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدًا، لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، وذهب إلى قريش وإلى غطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنًا، يدفعوها لمحمد فيضرب أعناقها، ويتحدون معه على قتالكم، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد، وتابوا، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه.
وحينئذ تخاذل اليهود والعرب، دب بينهم ودبيب الفشل، ومما زاد في فشلهم أن بعث الله عليهم ريحًا في ليلةٍ شاتيةٍ شديدة البرد، فجعلت تكفىء قدورهم، وتطرح آنيتهم، وقد قام رسول الله - ﷺ - ليلةً يصلي على التل الذي عليه مسجد الفتح، ثم يلتفت ويقول: "هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم" فعل ذلك ثلاث مراتٍ، فلم يقم رجل واحد من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فدعا حذيفة بن اليمان، وقال: "ألم تسمع كلامي منذ الليلة" قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله منعني أن أجيبك الضر والقر، قال: "انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم، وتأتيني بخبرهم، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتى ترده إلى، انطلق ولا تحدث شيئًا حتى تأتيني"، فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله - ﷺ - يده يقول: "يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي"، فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك، فخر رسول الله - ﷺ - على ركبتيه، وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول: "شكرًا شكرًا كما رحمتني ورحمت أصحابي"، وذهب حذيفة إلى القوم، فسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف
427
وأخلفتنا ينو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، وشرع القوم يقولون: الرحيل الرحيل، والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة، ولم تجاوز عسكرهم، ورحلوا وتركوا ما استثقلوا من متاعهم، فلما رجع أخبر رسول الله - ﷺ -، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، وقال: "الآن نغزوهم ولا يغزونا". اهـ. ملخصًا من كتب السيرة، وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة بما هو معروف، فلا نطيل بذكرها.
٩ - ثم شرع سبحانه في تفصيلها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بالله ورسوله ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: اشكروا إنعام الله عليكم بالنصرة، فمعنى ذكر النعمة: شكرها، ﴿إِذْ﴾ ظرف للنعمة؛ أي: إنعام الله عليكم بالنصرة حين ﴿جَاءَتْكُمْ﴾ وأحاطت بكم ﴿جُنُودٌ﴾ مجندة، وجموع مجمعة، وعساكر مسلحة، والمراد بهم: جنود الأحزاب، الذين تحزبوا على رسول الله - ﷺ -، وغزوه بالمدينة، وهم أبو سفيان بن حرب بقريش، ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حصن الفزاري، ومن معه من قومه غطفان، وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقةً شديدةً، كما وصف الله سبحانه في هذه الآية، وكانت هذه الغزوة في شوالٍ سنة خمس من الهجرة، قاله ابن إسحاق، وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة أربع، وكانت جملة الأحزاب أثني عشر ألفًا، وجملة المسلمين ثلاثة آلاف، ومكثوا في حفر الخندق ستة أيام، وقيل: خمسة عشر، وقيل: أربعةً وعشرين، وقيل: شهرًا، فلما فرغوا من حفره أقبلت قريش، والقبائل، فحاصروا المسلمين خمسة عشر يومًا، وقيل: أربعةً وعشرين يومًا، والخندق بينهم وبين المسلمين، حتى هزمهم الله سبحانه وتعالى بريح وجنود لم يروها، بلا مقاتلة أحدٍ من المسلمين.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾ ليلًا من جانب القهار، عطف على جاءتكم ﴿رِيحًا﴾ شديدةً ناصرةً لكم، وهي ريح الصبا، وهي تهب من جانب المشرق، والدبور من قبل المغرب، قال ابن عباس: قالت الصبا للدبور؛ أي: للريح الغريبة: اذهبي بنا
428
ننصر رسول الله - ﷺ -، فقالت: إن الحرائر لا تهب ليلًا، فغضب الله عليها فجعلها عقيمًا، وفي الحديث: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور".
﴿وَ﴾ أرسلنا عليهم أيضًا ﴿جُنُودًا﴾ عظيمةً هائلةً ﴿لَمْ تَرَوْهَا﴾؛ أي: لا ترون أنتم أيها المسلمون تلك الجنود، وهم الملائكة، قيل: كانوا ألفًا، روي (١) أن الله تعالى بعث على المشركين ريحًا باردةً، في ليلة شاتية، ولم تجاوز عسكرهم، فأحصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وبعث الله عليهم أيضًا الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، ونفثت في روعهم الرعب، وكبرت في جوانب معسكرهم، حتى سمعوا التكبير وقعقعة السلاح، واضطربت الخيول، ونفرت، فصار سيد كل حي يقول لقومه: يا بني فلان: هلموا إلى، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء؛ أي: الإسراع الإسراع، فانهزموا من غير قتال، وارتحلوا ليلًا، وحملوا ما خف عليهم من متاعهم، وتركوا ما استثقلوه مثله.
والمعنى (٢): أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله، التي أسبغها عليكم، حين حوصرتم أيام الخندق، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان، ويهود بني النضير أجلاهم رسول الله - ﷺ - من المدينة إلى خيبر، فأرسلنا عليهم ريحًا باردةً، في ليلة باردةً، أحصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وأمر ملائكته فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وماجت الخيل بعضها في بعض، وقذف الرعب في قلوب الأعداء، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدًا قد بدأكم بالسحر، فالنجاة النجاة، فانهزموا من غير قتال.
والخلاصة: أنه تعالى يمتن على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم، وتحزبوا عام الخندق.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
429
وقرأ الحسن (١): ﴿وجنودًا﴾ بفتح الجيم، والجمهور: بالضم، وقرأ أبو عمرو في رواية وأبو بكر في رواية: ﴿لم يروها﴾ بياء الغيبة؛ أي: الكفار، وباقي السبعة والجمهور: بتاء الخطاب؛ أي: أيها المسلمون.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ (٢) الجمهور: بتاء الخطاب؛ أي: بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الأسباب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، ﴿بَصِيرًا﴾؛ أي: رائيًا، ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم، وعصمتكم من شرهم، فلا بد لكم من الشكر على هذه النعمة الجليلة، باللسان والجنان والأركان.
وقرأ أبو عمرو بالتحتية؛ أي: بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب للمسلمين، واجتماعهم عليهم من كل جهة؛ أي: وكان الله سبحانه عليمًا بجميع أعمالكم، من حفركم للخندق، وترتيب وسائل الحرب، لإعلاء كلمته، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له، بصيرًا بها، لا يخفى عليه شيء منها، وهو يجازيكم عليها، ولا يظلم ربك أحدًا.
١٠ - ثم زاد الأمر تفصيلًا وبيانًا، فقال: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾: ﴿إِذْ﴾: هذه وما بعدها: بدل من ﴿إذ﴾ الأولى، والعامل في هذه: هو العامل في تلك، وقيل: منصوبة بمحذوف، هو اذكر؛ أي: اذكروا أيها المؤمنون: هول إذ جاءكم أعداؤكم الأحزاب ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾؛ أي: من أعلى الوادي من جهة المشرق، والذين جاؤوا من هذه الجهة هم غطفان، وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن، وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد، وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم عوف بن مالك، وبنو النضير.
﴿و﴾ جاؤوكم ﴿مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾؛ أي: من أسفل الوادي من جهة المغرب، من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي، ومعه حيي بن أخطب اليهودي، في
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
430
يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل.
وقوله: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾: معطوف على ما قبله، داخل في حكم التذكير، والزيغ: الميل عن الاستقامة؛ أي: وإذ مالت الأبصار عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلًا من كل جانب، وقيل: شخصت من فرط الهول والحيرة.
والمعنى (١): واذكروا حين مالت الأبصار عن مستوى نظرها، حيرةً وشخوصًا، لكثرة ما رأت من العَدد والعُدد، فإنه كان مع قريش ثلاث مئة فرس، وألف وخمس مئة بعير.
﴿وَ﴾ إذ ﴿بَلَغَتِ﴾ ووصلت ﴿الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾: جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم؛ أي: ارتفعت القلوب عن أماكنها للخروج، فزعًا وخوفًا، ووصلت في الارتفاع إلى رأس الحلقوم وأسفله، وهو مدخل الطعام والشراب، والحنجرة: منتهى الحلقوم وطرفه الأسفل؛ أي: بلغت رأس الغلصمة والحنجرة من خارج رعبًا وغمًا؛ لأن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغم، فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهو مشاهد في مرض الخفقان من غلبة السوداء.
قال قتادة: شخصت عن أماكنها، فلولا أنه ضاق الحلقوم بها عن أن تخرج.. لخرجت، وقال بعضهم: كادت تبلغ، فإن القلب إذا بلغ الحنجرة، مات الإنسان، فعلى هذا يكون الكلام تمثيلًا، لاضطراب القلوب من شدة الخوف، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقةً.
وقوله: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ﴾ يا من يظهر الإِسلام على الإطلاق ﴿الظُّنُونَا﴾ المختلفة، المخلصون يظنون النصر والظفر، والمنافقون يظنون خلاف ذلك، معطوف على ﴿زَاغَتِ﴾. وصيغة المضارع فيه لاستحضار الصورة، والدلالة على الاستمرار، وقال الحسن: ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظن المؤمنون أنه ينصر، وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى (٢) ما قاله الحسن.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
431
واختلف القراء في الألف التي في ﴿الظُّنُونَا﴾، وكذا ﴿السبيلا﴾ و ﴿الرسولا﴾، كما سيأتيان في آخر هذه السورة، فأثبت هذه الألفات نافع وابن عامر وأبو بكر وصلًا ووقفًا، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخط المصحف العثماني، وبخط جميع المصاحف في جميع البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن، بل يقف عليهن، وتمسكوا أيضًا بما في أشعار العرب من مثل هذا، وأنشد أبو عمرو في "كتاب الألحان":
إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتَ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُوْنَا
وقرأ (١) أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب، بحذفها في الوصل والوقف معًا، وقالوا هي من زيادات الخط، فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها، وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقرأ ابن كثير والكسائي وحفص وابن محيصن: بإثباتها وقفًا وحذفها وصلًا، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، أما (٢) إثباتها وقفًا، ففيه اتباع الرسم، وموافقة لبعض مذاهب العرب؛ لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم، وفي تصاريفها؛ اتباعًا للفتحة، والفواصل في الكلام كالمصارع، وقال أبو علي: هي رؤوس الآي، تشبه بالقوافي، من حيث إنها كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو.
١١ - ﴿هُنَالِكَ﴾ هو (٣) في الأصل ظرف للمكان البعيد، لكن العرب تكني بالمكان عن الزمان، وبالزمان عن المكان، فهو إما ظرف زمان أو ظرف مكان لما بعده؛ أي: في ذلك المكان الهائل، أو في ذلك الدحض الذي تدحض فيه الأقدام ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ واختبروا بالحصر والرعب والخوف والجوع والبرد؛ أي:
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
432
عوملوا معاملة من يختبر، فظهر المخلصر من المنافق، والراسخ من المتزلزل ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾؛ أي: حركوا تحريكًا شديدًا، وأزعجوا إزعاجًا قويًا، وذلك أن الخائف يكون قلقًا مضطربًا، لا يستقر على مكان، وتكرير حروف لفظه، تنبيه على تكرر معنى الزلل، ولكن صبروا وقاسوا الشدائد في طريق الحق ونصره، واجتهدوا إلى أن فتح الله مكة، واتسع الإِسلام وبلاده وأهاليه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿زلزلوا﴾ بضم الزاي الأولى، وكسر الثانية، على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو: بكسر الزاي الأولى، قاله ابن خالويه، وقال الزمخشري: وعن أبي عمرو إشمام زاي: ﴿زلزلوا﴾. انتهى، كأنه يعني إشمامها الكسر، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة: أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية، ولم يعتد بالساكن، كما لم يعتد به من قال: منتن، بكسر الميم إتباعًا لحركة التاء، وهو اسم فاعل من أنتن، وقرأ الجمهور: ﴿زلزالًا﴾ بكسر الزاي، والجحدري وعيسى بفتحها، وكذا: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١)﴾، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح، نحو قلقل قلقالًا، وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل، كصلصال بمعنى مصلصل؛ أي: مصوت.
ومعنى الآيتين: أي واذكروا حين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها، حيرةً ودهشةً، وخاف الناس خوفًا شديدًا، وفزعوا فزعًا عظيمًا، وظنوا مختلف الظنون، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه، ويقول هذا ما وعدنا الله ورسوله، ومنهم منافق وفي قلبه مرض، يظن أن محمدًا وأصحابه سيستأصلون، ويستولي المشركون على المدينة، وتعود الجاهلية سيرتها إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها، تجول في قلوب المؤمنين والمنافقين، على قدر ما يكون القلب عامرًا بالإخلاص، مكتوبًا له السعادة، أو متشككًا في اعتقاده، ليست له عزيمة صادقة، ثم ذكر أن هذه الشدائد محصت
(١) البحر المحيط.
433
المؤمنين، وأظهرت المنافقين فقال: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)﴾؛ أي: حين ذاك اختبر الله المؤمنين، ومحصهم أشد التمحيص، فظهر المخلص من المنافق، والراسخ في الإيمان من المتزلزل، واضطربُوا اضطربًا شديدًا من الفزع وكثرة العدو.
١٢ - وقوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾: معطوف على ﴿وَإِذْ زَاغَتِ﴾، والتعبير بالمضارع، لحكاية الحال الماضية كما سيأتي؛ أي: واذكروا حين قال المنافقون، كمعتب بن قشير: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾؛ أي: ضعف اعتقاد في الإيمان، لقرب عهدهم بالإِسلام، والمراد بالمنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه، وبالذين في قلوبهم مرض: أهل الشك والاضطراب.
فإن قلت (١): ما الفرق بين المنافق والمريض؟
قلت: المنافق من كذب الشيء تكذيبًا لا يعتريه فيه شك، والمريض: من قال الله تعالى في حقه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ كذا في "الأسئلة المقحمة".
﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾، من النصر والظفر على العدو، واعلاء الدين وهم لم يقولوا رسول الله - ﷺ -، وإنما قالوه باسمه، ولكن الله ذكره بهذا اللفظ، ﴿إِلَّا غُرُورًا﴾؛ أي: إلا وعد غرور، وهو بالضم لا غير، والقائل لذلك معتب بن قشير ومن تبعه، كما سبق؛ أي: إلا وعدًا باطلًا يغرنا به، ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، ويسلخنا عن دين آبائنا، ويقول: إن هذا الدين سيظهر على الدين كله، وإنه سيفتح لنا فارس والروم، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته.
١٣ - وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلًا من أهل النفاق والشك (٢)، وهذا القول المحكي عن هؤلاء هو كالتفسير للظنون المذكورة؛ أي: كان ظن هؤلاء هذا الظن، كما كان ظن المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله، ﴿وَ﴾ اذكروا
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
434
﴿إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ وجماعة، ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من المنافقين، قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين، وقال السدي: هم عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: هم أوس بن قيظي وأصحابه، والطائفة: تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾؛ أي: يا أهل المدينة ﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾؛ أي: لا إقامة ولا استقرار لكم هاهنا في العسكر، أو لا موضع إقامة لكم هاهنا جنب هذا العسكر العظيم لكثرة العدو، وغلبة الأحزاب، يريدون لا معسكر لكم هاهنا.
وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص والجحدري وأبو حيوة (١): بضم الميم، فاحتمل أن يكون مكانًا؛ أي: لا مكان إقامة، واحتمل أن يكون مصدرًا؛ أي: لا إقامة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة، وباقي السبعة: بفتحها، واحتمل أيضًا المكان؛ أي: لا مكان قيام، واحتمل المصدر؛ أي: لا قيام لكم.
﴿فَارْجِعُوا﴾ إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل، وقد يكون المعنى: لا مقام لكم في دين محمد، فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك، وأسلموا محمد إلى أعدائه، ومرادهم الأمر بالفرار، لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجًا لمقالهم، وإيذانًا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم، وقد ثبطوا الناس عن الجهاد، والرباط لنفاقهم ومرضهم، ولم يوافقهم إلا أمثالهم، فإن المؤمن من المخلص لا يختار إلا الله ورسوله.
وذلك أن رسول الله - ﷺ - والمسلمين خرجوا عام الخندق، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء المنافقون: ليس هاهنا موضع إقامة، وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وفي "المختار" التثريب: التعبير والاستقصاء في اللوم، وثرب عليه تثريبًا: قبح عليه فعله. اهـ.
فائدة: يثرب (٢) هو اسم للمديمة المنورة، لا ينصرف للتعريف وزنة الفعل،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
435
وفيه التأنيث أيضًا، وقد نهى النبي - ﷺ - أن تسمى المدينة بيثرب، وقال: "هي طيبة أو طابة والمدينة"كأنه كره هذا اللفظ، لأن يثرب يفعل من التثريب، وهو التقريع والتوبيخ واللوم، الذي لا يستعمل إلا فيما يكره غالبًا، ولذلك نفاه يوسف عليه السلام، حيث قال لإخوته: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾، وكأن المنافقين ذكروها بهذا الاسم مخالفةً له - ﷺ -، فحكى الله عنهم كما قالوا.
وقال الإِمام السهيلي: سميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عبيل بن مهلاييل بن عوض بن عملاق بن لاود بن إرم، وعبيل: هم الذين سكنوا الجحفة، وهي ميقات الشاميين، فأجحفت بهم السيول فيها؛ أي: ذهبت بهم فسميت الجحفة، وقال بعضهم: هي من الثرب بالتحريك، وهو الفساد، وكان في المدينة الفساد واللؤم بسبب عفونة الهواء، وكثرة الحمى، فلما هاجر رسول الله - ﷺ -.. كره ذلك فسماها طيبة، على وزن بصرة، من الطيب، وقد أفتى الإِمام مالك - رحمه الله تعالى - فيمن قال: تربة المدينة رديئة بضربه ثلاثين درةً، وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها رسول الله - ﷺ -، يزعم أنا غير طيبة.
وفي الحديث: "من سمى المدينة بيثرب.. فليستغفر الله، فليستغفر الله، هي طيبة، هي طيبة". وقوله - ﷺ - حين أشار إلى دار الهجرة: "لا أراها إلا يثرب" ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه - ﷺ - من تسميتها بذلك، كان قبل النهي عن ذلك، وإنما سميت طيبة؛ لطيب رائحة من مكث بها، وتزايد روائح الطيب بها، ولا يدخلها طاعون ولا دجال، ولا يكون بها مجذوم؛ لأن ترابها يشفي المجذوم، وهو كغراب، علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيآتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها عن تقرحٍ. انتهى.
وفيه إشارة إلى حال أهل الفساد والإفساد في هذه الأمة، إلى يوم القيامة، نسأل الله تعالى أن يقيمنا على نهج الصواب، ويجعلنا من أهل التواصي بالحق، والصبر دون التزلزل والاضطراب.
436
وقوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾ معطوف على ﴿قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ والتعبير فيه بالمضارع لحكاية الحال الماضية أيضًا؛ أي: ويطلب جماعة منهم من النبي - ﷺ - الإذن في الرجوع إلى بيوتهم، وتركهم للقتال، معتذرين بمختلف المعاذير، وجملة قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾: بدل من قوله: ﴿يستأذن﴾ أو حال، أو مستأنف جوابًا لسؤال مقدر، والقول الذي قالوه هو قولهم: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا﴾ ومنازلنا في المدينة ﴿عَوْرَةٌ﴾؛ أي: غير حصينة، وغير محرزة لما فيها، لأنها قصيرة الحيطان، وفي أطراف المدينة، فيخشى عليها من السراق، وأصل العورة في اللغة: الخلل في البناء ونحوه، بحيث يمكن دخول السارق فيها، كما سيأتي.
والمعنى: أنها غير حصينة متخرقة، ممكنة لمن أرادها، فأذن لنا حتى نحصنها ثم نرجع إلى العسكر، وكان عليه السلام يأذن لهم، وفي الحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون، وهم مضمرون غير ذلك، ثم رد الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾؛ أي: والحال أن بيوتهم ليست بضائعةٍ، يخشى عليها السراق، بل هي حصينة محرزة.
وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعكرمة ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة، وأبو طالوت وابن مقسم وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير: ﴿عورة﴾ ﴿بعورة﴾ بكسر الواو فيهما؛ أي: قصيرة الجدران، والجمهور: بإسكانها فيهما، أطلقت على المختل مبالغةً.
ثم بيّن سبب استئذانهم وما يريدونه به، فقال: ﴿إِنْ يُرِيدُونَ﴾؛ أي: ما يريدون بالاستئذان ﴿إِلَّا فِرَارًا﴾ وهربًا من القتال، وعدم مساعدة عسكر رسول الله - ﷺ -، أو فرارًا من الدين والإِسلام.
١٤ - ثم بيّن وهن الدين وضعفه في قلوبهم إذ ذاك، وأنه معلق بخيط دقيق، ينقطع بأدنى هزةٍ، فقال: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ﴾ بيوتهم أو المدينة، أسند الدخول إلى بيوتهم، وأوقع عليهم، لما أن المراد فرص دخولها وهم فيها، لا فرص دخولها مطلقًا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور.
﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾؛ أي: من جميع جوانبها، لا من بعضها دون بعض؛ أي:
437
لو كانت بيوتهم مختلة بالكلية، ودخلها كل من أراد الخبث والفساد، ﴿ثُمَّ سُئِلُوا﴾ من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة ﴿الْفِتْنَةَ﴾؛ أي: الردة والرجعة إلى الكفر مكان ما سئلوا من الإيمان والطاعة.. ﴿لَآتَوْهَا﴾ بالمد؛ أي: لأعطوا تلك الفتنة السائلين لها؛ أي (١): أعطوهم مرادهم غير مبالين بما دهاهم من الداهية والغارة بالقصر؛ أي: لفعلوا تلك الفتنة وجاؤوا بها.
﴿وَمَا تَلَبَّثُوا﴾؛ أي: وما مكثوا وما تأخروا عن الإتيان بتلك الفتنة ﴿إِلَّا﴾، زمنًا ﴿يَسِيرًا﴾؛ أي؛ قليلًا قدر ما يسمع السؤال والجواب، فضلًا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها، كما فعلوا الآن، وما ذلك إلا لمقتهم الإِسلام، وشدة بغضهم لأهله، وحبهم بالكفر وأهله، وتهالكهم على حزبه.
والمعنى (٢): لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم، وهم الأحزاب، من نواحي المدينة وجوانبها، أو دخلوا بيوتهم من جوانبها جميعًا، لا من بعضها، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم ومنازلهم، ثم سئلوا الفتنة والردة والرجعة إلى الكفر، الذي يبطنونه ويظهرون خلافه من جهة أخرى، عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم.. لآتوها؛ أي: لجاؤوا، وفعلوا تلك الفتنة، أو أعطوا تلك الفتنة لسائلها، وما تلبثوا وجلسوا بها؛ أي: بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة إلا تلبثًا يسيرًا حتى يهلكوا، كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي، وقال أكثر المفسرين: إن المعنى: وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلًا، بل هم مسرعون إليها، راغبون فيها، لا يقفون عنها إلا قدر زمن وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة، مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة، كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة، ولم تكن إذ ذاك عورة.
وقال ابن عطية: والمعنى: ولو دخلت المدينة من أقطارها، واشتد الحرب الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة، والحرب لمحمد - ﷺ -.. لطاروا إليها، وأتوها
(١) روح البيان.
(٢) الخازن والشوكاني.
438
مجيبين فيها، ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيرًا، قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم. انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سُئِلُوا﴾، وقرأ الحسن: ﴿سولوا﴾ بواو ساكنة بعد السين المضمومة، قالوا: وهي من سأل يسال، كخاف يخاف، لغة: من سأل المهموز العين، وحكى أبو زيد هما يتساولان. انتهى.
ويجوز أن يكون أصلها الهمز، لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب ضرب ثم سهل الهمزة، بإبدالها واوًا، على قول من قال: في بؤس بوس، بإبدال الهمزة واوًا لضم ما قبلها، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو والأعمش: ﴿سيلوا﴾ بكسر السين من غير همز، نحو قيل، وقرأ مجاهد: ﴿سويلوا﴾ بواو بعد السين المضمومة، وياء مكسورة بدلًا من الهمزة، وقرأ الجمهور ﴿لَآتَوْهَا﴾ بالمد؛ أي: لأعطوها، وقرأ نافع وابن كثير: ﴿لأتوها﴾ بالقصر؛ أي: لجاؤوها.
وفي هذا إيماء (٢) إلى أن الإيمان لا قرار له في نفوسهم، ولا أثر له في قلوبهم، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب، ولا مقاومة الشدائد، فلا تعجب لاستئذانهم، وطلبهم الهرب من ميدان القتال.
والخلاصة: أن شدة الخوف والهلع الذي تمكن في قلوبهم، مع خبث طويتهم، وإضمارهم النفاق، تحملهه على الإشراك بالله، والرجوع إلى دينهم، عند أدنى صدمةٍ تحصل لهم من العدو، فإيمانهم طلاء ظاهري، لا أثر له في نفوسهم بحال، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذًا، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ.
١٥ - ثم بيَّن أن لهم سابقة عهدٍ بالفرار وخوف اللقاء من الكماة، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان الفريق الذين استأذنوك للرجوع إلى منازلهم في المدينة، وهم بنو حارثة وبنو سلمة ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وحلفوا له {مِنْ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
قَبْلُ}؛ أي: من قبل واقعة الخندق، يعني: يوم أحد، حين هموا بالانهزام، ثم تابوا لما نزل فيهم ما نزل كما سبق في آل عمران، وقال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر، ورأوا ما أعطى الله لأهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالًا.. لنقاتلن.
﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾: جواب قسم؛ لأن ﴿عَاهَدُوا﴾: بمعنى حلفوا، كما في "الكواشي"؛ أي: لا يتركون العدو خلف ظهورهم ولا يفرون من القتال ولا ينهزمون ولا يعودون لمثل ما في يوم أحد، ثم وقع منهم هذا الاستئذان نقضًا للعهد، وقال أبو البقاء: ويقرأ بتشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم. اهـ. "سمين".
﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَسْئُولًا﴾ عنه صاحبه يوم القيامة، ومطلوبًا بالوفاء به في الدنيا، ومجازًى على ترك الوفاء به يوم القيامة، يسأل عنه: هل وفي المعهود به، أو نقضه فيجازى عليه؟ وهذا وعيد.
والمعنى: أي (١) ولقد كان هؤلاء المستأذنون، وهم بنو حارثة وبنو سلمة، قد هربوا يوم أحد، وفروا من لقاء عدوهم، ثم تابوا وعاهدوا الله أن لا يعودوا إلى مثلها، وأن لا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول الله - ﷺ -، ثم بين ما للعهد من حرمةٍ فقال: ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ﴾ يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه.
١٦ - ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن فراركم لا يؤخر آجالكم، ولا يطيل أعماركم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المستأذنين الفارين من قتال العدو ومنازلته في الميدان: ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ﴾ والهرب، ولا يدفع عنكم ما أبرم في الأزل، من موت أحدكم حتف أنفه، ﴿إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ﴾ قتلة بسيف أو نحوه، إن فررتم من ﴿الْقَتْلِ﴾، والقتل: فعل يحصل به زهوق الروح، فإنه لا بد لكل شخص من الفناء والهلاك، سواء كان بحتف أنف أو بقتل سيف في وقت
(١) المراغي.
معين سبق به القضاء، وجرى عليه القلم، ولا يتغير أصلًا، فإن المقدر كائن لا محالة، والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علي بن أبي طالب يقول عند اللقاء: دهم الأمر وتوقد الجمر.
أَيَّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرّ يَوْمَ لَا يَقْدِرُ أَمْ يَوْمَ قَدِرْ
يَوْمَ لَا يَقْدِرُ لَا أُرْهِبُهُ وَمِنَ الْمَقْدُوْرِ لَا يُنْجِيْ الْحَذِرْ
﴿وَإِذًا﴾؛ أي: وإن نفعكم الفرار مثلًا، فمتعتم بالتأخير ﴿لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا﴾ تمتيعًا ﴿قَلِيلًا﴾ أو إلا زمانًا قليلًا بعد فراركم إلى أن تنقضي آجالكم، وكل ما هو آتٍ قريب، وعمر الدنيا كله قليل، فكيف مدة آجال أهلها، وقد قال من عرف مقدار: عمرك في جنب عيش الآخرة، كنفس واحد، وقد أجاد من قال:
الْمَوْتُ كَأْسٌ وَكُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ وَالْقَبْرُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ
وعن بعض المروانية: أنه مر بحائط مائلٍ فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل أطلب.
والمعنى (١): أي وإن نفعكم الفرار، بأن دفع عنكم الموت، فمتعتم.. لم يكن ذلك التمتع إلا قليلًا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل، وإن كثر، ولله در أحمد شوقي حيث يقول:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِيْ
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تمتعون﴾ بالفوقانية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه: بالتحتية، وفي بعض الروايات: ﴿لا تمتعوا﴾ بحذف النون إعمالًا لإذن، وعلى قراءة الجمهور: هي ملغاة.
١٧ - ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا، لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم.. أمره الله سبحانه بالجواب عن هذا فقال: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء المستأذنين ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾ ويحفظكم ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من قضائه،
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
441
والاستفهام فيه إنكاري، ومذهب (١) سيبويه على أن ﴿مِنَ﴾ الاستفهامية: مبتدأ، و ﴿ذا﴾: خبره، و ﴿الَّذِي﴾: صفة أو بدل منه، وذهب بعض النحاة إلى كون: ﴿مَنْ ذَا﴾ خبرًا مقدمًا، والعصمة: الحفظ والمنع؛ أي: قل لهم: من الذي يحفظكم ويدفع عنكم قضاء الله وحكمه ﴿إِنْ أَرَادَ﴾ الله سبحانه ﴿بِكُمْ سُوءًا﴾؛ أي: شرًا وضررًا وهلاكًا في أنفسكم، أو نقصًا في الأموال، وجدبًا مرضًا ﴿أَوْ﴾ من الذي يصيبكم بسوء وضرر إن ﴿أَرَادَ﴾ الله سبحانه ﴿بِكُمْ رَحْمَةً﴾؛ أي: نصرةً وإطالة عمر في عافيةٍ وسلامةٍ وخصبًا وكثرة مال، أو المعنى: من يمنع الله من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمةً، لما في العصمة من معنى المنع، ففي الكلام اختصار كما في قوله: متقلدًا سيفًا ورمحًا؛ أي: ومعتقلًا رمحًا، والاعتقال: أخذ الرمح بين الركب والسرج، وكما في قوله: علفتها تبنًا وماءً باردًا.
والمعنى: لا أحد يستطيع أن يدفع عنكم شرًا قدره الله سبحانه عليكم، من قتل أو غيره، ولا أحد يستطيع أن يصيبكم بسوء، إن أراد الله بكم رحمةً، من خصب وملامة وعافيةٍ.
وإجمال القول (٢): أن النفع والضر بيده سبحانه، وليس بغيره في ذلك تصريف ولا تبديل.
ثم أكد هذا بقوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ﴾؛ أي: ولا يجد هؤلاء المنافقون لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين الله سبحانه ﴿وَلِيًّا﴾ يلي أمرهم، ويدفع عنهم السوء قبل الوقوع ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم ويخلصهم من السوء، والضرر بعد الوقوع.
واعلم (٣): أن الآية دلت على أمور:
الأول: أن الموت لا بد منه، قال بعضهم: إذا بلغ الرجل أربعين سنة.. ناداه منادٍ من السماء: دنا الرحيل فأعد زادًا، وقال الثوري: ينبغي لمن كان له
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
442
عقل إذا أتى عليه عمر النبي - ﷺ - أن يهيىء كفنه.
والثاني: أن الفرار لا يزيد في الآجال، ومن أسوأ حالًا ممن سعى لتبديل الآجال والأرزاق، ورجاء دفع ما قدر له أنه لاقٍ، وأنه لا يقيه منه واقٍ.
والثالث: أن من اتخذ الله سبحانه وليًا ونصيرًا.. نال ما يتمناه قليلًا وكثيرًا، ونصر أميرًا وفقيرًا، وطاب له وقته مطلقًا وأسيرًا، فثبت ثبات الجبال، وعامل معاملة الرجال، نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الفرار من نحو بابه، والإقبال على الإدبار عن جنابه، إنه الولي النصير، ذو الفضل الكثير.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣)﴾:
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ أو بدل منه، وجملة النداء: مستأنفة، ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾ ومفعول به، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿وَلَا تُطِعِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُطِعِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله: ضمير يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾، ﴿الْكَافِرِينَ﴾: مفعول به، ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾: معطوف عليه. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿عَلِيمًا﴾: خبر أول له، ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَاتَّبِعْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾ - ﷺ -، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾، ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، {مِنْ
443
رَبِّكَ}: حال من الضمير المستتر في ﴿يُوحَى﴾، والجملة الفعلية: صلة الموصول، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرًا﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة ﴿مَا﴾ الموصول، ﴿خَبِيرًا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على ﴿اتَّقِ﴾، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿اتَّقِ﴾، ﴿وَكَفَى﴾: فعل ماض، ﴿بِاللَّهِ﴾: فاعل، و ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿وَكِيلًا﴾: تمييز لفاعل ﴿كفى﴾. والجملة: مستأنفة.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)﴾.
﴿مَا﴾: نافية، ﴿جَعَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للرد على مزاعم المشركين، بأن لبعضهم قلبين، فهو أعقل من محمد، ﴿لِرَجُلٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، وهو في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿قَلْبَيْنِ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾ ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ صفة لـ ﴿قَلْبَيْنِ﴾ ﴿وَمَا﴾ ﴿و﴾: عاطفة، ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾. والجملة: معطوفة على جملة ﴿ما﴾ نافية ﴿جَعَلَ﴾ الأولى، ﴿أَزْوَاجَكُمُ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿اللَّائِي﴾: اسم موصول للجمع المؤنث في محل النصب صفة لـ ﴿أَزْوَاجَكُمُ﴾. ﴿تُظَاهِرُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿مِنْهُنَّ﴾: متعلق به، ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿جَعَلَ﴾ الأول، ﴿أَدْعِيَاءَكُمْ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾: مفعول ثان، ﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿قَوْلُكُمْ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة، ﴿بِأَفْوَاهِكُمْ﴾: حال من ﴿قَوْلُكُمْ﴾؛ أي: كائنًا بأفواهكم فقط، من غير أن تكون له حقيقة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿يَقُولُ الْحَقَّ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هو﴾: مبتدأ ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع
444
وفاعل مستتر ﴿السَّبِيلَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يَهْدِي﴾، والأول محذوف؛ أي: من يشاء، أو منصوب بنزع الخافض، وجملة ﴿يَهْدِي﴾: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿يَقُولُ﴾.
﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾.
﴿ادْعُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان أن نسبة كل مولود إلى والده أقوم وأعدل. ﴿لِآبَائِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿ادْعُوهُمْ﴾. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿أَقْسَطُ﴾: خبره. والجملة: مستأنفة. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَقْسَطُ﴾ أو حال من الضمير في ﴿أَقْسَطُ﴾، ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: هذا إن علمتم آباءهم. ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿آبَاءَهُمْ﴾: مفعول به، والجملة: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إخوانكم﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم إخوانكم. ﴿فِي الدِّينِ﴾: حال من ﴿إخوانكم﴾، ﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾: معطوف على ﴿إخوانكم﴾. والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
﴿وَلَيْسَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ليس﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبرها مقدم. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسمها مؤخر. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿جُنَاحٌ﴾. وجملة ﴿ليس﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿فإن لم تعلموهم﴾. ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ما في قوله فيما ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾. ويجوز أن يكون في محل الرفع مبتدأ، وخبره:
445
محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم تؤاخذون به. ﴿تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَّا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ولكن ما تعمدته قلوبكم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿غَفُورًا﴾: خبر أول لكان. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة.
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦)﴾.
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى﴾: مبتدأ وخبر، ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾. والجملة: مستأنفة. ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ أيضًا. ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾: مبتدأ أول. ﴿بَعْضُهُمْ﴾: مبتدأ ثان أو بدل من أولوا. ﴿أَوْلَى﴾: خبر للمبتدأ الثاني. وجملة الثاني: خبر الأول. وجملة الأول: معطوفة على الجمل التي قبلها. ﴿بِبَعْضٍ﴾: متعلق ﴿أَوْلَى﴾، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: بإرث بعض. ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ أيضًا؛ لأن أفعل التفضيل يعمل في الظرف؛ أي: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير في ﴿أَوْلَى﴾ والعامل فيها ﴿أَوْلَى﴾؛ لأنها شبيهة بالظرف، ولا يجوز أن يكون حالًا من ﴿وَأُولُو﴾ للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها. اهـ. "كرخي". ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ أيضًا. ﴿وَالْمُهَاجِرِينَ﴾: معطوف عليه، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تَفْعَلُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية. ﴿إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَفْعَلُوا﴾: بتضمينه معنى تحسنوا أو تسدوا. ﴿مَعْرُوفًا﴾: مفعول به. والجملة الفعلية، مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ، وخبره: محذوف، والتقدير: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفًا جائز، والجملة الاستدراكية: مستأنفة. ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِي الْكِتَابِ﴾: متعلق بـ ﴿مَسْطُورًا﴾. ﴿مَسْطُورًا﴾. خبر ﴿كَانَ﴾: وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة.
446
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ أخذنا إلخ. ﴿أَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾: متعلق به. ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾: مفعول به. والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾: معطوفان على ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾: عطف خاص على عام. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾: معطوفات على ﴿نُوحٍ﴾. ﴿ابْنِ مَرْيَمَ﴾: صفة لـ ﴿وَعِيسَى﴾. ﴿وَأَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على لـ ﴿أَخَذْنَا﴾ الأول للتأكيد. ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَذْنَا﴾. ﴿مِيثَاقًا﴾: مفعول به لـ ﴿أَخَذْنَا﴾. ﴿غَلِيظًا﴾: صفة ﴿مِيثَاقًا﴾.
﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)﴾.
﴿لِيَسْأَلَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يسأل﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿الصَّادِقِينَ﴾: مفعول به، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: فعل ذلك ليسأل الصادقين. إلخ. والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿عَنْ صِدْقِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يسأل﴾. ﴿وَأَعَدَّ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أعد﴾. ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به. ﴿أَلِيمًا﴾: صفة له. وفي "الفتوحات": ﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ﴾: يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوف على ما دل عليه ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ﴾، إذ التقدير: فأثاب الصادقين وأعد للكافرين.
والثاني: أنه معطوف على ﴿أَخَذْنَا﴾؛ لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
447
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩)}.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ أو بدل أو عطف بيان. وجملة النداء: مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿اذْكُرُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. والجملة: جواب النداء. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾؛ لأنه مصدر بمعنى: إنعام الله عليكم، أو بمحذوف حال من ﴿النعمة﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿اذْكُرُوا﴾، وهو بمنزلة بدل اشتمال من ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، والمراد بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾: نصرهُ في غزوة الأحزاب. ﴿جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿فَأَرْسَلْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أرسلنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جَاءَتْكُمْ﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾. ﴿رِيحًا﴾: مفعول به، ﴿وَجُنُودًا﴾: معطوف على ﴿رِيحًا﴾. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَرَوْهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. والجملة الفعلية: صفة لـ ﴿جُنُودًا﴾. ورأى هنا بصرية. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرًا﴾. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿بَصِيرًا﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿أرسلنا﴾.
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان بدل من ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾. ﴿جَاءُوكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءُوكُمْ﴾. ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ﴾: معطوف على ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَسْفَلَ﴾. ﴿وَإِذْ زَاغَتِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، معطوف على ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾. ﴿زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿زَاغَتِ﴾. ﴿الْحَنَاجِرَ﴾: منصوب على الظرفية المكانية، أو على التوسع.
448
﴿وَتَظُنُّونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿زَاغَتِ﴾، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تظنون﴾. ﴿الظُّنُونَا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، و ﴿الألف﴾: مزيدة تشبيهًا للفواصل بالقوافي. ﴿هُنَالِكَ﴾: ﴿هنا﴾: اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، و ﴿اللام﴾: لبعد المشار إليه، و ﴿الكاف﴾: حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ ﴿ابْتُلِيَ﴾. ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿وَزُلْزِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿ابْتُلِيَ﴾. ﴿زِلْزَالًا﴾: مصدر مبين للنوع. ﴿شَدِيدًا﴾: صفة لـ ﴿زِلْزَالًا﴾.
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ يقول المنافقون، والجملة المحذوفة، مستأنفة، أو معطوفة على ما سبق. ﴿يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: صلة الموصول. ﴿مَا وَعَدَنَا﴾: ﴿مَا﴾: نافية. ﴿وَعَدَنَا اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿وَرَسُولُهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿غُرُورًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، ولكنه على حديث مضاف؛ أي: وعد غرور. ﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان معطوف على ﴿إذ يقول﴾. ﴿قَالَتْ طَائِفَةٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لـ ﴿طَائِفَةٌ﴾. ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾: منادى مضاف، ويثرب ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، أو التأنيث المعنوي، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿مُقَامَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَكُمْ﴾: خبر ﴿لَا﴾. وجملة ﴿لَا﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَارْجِعُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها
449
أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعتم كلامي، وقبلتم نصحي.. فأقول لكم: ارجعوا. ﴿ارجعوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿وَيَسْتَأْذِنُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يستأذن فريق﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَتْ﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة ﴿فَرِيقٌ﴾. ﴿النَّبِيَّ﴾: مفعول به. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل. والجملة: في محل النصب حال من ﴿فَرِيقٌ﴾ لوصفه بما بعده. ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا﴾: ناصب واسمه. ﴿عَوْرَةٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿وَمَا هِيَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿ما﴾: حجازية تعمل عمل ليس. ﴿هِيَ﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿بِعَوْرَةٍ﴾: خبرها. و ﴿الباء﴾: زائدة. وجملة ﴿ما﴾: في محل النصب حال من ﴿بيوتنا﴾. ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿يُرِيدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿فِرَارًا﴾: مفعول به. والجملة: مستأنفة.
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿دُخِلَتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود إلى ﴿بيوتهم﴾، أو إلى المدينة. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾: حال من مرفوع ﴿دُخِلَتْ﴾. والجملة: فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿سُئِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿دُخِلَتْ﴾. ﴿الْفِتْنَةَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿دُخِلَتْ﴾. ﴿لَآتَوْهَا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿أتوها﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والمفعول الثاني: محذوف إن قرأنا بالمد؛ لأنه بمعنى أعطي، تقديره: لأعطوها السائلين. والجملة الفعلية: جواب ﴿لو﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿تَلَبَّثُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَلَبَّثُوا﴾. ﴿إِلا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿يَسِيرًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تلبثًا يسيرًا، أو لزمن محذوف؛
450
أي: زمنًا يسيرًا، والجملة: معطوفة على جواب ﴿لو﴾ الشرطية.
﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية، في محل النصب خبر ﴿كان﴾. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَاهَدُوا﴾. وجملة ﴿كان﴾: جملة قسمية لا محل لها من الإعراب؛ لأنه بمعنى: ولقد أقسموا بالله من قبل. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُوَلُّونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿الْأَدْبَارَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يُوَلُّونَ﴾، والمفعول الأول: محذوف، تقديره: لا يولون العدو الأدبار، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. وجاء على حكاية اللفظ، فجاء بلفظ الغيبة، ولو جاء على حكاية المعنى.. لقيل: لا نولي. ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿كان عهد الله﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مَسْئُولًا﴾: خبره. والجملة: معطوفة على جملة القسم. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿لَنْ﴾: حرف نفي ونصب. ﴿يَنْفَعَكُمُ﴾: فعل ومفعول به منصوب بـ ﴿لَنْ﴾. ﴿الْفِرَارُ﴾: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿فَرَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزمِ بـ ﴿إِنْ﴾: الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿مِنَ الْمَوْتِ﴾: متعلق بـ ﴿فَرَرْتُمْ﴾، ﴿أَوِ الْقَتْلِ﴾: معطوف عليه، وجواب ﴿إِنْ﴾: الشرطية معلوم مما قبله، تقديره: إن فررتم من الموت.. لن ينفعكم الفرار، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَإِذًا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء مهمل لعدم تصدرها في أول الكلام المجاب بها، كما هو الغالب والشرط فيها. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تُمَتَّعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا.
451
﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿مَنْ ذَا﴾: اسم استفهام مركب للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع خبر مقدم. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في مجل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿يَعْصِمُكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق به. والجملة: صلة الموصول ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَرَادَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الحزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿بِكُمْ﴾ متعلقان به ﴿سُوءًا﴾: مفعول به، وجواب ﴿إن﴾ معلوم مما قبله، تقديره: إن أراد بكم سوءًا فمن الذي يعصمكم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَوْ أَرَادَ﴾: فعبم وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَرَادَ﴾ الأول. ﴿بِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرَادَ﴾. ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول به، ولا بد من تقدير محذوف هنا كما مر؛ أي: أو من الذي يصيبكم بسوء، إن أراد بكم رحمة. ﴿وَلَا يَجِدُونَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَجِدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُمْ﴾: جار وجرور في محل المفعول الثاني، أو متعلق به إن كان من وجد الضالة. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من ﴿وَلِيًّا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿وَلِيًّا﴾: مفعول أول لـ ﴿يَجِدُونَ﴾ أو مفعول به له. ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾: معطوف على ﴿وَلِيًّا﴾. والجملة الفعلية: مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾: النبي: إما مأخوذ من النبأ، وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، وسمي نبيًا؛ لأنه منبىء؛ أي: مخبر عن الله بما تسكن إليه العقول الزكية، أو من النبوة؛ أي: الرفعة؛ لأنه مرفوع الرتبة على سائر الخلائق، أو رافع رتبة من تبعه، فهو فعيل: إما بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، فأصله على الأول نبييء؛ وعلى الثاني: نبيو.
﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾؛ أي: دم على التقوى، قال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل
452
بطاعة الله سبحانه على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله. اهـ.
واعلم: أن التقوى في اللغة بمعنى: الاتقاء، وهو اتخاذ الوقاية، وعند أهل الحقيقة هو، الاحتواز بطاعة الله من عقوبته، وصيانة النفس عما تستحق به العقوبة، من فعل أو ترك، فالتقوى اسم مصدر من اتقى يتقي اتقاءً: إذا جعل لنفسه وقاية عما يخافه.
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: دم على ما أنت عليه من انتقاء الطاعة لهم، فيما يخالف شريعتك، ويعود بوهنٍ في الدين، وذلك أن رسول الله - ﷺ - لم يكن مطيعًا لهم، حتى ينهى عن إطاعتهم، لكنه أكد عليه ما كان عليه، وثبت على التزامه، والإطاعة: الانقياد، والطاعة: اسم مصدر من أطاع يطيع إطاعةً وطاعةً، والفرق بين الطاعة والعبادة: أن الطاعة فعل يعمل بالأمر، بخلاف العبادة.
﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ﴾؛ أي: نساءكم، جمع زوج، كما أن الزوجات جمع زوجة، والزوج، أفصح، وإن كان الثاني أشهر.
﴿اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ﴾ يقال: ظاهر الرجل من زوجته: إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، يريدون: أنت محرمة علي كما تحرم الأم، وكانوا في الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، فهو مضارع ظاهر، ومصدره: الظهار بكسر الظاء، كقاتل قتالًا، وهو كما في "القاموس" قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وقد ظاهر وتظهر وظهر، وخصوا الظهر دون غيره؛ لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوب الزوج، ففي قول المظاهر: أنت علي كظهر أمي كناية تلويحية لأنه ينتقل من الظهر إلى المركوب، ومن المركوب إلى المرأة؛ لأنها مركوب الزوج، فكان المُظاهر يقول: أنت محرمة علي لا تركبين، كتحريم ركوب أمي.
﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾؛ أي: كأمهاتكم، جمع أم، زيدت الهاء فيه كما زيدت في إهراق، من أراق، وشذت زيادتها في الواحدة بأن يقال: أمه.
453
﴿أَدْعِيَاءَكُمْ﴾: جمع دعي، وهو من يُدعى لغير أبيه؛ أي: يتخذ ولدًا وابنًا له، وهو المتبنى بتقديم الباء الموحدة على النون، فهو فعيل بمعنى مفعول، ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس، لأن أفعلاء، إنما يكون جمعًا لفعيل المعتل اللام، إذا كان بمعنى فاعل، نحو تقي وأتقياء، وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلًا معتل اللام، إلا أنه بمعنى مفعول، فكان القياس جمعه على فعلى، كقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، بأن يقال: دعيًا، فكأنه شبه فعيل بمعنى مفعول في اللفظ، بفعيل بمعنى فاعل، فجمع جمعه.
﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾: والأفواه: جمع فم، وأصل فم: فوه بالفتح، مثل ثوب وأثواب، وهو مذهب سيبويه والبصريين، أوفوه بالضم، مثل سوق وأسواق، وهو مذهب الفراء، حذفت الهاء حذفاَ غير قياسي لخفائها، ثم الواو لاعتلالها، ثم أبدلت الواو المحذوفة ميمًا لتجانسهما، لأنهما من حروب الشفة، فصار فمًا.
﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾: والسبيل من الطرق: ما هو معتاد السلوك وما فيه سهولة.
﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ يقال: فلان يدعى لفلان؛ أي: ينسب إليه، ووقوع اللام هاهنا للاستحقاق.
﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾: القسط بالكسر: العدل، بالفتح: هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك غير إنصاف، ولذلك قيل: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل. حكي أن امرأة قالت للحجاج: أنت القاسط، فضربها، وقال: إنما أردت القسط بالفتح، وأقسط هنا أفعل تفضيل، قصد به الزيادة المطلقة، والمعنى بالغ في العدل والصدق.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾؛ أي: إثم، يقال: جنحت السفينة؛ أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم: المائل بالإنسان عن الحق جناحًا، ثم سمي كل إثم جناحًا، وقال بعضهم: إنه معرب، كناه على ما هو عادة العرب في الإبدال، ومثله الجوهر: معرب كوهر.
454
﴿فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ بقطع الهمزة؛ لأن همزة باب الإفعال مقطوعة وفرق بين الخاطىء والمخطيء، بأن الخاطيء من يأتي بالخطأ: وهو يعلم أنه خطأ، والمخطيء: من يأتي بالخطأ، وهو لا يعلم أنه خطأ، يقال: أخطأ الرجل في كلامه وأمره، إذا زلّ وهنا وخطأ الرجل إذا ضلّ في دينه وفعله، ومنه قوله: ﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾.
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أرأف وأشفق وأجدر بهم.
﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: فيما دعاهم إليه من أمر الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم. اهـ. "شيخنا".
ويقال: فلان أولى بكذا: أحرى وأليق به.
﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾: جمع رحم، وهو القرابة؛ أي: ذوو القرابات.
﴿مَسْطُورًا﴾؛ أي: مكتوبًا، يقال: سطر فلان كذا؛ أي: كتب سطرًا سطرًا، والسطر: الصف من الكتابة.
﴿مِيثَاقَهُمْ﴾: الميثاق: عقد يؤكد بيمين. ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: إنعام الله عليكم بالنصر على الأحزاب، وذكر النعمة: شكرها.
﴿جُنُودٌ﴾: جمع جند، ويقال للعسكر: الجند؛ اعتبارًا بالغلظ من الجند، وهي الأرض الغليظة التي فيها حجارة، ثم يقال لكل مجتمع جند، نحو: الأرواح جنود مجندة؛ أي: مجمعة، والمراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير من اليهود ورؤسائهم: حيي بن أخطب، وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله - ﷺ - عهد، فنبذه كعب بسعي حيي، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف، أو نحو ذلك.
455
﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾؛ أي: انحرفت عن مستوى نظرها حيرةً ودهشةً، والزيغ: الميل عن الاستقامة، والأبصار: جمع بصر، والبصر: الجارحة الناظرة.
﴿الْحَنَاجِرَ﴾: جمع حنجرة، وهي: رأس الغلصمة، والغلصمة: رأس الحلقوم، والحلقوم: مجرى الطعام والشراب، وقيل: الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم. وقال الراغب: الحنجرة: رأس الغلصمة من خارج. اهـ. وهي منتهى الحلقوم وطرفه من أسفله اهـ. "سمين".
﴿هُنَالِكَ﴾: هو في الأصل للمكان البعيد، لكن العرب تكنى بالمكان عن الزمان، وبالزمان عن المكان.
﴿زِلْزَالًا﴾ الزلة في الأصل: استرسال الرجل من غير قصد، يقال: زلت رجله تزل، والمزلة: المكان الزلق، وقيل: للذنب من غير قصد: زلة، تشبيهًا بزلة الرجل، والتزلزل: الاضطراب، وكذا الزلزلة: شدة الحركة، وتكرير حروف لفظه تنبيه على تكرر معنى الزلل.
﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾: قال الواغب: المرض: الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان، وهو ضربان: جسمي ونفسي، كالجهل والجبن والنفاق ونحوها من الرذائل الخلقية، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم، لقرب عهدهم بالإِسلام.
﴿إِلَّا غُرُورًا﴾: بضم الغين لا غير، لأنه مصدر؛ أي: وعد غرور لا حقيقة له.
﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾؛ أي: لا ينبغي لكم الإقامة هاهنا.
﴿عَوْرَةٌ﴾ بسكون الواو، وفي الأصل: أطلقت على المختل مبالغة، يقال: عور المكان عورًا: إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق، وفلان يحفظ عورته؛ أي: خلله، والعورة أيضًا: سوءة الإنسان، وذلك كناية، وأصلها من
456
العار، وذلك لما يلحق في ظهورها من العار؛ أي: المذمة، ولذلك سمي النساء عورة، ومن ذلك العوراء، للكلمة القبيحة.
﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾: جمع قطر بالضم، وهو الجانب والناحية.
﴿الْفِتْنَةَ﴾: الردة ومقاتلة المؤمنين.
﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾ العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا، والمعاهدة: المعاقدة.
﴿الْأَدْبَارَ﴾: جمع دبر، ودبر الشيء: خلاف القبل، يقال: ولاه دبره: إذا انهزم.
﴿مَسْئُولًا﴾؛ أي: مطلوبًا حتى يوفى، يقال: سألت فلانًا حقي؛ أي: طالبته به.
﴿أَوِ الْقَتْلِ﴾ والقتل: فعل يحصل به زهوق الروح، قال الراغب: أصل القتل: إزالة الروح عن الجسد، كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال موت. انتهى.
﴿وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ﴾: وإذًا: حرف جواب وجزاء كما مر، ولما وقعت هنا بعد عاطف.. جاءت على الأكثر، وهو عدم إعمالها، ولم يشذ ما هنا ما شذ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب. اهـ. "سمين".
﴿يَعْصِمُكُمْ﴾: والعصمة: الإمساك والحفظ.
﴿سُوءًا﴾: والسوء: كل ما يسوء الإنسان ويغمه، والمراد هنا: القتل والهزيمة ونحوهما.
﴿وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾: الولي هو الدافع عنهم قبل وقوع السوء بهم والناصر المخرج لهم من السوء بعد وقوعهم فيه، كذا فرق بينهما.
457
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: النداء بوصف النبي في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ إجلالًا له وتعظيمًا.
ومنها: تنكير رجل في قوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ لإفادة الاستغراق والشمول، وإدخال حرف الجر الزائد؛ لتأكيد الاستغراق في قوله: ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾.
ومنها: ذكر الجوف في قوله: ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ لزيادة التصوير في الإنكار.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾، وقوله: ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾؛ أي: مثل أمهاتكم في التحريم، ومثل أبنائكم في الميراث، وفي قوله: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا، وأصل الكلام: وأزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم والإجلال والتكريم.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾؛ أي: أولى بإرث بعض.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام، إظهارًا لشرفه وفضله في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾ إلخ. فقد دخل هؤلاء المذكورون في جملة النبيين، ولكنه خصهم بالذكر؛ تنويهًا بشأنهم، وتشريفًا لهم؛ لأن هؤلاء الخمسة المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل، فآثرهم بالذكر؛ للتنويه بإنافة فضلهم على غيرهم، وقدم النبي محمدًا - ﷺ - مع أنه مؤخر عن نوح ومن بعده؛ لأنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لهذا السبب.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ حيث شبه الميثاق بجرم
458
محسوس، واستعار له شيئًا من صفات الإجرام، وهو الغلظ؛ للتنويه لعظم الميثاق وحرمته وثقل حمله.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ لغرض بيان وصف الغلظ.
ومنها: الالتفات من التكلم في قوله: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ﴾ لغرض التبكيت والتقبيح للمشركين.
ومنها: الطباق بين ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾ و ﴿تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وبين ﴿سُوءًا﴾ و ﴿رَحْمَةً﴾؛ لأن المراد بالسوء: الشر، وبالرحمة: الخير، وبين ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾.
ومنها: التمثيل في قوله: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ حيث صور القلوب في خفقانها، واضطرابها، بارتفاعها إلى الحناجر.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ لاستحضار الصورة الماضية، وللدلالة على الاستمرار، وفي قوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ للدلالة على استحضار القول، واستحضار صورته، وفي قوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾؛ لأنه كناية عن الفرار من الزحف.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾؛ لأنه كناية عن كونها غير حصينة.
ومنها: العدول إلى الغيبة في قوله: ﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾ على إرادة حكاية اللفظ، ولو جاء على حكاية المعنى.. لقيل: لا نولي الأدبار على، صيغة التكلم.
459
ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾، ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾، وهو مما يزيد رونق الكلام، وعذوبته، لما له من وقعٍ رائعٍ وجذب سامع.
ومنا: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
460
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (٢٩) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما نصر (١) نبيه - ﷺ -، فرد عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير.. ظن أزواجه - رضي الله عنهن - أنه اختص بنفائس اليهود
(١) المراغي.
461
وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول - الخدم والحشم - ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال، ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا، من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب، ونحو ذلك، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في شأنهن.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (١) البخاري بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين.. ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون.. قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.
قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾. إلى آخر الآية.
والحديث أخرجه أيضًا مسلم والترمذي والنسائي وأحمد والطيالسي وابن جرير وأبو نعيم في "الحلية" وعبد الله بن المبارك في "الجهاد".
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(١) البخاري.
462
وَزِينَتَهَا...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لم أزل حريصًا على أن أسال عمر - رضي الله عنه - عن المرأتين من أزواج النبي - ﷺ -، اللتين قال الله لهما: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس: عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي - ﷺ -، فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصاحت علي امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي - ﷺ - ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره النهار حتى الليل، فأفزعني، فقلت: خابت من فعلت منهن بعظيمٍ، ثم جمعت على ثيابي فدخلت على حفصة، فقلت: أي حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله - ﷺ - حتى الليل؟ فقالت: نعم، فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن من أن يغضب الله رسوله فتهلكين، لا تستكثري على رسول الله - ﷺ - ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لك ولا تغرنك إن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى رسول الله - ﷺ - يريد عائشة - وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء، فضرب بأبي ضربًا شديدًا، وقال: أنائم هو، ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم، قلت: ما هو، أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله - ﷺ - نساءه، قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي، فصليت صلاة الفجر مع النبي - ﷺ -، فدخل مشربةً له فاعتزل فيها، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، قلت: ما يبكيك، أولم أكن حذرتك، أطلقكن رسول الله - ﷺ -؟ قالت: لا أدري هوذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلًا ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي هو فيها، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي - ﷺ - ثم خرج فقال: ذكرتك له
463
فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فذكر مثله، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما وليت منصرفًا فإذا الغلام يدعوني، قال: أذن لك رسول الله - ﷺ -، فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، وقد أثر الرمال بجنبه، متكىء على وسادةٍ من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه، ثم قلت: وأنا قائم: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ فرفع بصره إليّ فقال: "لا" ثم قلت وأنا قائم: استأنس يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي - ﷺ -، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى النبي - ﷺ -، يريد عائشة، فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاث، فقلت: أدع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكأ فقال: "أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي، فاعتزل النبي - ﷺ - من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة على عائشة، وكان قد قال: "ما أنا بداخل عليهن شهرًا، من موجدته عليهن حين عاتبه الله سبحانه، فلما مضت تسع وعشرون ليلة.. دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلةً أعدها عدًا، فقال النبي - ﷺ -: الشهر تسعٌ وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول مرةٍ، فقال: "إني ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: إن الله سبحانه قال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ إلى قوله: ﴿عَظِيمًا﴾ قلت: أفي هذا أستامر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءَه، فقلن: مثل ما قالت عائشة.
الحديث أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن
464
الجارود وابن جرير.
وأخرج (١) مسلم وأحمد والنسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله - ﷺ -، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لهما فدخلا، والنبي - ﷺ - جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي - ﷺ - لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر، سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها، فضحك النبي - ﷺ - حتى بدا ناجده، وقال: من حولي يسألنني النفقة آنفًا، فقام أبو بكر، إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي - ﷺ - ما ليس عنده، وأنزل الخيار فبدأ بعائشة، فقال النبي - ﷺ -: "إني ذاكر لك أمرًا، ما أحب أن تتعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك" قالت: ما هو؟ فتلا عليها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...﴾ الآية. قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل اختار الله ورسوله.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾: ﴿قد﴾ (٢) فيه لتأكيد العلم بالتعويق، ومرجع العلم إلى توكيد الوعيد، والتعويق: التثبيط، يقال: عاقه وعوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده، كما سيأتي. ومنه عوائق الدهر، والخطاب فيه لمن أظهر الإيمان مطلقًا.
والمعنى: قد علم الله سبحانه المثبطين للناس عن نصرة رسول الله - ﷺ -، الصارفين عن طريق الخير، وهم المنافقون أيًا من كان منهم.
﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ من منافقي المدينة، فالمراد: الأخوة في الكفر والنفاق ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾؛ أي: احضروا وارجعوا إلينا، ودعوا محمدًا - ﷺ -، فلا تشهدوا معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك، وهذا يدل على أنهم عند هذا القول
(١) مسلم.
(٢) روح البيان.
465
خارجون عن العسكر، متوجهون نحو المدينة فرارًا من العدو، و ﴿هَلُمَّ﴾: اسم فعل بمعنى أقبل وأحضر وقرب، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وكلمة ﴿إلى﴾ صلة التقريب الذي تضمنه ﴿هَلُمَّ﴾. والمعنى: قربوا أنفسكم إلينا.
قيل (١): هم أناس من المنافقين، كانوا يثبطون أنصار النبي - ﷺ -، ويقولون لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأسٍ، ويريدون أنهم قليلو العدد، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم؛ أي: ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك، وقيل: نزلت في المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلت إليهم: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة.. لم يبقوا منكم أحدًا، وإنا نشفق عليكم، فأنتم إخواننا وجيراننا، هلموا إلينا، فأقبل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه على المؤمنين، يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا: لئن قدر اليوم عليكم لم يبق منكم أحدًا، أما ترجعون عن محمد، ما عنده خير، ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا؛ يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانًا وإحتسابًا.
﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾؛ أي: الحرب والقتال، وهو في الأصل الشدة ﴿إِلَّا﴾ إتيانًا ﴿قَلِيلًا﴾ خوفًا من الموت، فإنهم يعتذرون ويتأخرون ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين، يوهمونهم أنهم معهم، لا تراهم يبارزون ويقاتلون، إلا شيئًا قليلًا، إذا اضطروا إليه، وهذا على تقدير عدم الفرار، وقيل: المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياءً وسمعةً من غير احتساب، وقال أبو حيان: وقلته: إما لقصر زمانه، وإما لقلة عقابه، وأنه رياء وتلميع لا تحقيق، انتهى.
وقال ابن السائب: (٢) هي في عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
466
ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة، فإذا جاءهم المنافق.. قالوا له: ويحك، اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر: أن ائتونا فإنا ننتظركم، وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدًا من إتياته، فيأتون ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم.. عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه الآية؟
والمعنى (١): أي إن ربك أيها الرسول، ليعلم حق العلم من يثبطون الناس عن رسول الله - ﷺ -، يصدونهم عنه، وعن شهود الحرب معه، نفاقًا منهم، وتخذيلًا عن الإِسلام، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم خلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار، ودعوا محمدًا فلا تشهدوا معه مشهدًا، فإنا نخاف عليكم الهلاك، ولا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون، فإذا غفلوا عنهم.. تسللوا لواذًا، وعادوا إلى بيوتهم.
١٩ - ثم ذكر بعض معايبهم، من البخل والخوف والفخر الكاذب فقال:
١ - ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ حال من فاعل ﴿يَأْتُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم بخلاء عليكم، لا يعاونونكم بحفر الخندق، ولا بالنفقة والنصرة في سبيل الله، فهم لا يودون مساعدتكم، لا بنفس ولا بمالٍ، قاله مجاهد وقتادة، وقيل: بخلاء بالقتال معكم، وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل: أشحةً بالغنائم إذا أصابوها، قاله السدي. وقرأ الجمهور: بالنصب، وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع.
٢ - ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ﴾؛ أي: الخوف من العدو ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾؛ أي: رأيت يا محمد، أو أيها المخاطب أولئك المعوقين ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ يا محمد في تلك الحالة، حالة كونهم ﴿تَدُورُ﴾ وتتحرك ﴿أَعْيُنُهُمْ﴾ وأبصارهم في أحداقهم يمينًا وشمالًا، وذلك شأن الجبان، إذا شاهد ما يخافه، و (الكاف) في قوله: ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تدور أعينهم دورانًا كائنًا كدوران عين المغشي عليه من معالجة سكرات الموت وأسبابه، حذرًا وخوفًا
(١) المراغي.
467
والتجاءً بك، يقال: غشي على فلان: إذا نابه ما غشي فهمه وستر عقله، كما سيأتي؛ أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي غشيته أسباب الموت، وأحاطت به سكراته، فيذهل عن كل شيء، ويذهب عقله، ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء، تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه.
والمعنى: أي (١) فإذا بدأ الخوف بِكَرِّ الشجعان وفرِّهم في ميدان القتال.. رأيتهم ينظرون إليك، وقد دارت أعينهم في مواضعها، فرقًا وخوفًا، كدوران عين الذي قرب من الموت، وعشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب نبه وعقله، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه.
٣ - ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾ وحصل الأمن من العدو وجمعت الغنائم.. ﴿سَلَقُوكُمْ﴾؛ أي: جرحوكم وآذوكم ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾؛ أي: بألسنة سليطةٍ ذربةٍ بذيةٍ خفيفة الحياء، جهروا فيكم بالسوء من القول، قال قتادة: ومعنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، وقالوا: وفروا لنا قسمتنا وسهمنا، فإنا قد ساعدناكم، وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم، وبنا نصرتم عليه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سَلَقُوكُمْ﴾ بالسين، وابن أبي عبلة: بالصاد.
أي: فإذا كان الأمن.. تكلموا فصيح الكلام، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة في النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون، قال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم، وأسوؤهم مقاسمةً، يقولون: أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذَ لُهم للحق. اهـ.
ثم بيّن ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم، فقال: ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾: حال من فاعل سلقوكم؛ أي: طعنوكم بألسنةٍ حدادٍ؛ أي: مؤثرة في الإعراض تأثير الحديد في الأجسام، حالة كونهم بخلاء على المال، حريصين على أخذ الغنائم.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
468
وقرأ الجمهور: ﴿أَشِحَّةً﴾ بالنصب على الحال، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿أشحة﴾ بالرفع؛ أي: هم بخلاء حريصون على الغنائم، إذا ظفر بها المؤمنون، لا يريدون أن يفوتهم شيء مما وصل إلى أيديهم.
والخلاصة: أنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء.
أَفِيْ السلم أعيار جفاءً وغلظةً وَفِيْ الْحَرْبِ أمْثَالَ النِّسَاءِ الْعَوَاتِكِ
وبعد أن وصفهم بما وصفهم به، من دنيء الصفات.. بين ما دعاهم إليها، وهو قلة ثقتهم بالله، لعدم تمكن الوازع النفسي في قلوبهم فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من صفات السوء ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ بالإخلاص، حيث أبطنوا خلافًا ما أظهروا، فصاروا أخبث الكفرة، وأبغضهم إلى الله ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: أظهر بطلانها إذ لم يثبت لهم أعمال تقتضي الثواب فتبطل؛ لأنهم منافقون، وفي هذا (١) دلالة على أن المعتبر عند الله هو العمل المبني على التصديق، وإلا فهو كبناء على غير أساس، أو المراد (٢) أبطل تصنعهم ونفاقهم، فلم يبق مستتبعًا لمنفعةٍ دنيوية أصلًا.
وقال الزمخشري: فإن قلت (٣): هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟
قلت: لا، ولكن تعليم لمن يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب، وأن ما يعمله المنافق من الأعمال يجزى عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل، انتهى.
والمعنى: أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدقوا الله ورسوله، ولم يخلصوا له العمل؛ لأنهم أهل نفاق، فأبطل أعمالهم، وأذهب أجورها، وجعلها هباءً ومنثورًا.
(١) روح البيان.
(٢) أبو السعرد.
(٣) الكشاف.
469
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الإحباط ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾؛ أي: هينًا على الله، لا يبالي به، لتعلق الإرادة به، إذ هم قوم فعلوا ما يستوجب الإحباط ويستدعيه، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله، وتدل عليه حكمته.
٢٠ - ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم فقال: هم ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾؛ أي: هؤلاء المنافقون لجبنهم المفرط، يظنون أن الأحزاب باقون في معسكرهم، لم يذهبوا، إلى ديارهم، ولم ينهزموا، ففروا إلى المدينة، والأحزاب: هم الذين تحزبوا وتجمعوا على محاربة النبي - ﷺ - يوم الخندق، وهم قريش وغطفان وبنو قريظة والنضير من اليهود، كما مر.
أي: هم (١) من شدة الهلع والخوف، وعظيم الدهشة والحيرة، لا يزالون يظنون أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد هزمهم الله، ورحلوا وتفرقوا في كل وادٍ.
وإجمال القول: أنهم لم يقاتلوا لجبنهم وضعف إيمانهم، فكأنهم غائبون، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد كانوا راحلين منهزمين، لا يلوون على شيء.
﴿وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ﴾ مرةً ثانية إلى المدينة ﴿يَوَدُّوا﴾ ويتمنوا ﴿لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ﴾؛ أي: خارجون من المدينة إلى البادية ساكنون ﴿فِي الْأَعْرَابِ﴾ لئلا يقاتلوا، والود (٢): محبة لشيء وتمني حصوله، والبادون: هم الساكنون في البادية، وهم خلاف الحاضرين، والبدو وكذا البادية: خلاف الحضر، كما سيأتي. والأعراب: سكان البادية مطلقًا.
حال كونهم ﴿يَسْأَلُونَ﴾ كل قادم من جانب المدينة عَنْ ﴿أَنْبَائِكُمْ﴾؛ أي: عن أخباركم وعما جرى عليكم من الأحزاب؛ أي: يودون أنهم غائبون عنكم، يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة.
أي: وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرةً أخرى.. تمنوا أن لو كانوا مقميمن في البادية، بعيدين عن المدينة، حتى لا ينالهم أذًى ولا مكروه، ويكتفون بأن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة، وفي هذا كفاية لديهم لجبنهم، وخور عزائمهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَسْأَلُونَ﴾ بالهمز مضارع سأل، وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصمًا، والأعمش قرؤوا: ﴿يسلون﴾ بغير همز نحو قوله: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما، ونقلهما صاحب "اللوامح" عن الحسن والأعمش، وقرأ زيد بن علي وقتادة والجحدري والحسن ويعقوب بخلاف عنهما: ﴿يسأل بعضهم بعضًا﴾؛ أي: يقول: بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: ترائينا الهلال.
ثم سلى نبيه - ﷺ - عنهم، وحقر شأنهم، فقال: ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾؛ أي: ولو كان هؤلاء المنافقون ﴿فِيكُمْ﴾ أيها المؤمنون في الخندق في هذه الغزوة مشاهدين للقتال، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال ﴿مَا قَاتَلُوا إِلَّا﴾ قتالًا ﴿قَلِيلًا﴾ رياءً وسمعةً وخوفًا من التعبير من غير حسبةٍ.
والمعنى: أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم في الكرة السابقة، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان القتال قتال جلاءٍ وكرٍّ وفرٍّ وطعنٍ وضربٍ ومحاربةٍ بالسيوف، ومبارزة في الصفوف ما قاتلوا إلا قتالًا يسيرًا رياءً وخوفًا من العار، لا قتالًا يحتسبون فيه الثواب من الله وحسن الأجر.
وحاصل معنى الآية (٢): أي وإن يأت الكفار بعدما ذهبوا كرةً ثانية.. تمنى هؤلاء المنافقون أن لو كانوا ساكنين خارج المدينة بين الأعراب، بعداء عن تلك الكفرة، يسألون كل قادم من جانب المدينة عما جرى عليكم مع الكفار، والحال أن هؤلاء المنافقين، لو كانوا فيكم هذه الكرة، ولم يرجعوا إلى المدينة، ووقع قتال آخر.. ما قاتلوا معكم إلا قليلًا رياءً وخوفًا من التعيير.
٢١ - وبعد أن فصل أحوالهم، وشرح نذالتهم، وعظيم جبنهم.. عاتبهم أشد
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
471
العتب، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله - ﷺ - معتبر لو اعتبروا، وأسوة لو أرادوا التأسي، فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون، وهو الظاهر من قوله فيما بعد: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ...﴾ الخ ﴿فِي رَسُولِ اللَّهِ﴾ - ﷺ - ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾؛ أي: خصلة صالحة، حقها أن يقتدى بها على سبيل الإيجاب في أمور الدين، وعلى سبيل الايستحباب في أمور الدنيا، والقدوة: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسنًا وإن قبيحًا، وإن سارًا وإن ضارًا، يقال: تأسيت به؛ أي: اقتديت به.
والمعنى (١): لقد كان لكم أيها المؤمنون في محمد - ﷺ - خصلة حسنة، وسنة صالحة، حقها أن يؤتى بها؛ أي: يقتدى فيها، كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، فإنه قد شج فوق حاجبه وكسرت رباعيته، وقتل عمه حمزة يوم أحد، وأوذي بضروب الأذى، فوقف ولم ينهزم، وصبر ولم يجزع، فاستسنوا بسنته وانصروه، ولا تتخلفوا عنه.
وقال بعضهم: كلمة ﴿فِي﴾ تجريدية، جرد من نفسه شيء وسمي قدوة، وهي هو؛ يعني أن رسول الله - ﷺ - في نفسه أسوة وقدوة، يحسن التأسي به، والاقتداء، كقولك: في البيضة عشرون منًا حديدًا؛ أي: هي نفسها هذا القدر من الحديد.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أُسْوَةٌ﴾ بضم الهمزة، وقرأ عاصم: بكسرها، وهما لغتان، كما قال الفراء وغيره، وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله - ﷺ -؛ أي: لقد كان لكم في رسول الله، حيث بذل نفسه للقتال، وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية، وإن كان سببها خاصًا.. فهي عامة في كل شيء، ومثلها ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وقوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
472
وهذه الجملة: خبرية لفظًا، إنشائيةً معنًى قصد بها الأمر؛ أي: اقتدوا به اقتداءً حسنًا، وهو أن تنصروا دين الله، كما نصر هو بنفسه بالخروج إلى الغزو.
و (اللام) في قوله: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾: ويأمل ثوابه ﴿و﴾ يرجو ﴿الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾؛ أي: نعيمه، أو يخاف الله واليوم الآخر، فالرجاء يحتمل الأمل والخوف متعلقه بحسنة، أو بمحذوف، هو صفة لحسنة؛ أي: كائنة لمن كان يرجو الله، وقال الزمخشري: إنه بدل من ﴿لَكُمْ﴾، كقوله: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾. انتهى. ولا يجوز (١) على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب اسم ظاهر في بدل الشيء، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش، ويدل عليه قول الشاعر:
بِكَمْ قُرَيْشٍ كَفَيْنَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ وَأَمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضَلِيْلًا
والمراد بـ ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾: المؤمنون، فإنهم الذين يرجون الله، ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى يرجون اليوم الآخر: إنهم يرجون رحمة الله فيه، أو يصدقون بحصوله، وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة: تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى.
وقوله: ﴿وَذَكَرَ اللَّهَ﴾ سبحانه بلسانه، وجنانه ذكرًا ﴿كَثِيرًا﴾ في جميع أوقاته وأحواله معطوف على ﴿كان﴾؛ أي: ولمن ذكر الله سبحانه في جميع أحواله، ذكرًا كثيرًا، وجمع (٢) بين الرجاء لله، وكثرة الذكر له، المؤدية إلى ملازمة الطاعة؛ لأن بهما يتحقق الائتساء برسول الله - ﷺ -.
قال الحكيم الترمذي: الأسوة في الرسول: الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول وفعل.
٢٢ - ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب، ومشاهدتهم لتلك الجيوش، التي أحاطت بهم كالبحر المحيط، فقال: {وَلَمَّا رَأَى
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
473
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ}؛ أي: الجنود المجتمعة لمحاربة النبي - ﷺ - وأصحابه يوم الخندق، والحزب: جماعة فيها غلظ، كما في "المفردات".. ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المؤمنون ﴿هَذَا﴾ البلاء العظيم، والإشارة (١) بقوله: ﴿هَذَا﴾ إلى ما رأوه من الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل بهم، والبلاء الذي دهمهم ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ﴾ سبحانه وأخبرنا به، ﴿وَرَسُولُهُ﴾ - ﷺ - بقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ الآية. وبقوله - ﷺ -: "سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم"، وبقوله عليه السلام: "إن الأحزاب سائرون، إليكم بعد تسع ليال أو عشر" كما روي عن ابن عباس قال: قال النبي - ﷺ - لأصحابه: "إن الأحزاب سائرون، إليكم تسعًا أو عشرًا؛ أي: في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا من حين الإخبار.. قالوا ذلك، وهذا القول استبشار بحصول ما وعدهم الله تعالى ورسوله - ﷺ -، من مجيء هذه الجنود، وأنه يعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله تعالى.
ثم أردفوا ما قالوه بقولهم: ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾؛ أي: ظهر صدق خبر الله ورسوله - ﷺ - ﴿وَمَا زَادَهُمْ﴾ ما رأوه ﴿إِلَّا إِيمَانًا﴾ بالله وتصديقًا بمواعيده ﴿وَتَسْلِيمًا﴾ لأوامره ومقاديره، وقال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا وتسليمًا.
وقرأ ابن أبي عبلة (٢): ﴿وما زادوهم﴾ بالواو وضمير الجميع يعود على الأحزاب؛ أي: ولما أبصر (٣) المؤمنون الصادقون المخلصون لله في القول والعمل الأحزاب، الذين أدهشت رؤيتهم العقول، وتبلبلت لها الأفكار، واضطربت الأفئدة.. قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، من الابتلاء والاختبار، الذي يعقبه النصر في نحو قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
474
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ...} الآية. وقوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)﴾ وقوله - ﷺ -: "سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم" إلخ، وقوله: "إنهم سائرون إليكم تسعًا أو عشرًا"؛ أي: في آخر تسع ليال أو عشر من حين الأخبار، وصدق الله ورسوله في النصرة والثواب، كما صدق الله ورسوله في البلاء والاختبار، وما زادهم ذلك إلا صبرًا على البلاء، وتسليمًا للقضاء، وتصديقًا بتحقيق ما كان الله ورسوله وعدهم. ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول في قوله: ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ بعد قوله: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر:
أرَى الْمَوْتَ لَا يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ
وأيضًا لو أضمرهما.. لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظٍ واحدٍ، وقال صدقا، وقد ورد النهي عن جمعهما، كما في حديث: "بئس خطيب القوم أنت" لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى،
٢٣ - ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء واحتملوا البأساء والضراء بقوله:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: من المؤمنين المخلصين لله، المصدقين برسوله ﴿رِجَالٌ﴾ كمله، فالتنوين فيه للتعظيم، والكمال ﴿صَدَقُوا﴾ ووفوا ﴿مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أوفوا بما عاهدوا الله عليه، ونذروا على أنفسهم من الثبات مع الرسول، والمقاتلة لإعلاء الدين، والصبر في اللأواء وحين البأساء؛ أي (١): حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر وغيرهم - رضي الله عنهم أجمعين - نذروا أنهم إذا لقوا حربًا مع رسول الله - ﷺ -.. ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا.
وقيل المعنى (٢): أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسوله - ﷺ - ليلة العقبة، من الثبات معه، والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده، وهم المنافقون.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
475
قال الحكيم الترمذي - رحمه الله -: خص الله الإنس من بين الحيوان، ثم خص المؤمنين من بين الإنس، ثم خص الرجال من المؤمنين، فقال: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا﴾ فحقيقة الرجولية الصدق، ومن لم يدخل في ميادين الصدق.. فقد خرج من حدّ الرجولية.
وقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى﴾ ووفى نحبه ونذره فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير هذه المواطن، كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ قضاء نذره ووفاءه والقتل في سبيله؛ لكون موقنًا كعثمان وطلحة وغيرهما، فإنهم على نذووهم وقد قضوا بعضها، وهو الثبات مع رسول الله - ﷺ -، والقتال إلى حين نزول الآية الكريمة، ومنتظرون قضاء بعضها الباقي، وهو القتال إلى الموت شهيدًا، وفي وصفهم بالانتظار إشارة إلى كمال اشتياقهم إلى الشهادة.
تفصيل (١) لحال الصادقين، وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب في الأصل: النذر المحكوم بوجوبه، وهو أن يلتزم الإنسان شيئًا من أعماله ويوجبه على نفسه، وقضاؤه الفراغ منه والوفاءُ به، يقال: قضى فلان نحبه؛ أي: وفي بنذره، ويعبر بذلك عمن مات كقولهم: قضى أجله واستوفى أكله، وقضى من الدنيا حاجته، وذلك، لأن الموت كنذر لازم في عنق كل حيوان.
وقال أبو السعود: ويجوز (٢) أن يكون النحب مستعارًا لالتزام الموت شهيدًا، إما: بتنزيل أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه، وإيراده الالتزام عليه، وهو الأنسب بمقام المدح، وأما ما قيل عن أن النحب استعير للموت؛ لأنه كنذر لازم في رقبة الحيوان، فهو تقبيح للاستعارة، وإذهاب لرونقها. انتهى.
ومعنى الآية (٣): أن من المؤمنين رجالًا أدركوا أمنيتهم، وقضوا حاجتهم، ووفوا بنذرهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك كما في يوم أحد، كحمزة بن عبد
(١) روح البيان.
(٢) أبو السعود.
(٣) الشوكاني.
476
المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، ومنهم من ينتظر قضاء نحبه حتى يحضر أجله، كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم، فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه، من الثبات مع رسوله - ﷺ -، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم، وحصول أمنيتهم بالقتل وإدراك فضل الشهادة.
وجملة قوله: ﴿وَمَا بَدَّلُوا﴾ عهدهم وما غيروه ﴿تَبْدِيلًا﴾ وتغييرًا ما، لا أصلًا، ولا وصفًا، كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتًا مستمرًا، راغبين فيه، مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، معطوفة على ﴿صَدَقُوا﴾ وفاعله: فاعله.
أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، فقد أخرج الإِمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في جماعة آخرين عن أنس، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله - ﷺ - غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدًا مع رسول الله - ﷺ - فيما بعد.. ليرين الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واهًا: لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون، من ضربةٍ وطعنةٍ ورميةٍ، ونزلت هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ الآية.
وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم.. فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا، ولم يغيروا ولا بدلوا، فيشهد به انتظارهم أصدق الشهادة، روي أن طلحة - رضي الله عنه - ثبت مع رسول الله - ﷺ - يوم أحد يحميه، حتى أصيبت يده فشلت، وجرح أربعًا وعشرين جراحةً، فقال عليه السلام: "أوجب طلحة الجنة" وسماه النبي - ﷺ - يومئذ طلحة الخير، ويوم حنين طلحة الجود، ويوم غزوة ذات العشيرة طلحة الفياض، وقتل يوم الجمل، وفي الآية تعريض (١) بأرباب النفاق، وأصحاب مرض القلب، فإنهم ينقضون العهود، ويبدلون العقود.
(١) روح البيان.
477
٢٤ - و (اللام): في قوله: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ يجوز أن يتعلق بـ ﴿صَدَقُوا﴾ أو بـ ﴿زَادَهُمْ﴾ أو بـ ﴿ما بدَّلوا﴾ أو بمحذوف، تقديره: وقع جميع ما وقع؛ ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الصدق والوفاء قولًا وفعلًا، قال في "كشف الأسرار": في الدنيا بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية، وفي الآخرة بجميل الثواب، وجزيل المآب، والخلود في النعيم المقيم، والتقديم على الأمثال بالتكريم والتعظيم.
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ﴾ بما صدر منهم من الأقوال والأعمال المحكية في التغيير والتبديل ﴿إِنْ شَاءَ﴾ تعذيبهم؛ أي: إن لم يتوبوا فإن الشرك لا يغفر البتة.
جعل (١) المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء، وأرادوها، بسبب تبديلهم وتغييرهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبها، والسعي لتحصيلها، ومفعول ﴿إِنْ شَاءَ﴾ وجوابها: محذوفان؛ أي: إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق، ولم يتركوه ويتوبوا عنه، كما مرّ.
﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: يقبل توبتهم إن تابوا ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ غَفُورًا﴾؛ أي: ستورًا على من تاب محاءً لما صدر منه ﴿رَحِيمًا﴾؛ أي: منعمًا عليه بالجنة والثواب.
والمعنى (٢): أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال؛ ليتميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر كل منهما جليًا واضحًا، كما قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١)﴾ وقال: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾. ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا الله عليه ووفائهم له به، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده، المخالفين لأوامره، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال.. غفر لهم ما
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
أسلفوا من السيئات، واجترحوا من الآثام والذنوب، ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة.. قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ أي: إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين، والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حث عليها في كل حين، وبيان نفعها للتائبين.
٢٥ - ثم رجع يحكي بقية القصص، وفصل ذلك تتميمًا للنعمة التي أشار إليها إجمالًا بقوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام، والداهية التي زلت فيها الأقدام، وما صدر من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال؛ لإظهار عظمة النعمة، وإبانة جليل خطرها، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها، فقال: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ﴾ سبحانه وصرف ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وهم الأحزاب، معطوف على قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ أو على محذوف؛ أي: وقع ما وقع من الحوادث، ورد الله الذين كفروا من الذين تحزبوا وتجمعوا لمحاربة النبي - ﷺ - إلى بلدانهم، حالي كونهم ملتبسين ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾ وغضبهم وحسرتهم، لم يشف صدورهم ﴿لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ حال بعد حال؛ أي: حال كونهم لم يصيبوا ما أرادوا من الغلبة، وسماها خيرًا؛ لأن ذلك كان خيرًا عندهم، فجاء على استعمالهم وزعمهم.
والمعنى: أن الله سبحانه ردهم بغيظهم، لم يشف صدورهم، ولا نالوا خيرًا في اعتقادهم، وهو الظفر بالمسلمين، أو لم ينالوا خيرًا، أي خير، بل رجعوا خاسرين، لم يربحوا إلا عناء السفر وغرم النفقة. ﴿وَكَفَى اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾؛ أي: أغناهم عن قتال الأحزاب بما أرسله عليهم من الريح الشديدة والجنود من الملائكة.
وحاصل المعنى (١): أي فأرسلنا ريحًا وجنودًا لم تروها، ورددنا الذين كفروا بالله ورسوله من قريش وغطفان بغمهم، بفوت ما أملوا من الظفر، وخيبتهم، فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة، والنصر على محمد وصحبه، إذ لم
(١) المراغي.
يصيبوا مالًا ولا إسارًا، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده.
روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده". ورويا أيضًا عن عبد الله بن أوفى: قال: دعا رسول الله - ﷺ - على الأحزاب، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم".
وروى محمد بن إسحاق: أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق.. قال رسول الله - ﷺ -: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم". وقد تحقق هذا، فلم تغزهم قريش بعد ذلك، بل كان رسول الله - ﷺ - يغزوهم، حتى فتح الله تعالى مكة.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿قَوِيًّا﴾ على إحداث كل ما يريده، وإيجاده، إذ قال له؛ كن فكان، ﴿عَزِيزًا﴾؛ أي: غالبًا قاهرًا على كل شيء، لا يغالبه أحد من خلقه، ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته؛ أي: وكان الله عزيزًا بحوله وقوته، فردهم خائبين لم ينالوا خيرًا.
٢٦ - ولما قص أمر الأحزاب، وذكر ما انتهى إليه أمرهمِ.. ذكر حال من عاونوهم من اليهود، فقال: ﴿وَأَنْزَلَ﴾ الله سبحانه اليهود ﴿الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾؛ أي: عاونوا الأحزاب المردودين على رسول الله - ﷺ - والمسلمين، حين نقضوا العهد وعاضدوهم عليهم حالة كون المظاهرين ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهم بنو قريظة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذٍ سعد بن معاذ - رضي الله عنه - ﴿مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾؛ أي: من حصونهم وقصورهم، جمع صيصية بالكسر، وهي (١) ما يتحصن به، ويجعل وقايةً من المهالك، ولذلك يقال لقرن الثور
(١) روح البيان.
480
والظبي وشوكة الديك، وهي في مخلبته التي في ساقه؛ لأنه يتحصن بها ويقاتل.
أي: وأنزل الله (١) يهود بني قريظة الذي عاونوا الأحزاب على رسول الله - ﷺ -، وأخرجهم من حصونهم وقصورهم، بعد أن نقضوا العهد، بسفارة حيي بن أخطب النضيري، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وكان مما قاله له: جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان، وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدًا وأصحابه، فقال له كعب: بل والله جئتني بذل الدهر، ويحك يا حيي إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يحاوله حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصين، فيكون أسوتهم.
ولما أيد الله المومنين، وكبت أعداءهم وردهم خائبين، ورجعوا إلى المدينة، ووضع الناس سلاحهم.. أوحي إلى رسول الله - ﷺ -: أن انهض إلى بني قريظة من فورك، فأمر الناس بالسير إليهم، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر، وقال - ﷺ -: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فسار الناس، فأدركتهم الصلاة فصلى بعض في الطريق، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنف واحدًا من الفريقين.
﴿وَقَذَفَ﴾ الله سبحانه وتعالى؛ أي: ألقى ورمى ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾؛ أي: في قلوب اليهود الذين ظاهروا الأحزاب ﴿الرُّعْبَ﴾؛ أي: الخوف والفزع الشديد، حتى سلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأولادهم للأسر، حسبما ينطق به قوله: ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ يعني رجالهم ﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ يعني نساءهم وصبيانهم من غير أن يكون من جهتهم حركة، فضلًا عن المخالفة، وهذه الجملة: مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تقتلون وتأسرون﴾ بالفوقية على الخطاب وكسر السين، وقرأ أبو حيوة: بضمها، وقد حكى الفراء كسر السين وضمها، فهما لغتان. وقرأ
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
481
اليماني: بالفوقية في الأول، والتحتية في الثاني، وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه: بالتحتية فيهما.
ووجه تقديم مفعول الفعل الأول، وتأخير مفعول الثاني (١): أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة، وكان الوارد عليهم أشد الأمرين، وهو القتل.. كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.
وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين، فقيل: كان المقتولون من ست مئة إلى سبع مئة، وقيل: ست مئة، وقيل: سبع مئة، وقيل: ثمان مئة، وقيل: تسع مئة. وكان المأسورون سبع مئة. وقيل: سبع مئة وخمسين، وقيل: تسع مئة.
والمعنى: أي وألقى الله الرعب والخوف الشديد في قلوبهم حين نازلهم رسول الله - ﷺ -، وحاصرها خمسًا وعشرين ليلةً، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس، لأنهم كانوا حلفاءهم، فأحضره رسول الله - ﷺ - وقال له: "إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت" فقال - رضي الله عنه -: وحكمي نافذ فيهم؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "نعم، فقال: إني أحكم أن تقتل مقاتليهم، وتسبى ذراريهم وأموالهم، فقال له رسول الله - ﷺ -: "لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله"، ثم أمر رسول الله - ﷺ - بالأخادية، فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتوفي الأيدي، فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين سبع مئة وثمان مئة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء، وسبي أموالهم.
والخلاصة (٢): أنه قذف الرعب في قلوبهم، حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر.
٢٧ - ﴿وَأَوْرَثَكُمْ﴾ أيها المؤمنون؛ أي: ملَّككم ملكًا، كالميراث في حصوله بلا مقابل ﴿أَرْضَهُمْ﴾؛ أي: مزارعهم وحدائقهم ﴿وَدِيَارَهُمْ﴾؛ أي: منازلهم وحصونهم ﴿وَأَمْوَالَهُمْ﴾؛ أي: حليهم وأثاثهم ومواشيهم وسلاحهم ونقودهم التي ادخروها، شبهت (٣) في بقائها على المسلمين بالميراث الباقي على الوارثين، إذ ليسوا في
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
482
علقةٍ منهم من قرابةٍ ولا دين، ولا ولاءٍ، فأهلكهم الله تعالى على أيديهم، وجعل أملاكهم وأموالهم غنائم لهم باقيةً عليهم كالمال الباقي على الوارث. ﴿وَ﴾ أورثكم في علمه وتقديره ﴿أَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ الآن بأقدامكم، ولم تقبضوها كفارس والروم وما ستفتح على المسلمين إلى يوم القيامة من الأراضي والممالك، من وطيء على الأرض، يطأ وطئًا: إذا مشى عليها بالأقدام، قاله عكرمة، واختاره أبو حيان.
قال الشوكاني: واختلف (١) المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة، فقال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: إنها خيبر، فإنها فتحت بعد بني قريظة بسنتين، ولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها، فوعدهم الله بها، وقال قتادة: كنا نتحدث: إنها مكة، وقال الحسن: فارس والروم، وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لَمْ تَطَئُوهَا﴾ بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ زيد بن علي: ﴿لم تطوها﴾ بفتح الطاء وواوٍ ساكنة أبدل همزة تطأ ألفًا على حد قوله:
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا فِيْ مَرَابِضِهَا وَالنَّاسُ لَا يُهْتَدَى مِنْ شَرِّهِمْ أَبَدَا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت، كقوله: ﴿لَمْ تَرَوْهَا﴾، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المقدورات ﴿قَدِيرًا﴾؛ أي: قادرًا، فقد شاهدتم بعض مقدوراته من إيراثكم الأرض التي تسلمتموها ونصركم عليهم، فقيسوا عليها ما بعدها، إذ لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء شاءه.
وقال أبو حيان: وختم تعالى هذه الآية بقدرته على كل شيء، فلا يعجزه شيء، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، وأنه لا يستبعد ذلك، فكما ملكهم هذه، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
483
٢٨ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الكريم ﴿قُلْ﴾ أمر إيجاب في تخييرهن، وهو من خصائصه عليه السلام ﴿لِأَزْوَاجِكَ﴾ ونسائك، قيل (١): هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي - ﷺ -، وكان قد تأذى ببعض الزوجات، قال الواحدي: قال المفسرون: إن أزواج النبي - ﷺ - سألنه شيئًا من عرض الدنيا، وطلبن منه الزيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فألى رسول الله - ﷺ - منهن شهرًا، وأنزل الله سبحانه آية التخيير هذه، وكن يومئذٍ تسعًا: عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة - واسمها رملة بنت أبي سفيان - وأم سلمة - واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية - وسودة بنت زمعة العامرية، وهذه الخمسة من قريش، وأربع من غيرهم: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية الهارونية وجويرية بنت الحارث الخزاعية والمصطلقية، وهذه كلها بعد وفاة خديجة الكبرى - رضي الله عنها وعنهن -.
﴿إِنْ كُنْتُنَّ﴾ أنتن ﴿تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: التنعم فيها، والسعة في معاشها، ﴿وَزِينَتَهَا﴾؛ أي: زخارفها ونضارتها ورفايتها ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾؛ أي: أقبِلْنَ إلى بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين، وأجبن إلى ما أعرض عليكن وأسمعنه، وليس المراد حقيقة الإقبال والمجيء، كما يقال: أقبل يكلمني، وذهب يخاصمني، وقام يهددني، كما سيأتي في مبحث التصريف.
﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾ بالجزم جوابًا للأمر؛ أي: أعطيكن متعة الطلاق، وتقديم التمتع (٢) على التسريح المسبب عنه من باب الكرم وحسن الخلق، وفيه قطع لمعاذيرهن من أول الأمر، وقيل: لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها، فإنه طلقة رجعية عند الشافعي، وبائنة عند أبي حنيفة. اهـ. "بيضاوي".
والمتعة لغة: اسم مصدر بمعنى التمتع والتلذذ بالأمور، وشرعًا: مال يجب على الزوج لمطلقة قبل وطء لم يجب لها شطر مهر، بأن كانت مفوضةً لم يفرض
(١) الشوكاني.
(٢) البيضاوي.
484
لها شيء، وهي واجبة في المطلقة التي لم يدخل بها، ولم يسم لها مهرًا عند العقد، ومستحبة في غيرها، والحكمة في (١) إيجابها: الجبر لما أوحشها الزوج بالطلاق، فيعطيها لتنتفع بها مدة عدتها، ويعتبر قدرها بحسب حال الزوج يسارًا وإعسارًا، كما هو مقرر في محله.
وقوله: ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾؛ أي: أطلقكن، بالجزم معطهوف على ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾. ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾؛ أي: طلاقًا حسنًا من غير ضرار ولا بدعة ولا صريح اللفظ، الذي يقع به الطلاق من غير نيةٍ، وهو لفظ الطلاق عند أبي حنيفة وأحمد، والطلاق والفراق والسراح عند الشافعي ومالك.
وقرأ (٢) الجمهور: ﴿أمتعكن﴾ بالتشديد من متع، وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، وقرؤوا أيضًا: ﴿أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ بالجزم في الفعلين، وقرأ حميد الخراز: بالرفع في الفعلين على الاستئناف، والجزم على قراءة الجمهور على أنهما جواب الطلب، وقيل: على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا فيكون قوله: ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾ اعتراضًا بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض كقول الشاعر:
وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ أنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا
واتفق الأئمة (٣) على أن السنة في الطلاق أن يطلقها واحدةً، في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها، حتى تنقضي عدتها، وإن طلق المدخول بها في حيضها أو طهرٍ أصابها فيه، وهي ممن تحبل.. فهو طلاق بدعة محرم، ويقع بالاتفاق، وجميع الثلاثة بدعة عند أبي حنيفة وهالك، وقال أحمد: هو محرم، خلافًا للشافعي، ويقع بلا خلافٍ بينهم.
واعلم: أن الشارع إنما كره الطلاق ندبًا إلى الألفة وانتظام الشمل، ولما علم الله أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف، لحقيقةٍ خفيت عن أكثر
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
485
الناس.. شرع الطلاق رحمةً لعباده، ليكونوا مأجورين في أفعالهم، محمودين، غير مذمومين، إرغامًا للشيطان، فإنهم في ذلك تحت إذن إلهي.
وإنما كان الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ لأنه رجوع إلى العدم، إذ بائتلاف الطبائع ظهر وجود التركيب، وبعد الائتلاف كل العدم، فمن أجل هذه الرائحة كرهت الفرقة بين الزوجين؛ لعدم عين الاجتماع، كذا في "الفتوحات".
ومعنى الآية: أي يا أيها النبي الكريم والرسول العظيم، قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى خصلتين: أولاهما: إن تكن ممن يحببن لذات الدنيا ونعيمها، والتمتع بزخرفها، فليس لكن عندي مقام، إذ ليس عندي شيء منها، قأقبلن علي أعطكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، تطييبًا لخاطرهن، وتعويضًا عما لحقهن من ضرر بالطلاق، وهي كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر، واليسار والإقتار، كما قال تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾. ثم أسرحكن وأطلقكن على ما أذن الله به وأدب عباده بقوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ وحين نزلت هذه الآية، عرض عليهن رسول الله - ﷺ - ذلك، وبدأ بعائشة، وكانت أحب أهله إليه فخيرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ففرح رسول الله - ﷺ -،
٢٩ - ثم تابعها بقية نسائه، ثم ذكر ثانية الخصلتين، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: إن كنتن تردن طاعة الله وطاعة رسوله، أو المعنى: إن كنتن تردن رسوله وصحبته ورضاه، وذكر الله للإيذان بكرامته - ﷺ - عنده تعالى: ﴿وَالدَّارَ الْآخِرَةَ﴾؛ أي: نعيمها الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها جميعًا، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعَدَّ﴾ وهيأ في الآخرة، ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ﴾؛ أي: لمن عمل الصالحات منكن بمقابلة إحسانهن، و ﴿من﴾ للتبيين؛ لأن كلهن محسنات أصلح نساء العالمين، ولم يقل: لكن، إعلامًا بأن كل الإحسان في إيثار مرضاة الله ورسوله على مرضاه أنفسهن.
وقال أبو حيان: وأوقع الظاهر موقع المضمر، حيث قال: ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ﴾ ولم يقل: لكن تنبيهًا على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان،
كأنه قال: أعد لكن، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنًا. ﴿أَجْرًا﴾؛ أي: ثوابًا ﴿عَظِيمًا﴾؛ أي: كبيرًا في ذاته، حسنًا في صفاته، باقيًا في أوقاته.
والمعني (١): أي وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله، وثواب الدار الآخرة.. فأطعنهما، فإن الله أعد للمحسنات منكن في أعمالهن القولية والفعلية ثوابًا عظيمًا، تستحقر الدنيا وزينتها دونه كفاء إحسانهن.
والخلاصة: أنتن بين أحد أمرين: أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن، وتطعن الله، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك.
٣٠ - وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله، أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي - ﷺ -، وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ الكريم، توجيه (٢) الخطاب إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن، ونداؤهن هاهنا وفيما بعده بالإضافة إليه - ﷺ -؛ لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام ﴿مَنْ يَأْتِ﴾ ويفعل ﴿مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ﴾؛ أي: بسيئةٍ بليغةٍ في القبح، وهي الكبيرة، وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن.
وقرأ زيد بن علي والجحدري وعمرو بن فائد الأسواري ويعقوب (٣): ﴿تأت﴾ بتاء التأنيث، حملًا، على معنى ﴿من﴾، والجمهور: بالياء، حملًا على لفظ ﴿من﴾ ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ قرىء بكسر الياء، وقرىء بفتحها كما مر في سورة النساء؛ أي: ظاهرة القبح، من بين بمعنى تبين، قيل: هذا كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ لا أن منهن من أتت بفاحشة؛ أي: معصية ظاهرة.
قال أبو حيان: ولا يتوهم أنها الزنا لعصمة رسول الله - ﷺ - من ذلك، لأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. انتهى.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
487
قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق، وقال بعضهم: لعل (١) وجه قول ابن عباس أن الزلة منهن، كسوء الخلق مما يعد فاحشة بالنسبة إليهن؛ لشرفهن وعلو مقامهن، خصوصًا إذا حصل بها أذية النبي - ﷺ -، ولذا قال: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾؛ أي: يعذبن ضعفي عذاب غيرهن؛ أي: مثليه، إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن، ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي.. لزمهن بسبب ذلك، وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب، وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع، أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات، يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾؛ أي: تضعيف العذاب لهن ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾؛ أي: سهلًا لا يصعب عليه ولا يتعاظمه، لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي - ﷺ -، بل يدعوه إليه لمراعاة حقه، وليس أمر الله كأمر الخلق، حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة شفعائهم.
ومعنى الآية (٢): يا أزواج النبي، من يعص منكم الرسول - ﷺ -، ويطلب ما يشق عليه ويضيق به ذرعًا، ويغتم لأجله.. يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين؛ أي: تعذب ضعفي عذاب غيرها، لأن قبح المعصية أشد، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي، وكان ذلك سهلًا يسيرًا على الله الذي لا يحابي أحدًا، لأجل أحد، إذ كونهن نساء رسوله ليس بمغنٍ عنهن شيئًا بل هو سبب لمضاعفة العذاب.
روي: أن رجلًا قال لزين العابدين - رضي الله عنه -: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب، وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله سبحانه في أزواج النبي - ﷺ -، من أن نكون كما قلت، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، وقرأ هذه الآية التي بعدها.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
488
وقرأ نافع وحمزة وعاصم والكسائي (١): ﴿يُضَاعَفْ﴾ بألف وفتح العين، والحسن وعيسى وأبو عمرو: بالتشديد وفتح العين، والجحدري وابن كثير وأبو عامر: بالنون وشد العين مكسورةً، وزيد بن علي وابن محيصن وخارجة عن أبي عمرو: بالألف والنون والكسر، وفرقة: بياء الغيبة والألف والكسر، ومن فتح العين، رفع العذاب، ومن كسرها نصبه، ومعنى ضعفين؛ أي: عذابين، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر.
قال في "الأسئلة المقحمة": ما وجه تضعيف العذاب لزوجات النبي - ﷺ -؟ الجواب: لما كان فنون نعم الله عليهن أكثر، وعيون فوائده لديهن أظهر، من الاكتحال بميمون غرة النبي - ﷺ -، وترداد الوحي إلى حجراتهن، بإنزال الملائكة، فلا جرم كانت عقوبتهن عند مخالفة الأمر من أعظم الأمور وأفخمها، ولذا قيل: إن عقوبة من عصى الله تعالى عن العلم، أكثر من عقوبة من يعصيه عن الجهل، وعلى هذا أبدًا. وحد الحر أعظم من حدّ العبد، وحدّ المحصن أعظم من حدّ غير المحصن؛ لهذه الحقيقة. انتهى. وعوتب (٢) الأنبياء بما لا يعاتب به الأمم.
والحاصل: أن الذنب يعظم بعظم جانبه، وزيادة قبحه متابعة لزيادة شرف المذنب والنعمة، فلما كانت الأزواج المطهرة أمهات المؤمنين؛ وأشراف نساء العالمين.. كان الذنب منهن أقبح، على تقدير صدوره، وعقوبة الأقبح أشد وأضعف.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الثواب والعقاب بقدر نفاسة النفس وخستها، يزيد وينقص، وأن زيادة العقوبة على الجرم من أمارات الفضيلة، كحدّ الحر والعبد، وتقليل ذلك من أمارات النقص. انتهى.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
489
تتمة في حكم الخيار المذكور في الآية
اختلف (١) العلماء في هذا الخيار: هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الاختيار أم لا؟ فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم: إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا.. فارقهن، لقوله تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة: لا تعجلي حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور.
وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق، ولو اخترن أنفسهن.. كان طلاقًا.
التفريع على حكم الآية: اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود وابن عباس: وإذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها.. لا يقع شيء، وإن اختارت نفسها.. يقع طلقةً واحدةً، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن عند أصحاب الرأي يقع طلقةً بائنةً، إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعيةً، وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج.. يقع طلقةً واحدةً، وإذا اختارت نفسها.. فثلاث، وهو قول الحسن، وبه قال مالك: وروى عن علي رضي الله عنه: أنها إذا اختارت زوجها.. طلقةً واحدةً، وإذا اختارت نفسها.. فطلقةً بائنة، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها.. لا يقع شيء.
وعن مسروق قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدةً أو مئةً أو ألفًا بعد أن تختارني، ولقد سألت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: خيرنا رسول الله - ﷺ - فما كان طلاقًا، وفي روايةٍ: فاخترناه، فلم يعد ذلك شيئًا. متفق عليه.

فصل


وجملة (٢) أزواجه، اللاتي كن تحته وقت هذا التخيير تسع: وهن اللاتي
(١) الخازن.
(٢) الفتوحات.
490
مات عنهن، وفي "المواهب": واختلف في عدة أزواجه - ﷺ - وترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله ومن مات عنهن، ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها، ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه، والمتفق على دخوله بهن إحدى عشرة امرأةً، ست من قريش: خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة.
وأربع عربيات: زينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت خزيمة الهلالية "أم المساكين" وجويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية.
وواحدة غير عربية من بني إسرائيل، وهي صفية بنت حيي من بني النضير.
ومات - ﷺ - عن تسع دخل بهن باتفاق.
وقد ذكر أنه - ﷺ - تزوج نسوةً غير من ذكرنَ، وجملتهن ثنتا عشرة امرأة: الأولى: الواهبة نفسها له - ﷺ - وهي أم شريك القرشية، الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة، الثالثة: عمرة بنت يزيد، الرابعة: أسماء بنت النعمان، الخامسة: مليكة بنت كعب، السادسة: فاطمة بنت الضحاك، السابعة: عالية بنت ظبيان، الثامنة: قتيلة بنت قيس، التاسعة: سبأ بنت أسماء، العاشرة: شراق بنت خليفة أخت دحية الكلبي، الحادية عشرة: ليلى بنت الخطيم، الثانية عشرة: امرأة من غفار، فهؤلاء. الاثنتا عشرة، جملة من ذكر من أزواجه - ﷺ -، وفارقهن في حياته، بعضهن قبل الدخول، وبعضهن بعده على خلاف فيه.
فجملة من عقد عليهن ثلاث وعشرون امرأةً، دخل ببعضهن دون بعضٍ، مات عنده منهن بعد الدخول خديجة وزينب بنت خزيمة، ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية وبنت الهذيل باتفاق، واختلف في مليكة وسبأ: هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه لم يدخل بهما، وفارق بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك وبنت ظبيان، وقبله باتفاق عمرة وأسماء والغفارية، واختلف في أم شريك: هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة، والمستقيلة التي جهل حالها، فالمفارقات باتفاقٍ سبع، وثنتان على خلفٍ، والميتات في حياته باتفاق أربع،
491
ومات - ﷺ - عن عشرة، واحدة لم يدخل بها، وهي قتيلة بنت قيس، وخطب - ﷺ - ثماني نسوة لم يعقد عليهن بإتفاق، وأما سراريه التي دخل عليهن بالملك فأربعة: مارية القبطية وريحانة بنت شمعون من بني قريظة، وقيل: من بني النضير، وأخرى وهبتها له زينب بنت جحش، واسمها نفيسة، والرابعة: أصابها في بعض النبي ولم يعرف اسمها. اهـ. من "المواهب" من المقصد الثاني، وقد بسط الكلام عليهن هناك جدًا فأرجع إليه إن شئت.
الإعراب
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨)﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من المعوقين. ﴿وَالْقَائِلِينَ﴾: معطوف على ﴿الْمُعَوِّقِينَ﴾. ﴿لِإِخْوَانِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿القائلين﴾، والجملة الفعلية: مستأنفة مسوقة لتصوير حال المنافقين، ﴿هَلُمَّ﴾: اسم فعل أمر بمعنى أقبلوا عند الحجازيين، مبني على الفتح، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنتم، ويلزم عندهم صيغةً واحدةً في المفرد والمذكر وغيرهما، وجاء هنا على لغتهم، وعند بني تميم فعل أمر، وتلحقه علامات التثنية والجمع والتأنيث، ويستعمل لازمًا كما هنا، ومتعديًا كما في الأنعام، ﴿إِلَيْنَا﴾: جار ومجرور متعلق به، وجملة اسم الفعل: في محل النصب مقول ﴿القائلين﴾. ﴿وَلَا يَأْتُونَ﴾: الواو: حالية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَأْتُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿الْبَأْسَ﴾؛ أي: القتال مفعول به. والجملة الفعلية: في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿القائلين﴾. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿قَلِيلًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: إلا إتيانًا قليلًا، أو على الظرفية الزمانية؛ أي: إلا إتيانًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا.
﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾.
492
﴿أَشِحَّةً﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتُونَ﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿فَإِذَا جَاءَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَ الْخَوْفُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ (إذا) على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، لأن رأى هنا بصرية، يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية: جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، وجملة ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾: حال من مفعول ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾. ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال من فاعل ﴿يَنْظُرُونَ﴾، وهو ﴿الواو﴾. ﴿كَالَّذِي﴾: جار ومجرور نعت لمصدر محذوف، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: تدور أعينهم دورانًا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت. ﴿يُغْشَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُغْشَى﴾. ﴿مِنَ الْمَوْتِ﴾ متعلق بـ ﴿يُغْشَى﴾. ﴿فَإِذَا ذَهَبَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾: فعل وفاعل. والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿سَلَقُوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾. ﴿بِأَلْسِنَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿سَلَقُوكُمْ﴾. ﴿حِدَادٍ﴾: صفة لـ ﴿ألسنة﴾: ﴿أَشِحَّةً﴾ حال من فاعل ﴿سَلَقُوكُمْ﴾، أو منصوب على الذم؛ أي: أذم أشحةً ﴿عَلَى الْخَيْرِ﴾، جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَشِحَّةً﴾.
﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿فَأَحْبَطَ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع. ﴿أحبط الله أعمالهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ بمعنى: ما آمنوا. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسِيرًا﴾. ﴿يَسِيرًا﴾ خبر ﴿كان﴾. وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة أو حال من فاعل ﴿أحبط﴾.
493
﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠)﴾.
﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿لَمْ يَذْهَبُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿حسب﴾، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿وَإِنْ يَأْتِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿يَأْتِ الْأَحْزَابُ﴾: فعل وفاعل مجزوم، بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه: حذف حرف العلة. ﴿يَوَدُّوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، والجملة الشرطية: معطوفة على جملة ﴿يَحْسَبُونَ﴾. ﴿لَوْ﴾: حرف مصدر ومدخولها محذوف، تقديره: لو ثبت أنهم بادون. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿بَادُونَ﴾: خبره ﴿فِي الْأَعْرَابِ﴾: متعلق به، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، تقديره: لو ثبت كونهم في البادية، وجملة الفعل المحذوف: صلة ﴿لو﴾ المصدرية، وجملة ﴿لو﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يَوَدُّوا﴾، تقديره: يودوا كونهم في البادية مع الأعراب. ﴿يَسْأَلُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾: متعلق به. وجملة ﴿يَسْأَلُونَ﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿بَادُونَ﴾: وقول المعربين هنا حال من الواو في ﴿بادون﴾ غلط فاحش لأنّ الواو في ﴿بادون﴾ حرف جيء به علامة على الرفع، فلا يصلح أن يكون صاحب حال؛ لأنه لا يكون إلا اسمًا. ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو حالية. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِيكُمْ﴾: خبره. والجملة: فعل شرط لـ ﴿لو﴾. ﴿مَّا﴾: نافية. ﴿قَاتَلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: إلا قتالًا قليلًا أو لزمن محذوف؛ أي: إلا زمنًا قليلًا، والجملة الفعلية: جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿يَسْأَلُونَ﴾.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)﴾.
494
﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَكُمْ﴾: خبره مقدم. ﴿فِي رَسُولِ اللَّهِ﴾: حال من ﴿أُسْوَةٌ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿أُسْوَةٌ﴾: اسمه مؤخر. ﴿حَسَنَةٌ﴾ صفة لـ ﴿أُسْوَةٌ﴾. وجملة ﴿كَانَ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: لكم بدل بعض من كل. ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على من. ﴿يَرْجُو اللَّهَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾. وجملة ﴿كَانَ﴾: صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿وَذَكَرَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على جملة ﴿كَانَ﴾. ﴿كَثِيرًا﴾: منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرًا كثيرًا، أو على الظرفية؛ أي: زمانًا كثيرًا.
﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بجوابه. ﴿رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، لأن رأى هنا بصرية يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ ﴿لما﴾ في محل جر بالإضافة. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿لما﴾ الشرطية، وجملة ﴿لما﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿هَذَا مَا﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مقول لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَعَدَنَا اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿وَرَسُولُهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما وعدناه الله، وهو المفعول الثاني لوعد. ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿وَرَسُولُهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَمَا زَادَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿زَادَهُمْ﴾: فعل ومفعول به أول، وفاعله: ضمير يعود على رؤية الأحزاب، وذكر الضمير؛ لأن تأنيثها غير حقيقي، أو ضمير يعود على الوعد. والجملة معطوفة
495
على جملة ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿إِيمَانًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿زاد﴾. ﴿وَتَسْلِيمًا﴾: معطوف عليه.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)﴾.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: خبر مقدم. ﴿رِجَالٌ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان حال الصالحين من الصحابة. ﴿صَدَقُوا﴾: فعل وفاعل صفة ﴿رِجَالٌ﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿صَدَقُوا﴾. ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿عَاهَدُوا﴾، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿فَمِنْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت من المؤمنين رجال، وأردت بيان مراتبهم.. فأقول لك: منهم. ﴿منهم﴾: خبر مقدم. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿قَضَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿نَحْبَهُ﴾: مفعول به. والجملة: صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَّن﴾: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿يَنْتَظِرُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿من﴾. والجملة صلة الموصول. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿بَدَّلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿تَبْدِيلًا﴾: مفعول مطلق مؤكد لعامله، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل ﴿يَنْتَظِرُ﴾.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤)﴾.
﴿لِيَجْزِيَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يجزي الله الصادقين﴾: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بلام كي، والجار والمجرور: متعلق بمعلول محذوف، تقديره: وقع جميع ما وقع لجزاء الله سبحانه الصادقين: ﴿بِصِدْقِهِمْ﴾:
496
متعلق بـ ﴿يجزي﴾، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لبيان ما دعا إلى وقوع ما حكى من الأقوال والأحوال. ﴿وَيُعَذِّبَ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يجزي﴾ منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾: مفعول به. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿شَاءَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ومفعول ﴿شَاءَ﴾: محذوف؛ أي: إن شاء تعذيبهم، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية: محذوف أيضًا، والتقدير: إن شاء تعذيبهم يعذبهم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿أَوْ يَتُوبَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿يعذب﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَتُوبَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿غَفُورًا﴾: خبر أول له. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)﴾.
﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من الموصول؛ أي: ملتبسين بغيظهم. ﴿لَمْ يَنَالُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿خَيْرًا﴾: مفعول به، والجملة: في محل النصب حال ثانية من الموصول. ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ﴾، ﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، ﴿عَزِيزًا﴾: خبر ثان له. والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ﴾.
﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦)﴾.
﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿وَرَدَّ اللَّهُ﴾. ﴿ظَاهَرُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ظاهروهم. ﴿مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾: متعلق
497
بـ ﴿أنزل﴾، وهو اسم منقوص مجرور بكسرة مقدرة، ويحتمل كون جملة ﴿أنزل﴾: مستأنفة مسوقة لبيان قصة غزوة بني قريظة. ﴿وَقَذَفَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ﴿أنزل﴾. ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾: متعلق بقذف. ﴿الرُّعْبَ﴾: مفعول به لـ ﴿قذف﴾. ﴿فَرِيقًا﴾: مفعول مقدم لـ ﴿تَقْتُلُونَ﴾. ﴿تَقْتُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مبينة ومقررة لقذف الله الرعب في قلوبهم. ﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿تَقْتُلُونَ﴾.
﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧)﴾.
﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على ﴿أنزل﴾. ﴿وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا﴾: معطوفات على ﴿أَرْضَهُمْ﴾. ﴿لَمْ تَطَئُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل المصب صفة لـ ﴿أرضا﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فحل ناقص واسمه. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿قَدِيرًا﴾. ﴿قَدِيرًا﴾: خبر ﴿كان﴾. وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٢٨)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ أو بدل منه، وجملة النداء: مستأنفة مسوقة لتقرير موقف الإِسلام من أزواج النبي - ﷺ - ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾. ﴿لِأَزْوَاجِكَ﴾: متعلق به. والجملة: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُنَّ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿تُرِدْنَ﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على السكون، لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة: في محل الرفع فاعل. ﴿الْحَيَاةَ﴾: مفعول به. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةَ﴾. ﴿وَزِينَتَهَا﴾: معطوف على الحياة، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر ﴿كان﴾؛ أي: مريدات الحياة الدنيا. ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب
498
﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. ﴿تعالين﴾: فعل أمر مبني على السكون ونون النسوة فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على النبي مجزوم بالطلب السابق و ﴿الكاف﴾: ضمير الإناث في محل النصب مفعول به والنون علامة جمع الإناث، الجملة جوابية لا محل لها من الإعراب ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾، ﴿سَرَاحًا﴾: مفعول مطلق. ﴿جَمِيلًا﴾: صفة له.
﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (٢٩) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿كنتنّ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿تُرِدْنَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ﴾: معطوفان على لفظ الجلالة. ﴿الْآخِرَةَ﴾: صفة لـ ﴿الدار﴾. وجملة ﴿تُرِدْنَ﴾: في محل النصب خبر ﴿كان﴾. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿أَعَدَّ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدَّ﴾. ﴿مِنْكُنَّ﴾: حال من المحسنات ﴿أَجْرًا﴾: مفعول ﴿أَعَدَّ﴾، ﴿عَظِيمًا﴾: صفة ﴿أَجْرًا﴾. وجملة ﴿أَعَدَّ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾. وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء، في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يَأْتِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾: مجزوم بحذف حرف العلة، على كونه فعل شرط لـ ﴿مَنْ﴾. ﴿مِنْكُنَّ﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتِ﴾. ﴿بِفَاحِشَةٍ﴾: متعلق
499
بـ ﴿يَأْتِ﴾: ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ صفة لـ ﴿فاحشة﴾. ﴿يُضَاعَفْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونه جوابًا ﴿لَهَا﴾: متعلق بـ ﴿يُضَاعَفْ﴾. ﴿الْعَذَابُ﴾: نائب فاعل ﴿ضِعْفَيْنِ﴾: مصدر مبين لعدد عامله، منصوب على المفعولية المطلقة، وجملة ﴿من﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿قُل﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَكَانَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية أو استئنافية. ﴿كان ذلك﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسِيرًا﴾: خبر ﴿كان﴾. وجملة ﴿كان﴾: في محل النصب حال من العذاب أو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ﴾؛ أي: المثبطين، الذين يخذلون المسلمين من التعويق، وهو: التثبيط، يقال: عاقه وهوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده، والعائق: الصارف عما يراد منه خير، ومنه عوائق الدهر، وتقول: فلان صحبه التعويق فهجره التوفيق.
﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾؛ أي: أقبلوا إلينا، وهو اسم فعل أمر عند الحجازيين، ويلزم صيغة واحدة في خطاب الواحد وغيره، والمذكر وغيره، وعند بني تميم: فعل أمر وتلحقه علامات التثنية والجمع والتأنيث، فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال، وهلما يا رجلان، هلمّي يا هندُ وهلمّا يا هندان وهلمُمْن يا هندات.
﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾: والبأس في الأصل: الشدة، والمراد به هنا: الحرب والقتال.
﴿أَشِحَّةً﴾: جمع شحيح، وهو البخيل والحريص، وهو جمع لا ينقاس، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من وادٍ واحد، أن يجمع على أفعلاء، نحو خليل وأخلاء، وظنين وأظناء، وضنين وأضناء، وقد سمع أشحاء، وهو القياس. قال الراغب: الشح بخل مع حرصٍ، وذلك فيما كان عادةً، يقال: رجل شحيح، وقوم أشحة.
﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾؛ أي: تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف.
500
﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾: يقال: غشى على فلان: إذا نابه ما غشي فهمه؛ أي: ستره.
﴿سَلَقُوكُمْ﴾؛ أي: آذوكم بالكلام، يقال: سلقه بالكلام: إذا آذاه، كما في "القاموس". وأصل السلق: بسط العضو للضرب، وهو من باب ضرب. اهـ. "شيخنا". وفي "المختار": سلقه بالكلام آذاه، وهو شدة القول باللسان، وقال تعالى: ﴿سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ وسلق البصل والبيض أكلاه بالنار إغلاءً خفيفًا، وباب الكل ضرب. اهـ. وفي "المصباح": أنه من باب قتل أيضًا. اهـ. قال القتيبي: المعنى: آذوكم بالكلام الشديد، وعبارة الشهاب: أصل السلق: بسط العضو ومدة للقهر، سوا كان يدًا أو لسانًا، كما قال الراغب، فتفسيره بالضرب مجاز.
والحاصل عليه: توصيف الألسنة بالحداد، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية، والضرب: تخييل. اهـ. وفي "السمين": يقال: سلقه، اجترأ عليه في خطابه، وخاطبه مخاطبةً بليغة، وأصله البسط، ومنه سلق امرأته؛ أي: بسطها وجامعها، والسليقة: الطبيعية. اهـ. وسلقه بالرمح: طعنه؛ وسلقه بالسوط: ضربه إلى أن نزع جلده، وسلق اللحم عن العظم: قشره، وعلى كل حال فالعامة تستعمل هذه الكلمة استعمالًا عامًا لا غبار عليه.
﴿بِأَلْسِنَةٍ﴾: جمع لسان، كأسلحة جمع سلاح، وهي الجارحة المعروفة.
﴿حِدَادٍ﴾: جمع حديد، يقال: لسان حديد، نحو لسان صارم وماض، وذلك إذا كان يؤثر تأثير الحديد؛ أي: ذربةٍ سلطة تفعل فعل الحديد.
﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾؛ أي: بخلاء حريصين على مال الغنيمة.
﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ﴾: الأحزاب: جمع حزب، وهم الذين تحزبوا لحرب رسول الله - ﷺ -.
﴿يَوَدُّوا﴾؛ أي: يتمنوا، والود: محبة الشيء وتمني كونه وحصوله.
﴿بَادُونَ﴾: جمع بادٍ، وهو ساكن البادية، يقال: بدا يبد وبداوةً: إذا خرج
501
إلى البادية، وهي خلاف الحاضرة، يقال: لقد بدوت يا فلان؛ أي: نزلت البادية وصرت بدويًا، ومالك والبداوة، وتبدى الحضري: إذا سكن البادية، ويقال: أين الناس؟ فتقول: لقد بدوا؛ أي: خرجوا إلى البادية، وكانت لهم غنيمات يبدون إليها.
﴿فِي الْأَعْرَابِ﴾: قال في "القاموس وشرحه": العرب: بالضم والتحريك، خلاف العجم مؤنث، وهم سكان الأمصار، أو عام، والأعراب منهم: سكان البادية، لا واحد له، ويجمع على أعاريب، وعرب وعاربة وعرب عرباء، وعرب وعربة صرحاء، وعرب متعربة، وعرب مستعربة، دخلاء، والمعنى هنا: خارجون إلى البدو، مقيمون بين أهله.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ﴾: قال الراغب: الأسوة بضم الهمزة والإسوة بكسرها: كالقدوة، والقدوة: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، حسنًا كان أو غيره، ضارًا أو غيره، ويقال: تأسيت به؛ أي: اقتديت. اهـ. والأسوة: بمعنى الاقتداء، وهي اسم وضع موضع المصدر، وهو الائتساء كالقدوة من الاقتداء، وائتسى فلان بفلان؛ أي: اقتدى به. اهـ. "سمين".
وفي "المصباح": الإسوة بكسر الهمزة وضمها: القدوة، وتأسيت به وائتسيت: اقتديت. اهـ.
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾؛ أي: مات، والنحب: النذر، ووقع قولهم: قضى نحبه عبارة عن الموت، لأن كل حي لا بد له من أن يموت، فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات.. فقد قضى نحبه؛ أي: نذره، والنذر: بفتح النون، وقد وهم صاحب "المنجِد" فضبطه بكسرها، وهذا غريب. وفي "المصباح": نحب نحبًا من باب ضرب بكى، والاسم: النحيب، ونحب نحبًا من باب قتل نذر، وقضى نحبه مات أو قتل في سبيل الله، وفي التنزيل: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾. انتهى. وفي "القرطبي": والنحب: النذر والعهد والموت والحاجة والمدة. ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾: والغيظ أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه.
﴿مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾؛ أي: من حصونهم، جمع صيصية بالكسر، وهي كل ما
502
يتحصن به ويمتنع، قال الشاعر:
فَأصْبَحَتِ النِّيْرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ نِسَاءُ تَمِيْمٍ يَبْتِدِرْنِ الصَّيَاصِيَا
وفي "القاموس": والصيصية: شوكة الحائك يسوي بها السدى واللحمة، وشوكة الديك التي في رجله، وقرن البقر والظباء، والحصن وكل ما امتنع به. انتهى.
﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ والأسر: الشد بالقيد، وسمي الأسير بذلك، ثم قيل لكل مأخوذٍ مقيدٍ، وإن لم يكن مشدودًا بذلك.
﴿لَمْ تَطَئُوهَا﴾: من وطىء يطأ وطئًا: إذا مشى على الأرض.
﴿فَتَعَالَيْنَ﴾: فعل أمر مبني على سكون الياء ونون النسوة فاعل، كما مر، وأصل الأمر أن يكون الآمر أعلى مكانًا من المأمور، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه، ثم كثر استعماله حتى صار معناه أقبل، وقال صاحب "الروح" أصل تعالى أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المنخفض، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة كلها، ولم يرد حقيقة الإقبال والمجيء، بل أراد أجبن علي ما أعرض عليكن، وأقبلن بإرادتكن واخيتاركن لإحدى الخصلتين، كما مر.
﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾: السرح: شجرة له ثمرة، وأصله: سرحت الإبل: إذا أرسلتها لرعي السرح، ثم جعل لكل إرسال في الشرعي، والتسريح في الطلاق: مستعار من تسريح الإبل؛ كالطلاق في كونه مستعارًا من طلاق الإبل.
﴿بِفَاحِشَةٍ﴾: قال الراغب: الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. انتهى.
﴿ضِعْفَيْنِ﴾: مثنى ضعف بكسر الضاد، يقال: ضعف الشيء: مثله في المقدار أو مثله وزيادة غير محصورة، فقولهم: لك ضعفه، يعني لك مثلاه أو ثلاثة أمثاله أو أكثر، وفي "المصباح": ضعف الشيء: مثله، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله. وقال الخليل: التضعيف: أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثليه وأكثر، وكذلك الأضعاف والمضاعفة، وقال الأزهري: الضعف في كلام
503
العرب المثل، هذا هو الأصل، ثم استعمل الضعف في المثل وما زاد، ليس للزيادة حد، يقال: هذا ضعف هذا؛ أي: مثله، وهذان ضعفان؛ أي: مثلاه. قال: وجاز في كلام العرب أن يقال: هذا ضعفه؛ أي: مثلاه وثلاثة أمثاله، لأن الضعف زيادة غير محصورة، فلو قال في الوصية: أعطوه ضعف نصيب ولدي.. أعطي مثليه، ولو قال: ضعفيه، أعطي ثلاثة أمثاله، حتى لو حصل للابن مئة؟.. أعطي مئتين في الضعف، وثلاث مئة في الضعفين، وعلى هذا جرى عرف الناس واصطلاحهم، والوصية تحمل على العرف، لا على دقائق اللغة هذا، وللضعف بفتح الضاد والضعف بكسرها والضعف بضمها معان، نظمها بعضهم بقوله:
وَفِيّ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ يَكُوْنُ الضَّعْفُ وَالْوَهْنُ فِيْ الْجِسّمِ فَذَاكَ الضَّعِيْفُ
زِيَادَةُ الْمِثْلِ كَذَا وَالضِّعْفُ جَمْعُ ضَعِيْفٍ زَهْوَ شَاكِيْ الضُّرِّ
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد المستفاد من قد في قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ فإنها لتأكيد العلم بالتعويق، ومرجع العلم إلى توكيد الوعيد.
ومنها: التندير في قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ وحده: أن يأتي المتكلم بنادرة حلوة، أو نكتة مستظرفة، وهو يقع في الجد والهزل، وهو لا يدخل في نطاق التهكم، ولا في نطاق الهزل الذي يراد به الجد، ويجوز أن يدخل في نطاق باب المبالغة، وذلك واضح في مبالغته تعالى في وصف المنافقين بالخوف والجبن، حيث أخبر عنهم أنهم تدور أعينهم حالة الملاحظة، كحالة من يغشى عليه من الموت.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾: شبه اللسان بالسيف المصلت، وحذف ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق، بمعنى الضرب، على طريقة الاستعارة المكنية، ولفظ حداد: ترشيح.
504
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ وفيه أيضًا مجاز بالحذف؛ لأنه على حذف مضاف، تقديره: تدور أعينهم كعين الذي يغشى عليه من الموت.
ومنها: الإطناب بتكرار الاسم الظاهر في قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ كرر الاسم الشريف؛ للتكريم والتعظيم، ولأنه لو أعادهما مضمرين.. لجمع بين اسم الله تعالى واسم رسوله في لفظة واحدةً، فكان يقول: وصدقا، وقد كره النبي - ﷺ - ذلك ورد على من قاله حيث قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له: بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله قصدًا إلى تعظيم الله، وقيل: إنه إنما رد عليه؛ لأنه وقف على يعصهما، وعلى الأول استشكل بعضهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فقد جمع بينهما في ضمير واحد، وأجيب: بأن النبي - ﷺ -، أعرف بقدر الله تعالى منا، فليس لنا أن نقول كما يقول. اهـ. "سمين".
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾؛ لأن النحب حقيقة في النذر، فاستعير للموت؛ لأنه نهاية كل حي، فكأنه نذر لازم في رقبة الإنسان، ولكن في هذا تقبيح للاستعارة، وإذهاب لرونقها، ولكن الأنسب بمقام المدح أن يكون النحب مستعارًا لالتزام الموت، شهيدًا، إما بتنزيل أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه؛ وإيراده الالتزام عليه. اهـ. "جمل".
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ وفيه التعريض بأرباب النفاق، وأصحاب مرض القلب، فإنهم ينقضون العهود، ويبدلون العقود.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ بجملة ﴿إِنْ شَاءَ﴾ للتنبيه على أن أمر العذاب أو الرحمة، موكول لمشيئته تعالى.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ شبهت هذه المذكورات في بقائها على المسلمين بالميراث الباقي على
505
الوارثين، فعبر فيها بالميراث.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿وإن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها﴾ وبين قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾؛ لأن التسريح حقيقة في تسريح الإبل للرعي، فاستعير التسريح بمعنى إرسال الإبل للرعي لإطلاق الزوجة عن عقد النكاح، فاشتق منه سرح بمعنى طلق، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾؛ لأنه كناية عن الاختيار والإرادة، والعلاقة، هي أن المخير يدنو إلى من يخيره. اهـ. "خطيب".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
* * *
(١) وكان الفراغ من تسويد الجزء الحادي والعشرين من القرآن الكريم ليلة الاثنين المبارك، الليلة الثانية عشرة من شهر ذي القعدة، من شهور سنة ألف وأربع مئة وثلاث عشرة سنة، ١٢/ ١١/ ١٤١٣ من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، ويتلوه الجزء الثاني والعشرون من القرآن الكريم بحول الله تعالى وتيسيره، نسأل الله سبحانه الإعانة لنا على الإتمام والإكمال، كما أعان لنا على الابتداء والافتتاح، وأن يجعل في عمرنا البركة إلى إكماله وطبعه والتدرش عليه، وانتفاع المسلمين به، بمنه وكرمه وجوده واحسانه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، آمين آمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، و - ﷺ - على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تمّ المجلد الثاني والعشرون من تفسير حدائق الروح والريحان، ويليه المجلد الثالث والعشرون، وأوله قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ...﴾ الآية.
506
شعرٌ
إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا
يَا مَنْ يَعِيْبَ قَوْلِيْ لِمْ لاَ تَمُرُّ كَرِيْمَا
آخرُ
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوْتِ
آخرُ
507
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الثالث والعشرون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٢٣]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أجرى السحاب، وهزم الأحزاب، ونصر الأحباب بريح وجنود لم يروها، وعلَّم الإنسان ما لم يعلموها، وأنزل القرآن تنويرًا للصدور، وتزيينًا للنحور، وجعله معجزة باقية على ممر الدهور، والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ذوي النجدة والكرم، وعلى من تبعهم إلى يوم الجزاء من العرب والعجم.
أما بعد: فإني لما تفرغت من تفسير الجزء الحادي والعشرين من القرآن الكريم.. تصديت لتفسير الجزء الثاني والعشرين منه، مستمدًا من فيض من إذا أراد شيئًا هيَّأ له أسبابه، وفتح بيد التسهيل، والتيسير بابه، فهو المرجو في كل دعاء، والمأمول في كل رجاء، فقلت وقولي هذا:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (٣١) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (٣٣) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
5
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (٤٤)}.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) زيادة عقابهن إذا أتين بفاحشة مبينة.. أتبعه بذكر ثوابهن إذا هن عملن صالح الأعمال، مع ما هيأه لهن من الرزق الكريم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يوفقن إلى إنفاق ما يرزقن على وجه يكون لهن فيه عظيم الأجر والثواب، ولا يخشين من أجله العقاب، وفي الآخرة يرزقن ما لا يحد ولا يوصف من غير نكد ولا كدرٍ.
وقوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما اختصَّ به أمهات المؤمنين من مضاعفة العذاب والثواب.. أردف ذلك بيان أن لهن مكانة على بقية النساء، ثم نهاهن عن رخامة الصوت، ولين الكلام إذا هن استقبلن أحدًا، حتى لا يطمع فيهن من في قلبه نفاق، ثم أمرهن بالقرار في بيوتهن، ونهاهن عن إظهار محاسنهن، كما يفعل ذلك أهل الجاهلية الأولى، ثم أمرهن بأهم أركان الدين، وهو إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله فيما يأمر وينهى؛ لأنه تعالى أذهب الآثام عن أهل البيت، وطهرهن تطهيرًا، ثم أمرهن بتعليم غيرهن القرآن، وما يسمعنه من النبي - ﷺ -.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر نساء نبيه - ﷺ - بأشياء، ونهاهن عن أخرى.. ذكر هنا ما أعد
(١) المراغي.
6
للمسلمين والمسلمات من الأجر والكرامة عنده في الدار الآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله - سبحانه - لما أمر نبيه - ﷺ - أن يخيِّر زوجاته بين البقاء معه والتسريح سراحًا جميلًا، وفهم من هذا أن الرسول - ﷺ - لا يريد ضررًا لغيره، فمن كان ميله إلى شيء مكنه منه، وترك حظ نفسه لحظ غيره.. ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان في كل شيء كما أعطي ذلك للزوجات، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمن ولا مؤمنة فيها، وهي ما حكم الله فيه، فما أمر به فهو المتبع، وما أراد النبي - ﷺ - فهو الحق، ومن خالفهما.. فقد ضل ضلالًا مبينًا.
وعبارة أبي حيان هنا: ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإِسلام فما بعده.. عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين؛ إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له، فأنكر عليهم؛ إذ طاعته - ﷺ - من طاعة الله تعالى، وأمره من أمره انتهى.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) ما ينبغي أن يكون عليه النبي - ﷺ - مع ربه من تقواه، وإخلاصه له في السر والعلن، وما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وأقاربه من راحتهم، وإيثارهم على نفسه فيما يطلبون، كما يومىء إلى ذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...﴾ إلخ.. أرشد عباده إلى تعظيمه تعالى، وإجلاله بذكره، والتسبيح له بكرة وأصيلًا، فهو الذي يرحمهم، وملائكته يستغفرون لهم كي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكان بعباده المؤمنين رحيمًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه الترمذي - وحسنه من طريق عكرمة - عن أم عمارة الأنصارية: أنها أتت النبي - ﷺ -، فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...﴾ إلخ.
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
7
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة، قال: سمعت أم سلمة زوج النبي - ﷺ - تقول: قلت للنبي - ﷺ -: ما لنا لا نذكر في القرآن، كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وأنا أسرح رأسي، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول على المنبر: "يا أيها الناس، إن الله يقول في كتابه: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ ".
وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس، قال: قالت النساء: يا رسول الله، ما باله يذكر المؤمنين، ولا يذكر المؤمنات؟، فنزلت: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال: خطب النبي - ﷺ - زينب، وهو يريدها لزيد بن حارثة، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد.. أبت، فأنزل الله قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ...﴾ الآية، فرضيت وسلمت.
وأخرج ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: خطب رسول الله - ﷺ - زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فاستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبًا، فأنزل الله قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ...﴾ الآية كلها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أنس أن هذه الآية: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ نزلت في زينب بنت جحش، وزيد بن حارثة.
وأخرج الحاكم عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله - ﷺ - من زينب بنت جحش، فقال النبي - ﷺ -: "أمسك عليك أهلك" فنزلت: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾.
وأخرج مسلم وأحمد والنسائي قال: لما انقضت عدة زينب.. قال رسول الله - ﷺ - لزيد: "اذهب فاذكرها عليّ"، فانطلق، فأخبرها فقالت: "ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله - ﷺ -، فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله - ﷺ -
8
أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله - ﷺ - واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، ثم أخبرته أن القوم قد خرجوا، فانطلق حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه الترمذي عن عائشة قالت: لما تزوج النبي - ﷺ - زينب.. قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد قال: لما نزلت ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾.. قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركنا فيه، فنزلت: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٣١ - ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ﴾ ويخضع ﴿مِنْكُنَّ﴾ يانساء النبي - ﷺ - ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ﴿و﴾ يقنت لـ ﴿رَسُولِهِ﴾ - ﷺ -؛ بترك النشوز وسوء الخلق، وطلب ما ليس عنده من متاع الدنيا ﴿وَتَعْمَلْ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾؛ أي: مخلصًا لله سبحانه ﴿نُؤْتِهَا﴾؛ أي: نعطها ﴿أَجْرَهَا﴾ وثوابها ﴿مَرَّتَيْنِ﴾؛ أي: ضعفين، فتجزى حسنتهن بعشرين حسنة.
ومعنى إيتائهن الأجر مرتين: أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلت تلك الطاعة، وفي هذا (٢) دليل قوي على أن معنى ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ أنه يكون العذاب مرتين، لا ثلاثًا؛ لأن المراد إظهار شرفهن ومزيتهن في الطاعة والمعصية، تكون حسنتهن كحسنتين، وسيئتهن كسيئتين، ولو كانت سيئتهن كثلاث سيئات.. لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين، فإن الله سبحانه أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على
(١) لباب النقول.
(٢) الشوكاني.
9
مضاعفة أجرهن.
فائدة: فإن قلت: لِمَ خص الله سبحانه نساء النبي - ﷺ - بتضعيف العقوبة على الذنب، والمثوبة على الطاعة؟
قلت: أما الأول: فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب ما لا يشاهده غيرهن، ولأن في معصيتهن أذى لرسول الله - ﷺ -، وذنب من آذى رسول الله أعظم من ذنب غيره، وأما الثاني: فلأنهن أشرف من سائر النساء؛ لقربهن من رسول الله - ﷺ -، فكانت الطاعة منهن أشرف، كما أن المعصية منهن أقبح. اهـ "فتح الرحمن".
وقيل: معنى ﴿نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾؛ أي: مرة (١) على الطاعة والتقوى لله سبحانه، وأخرى على طلبهن رضاء رسول الله - ﷺ - بالقناعة وحسن المعاشرة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ﴾ بالياء التحتية حملًا على لفظ ﴿مَن﴾ ﴿وَتَعْمَلْ﴾ بالتاء الفوقية حملًا على المعنى، و ﴿نُؤْتِهَا﴾ بنون العظمة. وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية: ﴿ومن تقنت﴾ بتاء التأنيث حملًا على المعنى، وبها قرأ ابن عامر في رواية رواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقرأ السلمي وابن وثاب وحمزة والكسائي بالتحتية في ثلاثتها ﴿يقنت﴾، ﴿يعمل﴾، ﴿يؤتها﴾.
﴿وَأَعْتَدْنَا﴾؛ أي: هيأنا. ﴿لَهَا﴾؛ أي: لمن يقنت منكن لله ورسوله في الجنة زيادة على أجرها المضاعف. ﴿رِزْقًا كَرِيمًا﴾؛ أي: رزقًا حسنًا مرضيًا، وفيه (٣) إشارة إلى أنَّ الرزق الكريم في الحقيقة هو نعيم الجنة، فمن أراده يترك التنعم في الدنيا، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ: "إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بمتنعمين" يعني: أن عباد الله الخلص لا يرضون نعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة، فإن نعيم الدنيا فانٍ.
والمعنى: أي ومن تطع منكن الله ورسوله، وتعمل صالح الأعمال.. نضاعف لها الأجر والمثوبة لكرامتها علينا بوجودها في بيت النبوة، ومنزل الوحي، ونور
(١) أبو السعود.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
10
الحكمة، وعين الهداية، وهيأنا لها زيادةً على هذا الكرامة في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا: فلأنها تكون مرموقة بعين الغبطة لدى نساء العالمين، منظورًا إليها نظرة المهابة والإجلال، وأما في الآخرة: فلها رفيع الدرجات، وعظيم المنازل عنده تعالى في جنات النعيم.
٣٢ - ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحًا، فقال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ - ﷺ -؛ أي: يا أزواج النبي ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾؛ أي: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف، بسبب صحبة النبي - ﷺ -، فإن المضاف إلى الشريف شريف. قال الزجاج: لم يقل كواحدة من النساء؛ لأن أحدًا نفي عام للمذكر والمؤنث، والواحد والجماعة، وقد يقال على ما ليس بآدمي، كما يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير.
ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال: ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ مخالفة حكم الله سبحانه، ورضى رسوله، فهو قيد خيريتهن، وبيان أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا باتصالهن بالنبي - ﷺ -.
والمعنى (١): أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن، وهو كونكن أمهات المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، ونزول القرآن فيكن. فكما أنه - ﷺ - ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: "لست كأحدكم"، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به.
قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، بل أنتن أكرم عليَّ، وثوابكن أعظم لديَّ. انتهى. وقد وقعت منهن - ولله الحمد - التقوى البينة، والإيمان الخالص، والمشي على طريقة الرسول - ﷺ - في حياته، وبعد مماته. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ أي: إن اتقيتن.. فلستن كأحد من النساء. وقيل: إن جوابه: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ﴾، والأول أولى؛ لدلالة الجواب المحذوف على نفي المساواة التي يفيدها التشبيه، وعلى هذا: فجملة ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ﴾ مستأنفة؛ أي: فلا تخضعن ولا تلنَّ ﴿بِالْقَوْلِ﴾ عند مخاطبة الناس؛ أي: لا
(١) البحر المحيط.
11
تجبن بقولكن قولًا خاضعًا لينًا، كما تفعله المريبات والمُطمعات من النساء المومسات، فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة.
والخضوع (١): التطامن والتواضع والسكون واللين في الكلام، والمرأة مندوبة إلى الغلظة والخشونة في المقالة إذا خاطبت الأجانب؛ لقطع الأطماع، فإذا أتى الرجل باب إنسان وهو غائب، فلا يجوز للمرأة أن تلين بالقول معه، وترقق الكلام له، فإنه يهيج الشهوة، ويورث الطمع، كما قال: ﴿فَيَطْمَعَ﴾ بالنصب، لوقوعه في جواب النهي؛ أي: فيطمع فيكن، ويقصد الزنا بكن ﴿الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾؛ أي: نفاق، أو محبة فجور، أو شهوة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَيَطْمَعَ﴾ بفتح الميم ونصب العين جوابًا للنهي. وقرأ أبان بن عثمان وابن هرمز بالجزم عطفًا على محل فعل النهي، فكسرت العين للالتقاء الساكنين، نهين عن الخضوع بالقول، ونهي مريض القلب عن الطمع. كأنه قيل: لا تخضع فلا تطمع. وقراءة النصب أبلغ؛ لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع، وقال أبو عمرو الداني: قرأ الأعرج وعيسى ﴿فَيطمِعَ﴾ بفتح الياء وكسر الميم، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال قال: وقد روي عن ابن محيصن وذكر أنَّ الأعرج - وهو ابن هرمز - قرأ: ﴿فَيَطْمَعَ﴾ بضم الياء وفتح العين وكسر الميم؛ أي: فيطمع هو؛ أي: الخضوع بالقول، و ﴿الَّذِي﴾: مفعول، أو ﴿الَّذِي﴾ فاعل والمفعول محذوف؛ أي: فيطمع نفسه.
﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ عند الناس بعيدًا من التهمة والريبة والإطماع بجد وخشونة، لا بتكسر وتغنج، كما يفعله المخنث على سنن الشرع، لا ينكر منه سامعه شيئًا، ولا يطمع فيهن أهل الفسق والفجور بسببه، فالزنا من أسباب الهلاك المعنوي، كالموت من أسباب الهلاك الحسي، وسببه الملاينة في الكلام والمطاوعة.
والمعنى: أي يا نساء النبي، إذا استُقصيت النساء جماعة.. لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والكرامة.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
12
والخلاصة: أنه لا يشبهكن أحد من النساء، ولا يلحقكن في الفضيلة والمنزلة أحد إذا اتقيتن؛ أي: إذا استقبلتن أحدًا من الرجال، فلا ترققن الكلام، فيطمع في الخيانة من في قلبه فساد وريبة من فسق ونفاق، وقلن قولًا بعيدًا عن الريبة، غير مطمع لأحد. وتفسير الاتقاء بهذا المعنى - أعني الاستقبال - أبلغ في مدحهن؛ إذ لم يعلق فضلهن على التقوى، ولا علَّق نهيهن عن الخضوع بها؛ إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي بظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، أمر (١) تعالى أن يكون الكلام خيرًا، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه، مثل كلام المومسات. نهاهن عن ذلك، واتقى بمعنى: استقبل، معروف في اللغة، قال النابغة:
أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ أَظَلَّتْكَ يَوْمًا عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ
فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ أقْبَلَتْ وَلَا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ
سَقَطَ النَّصِيْفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنا بِالْيَدِ
أي: استقبلتنا باليد. وقال في "الكشاف": إن المعنى: إن أردتن التقوى، أو إن كنتن متقيات. اهـ.
وإجمال هذا (٢): خاطبن الأجانب بكلام لا ترخيم فيه للصوت، ولا تخاطبنهم كما تخاطبن الأزواج،
٣٣ - ولما أمرهن بالقول المعروف.. أتبعه بذكر الفعل، فقال: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ أي (٣): والزمنَ يا نساء النبي بيوتكن، واثبتنَ في مساكنكن، فلا تخرجن لغير حاجة. وقيل: هو أمر من الوقار؛ أي: كنَّ أهل وقار وسكون، والخطاب وإن كان لنساء النبي - ﷺ -، فقد دخل فيه غيرهن. روي أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها من الأزواج المطهرة: ما خطت باب حجرتها لصلاة ولا لحج ولا لعمرة، حتى أخرجت جنازتها من بيتها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين؟ فقالت: قيل لنا: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، وفي الحديث: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن".
وأخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود: أنَّ النبي - ﷺ - قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها، وهي في
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
13
قعر بيتها".
وقرأ الجمهور (١): ﴿وقِرن﴾ بكسر القاف من وقر يقر وقارًا إذا سكن، والأمر منه: قر بكسر القاف، وللنساء قرن مثل عدن وزن من وعد يعد، وأصله: أوقرن.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر: بفتح القاف، أمر من قر يقر بفتح القاف في المضارع من باب: علم، أصله: اقررن. وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿واقرِرن﴾ بألف الوصل وكسر الراء الأولى، وسيأتي البحث عن تصريف كل قراءة في مبحثه إن شاء الله تعالى.
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾؛ أي: ولا تبدين زينتكن ومحاسنكن للرجال ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾؛ أي: تبرجًا مثل تبرج نساء أهل الجاهلية الأولى؛ أي: إظهارًا مثل إظهار نساء أهل الجاهلية الأولى زينتها ومحاسنها للرجال، أو المعنى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾؛ أي: ولا تتبخترن في (٢) مشيكن تبرجًا وتبخترًا مثل تبرج وتبختر نساء أهل الجاهلية الأولى في مشيتها.
والتبرج (٣): أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره، مما تستدعي به شهوة الرجل. قال المبرد: هو مأخوذ من البرج بمعنى: السعة، يقال: في أسنانه برج: إذا كانت متفرقة، وقيل: التبرج: هو التبختر في المشي، وهذا ضعيف جدًا، وقد اختلف (٤) في المراد بالجاهلية الأولى، فقيل: ما بين آدم ونوح، وقيل: ما بين نوح وإدريس، وقيل: ما بين نوح وإبراهيم، وقيل: ما بين موسى وعيسى، والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - وقيل: الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإِسلام، والجاهلية الأخرى: جاهلية الفسوق والفجور في الإِسلام، وقال المبرد: الجاهلية الأولى، كما تقول: الجاهلية الجهلاء. قال: وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها، فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل.
(١) البحر المحيط.
(٢) البيضاوي.
(٣) الشوكاني.
(٤) الشوكاني.
14
قال ابن عطية: والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وليس المعنى: أن ثم جاهلية أخرى، كذا قال، وهو قول حسن. ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى: ما يقع في الإِسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجًا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من كان قبلكن؛ أي: لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل.
والحاصل: أن الله سبحانه أمرهن (١) بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج. وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا قرأت هذه الآية بكت، حتى تبل خمارها، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. وقيل لسودة: لِمَ لا تحجين وتعتمرين، كما يفعل إخوانك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي، فما خرجت من باب حجرتها، حتى أخرجت جنازتها، كما مرَّ.
وبعد أن نهاهن عن الشر.. أمرهن بالخير فقال: ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ﴾ التي هي أصل الطاعات البدنية ﴿وَآتِينَ الزَّكَاةَ﴾ التي هي أشرف العبادات المالية؛ أي: إن كان لكن مال، كما في تفسير أبي الليث. ﴿وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في سائر الأوامر والنواهي، فهو تعميم بعد تخصيص، وقال بعضهم: أطعن الله في الفرائض، ورسوله في السنن.
والمعنى (٢): أي وأدين الصلاة على الوجه القيم المعتبر شرعًا، وأعطين زكاة أموالكن، كما أمركن الله. وخَصَّ هاتين العبادتين بالذكر لما لهما من كبير الآثار في طهارة النفس، وطهارة المال، وأطعن الله ورسوله فيما تأتين، وما تذرين، واجعلن نصب أعينكن اتباع الأوامر، وترك النواهي.
ثم ذكر السبب في هذه الأوامر والنواهي على وجه عام، فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بتلك الأوامر والنواهي ﴿لِيُذْهِبَ﴾ ويزيل ﴿عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾؛
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
15
أي: الذنب المدنس للأعراض ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾؛ أي: يا أهل بيت الرسول الكريم، والمراد بهم: من حواه بيت النبوة رجالًا ونساءً، وهذا تعليل مستأنف لأمرهن ونهيهن، ولذلك عمم الحكم بتعميم الخطاب لغيرهن بقوله: ﴿عَنْكُمُ﴾، وصرح بالمقصود حيث قال: ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾؛ أي: إنما أوصاكن الله - سبحانه - بما أوصاكن من التقوى، وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت، وعدم التبرج، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله؛ ليذهب عنكم الرجس أهل البيت. والمراد بالرجس: الإثم والذنب المدنسان للأعراض، الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل في ذلك كل ما ليس فيه لله رضًا، وانتصاب ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ على المدح، أو على حذف حرف النداء.
﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ من الأرجاس والأدران ﴿تَطْهِيرًا﴾ كاملًا، وفي استعارة الرجس للمعصية، والترشيح لها بالتطهير، تنفيرٌ عنها بليغ، وزجر لفاعلها شديد.
والمعنى: أي إنما يريد الله بذلك ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت الرسول، ويطهركم من دنس الفسق والفجور الذي يعلق بأرباب الذنوب والمعاصي.
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية (١)، فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هن: زوجات النبي - ﷺ - خاصةً، قالوا: والمراد بالبيت: بيت النبي - ﷺ -، ومساكن زوجاته لقوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، وأيضًا السياق في الزوجات من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾، وسيأتي بيان أسماء زوجاته - ﷺ -، وبيان ترتيبها في الزواج في الفصل الآتي.
وقال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة، وروي عن الكلبي: أن أهل البيت المذكورين في الآية هم: علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم: الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث، وهو قوله: ﴿عنكم وليطهركم﴾،
(١) الشوكاني.
16
ولو كان للنساء خاصة لقال: عنكن ويطهركن، وأجاب الأولون عن هذا: بأن التذكير باعتبار لفظ الأهل، كما قال سبحانه: ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾، وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد: زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير.
وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين، فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات، ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، أما الزوجات.. فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا، ولكونهن الساكنات في بيوته - ﷺ -، النازلات في منازله، وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين.. فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة، فيقول: "السلام عليكم ورحمة الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم، الصلاة يرحمكم الله"، كلَّ يوم خمس مرات، وغير ذلك من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول.
وأهل البيت على هذا القول هم كل من كان ملازمًا له - ﷺ - من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان المرء منهم أقرب، وبالنبي - ﷺ - أخص وألزم.. كان بالإرادة أحق وأجدر، وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين، منهم: القرطبي وابن كثير وغيرهما. وقيل: المراد بالبيت: بيت النسب، فيشمل جميع بني هاشم.
٣٤ - ثم بين ما أنعم به عليهن من أنَّ بيوتهن مهابط الوحي بقوله: ﴿وَاذْكُرْنَ﴾ للناس بطريق العظة والتذكير ﴿مَا يُتْلَى﴾ ويقرأ ﴿فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ ومنازلكن ﴿مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه القرآنية الدالة على العقائد الصحيحية ﴿وَ﴾ الدالة على ﴿الْحِكْمَةِ﴾؛ أي: على الحكم والأحكام الشرعية؛ أي: من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله البينة الدالة على صدق النبوة بنظمه المعجز، وبين كونه حكمة منطوية على فنون العلم والشرائع، وحمل قتادة الآيات على آيات القرآن، والحكمة على الحديث الذي هو محض حكمة، وقال مقاتل: المراد بالآيات والحكمة: أمره ونهيه في القرآن؛ أي (١): واذكرن نعمة الله عليكن إذ جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله،
(١) المراغي.
17
وما ينزل على الرسول من أحكام الدين، ولم ينزل به قرآن، فاحمدن الله على ذلك، واشكرنه على جزيل فضله عليكن، أو اذكرنها وتفكرن فيها لتتعظن بمواعظ الله، أو اذكرنها للناس ليتعظوا بها، ويهتدوا بهداها، أو اذكرنها بالتلاوة لها لتحفظنها، ولا تتركن الاستكثار من التلاوة.
ولا يخفى ما في هذا من الحث على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه، كما لا يخفى ما في تسمية ما نزل عليه من الشرائع بالحكمة، إذ فيه الحكمة في صلاح المجتمع في معاشه ومعاده، فمن استمسك به رشد، ومن تركه ضل عن طريق الهدى، وسلك سبيل الردى، والتعرض (١) للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنه الأنسب؛ لكونها مهبط الوحي؛ لعمومها جميع الآيات، ووقوعها في كل البيوت، وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول، وعدم تعيين التالي ليعم تلاوة جبريل، وتلاوة النبي، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن تعلمًا وتعليمًا. قال في "الوسيط": وهذا حث لهن على حفظ القرآن، والأخبار، ومذاكرتهن بها للأحاطة بحدود الشريعة. والخطاب وإن اختص بهن.. فغيرهن داخل فيه؛ لأن مبنى الشريعة على هذين: القرآن والسنة، وبهما يوقف على حدود الله ومفترضاته. انتهى.
ومن سنة القارىء (٢) أن يقرأ القرآن كل يوم وليلة، كيلا ينساه، ولا يخرج عن صدره، فإن النسيان، وهو أن لا يمكنه القراءة من المصحف من الكبائر. ومن السنة أن يجعل المؤمن لبيته حظًا من القرآن، فيقرأ فيه منه ما تيسر له من حزبه، ففي الحديث: "إن في بيوتات المسلمين لمصابيح إلى العرش يعرفها مقربو ملائكة السموات السبع والأرضين السبع، يقولون: هذا النور من بيوتات المؤمنين التي يتلى فيها القرآن". ومن السنة أن يستمع القرآن أحيانًا من الغير، وكان النبي - ﷺ - يستمع قراءة أبي، وابن مسعود رضي الله عنهما. وكان عمر رضي الله عنه يستمع قراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان حسن الصوت، واستماع القرآن في الصلاة فرض، وفي خارجها مستحب عند الجمهور، فعليك بالتذكير والتحفظ والاستماع.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
18
وقرأ زيد بن علي: ﴿ما تتلى﴾ بتاء التأنيث، والجمهور: بالياء.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ لَطِيفًا﴾؛ أي: ذا لطف بكن؛ إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته وشرائعه ﴿خَبِيرًا﴾ بكن؛ إذ اختاركن لرسوله أزواجًا أو لطيفًا بأوليائه، خبيرًا بجميع خلقه، وجميع ما يصدر منهم من خير وشر، وطاعة ومعصية، فهو يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو بليغ اللطف والبر بخلقه كلهم؛ خبيرًا؛ أي: بليغ العلم بالأشياء كلها، فيعلم ويدبر ما يصلح في الدين، ولذلك أمر ونهى، أو: يعلم من يصلح لنبوته، ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته.
روي: أن رجلًا تكلم في زين العابدين رضي الله عنه، وافترى عليه، فقال زين العابدين: إن كنت كما قلت: فاستغفر الله، وإن لم أكن نستغفر الله لك، فقام إليه الرجل، وقبل رأسه، وقال: جعلت فداءك، لست كما قلت، فاستغفر لي، قال: غفر الله لك، فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
٣٥ - ولما نزل في نساء النبي - ﷺ - ما نزل.. قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء، ولو كان فينا خير لذكرنا، فنزلت: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ...﴾ الخ. فذكر لهن عشر مراتب مع الرجال، فمدحهن بها معهم:
الأولى: الإِسلام، وهو الانقياد لأمر الله تعالى، فذكرها بقوله: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾؛ أي: إن الداخلين في السلم بعد الحرب، المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث. وفي "التأويلات النجمية": المسلم: هو المستسلم للأحكام الأزلية بالطوع والرغبة، مسلمًا نفسه إلى المجاهدة والمكابدة ومخالفة الهوى، وقد سلم المسلمون من لسانه ويده. وبدأ سبحانه بذكر الإِسلام الذي هو مجرد الدخول في الدين، والانقياد له مع العمل، كما ثبت في الحديث الصحيح: أن النبي - ﷺ -، لما سأله جبريل عن الإِسلام قال: "هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان".
ثم عطف على المسلمين ﴿وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ تشريفًا لهن بالذكر صريحًا، وهكذا فيما بعد، وإن كن داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين وغيرهما، والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث، كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك.
19
والثانية: الإيمان، وهو تصحيح الاعتقاد، وموافقة الباطن الظاهر، فذكرها بقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ أي: المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين، وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله والقدر خيره وشره، كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله - ﷺ -.
وفي "التأويلات النجمية" المؤمن (١): من أمنه الناس، وقد أحيا الله قلبه أولًا بالعقل، ثم بالعلم، ثم بالفهم عن الله تعالى، ثم بنور الله تعالى، ثم بالتوحيد، ثم بالمعرفة، ثم أحياه بالله.
قال في "بحر العلوم": ومراد أصحابنا باتحاد الإِسلام والإيمان: أن الإِسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى: قبول ما جاء به النبي - ﷺ - من عند الله تعالى، والإذعان له، وذلك حقيقة التصديق. ولذلك لم يصح في الشرع أن يحكم على أحد أنه مسلم وليس بمؤمن، أو مؤمن وليس بمسلم، فلا يمتاز أحدهما عن الآخر، ولم يريدوا الاتحاد بحسب المفهوم؛ لأن الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر من أوامره ونواهيه ومواعيده، والإِسلام: هو الخضوع والانقياد لألوهيته، وهذا لا يحصل إلا بقبول الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والإذعان لذلك، فمن لم يقبل شيئًا من هذه الأربعة.. فقد كفر وليس بمسلم. انتهى.
وعبارة "فتح الرحمن": قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ فإن قلت (٢): لِمَ عطف أحدهما على الآخر، مع أنهما متحدان شرعًا؟
قلت: ليسا بمتحدين مطلقًا، بل هما متحدان ما صدقًا لا مفهومًا أخذًا من الفرق بين الإِسلام والإيمان الشرعيين؛ إذ الإِسلام الشرعي: هو التلفظ بالشهادتين بشرط تصديق القلب بما جاء به النبي - ﷺ -، والإيمان الشرعي: عكس ذلك، ويكفي في العطف المقتضي للاختلاف اختلافهما مفهومًا، وإن اتحدا ما صدقًا. انتهت.
والثالثة: القنوت، وهو الطاعة، وذكرها بقوله: ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾؛ أي: المداومين على الطاعات، القائمين بها من الفريقين، والقانت: العبد المطيع، وكذا القانتة، وقيل: المداوم على الطاعة والعبادة.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
20
وفي "التأويلات النجمية" (١): القنوت: استغراق الوجود في الطاعة والعبودية.
والرابعة: الصدق في الأقوال والأفعال، وذكرها بقوله: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ في القول والعمل والنية، والصادق والصادقة: هما من يتكلم بالصدق، ويتجنب الكذب، وبقي بما عوهد عليه. وفي "التأويلات النجمية": في عقودهم، ورعاية حدودهم، والصدق: نور أهدي لقلوب الصديقين بحسب قربم من ربهم.
والخامسة: الصبر على ما أمر الله به، وفيما ساء وسر، وذكرها بقوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي، والصابر والصابرة: هما من يصبر عن الشهوات، وعلى مشاق التكليف. وفي "التأويلات": على الخصال الحميدة، وعن الصفات الذميمة، وعند جريان القضاء، ونزول البلاء.
والسادسة: الخشوع في الصلاة، وهو أن لا يلتفت، وقيل: هو التواضع، وذكرها بقوله: ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾؛ أي: المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم. والخاشع والخاشعة: هما المتواضعان لله، الخائفان منه، الخاضعان في عباداتهم لله تعالى. وفي "التأويلات": الخشوع: إطراق السريرة عند توارد الحقيقة. انتهى. قال بعضهم: الخشوع: انقياد الباطن للحق، والخضوع: انقياد الظاهر له، وفي "القاموس": الخشوع: الخضوع، أو هو في البدن، والخشوع: في الصوت.
والسابعة: الصدقة مما رزق الله، وذكرها بقوله: ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ﴾ بما وجب في مالهم، والمعطين للصدقات فرضًا أو نفلًا والمتصدِّق والمتصدِّقة: هما من تصدق من ماله بما أوجبه الله عليه، وقيل: ذلك أعم من صدقة الفرض والنفل، يقال: تصدق على الفقراء: إذا أعطاهم الصدقة، وهي العطية التي بها تبتغى المثوبة من الله تعالى. وفي "التأويلات": والمتصدقين والمتصدقات بأموالهم وأعراضهم، حتى لا يكون لهم مع أحد خصومة فيما ينال منهم.
والثامنة: المحافظة على الصوم، وذكرها بقوله: ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ﴾ الصوم المفروض، أو مطلق الصوم فرضًا أو نفلًا. وفي "المفردات": الصوم في الأصل: الإمساك عن الفعل مطعمًا كان أو كلامًا أو مشيًا، وفي الشرع: إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين، والاستمناء، والاستقاءة.
21
والتاسعة: العفة، وذكرها بقوله: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ فروجهن عن الحرام بالتعفف والتنزه، والاقتصار على الحلال، وحذف مفعول الثاني لدلالة المذكور عليه.
والعاشرة: كثرة الذكر، وذكرها بقول: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ﴾ ذكرًا ﴿كَثِيرًا﴾ بقلوبهم وألسنتهم ﴿وَالذَّاكِرَاتِ﴾ الله كثيرًا، فحذف المفعول، كما في الحافظات؛ لعلمه من المذكور. والذاكر والذاكرة: هما من يذكر الله سبحانه على أحواله، وفي ذكر الكثرة دليل على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان، والمراد بكثرة الذكر: أن لا ينساه على كل حال، لا الذكر بكثرة اللغات. وفي "التأويلات": بجميع أجزاء (١) وجودهم الجسمانية والروحانية، بل بجميع ذرَّات المكونات، بل بالله وبجميع صفاته. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أدبار الصلوات، وغدوًا وعشيًا، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله. انتهى.
والاشتغال بالعلم النافع وتلاوة القرآن والدعاء من الذكر. وفي الحديث: "من استيقظ من منامه، وأيقظ امرأته، فصليا جميعًا ركعتين.. كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات". وعن مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا. وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "سبق المفردون"، قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات".
وقال عطاء بن أبي رباح (٢): من فوض أمره إلى الله.. فهو داخل في قوله: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾، ومن أقر بأن الله ربه، ومحمدًا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾، ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة.. فهو داخل في قوله: ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾، ومن صان قوله عن الكذب.. فهو داخل في قوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾، ومن صلى، فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله.. فهو داخل في قوله: ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم.. فهو داخل في قوله: ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ﴾، ومن صام في كل شهر أيام البيض - وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر -.. فهو
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
22
داخل في قوله: ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ﴾، ومن حفظ فرجه عما لا يحل.. فهو داخل في قوله: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾، ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها.. فهو داخل في قوله: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾.
وخبر ﴿إِنَّ﴾ في الجميع هو قوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ﴾؛ أي: هيأ الله سبحانه في الآخرة ﴿لَهُمْ﴾ لهؤلاء المذكورين بسبب ما عملوا من الطاعات العشر المذكورة، وجمعوا بينها. والعطف (١) بالواو بين الذكور والإناث، كالمسلمين والمسلمات، كالعطف بين الضدين؛ لاختلاف الجنسين، وأما عطف الزوجين على الزوجين، كعطف المؤمنين والمؤمنات على المسلمين والمسلمات، فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع؛ أي: عطفهما لتغاير الوصفين. ﴿مَغْفِرَةً﴾ لما اقترفوا من الصغائر؛ لأنهن مكفرات بما عملوا من الأعمال الصالحة. وفي "التأويلات": هي نور من أنوار جماله، جعل مغفر الرأس روحهم، يعصمهم مما يقطعهم عن الله. ﴿وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾؛ أي: ثوابًا جزيلًا على طاعاتهم التي فعلوها من: الإِسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصوم والعفاف والذكر، وهو الجنة. وقيل: سهولة العبادة، ودوام المعرفة اليوم، وتحقيق المسؤول، ونيل ما فوق المأمول غدًا.
ووصف الأجر بالعظم (٢): للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ، ولا شيء أعظم من أجرٍ هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد. اللهم اغفر ذنوبنا، وأعظم أجورنا.
والحاصل: أن الله سبحانه ذكر الأوصاف (٣) التي يستحق بها عباده أن يمحو عنهم زلاتهم، ويثيبهم بالنعيم المقيم عنده، وهي عشرة:
١ - إسلام الظاهر بالانقياد لأحكام الدين في القول والعمل.
٢ - إسلام الباطن بالتصديق التام، والإذعان لما فرض الدين من الأحكام، وهذا هو الإيمان.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
23
٣ - القنوت: وهو دوام العمل في هدوء وطمأنينة، كما قال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾، وقال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)﴾ فالإسلام والانقياد: مرتبة تعقبها مرتبة الإذعان والتصديق، وينشأ عن مجموعها القنوت والخشوع.
٤ - الصدق في الأقوال والأعمال، وهو علامة الإيمان، كما أن الكذب أمارة النفاق، فمن صدق نجا، وفي الحديث: "عليكم بالصدق، فإنه يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار".
٥ - الصبر على المكاره، وتحمل المشاق في أداء العبادات، وترك الشهوات.
٦ - الخشوع والتواضع لله تعالى بالقلب والجوارح ابتغاء ثوابه، وخوفًا من عقابه، كما جاء في الحديث: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
٧ - التصدق بالمال، والاحسان إلى المحاويج الذين لا كسب لهم ولا كاسب، وقد ثبت في الصحيح: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وفي حديث آخر: "والصدقة تطفىء الخطيئة، كما يطفىء الماء النار".
٨ - الصوم، فإنه نعم العون على كسر الشهوة، كما روى ابن ماجه من قوله: "والصوم زكاة البدن"؛ أي: إنه يزكيه ويطهره من الأخلاط الرديئة طبعًا وشرعًا.
٩ - حفظ الفروج عن المحارم والآثام، كما جاء في الآية الأخرى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١)﴾.
١٠ - ذكر الله كثيرًا بالألسنة والقلوب، كما سبقت أحاديثه:
فهؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف يمحو عنهم ذنوبهم، ويؤتيهم الأجر العظيم في جنات النعيم.
24
قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها
٣٦ - زواجها لزيد بن حارثة مولى رسول الله، وطلاقها منه، وزواجها لرسول الله - ﷺ - لإبطال عادة جاهلية، وهي إعطاء المتبنَّى حكم الابن في حرمة زواج امرأته بعد طلاقها.
روي: أن رسول الله - ﷺ - خطب زينب بنت جحش بن رباب الأسدي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب لمولاه زيد بن حارثة، وكانت زينب بيضاء جميلة، وزيد أسود أفطس، فأبت وقالت: أنا بنت عمتك يا رسول الله، وأرفع قريش، فلا أرضاه لنفسي، وكذلك أباه أخوها عبد الله بن جحش، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾ الآية؛ أي: ما صحَّ واستقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين، فدخل فيه عبد الله وأخته، ولفظ: ما كان، وما ينبغي، ونحوهما معناها: المنع والحظر من الشيء، والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعًا، وقد يكون لما يمتنع عقلًا، كقوله: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾.
﴿إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ وحكما ﴿أَمْرًا﴾ من أمور الدين والدنيا، مثل نكاح زينب؛ أي: إذا قضى رسول الله، وحكم حكمًا من الأحكام. وذكر (١) الله لتعظيم أمره، والإشعار بأن قضاءه - ﷺ - قضاء الله تعالى، كما أنَّ طاعته طاعة الله تعالى. ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾؛ أي: الاختيار ﴿مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ ما شاءوا. والخيرة - بالكسر -: اسم مصدر من اختار بمعنى: الاختيار، والمعنى: أنه لا يحل لكل مؤمن ومؤمنة إذا قضى الله ورسوله قضاء أن يمتنعوا من قضائه، ويختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل يجب (٢) عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعًا لاختياره - ﷺ -، ورأيهم تلوًا لرأيه، فقالا: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه، وساق عنه إليها مهرها، وإنما جمع الضمير في قوله: ﴿لَهُمُ﴾، و ﴿مِنْ أَمْرِهِمْ﴾؛ لأن ﴿مؤمن﴾ و ﴿مُؤْمِنَةٍ﴾ وقعا في سياق النفي، فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة. وقال بعضهم (٣): الضمير الثاني للرسول؛ أي: من أمره، والجمع للتعظيم.
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
25
والخلاصة: أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرًا قضى الرسول بغيره، وقال أبو حيان: الخيرة: مصدر من تخير على غير قياس، كالطيرة من تطير. وقرىء بسكون الياء، ذكره عيسى بن سليمان، وقرأ الحرميان (١) - نافع وابن كثير - والعربيان - أبو عمرو وابن عامر - وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى: ﴿أن تكون﴾ بتاء التأنيث؛ لكونه مسندًا إلى الخيرة، وهي مؤنثة لفظًا، وقرأ الكوفيون والحسن والأعمش والسلمي: ﴿أَنْ يَكُونَ﴾ بالياء التحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد؛ لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله: ﴿لَهُمُ﴾، مع كون التأنيث غير حقيقي. وعبارة "الشوكاني": والخيرة: مصدر بمعنى الاختيار، وقرأ ابن السميقع: ﴿الخيرة﴾ بسكون الياء، والباقون بفتحها. انتهت.
ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره، فقال: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في أمر من الأمور، ويعمل برأيه. وفي "كشف الأسرار": ومن يعص الله، فخالف الكتاب ورسوله، فخالف السنة ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ وأخطأ طريق الحق، وعدل عن الصراط المستقيم ﴿ضَلَالًا مُبِينًا﴾؛ أي: بيّن الانحراف عن سنن الصواب؛ أي: ضلالًا ظاهرًا واضحًا لا يخفى.
والمعنى (٢): أي ومن يعصِ الله ورسوله ويخالفهما فيما أمرا ونهيا.. فقد جار ومال عن قصد السبيل، وسلك غير طريق الهدى والرضاد، ونحو الآية قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن العبد ينبغي أن لا يكون له اختيار بغير ما اختاره الله، بل تكون خيرته فيما اختاره الله له، ولا يعترض على أحكامه الأزلية عند ظهورها له، بل له الاحتراز عن شر ما قضى الله قبل وقوعه، فإذا وقع الأمر.. فلا يخلو إما أن يكون موافقًا للشرع، أو يكون مخالفًا للشرع، فإن يكن موافقًا للشرع.. فلا يخلو؛ إما أن يكون موافقًا لطبعه، أو مخالفًا لطبعه، فإن يكن موافقًا لطبعه.. فهو نعمة من الله يجب عليه شكرها، ان يكن مخالفًا لطبعه.. فيستقبله
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
26
بالصبر والتسليم والرضا، وإن يكن مخالفًا للشرع.. يجب عليه التوبة والاستغفار، والإنابة إلى الله تعالى من غير اعتراض على الله فيما قدر وقضى وحكم به، فإنه حكيم يفعل ما يشاء بحكمته، ويحكم ما يريد بعزته. انتهى.
٣٧ - ثم ذكر الله سبحانه نبيه بما وقع منه؛ ليزيده تثبيتًا على الحق، وليدفع عنه ما حال في صدور ضعاف العقول، ومرضى القلوب فقال: ﴿وَإِذْ تَقُولُ﴾. روي (١) أنه لما نزلت الآية المتقدمة.. قالت زينب وأخوها عبد الله: رضينا يا رسول الله؛ أي: بنكاح زيد، فأنكحها عليه الصلاة والسلام إياه، وساق إليها مهرها عشرة دنانير وستين درهمًا، وخمارًا، وملحفة، ودرعًا، وإزارًا، وخمسين مدًا من طعام، وثلاثين صاعًا من تمر، وبقيت بالنكاح معه مدةً، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يومًا إلى بيت زيد لحاجة، فأبصر زينب، فأعجبه حسنها، فوقع في قلبه محبتها بلا اختيار منه، والعبد غير ملوم على مثله ما لم يقصد المأثم، ونظرة المفاجأة التي هي النظرة الأولى مباحة، فقال عليه الصلاة والسلام عند ذلك: "سبحان الله، يا مقلب القلوب ثبت قلبي" وانصرف، وذلك أن نفسه كانت تمتنع عنها قبل ذلك لا يريدها، ولو أرادها لخطبها، وسمعت زينب التسبيحة، فذكرتها لزيد بعد مجيئه، وكان غائبًا ففطن، فأتى رسول الله تلك الساعة، فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: "ما لك، أرأيت منها شيئًا؟ " قال: لا والله، ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم علي لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فمنعه عليه الصلاة والسلام، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ﴾؛ أي: واذكر يا محمد قصة وقت قولك: ﴿لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ بالتوفيق للإسلام الذي هو أجل النعم، وللخدمة والصحبة، وهو زيد بن حارثة ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ يا محمد بحسن التربية والإعتاق والتبني له، وكان من سبي الجاهلية، اشتراه رسول الله - ﷺ - في الجاهلية، وأعتقه وتبناه، وهو أول من أسلم من الموالي، وكان - ﷺ - يحبه، ويحب ابنه أسامة، شهد بدرًا والخندق والحديبية، واستخلفه النبي - ﷺ - على المدينة حين خرج إلى بني المصطلق، وخرج أميرًا في سبع سرايا، وقتل يوم مؤتة - بضم الميم وبالهمزة ساكنة -: موضع معروف عند الكرك.
(١) روح البيان.
27
ومقول القول قوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ﴾؛ أي: أمسك على نكاحك ﴿زَوْجَكَ﴾ زينب، واتركها فيه ﴿وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ سبحانه في أمرها، ولا تطلقها ضرارًا، أو تعللًا بتكبرها، ولا تعجل بطلاقها. ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾؛ أي: والحال أنك تضمر في قلبك وتستر الأمر الذي الله مظهره للناس، وهو نكاحها إن طلقها زيد. وقيل: حبها، وهو علم بأن زيدًا سيطلقها وسينكحها، يعني: أنك تعلم بما أعلمتك أنها ستكون زوجتك، وأنت تخفي في نفسك هذا المعنى، والله يريد أن ينجز لك وعده، ويبدي أنها زوجتك بقوله: ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾، وكان من علامات أنها زوجته إلقاء محبتها في قلبه، وذلك بتحبيب الله تعالى، لا بمحبته بطبعه، وذلك ممدوح جدًا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة"، وأنه لم يقل أحببت، ودواعي الأنبياء من قبيل الإذن الإلهي؛ إذ ليس للشيطان عليهم سبيل.
قال في "الأسئلة المقحمة": قد أوحي إليه أن زيدًا يطلقها، وأنت تزوج بها، فأخفى عن زيد سر ما أوحي إليه؛ لأن السر يتعلق بالمشيئة والإرادة، ولا يجب على الرسل الإخبار عن المشيئة والإرادة، وإنما يجب عليهم الإخبار والإعلام عن الأوامر والنواهي، لا عن المشيئة، كما أنه كان يقول لأبي لهب: آمن بالله، وقد علم أن الله أراد أن لا يؤمن أبو لهب، كما قال تعالى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣)﴾؛ لأن ذلك الذي يتعلق بعذاب أبي لهب إنما هو من المشيئة والإرادة، فلا يجب على النبي إظهاره، ولا الإخبار عنه.
﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾؛ أي: تستحييهم، أو (١) تخاف لومهم وتعييرهم لك به، بأن يقولوا: أمر مولاه بطلاق امرأته، ثم تزوجها. وفي "التأويلات النجمية": أي: تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة بأن يخطر ببالهم نوع إنكار، أو اعتراض عليه، أو شك في نبوته، بأن النبي - ﷺ - من تنزه عن مثل هذا الميل، وتتبع الهوى، فيخرجهم عن الإيمان إلى الكفر، فكانت تلك الخشية إشفاقًا منه عليهم، ورحمة بهم أنهم لا يطيقون سماع هذه الحالة، ولا يقدرون على تحملها. ﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ﴾؛ أي: والحال أن الله سبحانه أحق وأجدر وأولى ﴿أَنْ تَخْشَاهُ﴾ في كل حال، وتخاف منه،
(١) روح البيان.
28
وتستحييه.
وفي"كشف الأسرار": إنما عوتب - ﷺ - على إخفاء ما أعلمه الله تعالى أنها ستكون زوجة له. قالت عائشة رضي الله عنها: لو كتم النبي - ﷺ - شيئًا من الوحي.. لكتم هذه الآية: ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ الخ، وما نزل على رسول الله آية هي أشد عليه من هذه الآية.
وفي "التأويلات": يشير إلى أن رعاية جانب الحق أحق من رعاية جانب الخلق؛ لأن لله تعالى في إبداء هذا الأمر، وإجراء هذا القضاء حكمًا كثيرة، فالواجب على النبي - ﷺ - إذا عرض له أمر أن، في أحدهما رعاية جانب الحق، وفي الآخر رعاية جانب الخلق، أن يختار رعاية جانب الحق على الخلق، فإن للحق تعالى في إجراء حكم من أحكامه، وإصفاء أمر من أوامره حكمًا كثيرة، كما قال تعالى في إجراء تزويج النبي - ﷺ - بزينب قوله: ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي - ﷺ - وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد بن حارثة، وكان حريصًا على أن يطلقها زيد، فيتزوجها هو، ثم إن زيدًا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظة قول، وعصيان أمر، وأذًى باللسان، وتعظمًا بالشرف قال له: "اتق الله فيما تقول عنها، وأمسك عليك زوجك"، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. انتهى.
وحاصل معنى الآية: أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفقه للإسلام، وأنعمته عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك: أمسك عليك زوجك زينب، واتق الله في أمرها، ولا تطلِّقها ضرارًا، وتعللًا بتكبرها، وشموخًا بأنفها، فإن الطلاق يثنيها، وربما لا يجد بعدها خيرًا منها، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك؛ لتكون أسوةً لمن معك، ولمن يأتي بعدك، وإنما غلبك في ذلك الحيرة، وخشية أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه، فأنت تخفي في نفسك ما الله مبديه من الحكم الذي ألهمك، وتخاف من اعتراض الناس، والله الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه، فكان عليك أن
29
تمضي في الأمر قدمًا؛ تعجيلًا لتنفيذ كلمته، وتقرير شرعه.
ثم زاد الأمر بيانًا بقوله: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا﴾؛ أي: تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس، فلما قضى زيد من زوجته زينب وطرًا، ولم يبق له فيها حاجة، والمراد: قضى وبلغ وأتم وطره منها بنكاحها، والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة، وتقاصرت همته عنها، وطلقها وانقضت عدتها.
وفي "التأويلات" (١): أما وطر زيد منها في الصورة: استيفاء حظه منها بالنكاح، ووطره منها في المعنى: شهرته بين الخلق إلى قيام الساعة، بأن الله تعالى ذكره باسمه في القرآن، دون جميع الصحابة، وبأنه آثر النبي - ﷺ - على نفسه بإيثار زينب له.
وفي "الأسئلة المقحمة": كيف طلق زيد زوجته بعد أن أمر الله ورسوله بإمساكه إياها؟
والجواب: ما هذا الأمر للوجوب واللزوم، وإنما هو للاستحسان.
﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ يا محمد؛ أي: جعلناها زوجة لك، هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح، وهي بنت خمس وثلاثين سنة، والمراد: الأمر بتزويجها، أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد، ولا تقدير صداق، ولا شيء مما يعتبر في النكاح في حق أمته؛ أي: زوجناكها، ولم نحوجك إلى وليٍّ يعقد لك عليها تشريفًا لك ولها.
ويؤيده ما روى أنس رضي الله عنه: أنها كانت تفخر على سائر أزواج النبي - ﷺ -، وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات، وهو من خصائصه - ﷺ -.
وروي أنها لما اعتدت.. قال رسول الله لزيد: "ما أجد أحدًا أوثق في نفسي منك، اخطب عليَّ زينب"، قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمر عجينها، فقلت: يا زينب، أبشري، فإن رسول الله يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾، فزوجها رسول الله - ﷺ -
(١) المراغي.
30
ودخل، وما أوْلَم على امرأة من نسائه ما أوْلَم عليها، ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم، حتى امتد النهار، وجعل زيدٍ سفيرًا في خطبتها ابتلاء عظيم له، وشاهد على قوة إيمانه، ورسوخه فيه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ بنون العظمة، وقرأ جعفر بن محمد وابن الحنفية وأخواه الحسن والحسين وأبوهم علي: ﴿زوجتكها﴾ بتاء الضمير للمتكلم، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ﴾؛ أي: زوجناكها كيلا يكون فيما بعد ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾؛ أي: ضيق ومشقة وذنب ﴿فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾؛ أي: في تزوج زوجات الذين دعوهم أبناء، والأدعياء: جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنًا من غير ولادة. ﴿إِذَا قَضَوْا﴾؛ أي: إذا قضى الأدعياء ﴿مِنْهُنَّ﴾؛ أي: من زوجاتهم ﴿وَطَرًا﴾؛ أي: حاجة؛ أي: إذا لم يبق لهم فيهن حاجة، وطلقوهن، وانقضت عدتهن، فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة.
وفيه (٢) دليل على أن حكمه - ﷺ - وحكم الأمة سواء إلا ما خصه الدليل. قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبنَّى كحرمة الابن، فبيَّن الله تعالى أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبني، وإن أصابوهن؛ أي: وطؤوهن، بخلاف ابن الصلب، فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها، وكان النبي - ﷺ - قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال: زيد بن محمد، حتى نزل قوله سبحانه: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾.
والمعنى: أي فلما قضى زيد منها حاجته وملها، ثم طلقها.. جعلناها زوجًا لك لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين، ولا يجدوا في أنفسهم حرجًا من أن يتزوجوا نساءً كنَّ من قبلُ أزواجًا لأدعيائهم.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾؛ أي: ما يريد تكوينه من الأمور ﴿مَفْعُولًا﴾؛ أي: مكونًا موجودًا في الخارج لا محالة، لا يمكن دفعه لأحد، ولو كان نبيًا، كما كان تزويج زينب، وكانت كالعارية عند زيد؛ أي: كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله - ﷺ - قضاءً ماضيًا مفعولًا نافذًا لا محالة. قال بعضهم: في اعتقادنا أنَّ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
31
زينب بكر، كعائشة رضي الله عنهما؛ لأن زيدًا كان يعرف أنها حق النبي - ﷺ -، فلم يمسها، وذلك مثل آسية وزليخا، ويكفينا أنَّ ميله - ﷺ - إليها كان أكثر من غيرها، ولم تلد أيضًا، وكانت عائشة تقول في حق زينب: هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله - ﷺ -، ما رأيت امرأة قط خيرًا في الدين، وأتقى لله، وأصدق في حديث، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة من زينب.
ماتت بالمدينة سنة عشرين، وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنها، ودفنت بالبقيع، ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة، وأبدل الله منها لزيد جارية في الجنة، كما قال النبي - ﷺ -: "استقبلتني جارية لعساء، وقد أعجبتني، فقلت لها: يا جارية أنت لمن؟ قالت: لزيد بن حارثة. قوله: "استقبلتني"؛ أي: خرجت من الجنة، واستقبلته - ﷺ - بعد مجاوزة السماء السابعة ليلة المعراج، واللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلًا، وذلك مستملح، قاله في "الصحاح".
وأبدى السهيلي حكمة لذكر زيد باسمه في القرآن، هي أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾، وصار يقال له: زيد بن حارثة، ولا يقال له: زيد بن محمد، ونزع عنه هذا التشريف، وعلم الله وحشته من ذلك.. شرَّفه بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة، فصار اسمه يتلى في المحاريب، وزاد في الآية أن قال: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾؛ أي: بالإيمان، فدل على أنه من أهل الجنة، علم بذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى له رضي الله عنه.
٣٨ - ثم بيَّن الله سبحانه أنه لم يكن على رسول الله - ﷺ - حرج في هذا النكاح، فقال: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيّ﴾ - ﷺ - ﴿مِن﴾ زائدة لوقوعها بعد النفي ﴿حَرَجٍ﴾ اسم كان الناقصة؛ أي: ما صح ولا استقام في الحكمة أن يكون على النبي - ﷺ - حرج وضيق ﴿فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ﴾ وقسم وقدر له في علمه، كتزوج زينب؛ أي: ليس على النبي حرج وذنب ومنع فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه، بعد فراقه إياها.
ثم بين أن الرسول وسحونِ ليس بدعًا في الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري، فقال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾: منصوب على المصدرية بفعل محذوف مؤكد لما قبله من نفي الحرج؛ أي: سن الله سبحانه نفي الحرج سنةً؛ أي: جعله طريقة مسلوكة ﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا﴾؛ أي: مضوا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل النبي - ﷺ - من
الأنبياء؛ حيث وسع عليهم في باب النكاح وغيره، ولقد كان لداودٍ عليه الصلاة والسلام مئة امرأة، وثلاث مئة سرية، ولابنه سليمان عليه السلام ثلاث مئة امرأة، وسبع مئة سرية، فلك التوسعة في أمر النكاح مثل الأنبياء الماضين؛ أي: إن هذا هو السنن الأقدم في الأنبياء والأمم الماضية، أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره. أي: إن الله سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن، وفي هذا رد على اليهود الذين عابوه - ﷺ - وحاشاه بكثرة الأزواج.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: مأموره الذي قدره وحكمه وقضاه ﴿قَدَرًا مَقْدُورًا﴾؛ أي: قضاء مقضيًا، وحكمًا مبتوتًا كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو كقولهم: ظل ظليل، وليل أليل، في قصد التأكيد. قال مقاتل: أخبر الله أن أمر زينب كان من حكم الله وقدره. اهـ.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا قضى أمر نبي.. لم يجعل عليه في ذلك من حرج، ولا سبب نقصان، وإن كان في الظاهر سبب نقصان ما عند الخلق، والذي يجري على الأنبياء قضاء مبرم مبني على حكم كثيرة، وليس فيه خطأ، ولا غلط ولا عبث.
٣٩ - ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى، وإخلاص العبادة له، وتبليغ رسالته، فقال: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، والموصول صفة للذين خلوا، أو في محل الرفع على إضمارهم، أو في محل النصب على تقدير: أمدح.
وقرأ عبد الله: ﴿الذين بلغوا﴾ جعله فعلًا ماضيًا، وقرأ أبي ﴿رسالة الله﴾ على التوحيد، والجمهور: ﴿يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾ جمعًا.
والمراد بالرسالة: ما يتعلق بالرسالة، وهي سفارة العبد بين الله، وبين ذوي الألباب من خلقه؛ أي: إيصال الخبر من الله إلى العباد؛ أي: الذين يوصلون ما أمروا بتبليغه إلى الخلق.
﴿وَيَخْشَوْنَهُ﴾؛ أي: يخافونه في كل ما يأتون ويذرون، لا سيما في أمر تبليغ الرسالة؛ حيث لا يقطعون منها حرفًا، ولا تأخذهم لومة لائم ﴿وَلَا يَخْشَوْنَ﴾ في
33
تبليغ ما أمروا به ﴿أَحَدًا﴾ من خلقه؛ أي: تعيير أحدا، ولا لومه ﴿إِلَّا اللَّهَ﴾ سبحانه، وفي وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعريض (١) بما صدر عنه - ﷺ - من الاحتراز من لائمة الخلق بعد التصريح في قوله: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ...﴾ الآية. مدحهم سبحانه بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده، وخشيته في كل فعل وقول، ولا يخشون سواه، ولا يبالون بقول الناس، ولا بتعييرهم، بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه.
والمعنى (٢): أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعًا سنتهم، وسالكًا سبيلهم، هم الذين يبلِّغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم، ويخافون الله في تركهم تبليغ ذلك، ولا يخافون سواه.
والخلاصة: كن من أولئك الرسل الكرام، ولا تخشَ أحدًا غير ربك، فإنه يحميك ممن يريدك بسوءٍ، أو يمسك بأذى.
قال بعضهم: خشية الأنبياء من العتاب، وخشية الأولياء من الحجاب، وخشية عموم الخلق من العذاب. اهـ. وفي "الأسئلة المقحمة": كيف قال سبحانه: ﴿وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾، ومعلوم أنهم خافوا غير الله، وقد خاف موسى عليه السلام حين قال: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾، وكذلك قال يعقوب عليه السلام: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾، وكذلك خاف نبينا - ﷺ - حين قيل له: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، وكذلك أخبر الكتاب عن جماعة من الأنبياء أنهم خافوا أشياء غير الله؟
والجواب: أن معنى الآية: لا يعتقدون أنَّ شيئًا من المخلوقات يستقل بإضرارهم، ويستبد بإيذائهم دون إرادة الله ومشيئته؛ لما يعلمون أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره، فأراد بالخوف هنا خوف العقيدة والعلم واليقين، لا خوف البشرية الذي هو من الطباع الخلقية، وخواص البشرية، ونتائج الحيوانية.
﴿وَكَفَى بِاللَّه﴾ سبحانه ﴿حَسِيبًا﴾؛ أي: محاسبًا لعباده على أعمالهم، فينبغي أن يحاسب العبد نفسه قبل محاسبة الله إياه، ولا يخاف غير الله، لا في أمر النكاح، ولا في غيره، إذا علم أن رضي الله وحكمه فيه.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
34
واعلم: أن السواك والتعطر والنكاح ونحوها من سنن الأنبياء عليهم السلام، وليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن، ثم تستمر تلك العبادة في الجنة إلا الإيمان والنكاح، وقيل: المعنى: وكفى الله ناصرًا ومعينًا وحافظًا لأعمال عباده، ومحاسبًا لهم عليها، أو المعنى: وكفى بالله حاضرًا في كل مكان، يكفي عباده كل ما يخافونه.
٤٠ - ولما تزوج النبي - ﷺ - زينب.. قال الناس: تزوج محمد امرأة ابنه، فأنزل الله سبحانه: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ﴾ - ﷺ - بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. والمختار: أنه لا يشترط في الإِسلام معرفة أب النبي - ﷺ - واسم جده، بل يكفي فيه معرفة اسمه الشريف، كما في "هداية المريدين"، يقال: فلان محمود، إذا حمد، ومحمد: إذا كثرت خصاله المحمودة، كما في "المفردات". قال زكريا في "شرح المقدمة الجزرية": هو البليغ في كونه محمودًا، وهو الذي حمدت عقائده وأفعاله وأقواله وأخلاقه، سماه به جده عبد المطلب بإلهام من الله سبحانه في سابع ولادته، فقيل له: لِمَ سميت محمدًا، وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ فقال: رجوت أن يحمد في السماء والأرض، وقد حقق الله رجاءَه وتفاؤله.
﴿أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾؛ أي (١): ليس باب لزيد بن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب لأحد لم يلده. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له من الذكور من خديجة ثلاثة: القاسم، والطيب، والطاهر، وماتوا صغارًا لم يبلغ أحد منهم الحلم، وولد له إبراهيم من مارية القبطية، ومات رضيعًا، وولد له من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، والثلاث الأول متن في حياته - ﷺ -، وماتت فاطمة بعد أن قبض - ﷺ - إلى الرفيق الأعلى بستة أشهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلًا. قال: وأما الحسن والحسين، فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له - ﷺ -.
ولا ينتقض عموم أحد في قوله: ﴿أَبَا أَحَدٍ﴾ بكونه أبًا للطاهر والقاسم وإبراهيم؛ لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال؛ لأن الرجل هو الذكر البالغ من بني آدم، ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم، وكذا الحسن والحسين، كما مر آنفًا.
﴿وَلَكِنْ﴾ كان محمد - ﷺ - ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾؛ أي: رسولًا من رب العالمين إلى
(١) روح البيان.
35
كافة الثقلين ﴿وَ﴾ كان ﴿خَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾؛ أي: وكان آخرهم الذي ختموا به.
والمعنى (١): أي ما كان لك أن تخشى أحدًا من الناس بزواج امرأة متبناك، لا ابنك، فإنك لست أبًا لأحد من الناس، ولكنك رسول الله في تبليغ رسالته إلى الخلق، فأنت أب لكل فرد من الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم، كما هو دأب كل رسول مع أمته.
وخلاصة ذلك: ليس محمد باب لأحد منكم أبوة شرعية، يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، ولكنه أب للمؤمنين جميعًا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه، كما أن عليه أن يشفق عليهم، ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم في المعاش والمعاد، وما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وفي "فتح الرحمن": قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ...﴾ إلخ. هو (٢) جواب سؤال مقدر تقديره: أمحمد أبو زيد بن حارثة؟.
فأجيب: بنفي الأعم المستلزم لنفي الأخص؛ إذ لو اقتصر على قوله: ما كان محمد أبا زيد، لقيل: وماذا يلزم منه، فقد كان للأنبياء أبناء، فجيء بنفي الأعم تمهيدًا للاستدراك بأنه رسول الله، وخاتم النبيين
وإن قلتَ: كيف صح نفي الأبوة عنه، وكان أبًا للطيب والطاهر والقاسم وإبراهيم؟
قلت: قد قيد النفي بقوله: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾؛ لأن إضافة الرجال إلى المخاطبين تخرج أبناءه؛ لأنهم رجاله لا رجالهم، ولأن المفهوم منهم بقرينة المقام الرجال البالغون، وأبناؤه ليسوا كذلك، إذ لو كان له ابن بالغ، لكان نبيًا، فلا يكون هو خاتم النبيين.
فإن قلت: كيف قال تعالى: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، وعيسى عليه السلام ينزل بعده وهو نبي؟
قلتُ: معنى كونه خاتم النبيين: أنه لا ينبَّأ أحد بعده، وعيسى نبي قبله، وحين ينزل كان عاملًا بشريعة محمد - ﷺ -.
(١) المراغي.
(٢) فتح الرحمن.
36
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ بتخفيف ﴿لكن﴾ ﴿رَسُولَ﴾ على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه. قيل: أو على العطف على ﴿أَبَا أَحَدٍ﴾، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالتشديد، والنصب على أنه اسم لكن، والخبر محذوف، تقديره: ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو؛ أي: محمد - ﷺ -، وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه دليل، كقول الشاعر:
فَلَوْ كُنْتُ ظَبْيًا مَا عَرَفْتَ قَرَابَتِيْ وَلَكِنَّ زِنْجِيًّا عَظِيْمَ الْمَشَافِرِ
أي: أنت لا تعرف قرابتي، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بالتخفيف ورفع رسول الله وخاتم النبيين. أي: ولكن هو رسول الله. وقرأ الجمهور: ﴿وَخَاتَمَ﴾ بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم؛ أي: جاء آخرهم، وقرأ الحسن والشعبي وزيد بن علي والأعرج بخلاف عنه، وعاصم: بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم الذي يتختمون به، ويتزينون بكونه منهم، وقيل: كسر التاء وفتحها لغتان، قال أبو عبيد: الوجه الكسر، لأن التأويل أنه ختمهم، فهو خاتمهم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الموجودات ﴿عَلِيمًا﴾؛ أي: عالمًا. ومن جملة معلوماته هذه: الأحكام المذكورة هنا، وأنه لا نبي بعده، فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة، وكيف ينبغي لشأنه، ولا يعلم أحد سواه ذلك.
والخلاصة: أنه سبحانه يعلم من الأجدر بالبدء به من الأنبياء، ومن الأحق بأن يكون خاتمهم، ويعلم المصالح في ذلك، ونحو الآية قوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (٢): هي نص على أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده.. فلا رسول بطريق الأولى، والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس. وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله - ﷺ -، فمن رحمة الله بالعباد إرسال محمد إليهم، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له. وقد أخبر الله في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة، عن: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادَّعى هذا
(١) البحر المحيط.
(٢) ابن كثير.
37
المقام بعده كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى سبحانه على يدي الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة، والأقوال الباردة.
٤١ - ثم أمر سبحانه عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير، وبكل ما هو ذكر لله تعالى، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، وصدَّقوهما ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ سبحانه بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ﴿ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ في (١) جميع الأوقات ليلًا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، وفي عموم الأمكنة برًا وبحرًا، سهلًا وجبلًا، وفي كل الأحوال حضرًا وسفرًا، صحة وسقمًا، سرًا وعلانيةً، قيامًا وقعودًا، وعلى الجنوب، وفي الطاعة بالإخلاص، وسؤال القبول والتوفيق، وفي المعصية بالامتناع منها، وبالتوبة والاستغفار، وفي النعمة بالشكر، وفي الشدة بالصبر، فإنه ليس للذكر حد معلوم كسائر الفرائض، ولا لتركه عذر مقبول إلا أن يكون المرء مغلوبًا على عقله.
ثم إن ذكر الله، وان كان يشمل الصلاة والتلاوة والدراسة ونحوها، إلا أن أفضل الأذكار: لا إله إلا الله، فالاشتغال به منفردًا، ومع الجماعة محافظًا على الآداب الظاهرة والباطنة ليس كالاشتغال بغيره.
وقال بعضهم: الأمر بالذكر الكثير إشارة إلى محبة الله تعالى، يعني: أحبوا الله؛ لأن النبي - ﷺ - قال: "من أحب شيئًا أكثر من ذكره". وقال مجاهد: الذكر الكثير: أن لا ينساه أبدًا، وقال الكلبي: الذكر الكثير بالصلوات الخمس.
٤٢ - وقال مقاتل: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال. ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾؛ أي: نزهوه تعالى عما لا يليق به ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾؛ أي: أول النهار وآخره، وقد يذكر الطرفان، ويفهم منهما الوسط، فيكون المراد: سبحوه في جميع الأوقات خصوصًا في الوقتين المذكورين المفضلين على سائر الأوقات؛ لكونهما مشهودين على ما دل قوله عليه الصلاة والسلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل
(١) روح البيان.
وملائكة بالنهار"، وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب التسبيح فيهما، وخص التسبيح بالذكر بعد دخوله تحت عموم قوله: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ تنبيهًا على مزيد شرفه، وإنافة ثوابه على غيره من الأذكار، وقيل: أفرد التسبيح بالذكر من بين الأذكار؛ لكونه العمدة فيها من حيث إنه من باب التخلية.
وفي الحديث: "أربع لا يمسك عنهن جنب: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" فإذا قالها الجنب.. فالمحدث أولى، فلا منع من التسبيح على جميع الأحوال إلا أن الذكر على الوضوء والطهارة من آداب الرجال. وقيل: المراد بالتسبيح بكرة: صلاة الفجر، وبالتسبيح أصيلًا: صلاة المغرب، وقال قتادة وابن جرير: المراد: صلاة الغداة وصلاة العصر، وقال الكلبي: أما بكرة: فصلاة الفجر، وأما أصيلًا: فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وقيل (١): خص البكرة والأصيل بالذكر: لأن وقت البكرة وقت القيام من النوم، وهو يُعَدُّ كأنه حياة جديدة بعد موت، ووقت الأصيل: وقت الانتهاء من العمل اليومي، فيكون الذكر شكرًا له على توفيقه لأداء الأعمال، والقيام بالسعي على الأرزاق، فلم يبق إلا السعي إلى ما يقربه من ربه بالعمل للآخرة.
٤٣ - ثم ذكر السبب في هذا الذكر والتسبيح، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: إن ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير، وتسبحونه بكرةً وأصيلًا هو الإله الذي يصلي عليكم، ويرحمكم، ويثني عليكم في الملأ الأعلى، ويعتني بكم بالرحمة والمغفرة والتزكية ﴿و﴾ تصلي عليكم ﴿ملائكته﴾؛ أي: تستغفر لكم ملائكته؛ أي: هو الذي يصلي عليكم، ويأمر ملائكته بالدعاء والاستغفار لكم، و ﴿هُوَ﴾ (٢) معطوف على المستكن في ﴿يُصَلِّي﴾ لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل.
فالمراد بالصلاة: المعنى المجازي الشامل للرحمة والاستغفار، وهو الاعتناء بما فيه خيرم، وصلاح أمرهم، فلا يجوز أن يراد بالصلاة أولًا الرحمة، والاستغفار ثانيًا، فإن استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين مما لا مساغ له، بل على أن يراد بها معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردًا له حقيقيًا، وهو
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الاعتناء بما فيه خيرهم وصلاح أمرهم، فإن كلًّا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له. اهـ "أبو السعود".
فالله يهديكم برحمته، والملائكة يستغفرون لكم، وفي هذا من التحريض على ذكره، والتسبيح له ما لا يخفى. واللام في قوله: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُصَلِّي﴾؛ أي: يصلي عليكم ليخرجكم الله سبحانه بتلك الصلاة والعناية، وإنما لم يقل: ليخرجاكم؛ لئلا يكون للملائكة منة عليهم بالإخراج، ولأنهم لا يقدرون على ذلك؛ لأن الله هو الهادي في الحقيقة لا غير؛ أي: يعتني هو وملائكته بأموركم ليخرجكم ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾؛ أي: من ظلمات المعاصي ﴿إِلَى النُّورِ﴾؛ أي: إلى نور الطاعات، ومن ظلمة الضلالة إلى نور الهدى، جمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر، وأفرد الثاني لأن الإيمان شيء واحد لا تعدد فيه. اهـ شيخنا". أي: ليخرجكم بسبب رحمته، ودعاء الملائكة من ظلمات الجهل والشرك والمعصية والشك والضلالة والبشرية وصفاتها، إلى نور العلم والتوحيد والطاعة واليقين والهدى والروحانية وصفاتها.
ومعنى الآية (١): تثبيت المؤمنين على الهداية، ودوامهم عليها؛ لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية، ثم أخبر سبحانه برحمته للمؤمنين تأنيسًا لهم، وتثبيتًا فقال: ﴿وَكَانَ﴾ سبحانه في الأزل قبل إيجاد الملائكة المقربين ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: بكافتهم قبل وجدانهم العينية ﴿رَحِيمًا﴾؛ولذلك فعل بهم ما فعل من الاعتناء بصلاحهم بالذات وبواسطة الملائكة، فلا تتغير رحمته بتغير أحوال من سعد في الأزل، وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها.
والمعنى (٢): أي إنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وكان رحيمًا بالمؤمنين في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصَّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر، وأما الآخرة: فإنه آمنهم من الفزع الأكبر،
٤٤ - وأمر الملائكة أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾؛ أي: تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنة هي: التسليم عليهم منه عز وجل.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
40
وقيل: المراد: تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم: سلام، وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيمًا، فلما شملتهم رحمته، وأمنوا من عقابه.. حيَّا بعضهم بعضًا سرورًا واستبشارًا، والمعنى: سلامة لنا من عذاب النار.
قال الزجاج: المعنى: فيسلمهم الله من الآفات، ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه.
والإضافة (١) في ﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾ من إضافة المصدر إلى المفعول، والضمير عائد على المؤمنين، والضمير في ﴿يَلْقَوْنَهُ﴾ عائد على الله سبحانه؛ أي: ما يحيون به يوم يلقون الله سبحانه عند الموت، أو عند البعث من القبور، أو عند دخول الجنة: سلام؛ أي: تسليم من الله تعالى عليهم تعظيمًا لهم، أو تسليم من الملائكة بشارة لهم بالجنة، أو تكرمة لهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾، أو إخبارًا بالسلامة من كل مكروه وآفة وشدة.
وقيل: الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم، كما ورد أنه لا يقبض روح كل مؤمن إلا سلم عليه، وعن أنس رضي الله عنه: "إذا جاء ملك الموت إلى وليِّ الله سلَّم عليه، وسلامه عليه أن يقول: السلام عليك يا وليَّ الله، قم فأخرج من دارك التي خربتها إلى دارك التي عمرتها، فإذا لم يكن وليًا لله قال له: قم فأخرج من دارك التي عمرتها إلى دارك التي خربتها"...
قال بعضهم: عمارة الدنيا: بزرع الحبوب، وتكثير القوت، وجري الأنهار، وغرس الأشجار، ورفع أبنية الدور، وتزيين القصور، وعمارة الآخرة: بالأذكار، والأعمال، والأخلاق، والأحوال. اهـ.
﴿وَأَعَدَّ﴾ الله سبحانه ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للمؤمنين في الجنة، وهيأ لهم ﴿أَجْرًا كَرِيمًا﴾؛ أي؛ ثوابًا حسنًا دائمًا مما تشتهيه أنفسهم، وتلذه أعينهم، وهو نعيم الجنة، وهو بيان لآثار رحمته الفائضة عليهم عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك. وإيثار الجملة الفعلية دون وأجرهم أجر كريم ونحوه؛ لمراعاة الفواصل، وفيه إشارة إلى سبق العناية الأزلية في حقهم؛ لأن في الإعداد تعريفًا بالإحسان السابق،
(١) روح البيان.
41
والأجر الكريم ما يكون سابقًا على العمل، بل يكون العمل من نتائج الكرم.
ثم هذه الآية من أكبر نعم الله على هذه الأمة، ومن أدل دليل على أفضليتها على سائر الأمم، والمعنى: أي (١): وهيأ لهم ثوابًا حسنًا في الآخرة، يأتيهم بلا طلب بما يتمتعون به من لذات المآكل والمشارب والملابس والمساكن، في فسيح الجنات، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الإعراب
﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (٣١)﴾.
﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَقْنُتْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾ مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْكُنَّ﴾ حال من فاعل ﴿يَقْنُتْ﴾. ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْنُتْ﴾، ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة، وذكر الضمير في ﴿مَن﴾ نظرًا للفظ. ﴿وَتَعْمَلْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾، معطوف على ﴿يَقْنُتْ﴾ وأنث الضمير هنا نظرًا إلى معنى ﴿مَن﴾. ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به. ﴿نُؤْتِهَا﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول مجزوم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة. ﴿أَجْرَهَا﴾: مفعول ثان لآتى؛ لأنه بمعنى: أعطى. ﴿مَرَّتَيْنِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لنيابته عن المصدر؛ لأنه بمعنى: إتياءتين، أو منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿نُؤْتِهَا﴾، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ﴾. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم، معطوف على ﴿نُؤْتِهَا﴾ على كونها جواب ﴿من﴾ الشرطية. ﴿لَهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَعْتَدْنَا﴾. ﴿رِزْقًا﴾: مفعول به. ﴿كَرِيمًا﴾: صفة ﴿رِزْقًا﴾.
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾.
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾: منادى مضاف، معطوف بعاطف مقدَّر على المنادى السابق.
(١) المراغي.
42
﴿لَسْتُنَّ﴾: فعل ناقص واسمه، مبني على السكون؛ لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء ضمير لجماعة الإناث المخاطبات في محل الرفع اسمها، والنون علامة جمع الإناث. ﴿كَأَحَدٍ﴾: خبر ﴿لَسْتُنَّ﴾. ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾: صفة لـ ﴿أحد﴾. وجملة ليس جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنِ﴾: حرف شرط. ﴿اتَّقَيْتُنَّ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنِ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع، ومفعول التقوى محذوف، تقديره: إن اتقيتن الله، وجواب ﴿إِنِ﴾ الشرطية محذوف، تقديره: فإنكن أعظم أجرًا من غيركن، وجملة ﴿إِنِ﴾ الشرطية مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتن أنكن لستن كأحد من النساء، وأردتن بيان ما هو اللائق لمنصبكن.. فأقول لكن: لا تخضعن. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَخْضَعْنَ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ويجوز أن تكون الفاء رابطة الجواب، وجملة ﴿لا تخضعن﴾ في محل جزم بـ ﴿إِنِ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها ﴿بِالْقَوْلِ﴾، متعلق بـ ﴿تَخْضَعْنَ﴾، أو حال من ضمير الفاعل؛ أي: لا تلن حال كونكن متلبسات بالقول.
﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.
﴿فَيَطْمَعَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية ﴿يطمع﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. ﴿الَّذِي﴾: فاعل. ﴿فِي قَلْبِهِ﴾: خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن منكن خضوع بالقول، فطمع الذي في قلبه مرض. ﴿وَقُلْنَ﴾: الواو: عاطفة. ﴿قلن﴾: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل. ﴿قَوْلًا﴾: مفعول مطلق مبين للنوع. ﴿مَعْرُوفًا﴾: صفة ﴿قَوْلًا﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ﴾.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ
43
الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (٣٣)}.
﴿وَقَرْنَ﴾: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قلن﴾. ﴿في يوتكن﴾: متعلق بـ ﴿قرن﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَبَرَّجْنَ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة في محل الرفع فاعل. ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾: مفعول مطلق مبيِّن للنوع ﴿الْأُولَى﴾: صفة للجاهلية، والجملة معطوفة على جملة ﴿قرن﴾. ﴿وَأَقِمْنَ﴾: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قرن﴾. ﴿الصَّلَاةَ﴾: مفعول به. ﴿وَآتِينَ الزَّكَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ما قبله. ﴿وَأَطِعْنَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ما قبله عطف عام على خاص. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿إِنَّمَا﴾: كافة ومكفوفة. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل جميع ما قبلها. ﴿لِيُذْهِبَ﴾ ﴿اللام﴾: لام كي. ﴿يذهب﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿عَنْكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿يذهب﴾. ﴿الرِّجْسَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: إنما يريد الله لإذهاب الرجس عنكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُرِيدُ﴾، واللام زائدة في المعنى؛ أي: إنما يريد الله إذهاب الرجس عنكم ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾: منصوب على الاختصاص؛ أي: أخصَّ أهل البيت، أو منصوب على أنه منادى مضاف حذف منه حرف النداء. ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به معطوف على ﴿يذهب﴾. ﴿تَطْهِيرًا﴾: مفعول مطلق.
﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (٣٤)﴾.
﴿وَاذْكُرْنَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿اذكرن﴾: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قرن﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿يُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل يعود على ﴿مَا﴾. ﴿فِي بُيُوتِكُنَّ﴾: متعلق بـ ﴿يُتْلَى﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول. {مِنْ آيَاتِ
44
اللَّهِ}: حال من نائب فاعل ﴿يُتْلَى﴾. ﴿وَالْحِكْمَةِ﴾: معطوف على ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿لَطِيفًا﴾: خبر أول لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿خَبِيرًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥)﴾.
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ معطوف على ﴿الْمُسْلِمِينَ﴾، وكذا قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ﴾: معطوفات على ﴿الْمُسْلِمِينَ﴾ على كونها اسمًا لـ ﴿إِنَّ﴾ المكسورة. ﴿فُرُوجَهُمْ﴾: مفعول ﴿الحافظين﴾. ﴿وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ﴾: معطوفان على اسم ﴿إِنَّ﴾ المكسورة، ولفظ ﴿اللَّهَ﴾: مفعول ﴿الذاكرين﴾. ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول مطلق لـ ﴿الذاكرين﴾؛ لأنه صفة مصدر محذوف، أي: ذكرًا كثيرًا. ﴿وَالذَّاكِرَاتِ﴾: معطوف أيضًا على اسم ﴿إِنَّ﴾. ﴿أَعَدَّ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدَّ﴾. ﴿مَغْفِرَةً﴾: مفعول به لـ ﴿أَعَدَّ﴾. ﴿وَأَجْرًا﴾: معطوف على ﴿مَغْفِرَةً﴾. ﴿عَظِيمًا﴾: صفة ﴿أَجْرًا﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لِمُؤْمِنٍ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها. ﴿وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾: معطوفة عليه. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿قَضَى اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿وَرَسُولُهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾. ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به لقضى،
45
﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿أَنْ﴾. ﴿لَهُمُ﴾: خبر مقدم لـ ﴿يَكُونَ﴾. ﴿الْخِيَرَةُ﴾: اسم ﴿يَكُونَ﴾ مؤخر. ﴿مِنْ أَمْرِهِمْ﴾: حال من ﴿الْخِيَرَةُ﴾، أو متعلق بـ ﴿الْخِيَرَةُ﴾، وتكون ﴿مِن﴾ بمعنى: في، وجملة ﴿يَكُونَ﴾ مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان، والتقدير: ما كان كون الخيرة في أمرهم كائنًا لمؤمن ولا مؤمنة وقت قضاء الله سبحانه، ورسوله - ﷺ - أمرًا في شؤونهم، وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة مسوقة لبيان قصة زينب بنت جحش، وزوجها زيد بن حارثة. ﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَعْصِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾ الشرطية مجزوم بحذف حرف العلة. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف عليه. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ الشرطية. ﴿ضَلَالًا﴾: مفعول مطلق. ﴿مُبِينًا﴾: صفته، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾.
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان. ﴿تَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿لِلَّذِي﴾: متعلق بـ ﴿تَقُولُ﴾، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾، أو مستأنفة. ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾: معطوف على ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ﴾. ﴿أَمْسِكْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على زيد بن حارثة، والجملة في محل نصب مقول ﴿تَقُولُ﴾. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَمْسِكْ﴾، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: على نفسك. ﴿زَوْجَكَ﴾: مفعول به، ﴿وَاتَّقِ اللَّهَ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿أَمْسِكْ﴾. ﴿وَتُخْفِي﴾: ﴿الواو﴾: حالية أو عاطفة. ﴿تخفي﴾: فعل مضارع، وفاعل
46
مستتر يعود على محمد. ﴿فِي نَفْسِكَ﴾: متعلق بـ ﴿تخفي﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تَقُولُ﴾، أو معطوفة على جملة ﴿تَقُولُ﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تخفي﴾. ﴿اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾: فعل، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تخفي﴾، أو معطوفة عليه. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿أَحَقُّ﴾: خبره. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿تَخْشَاهُ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدل اشتمال من لفظ الجلالة، والتقدير: والله خشيته أحق وأولى من خشية الناس، أو منصوب بنزع الخافض المتعلق بـ ﴿أَحَقُّ﴾، تقديره: والله أحق بخشيته من خشية الناس، وجوز أبو البقاء أن يكون ﴿أَنْ تَخْشَاهُ﴾: مبتدأ، و ﴿أَحَقُّ﴾: خبره مقدم عليه، والجملة خبر عن لفظ الجلالة، والجملة الاسمية على جميع التقادير حال من فاعل ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾. ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿قَضَى زَيْدٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿قَضَى﴾. ﴿وَطَرًا﴾: مفعول ﴿قَضَى﴾. ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب ﴿لمّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لمّا﴾ مستأنفة. ﴿لكي﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿كي﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿كي﴾. ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: خبر ﴿يَكُونَ﴾ مقدم على اسمها. ﴿حَرَجٌ﴾: اسم ﴿يَكُونَ﴾ مؤخر. ﴿فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿حَرَجٌ﴾، وجملة ﴿يَكُونَ﴾ مع ﴿كي﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ على أنه تعليل للتزويج؛ أي: زوجناكها لرفع حرج كائن على المؤمنين في حرمة أزواج أدعيائهم عليهم. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. ﴿قَضَوْا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْهُنَّ﴾: متعلق بـ ﴿قَضَوْا﴾. ﴿وَطَرًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾. والظرف متعلق بـ ﴿يَكُونَ﴾ ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معترضة، أو معطوفة على جملة ﴿لمّا﴾.
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ
47
أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)}.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَى النَّبِيِّ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم. ﴿مِن﴾: زائدة. ﴿حَرَجٍ﴾: اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور صفة ﴿حَرَجٌ﴾، وجملة ﴿فَرَضَ اللَّهُ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: فرضه الله. ﴿له﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرَضَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة مسوقة لنفي الحرج في زواجه - ﷺ - بزينب. ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: سن الله له ذلك؛ أي: كثرة النساء سنة الذين خلوا من قبل، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: كسنة الله في الأنبياء الذين خلوا من قبل. ﴿فِي الَّذِينَ﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾؛ أي: حالة كونها متبعة في الذين خلوا، وجملة ﴿خَلَوْا﴾ صلة الموصول. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَوْا﴾. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿قَدَرًا﴾: خبره. ﴿مَقْدُورًا﴾: صفة لازمة له للتأكيد كيوم أيوم، وليل أليل، وظل ظليل. وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة.
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ بدل من الموصول الأول، أو صفة له، أو في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين ﴿يُبَلِّغُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾: مفعول به. ﴿وَيَخْشَوْنَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿يُبَلِّغُونَ﴾. ﴿وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿اللَّهَ﴾: مستثنى من ﴿أَحَدًا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يخشون﴾. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾: فعل وفاعل، والباء زائدة. ﴿حَسِيبًا﴾: حال أو تمييز، والجملة مستأنفة.
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢)﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ مُحَمَّدٌ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿أَبَا أَحَدٍ﴾: خبره منصوب بالألف. ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾: صفة لـ ﴿أَحَدٍ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة، ﴿وَلَكِنْ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك مهمل لكونها مخففة. ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾: معطوف على ﴿أَبَا أَحَدٍ﴾، ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾: معطوف على ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾، أو خبر
48
لكان المحذوفة لدلالة السابقة عليها؛ أي: ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمًا﴾. ﴿عَلِيمًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ﴾. ﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿ذِكْرًا﴾: مفعول مطلق مؤكد لعامله. ﴿كَثِيرًا﴾: صفته. ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿اذْكُرُوا﴾. ﴿بُكْرَةً﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿سبحوه﴾. ﴿وَأَصِيلًا﴾: معطوف على ﴿بُكْرَةً﴾.
﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (٤٤)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر. ﴿يُصَلِّي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر صلة الموصول. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُصَلِّي﴾، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالذكر والتسبيح. ﴿وَمَلَائِكَتُهُ﴾: معطوف على الضمير المستكن في ﴿يُصَلِّي﴾. ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يخرجكم﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿يخرج﴾، وكذا قوله: ﴿إِلَى النُّورِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإخراجه إياكم من الظلمات إلى النور، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُصَلِّي﴾. ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾: ﴿وَكَانَ﴾: فعل ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على الله. ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿رَحِيمًا﴾. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر كان، وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة. ﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾: مبتدأ، والهاء: مضاف إليه، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: يحيون يوم لقائه بسلام. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، وجملة ﴿يَلْقَوْنَهُ﴾ مضاف إليه للظرف، والظرف متعلق بمحذوف حال من ضمير الغائبين. ﴿سَلَامٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان ما أعد لهم في الآخرة، ﴿وَأَعَدَّ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدَّ﴾، ﴿أَجْرًا﴾: مفعول به. ﴿عَظِيمًا﴾: صفة ﴿أَجْرًا﴾. والله أعلم.
49
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَنْ يَقْنُتْ﴾ قال الراغب القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع.
﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ والإعتاد: التهيئة من العتاد، وهو العدة. قال الراغب: الإعتاد: ادِّخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد، وقيل: أصله أعددنا، فأبدلت الدال تاء فرارًا من توالي مثلين.
﴿رِزْقًا كَرِيمًا﴾ قال الراغب في "المفردات": كل شيء يشرف في بابه، فإنه كريم.
﴿كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ وأصل أحد: وحد بمعنى: الواحد، قلبت واوه همزةً على خلاف القياس، ثم وضع في النفي العام مستويًا فيه المذكر والمؤنث، والواحد والكثير، كما قاله الزمخشري. وفي "الإتقان": قال أبو حاتم: أحد: اسم أكمل من الواحد، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان، بخلاف قولك: لا يقوم له أحد، وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد، تقول: ليس في الدار أحد، فيكون قد شمل عموم المخلوقين من الدواب والطير الوحشي والأنسي، فيعم الناس وغيرهم، بخلاف قولك: ليس في الدار واحد، فإنه مخصوص بالآدميين دون غيرهم، قال: ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الواحد، فيستعمل في الإثبات والنفي، نحو: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾؛ أي: واحد، و ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)﴾، و ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾، "ولا فضل لأحدٍ على أحد". واحد: يستعمل في المذكر والمؤنث، قال تعالى: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ بخلاف الواحد، فلا يقال: كواحد من النساء، بل كواحدة. قلت: ولهذا وصف به في قوله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)﴾ بخلاف الواحد، والأحد: له جمع من لفظه، وهو الأحدون والآحاد، وليس للواحد جمع من لفظه، فلا يقال: واحدون، بل اثنان وثلاثة، والأحد ممتنع الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب بخلاف الواحد.
﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ والخضوع: التطامن والتواضع والسكون، والمرأة مأمورة بالغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب.
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ قرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف في المضارع بناء
50
على أنه من باب علم، وأصله: اقررن، نقلت حركة الراء الأولى إلى القاف، وحذفت لالتقاء الساكنين، ثم حذفت همزة الوصل استغناءً عنها بحركة القاف المنقولة من الراء، فصار: قرن، ووزنه الحالي: فَلْنَ، والأصل: افعلن، وقرأ الباقون ﴿قرن﴾ بكسر القاف لما أنه أمر من وقر يقر كوعد يعد وقارًا، إذا ثبت وسكن، وأصله: أوقرن، فحذفت الواو تخفيفًا، ثم الهمزة استغناءً عنها بحركة القاف، فصار: قرن، ووزنه الحالي: علن، أو من قر يقر بكسر القاف في المضارع؛ لأنه من باب ضرب، فأصله: اقررن، نقلت كسرة الراء إلى القاف، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فاستغني عن همزة الوصل، فصار: قرن، ووزنه الحالي: فلن.
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾ بترك إحدى التاءين، وأصله: تتبرجن؛ أي: لا تتبخترن في مشيكن. وفي "القاموس": تبرجت المرأة: أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب. انتهى.
قال الراغب: يقال: ثوب متبرج: صُوِّر عليه بروج، واعتبر حسنه، فقيل: تبرجت؛ أي: تشبهت به في إظهار الزينة والمحاسن للرجال؛ أي: مواضعها الحسنة، وأصل التبرج صعود البرج، وذلك أن من صعد البرج ظهر لمن نظر إليه، قاله أبو علي. انتهى. وقيل: تبرجت المرأة: ظهرت من برجها؛ أي: من قصرها، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾، كما في "المفردات".
﴿الْجَاهِلِيَّةِ﴾: هي حالة الجهل بالله، والوثنية في بلاد العرب قبل الإِسلام، أو الزمن الذي تقدمه، وأصح ما قيل في الجاهلية: أنهما جاهليتان: أولى، وأخيرة. فالأولى: هي القديمة، ويقال لها: الجاهلية الجهلاء، وهي تمتد إلى أبعد الآماد، والجاهلية الأخيرة: تمتد من منتصف القرن الخامس الميلادي، وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي في منتصف الطريق تعرض نفسها على الرجال، فنهين عن ذلك.
﴿الرِّجْسَ﴾ الرجس في الأصل: الشيء القذر، والمراد به هنا: الذنب المدنس للعرض، وعرض الرجل: جانبه الذي يصونه.
﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ قال الراغب: أهل الرجل: من يجمعه وإياهم نسب أو دين، أو
51
ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد وضيعة، فأهل الرجل في الأصل: من يجمعه وإياهم مسكن واحد، ثم تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب، وتعورف في أسرة النبي - ﷺ - مطلقًا إذا قيل: أهل البيت، يعني: أهل البيت متعارف في آل النبي - ﷺ - من بني هاشم.

فصل في إجمال أسماء زوجاته - ﷺ -


قال ابن الكلبي: إن النبي - ﷺ - تزوج خمس عشرة امرأةً، ودخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، وتوفي عن تسع، وقد جمع أحمد المرزوقي هذه التسعة بقوله:
عَائشَةٌ وَحَفْصَةٌ وَسَوْدَهْ صفِيَّةٌ مَيْمُوْنَةٌ وَرَمْلَهْ
هِنْدٌ وَزَيْنَبٌ كَذَا جُوَيْرِيَّهْ لِلْمُومِنِيْنَ أُمَّهَاتٌ مَرْضِيَّه
١ - خديجة بنت خويلد، وكانت قبله تحت عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ومات عنها، وتزوجها بعده أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي، فولدت له هند، ثم مات عنها، وتزوجها بعده النبي - ﷺ -، فولدت له ثمانية: القاسم، والطيب، والطاهر، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. فأما الذكور: فماتوا وهم صغار، وأمَّا الإناث فبلغن ونكحن وولدن، ولم يتزوج على خديجة أحدًا، وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين.
و٣ - سودة بنت زمعة، وقيل: عائشة، وكانت بنت ست سنين، فدخل بها في المدينة وهي ابنة تسع، ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وماتت سنة ثمان وخمسين، وأما سودة: فكانت امرأة ثيبًا، وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس، ومات عنها، فخلف عليها رسول الله، ودخل بها بمكة.
٤ - حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله تحت خميس بن حذافة السهمي، وكان بدريًا، وماتت بالمدينة في خلافة عثمان.
٥ - أم سلمة ابنة أبي أمية المخزومية، وكانت قبله تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، شهد بدرًا، وأصابته جراحة يوم أحد فمات عنها، فتزوجها
52
رسول الله - ﷺ - قبل الأحزاب.
٦ - زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، ويقال لها: أم المساكين، وتوفيت في حياته، ولم يمت غيرها وغير خديجة في حياته - ﷺ -، وكانت زينب قبله تحت الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب.
٧ - جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق، وكانت تحت مالك بن صفوان.
٨ - أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش، وكانت من مهاجرة الحبشة، فتنصر ومات بها، فأرسل رسول الله - ﷺ - إلى النجاشي، فخطبها عليه وتزوجها، وهي بالحبشة، وساق النجاشي المهر لها عن رسول الله، وماتت في خلافة أخيها معاوية.
٩ - زينب بنت جحش، كما سبقت قصتها.
١٠ - صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها الرسول - ﷺ - عام خيبر.
١١ - ميمونة ابنة الحارث الهلالية، وكانت قبله تحت عمير بن عمرو الثقفي، فمات عنها، وخلف عليها أبو زهير بن عبد العزى، ثم رسول الله - ﷺ -، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد.
١٢ - امرأة من بني كليب يقال لها: شاة بنت رفاعة، وقيل: سنا بنت الصلت، وقيل: ابنة الصلت بن حبيب، توفيت قبل أن يدخل بها، وقيل: الشنياء دخل بها، ومات ابنه إبراهيم فقالت: لو كان نبيًا ما مات ولده فطلقها.
١٣ - غزية بنت جابر الكلابية، قال ابن الكلبي: غزية هي أم شريك، فلما قدمت على النبي، وأراد أن يخلو بها.. استعاذت منه، فردها.
١٤ - العالية ابنة ظبيان فجامعها، ثم فارقها.
١٥ - قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث، فتوفي عنها قبل أن يدخل بها، فارتدت.
١٦ - فاطمة بنت الضحاك، وقيل: تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة، وليلى ابنة الحطيم عرضت نفسها عليه فتزوجها وفارقها.
53
قال ابن الكلبي: أما من خطب النبي - ﷺ - من النساء ولم ينكحها، فأم هانىء بنت أبي طالب، خطبها ولم يتزوجها. وضباعة ابنة عامر من بني قشير، وصفية بنت بشامة الأعور العنبري، وأم حبيبة ابنة عمه العباس، فوجد العباس أخًا له من الرضاعة فتركها، وجمرة بنت الحارث بن أبي حارثة خطبها، فقال أبوها: بها سوء، ولم يكن بها وجع، فرجع إليها فوجدها قد برصت.
وأما سراريه - ﷺ - فأربع:
الأولى: مارية ابنة شمعون القبطية، ولدت له إبراهيم.
والثانية: ريحانة ابنة زيد القرظية، وقيل: هي من بني النضير.
والثالثة: نفيسة، وهبتها له زينب بنت جحش.
والرابعة: أصابها في بعض السبي، ولم يعرف اسمها.
وفي "المواهب": رواية أخرى يختلف فيها الأسماء بعض الاختلاف، ويطول بنا القول لو نقلناها، فليرجع إليها من شاء.
﴿وَالْخَاشِعِينَ﴾ قال بعضهم: الخشوع: انقياد الباطن للحق، والخضوع: انقياد الظاهر له. وفي "القاموس": الخشوع: الخضوع، أو هو في البدن، والخشوع في الصوت.
﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ﴾ وفي "المفردات": الصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب. وقيل: يسمَّى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله.
﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ﴾ وفي "المفردات": الفرج والفرجة: الشق بين الشيئين، كفرجة الحائط، والفرج: ما بين الرجلين، وكني به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه.
﴿الْخِيَرَةُ﴾ - بالكسر -: اسم من الاختيار؛ أي: أن يختاروا.
﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ وإمساك الشيء: التعلق به وحفظه.
﴿مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ الإبداء: الإظهار. ﴿وَطَرًا﴾ قال في "القاموس": الوطر محركة: الحاجة، أو حاجة لك فيها همٌّ وعناية، فإذا بلغتها.. فقد قضيت وطرك.
54
وفي "الوسيط": معنى قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء. يقال: قضى منها وطرًا: إذا بلغ ما أراد من حاجة فيها، ثم صار عبارة عن الطلاق؛ لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة. انتهى.
﴿حَرَجٌ﴾؛ أي: ضيق وشدة. قال في "المفردات": أصل الحرج: مجتمع الشجر، وتصور منه ضيق بينها، فقيل للضيق: حرج، وللإثم حرج.
﴿فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ والأدعياء: جمع دعي، وهو الذي يُدَّعى ابنًا من غير ولادة.
﴿فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ﴾؛ أي: قسم الله له وقدر، من قولهم: فرض له في الديوان كذا، ومنه: فروض العساكر لأرزاقهم. ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾: اسم موضوع موضع المصدر مؤكد لما قبله من نفي الحرج؛ أي: سن الله نفي الحرج سنة؛ أي: جعله طريقة مسلوكة.
﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا﴾؛ أي: مضوا، قال في "المفردات": الخلو: يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصور في الزمان المضي.. فسر أهل اللغة قولهم: خلا الزمان بقولهم: مضى وذهب. انتهى. وقال بعضهم: الخلو في الحقيقة حال الزمان والمكان؛ لأن المراد خلوهما عما فيهما بموت ما فيهما. فافهم.
﴿رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾ جمع: رسالة، والمراد: ما يتعلق بالرسالة، وهي سفارة العبد بين الله وبين ذوي الألباب من خلقه؛ أي: إيصال الخبر من الله إلى العبد.
﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ الرسول والمرسل بمعنى واحد، من: أرسلت فلانًا في رسالة، فهو مرسل ورسول. قال القهستاني: الرسول: فعول، مبالغة: مفعول بضم الميم وفتح العين بمعنى: ذي رسالة، اسم من الإرسال، وفعول هذا لم يأت إلا نادرًا. واصطلاحًا: هو من بعث لتبليغ الأحكام ملكًا كان، أو إنسانًا، بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان، وهذا الفرق هو المعول عليه. انتهى.
﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ والخاتم - بفتح التاء -: آلة الختم بمعنى ما يختم به، كالطابع بمعنى: ما يطبع به، والمعنى عليه: وكان آخرهم الذي ختموا به، وبكسرها: آخر الشيء؛ أي: كان خاتمهم؛ أي: فاعل الختم.
﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ والذكر: إحضار الشيء في القلب، أو في القول، وهو
55
ذكر عن نسيان، وهو حال العامة، أو إدامة الحضور والحفظ، وهو حال الخاصة؛ إذ ليس لهم نسيان أصلًا، وهم عند مذكورهم مطلقًا.
﴿وَسَبِّحُوهُ﴾ قال في "المفردات": السبح: المر السريع في الماء، أو في الهواء، والتسبيح: تنزيه الله، وأصله: المر السريع في عبادة الله، وجعل عامًا في العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نية.
﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ الظلمة: عدم النور، ويعبَّر بها عن الجهل والشرك والفسق ونحوها، كما يعبر بالنور عن أضدادها.
﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾ من إضافة المصدر إلى المفعول، كما مر؛ أي: ما يحيون به، والتحية: الدعاء بالتعمير بأن يقال: حياك الله؛ أي: جعل لك حياة، ثم جعل كل دعاء تحية لون جميعه غير خارج عن حصول الحياة، أو سبب حياة، إما لدنيا، وإما لآخرة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾؛ أي: كتبرج أهل الجاهلية، حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، فصار بليغًا.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بعد قوله: ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ﴾ إفادة للتعميم، فإن إطاعة الله ورسوله تشمل كل ما تقدم من الأوامر والنواهي.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ حيث استعار الرجس الذي هو القذر للذنب، بجامع التدنيس في كل؛ لأن الذنب يدنس العرض والقلب، كما أن الرجس يدنس الثوب والبدن، وذكر الطهارة ترشيح.
ومنها: جعل التطهير ترشيحًا لمزيد التنفير عن المعاصي.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
56
ومنها: ذكر التلاوة في البيوت في قوله: ﴿مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ دون النزول فيها، مع أنه الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها جميع الآيات، ووقوعها في كل البيوت، وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير، بخلاف النزول.
ومنها: عدم تعيين التالي ليعم تلاوة جبريل، وتلاوة النبي - ﷺ -، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن تعلمًا وتعليمًا.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَالْحَافِظَاتِ﴾ حذف المفعول لدلالة السابق عليه؛ أي: والحافظات فروجهن، وكذا يقال في: ﴿وَالذَّاكِرَاتِ﴾.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾؛ حيث أتى بضمير الغائبين تغليبًا للذكور على الإناث.
ومنها: التنكير لإفادة العموم في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾؛ لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: ليس لواحد منهم أن يريد غير ما أراده الله ورسوله، فلما وقعا في سياق النفي.. كانا بمعنى كل مؤمن ومؤمنة. اهـ. "زاده".
ومنها: الطباق بين ﴿تخفي﴾، و ﴿مُبْدِيهِ﴾، وبين ﴿الظُّلُمَاتِ﴾ و ﴿النُّورِ﴾؛ فإنه من المحسنات البديعية.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿قَدَرًا مَقْدُورًا﴾، وفيه التأكيد أيضًا؛ كظل ظليل، وليل أليل، ويوم أيوم، كما مر.
ومنها: جناس السلب في قوله: ﴿وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، وفيه أيضًا المجاز المرسل من إطلاق الطرفين، وإرادة الكل؛ أي: في جميع الأوقات.
ومنها: عطف الخاص في قوله: ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾ على العام في قوله: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ إشعارًا يكون التسبيح هو العمدة في الأذكار من حيث إنه من باب التخلية.
ومنها: فن التلفيف في قوله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، وهو أن يأتي بالجواب العام عن نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة إلى بيانها كلها، فيعدل المجيب عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع إلى جواب عام
57
يتضمن الإبانة عن الحكم المسؤول عنه، وعن غيره مما تدعو الحاجة إلى بيانه، فإن قوله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ...﴾ إلخ. جواب عن سؤال مقدر، وهو قول قائل: أليس محمد أبا زيد بن حارثة؟ فأتى في الجواب بقول: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، وكان مقتضى الجواب أن يقول: ما كان محمد أبا زيد، وكان يكفي أن يقول ذلك، ولكنه عدل عنه ترشيحًا للأخبار بأن محمدًا - ﷺ - خاتم النبيين، ولا يتم هذا الترشيح إلا بنفي أبوته لأحد من الرجال، فإنه لا يكون خاتم النبيين إلا بشرط أن لا يكون له ولد قد بلغ، فلا يرد أن له الطاهر، والطيب، والقاسم؛ لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال.
ثم احتاط لذلك بقوله: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، فأضاف الرجال إليهم، لا إليه فالتف المعنى الخاص في المعنى العام، وأفاد نفي الأبوة الكلية لأحد من رجالهم، وانطوى في ذلك نفي الأبوة لزيد، ثم إن هناك تلفيفًا آخر، وهو قوله: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾، فعدل عن لفظ نبي إلى لفظة رسول لزيادة المدح؛ لأن كل رسول نبي، ولا عكس، على أحد القولين، فهذا تلفيف بعد تلفيف.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
58
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (٤٧) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٤٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٤٩) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (٥٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٥٤) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٥٥) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٥٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات
59
لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) تأديبه لنبيه - ﷺ - في ابتداء السورة، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله.. ذكر هنا ما ينبغي أن يكون عليه مع الخلق كافة.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أدب نبيه بمكارم الأخلاق بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾، وثنى بتذكيره بحسن معاملة أزواجه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾، وثلث بذكر معاملته لأمته بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا...﴾ الآية، وكان كلما ذكر للنبي مكرمة، وعلمه أدبًا.. ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فأرشد المؤمنين فيما يتعلق بجانبه تعالى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١)﴾.. أرشدهم فيما يتعلق بما تحت أيديهم من الزوجات بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾، وفيما يتعلق بمعاملتهم لنبيهم بقوله: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ...﴾ إلخ، وبقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر أنه لم يوجب على نبيه القسم لنسائه، وأمره بتخييرهن، فاخترن الله ورسوله.. أردف ذلك بذكر ما جازاهن به من تحريم غيرهن عليه، ومنعه من طلاقهن بقوله: ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر حال النبي - ﷺ - مع أمته بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا﴾.. أردف ذلك ببيان حال المؤمنين مع النبي - ﷺ - إرشادًا إلى ما يجب عليهم في حقه من الاحترام، والتعظيم في خلوته، وفي الملأ، فأبان أنه يجب عدم إزعاجه إذا كان في الخلوة بقوله: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ...﴾ إلخ، وأنه يجب إجلاله إذا كان في الملأ بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ...﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أن الله سبحانه لما ذكر أن نساء النبي لا يكلمن إلا من وراء حجاب..
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
60
أردف ذلك باستثناء بعض الأقارب، ونساء المؤمنين، والأرقاء لما في الاحتجاب عن هؤلاء من عظيم المشقة للحاجة إلى الاختلاط بهؤلاء كثيرًا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر وجوب احترام النبي - ﷺ - حال خلوته بقوله: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾.. أردف ذلك ببيان ما له من احترام في الملأ الأعلى بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾، وفي الملأ الأدنى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس عن أم هانىء بنت أبي طالب، قالت: خطبني رسول الله - ﷺ -، فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل الله ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: نزلت فيَّ هذه الآية: ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ أراد النبي - ﷺ - أن يتزوجني، فنهي عني؛ إذ لم أهاجر.
قوله: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن سعد عن عكرمة قال: نزلت في أم شريك الدوسية.
وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدؤلي أن أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي - ﷺ -، وكانت جميلة، فقبلها فقالت عائشة: ما في امرأةٍ حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك، فسماها الله: مؤمنة، فقال: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾، فلما نزلت.. قالت عائشة: إن الله يسارع لك في هواك.
قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه
(١) المراغي.
(٢) البخاري.
61
الشيخان بسندهما عن عائشة قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله - ﷺ -، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وأخرج ابن سعد عن أبي رزين قال: همَّ رسول الله - ﷺ - أن يطلق من نسائه، فلما رأين ذلك.. جعلنه في حل من أنفسهم، يؤثر من يشاء على من يشاء، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ إلى قوله: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ...﴾ سبب نزوله (١): ما أخرجه ابن سعد عن عكرمة قال: خيَّر رسول الله - ﷺ - أزواجه، فاخترن الله ورسوله، فأنزل الله: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (٢) البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: أولم النبي - ﷺ - حين بني بزينب ابنة جحش، فأشبع الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين، كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهن، ويدعو لهن، ويسلِّمن عليه، ويدعون له، فلما رجع إلى بيته.. رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما.. رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان رسول الله - ﷺ - رجع عن بيته وثبا مسرعين، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما، أم أخبِر، فرجع حتى دخل البيت، وأرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ...﴾ الآية.
وفي رواية عنهما عن أنس قال: لما تزوج النبي - ﷺ - زينب بنت جحش.. دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، ثم انطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي - ﷺ -: أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾.
(١) لباب النقول.
(٢) البخاري ج ١٠ ص ١٤٩.
62
وأخرج الترمذي، وحسنه عن أنس قال: كنت مع رسول الله - ﷺ -، فأتى باب امرأة عرس بها، فإذا عندها قوم، فانطلق، ثم رجع وقد خرجوا، فدخل، فأرخى بيني وبينه سترًا، فذكرته لأبي طلحة فقال: لئن كان كما تقول.. لينزِلنَّ في هذا شيء، فنزلت آية الحجاب.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي - ﷺ - في قعب، فمر عمر، فدعاه، فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال: أوه، لو أُطاع فيكن.. ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رجل على النبي - ﷺ -، فأطال الجلوس، فخرج النبي - ﷺ - ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي - ﷺ -، فقال النبي - ﷺ -: "لقد قمت ثلاثًا لكي يتبعني، فلم يفعل"، فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابًا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب.
قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها.. أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب.
وأخرج البخاري (١) بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله - ﷺ -: احجب نساءك، قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - ﷺ - يخرجن ليلًا إلى ليل قبل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس، فقال: عرفناك يا سودة حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ آية الحجاب.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان رسول الله - ﷺ - إذا نهض إلى بيته.. بادروه، فأخذوا المجالس، فلا يعرف ذلك في وجه رسول الله - ﷺ -، ولا يبسط يده إلى الطعام استحياءً منهم، فعوتبوا في ذلك فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ...﴾ الآية.
(١) البخاري.
63
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: بلغ النبي - ﷺ - أن رجلًا يقول: لو قد توفي النبي - ﷺ -.. تزوجت فلانة من بعده، فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ...﴾ الآية.
وأخرج عن ابن عباس قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي - ﷺ - بعده. قال سفيان: ذكروا أنها عائشة.
وأخرج عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا، ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث.. لنتزوجن نساءه من بعده، فأُنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله؛ لأنه قال: إذا توفي رسول الله - ﷺ -.. تزوجت عائشة.
قال الحافظ السيوطي: وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر؛ لأن طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة، أجلٌّ مقامًا من أن يصدر منه ذلك، حتى رأيتُ أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبته، كما في "إنسان العيون".
وأخرج جويبر عن ابن عباس: أن رجلًا أتى بعض أزواج النبي - ﷺ -، فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي - ﷺ -: "لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا"، فقال: يا رسول الله، إنها ابنة عمي، واللهِ ما قلت لها منكرًا، ولا قالت لي. قال النبي - ﷺ -: "قد عرف ذلك، إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني"، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي، لأتزوجنها من بعده، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيًا توبة من كلمته.
التفسير وأوجه القراءة
٤٥ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ نداء كرامة وتعظيم؛ لأن الشريف ينادى باللقب الشريف، لا
(١) لباب النقول.
نداء علامة، مثل: يا آدم ونحوه.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ وبعثناك بعظمتنا إلى كافة الناس، وقوله: ﴿شَاهِدًا﴾ حال من كاف ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾؛ أي: حالة كونك شاهدًا على أمتك، تشهد لمن صدقك وآمن بك بالإيمان، وعلى من كذبك وكفر بك بالتكذيب، وهي (١) حال مقدَّرة، فالنبي - ﷺ - بعث متحملًا للشهادة في الدنيا، ويكون في الآخرة مؤديًا لما تحمله، ووقت الأداء متأخر عن وقت الإرسال، نحو: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، أي: مقدرًا به الصيد غدًا.
والمعنى: يا أيها النبي الكريم، إنا أرسلناك بعظمتنا مقدرًا شهادتك على أمتك بتصديقهم وتكذيبهم، تؤديها يوم القيامة أداء مقبولًا قبول قول الشاهد العدل في الحكم. قال مجاهد: شاهدًا على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم.
﴿وَ﴾ حالة كونك ﴿مُبَشِّرًا﴾ للمؤمنين بالجنة، وبما أعده لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر. ﴿وَ﴾ حالة كونك ﴿نَذِيرًا﴾؛ أي: مخوفًا للكافرين والعصاة بالنار، وبما أعده لهم من عظيم العقاب.
٤٦ - ﴿وَ﴾ حالة كونك ﴿دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: داعيًا لكافة الناس إلى توحيده سبحانه ودينه، وإلى الإيمان بكل ما جاء به، والعمل بما شرعه لهم. ﴿بِإِذْنِهِ﴾؛ أي: بأمره له بذلك وتقديره، لا برأيك واجتهادك، وهذا راجع (٢) إلى قوله: داعيًا فقط، وذلك كما إذا قال شخص: من يطع الملك يسعد، ومن يعصه يشقى، فيكون مبشرًا ونذيرًا، ولا يحتاج في ذلك إلى إذن من الملك، وأما إذا قال: تعالوا إلى سماطه، وأحضروا إلى خوانه، فيحتاج في ذلك إلى إذنه.
وقيل: معنى (٣) ﴿بِإِذْنِهِ﴾؛ أي: بتيسيره وتسهيله، فأطلق الإذن، وأريد به التيسير مجازًا بعلاقة السببية، فإن التصرف في ملك الغير متعسر، فإذا أذن.. تسهل وتيسر، وإنما لم يحمل الأذن على حقيقته، وهو الإعلام بجازة الشيء، والرخصة فيه؛ لانفهامه من قوله: ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾، ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾، وقيد به الدعوة إيذانًا بأنها
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
65
أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة وإمداد من جانب قدسه، كيف لا، وهي صرف الوجوه عن سمت الخلق إلى الخلاق، وإدخال قلادة غير معهودة في الأعناق.
﴿و﴾ حالة كونك ﴿سِرَاجًا﴾؛ أي: مصباحًا ﴿مُنِيرًا﴾؛ أي: مضيئًا في الظلام؛ أي: يستضاء به في ظلم الضلالة، كما يستضاء بالمصباح في الظلمة. ففي الكلام تشبيه بليغ، وقال الزجاج: ﴿وَسِرَاجًا﴾؛ أي: ذا سراج منير؛ أي: كتاب نير، وفي "الخازن": سماه (١) سراجًا منيرًا؛ لأنه جلا به ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير. وقيل: معناه: أمد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار، ووصفه بالإنارة؛ لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه، ودقَّتْ فتيلته.
فإن قلت: لم سماه سراجًا، ولم يسمه شمسًا، والشمس أشد إضاءة من السراج وأنور؟.
قلتُ: نور الشمس لا يمكن أن يؤخذ منه شيء، بخلاف نور السراج، فإنه يؤخذ منه أنوار كثيرة.
وعبارة "فتح الرحمن" هنا: فإن قلت (٢): كيف شبه الله تعالى نبيه - ﷺ - بالسراج، دون الشمس، مع أنها أتم؟.
قلتُ: المراد بالسراج هنا: الشمس، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾، أو شبهه بالسراج؛ لأنه تفرع منه بهدايته جميع العلماء، كما يتفرع من السراج سرج لا تحصى، بخلاف الشمس.
واعلم: أن الله سبحانه وتعالى شبَّه نبينا محمدًا - ﷺ - بالسراج لوجوه (٣):
منها: أنه يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، ويهتدى بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية، كما يهتدى بالسراج المنير في الظلام إلى سمت المرام.
ومنها: أن السراج الواحد يوقد منه ألف سراج، ولا ينقص من نوره شيء.
(١) الخازن.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) روح البيان.
66
ومنها: أنه - ﷺ - يضيء من جميع الجهات الكونية إلى جميع العوالم، كما أنَّ السراج يضيء من كل جانب، وأيضًا: يضيء لأمته كلهم، كالسراج لجميع الجهات إلا من عمي، مثل: أبي جهل، ومن تبعه على صفته، فإنه لا يستضيء بنوره، ولا يراه حقيقة، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.
ومنها: أنه سماه سراجًا، ولم يسمه شمسًا، ولا قمرًا، ولا كوكبًا؛ لأنه لا يوجد يوم القيامة شمس ولا قمر ولا كوكب، ولأن الشمس والقمر لا ينقلان من موضع إلى موضع بخلاف السراج، ألا ترى أنه تعالى نقله - عليه السلام - من مكة إلى المدينة.
ومعنى الآية (١): أي يا أيها الرسول، إنا بعثناك شاهدًا على من بُعثت إليهم، تراقب أحوالهم، وترى أعمالهم، وتتحمل الشهادة بما صدر منهم من تصديق وتكذيب، وسائر ما يفعلون من الهدى والضلال، وتؤدِّي ذلك يوم القيامة، وأرسلناك مبشرًا لهم بالجنة إن صدقوك، وعملوا بما جئتهم به من عند ربك، ومنذرًا لهم بالنار يدخلونها، فيعذبون فيها إن هم كذبوك، وخالفوا ما أمرتهم به، ونهيتهم عنه، وداعيًا الخلق إلى الإقرار بوحدانيته تعالى، وسائر ما يجب له من صفات الكمال، وإلى عبادته ومراقبته في السر والعلن، وسراجًا منيرًا يستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية، ويقتبس من نورك المهتدون، فيسلكون مناهج الرشد والسعادة.
٤٧ - وقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوف على مقدر يقتضيه المقام، كأنه قال: فدبر أمور الناس، وراقب أحوالهم، وبشر المؤمنين بك، وبما جئت به بأن لهم من الله فضلًا كبيرًا؛ أي: على مؤمني سائر الأمم في الرتبة والشرف، أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان. وروي أن الحسنة الواحدة في الأمم السالفة كانت بواحدة، وفي هذه الأمة بعشر أمثالها إلى ما لا نهاية له.
أو هو من عطف جملة على جملة، وهي الذكور سابقًا، ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين بالإخبار والإنشاء. أمره سبحانه بأن يبشرهم بأن لهم من الله
(١) المراغي.
فضلًا كبيرًا على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾.
وأخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ قالوا: يا رسول الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (٤٧)﴾.
٤٨ - ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ من أهل مكة ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ من أهل المدينة. ومعناه: الدوام على عدم طاعتهم، أي (١): دم واثبت على ما أنت عليه من مخالفتهم، وترك إطاعتهم، واتباعهم.
وفي "الإرشاد": نُهي عن مداراتهم في أمر الدعوة، واستعمال لين الجانب في التبليغ، والمسامحة في الإنذار، كنى عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغةً في الزجر والتنفير عن المنهي عنه، بنظمه في سلكها، وتصويره بصورتها.
أي: لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين، وفي الآية تعريض لغيره من أمته؛ لأنه - ﷺ - معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه، ويشيرون به عليه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾؛ أي: واترك المجازاة لهم على إيذائهم إياك، ومؤاخذتهم به؛ أي: دع أن تؤذيهم مجازاةً لهم على ما يفعلونه من الأذى لك، فهو مصدر مضاف إلى المفعول، أو المعنى: لا تبال بإيذائهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل، وهي منسوخة بآية السيف بالنظر إلى الكافر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: قسم رسول الله - ﷺ - قسمة، فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأخبر بذلك، فاحمر وجهه فقال: "رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
وفي "التأويلات": ﴿وَلَا تُطِعِ...﴾ إلخ؛ أي: لا تتخلق بخلق من أخلاقهم، ولا توافق من أعرضنا عنه، وأغفلنا قلبه عن ذكرنا، وأضللناه من أهل الكفر والنفاق وأهل البدع والشقاق. ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ بالبحث والمناظرة على إبطالهم، فإنهم عن
(١) روح البيان.
68
سمع كلمات الحق لمعزولون، فتضيع أوقاتك، ويزيد إنكارهم.
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ في كل شؤونك، واعتمد عليه في أمورك خصوصًا في هذا الشأن، فإنه تعالى يكفيكهم، والعاقبة لك. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ سبحانه لمن استكفاه من جهة كونه ﴿وَكِيلًا﴾؛ أي: موكولًا إليه الأمور في كل الأحوال، فهو فعيل بمعنى: المفعول، تمييز من فاعل كفى، وهو الله؛ إذ الباء صلة، والتقدير: وكفى الله من جهة الوكالة، فإن أهل الدارين لا يكفي كفاية الله فيما يحتاج إليه، فمن عرف أنه تعالى هو المتكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر.. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه.
روي: أن الحجاج بن يوسف سمع ملبيًا يلبي حول البيت، رافعًا صوته بالتلبية، وكان إذ ذاك بمكة فقال: على بالرجل، فأتي به إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، فقال: ليس عن الإِسلام سألتك، قال: فعمَّ سألت؟ قال: سألتك عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ - يعني: أخاه - قال: تركته عظيمًا جسيمًا لباسًا ركابًا خراجًا ولاجًا. قال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعمَّ سألت؟ قال: سألتك عن سيرته، قال: تركته ظلومًا غشومًا، مطيعًا للمخلوق، عاصيًا للخالق. فقال له الحجاج: ما حملك على هذا الكلام، وأنت تعلم مكانه منى؟ قال: أترى مكانه منك أعز منى بمكاني من الله، وأنا وافد بيته، مصدِّق نبيه، فسكت الحجاج، ولم يحسن جوابًا، وانصرف الرجل من غير إذن، فتعلق بأستار الكعبة، وقال: اللهم بك أعوذ وبك ألوذ، اللهم فرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة، فخلص من يد الحجاج بسبب توكله على الله في قوله الخشن، وبعدم إطاعته وانقياده للمخلوق.
ومعنى الآية: أي ولا تطع (١) يا محمد قول كل كافر ولا منافق في أمر الدعوة، وألن الجانب في التبليغ، وارفق في الإنذار، واصفح عن آذاهم، واصبر على ما ينالك منهم، وفوِّض أمورك إلى الله، وثقْ به، فإنه كافيك جميع من دونك حتى يأتيك أمره وقضاؤه، وهو حسبك في جميع أمورك، وكالؤك وراعيك.
(١) المراغي.
69
٤٩ - ولما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب، وكان قد دخل بها، وخطبها النبي - ﷺ - بعد انقضاء عدتها، كما تقدم.. خاطب المؤمنين هنا مبيِّنًا لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ﴾ وتزوجتم ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ وعقدتم عليهن عقد النكاح. قال في "بحر العلوم": أصل النكاح: الوطء، ثم قيل للعقد نكاح مجازًا تسمية للسبب باسم المسبب، فإن العقد سبب الوطء المباح، وعليه قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾؛ أي: لا يتزوج. ونظيره تسمية النبات غيثًا في قوله: رعينا الغيث؛ لأنه سبب للنبات، والخمر إثمًا؛ لأنها سبب لاكتساب الإثم. انتهى.
وفي "القاموس": النكاح: الوطء والعقد. انتهى.
وخص المؤمنات (١) بالذكر مع أن هذا الحكم الذي في الآية يستوي فيه المؤمنات والكتابيات، تنبيهًا على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيّرًا لنطفته، ويجتنب عن مصاحبة الفواسق، فما بال الكوافر. فالتي في سورة المائدة تعليم ما هو جائز غير محرم من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وهذه فيها تعليم ما هو أولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات، وقد قيل: الجنس يميل إلى الجنس. وفي "فتح الرحمن": التقييد بالمؤمنات خرج مخرج الغالب، وإلا فالكتابيات مثلهن فيما ذكر في الآية. انتهى.
﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾؛ أي: أطلقتموهن من عقال النكاح، وفككتموهن من حبله ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾؛ أي: من قبل أن تجامعوهن، فإن المس، أي: اللمس كنايةٌ عن الجماع.
وقرأ حمزة والكسائي (٢): ﴿تُماسوهن﴾ بضم التاء ومد الميم، وفائدة (٣) الإتيان بـ ﴿ثُمَّ﴾ إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخي الطلاق ربما تمكن الإصابة معه، فيؤثر في العدة كما يؤثر في النسب، فلا تفاوت في الحكم بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يطلقها وهي بعيدة منه.
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
70
وفيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح، كما قال بعضهم: إنما النكاح عقدة، والطلاق يحلها. فكيف تحل عقدة لم تعقد؟. فلو قال: متى تزوجت فلانة، أو كل امرأة أتزوجها.. فهي طالق، لم يقع عليه طلاق إذا تزوج. عند الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع مطلقًا؛ لأنه تطليق عند وجود الشرط، إلا إذا زوجها فضولي، فإنها لم تطلق، كما في "المحيط". وقال مالك: إن عين امرأة بعينها، أو من قبيلة، أو من بلد، فتزوجها.. وقع الطلاق، وإن عمم فقال: كل امرأة أتزوجها من الناس كلهم لم يلزمه شيء.
والقول الصحيح الموافق لنص الكتاب والسنة: عدم وقوع الطلاق قبل النكاح، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "جعل الله الطلاق بعد النكاح" وأخرجه البخاري في ترجمة باب بغير إسناد. ولحديث جابر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا طلاق قبل النكاح".
ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا طلاق فيما لا تملك، ولا عتق فيما لا تملك، ولا بيع فيما لا تملك". أخرجه أبو داود والترمذي بمعناه.
ثم إن (١) حكم الخلوة التي يمكن معها المساس في حكم المساس عند أبي حنيفة وأصحابه. والخلوة الصحيحة: غلق الرجل الباب على منكوحته بلا مانع وطءٍ من الطرفين، وهو ثلاثة:
حسي: كمرض يمنع الوطأ، ورتق وهو: انسداد موضع الجماع، بحيث لا يستطاع.
وشرعي: كصوم رمضان دون صوم التطوع، والقضاء والنذر والكفارة على الصحيح؛ لعدم وجوب الكفارة بالإفساد، وكإحرام فرض أو نفل، فإن الجماع مع الإحرام يفسد النسك، ويوجب دمًا مع القضاء.
وطبعي: كالحيض والنفاس؛ إذ الطباع السليمة تنفر منها، فإذا خلا بها في
(١) روح البيان.
71
محل خال عن غيرهما حتى عن الأعمى والنائم، بحيث أمنا من إطلاع غيرهما عليهما بلا إذنهما.. لزمه تمام المهر؛ لأنه في حكم الوطء، ولو كان خصيًا، وهو مقطوع الأنثيين، أو عنينًا، وهو الذي لا يقدر على الجماع، وكذا لو كان مجبوبًا، وهو مقطوع الذكر. وفرض الصلاة مانع كفرض الصوم للوعيد على تركها، والعُدَّة تجب بالخلوة، ولو مع المانع احتياطًا لتوهم شغل الماء، ولأنها حق الشرع والولد.
واعلم: أن الحيض والنفاس والرتق من الأعذار المخصوصة بالمرأة، وأما المرض والإحرام والصوم.. فتعتبر في كل من الرجل والمرأة، وتعد مانعًا بالنسبة إلى كليهما، كما في تفسير "أبي الليث".
﴿فَمَا لَكُمْ﴾ أيها الأزواج ﴿عَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: على المطلقات قبل الدخول ﴿مِنْ عِدَّةٍ﴾؛ أي: أيام معدودة بالأشهر، أو بالأقراء، ينتظرن انقضاءها في زواجها للغير. وعدة المرأة: هي الأيام التي بانقضائها تحل للزوج. وجملة ﴿تَعْتَدُّونَهَا﴾؛ أي: تحسبونها، في محل الجر على أنها صفة ﴿عِدَّةٍ﴾؛ أي: تستوفون عددها، أو تعدونها وتحصونها بالأقراء إن كانت من ذوات الحيض، أو بالأشهر إن كانت آيسةً، وفي الإسناد إلى (١) الرجال دلالة على أنَّ العدة حقهم، كما أشعر به ﴿فَمَا لَكُمْ﴾.
فدلت الآية على أنه لا عدة على غير المدخول بها، وهذا من الأمر المجمع عليه، كما حكاه القرطبي؛ لبراءة رحمها من نطفة الغير، فإن شاءت تزوجت من يومها، وكذا إذا تيقن بفراغ رحم الأمة من ماء البائع، لم يستبرىء عند أبي يوسف. وقالا أي: الشافعي وأحمد: إذا ملك جارية، ولو كانت بكرًا، أو مشتراة ممن لا يطأ أصلًا، مثل المرأة والصبي والعنين والمجبوب، أو شرعًا كالمحرم رضاعًا أو مصاهرة، أو نحو ذلك.. حرم عليه وطؤها ودواعيه، كالقبلة والمعانقة والنظر إلى فرجها بشهوة، أو غيرها حتى يستبرىء بحيضة، أي: يطلب براءة رحمها من الحمل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَعْتَدُّونَهَا﴾ بتشديد الدال، افتعل من: العد؛ أي: تستوفون
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
72
عددها، من قولهم: عدَّ الدراهم فاعتدها؛ أي: استوفى عددها.
وقرأ ابن كثير في رواية عنه، وأهل مكة: بتخفيفها، وفي هذه القراءة وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى الأولى مأخوذة من الإعتداد؛ أي: تستوفون عددها، ولكنهم تركوا التضعيف لقصد التخفيف.
والوجه الثاني: أن يكون المعنى: تعتَدُون فيها، والمراد بالإعتداء هذا: هو ما في قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، فيكون الآية على القراءة الأخيرة: فما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة. وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير، وقال: إن البزي غلط عليه.
وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، وبقوله: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾. وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها، فإنه إذا مات بعد العقد عليها، وقبل الدخول بها.. كان الموت كالدخول، فتعتد أربعة أشهر وعشرًا.
﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾؛ أي: فأعطوهن المتعة، وهي: درع وخمار وملحفة، كذا قيل. وهو محمول على إيجاب المتعة إن لم يسم لها مهر عند العقد، وعلى استحبابها إن سمي ذلك، فإنه إن سمي المهر عنده، وطلق قبل الدخول، فالواجب نصفه دون المتعة، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾؛ أي: فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهن من المهر.
﴿وَسَرِّحُوهُنَّ﴾؛ أي: أخرجوهن من منازلكم؛ إذ ليس لكم عليهن من عدة ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾؛ أي: إخراجًا حسنًا، أي: من غير ضرار ولا منع حق. وقيل: السراح الجميل: أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها. وفي "كشف الأسرار": معنى الجميل: أن لا يكون الطلاق جور الغضب، أو طاعة لغيره، وأن لا يكون ثلاثًا بتًا، أو لمنع صداق، انتهى. والمراد بالسراح هنا: الإخراج من المنازل كما سبق، ولا يصح تفسير السراح بالطلاق السني، لأنه إنما يتسنى في المدخول بها، والضمير لغير المدخول بها.
وفي "التأويلات النجمية": وفي الآية إشارة إلى كرم الأخلاق، يعنى: إذا نكحتم المؤمنات، ومالت قلوبهن إليكم، ثم آثرتم الفراق قبل الوصال، فكسرتم
73
قلوبهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن ليكون لهن عليكم تذكرةً في أيام الفرقة، وأوائلها إلى أن تتوطن نفوسهن على الفرقة، وسرحوهن سراحًا جميلًا، بأن لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئًا تفضلتم به معهن، فلا تجمعوا عليها الفراق بالحال، والإضرار من جهة المال. انتهى.
وينبغي للمؤمن (١): أن لا يؤذي أحدًا بغير حق، ولو كلبًا أو خنزيرًا، ولا يظلم، ولو بشق تمرة، ولو وقع شيء من الأذى والجور.. يجب الاستحلال والإرضاء، ورأينا كثيرًا من الناس في هذا الزمان يطلقون ضرارًا، ويقعون في الإثم مرارًا، ويخالعون على المال بعد الخصومات، كأنهم غافلون عما بعد الممات.
ومعنى الآية (٢): أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات، وتزوجتموهن، ثم طلقتموهن من قبل المسيس، فلا عدة لكم عليهن بأيام يتربصن بها تستوفون عددها، ولكن اكسوهن كسوة تليق بحالهن إذا خرجن وانتقلن من بيت إلى آخر. ويختلف ذلك باختلاف البيئة والبلد الذي تعيش فيه المرأة، وأخرجوهن إخراجًا جميلًا، فهيئوا لهن من المركب والزاد وجميل المعاملة ما تقرّ به أعينهن، ويسر به أهلوهن، ليكون في ذلك بعض السلوة مما لحقهن من أذى بقطع العشرة التي كن ينتظرن دوامها، ومن الخروج من بيوت كن يرجون أن تكون هي المقام إلى أن يلاقين ربهن، أو تموت عنهن بعولتهن.
روى البخاري عن سهل بن سعد، وأبي أسيد - رضي الله عنهما - قالا: إن رسول الله - ﷺ - تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه.. بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها، ويكسوها ثوبين رازقيين - ضَرْبٌ من الثياب مشهور في ذلك الحين -.
٥٠ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ...﴾ الآية، ذكر الله سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله - ﷺ -، وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهن أجورهن؛ أي: مهورهن، فقال: يا أيها النبي الكريم ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ﴾؛ أي: أبحنا لك بعظمتنا ﴿أَزْوَاجَكَ﴾؛ أي: نساءك ﴿اللَّاتِي آتَيْتَ﴾ هن، وأعطيت ﴿أُجُورَهُنَّ﴾؛ أي: مهورهن، عبَّر عن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
74
المهر بالأجر؛ لأن المهر أجر على البضع؛ أي: على المباشرة به، وإيتاؤها؛ إما إعطاؤها معجلة، أو تسميتها في العقد، وأيًا ما كان أجزأ.
واختلف (١) في معنى ﴿أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ فقال ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، فتكون الآية مبيحة له لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم. وقال الجمهور: المراد: أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك؛ لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله: ﴿أَحْلَلْنَا﴾، و ﴿آتَيْتَ﴾ ماضيان، وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه؛ لأنه يصح العقد بلا تسمية، ويجب مهر المثل مع الوطء، والمتعة مع عدمه، فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو الأفضل. ففي (٢) وصفهن بـ ﴿اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ تنبيه على أن الله سبحانه اختار لنبيه - ﷺ - الأفضل والأولى؛ لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره؛ ليتقصى الزوج عن عهدة الدين، وشغل ذمته به، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجانًا دون عوض تسلمته، والتعجيل كان سنة السلف، لا يعرف منهم غيره.
والمعنى (٣): أي يا أيها النبي إنا أحللنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن، وقد كان مهره - ﷺ - لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفًا؛ أي: خمس مئة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله، أربع مئة درهم.
﴿وَ﴾ أحللنا لك ﴿مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ ويدك أي: السراري اللاتي دخلن في ملكك حالة كونها ﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه، ورده ﴿عَلَيْكَ﴾ من الكفار بالغنيمة لنسائهم المأخوذات على وجه القهر والغلبة. وليس المراد بهذا القيد إخراج ما ملكه بغير الغنيمة، فإنه تحل له السرية المشتراة والموهوبة والمهداة، ولكنه إشارة إلى ما هو الأفضل والأطيب؛ لأنها إذا كانت مسبية، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب.. كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب، فما سبط من دار الحرب قيل فيه: سبط طيبة، وممن له عهد قيل فيه: سبي خبيثة، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيِّب.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
75
والمعنى: أي وأحللنا لك الإماء اللواتي سبيتهن فملكتهن بالسباء، وصرن لك من الفيء، بفتح الله عليك، وقد ملك صفية بنت حيي بن أخطب في سبي خيبر، ثم أعتقها، وجعل صداقها عتقها، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق أعتقها، ثم تزوجها، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية أم إبراهيم، وكانتا من السراري.
وقال في "إنسان العيون": إن سراريه - ﷺ - أربع: مارية القبطية أم سيدنا إبراهيم رضي الله عنه، وريحانة، وجاريةٌ وهبتها له - ﷺ - زينب بنت جحش، وأخرى اسمها: زليخا القرظية. انتهى.
وكون ريحانة بنت يزيد من بني النضير سرية أضبط على ما قاله العراقي (١)، وزوجة أثبت عند أهل العلم على ما قاله الحافظ الدمياطي. وأما صفية بنت حيي الهارونية من غنائم خيبر، وجويرية بنت الحارث بن أبي صوار الخزاعية المصطلقية، وإن كانتا من المسبيات، لكنه - ﷺ - أعتقهما، فتزوجهما، فهما من الأزواج لا من السراري على ما بيِّن في كتب السير، فالوجه أنَّ المعنى: مما أفاء الله؛ أي: أعاده عليك بمعنى: صيره لك، ورده لك بأي جهة كانت هديةً أو سبية.
﴿وَ﴾ أحللنا لك ﴿بَنَاتِ عَمِّكَ﴾ والبنت: مؤنث الابن، والعم: أخو الأب؛ أي: وأحللنا لك نساء قريش من أولاد عبد المطلب وأعمامه - ﷺ - اثنا عشر:
الحارث، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، وحمزة، والمقوم - بفتح الواو المشددة وكسرها - والمغيرة، والعباس، وضرار، وأبو لهب، وقثم، ومصعب، ولم يسلم من أعمامه الذين أدركوا البعثة إلا حمزة والعباس.
وبنات أعمامه - ﷺ -: ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وكانت تحت المقداد، وأم الحكيم بنت الزبير، وكانت تحت النضر بن الحارث، وأم هانىء بنت أبى طالب، اسمها: فاختة، وجمانة بنت أبي طالب، وأم حبيبة، وآمنة، وصفية بنات العباس بن عبد المطلب، وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب.
﴿و﴾ أحللنا لك ﴿بَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ جمع عمة، والنعمة: أخت الأب.
(١) روح البيان.
76
وعماته - ﷺ - ست:
أم حكيم، واسمها: البيضاء، وعاتكة، وبرة، وأروى، وأميمة، وصفية، ولم تسلم من عماته اللاتي أدركن البعثة من غير خلاف إلا صفية أم الزبير بن العوام، أسلمت وهاجرت، وماتت في خلافة عمر رضي الله عنه.
واختلف في إسلام عاتكة، وأروى، ولم يتزوج رسول الله - ﷺ - من بنات أعمامه دينًا، وأما بنات عماته دينًا.. فكانت عنده منهن زينب بنت جحش بن رباب؛ لأن أمها أميمة بنت عبد المطلب، كما في "التكملة".
﴿و﴾ أحللنا لك ﴿بَنَاتِ خَالِكَ﴾ والخال: أخ الأم. ﴿وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ﴾ جمع: خالة، والخالة: أخت الأم، والمراد: نساء بني زهرة، يعني أولاد عبد مناف بن زهرة، لا إخوة أمه، ولا أخواتها؛ لأن آمنة بنت وهب أم رسول الله - ﷺ - لم يكن لها أخ ولا أخت، فإذا لم يكن له - ﷺ - خال ولا خالة.. فالمراد بذلك: الخال والخالة عشيرة أمه؛ لأن بني زهرة يقولون: نحن أخوال النبي - ﷺ -؛ لأن أمه منهم، ولهذا قال - ﷺ - لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "هذا خالي".
وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفًا لهن، كما قال تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)﴾، وإنما (١) أفرد العم والخال، وجمع العمات والخالات في الآية، وإن كان معنى الكل الجمع؛ لأن لفظ العم والخال لما كان يعطي المفرد معنى الجنس.. استغني فيه عن لفظ الجمع تخفيفًا للفظ، ولفظ العمة والخالة، وإن كان يعطي معنى الجنس.. ففيه الهاء، وهي تؤذن بالتحديد والإفراد، فوجب الجمع لذلك. ألا ترى أن المصدر إذا كان بغير هاء لم يجمع، وإذا حدد بالهاء جمع، هكذا ذكره الشيخ أبو علي رحمه الله. كذا في "التكملة".
وعبارة "فتح الرحمن" هنا (٢): وإنما أفراد العم والخال، وجمع العمات والخالات؛ لأن العم والخال بوزن مصدرين، وهما: الضم، والمال، والمصدر يستوي فيه المفرد والجمع، بخلاف العمة والخالة، ولا يرد على ذلك جمع العم والخال في قوله في النور: {أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
(١) روح البيان.
(٢) فتح الرحمن.
77
أَخْوَالِكُمْ}؛ لأنهما ليسا مصدرين حقيقة، فاعتبر هنا حقيقتهما، وثم شبههما.
وقوله: ﴿اللَّاتِي﴾ صفة للبنات؛ أي: وأحللنا لك البنات المذكورة اللاتي ﴿هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾؛ أي: خرجن معك من مكة إلى المدينة، وفارقن أوطانهن، والمراد بالمعية (١): المتابعة له - ﷺ - في المهاجرة، سواء وقعت قبله أو بعده أو معه، وتقييد البنات بكونها مهاجرات معه للإيذان بشرف الهجرة، وشرف من هاجر، وللتنبيه على الأليق والأفضل له - ﷺ -، فالهجرة وصفهن، لا بطريق التعليل كقوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾، ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه - ﷺ - خاصةً، وأن من هاجر معه منهن يحل له نكاحها، ومن لم تهاجر لم تحل، ويعضده قول أم هانىء بنت أبي طالب: خطبني رسول الله - ﷺ -، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله هذه الآية، فلم أحل له؛ لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء. وهم الذين أسلموا بعد الفتح، أطلقهم رسول الله - ﷺ - حين أخذهم، ولفائدة التقييد بالهجرة أعاد هنا ذكر بنات العم والعمات والخال والخالات، وإن كنَّ داخلات تحت عموم قوله تعالى عند ذكر المحرمات من النساء: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾، وأول بعضهم الهجرة في هذه الآية على الإسلام؛ أي: أسلمن معك، فدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة.
وقوله: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً﴾ بالنصب معطوف على مفعول ﴿أَحْلَلْنَا﴾؛ إذ ليس معناه إنشاء الإحلال الناجز، بل إعلام مطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق، والمعنى: وأحللنا لك امرأة مؤمنة بالله مصدِّقة بالتوحيد. ﴿إِنْ وَهَبَتْ﴾ تلك المرأة ﴿نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ - ﷺ -؛ أي: لك بغير صداق، والالتفات للإيذان بأن هذا الحكم مخصوص به لشرف نبوته، وأما من لم تكن مؤمنة.. فلا تحل لك بمجرد هبتها نفسها لك. والهبة: أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض. والحرة لا تقبل الهبة، ولا البيع، ولا الشراء؛ إذ ليست بمملوكة، فمعناه: إن ملَّكته بضعها بلا مهر، بأي عبارة كانت من: الهبة، والصدقة، والتمليك، والبيع، والشراء، والنكاح، والتزويج، وكان من خصائصه - ﷺ - أن النكاح ينعقد في حقه بلفظ الهبة وغيرها من غير ولي ولا شهود ولا مهر؛ لقوله: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
(١) روح البيان.
78
ومعنى الشرط إن اتفق ذلك، أي: وجد اتفاقًا، ولكن ليس ذلك بواجب عليك بحيث يلزمك قبول ذلك، بل مقيَّد بإرادتك، ولهذا قال: ﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ﴾ - ﷺ - ﴿أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾؛ أي: أن يجعلها منكوحة له، ويتملك بضعها بتلك الهبة لا بمهر ابتداءً وانتهاءً، وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول.
وقيل (١): إنه لم ينكح النبي - ﷺ - من الواهبات أنفسهن أحدًا، ولم يكن عنده منهن شيء، وقيل: كان عنده منهن خولة بنت حكيم، كما في "صحيح البخاري" عن عائشة. وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث، وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين، وقيل غير ذلك.
ثم بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله - ﷺ -، لا يحل لغيره من أمته فقال: ﴿خَالِصَةً لَكَ﴾ إما حال من فاعل ﴿وَهَبَتْ﴾، قاله الزجاج. أي: حالة كون تلك الواهبة خالصة لك، وخاصة بك. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإن الإحلال للمؤمنين إنما يتحقق بالمهر، أو بمهر المثل إن لم يسم عند العقد، ولا يتحقق بلا مهر أصلًا، أو مصدر مؤكد لعامله المحذوف كالكاذبة؛ أي: خلص لك إحلال المرأة المؤمنة الواهبة خالصةً؛ أي: خلوصًا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَامْرَأَةً﴾ بالنصب ﴿إِنْ وَهَبَتْ﴾ بكسر الهمزة؛ أي: أحللناها لك إن وهبت. وقرأ أبو حيوة: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً﴾ بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: أحللناها لك. وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام: ﴿أن وهبت﴾ بفتح الهمزة على تقدير لام العلة؛ أي: لأن وهبت، أو على أنه بدل من امرأة بدل اشتمال، وذلك حكم في امرأة بعينها، فهو فعل ماض.
وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها. وقرأ زيد بن علي: ﴿إذ وهبت﴾ ظرف لما مضى، فهو في امرأة بعينها. وقرأ الجمهور: ﴿خَالِصَةً﴾ بالنصب، فهو مصدر مؤكد كوعد الله، وصبغة الله؛ أي: أخلص لك إخلاصًا، فأحللنا لك خالصةً بمعنى خلوصًا، ويجيء المصدر على فاعل وفاعلة،
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
79
وقال الزمخشري: والفاعل والفاعلة في المصادر عليَّ غير عزيزين، كالخارج، والقاعد، والعاقبة، والكاذبة. انتهى.
وليس كما ذكر، بل هما عزيزان، وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر، وقرىء بالرفع على أنها صفة لامرأة على قراءة من قرأ: ﴿امرأة﴾ بالرفع.
وقد أجمع (١) العلماء على أن هذا خاص بالنبى - ﷺ - وأنه لا يجوز ولا ينعقد النكاح بهبة المرأة نفسها، إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه أنه يصح النكاح إذا وهبت، وأشهد هو على نفسه بمهر، وأما بدون مهر، فلا خلاف في أن ذلك خاص بالنبي، ولهذا قال: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: أوجبنا على المؤمنين ﴿فِي أَزْوَاجِهِمْ﴾؛ أي: في حقهن من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض، لا يحل لهم الإخلال به، ولا اقتداء برسول الله - ﷺ - فيما خصه الله به توسعة عليه، وتكريمًا له، فلا يتزوجوا إلا أربعة بمهر وولي وشهود.
﴿وَ﴾ ما فرضنا عليهم في حق ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ وأيديهم من الأحكام؛ أي: وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهن ممن يجوز سبيه وحربه، لا ممن لا يجوز سبيه كالمعاهدين، وأهل الذمة.
وقوله: ﴿لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية؛ أي: أحللنا لك أزواجك، وما ملكت يمينك، والواهبة نفسها لك لكيلا يكون عليك حرج. فتكون اللام متعلقةً بـ ﴿أَحْلَلْنَا﴾، وقيل: متعلقة بـ ﴿خَالِصَةً﴾، والأول أولى. ولام كي دخلت على كي للتوكيد؛ أي: لئلا يكون عليك ضيق في أمر النكاح، فقوله: قد علمنا.. الخ اعتراض بين قوله: ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾ وبين متعلَّقه، وهو ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، مقرر لما قبله من خلوص الإحلال المذكور لرسول الله، وعدم تجاوزه للمؤمنين ببيان أنه قد فرض عليهم من شرائط العقد وحقوقه ما لم يفرض عليه، تكرمة له، وتوسعة عليه.
أي: قد علمنا ما ينبغي أن يفرض عليهم في حق أزواجهن، ومملوكاتهم، وعلى أيّ حد، أو على أي صفة يحق أن يفرض عليهم، ففرضنا ما فرضنا على
(١) الشوكاني.
80
ذلك الوجه، وخصصناك ببعض الخصائص، كالنكاح بلا مهر وولي وشهود، ونحوها.
وفسروا المفروض في حق الأزواج بالمهر، والولي، والشهود، والنفقة، ووجوب القسم، والاقتصار على الحرائر الأربع، وفي حق المملوكات بكونهن ملكًا طيبًا، بأن تكون من أهل الحرب، لا ملكًا خبيثًا، بأن تكون من أهل العهد.
وفي الحديث: "الصلاة وما ملكت أيمانكم"؛ أي: احفظوا الصلوات الخمس، والمماليك بحسن القيام بما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وغيرها، وبغير تكليف على ما لا يطيقون من العمل، وترك التعذيب، قرنه عليه الصلاة والسلام بأمر الصلاة إشارةً إلى أن حقوق المماليك واجبة على السادات وجوب الصلوات.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا﴾؛ أي: فيما يعسر التحرز عنه ﴿رَحِيمًا﴾؛ أي: منعمًا على عباده بالتوسعة في مظان الحرج، ونحوه؛ أي: يغفر الذنوب ويرحم العباد، ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه.
٥١ - ﴿تُرْجِي﴾ وتؤخر يا محمد ﴿مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾؛ أي: من أزواجك، وتترك مضاجعتها من غير نظر إلى نوبة وقسم وعدل. ﴿وَتُؤْوِي﴾ وتضم إليك ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ منهن، وتضاجعها من غير التفات إلى نوبة وقسمة أيضًا. فالاختيار بيديك في الصحبة بمن شئت، ولو أيامًا زائدة على النوبة، وكذا في تركها، والمعنى: أي تؤخر وتترك مضاجعة من تشاء من أزواجك، وتضاجع من تشاء منهن، ولا يجب عليك قسم بينهن، بل الأمر في ذلك إليك، على أنه كان يقسم بينهن، وقد كان القسم واجبًا عليه حتى نزلت هذه الآية، فارتفع الوجوب، وصار الخيار إليه، وذلك لأنه - ﷺ - بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع، أو المعنى: تطلِّق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء، أو المعنى: تترك تزوج من شئت من نساء أمتك، وتتزوج من شئت، كما في "بحر العلوم". وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾، وسيأتي بيان ذلك.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص: ﴿تُرْجِي﴾ بياء ساكنة، والباقون: بهمزة مضمومة، وهما لغتان، يقال: أرجأت الأمر، وأرجيته، إذا أخرته.
81
و ﴿مَنِ﴾ في قوله: ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ مبتدأ بمعنى الذي، أو شرط نصب بقوله: ﴿ابْتَغَيْتَ﴾، وخبر المبتدأ، أو جواب الشرط على كلا التقديرين ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾؛ أي: ومن ابتغيت وطلبت مضاجعتها حالة كونها ﴿مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ ـها، وتركتها، وطلقتها أولًا بالرجعة ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾؛ أي: فلا إثم ولا لوم ولا عتاب ولا ضيق ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد في شيء مما ذكر من الأمور الثلاثة.
والحاصل: أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله يصنع في زوجاته ما شاء من تقديم وتأخير، وعزل وإمساك، وضم من أرجأ، وإرجاء من ضمَّ إليه، وما شاء في أمرهن فعل، توسعةً عليه، ونفيًا للحرج عنه.
والمعنى (١): أي ومن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالطلاق، فلا ضيق عليك في ذلك.
والخلاصة: أنه لا ضير عليه إذا أراد إرجاع من طلَّقها من قبل، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، وهو إما أن يطلِّق، وإما أن يمسك، وإذا أمسك ضاجع أو ترك، وقسم أو لم يقسم، وإذا طلَّق؛ فإما أن لا يبتغي المعزولة، أو يبتغيها.
والجمهور على أن الآية نزلت في القسم بينهن، فإن التسوية في القسم كانت واجبة عليه - ﷺ -، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه، وصار الاختيار إليه فيهن، وكان ذلك من خصائصه - ﷺ -.
ويروى: أن أزواجه - عليه الصلاة والسلام - لما طلبن زيادة النفقة، ولباس الزينة.. هجرهن شهرًا حتى نزلت آية التخيير، وروى ابن جرير عن أبي رزين قال: لما نزلت آية التخيير.. أشفقن أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله، اجعل لنا من مالك ومن نفسك ما شئت، ودعنا كما نحن، فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله - ﷺ - منهن خمسًا أم حبيبة، وميمونة، وسودة، وصفية، وجويرية، فكان يقسم لهن ما شاء، وآوى إليه أربعًا: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فكان يقسم بينهن سواء، ويروى أنه - ﷺ - لم يخرج أحدًا منهن عن القسم، بل كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخيَّر فيه إلا سودة، فإنها رضيت بترك حقها من القسم، ووهبت ليلتها
(١) المراغي.
82
لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
ثم بين السبب في الإيواء والإرجاء، وأنه كان ذلك في مصلحتهن، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من تفويض الأمر إلى مشيئتك ﴿أَدْنَى﴾ وأقرب إلى ﴿أَنْ تَقَرَّ﴾ وتبرد ﴿أَعْيُنُهُنَّ﴾ وتطيب أنفسهن ﴿و﴾ إلى أن ﴿لَا يَحْزَنَّ﴾، ولا يتأسفن بما فعلت بهن من إيثار بعض على بعض.
﴿وَ﴾ إلى أن ﴿يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾؛ أي: ويرضين كلهن بما آتيتهن، وقسمت لهن من العدل بينهن تفضلًا وتكرمًا منك، وقوله: ﴿كُلُّهُنَّ﴾ بالرفع تأكيد لفاعل ﴿يرضين﴾، وهو النون؛ أي: ذلك المذكور أقرب (١) إلى قرة عيونهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعًا؛ لأنه حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن.. وجدت ذلك تفضلًا منك، وإن رجحت بعضهن.. علمن أنه بحكم الله، فتطمئن به نفوسهن، ويذهب التنافس والتغاير، فرضين بذلك، فاخترنه على الشرط، ولذا قصره الله عليهن، وحرم عليه طلاقهن، والتزوج بسواهن، وجعلهن أمهات المؤمنين.
والمعنى: أي إنهن إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أيِّ ذلك فعلت، وأنت مع هذا تقسم لهن اختيارًا منك، لا وجوبًا عليك.. فرحن بذلك، واستبشرن به، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن وعدلك بينهن.
والخلاصة: ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن، وانتفاء حزنهن، ووجود رضاهن إذا علمن أن ذلك التفويض من عند الله تعالى، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك.
وقرأ الجمهور: ﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ مبنيًا للفاعل من: قرت العين، وقرأ ابن محيصن: ﴿تقر﴾ بضم التاء من: أقرر الرباعي، ونصب ﴿أعينهن﴾، وفاعله: ضمير المخاطب؛ أي: أنت. وقرىء: ﴿تقر﴾ مبنيًا للمفعول، و ﴿أعينهن﴾ بالرفع. وقرأ الجمهور: ﴿كُلُّهُنَّ﴾ بالرفع تأكيدًا لفاعل ﴿يرضين﴾، وهو: النون. وقرأ أبو إياس
(١) روح البيان.
83
حوبة بن عانذ بالنصب تأكيدًا لضمير النصب في ﴿آتَيْتَهُنَّ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾ وحده ﴿يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من الضمائر والخواطر، فاجتهدوا في إحسانها، أو يعلم ما قلوبكم من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، ومن الرضا بما دبَّر له في حقهن من تفويض الأمر إليه - ﷺ -.
روى أحمد عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله - ﷺ - يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني: القلب، وزيادة الحب لبعض دون بعض. وفي هذا (١) حث على تحسين ما في القلوب، ووعيد لمن لم يرضَ منهن بما دبر الله له من ذلك، وفوضه إلى مشيئته، وبعث على تواطىء قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على رضا رسول الله - ﷺ -.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمًا﴾ بالسرائر كالظواهر، فيعلم ما تبدونه وما تخفونه ﴿حَلِيمًا﴾ على ذنب من أذنب، فلا يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة، ليتوب منهم من شاء له أن يتوب، وينيب من ذنوبه من ينيب، فلا تغتروا بتأخيرها، فإنه إمهال لا إهمال.
٥٢ - ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ﴾ قرأ الجمهور: ﴿لَا يَحِلُّ﴾ بالياء التحتية للفصل بين الفعل وفاعله المؤنث؛ ولأن تأنيث الجمع غير حقيقي، وإذا جاز التذكير بغير فصل في قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ كان معه أجوز. وقرأ ابن كثير بالفوقية نظرًا إلى كون الفاعل جمعًا؛ أي (٢): لا تحل لك واحدة من النساء، مسلمةً كانت أو كتابية، لما تقرر عندهم أن حرف التعريف إذا دخل على الجمع.. يبطل الجمعية، ويراد الجنس، وهو كالنكرة يخص في الإثبات، ويعم في النفي، كما إذا حلف لا يتزوج النساء، ولا يكلم الناس، أو لا يشتري العبيد، فإنه يحنث بالواحد؛ لأن اسم الجنس حقيقة فيه.
أي: لا تحل لك يا محمد واحدة من النساء ﴿مِنْ بَعْدُ﴾؛ أي: من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن بين الدنيا والآخرة فاخترنك؛ لأنه نصابك من الأزواج، كما
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
84
أن الأربع نصاب أمتك منهن، أو لا يحل لك النساء بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة منهن.. لم يحل له نكاح أخرى. ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ﴾ بحذف إحدى التاءين، والأصل: تتبدل. ﴿بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ مفعول ﴿تَبَدَّلَ﴾، و ﴿مِنْ﴾ مزيدة لتأكيد النفي تفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم؛ أي: ولا يحل لك أن تتبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أخر بكلهن أو بعضهن، بأن تطلق واحدةً وتنكح مكانها أخرى.
أراد الله سبحانه وتعالى لهن كرامة وجزاء على ما اخترن رسول الله - ﷺ - والدار الآخرة، لا الدنيا وزينتها، ورضين بمراده، فقصر رسوله عليهن، ونهاه عن تطليقهن، والاستبدال بهن.
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾؛ أي: حسن المبدلات وجمالهن؛ أي: لا يحل لك التبدل بأزواجك، ولو أعجبك حسن غيرهن ممن أردت أن تجعلها بدلًا من إحداهن، والواو (١) الداخلة على ﴿لو﴾ عاطفة لمدخولها على حال محذوفة قبلها، وكلمة ﴿لو﴾ في أمثال هذا الموقع لا يلاحظ لها جواب.
والمعنى: ولا يحل لك أن تستبدل بهن حال كونك لو لم يعجبك حسن الأزواج المستبدلة وجمالهن، ولو أعجبك حسنهن؛ أي: لا يحل لك الاستبدال حال عدم إعجاب حسنهن إياك، وحال إعجابه؛ أي: لا يحل لك على كل حال، ولو في هذه الحالة، فالمراد بـ ﴿لو﴾ هنا: استقصاء الأحوال وتعميمها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: المرأة التي أراد النبي - ﷺ - استبدالها هي: أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، لما استشهد.. أراد رسول الله - ﷺ - أن يخطبها، فنهاه الله عن ذلك، فتركها، فتزوجها أبو بكر بإذن رسول الله - ﷺ -، فهي ممن أعجبه حسنهن. وفي "التكملة": قيل: يريد حبابة أخت الأشعث بن قيس. انتهى.
وفي الحديث: "شارطت ربي أن لا أتزوج إلا من تكون معي في الجنة" فأسماء أو حبابة لم تكن أهلًا لرسول الله في الدنيا، ولم تستأهل أن تكون معه في مقامه في الجنة، فلذا صرفها الله عنه، فإنه تعالى لا ينظر إلى الصورة، بل إلى
(١) الشوكاني.
85
المعنى. وفي الحديث: "من نكح امرأة لمالها وجمالها.. حرم مالها وجمالها، ومن نكحها لدينها.. رزقه الله مالها وجمالها".
وقوله: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ ويدك، استثناء من النساء؛ لأنه يتناول الأزواج والإماء، فإنه يحل له أن يتسرى بهن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ملك بعد هؤلاء التسع: مارية القبطية، فولدت له - ﷺ - إبراهيم، ابنه - ﷺ -.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال (١):
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة الحسن وابن سيرين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير: إنها محكمة، وإنه حرم على رسول الله - ﷺ - أن يتزوج على نسائه، مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله - ﷺ - بأمر الله له بذلك.
وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده.. حرم عليه أن يتزوج غيرهن، وقال أبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين: إن المعنى: لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله تعالى. قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير، وقيل: لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات؛ لأنهن لا يصح أن يتصفن بأنهن أمهات المؤمنين، وهذا القول فيه بعد؛ لأنه يكون التقدير: لا يحل لك النساء من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر، وقيل: هذه الآية منسوخة بالسنة، وبقوله سبحانه: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾، وبهذا قالت عائشة رضي الله عنها، وأم سلمة، وعلي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا هو الراجح.
ويدل لهذا القول ما أخرجه ابن سعد وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله - ﷺ - حتى أحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله سبحانه: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ...﴾ الآية.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في "ناسخه"، والترمذي وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر، والحاكم
(١) المراغي.
86
وصححه، وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت: لم يمت النبي - ﷺ - حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم لقوله: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ الآية.
وقد اختلف العلماء أيضًا في تحليل الأمة الكافرة له - ﷺ - (١):
القول الأول: أنها تحل للنبي - ﷺ -؛ لعموم هذه الآية، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم.
والقول الثاني: أنها لا تحل له تنزيهًا لقدره عن مباشرة الكافرة، ويترجح القول الأول بعموم هذه الآية، وتعليل المنع بالتنزيه ضعيف، فلا تنزه عما أحله الله له، فإن ما أحله.. فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح، لا باعتبار غير ذلك، فالمشركون نجس بنص القرآن، ويمكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ فإنه نهي عام.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾؛ أي: حافظًا مهيمنًا مطلعًا عليه، لا يخفى عليه شيء، ولا يفوته شيء، فتحفظوا ما أمركم به، ولا تتخطوا ما حد لكم. والرقيب في أسمائه تعالى: هو الذي لا يغفل ولا يذهل، ولا يجوز عليه ذلك، فلا يحتاج إلى مذكر ولا منبه، كما في "شرح الأسماء" للزورقي. وقد بسطت الكلام فيه في كتابي "هدية الأذكياء على طيبة الأسماء" فراجعه.
واجمال معنى الآية (٢): أي لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك اليوم كفاء اختيارهن الله ورسوله، وحسن صنيعهن في ذلك. ولا يحل لك أن تستبدل بهن أزواجًا أخرى غيرهن، بأن تطلق واحدة منهن، وتنكح بدلها أخرى، مهما كانت بارعة في الحسب والجمال، إلا ما ملكت يمينك منهن، وقد ملك بعدهن مارية القبطية، أهداها له المقوقس القبطي، فتسراها، وأولدها إبراهيم، ومات رضيعًا، وكان الله سبحانه حافظًا ومطلعًا على كل شيء، عليمًا بالسر والنجوى، فاحذروا تجاوز حدوده، وتخطي حلاله إلى حرامه.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
87
وقد تضمنت الآية الكريمة حكمين (١):
١ - أن لا يتزوج عليه السلام غيرهن.
٢ - أن لا يستبدل بهن غيرهن.
وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد زواجها، وقد روى أبو داود أن النبي - ﷺ - قال: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".
وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة، فقال لي النبي - ﷺ -: "هل نظرت إليها"؟ قلت: لا، قال: "انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
٥٣ - ثم أدب الله سبحانه عباده بآداب ينبغي أن يتخلقوا بها لما فيها من الحكم الاجتماعية، والمزايا العمرانية، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾؛ أي: حجرات النبي - ﷺ - في حال من الأحوال، وهذا (٢) نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله - ﷺ - إلا بإذن منه، وسبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب بنت جحش، كما سبق في أسباب النزول.
فإن قلت: إن الله أضاف البيوت هنا إلى النبي، وفيما سبق إلى الأزواج؛ حيث قال: ﴿مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ فبينهما معارضة؟
قلت: لا معارضة؛ لأن الإضافة فيما سبق إضافة سكن، وهنا إضافة ملك، كما يؤخذ من "الفتوحات".
وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وهو في موضع نصب على الحال؛ أي: إلا مصحوبين بالإذن، أو بنزع الخافض؛ أي: إلا بأن يؤذن لكم، أو منصوب على الظرفية؛ أي: إلا وقت أن يؤذن لكم.
أي (٣): لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلا حال كونكم مأذونًا
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
88
لكم ومدعوين ﴿إِلَى طَعَامٍ﴾ ومأكول، وهو متعلق بـ ﴿يُؤْذَنَ﴾ على تضمينه معنى يدعى؛ لشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة، وإن أذن في الدخول، كما أشعر به قوله: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾، وهو حال من فاعل ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾ على أن الاستثناء وقع على الظرف والحال، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي - ﷺ - إلا حال الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه؛ أي: غير منتظرين إناه؛ أي: نضجه وإدراكه واستواءه وصلاحيته للأكل. والأناه - بكسر الهمزة وبالقصر -: مصدر سماعي؛ لأنى الطعام إذا أدرك من باب رمى، وفيه إشارة إلى حفظ الأدب في الاستئذان، ومراعاة الوقت، وإيجاب الاحترام.
وقرأ الجمهور (١): ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ﴾ بالنصب على الحال، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿غير﴾ بالجر صفة لـ ﴿طَعَامٍ﴾. وقال الزمخشري: وليس بالوجه؛ لأنه جرى على غير من هو له، فمن حق ضمير غير ما هو له أن يبرز فيقال: إلى طعام غير ناظرين إناه أنتم، كقوله: هند زيد ضاربته هي. انتهى. وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيين، وقرأ الجمهور: ﴿إِنَاهُ﴾ مفردًا، والأعمش: ﴿إناءه﴾ بمدة بعد النون.
والمعنى (٢): يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبيِّه - ﷺ - إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه غير منتظرين إدراكه ونضجه.
وخلاصة ذلك: أنكم إذا دعيتم إلى وليمة في بيت النبي - ﷺ -.. فلا تدخلوا البيت إلا إذا علمتم أنَّ الطعام قد تم نضجه، وانتهى إعداده؛ إذ قبل ذلك يكون أهل البيت في شغل عنكم، وقد يلبسن ثياب البذلة، فلا يحسن أن تروهن وهن على هذه الحالة إلى أنه ربما بدا من إحداهن ما لا يحل النظر إليه.
وقوله: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا﴾ من النهي عن الدخول بغير إذن، وفيه (٣) دلالة بيِّنة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه؛ أي: ولكن إذا أذن لكم في الدخول، ودعيتم إلى الطعام، فادخلوا بيوته على وجوب الأدب، وحفظ أحكام تلك الجلسة.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
89
﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ﴾ الطعام وأكلتم وتناولتموه.. فإن الطعم تناول الغذاء ﴿فَانْتَشِرُوا﴾؛ أي: فأخرجوا من منزله، وتفرقوا واذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب. أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام، وهو التفرق، والمراد: الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل.
وفي قوله: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا﴾ لطيفة، وهي (١): أن في العادة إذا قيل لمن يعتاد دخول دار من غير إذن: لا تدخلها إلا بإذن.. يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلًا، ولا بالدعاء، قال: لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين، إذا قيل لكم: لا تدخلوا فلا تدخلوا، وإذا قيل لكم: ادخلوا فادخلوا، وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ يفيد الجواز، وقوله: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا﴾ يفيد الوجوب فليس تأكيدًا، بل هو مفيد فائدة جديدة. اهـ "رازي".
والآية (٢) خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله - ﷺ -، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام، ولا اللبث بعد الطعام لأمر مهم، وليس كذلك، كما سيأتي.
﴿وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ هو مجرور عطفًا على ناظرين؛ أي: غير مستأنسين، أو منصوب على الحالية بعامل مقدر؛ أي: ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين بحديث بعضكم مع بعض، أو بحديث أهل البيت بالسمع له، نهوا أن يطيلوا الجلوس، ويستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدِّثه به، أو يستأنسوا بالحديث مع أزواج النبي - ﷺ -، واللام في قوله: ﴿لِحَدِيثٍ﴾ يحتمل أن تكون للعلة؛ أي: مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضًا، وأن تكون المقوية للعامل؛ لأنه فرع؛ أي: لطلب اسم الفاعل للمفعول؛ أي: ولا مستأنسين حديث أهل البيت أو غيرهم، واستئناسه تسمعه. اهـ "سمين" ويحتمل أن تكون بمعنى الباء، والأنس: ضد الوحشة والنفور، كما سيأتي.
(١) الفخر الرازي.
(٢) البيضاوي.
90
والمعنى (١): أي ولكن إذا دعاكم الرسول - ﷺ -.. فادخلوا البيت الذي أذن لكم في دخوله، فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم إلى أكله.. فتفرقوا واخرجوا، ولا تمكثوا فيه لتتبادلوا ألوان الحديث وفنونه المختلفة.
وقال الرازي في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ﴾ إما أن يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم، فلا يكون منعًا من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير، فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام، فيكون الإذن مشروطًا بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام.. فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام، فلا يجوز. فنقول: المراد هو الثاني؛ ليعم النهي عن الدخول، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام.. فلما هو مذكور في سبب النزول: أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام، ويدخلون من غير إذن، فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن.
وقال ابن عادل: الأولى أن يقال: المراد هو الثاني؛ لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، وقوله: ﴿إِلَى طَعَامٍ﴾ من باب التخصيص بالذكر، فلا يدل على نفي ما عداه، لا سيما إذا علم مثله، فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه.. جاز دخوله بإذنه إلى غير طعام. انتهى.
والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال: قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته - ﷺ - بإذنه لغير الطعام، وذلك معلوم لا شك فيه، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام، فياذن لهم، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذين نزلت فيه، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي - ﷺ -، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته باذنه لغير الطعام، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكِّر
(١) المراغي.
91
من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه.. جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي - ﷺ -، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام.
وفي "التأويلات النجمية": إذا انتهت حوائجكم فأخرجوا ولا تتغافلوا، ولا يمنعكم حسن خلقه من حسن الأدب، ولا يحملنكم فرط احتشامه على الإبرام عليه، وكان حسن خلقه جسرهم على المباسطة معه، حتى أنزل الله سبحانه هذه الآية.
ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ الاستئناس بعد الأكل الدال على اللبث، ﴿كَانَ﴾ في علم الله سبحانه ﴿يُؤْذِي النَّبِيَّ﴾ - ﷺ -؛ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله، وشغله فيما لا يعنيه، والأذى: هو كل ما يصل إلى الإنسان من ضرر، كما سيأتي.
وقيل: إن (١) الإشارة بقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ إلى الانتظار والاستئناس للحديث، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور، كما في قوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾؛ أي: إن ذلك المذكور من الأمرين كان يؤذي النبي - ﷺ -، ويلحق به الضرر؛ لأنهم يضيقون عليه المنزل، وعلى أهله، ويتحدثون بما لا يريده. قال الزجاج: كان النبي - ﷺ - يحتمل إطالتهم كرمًا منه، فيصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله - سبحانه - من يحضره الأدب حتى صار أدبًا لهم، ولمن بعدهم.
﴿فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾؛ أي: يستحيي أن يقول لكم قوموا أو اخرجوا ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿لَا يَسْتَحْيِي مِنَ﴾ بيان ﴿الْحَقِّ﴾ الذي هو الإخراج لكم؛ أي: لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق، ولا يمتنع من بيانه وإظهاره، والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة، يعني: أن (٢) إخراجكم حق، فينبغي أن لا يترك حياء، ولذلك لم يتركه الله ترك الحيي، وأمركم بالخروج، وكان - ﷺ - أشدَّ الناس حياءً، وأكثرهم عن العورات إغضاءً، وهو التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
92
وهذا أدب أدَّب الله به الثقلاء، وعن عائشة رضي الله عنها: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا﴾، فينبغي للضيف أن لا يجعل نفسه ثقيلًا، بل يخفف الجلوس، وكذا حال العائد، فإن عيادة المرضى لحظة. قيل للأعمش: ما الذي أعمش عينيك؛ قال: النظر إلى الثقلاء، وقد قيل:
إِذَا دخَلَ الثَّقِيْلُ بِأرْضِ قَوْمٍ فَمَا لِلسَّاكِنِيْنَ سوَى الرَّحِيْلُ
وقيل: مجالسة الثقيل حمى الروح، وقيل لأنوشروان: ما بال الرجل يحمل الحمل الثقيل، ولا يحمل مجالسة الثقيل؟ قال: يحمل الحمل بجميع الأعضاء، والثقيل تنفرد به الروح. قيل: من حق العاقل الداخل على الكرام قلة الكلام، وسرعة القيام.
ومن علامة الأحمق الجلوس فوق القدر، والمجيء في غير الوقت، وقد قالوا: إذا أتى باب أخيه المسلم.. يستأذن ثلاثًا، ويقول في كل مرة: السلام عليكم يا أهل البيت، ثم يقول: أيدخل فلان، ويمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ الآكل من أكله، ومقدار ما يفرغ المتوضؤ من وضوئه، والمصلي بأربع ركعات من صلاته، فإن أذن.. دخل، وخفف، وإلا رجع سالمًا عن الحقد والعداوة، ولا يجب الاستئذان على من أرسل إليه صاحب البيت رسولًا، فيأتي بدعوته قال الحامي:
أَدِّبُوْا النَّفْسَ أَيُّهَا الأَحْبَابُ طُرُقَ الْعِشْقِ فَإِنَّ لَهَا آدَابُ
وقرأ الجمور (١): ﴿فَيَسْتَحْيِي﴾ بيائين مع سكون الحاء، مضارع استحيا من باب استفعل، وقرأت فرقة: ﴿فيستحي﴾ بياء واحدة مع كسر الحاء مضارع استحا، وهي لغة تميم، وروي عن ابن كثير، واختلفوا في المحذوف منه، أعين الكلمة أم لامها؟ فإن كان العين.. فوزنها: يستفل، وإن كان اللام.. فوزنها: يستفع، والترجيح مذكور في كتب النحو.
والمعنى (٢): أي إن ذلك اللبث والاستئناس والدخول على هذا الوجه كان يؤدي النبي - ﷺ -؛ لأنه كان يمنعه من قضاء بعض حوائجه إلى ما فيه من تضييق
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
93
المنزل على أهله، لكنه كان يستحيي من إخراجكم، ومنعكم مما يؤذيه، والله لم يترك الحق، وأمركم بالخروج، وفي هذا إيماء إلى أن اللبث يحرم على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم، إذا كان في ذلك أذى لرب البيت، ولو كان البيت غير بيت النبي - ﷺ -، فالتثقيل مذموم في كل مكان، محتقر صاحبه لدى كل إنسان، وعلى الجملة فللدعوة إلى المآدب نظم وآداب خاصة، أفردت بالتأليف، ولا سيما في العصر الحديث، وجعلوا التحلل منها، وترك اتباعها مما لا تسامح فيه.
ثم ذكر سبحانه أدبًا آخر متعلقًا بنساء النبي - ﷺ -، فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ﴾؛ أي: وإذا سألتم أيها المؤمنون أزواج النبي - ﷺ -، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج ﴿مَتَاعًا﴾؛ أي: شيئًا تتمتعون وتنتفعون به من ماعون وغيره ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ﴾؛ أي: فاطلبوا منهن ذلك المتاع ﴿مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾؛ أي: من وراء ستر بينكم وبينهن.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب في صبيحة عرس رسول الله - ﷺ - بزينب بنت جحش في ذي القعدة، سنة خمس من الهجرة، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر، كما في "الصحيحين" عنه قال: وافقت ربي عَزَّ وَجَلَّ في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت: لأزواج النبي - ﷺ - لما تمالأن عليه في الغيرة: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت كذلك.
ثم بين سبب ما تقدم بقوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾، والإشارة (١) فيه إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل: الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول، وسؤال المتاع من وراء حجاب، والأول أولى بقرينة السياق. واسم الإشارة مبتدأ، وخبره ﴿أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ﴾ أيها الرجال الأجانب، ﴿و﴾ أطهر لـ ﴿قلوبهن﴾؛ أي: لقلوب النساء الأجنبيات؛ أي: أكثر تطهيرًا لها من الخواطر النفسانية، والخيالات الشيطانية التي تعرض للرجال في أمر النساء،
(١) الشوكاني.
94
وللنساء في أمر الرجال، فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم يَرَ الآخر.. لم يقع في قلبه شيء.
قال في "كشف الأسرار": نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال، وبين أن البشر بشر، وإن كانوا من الصحابة، وأزواج النبي - ﷺ -، فلا يأمن أحد على نفسه من الرجال والنساء، ولهذا شدد الأمر في الشريعة بأن لا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمية كما قال - ﷺ -: "لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان"، وفي هذا أدب لكل مؤمن، وتحذير له من أن يشق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه.
والمعنى (١): ذلك السؤال من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان ونزغاته؛ لأن العين رسول القلب، فإذا لم تر العين.. لم يشته القلب، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر. وجاء في الأثر: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس" إذ الرؤية سبب للتعلق والفتنة، ألا ترى إلى قول الشاعر:
وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا فِيْ أَعْيُنِ الْعِيْنِ مَوْقُوْفٌ عَلَى الْخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا سَاءَ مُهْجَتَهُ لَا مَرْحَبًا بِانْتِفَاعٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ
ولما ذكر ما ينبغي من الآداب حين دخول بيت الرسول.. أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله: ﴿وَمَا كَانَ﴾ ينبغي ﴿لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ - ﷺ - أي أن تفعلوا في حياته - ﷺ - فعلًا يتأذى به بكرهه، كاللبث والاستئناس للحديث الذي كنتم تفعلونه، فإن الرسول يسعى لخيركم ومنفعتكم في دنياكم وآخرتكم فعليكم أن تقابلوا بالحسنى كفاء جليل أعماله.
أي: ما صح لكم (٢)، ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائنًا ما كان، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب، ولما كان رسول الله - ﷺ - قد قصر عليهن.. قصرهن
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
95
الله عليه بقوله: ﴿وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ﴾؛ أي: ولا كان لكم أن تتزوجوا أزواجه - ﷺ - ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد مفارقته إياهن بموت أو طلاق ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: مدة حياتها زيادة في شرفه، وإظهارًا لعظمته وجلاله، ولأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات، ولأن في تزوجهن تركًا لمراعاة حرمته - ﷺ -، ويقال (١): لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، كما قال: "شارطت ربي أن لا أتزوج إلا من يكون معي في الجنة"، ولو تزوجن.. لم يكنَّ معه في الجنة؛ لأن المرأة لآخر أزواجها.
والحاصل: أنه يجب على الأمَّة أن يعظِّموه - ﷺ -، ويوقروه في جميع الأحوال في حال حياته، وبعد وفاته، فإنه بقدر ازدياد تعظيمه وتوقيره في القلوب، يزداد نور الإيمان فيها.
ثم بين السبب فيما تقدم بقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ الذكور من إيذائه - ﷺ -، ونكاح أزواجه من بعده ﴿كَانَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ - سبحانه وتعالى - ذنبًا ﴿عَظِيمًا﴾، وخطبًا جليلًا، وأمرًا خطيرًا، لا يقادر قدره إلا الله تعالى.
٥٤ - ثم بالغ في الوعيد، فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ أيها المؤمنون وتظهروا على ألسنتكم ﴿شَيْئًا﴾ مما لا خير فيه كنكاحهن ﴿أَوْ تُخْفُوه﴾؛ أي: تخفوا ذلك الشيء، وتكتموه في صدوركم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ - سبحانه وتعالى - ﴿كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾؛ أي: بليغ العلم بظاهر كل شيء وباطنه، فيجازيكم بما صدر منكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة، وعمم (٢) ذلك ليدخل فيه نكاحهن وغيره؛ أي: يعلم كل شيء من الأشياء، ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله، وما تكتمونه في صدوركم، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها.
أي: إن ما تكنه ضمائركم، وتنطوي عليه سرائركم، فالله يعلمه؛ إذ لا تخفى عليه خافية ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)﴾، ثم يجازيكم بما صدر منكم من المعاصي الظاهرة والباطنة، والكلام، وإن كان عامًا بظاهره، فالمقصود ما
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
يتعلق بزوجاته - ﷺ -.
٥٥ - وروي: أنه لما نزلت آية الحجاب.. قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نكلمهنَّ أيضًا - أي: كالأباعد - من وراء حجاب، فنزلت ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ﴾، ورخص الدخول على نساء ذوات محارم بغير حجاب؛ أي: لا ذنب ولا إثم على أزواج النبي - ﷺ - ﴿فِي﴾ دخول ﴿آبَائِهِنَّ﴾ عليهن، ونظرهم وكلامهم ورؤيتهم إياهن بلا حجاب، سواء كان الأب أبًا من النسب، أم من الرضاع. ﴿وَلَا﴾ في دخول ﴿أَبْنَائِهِنَّ﴾ عليهن، ونظرهم وكلامهِم بلا حجاب، سواء كان الابن من النسب، أو من الرضاع. ﴿وَلَا﴾ في ﴿إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ﴾؛ أي: لا إثم عليهن في ترك الحجاب عن هؤلاء الأصناف من الأقارب، فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله - ﷺ -، ولا على غيرهن من النساء الاحتجاب منهم، فهؤلاء ينظرون إلى الوجه والرأس والساقين والعضدين، ولا ينظرون إلى ظهرها، وبطنها، وفخذها، وأبيح النظر لهؤلاء لكثرة مداخلتهم عليهن، واحتياجهن إلى مداخلتهم، وإنما لم يذكر العم والخال؛ لأنهما بمنزلة الوالدين، ولذلك سمي العم أبًا في قوله تعالى: ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، أو لأنه يكره ترك الاحتجاب منهما مخافة أن يصفاهن لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم؛ لجواز النكاح بينهم، فكره لهما الرؤية. وهذا ضعيف جدًا (١)، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز النظر إليهما، لا سيما أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها؛ لأنهن يصفنها لأزواجهن، واللازم باطل، فالملزوم مثله. وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة: من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، والأولى أن يقال: إنه سبحانه اقتصر هاهنا على بعض ما ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاءً بما تقدم، والمضاف إليه في قوله: ﴿وَلَا﴾ جناح عليهن في عدم الاحتجاب عن ﴿نِسَائِهِنَّ﴾ واقع على أزواج النبي - ﷺ -؛ أي (٢): ولا جناح على زوجات النبي - ﷺ - في عدم الاحتجاب عن نسائهن؛ أي: عن النساء المسلمات، وإضافتهن لهن من
(١) الشوكاني.
(٢) الفتوحات.
97
حيث المشاركة في الوصف، وهو الإِسلام، وأما النساء الكافرات فيجب على أزواج النبي - ﷺ - الاحتجاب عنهن، كما يجب على سائر المسلمات؛ أي: ما عدا ما يبدو عند المهنة، أما هو.. فلا يجب على المسلمات حجبه وستره عن الكافرات. اهـ. شيخنا، وقيل: هو عام في المسلمات والكتابيات، وإنما قال: ولا نسائهن بالإضافة؛ لأنهن من أجناسهن.
﴿وَلَا﴾ جناح عليهن في عدم الاحتجاب عن ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ وأيديهن من العبيد والإماء؛ لما في الاحتجاب عن العبيد من المشقة؛ لأنهم يقومون بالخدمة عليهن، فيكون عبد المرأة محرمًا لها، فيجوز (١) له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وأن ينظر إليها كالمحارم، وقد أباحت عائشة النظر لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر، وخرجت فأنت حر، وقيل: من الإماء خاصة، فيكون العبد حكمه حكم الأجنبي معها.
قال في "بحر العلوم": وهو أقرب إلى التقوى؛ لأن عبد المرأة كالأجنبي خصيًا كان أو فحلًا، وأين مثل عائشة؟ وأين مثل عبدها في العبيد؟ لا سيما في زماننا هذا. وهو قول أبي حنيفة، وعليه الجمهور، فلا يجوز لها الحج ولا السفر معه، وقد أجاز نظره إلى وجهها وكفيها إذا وجد الأمن من الشهوة، ولكن جواز النظر لا يوجب المحرمية، وقد سبق بعض ما يتعلق بالمقام في سورة النور، فارجع لعلك تجد السرور.
قوله: ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾ يا أزواج النبي - ﷺ -، وكذا سائر النساء المسلمات، معطوف على محذوف، تقديره: امتثلن ما أمرتن به من الاحتجاب، واتقين الله حتى لا يراكن غير هؤلاء ممن ذكر، وعليكن الاحتياط ما قدرتن، واخشين الله في السر والعلن، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، وهو يجازي على العمل خيرًا أو شرًا.
والخلاصة: أنّ الله شاهد عليكم عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوه فيما تأتون وما تذرون، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ
(١) روح البيان.
98
شَيْءٍ شَهِيدًا}؛ أي: مطلعًا لا تخفى عليه خافية من الأقوال والأفعال، ولا يتفاوت في علمه الأماكن والأوقات والأحوال.
وفي "التأويلات النجمية": يشير بالآية إلى تسكين قلوبهن بعد فطامهن عن مألوفات العادة، ونقلهن إلى معروف الشريعة، ومفروض العبادة، فمن عليهن وعلى أقربائهن بإنزاله هذه الرخصة؛ لأنه ما أخرجهن، وما خلَّى سبيل الاحتياط لهن مع ذلك فقال: ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾ فيهن، وفي غيرهن بحفظ الخواطر، وميل النفوس، وهمها. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أعمال النفوس، واحوال القلوب ﴿شَهِيدًا﴾ حاضرًا وناظرًا إليها. قال أبو العباس الفاسي: الشهيد: هو الحاضر الذي لا يغيب عنه معلوم، ولا مرئي، ولا مسموع.
فائدة: وجملة الأزواج التي مات عنهن رسول الله - ﷺ -، وهي المرادة في هذه الآية تسع: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب، وجويرية، وقد نظمهن بعضهم فقال:
تُوُفِّيْ رَسُوْلُ اللهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ إِلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ
فَعَائِشَةٌ مَيْمُوْنَةٌ وَصَفِيَّةٌ وَحَفْصَةُ تَتْلُوْهُنَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ
جُوَيْرِيَّة مَعْ رَمْلَةٍ ثُمَّ سَوْدَةٌ ثَلاَثٌ وَسِتٌّ ذِكْرُهُنَّ لَيَعْذُبُ
٥٦ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ محمد - ﷺ -؛ أي: يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره، ويهتمون بإظهار شرفه، وتعظيم شأنه، وذلك من الله تعالى بالرحمة، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار، فقوله: ﴿يُصَلُّونَ﴾ محمول على عموم المجاز؛ إذ لا يجوز إرادة معنيي المشترك معًا، فإنه لا عموم للمشترك مطلقًا؛ أي: سواء كان بين المعاني تنافٍ أم لا.
قال القهستاني: الصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الإنس والجن: القيام والركوع والسجود والدعاء ونحوها، ومن الطير والهوام: التسبيح، والصلاة: اسم مصدر من التصلية، وكلاهما مستعمل بخلاف الصلاة بمعنى أداء الأركان، فإن مصدرها لم يستعمل، فلا يقال: صليت تصليةً، بل يقال: صليت صلاة.
وقال بعضهم: الصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة لغير النبي - ﷺ -، وبمعنى
99
التشريف بمزيد الكرامة للنبي، والرحمة عامة، والصلاة خاصة، كما دل العطف على التغاير في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾، وقال بعضهم: صلوات الله على غير النبي رحمة، وعلى النبي - ﷺ - ثناء ومدحة، قولًا وتوفيق وتأييد فعلًا، وصلاة الملائكة على غير النبي - ﷺ -: استغفار، وعلى النبي: إظهار للفضيلة، والمدح قولًا، والنصرة والمعاونة فعلًا. وصلاة المؤمنين على غير النبي: دعاء، وعلى النبي: طلب الشفاعة قولًا، واتباع السنة فعلًا.
وقال بعضهم: صلوات الله على النبي - ﷺ - بتبليغه إلى المقام المحمود، وهو مقام الشفاعة لأمته، وصلوات الملائكة: دعاؤهم له بؤيادة مرتبته، واستغفارهم لأمته، وصلوات الأمة: متابعتهم له، ومحبتهم إياه، والثناء عليه بالذكر الجميل.
وهذا التشريف الذي شرف الله به نبينا - ﷺ - أتم من تشريف آدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله تعالى مع الملائكة في هذا التشريف لآدم، وقد أخبر تعالى عن نفسه بالصلاة على النبي، ثم عن الملائكة، وما أحسن قول بعضهم:
يُصَلِّيْ عَلَيْهِ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِهَذَا بَدَا لِلْعَالَمِيْنَ كَمَالُهُ
وقرأ الجمهور: ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ بنصب الملائكة عطفًا على لفظ اسم ﴿إِنَّ﴾، وقرأ ابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿وملائكتُه﴾ بالرفع عطفًا على محل اسم ﴿إِنَّ﴾، والضمير في قوله: ﴿يُصَلُّونَ﴾ راجع إلى الله، وإلى الملائكة، وفيه تشريف للملائكة عظيم، حيث جعل الضمير لله ولهم واحدًا، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه - ﷺ - لما سمع قول الخطيب يقول: من يطع الله ورسوله.. فقد رشد، ومن يعصهما.. فقد غوى، فقال: "بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعصى الله ورسوله". ووجه ذلك: أنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد، وهذا الحديث ثابت في "الصحيح". وثبت أيضًا في "الصحيح" أن رسول الله - ﷺ - أمر مناديًا ينادي يوم خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية. ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله ولملائكته واحدًا، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله - ﷺ -، ويجمع بينهما يحمل الذم لذلك الخطيب
100
الجامع بينهما على أنه - ﷺ -، فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله، فيختص المنع بمثل ذلك. وهذا أحسن ما قيل في الجمع، وقالت طائفة: في الآية حذف، والتقدير: إن الله يصلي، وملائكته يصلون، وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد.
ولا يرد أيضًا ما قيل: إن الصلاة من الله الرحمة، ومن ملائكته الدعاء، فكيف يجمع بين هذين المعنيين المختلفين في لفظ ﴿يُصَلُّونَ﴾. ويقال على القول الأول: إنه أريد بـ ﴿يُصَلُّونَ﴾ معنى مجازي يعم المعنيين، كما مر، وذلك بأن يراد بقوله: ﴿يُصَلُّونَ﴾ يهتمون بإظهار شرفه، أو يعظمون شأنه، أو يعتنون بأمره.
فإن قيل: إذا صلى الله وملائكته عليه، فأي حاجة به إلى صلاتنا؟
أجيب: بأن الصلاة عليه ليس لحاجته إليها، وإلا فلا حاجة به إلى صلاة الملائكة أيضًا، وإنما القصد بها تعظيمه - ﷺ -، وعود فائدتها علينا بالثواب والقرب منه - ﷺ -. اهـ. "خطيب".
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد ﴿صَلُّوا﴾؛ أي: اعتنوا واهتموا أنتم أيضًا بالصلاة ﴿عَلَيْهِ﴾ - ﷺ - قولًا، واتباع سنته فعلًا، فإنكم أولى بذلك، وأحوج إليه؛ أي: صلوا عليه صلاة دائمة ﴿وَسَلِّمُوا﴾ عليه ﴿تَسْلِيمًا﴾ كاملًا بأن تقولوا: اللهم صل على محمد وسلم، أو - ﷺ -، أو تقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
وقيل: معنى ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾؛ أي: ادعوا له بالرحة المقرونة بالتعظيم، ومعنى ﴿سلموا﴾ عليه؛ أي: حيوه بتحية الإِسلام، وقيل: معنى ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾؛ أي: قولوا: اللهم صل على محمد، ومعنى ﴿سلموا﴾ عليه؛ أي: قولوا: اللهم صلم على محمد، أو انقادوا لأمره وحكمه.
والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صل وسلم على رسولك، أو على محمد، أو على النبي، أو اللهم صلِّ على محمد وسلم. ومن أراد أن يصلي عليه وسلم عليه بصفة من الصفات التي ورد التعليم بها، والإرشاد إليها، فذلك أكمل، وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة.
101
فمنها: حديث كعب بن عجرة قال: لما نزلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...﴾ الآية.. قلنا: يا رسول الله، قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" متفق عليه.
ومنها: حديث طلحة بن عبيد الله قال: قلت: يا رسول الله، كيف الصلاة عليك؟ قال: "قل: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد". أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والنسائي.
ومنها: حديث أبي حميد الساعدي: أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي الأحاديث اختلاف، ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما، كحديث طلحة المذكور، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا، وفي بعضها التقييد بالصلاة، كما في حديث أبي مسعود عند ابن خزيمة، والحاكم وصححه، والبيهقي في "سننه": أن رجلًا قال يا رسول الله، أما السلام عليكم.. فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ الحديث.
وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله، وجميع التعليمات الواردة عنه - ﷺ - في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه، وقال بذلك جماعة من العلماء، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولًا عن الشافعي، كما رواه عنهما ابن كثير في "تفسيره".
والمراد بآله: الأتقياء من أمته، فدخل فيه بنو هاشم، والأزواج المطهرة، وغيرهم جميعًا.
102
فإن قلت: أكد السلام بقوله: ﴿تَسْلِيمًا﴾؛ لأنه مصدر مؤكد لعامله، ولم يؤكد الصلاة؟
قلتُ: لم تؤكد الصلاة بالمصدر؛ لأنها مؤكدة بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ...﴾ إلخ، وقيل: إنه من الاحتباك، فحذف عليه من أحدهما، والمصدر من الآخر.
فإن قلت: لِمَ خص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته، فخصهما بالصلاة؟
قلتُ: لما جاءت هذه الآية عقب ذكر ما يؤذي النبي، والأذية: إنما هي من البشر ناسب التخصيص بهم والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكر بعده؟
فإن قلت: لِمَ خص اللهم في الصلاة الواردة، ولم يقل: يا رب ويا رحمن صلِّ؟.
قلت: خص لفظ اللهم؛ لأنه اسم جامع قال على الألوهية وعلامة الإِسلام في قوله: لا إله إلا الله، فناسب ذكره وقت الصلاة عليه؛ لأنه - ﷺ - جامع لنعوت الكمال، مشتمل على أسرار الجمال والجلال.
فإن قلت: لم خص لفظ محمد فيها دون أحمد ومحمود؟
قلتُ: خص لفظ محمد من بين أسمائه؛ لأن معناه: المحمود مرة بعد أخرى، فناسب مقام المدح والثناء.
قال في "شرح الكشاف" وغيره: معنى قوله: اللهم صل على محمد: اللهم عظمه في الدنيا بإعلاء دينه، وإعظام ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وإظهار فضله على الأولين والآخرين، وتقديمه على كافة الأنبياء والمرسلين، ومعنى سلم: اجعله يا رب سالمًا من كل مكروه في الدنيا والآخرة.
ولما لم يكن حقيقة الثناء في وسعنا.. أمرنا أن نكل ذلك إليه تعالى، فالله يصلي. ويسلم عليه بسؤالنا:
سَلَامٌ مِنَ الرَّحْمَنِ نَحْوَ جَنَابِهِ لأَنَّ سَلَامِي لَا يَلِيْقُ بِبَابِهِ
فإن قلت: فما الفائدة في الأمر بالصلاة؟
قلتُ: إظهار المحبة للصلاة، كما استحمد فقال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إظهارًا
103
لمحبة الحمد مع أنه هو الحامد لنفسه في الحقيقة.
وفي "الفتوحات المكية": إنما شرع السلام من المؤمنين؛ لأن مقام الأنبياء يعطي الاعتراض عليهم لأمرهم الناس بما يخالف أهواءهم، فكان المؤمن يقول: يا رسول الله، أنت في أمان من اعتراض عليك في نفسي، وكذلك السلام على عباد الله الصالحين، فإنهم كذلك يأمرون الناس بما يخالف أهواءهم بحكم الإرث للأنبياء، وأما تسليمنا على أنفسنا، فإن فينا ما يقتضي الاعتراض واللوم منا علينا، فنلزم نفوسنا التسليم فيه لنا، ولا نعترض كما يقول الإنسان: قلت لنفسي كذا، فقالت: لا. ولم نقف على رواية عن النبي - ﷺ - في تشهده الذي كان يقوله في الصلاة، هل كان يقول مثلنا: "السلام عليك أيها النبي - ﷺ - "، أو كان يقول: السلام عليَّ، أو كان لا يقول شيئًا من ذلك، ويكتفي بقوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، فإن كان يقول مثل ما أمرنا.. نقول في ذلك وجهان:
أحدهما: أن يكون المسلَّم عليه هو الحق سبحانه، وهو مترجم عنه، كما جاء في سمع الله لمن حمده.
والوجه الثاني: أنه كان يقام في صلاته في مقام الملائكة مثلًا، ثم يخاطب نفسه من حيث المقام الذي أقيم فيه أيضًا من كونه نبيًا، فيقول: "السلام عليك أيها النبي" فعل الأجنبي، فكأنه جرد من نفسه شخصًا آخر. انتهى كلام "الفتوحات".
وإن قيل: ظاهر (١) هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت على محمد، وسلمت على محمد، أو الصلاة عليه، والسلام عليه فإن الله سبحانه أمر بإيقاع الصلاة والسلام عليه منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا، فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم صل عليه وسلم عليه، بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن يصلي عليه ويُسلِّم عليه.
أجيب عنه: بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانت شعارًا عظيمًا للنبي - ﷺ -، وتشريفًا وتكريمًا له.. وكلنا ذلك إلى الله عز وجل، وأرجعناه إليه، وهذا الجواب كما مر آنفًا ضعيف جدًا، وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم
(١) الشوكاني.
104
المأمور بهما في الآية هما أن نقول: اللهم صلِّ عليه وسلم، أو نحو ذلك مما يؤدي معناه، كما بيَّنه رسول الله - ﷺ - لنا، فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية.
وإن قيل: السلام (١) مخصوص بالحي، والشعبي عليه السلام ميت، فكيف يصح السلام عليه؟
أجيب عنه: بأن المؤمن لا يموت حقيقة، وإن فارق روحه جسده، فالنبي عليه السلام مصون بدنه الشريف من التفسخ والانحلال في التراب، حي بالحياة البرزخية، ويدل عليه قوله - ﷺ -: "إن لله ملائكة سياحين، يبلغونني عن أمتي السلام"، ويؤخذ من هذا الحديث: أنه حي على الدوام في البرزخ الدنيوي؛ لأنه محال عادة أن يخلو الوجود كله من واحد يسلِّم على النبي في ليل أو نهار.
فإن قلت: لم خص إبراهيم بالذكر في الصلاة، وشبه صلوات نبينا بصلاته؟
قلتُ: أمرنا بالصلاة على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم؛ لأنه حين تم بناء البيت.. دعوا للحجاج بالرحمة، فكافأناهم بذلك، وقال الإِمام النيسابوري: لأنه سأل الله أن يبعث نبينا من ذرية إسماعيل فقال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾، ولذا قال النبي - ﷺ -: "أنا دعوة أبي إبراهيم" فكافأه، وشكره، وأثنى عليه مع نفسه بالصلاة التي صلى الله عليه وملائكته. وأيضًا: أُمرنا بالصلاة على إبراهيم، لأن قبلتنا قبلته، ومناسكنا مناسكه، والكعبة بناؤه، وملته متبوعه للأمم، فأوجب الله على أمة محمد ثناءه، فلهذه المعاني خص إبراهيم بالذكر في الصلاة، وشبه صلاة نبينا بصلاته دون صلاة غيره، فاعرف.
فإن قلت: تشبيه الصلاة على محمد بالصلاة على إبراهيم يقتضي أفضلية إبراهيم على محمد عليهما الصلاة والسلام، فينافي قوله - ﷺ -: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"؟
قلت: التشبيه لم يقع بين الصلاة عليهما، بل بين الصلاة على آل محمد، والصلاة على إبراهيم وآله؛ لأن المعنى: اللهم صلِّ على محمد صلاة كاملة، وصلِّ
(١) روح البيان.
105
على آل محمد مثل الصلاة على إبراهيم وآله، فلا يشكل يكون المشبه به أقوى، كما هو المشهور ذكره "القهستاني"، وقال في "الضياء المعنوي": هذا تشبيه من حيث أصل الصلاة، لا من حيث المصلى عليه؛ لأن نبينا أفضل من إبراهيم، فمعناه: اللهم صلِّ على محمد بمقدار فضله وشرفه عندك، كما صليت على إبراهيم بقدر فضله وشرفه. وهذا كقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾؛ أي: اذكروا الله بقدر نعمه وآلائه عليكم، كما تذكرون آباءكم بقدر نعمهم عليكم، وتشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد، وإن كان لا يشبهه من كل وجه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ من وجه واحد، وهو تخليقه عيسى من غير أب. انتهى.
ثم إن الآية الكريمة دلت على وجوب الصلاة والسلام على رسول الله - ﷺ -، واتفق العلماء على وجوبها، كما دلت عليه الآية، ثم إنهم (١) اختلفوا فقال قوم: تجب في العمر مرة، واعتمده الكرخي، وعليه أكثر العلماء، وقيل: تجب في كل صلاة في التشهد الأخير، وهو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقيل: تجب كلما جرى ذكره على لسانه، أو سمعه من غيره، فاختاره الطحاوي من الحنفية، والحليمي من الشافعية، وهو ضعيف، والواجب اللهم صلِّ على محمد، وما زاد سنة.
وأما الصلاة عليه في التشهد الأخير: فسنة عند أبي حنيفة ومالك، وشرط لجواز الصلاة عند الشافعى، وركن عند أحمد، فتبطل الصلاة عندهما بتركها عمدًا كان أو سهوًا؛ لقوله - ﷺ -: "لا صلاة لمن لم يُصل عليَّ في صلاته. قالت الحنفية والمالكية: ذلك محمول على نفي الكمال، ولو كانت فريضةً لعلَّمها النبي - ﷺ - الأعرابي حين علَّمه أركان الصلاة.
وأما الصلاة على غير الأنبياء (٢): فتجوز تبعًا بأن يقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آله، ويكره استقلالًا وابتداءً كراهة تنزيه، كما هو الصحيح الذي عليه الأكثرون، فلا يقال: اللهم صلِّ على أبي بكر؛ لأن في العرف شعار ذكر الرسل، ومنه كره أن يقال: محمد عز وجل مع كونه عزيزًا جليلًا، ولتأديته إلى الاتهام
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
106
بالرفض؛ لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم.
وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم"، وأما السلام فهو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، فلا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: عليُّ عليه السلام، كما تقول الروافض وتكتبه، وسواء في هذا الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: السلام عليك أو عليكم، وسلام عليك أو عليكم. وهذا مجمع عليه، والسلام على الأموات عند الحضور في القبور من قبيل السلام على الحاضر.
وأما إفراد الصلاة عن ذكر السلام وعكسه، فقد اختلفت الروايات فيه: منهم من ذهب إلى عدم كراهته، فإن الواو في ﴿وَسَلِّمُوا﴾ لمطلق الجمع من غير دلالة على المعية، وعن إبراهيم النخعي: إن السلام؛ أي: قول الرجل: عليه السلام، يجزىء عن الصلاة على النبي - ﷺ -، لقوله تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ﴾، ولكن لا يقتصر على الصلاة، فإذا صلى أو كتبها.. أتبعها التسليم، ويستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار، فيقال: أبو بكر رضي الله عنه، أبو حنيفة رحمه الله، أو نحو ذلك، فليس رضي الله مخصوصًا بالصحابة، بل يقال فيهم: رحمه الله أيضًا، والأرجح في مثل لقمان ومريم والخضر والإسكندر المختلف في نبوته أن يقال: رضي الله عنه، أو عنها، ولو قال: عليه السلام، أو عليها السلام، فلا بأس به، ويقال: تخصيص علي بن أبي طالب بكرَّم الله وجهه من شعار الروافض.
وقال الإِمام اليافعي في "تاريخه" (١): والذي أراه أن يفرَّق بين الصلاة، والسلام، والترضي، والترحم، والعفو، فالصلاة: مخصوصة على المذهب الصحيح بالأنبياء والملائكة، والترضي: مخصوص بالصحابة، والترحم: لمن دونهم، والعفو: للمذنبين، والسلام: مرتبة بين مرتبتي الصلاة والترضي، فحسن أن يكون لمن منزلته بين منزلتين، أعني: يقال لمن اختلف في نبوتهم، كلقمان، والخضر، وذي القرنين، لا لمن دونهم. ويكره أن يرمز للصلاة والسلام على النبي - ﷺ - في الخط بأن يقتصر من ذلك على الحرفين هكذا: عم، أو نحو ذلك كمن يكتب:
(١) روح البيان.
107
صلعم، يشير به إلى: - ﷺ -، ويكره حذف واحد من الصلاة والسلام، والاقتصار على أحدهما، وفي الحديث: "من صلى علي في كتاب.. لم تزل صلاته جاريةً له ما دام اسمي في ذلك الكتاب"، كما في "أنوار المشارق" لمفتي حلب.
وورد في فضائلها أحاديث كثيرة (١):
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "من صلى علي واحدة.. صلى الله عليه بها عشرًا". أخرجه مسلم.
ومنها: حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله قال: "من صلى عليَّ صلاة واحدة.. صلى الله عليه بها عشرًا، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات". أخرجه الترمذي.
ومنها: حديث أبي طلحة الأنصاري: أن رسول الله - ﷺ - جاء ذات يوم والبشر في وجه، فقلت: إنا لنرى البِشْر في وجهك، قال: "أتاني الملك، فقال: يا محمد، إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرًا". أخرجه الترمذي أيضًا.
ومنها: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن لله ملائكةً سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام". أخرجه الترمذي.
ومنها: حديث ابن مسعود: أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب
ومنها: حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب صحيح.
ومنها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى، إذا صلى علينا أهل البيت.. فليقل: اللهم صلِّ على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد". أخرجه أبو داود.
(١) الخازن.
108
قال بعضهم: وفي الصلاة عليه - ﷺ - شكر على كونه أفضل الرسل، وكونهم خير الأمم، وأيضًا فيها إيجاب الشفاعة على ذمة ذلك الجناب، فإن الصلاة عليه ثمن الشفاعة، فإذا أدُّوا الثمن في هذا اليوم يرجى أن يحرزوا المثمن يوم القيامة:
أَلَا أَيُّهَا الإِخْوانُ صَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى الْمُصْطَفَى فِيْ كُلِّ وَقْتٍ وَسَاعَةِ
فَإِنَّ صَلَاةَ الْهَاشِمِيِّ مُحَمَّدٍ تُنَجِّيْ مِنَ الأَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وبقدر صلواتهم عليه تحصل المعارفة بينهم وبينه، وعلامة المصلي: يوم القيامة أن يكون لسانه أبيض، وعلامة التارك: أن يكون لسانه أسود، وبهما تعرف الأمة يومئذ، وأيضًا فيها إثبات المحبة، ومن أحب شيئًا أكثر ذكره.
قال سهل بن عبد الله التستري: الصلاة على محمد - ﷺ - أفضل العبادات؛ لأن الله تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك، يعني أنَّ الله تعالى أمر بسائر العبادات، ولم يفعله بنفسه، وقال الواسطي: صلِّ عليه بالأوتار، ولا تجعل له في قلبك مقدارًا؛ أي: لا تجعل لصلواتك عليه مقدارًا تظن أنك تقضي به من حقه شيئًا، بل بصلواتك عليه استجلاب رحمةً على نفسك به:
يَا مَنْ يُجِيْبُ دُعَا الْمُضْطَرِّ فِيْ الْظُّلَمِ يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ
شَفِّعْ نَبِيَّكَ فِيْ ذُلِّيْ وَمَسْكَنَتِيْ وَاسْتُرْ فَإِنَّكَ ذُوْ فَضْلٍ وَذُوْ كَرَمِ
ثم إن للصلوات والتسليمات مواطن:
فمنها: أن يصلِّي عند سماع اسمه الشريف في الأذان.
ومنها: أن يصلِّي بعد سماع الأذان بأن يقول: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، فإنه عليه السلام وعد لقائله الشفاعة العظمى.
ومنها: أن يصلي عند ابتداء الوضوء، ثم يقول: بسم الله، وبعد الفراغ منه فإنه يفتح له أبواب الرحمة، وفي المرفوع: "لا وضوء لمن لم يصل على النبي - ﷺ - ".
ومنها: أن يصلي عند دخول المسجد، ثم يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وعند الخروج أيضًا، ثم يقول: اللهم افتح لي أبواب فضلك، واعصمني من الشيطان، وكذا عند المرور بالمساجد، ووقوع نظره عليها، ويصلي في التشهد
109
الأخير، وقبل: الدعاء وبعده، فإن الصلاة عليه مقبولة لا محالة، فيرجى أو يقبل الدعاء بين الصلاتين أيضًا.
ومنها: أن يصلي يوم الجمعة وليلته، فإن الجمعة سيد الأيام، ومخصوص بسيد الأنام، فللصلاة فيه مزية، وزيادة مثوبة وقربة ودرجة.
وفي الحديث: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، خلق فيه آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا على أو الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي". قيل: يا رسول الله، كيف تعرض عليك صلاتنا وقد رممت؛ أي: بليت؟ قال: "إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، وفي الحديث: "من صلَّى عليَّ يوم الجمعة ثمانين مرة.. غفرت له ذنوب ثمانين سنة، ومن صلَّى عليَّ كل يوم خمس مئة مرة.. لم يفتقر أبدًا".
وقال بعضهم: إنَّ من صلَّى على النبي - ﷺ - ليلة الجمعة ثلاثة آلاف.. رأى في منامه ذلك الجناب العالي. ذكره علي الصفي في "الرشحات" ويصلي عند الركوب، فيقول: بسم الله، والله أكبر، وصلِّ على محمد خير البشر، ثم يتلو قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)﴾.
ويصلي في طريق مكة عند الذهاب إليها، وعند استلام الحجر يقبل: اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، وسنة نبيك، ثم يصلي على النبي - ﷺ -، ويصلي على جبل الصفا والمروة، وبعد الفراغ من التلبية ووقت الوقوف عند المشعر الحرام، وفي طريق المدينة عند الذهاب إليها، وعند وقوع النظر عليها، وعند دخول الروضة المقدسة، وعند التوجه إلى القبر المقدس، ويصلي بين القبر والمنبر، ويكبر ويدعو ويصلِّي عند استماع ذكره عليه السلام، كما سبق، وكذا وقت ذكر اسمه الشريف، وكتابته، ويصلِّي عند ابتداء درس الحديث، والعلوم الدينية، وما يتعلق بها أو الآلة، وعند تبليغ المن فيقول: الحمد لله رب العالمين أكمل الحمد على كل حال، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عز ذكره الغافلون، اللهم صلِّ عليه، وعلى آله، وسائر النبيين، وآل كلِّ، وسائر الصالحين، نهاية ما ينبغي أو يسلكه السالكون.
ويصلي عند ابتداء التذكير والعظة؛ في: بعد الحمد والثناء؛ لأنه موطن تبليغ
110
العلم المروي عنه - ﷺ -، ووقت كفاية المهم، ورفع الهم، ووقت طلب المغفرة والكفارة، فإن الصلاة عليه محاء الذنوب، ووقت النوم والقيام منه، وحين دخول السوق لتربح تجارة آخرته، وحين المصافحة لأهل الإِسلام، وحين افتتاح الطعام فيقول: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، وطيِّب أرزاقنا، وحسِّن أخلاقنا، ويصلي عند اختتام الطعام، فيقول: الحمد لله الذي أطعمنا هذا، ورزقناه من غير حول منا ولا قوة، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد وسلم.
ويصلي عند قيامه من المجلس فيقول: صلى الله وملائكته على محمد، وعلى أنبيائه. فإن كفارة اللهو واللغو الواقعين فيه. وفي خطبة النكاح فيقول: الحمد لله الذي أحل النكاح، وحرم السفاح، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى الله القادر الفتاح، وعلى آله وأصحابه ذوي الفلاح والنجاح.
ومن آداب المصلي أن يصلي على الطهارة، وأن يرفع صوته عند أداء الحديث، وأن يكون على المراقبة، وهو حضور القلب وطرد الغفلة، وأن يصحِّح نيَّته، وهو أن تكون صلاته امتثالًا لأمر الله تعالى، وطلبًا لرضاه، وجلبًا لشفاعة رسوله، وأن يستوي ظاهره وباطنه، فإن الذكر اللساني ترجمان الفكر الجناني، فلا بد من تطبيق أحدهما بالآخر، وإلا فمجرد الذكر اللساني أو غير حضور القلب غير مفيد.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا (٤٧) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (٤٨)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أَيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿هَا﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لأي، أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِن﴾، وجملة ﴿إِن﴾ مستأنفة على كونها جواب النداء. ﴿شَاهِدًا﴾: حال مقدرة من ضمير المفعول. ﴿وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا﴾: معطوفات على ﴿شَاهِدًا﴾.
111
﴿إِلَى اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿دَاعِيًا﴾. ﴿بِإِذْنِهِ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في ﴿دَاعِيًا﴾. ﴿وَسِرَاجًا﴾: معطوف على ﴿شَاهِدًا﴾. ﴿مُنِيرًا﴾: صفة لـ ﴿سِرَاجًا﴾. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على مقدر، تقديره: فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين. ﴿بِأَنَّ﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر، ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لَهُمْ﴾: خبر ﴿أن﴾ مقدم على اسمها. ﴿مِنَ اللهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿فَضْلًا﴾، و ﴿فَضْلًا﴾: اسم ﴿أن﴾ مؤخر. ﴿كَبِيرًا﴾: صفة ﴿فَضْلًا﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: يكون فضل كبير كائن من الله كائنًا لهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿بَشِّرِ﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُطِعِ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿الْكَافِرِينَ﴾: مفعول به. ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿بَشِّرِ﴾. ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على جملة النهي قبله. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾: فعل وفاعل مستتر. ﴿عَلَى اللهِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَكَفَى بِاللهِ﴾: فعل وفاعل و ﴿الباء﴾: زائدة. ﴿وَكِيلًا﴾: تمييز، أو حال من الجلالة، والجملة مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٤٩)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لأي، والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿نَكَحْتُمُ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿طَلَّقْتُم﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من قبل مسكم إياهن. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذَا﴾ الشرطية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: حال من ﴿عِدَّةٍ﴾. ﴿مِن﴾: زائدة. ﴿عِدَّةٍ﴾: مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿تَعْتَدُّونَهَا﴾ صفة لـ ﴿عِدَّةٍ﴾، والجملة الاسمية جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من
112
الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ جواب النداء لا محل له أو الإعراب. ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عز جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنها لا عدة لكم عليها، وأردتم بيان ما لهن عليكم.. فأقول لكم: متعوهن. ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾: المقدرة مستأنفة. ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿متعوهن﴾. ﴿سَرَاحًا﴾: مفعول مطلق. ﴿جَمِيلًا﴾: صفة ﴿سَرَاحًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿أَحْلَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَحْلَلْنَا﴾. ﴿أَزْوَاجَكَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة على كونها جواب النداء. ﴿اللَّاتِي﴾: صفة لـ ﴿أَزْوَاجَكَ﴾. ﴿آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول ثان، والأول محذوف، تقديره: آتيتهن أجورهن؛ لأن آتى هنا بمعنى: أعطى، والجملة صلة الموصول: ﴿وَمَا﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿أَزْوَاجَكَ﴾. ﴿مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: وما ملكته يمينك. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور، حال من ﴿ما﴾ الموصولة، أو من العائد المحذوف. ﴿أَفَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أَفَاءَ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما أفاءه الله عليك.
﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ﴾: معطوفات على ﴿أَزْوَاجَكَ﴾. ﴿اللَّاتِي﴾: صفة للمذكورات في محل نصب. ﴿هَاجَرْنَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصولة. ﴿مَعَكَ﴾: متعلق بـ ﴿هَاجَرْنَ﴾، ﴿وَامْرَأَةً﴾: معطوف على مفعول ﴿أَحْلَلْنَا﴾ ﴿مُؤْمِنَةً﴾: صفة لـ ﴿امْرَأَةً﴾. ﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿وَهَبَت﴾: فعل ماض
113
وفاعل مستتر يعود على ﴿امرأة﴾ في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿نَفْسَهَا﴾: مفعول به. ﴿لِلنَّبِيِّ﴾: متعلق بـ ﴿وَهَبَت﴾، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إنْ وهبت نفسها للنبي أحللناها له، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿أَرَادَ النَّبِيُّ﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَسْتَنْكِحَهَا﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وفاعله ضمير يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾، والهاء: مفعول به، والسين والتاء فيه زائدتان، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أَرَادَ﴾، تقديره: إن أراد النبي نكاحها، وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن أراد النبي - ﷺ - نكاحها أحللناها له، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية في محل النصب حال من ﴿النَّبِيُّ﴾، إنْ وهبت نفسها للنبي.. أحللناها له حالة كون النبي مريدًا نكاحها. ﴿خَالِصَةً﴾: مصدر معمول لمحذوف، تقديره: خلص خالصة، خلص: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على النكاح بلفظ الهبة؛ أي: خلص النكاح بلفظ الهبة لك خلوصًا، واختص بك، ومجيء المصدر على وزن فاعلة كثير، كالكاذبة والعاقبة، واختار الزجاج وأبو البقاء أن يكون حالًا من امرأة؛ لتخصصها بصفة. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿خَالِصَةً﴾. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ضمير ﴿لَكَ﴾.
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿عَلِمْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الجار ﴿لِكَيْلَا﴾، ومتعلقه ﴿أَحْلَلْنَا﴾. ﴿فَرَضْنَا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما فرضناه. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿فَرَضْنَا﴾. ﴿فِي أَزْوَاجِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿فَرَضْنَا﴾ أيضًا. و ﴿فِي﴾ بمعنى: الباء السببية. ﴿وَمَا﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿أَزْوَاجِهِمْ﴾. ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما ملكته أيمانهم. ﴿لِكَيْلَا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿كَيْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿كي﴾. ﴿عَلَيْكَ﴾: خبر
114
﴿يَكُونَ﴾ مقدم. ﴿حَرَجٌ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿يَكُونَ﴾ مع كي المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعدم كون حرج عليك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَحْلَلْنَا﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثانٍ لها، والجملة مستأنفة.
﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾.
﴿تُرْجِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تُرْجِي﴾. ﴿تَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من تشاء إرجاءَه. ﴿مِنْهُنَّ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿وَتُؤْوِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على ﴿تُرْجِي﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْوِي﴾. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تؤوى﴾. ﴿تَشَاءُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة صلة ﴿مَن﴾ والعائد محذوف تقديره: من تشاء إيواءه. ﴿وَمَنِ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، أو ﴿مَن﴾ شرطية في محل النصب مفعول مقدم. ﴿ابْتَغَيْتَ﴾: فعل وفاعل، صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، أو في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، والعائد محذوف. تقديره: ومن ابتغيته. ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور، حال من العائد المحذوف. ﴿عَزَلْتَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ممن عزلته، أو لا. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ، أو رابطة الجواب بالشرط. ﴿لا﴾: نافية للجنس تعمل عمل إن. ﴿جُنَاحَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْكَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لا﴾ النافية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجمل الاسمية مستأنفة، أو في محل الجزم جواب ﴿مَن﴾ الشرطية، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿أَدْنَى﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿أَن﴾: حرف نصب
115
ومصدر. ﴿تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إلى قرة أعينهن، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَدْنَى﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَحْزَنَّ﴾: فعل مضارع في محل النصب، معطوف على ﴿تَقَرَّ﴾ مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل؛ أي: وذلك أقرب إلى قلة حزنهن. ﴿وَيَرْضَيْنَ﴾: فعل وفاعل في محل النصب، معطوف على ﴿تَقَرَّ﴾؛ أي: وأقرب إلى رضائهن جميعًا. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يَرْضَيْنَ﴾. ﴿آتَيْتَهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: آتيتهن إياه، وهو المفعول الثاني لآتى؛ لأنه بمعنى: أعطى. ﴿كُلُّهُنَّ﴾: تأكيد لفاعل ﴿يَرْضَيْنَ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿مَا﴾: مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بواجب الحذف لوقوعه صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة؛ أي: ما استقر في قلوبكم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره الأول. ﴿حَلِيمًا﴾: خبر ثانٍ له، وجملة ﴿وَكَانَ﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾، مؤكدة لها.
﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (٥٢)﴾.
﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَحِلُّ﴾: فعل مضارع. ﴿لَكَ﴾: متعلق به. ﴿النِّسَاءُ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ بَعْدُ﴾: حال من ﴿النِّسَاءُ﴾، وبني الظرف على الضم لقطعه عن الإضافة لفظًا لا معنى؛ أي: من بعد هؤلاء التسع المجتمعات في عصمتك. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَبَدَّلَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، أصله: تتبدل، وفاعله، ضمير مستتر يعود على محمد. ﴿بِهِنَّ﴾: متعلق بـ ﴿تَبَدَّلَ﴾. ﴿مِن﴾: زائدة. ﴿أَزْوَاجٍ﴾: مفعول ﴿تَبَدَّلَ﴾، وجملة ﴿تَبَدَّلَ﴾ مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر معطوف على فاعل ﴿يَحِلُّ﴾ تقديره: لا يحل لك النساء من بعد، ولا تبدل أزواج أخر بهن. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على جملة محذوفة وقعت حالًا. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط مجردة عن الجواب. ﴿أَعْجَبَكَ﴾: فعل ماض ومفعول به. ﴿حُسْنُهُنَّ﴾: فاعل، وجملة ﴿لَوْ﴾
116
معطوفة على جملة محذوفة وقعت حالًامن فاعل ﴿تَبَدَّلَ﴾، والتقدير: ولا يحل لك أن تتبدل بهن حال كونك لو لم يعجبك حسن الأزواج المستبدلة، ولو أعجبك حسنهن؛ أي: لا يحل لك الاستبدال حال عدم إعجاب حسنهن إياك، وحال إعجابه إياك؛ أي: لا يحل لك الاستبدال على كل حال، و ﴿لو﴾ هنا غائية، لا جواب لها، يراد بها استقصاء الأحوال وتعميمها، كما مر في مبحث التفسير. قال الزمخشري: قوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ في معنى الحال أو الفاعل، وهو الضمير في ﴿تَبَدَّلَ﴾، لا من المفعول الذي هو ﴿مِنْ أَزْوَاجٍ﴾؛ لأنه متوغل في التنكير، وتقديره: مفروضًا إعجابك بهن. اهـ "كرخي". ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من ﴿النِّسَاءُ﴾، أو في محل الرفع على البدلية من ﴿كَفَرُوا﴾، أو في محل النصب على الاستثناء من ﴿أَزْوَاجٍ﴾. ﴿مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾: فعل وفاعل، صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: إلا ما ملكته يمينك. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿رَقِيبًا﴾، و ﴿رَقِيبًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة مؤكدة لما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أَيّ﴾، أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَدْخُلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية ﴿بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾: مفعول به على التوسع، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ أعم الأحوال. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يُؤْذَنَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور، في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُؤْذَنَ﴾. ﴿إِلَى طَعَامٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْذَنَ﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: لا تدخلوا بيوت النبي - ﷺ - في حال من الأحوال إلا حالة الإذن لكم؛ في: إلا حالة كونكم مأذونًا لكم. واختار الزمخشري أن يكون استثناء مفرغًا من أعم الظروف؛ أي: لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم. {غَيْرَ
117
نَظِرينَ}: حال من فاعلًا ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾، وقع الاستثناء على الظرف والحال معًا، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين اهـ "سمين". ﴿إِنَاهُ﴾: مفعول ﴿نَاظِرِينَ﴾ منصوب بفتحة مقدرة للتعذر؛ لأنه اسم مقصور. ﴿وَلَكِنْ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية. ﴿دُعِيتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿فَادْخُلُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا. ﴿ادخلوا﴾: فعل أمر وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها أو الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ جملة استدراكية معطوفة على جملة ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾.
﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾.
﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿طَعِمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَانْتَشِرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾. ﴿انتشروا﴾: فعل أمر وفاعل جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ المذكورة قبلها. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿مُسْتَأْنِسِينَ﴾: معطوف على ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ﴾، وقيل: هو معطوف على حال مقدرة؛ أي: لا تدخلوها هاجمين، ولا مستأنسين، واختار الزمخشري وغيره أنه مجرور عطفًا على ﴿نَاظِرِينَ﴾. ﴿لِحَدِيثٍ﴾: متعلق بـ ﴿مُسْتَأْنِسِينَ﴾. ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على اسم الإشارة. ﴿يُؤْذِي النَّبِيَّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله. ﴿فَيَسْتَحْيِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على النبي، معطوف على ﴿يُؤْذِي﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَحْيِي﴾، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: من إخراجكم. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَسْتَحْيِي﴾ خبر المبتدأ. ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿لَا يَسْتَحْيِي﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل
118
من الزمان. ﴿سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا. ﴿اسْأَلُوهُنَّ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: إياه. ﴿مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾: حال من ضمير الإناث، أو من واو الفاعل، والجملة الفعلية جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة.
﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾.
﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿أَطْهَرُ﴾: خبر. ﴿لِقُلُوبِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَطْهَرُ﴾. ﴿وَقُلُوبِهِنَّ﴾: معطوف على ﴿قُلُوبِكُمْ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَكُمْ﴾: خبرها مقدم. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا، والتقدير: وما كان إذاية رسول الله كائنًا لكم، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: حال من ﴿أَزْوَاجَهُ﴾، أو متعلق بـ ﴿تَنْكِحُوا﴾. ﴿أَبَدًا﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿تَنْكِحُوا﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من جملة ﴿أَنْ تُؤْذُوا﴾ تقديره: وما كان لكم إذاية رسول الله، ولا نكاح أزواجه من بعده أبدًا. ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على اسم الإشارة. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: حال من ﴿عَظِيمًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿عَظِيمًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٥٤) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾.
119
﴿إِن﴾: حرف شرط ﴿تُبْدُوا شَيْئًا﴾: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف. ﴿تُخْفُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿تُبْدُوا﴾. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمًا﴾. و ﴿عَلِيمًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ المكسورة، وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ ﴿إِنَّ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل من المكسورة. ﴿جُنَاحَ﴾ في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: خبرها ﴿فِي آبَائِهِنّ﴾: جار ومجرور، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ﴿لَا﴾؛ أو حال من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾ مستأنفة. ﴿وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ﴾: معطوفان على ﴿آبَائِهِنَّ﴾، وكذلك قوله: ﴿وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا﴾: معطوفات على ﴿آبَائِهِنَّ﴾. ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ولا ما ملكته أيمانهن.
﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٥٥) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٥٦)﴾.
﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على محذوف تقديره: امتثلن ما أمرتن به، واتقين الله. ﴿إِنَّ اللَّه﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الله. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾: معطوف على لفظ الجلالة، وجملة ﴿يُصَلُّونَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿عَلَى النَّبِيِّ﴾: متعلق بـ ﴿يُصَلُّونَ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة استئنافًا نحويًا. ﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أَيّ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿صَلُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَسَلِّمُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿صَلُّوا﴾. ﴿تَسْلِيمًا﴾: مصدر مؤكد لعامله منصوب على المفعولية المطلقة.
120
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا﴾ الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. ﴿سِرَاجًا﴾ والسراج في الأصل: الشيء الزاهر بفتيلة. ﴿وَكِيلًا﴾: فعيل بمعنى المفعول؛ أي: موكولًا إليه الأمور في كل الأحوال.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ قال في "بحر العلوم": أصل النكاح: الوطء، ثم قيل للعقد: نكاح مجازًا تسمية للسبب باسم المسبب، فإن العقد سبب الوطء المباح، وعليه قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾؛ أي: لا يتزوج، كما سبق في مبحث التفسير. وفي "القاموس": النكاح: الوطء والعقد. انتهى.
﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ أصل الطلاق: التخلية من وثاق، يقال: أطلقت الناقة من عقالها وطلقها، وهي طالق وطلق بلا قيد. ومنه استعير طلقت، نحو: خليتها فهي طالق؛ أي: مخلاة عن حبالة النكاح.
﴿مِنْ عِدَّةٍ﴾ العدة لغة: اسم مصدر من اعتد، وشرعًا: اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها بطلاق أو وفاة. ﴿تَعْتَدُّونَهَا﴾ بوزن تفتعلونها؛ إما من العدد، فالتاء عوض من الدال الأولى، وإما من الإعتداد، فالتاء حينئذ تاء الافتعال.
﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾؛ أي: أعطوهن المتعة، وهي قميص وخمار [ما تغطي به المرأة رأسها]، وملحفة [ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها: ملاية].
﴿وَسَرِّحُوهُنَّ﴾؛ أي: أخرجوهن من منازلكم. ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾؛ أي: إخراجًا مشتملًا على لين الكلام خاليًا من الأذى.
﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ﴾ وأصل الحل: حل العقدة، ومنه استعير قولهم: حل الشيء حلالًا، كما في "المفردات". والحلال: ضد الحرام. ﴿أُجُورَهُنَّ﴾ جمع: أجر، والأجر يقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد، وهو ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا، وهو هاهنا كناية عن المهر؛ أي: مهورهن؛ لأن المهر أجر على البضع؛ أي: على المباشرة.
﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ والفيء: مال راجع من الكفار إلى المسلمين بلا كلفة ولا مشقة ولا مقاتلة، كالجزية والخراج ومال المصالحة، سمي فيئًا تشبيهًا له
121
بالفيء، الذي هو الظل تنبيهًا على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، والغنيمة: ما نيل من أهل الحرب والشرك عنوة.
﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ...﴾ إلخ. البنت والابنة: مؤنث الابن، والعم: أخ الأب، والعمة: أخته.
﴿اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ والمهاجرة في الأصل: مفارقة الغير، ومتاركته، استعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإِسلام.
﴿أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾؛ أي: ينكحها، يقال: نكح واستنكح مثل: عجل واستعجل، وعجب واستعجب. قال النابغة:
وَهُمْ قَتَلُواْ الطَّائِيَّ بِالْحِجْرِ عَنْوَةً أَبَا جَابِرِ وَاسْتَنْكَحُوْا أُمَّ جَابِرِ
وهو في اللغة بمعنى: الضم والجمع، ومنه: تناكحت الأشجار: إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض. قال عمر بن ربيعة:
واسْتَنْكَحَ الْقَوْمُ الَّذِيْنَ نَخَافُهُمْ وَرَمَى الْكَرَى بَوَّابَهُمْ فَتَجَدَّلَا
ويجوز أن يراد بالاستنكاح معنى طلب النكاح والرغبة فيه، والمعنى: أراد النبي أن يتملك بضعها بلا مهر.
﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ﴾ قرىء: ﴿ترجيء﴾ مهموزًا وغير مهموز، كما سبق في مبحث القراءة، وهما لغتان بمعنى واحد؛ لأن الياء مبدل من الهمزة، والإرجاء التأخير، يقال: أرأجت الأمر، وأرجيته: إذا أخرته. وذكر في "القاموس": في الهمزة: أرجأ الأمر: أخره، وترك الهمزة لغة، وفي الناقص: الإرجاء: التأخير.
﴿وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾؛ أي: تضم إليك، يقال: آواه إليه بالمد: ضمه إليه، وأوى مقصورًا؛ أي: ضمَّ إليه.
﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾؛ أي: طلبت ردَّها إلى فراشك بعد أن عزلتها، وأسقطتها من القسمة. اهـ "خازن". وفي "القرطبي": ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ ابتغيت: طلبت، والابتغاء: الطلب، وعزلت: أزلت، والعزله: الإزالة، والعزل: الترك والتبعيد.
﴿أَدْنَى أَنْ تَقَرّ﴾ أصله من: القر بالضم، وهو: البرد، وللسرور دمعة قارة؛ أي: باردة، وللحزن دمعة حارة، أو من القرار؛ أي: تسكن أعينهن، ولا تطمح إلى
122
ما عاملتهن به. قال في "القاموس": قرت عينه تقر بالكسر والفتح قرة - وتضم - وقرورًا: بردت وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وقر بالمكان يقر - بالكسر والفتح - قرارًا: ثبت واستكن كاستقر.
﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ﴾ بالياء؛ لأن تأنيث الجمع غير حقيقي، ولوجود الفضل، وإذا جاز التذكير بغيره في قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾.. كان معه أجوز، والنساء والنسوان والنسوة - بالكسر -: جموع المرأة من غير لفظها؛ أي: لا تحل لك واحدة من النساء، مسلمة كانت أو كتابية لما تقرر أن حرف التعريف إذا دخل على الجمع يبطل الجمعية، ويراد الجنس، وهو كالنكرة يخص في الإثبات، ويعم في النفي، كما مر.
﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ﴾ بحذف إحدى التاءين، والأصل: تتبدل من باب تفعل الخماسي، وبدل الشيء: الخلف عنه، وتبدَّله به وأبدله منه وبدَّله: اتخذه بدلًا، كما في "القاموس". قال الراغب: التبدل والإبدال والتبديل والاستبدال: جعل الشيء مكان آخر، وهو أعم من العوض، فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل يقال للتغيير، وإن لم تأت ببدله. انتهى.
وقوله: ﴿مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ مفعول ﴿تَبَدَّلَ﴾، و ﴿مِنْ﴾ مزيدة لتأكيد النفي تفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم، والمعنى: ولا يحل لك أن تتبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أخر بكلهن أو بعضهن، بأن تطلق واحدة، وتنكح مكانها أخرى.
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾؛ أي: أوقعك في العجب. قال الراغب: العجب والتعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، وقد يستعار للروق، فيقال: أعجبني كذا؛ أي: راقني، والحسن كون الشيء ملائمًا للطبع، وأكثر ما يقال: الحسن بفتحتين في تعارف العامة في المستحسن بالبصر.
﴿رَقِيبًا﴾ يقال: رقبته حفظته، والرقيب: الحافظ، وذلك إما لمراعاة رقبة المحفوظ، وإما لرفعه رقبته.
﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾؛ أي: نضجه وإدراكه، وهو بكسر الهمزة وبالقصر مصدر سماعي، لأنى الطعام يأني من باب رمى يرمي إنًى: إذا أدرك، وقياس مصدره: أني، كرمي، ولكنه لم يسمع، ولكن المسموع إنًا بالكسر والقصر بوزن رضا. قال
123
في "المفردات": الإنا إذا كسر أوله قصر، وإذا فتح مد، وأنى الشيء يأني: قرب إناه، ومثله: آن يئين؛ أي: حان يحين. اهـ.
﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ﴾؛ أي: تناولتم الطعام، فإن الطعم تناول الغذاء. ﴿وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ﴾ من الاستئناس، وهو ضد الوحشة والنفور، كما مر. والاستئناس: طلب الأنس بالحديث، تقول: استؤنست بحديثه؛ أي: طلبت الأنس والسرور به، وما بالدار من أنيس؛ أي: ليس بها أحد يؤانسك أو يسليك.
﴿الحديث﴾ الحديث: يستعمل في قليل الكلام وكثيره؛ لأنه يحدث شيئًا فشيئًا ﴿كَانَ يُؤْذِي النَّبِيّ﴾ والأذى: ما يصل إلى الإنسان من ضرر؛ إما في نفسه، أو في جسمه، أو فتياته دنيويًا كان أو أخرويًا.
﴿فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾ من الحياء، والحياء: رقة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقع كراهته، أو ما يكون تركه خيرًا من فعله. قال الراغب: الحياء: انقباض النفس عن القبائح، وتركه لذلك.
﴿مَتَاعًا﴾ المتاع: الغرض والحاجة، كالماعون وغيره من أثاث البيت. ﴿مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾؛ أي: ستر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: توافق الفواصل في قوله: ﴿مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾، ﴿وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ ﴿عَلِيمًا حَلِيمًا﴾، ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ لأنه من المحسنات البديعية تزيد الكلام رونقًا وحسنًا، وهو من خصائص القرآن الكريم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِإِذْنِهِ﴾؛ أي: بتيسيره وتسهيله، فأطلق الإذن، وأريد به التيسير مجازًا مرسلًا بعلاقة السببية؛ فإن التصرف في ملك الغير متعسر، فإذا أذن تسهل وتيسير، وإنما لم يحمل على حقيقته، وهو الإعلام بإجازة الشيء، والرخصة فيه لانفهامه من قوله: ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾، ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾، كما سبق.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾؛ أي: كالسراج في الاستضاءة
124
به؛ لأنه يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، كما أن السراج الحسي، هو المصباح يستضاء به في ظلمات الليل، فحذف الأداة ووجه الشبه، وأصل هذا التشبيه: أنت يا محمد، كالسراج الوضاء في الهداية والإرشاد، حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه، فأصبح بليغًا على حد قولهم: عليٌّ أسد، ومحمد قمر.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿مُبَشِّرًا﴾ و ﴿نَذِيرًا﴾.
ومنها: أنه وصف النبي - ﷺ - في هذه الآيات بنعوت خمسة، وقوبل كل منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر مقابل الشاهد صريحًا، وهو الأمر بالمراقبة؛ ثقةً بظهور دلالة مقابلة المبشّر عليه، وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر فيما سبق، وقوبل النذير بالنهي عن مداراة الكفار والمنافقين، والمسامحة في إنذارهم، وقوبل الداعي إليه تعالى بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث إنه عبارة عن الاستعداد منه تعالى، والاستعانة به، وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى، فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية، ورشحه بالنبوة، وجعله برهانًا نيرًا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد، حقيقٌ بأن يكتفى به عن كل ما سواه. اهـ "أبو السعود".
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ كنى بالنهي عن طاعتهم عن النهي عن مداراتهم في أمر الدعوة، وعن استعمال لين الجانب في التبليغ مبالغة في الزجر والتنفير عن المنهي عنه. اهـ "أبو السعود".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ لأن أصل النكاح الوطء، فأطلقه على عقد النكاح مجازًا مرسلًا تسميةً للسبب باسم المسبب، فإن العقد سبب الوطء المباح.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾؛ لأن الطلاق أصل في إطلاق الناقة من عقالها، ثم استعير لتخلية المرأة من حبالة النكاح.
ومنا: الكناية في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ كنى عن الجماع بالمس، وهي من الكنايات المشهورة، ومن الآداب القرآنية؛ لأن القرآن يتحاشى الألفاظ البذيئة.
ومنها: إسناد العدة إلى الرجال في قوله: ﴿تَعْتَدُّونَهَا﴾ دلالةً على أن العدة حقهم، كما أشعر به قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ﴾؛ لأن السراح
125
حقيقة في تسريح الماشية، وفي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا﴾؛ لأن الحل أصل في حل العقدة في نحو الحبال، ثم استعير لجعل الشيء حلالًا مأذونًا فيه.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿أَزْوَاجَكَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أُجُورَهُنَّ﴾؛ لأنه كناية عن المهور.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: إن وهبت نفسها لك، والالتفات فيه للإيذان بأن هذا الحكم مخصوص به لشرف نبوته.
ومنها: الاعتراض بقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ فإنه اعتراض بين قوله: ﴿لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾، وبين متعلقه وهو قوله: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أو قوله: ﴿أَحْلَلْنَا لَكَ﴾ لتقرير ما قبله وتأكيده.
ومنها: الطباق بين ﴿تُرْجِي﴾، ﴿وَتُؤْوِي﴾، وبين: ﴿ابْتَغَيْتَ﴾ و ﴿عَزَلْتَ﴾، وبين ﴿ادخلو﴾ و ﴿انتشروا﴾، وبين: ﴿تُبْدُوا﴾، و ﴿تخفوا﴾.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾، ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾ لغرض الاعتناء بشأن التقوى.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾؛ لأنها لما أضيفت إليه تشرفت.
ومنها: الإتيان بالمصدر مع الفعل للتأكيد في قوله: ﴿وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وفيه أيضًا: جناس الاشتقاق.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وهو أن يحذف من كل من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر؛ لأنه حذف من صلوا المصدر، ومن ﴿سَلِّمُوا﴾ المتعلق؛ لأن أصل الكلام: صلوا عليه صلاةً، وسلموا عليه تسليمًا، وهو من المحسنات البديعية.
وفي هذه الجملة تأكيدات اهتمامًا بشأن الرسول - ﷺ -، أكد بـ ﴿إِنَّ﴾ في قوله:
126
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ اهتمامًا بشأنه، وجاء بالجملة الاسمية إفادة للدوام، وكانت الجملة اسمية في صدرها ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ فعلية في عجزها ﴿يُصَلُّونَ﴾ للإشارة إلى أن هذا الثناء من الله تعالى على رسوله يتجدد وقتًا فوقتًا على الدوام، فتأمل.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
127
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٥٨) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (٦٣) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (٦٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) أمر باحترام نبيه في بيته وفي الملأ. نهى عن إيذاء الله بمخالفة أوامره، وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله بإلصاق عيب أو نقص به، ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه.. بين ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية.
(١) المراغي.
128
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنَّ من يؤذي مؤمنًا، فقد احتمل بهتانًا، وإثمًا مبينًا زجرًا لهم عن الإيذاء.. أمر النبي - ﷺ - بأن يأمر بعض المتأذِّين بفعل ما يدفع الإيذاء عنهم في الجملة، من التستر، والتميز بالزي، واللباس، حتى يبتعدوا عن الأذى بقدر المستطاع.
روي: أنه لما كانت الحرائر والإماء في المدينة يخرجن ليلًا لقضاء الحاجة في الغيطان، وبين النخيل بلا فارق بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء، وربما تعرضوا للحرائر، فإذا كلموا في ذلك.. قالوا: حسبناهن إماءً.. طلب من رسوله أن يأمر الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر؛ ليتمايزن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر حال هذه الفئات الثلاثة - أعني: المنافقين ومرضى القلوب، والمرجفين في الدنيا - وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون.. عطف على ذلك ذكر حالهم في الآخرة، فذكرهم بيوم القيامة، وبين ما يكون لهم في هذا اليوم العظيم.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) فيما سلف أن من يؤذي الله ورسوله يلعنه الله في الدنيا والآخرة، ولا شك أن هذا في الإيذاء الذي يؤدي إلى الكفر، وقد حصره الله في النفاق، ومرض القلب، والإرجاف على المسلمين.. أعقب ذلك بإيذاء دون ذلك لا يورث الكفر، كعدم الرضا بقسمة النبي - ﷺ - للفيء، ونهى الناس عنه أيضًا، وذكر أن بني إسرائيل قد آذوا موسى، ونسبوا إليه ما ليس فيه، فبرأه الله منه؛ لأنه ذو كرامة ومنزلة لديه، فلا يلحق به ما هو نقص فيه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠)﴾ الآية، هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما نهى عن إيذاء رسول الله - ﷺ - بقول أو
(١) المراغي.
129
فعل.. أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سببًا في الفوز والنجاة في الدار الآخرة، والقرب من الله سبحانه، والحظوة إليه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله، وأن من يراعيها.. فله الفوز العظيم، وأن من يتركها يستحق العذاب.. أردف عظم شأن ما تنال به تلك الطاعة من فعل التكاليف الشرعية، وأن حصولها عزيز شاق على النفوس، ثم بيان أن ما يصدر منهم من الطاعة، أو يكون منهم من إباء بعدم القبول والالتزام إنما يكون بلا جبر ولا إلزام.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية. قال نزلت في الذين طعنوا على النبي - ﷺ - حين اتخذ صفية بنت حيي، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: نزل في عبد الله بن أبي وناسٍ معه حين قذنوا عائشة، فخطب النبي - ﷺ -، وقال: "من يعذرني من رجل يؤذيني، ويجمع في بيته من يؤذيني"، فنزلت الآية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاج؛ لحاجتها، وكانت امرأةً جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله - ﷺ - في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر: كذا وكذا. قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" عن أبي مالك قال: كان نساء النبي - ﷺ -
(١) لباب النقول.
130
يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن، فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ...﴾ الآية، ثم أخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي.
التفسير وأوجه القراءة
٥٧ - ولما ذكر الله سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم.. ذكر هنا الوعيد الشديد للذين يؤذونه، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى (١) بفعل ما يكرهه، وارتكاب ما لا يرضاه بترك الإيمان به، ومخالفة أمره، ومتابعة هواهم، ونسبة الولد والشريك إليه تعالى، والإلحاد في أسمائه وصفاته، ونفي قدرته على الإعادة، وسب الدهر، ونحت التصاوير تشبيهًا بخلق الله تعالى. وقال ابن عباس (٢) رضي الله عنهما: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأما اليهود فقالوا: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وأما النصارى فقالوا: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: يقول الله عز وجل: "كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي.. فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد" أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال: قال الله عز وجل: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي أقلب الليل والنهار". متفق عليه.
معنى هذا الحديث: أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر، ويسبوه عند النوازل؛ لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر، فقال الله تعالى: أنا الدهر؛ أي: أنا الذي أحل بهم النوازل، وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم.
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
131
وقيل: هم أصحاب التصاوير. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة" متفق عليه.
وقيل: الكلام على حذف مضاف، والتقدير: إن الذين يؤذون أولياء الله، كما روي عن النبي - ﷺ - قال: قال الله سبحانه وتعالى: "من آذى لي وليًا.. فقد آذنته بالحرب"، وقال تعالى: "من أهان لي وليًا.. فقد بارزني بالمحاربة" فمعنى إذاية الله سبحانه: هو مخالفة أمر الله تعالى، وارتكاب معاصيه، ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم؛ لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد.
﴿وَ﴾ يؤذون ﴿رَسُولَهُ﴾ محمدًا - ﷺ - بقولهم: شاعر ساحر كاهن مجنون، وطعنهم في نكاح صفية الهارونية، وهو الأذى القولي، وكسر رباعيته، وشج وجهه الكريم يوم أحد، ورمي التراب عليه، ووضع القاذورات على ظهر النبوة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
ويجوز أن يكون المراد بإيذاء الله ورسوله (١): إيذاء رسول الله خاصة بطريق الحقيقة، وذكر الله لتعظيمه، والإيذان بجلالة مقداره عنده تعالى. وأن إيذاءه - ﷺ - إيذاء له تعالى لما قال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾؛ أي: فمن آذى رسوله.. فقد آذى الله.
﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: طردهم الله سبحانه وتعالى، وأبعدهم من رحمته ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئًا من رحمة الله، جعل ذلك اللعن في الدنيا والآخرة، لتشملهم اللعنة فيما، بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم، ومصاحبة لهم.
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ﴾؛ أي: هيأ لهم من ذلك ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ يصيبهم في الآخرة خاصةً؛ أي: نوعًا من العذاب يهانون فيه، فيذهب بعزهم وكبرهم.
قال في "التأويلات": لما استحق المؤمنون بطاعة الرسول - ﷺ -، والصلاة عليه صلاة الله.. فكذلك الكافرون استحقوا بمخالفة الرسول وإيذائه لعنة الله، فلعنة
(١) روح البيان.
132
الدنيا هي الطرد عن جناب الله، والحرمان من الإيمان، ولعنة الآخرة: الخلود في النيران، والحرمان من الجنان، وهذا حقيقة قوله: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾.
قال في "فتح الرحمن": يحرم أذى النبي - ﷺ - بالقول والفعل بالاتفاق، واختلفوا في حكم من سبه - والعياذ بالله - من المسلمين، فقال أبو حنيفة والشافعي: هو كفر كالردة، يقتل ما لم يتب. وقال مالك وأحمد: ويقتل ولا تقبل توبته؛ لأن قتله من جهة الحد لا من جهة الكفر. وأما الكافر إذا سبه صريحًا بغير ما كفر به، من تكذيبه ونحوه، فقال أبو حنيفة: لا يقتل؛ لأن ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر. وقال الشافعي: ينتقض عهده، فيخير الإِمام فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، ولا يرد مأمنه؛ لأنه كافر لا أمان له، ولو لم يشترط عليه الكف عن ذلك، بخلاف ما إذا ذكره بسوء يعتقده ويتدين به، كتكذيب ونحوه، فإنه لا ينتقض عهده بذلك إلا باشتراط. وقال مالك وأحمد: يقتل ما لم يسلم. واختار جماعة من أئمة مذهب أحمد: أن سابَّه - ﷺ - يقتل بكل حال، منهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال: هو الصحيح من المذهب. وحكم من سب سائر أنبياء الله وملائكته حكمُ من سب نبينا - ﷺ -، وأما من سب الله سبحانه وتعالى - والعياذ بالله - من المسلمين بغير الارتداد عن الإِسلام، ومن الكفار بغير ما كفروا به من معتقدهم في عزير والمسيح ونحو ذلك، فحكمه حكم من سبَّ النبي - ﷺ -. نسأل الله العصمة والهداية، ونعوذ به من السهو والزلل والغواية، إنه الحافظ الرقيب.
ومعنى الآية (١): أن الذين يؤذون الله سبحانه، فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر المعاصي، ومنم اليهود الذين قالوا: يد الله مغلولة، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ويؤذون رسوله كالذين قالوا: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، إلى نحو ذلك من مقالاتهم الشنيعة.. طردهم الله سبحانه في الدنيا والآخرة من رحمته، وأبعدهم من فضله في الدنيا، فجعلهم يتمادون في غيهم، ويدسون أنفسهم، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار، وبئس
(١) المراغي.
133
القرار، وفي الآخرة، حيث يصلون نارًا تشوي الوجوه، وهيأ لهم في الآخرة عذابًا يؤلمهم، ويجعلهم في مقام الزراية والاحتقار والخزي والهوان.
٥٨ - ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه.. بيَّن ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ بوجه من وجوه الأذى؛ أي: يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل ﴿بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾؛ أي: بغير جناية يستحقون بها الأذية، وتقييد أذاهم به بعد إطلاقه في الآية السابقة للإيذان بأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق، وأما أذى هؤلاء.. فقد يكون حقًا، وقد يكون غير حق، أما إذا كان بحق، كما إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة، أو ضرب، فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرمة على أيّ وجه كان، ما لم يجاوز ما شرعه الله، والآية عامة لكل أذى بغير حق في كل مؤمن ومؤمنة، فتشمل ما روي أن عمر رضي الله عنه خرج يومًا فرأى جارية مزينة مائلة إلى الفجور، فضربها، فخرج أهلها، فآذوا عمر باللسان.
وما روي أن المنافقين كانوا يؤذون عليًا رضي الله عنه، ويسمعونه ما لا خير فيه، وما سبق من قصة الإفك حيث اتهموا عائشة بصفوان السهمي رضي الله عنهما، وما روي أنَّ الزناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لطلب الماء، أو لقضاء حوائجهن، وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء، ولكن ربما كان يقع منهم التعرض للحرائر أيضًا جهلًا، أو تجاهلًا لاتحاد الكل في الزي واللباس، حيث كانت تخرج الحرة والأمة في درع وخمار، وما سيأتي من أراجيف المرجفين، وغير ذلك مما يثقل على المؤمن.
ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقال: ﴿فَقَدِ احْتَمَلُوا﴾ واقترفوا، والاحتمال: مثل الاكتساب وزنًا ومعنى، كما في "بحر العلوم". وقال بعضهم: تحملوا. ﴿بُهْتَانًا﴾؛ أي: افتراء وكذبًا عليهم. ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾؛ أي: ذنبًا ظاهرًا واضحًا لا شك في كونه من البهتان والإثم.
واعلم: أن أذى المؤمنين قرن بأذى الرسول - ﷺ -، كما أن أذى الرسول قرن بأذى الله، ففيه إشارة إلى أن من آذى المؤمنين.. كان كمن آذى الرسول، ومن آذى الرسول.. كان كمن آذى الله تعالى، فكما أنَّ المؤذي لله وللرسول مستحق الطرد
واللعن في الدنيا والآخرة، فكذا المؤذي للمؤمن.
روي: أن رجلًا شتم علقمة رضي الله عنه، فقرأ هذه الآية. وعن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - ﷺ - على أصحابه فقال: "رأيت الليلة عجبًا، رأيتُ رجالًا يعلقون بألسنتهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا".
وفي الحديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" بأن لا يتعرض لهم بما حرم من دمائهم وأموالهم وأعراضهم، قدَّم اللسان في الذكر؛ لأن التعرض به أسرع وقوعًا وأكثر، وخص اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال يكون بها. واعلم أن المؤمن إذا أوذي يلزم عليه أن لا يتأذى، بل يصبر، فإن له فيه الأجر، فالمؤذي لا يسعى في الحقيقة إلا في إيصال الأجر إلى من آذاه، ولذا ورد: "وأحسن إلى من أساء إليك"، وذلك لأن المسيء وإن كان مسيئًا في الشريعة، لكنه محسن في الحقيقة.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - ﷺ - لأصحابه
"أيُّ الربا أربى عند الله؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىءٍ مسلم، ثم قرأ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٥٨)﴾ ".
والمعنى: أي إن الذين ينسبون إلى المؤمنين والمؤمنات ما لم يعملوه، وما هم منه براء قد اجترحوا كذبًا فظيعًا، وأتوا أمرًا إدًّا، وذنبًا ظاهرًا، ليس له ما يسوغه أو يقوم مقام العذر له.
٥٩ - ولما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده.. أمر رسوله - ﷺ - بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الكريم ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾؛ أي: نسائك، وكانت تسعًا حين توفي - ﷺ -، وهن: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة، وزينب، وميمونة، وصفية، وجويرية، وقد سبق تفاصيلهن نسبًا وأوصافًا وأحوالًا، وقد نظمها بعضهم بقوله:
135
تُوُفِّيْ رَسُوْلُ اللهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ إِلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ
فَعَائِشَةٌ مَيْمُوْنَةٌ وَصَفِيَّةٌ وَحْفْصَةُ تَتلُوهُنَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ
جُوَيْرِيَّةٌ مَعْ رَمْلَةٍ ثُمَّ سَوْدَةٌ ثَلاَثٌ وَسِتٌّ ذِكْرُهُنَّ لَيَعْذُبُ
﴿وَبَنَاتِكَ﴾ وكانت ثمانيًا، أربع صلبيات ولدتها خديجة، وهي: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهن، متن في حياته - ﷺ - إلا فاطمة، فإنها عاشت بعده ستة أشهر؛ وأربع ربائب ولدتها أم سلمة، وهي: برة، وسلمة، وعمرة، ودرة، رضي الله عنهن.
﴿وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في المدينة ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ مقول القول.
والإدناء (١): الإرخاء، من الدنو، وهو القرب. والجلباب: ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله إلى صدرها، و ﴿مِنْ﴾ للتبعيض؛ لأن المرأة ترخي بعض جلبابها، وتتلفع ببعض.
والمعنى: يرخين ويغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرجن مكشوفات الوجوه والأبدان، كالإماء، حتى لا يتعرض لهن السفهاء ظنًا بأنهن إماء. وعن السدي: تغطي إحدى عينيها، وشق وجهها، والشق الآخر إلا العين، وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنها تستر الصدر ومعظم الوجه.
قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينًا واحدةً ليعلم أنهن حرائر. ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الإدناء والتغطية والإرخاء ﴿أَدْنَى﴾ وأقرب إلى ﴿أَنْ يُعْرَفْنَ﴾ فيتميزن عن الإماء والقينات اللاتي هن مواقع تعرض الزناة وأذاهم، كما ذكر في الآية السابقة، ويظهر للناس أنهن حرائر ﴿فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ من جهة أهل الفجور بالتعرض لهن، وليس المراد بقوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾ أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء؛ لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا﴾ لما سلف منهن من التقصير في الستر،
(١) روح البيان.
136
وترك إدناء الجلابيب. ﴿رَحِيمًا﴾ بهن أو بعباده؛ حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها، أو غفورًا للمذنبين، رحيمًا بهم بقبول توبتهم، فيدخلن في ذلك دخولًا أوليًا.
قال أنس رضي الله عنه: مرت لعمر بن الخطاب جارية متقنعة، فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع، تتشبهين بالحرائر، ألقي القناع. وفي الآية تنبيه لهنّ على حفظ أنفسهن، ورعاية حقوقهن بالتصاون والتعفف، وفيها إثبات زينتهن، وعزة قدرهن.
وقيل المعني: ﴿ذَلِكَ﴾ التنبيه ﴿أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾ أن لهن قدرًا ومنزلة وعزة في الحضرة ﴿فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ بالأطماع الفاسدة، والأقوال الكاذبة ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لهن بامتثال الأوامر ﴿رَحِيمًا﴾ بهن بإعلاء درجاتهن، كما في "التأويلات النجمية".
واعلم: أنه فهم من الآية شيئان:
الأول: أن نساء ذلك الزمان كنَّ لا يخرجن لقضاء حوائجهن إلا ليلًا تسترًا وتعففًا، وإذا خرجن نهارًا لضرورة.. يبالغن في التغطي، ورعاية الأدب والوقار، وغض البصر عن الرجال الأخيار والأشرار، ولا يخرجن إلا في ثياب دنيئة، فمن خرجت من بيتها متعطِّرة متبرِّجة؛ أي: مظهرة زينتها ومحاسنها للرجال.. فإن عليها ما على الزانية من الوزر، وعلامة المرأة الصالحة عند أهل الحقيقة أن يكون حسنها مخافة الله، وغناها القناعة، وحليها العفة؛ أي: التكفف عن الشرور والمفاسد، والاجتناب عن مواقع التهم.
والثاني: أن الدنيا لم تخل عن الفسق والفجور حتى في الصدر الأول، فرحم الله أمرأً غضَّ بصره عن أجنبية، فإن النظرة تزرع في القلب شهوة، وكفى بها فتنة. قال ابن سيرين رحمه الله: إني لأرى المرأة في منامي، فاعلم أنها لا تحل لي، فأصرف بصري عنها. فيجب على المرء أن لا يقرب امرأةً ذات عطر وطيب، ولا يمس يدها، ولا يكلمها، ولا يمازحها، ولا يلاطفها، ولا يخلو بها، فإن الشيطان يهيّج شهوته، ويوقعه في الفاحشة.
وفي الحديث: "من فاكه امرأةً لم تحل له، ولا يملكها.. حبس بكلِّ كلمةٍ ألف عام في النار، ومن التزم امرأةً حرامًا - أي: اعتنقها -.. قرن مع الشيطان في سلسلة؛ ثم يؤمر به إلى النار" والعياذ بالله من دار البوار.
137
وعن رسول الله - ﷺ -: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له". رواه الطبراني والبيهقي، وهو حديث حسن.
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: كنَّا نغطي وجوهنا من الرجال. رواه الحاكم، وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
ومن صور الاختلاط المحرم: اختلاط البنات مع ابن العم، وابن العمة.
ومنها: اختلاط البنات مع ابن الخال وابن الخالة.
ومنها: الاختلاط مع أخ الزوج بالنسبة للزوجة.
ومنها: اختلاط أخوات الزوجة مع زوجها.
ومنها: اختلاط أخ المرأة من الرضاع مع أخوات أخته من الرضاع.
ومنها: خلوة خطيب الفتاة بالفتاة، وخروجه معها إلى السوق، وحديثه معها قبل العقد، وإنما جاز له النظر إليها بحضور وليها إذا عزم على الزاوج فقط، إلى غير ذلك من الصور التي تساهل فيها كثير من أهل عصرنا الفاسد.
وحاصل معنى الآية: أن الله سبحانه طلب من نبيه - ﷺ - أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات، وبخاصة أزواجه وبناته، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذ خرجن من بيوتهن؛ ليتميزن عن الإماء. وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنّ﴾.. خرج نساء الأنصار كان رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وإجمال ذلك: أن على المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها، بحيث تغطي الجسم والرأس، ولا تبدي شيئًا من مواضع الفتنة، كالرأس والصدر والذراعين، ونحوها، ثم علل ذلك بقوله: ذلك التستر أقرب إلى معرفتهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين مكروهًا من أهل الريبة احترامًا لهن منهم، فإن المتبرجة مطموع فيها، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء، كما هو مشاهد في كل عمر ومصر، لا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة، وكثر فيه الفسق والفجور، وكان الله سبحانه غفورًا لما عسى أن يكون قد صدر من الإخلال بالستر، كثير الرحمة لمن امتثل أمره معهن، فيثبه عظيم الثواب، ويجزيه الجزاء الأوفى.
138
٦٠ - ولما كان الأذى إنما يحصل من أهل النفاق ومن على شاكلتهم.. حذرهم بقوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾، واللام: موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لئن لم ينزجر ويمتنع المنافقون عما هم عليه من النفاق، وأحكامه الموجبة للإيذاء ﴿وَ﴾ لم ينته ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾؛ أي: ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه، أو فجور من تزلزلهم في الدين، وما يستتبعه مما لا خير فيه، أو من فجورهم وميلهم إلى الزنا والفواحش ﴿وَ﴾ لم ينته ﴿الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾؛ أي: المخبرون في المدينة الأخبار الكاذبة المشوشة المضعفة لعزائم المسلمين في الجهاد، عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين، بأن يقولوا: انهزموا، وقتلوا، وأخذوا، وجرى عليهم كيت وكيت، وأتاكم العدو، وغير ذلك من الأراجيف المؤذية الموقعة لقلوب المسلمين في الاضطراب والإنكار والرعب ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ جواب القسم المحذوف؛ أي: لنحرضنك يا محمد بقتلهم، ولنامرنك باستئصالهم؛ أي: لنسلطنك يا محمد على هؤلاء المنافقين الذين جمعوا بين النفاق ومرض القلوب دمارجاف المسليمن، فتستأصلهم بالقتل والتشريد والإجلاء بأمرنا لك بذلك.
قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، والمعنى: إن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين، فهو على هذا من باب قوله:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامْ وَلَيْثِ الْكَتِيْبَةِ فِيْ الْمُزْدَحَمْ
أي: إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة. وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة.
وقوله: ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا﴾؛ أي: في المدينة، معطوف على جواب القسم، و ﴿ثُمَّ﴾ للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم. وعبارة "الكشاف" هنا: إنما عطف بـ ﴿ثُمَّ﴾؛ لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن الحال المعطوف عليه. اهـ يعني: أنها للتفاوت الرتبي، والدلالة على أن ما بعدها أبعد مما قبلها، وأعظم وأشد عندهن. اهـ "شهاب"؛ أي: لا يساكنونك في المدينة ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾؛ أي: زمانًا أو جوارًا قليلًا ريثما - قدر ما - يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه، فيهلكوا إن لم ينتهوا،
وفي "بحر العلوم" ريثما يرتحلون بأنفسهم وعيالهم.
ومعنى الآية: والله لئن لم يكف أهل النفاق الذين يستسرون الكفر، ويظهرون الإيمان، وأهل الريب الذين غلبتم شهواتهم، وركنوا إلى الخلاعة والفجور، وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المسلمين، وإبراز ما استكن من خفاياهم، كضعف جنودهم، وقلة سلاحهم، وكراعهم، ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو، وحضد لشوكة المسلمين.. لنسلطنك عليهم، وندعونك إلى قتالهم وإجلائهم عن البلاد، فلا يسكنون معك فيها إلا قليلًا، وتخلو المدينة منهم بالموت أو بالإخراج.
والخلاصة: أن الله سبحانه قد توعد أصنافًا ثلاثة من الناس بالقتال والقتل، أو النفي من البلاد، وهم:
١ - المنافقون الذين يؤذون الله سرًا.
٢ - مَنْ في قلوبهم مرض، فيؤذون المؤمنين باتباع نسائهم.
٣ - المرجفون الذين يؤذون النبي - ﷺ - بنحو قولهم: غلب محمد، وسيخرج محمد من المدينة، وصميؤخذ أسيرًا إلى نحو ذلك مما يراد به إظهار ضعف المؤمنين، وسخط الناس منهم.
وعبارة النسفي هنا: والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلِّفون من أخبار السوء.. لنأمرنك بأن تفعل الأفعال التي تسؤهم، ثم بأن نضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها إلا زمانًا قليلًا ريثما يرتحلون، فسُمِّي إغراء، وهو التحريش على سبيل المجاز.
٦١ - ثم بيَّن مآل أمرهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فقال: ﴿مَلْعُونِينَ﴾ حال من مقدر حذف هو وعامله، تقديره: يخرجون منها حال كونهم مطرودين عن الرحمة والمدينة، أو حال من فاعل ﴿لَا يُجَاوِرُونَكَ﴾ على أن حرف الاستثناء داخل على الظرف والحال معًا؛ أي: لا يجاورنك إلا حال كونهم ملعونين، ولا (١) يجوز أن
(١) البيضاوي.
ينتصب بـ ﴿أُخِذُوا وَقُتِّلُوا﴾ الآتي؛ لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبلها.
أي: يخرجون منها حال كونهم ملعونين مطرودين ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾؛ أي: في أيِّ مكان وجدوا وأدركوا ﴿أُخِذُوا﴾؛ أي: مسكوا ﴿وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ والتشديد يدل على التكثير، وبه قرأ الجمهور. وقرأت فرقة بالتخفيف، فيكون ﴿تَقْتِيلًا﴾ مصدرًا على غير قياس المصدر، يعني: الحكم فيهم: الأخذ والقتل على جهة الأمر، فما انتهوا عن ذلك، كما في تفسير "أبي الليث".
وقال محمد بن سيرين: فلم ينتهوا، ولم يغر الله بهم، والعفو عن الوعيد جائز لا يدخل في الخلف، كما في "كشف الأسرار" وقيل (١): هذا دعاء عليهم بأن يأخذوا ويقتلوا تقتيلًا، وهو أولى. وقيل: معنى الآية: إنهم إن أصروا على النفاق.. لم يكن لهم مقامٌ بالمدينة إلا وهم مطردون.
والمعنى (٢): أي في ذلك الوقت القليل الذي يجاورونك فيه يكونون مطرودين من باب الله تعالى وبابك، وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأً، بل أينما يكونوا يطلبوا ويؤخذوا ويقتلوا تقتيلًا.
٦٢ - ثم بين أن هذا الحكم عليهم وعلى أمثالهم بنحو هذا هو شرعة الله تعالى في أشباههم من قبل، فهو ليس بباع فيهم، كما قال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ مصدر مؤكد حذف عامله وجوبًا تقديره: سن الله سبحانه ذلك الحكم من لعن المنافقين، وأخْذِهم، وقتلهم أينما ثقفوا ﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا﴾ ومضوا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبلكم أيها الأمة المحمدية؛ أي: سن الله ذلك في الأمم الماضية سنة، وجعله طريقة مسلوكةً من جهة الحكمة، وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسَعَوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا.
﴿وَلَنْ تَجِدَ﴾ يا محمد ﴿لِسُنَّةِ اللَّهِ﴾ سبحانه وعادته في خلقه ﴿تَبْدِيلًا﴾؛ أي: تغييرًا أصلًا؛ أي: لا يبدِّلها لابتنائها على أساس الحكمة التي عليها يدور ذلك التشريع، أو لا يقدر أحد على أن يبدلها؛ لأن ذلك مفعول له لا محالة، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
والمعنى: أي إن سنته تعالى في المنافقين في كل زمان إذا استمروا في كفرهم وعنادهم، ولم يرجعوا عما هم عليه أن يسلط عليهم أهل الإيمان، فيذلوهم ويقهروهم، وهذه السنة لا تغير ولا تبدل؛ لابتنائها على الحكمة والمصلحة، ولا يقدر غيره على تغييرها.
٦٣ - ﴿يَسْأَلُكَ﴾ يا محمد ﴿النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ﴾؛ أي: عن وقت قيامها وحصولها، والساعة (١): جزء من أجزاء الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة تشبيهًا بذلك لسرعة حسابها، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾.
كان المشركون يسألونه - ﷺ - عن ذلك استعجالًا بطريق الاستهزاء والتعنت والإنكار، واليهود امتحانًا لما أن الله تعالى عمّى وقتها؛ أي: أخفاه في التوراة وسائر الكتب، وقيل: السائلون عن الساعة هنا هم أولئك المنافقون والمرجفون لَمَّا توعدوا بالعذاب.. سألوا عن الساعة استبعادًا وتكذيبًا.
﴿قُلْ﴾ يا محمد جوابًا لهم ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا﴾؛ أي: علم وقت مجيئها ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، كما قال في آية أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾. ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾؛ أي: وأيُّ شيء يجعلك داريًا وعالمًا بوقت قيامها، والاستفهام للإنكار المضمن معنى التعجب والنفي؛ أي: لا يعلمك بوقت مجيئها شيء أصلًا، فأنت لا تعرفه، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله تعالى.
﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ﴾؛ أي: قيامها ﴿تَكُونُ﴾ شيئًا ﴿قَرِيبًا﴾، وهو (٢) خبر ﴿تَكُونُ﴾ على حذف موصوف؛ أي: شيئًا قريبًا. وقيل: التقدير: قيام الساعة، فروعيت الساعة في تأنيث ﴿تَكُونُ﴾، وروعي المضاف المحذوف في تذكير ﴿قَرِيبًا﴾. وقيل: كثر استعمال قريبًا استعمال الظروف، فهو ظرف في موضع الخبر. اهـ.
أو ﴿تَكُونُ﴾ تامة، والظاهر كما عليه الجماهير أن قوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ جملة مستقلة، وقوله: ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ﴾ جملة مستقلة أيضًا، فتأمل.
وفيه تهديد للمستعجلين، وإسكات للمتعنتين، والخطاب لرسول الله - ﷺ - لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها، وهو رسول الله.. فكيف بغيره من
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
الناس؟!
قالوا: مِنْ أشراط الساعة أن يقول الرجل: أفعل غدًا، فإذا جاء غد.. خالف قولُه فعلَه، وأن ترفع الأسرار، وتوضع الأخيار، ويرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا والفجور، ورقص القينات، وشرب الخمور، ونحو ذلك من موت الفجاة، وعلو أصوات الفساق في المساجد.
والمعنى (١): أي يكثر الناس هذا السؤال متى تقوم الساعة، فالمشركون يسألون عن ذلك استعجالًا لها على طريق التهكم والاستهزاء، والمنافقون يسألون سؤال المتعنت العالم بما يجيب به الرسول، واليهود يسألون سؤال امتحانٍ، واختبار ليعلموا أيجيب بمثل ما في التوراة من ردِّ أمرها إلى الله، أم يجيب بشيء آخر؟ فلقنه الله الجواب عن هذا بجعل ردِّ ذلك إليه، فقال: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ الذي أحاط علمه بكل شيء، ولم يطلع عليها ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا.
ثم أكد نفي علمها عن أحد غيره بقوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾، وأيُّ شيءٍ يعلمك وقت مجيئها وقيامها؛ أي: لا يعلمك به أحد أبدًا. ثم أخبر عن قرب وقوعها بقوله: ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾؛ أي: لعلها توجد وتحقق بعد وقت قريب، ونحو الآية قوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)﴾، وقوله: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)﴾، وقوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾.
٦٤ - ثم بين حال السائلين عنها المنكرين لها بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَعَنَ الْكَافِرِينَ﴾ به على الإطلاق، لا منكري الحشر، ولا معاندي الرسول فقط؛ أي: طردهم وأبعدهم من رحمته العاجلة والآجلة، ولذلك يستهزئون بالحق الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه، والاهتمام بالاستعداد له. ﴿وَأَعَدَّ﴾؛ أي: هيأ ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للكافرين مع ذلك ﴿سَعِيرًا﴾؛ أي: نارًا مسعورةً موقودةً شديدة الاتقاد، يقاسونها في الآخرة
٦٥ - حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقدرًا خلودهم ومكثهم في السعير ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: دائمًا؛ أي: زمنًا لا انقضاء، ولا نهاية، ولا آخر له. وأكَّد الخلود بالتأبيد والدوام مبالغةً في ذلك، وحالة كونهم ﴿لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يلي أمرهم،
(١) المراغي.
ويحفظهم من دخول العذاب من أول الأمر ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم ويخلصهم وينقذهم من العذاب بعد دخولها.
والمعنى (١): أي إن الله أبعد الكافرين به من كل خير، وأقصاهم من كل رحمة، وأعد لهم في الآخرة نارًا تتقد وتتسعر ليصليهموها ماكثين فيها أبدًا إلى غير نهاية.
ثم أيأسهم من وجود ما يدفع عنهم العذاب من الولي والنصير بقوله: ﴿لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾؛ أي: لا يجدون حينئذ من يستنقذهم من السعير، وينجيهم من عذاب الله تعالى بشفاعة أو نصرة، كما هي الحال في الدنيا لدى الظلمة؛ إذ ربما وجد النصير والشفيع الذي يخلِّص فيها من الورطات، ويدفع المصائب والنكبات.
٦٦ - وقوله: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ ظرف لقوله: ﴿لَا يَجِدُونَ﴾، وقيل: لـ ﴿خَالِدِينَ﴾، وقيل: لـ ﴿نَصِيرًا﴾، وقيل: لفعل مقدر، وهو: اذكر؛ أي: لا يجدون وليًا ولا نصيرًا حين تصرف وتحول وجوههم في النار من جهة إلى جهة أخرى، كاللحم يشوى في النار، أو يطبخ في القدر، فيدور به الغليان من جهة إلى جهة، ومن حال إلى حال، أو يطرحون فيها منكوسين مقلوبين، وتخصيص الوجوه بالذكر للتعبير عن الكل، وهي الجملة بأشرف الأجزاء وأكرمها، ويقال: تحول وجوههم من الحسن إلى القبح، ومن حال البياض إلى حال السواد.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تُقَلَّبُ﴾ مبنيًا للمفعول. وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرؤاسي بفتح التاء؛ أي: ﴿تتقلب﴾، وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة، وقال ابن خالويه عن أبي حيوة: "نُقلِّب" بالنون ﴿وجوههم﴾ بالنصب، وحكاها ابن عطية أيضًا عن أبي حيوة، وخارجة. زاد صاحب "اللوامح" أنها قراءة عيسى البصري. وقرأ عيسى الكوفي كذلك، إلا أن بدل النون تاء، وفاعل ﴿تقلب﴾ ضمير يعود على ﴿سعير﴾، أو على جهنم، أسند إليهما اتساعًا، وقراءة ابن أبي عبلة ﴿تتقلب﴾ بتائين.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
وقوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ استئناف (١) بياني واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يصنعون عند ذلك؟ فقيل: يقولون متحسرين على ما فاتهم: ﴿يَا لَيْتَنَا﴾؛ أي: يا هؤلاء ليتنا ﴿أَطَعْنَا اللَّهَ﴾؛ أي: نتمنى أن نطيع الله في دار الدنيا فيما أمرنا به، ونهانا عنه، فالمنادى محذوف كما قدرنا، ويجوز أن تكون ﴿يا﴾ لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه ﴿وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ فيما دعانا إليه من الحق، فلن نبتلى بهذا العذاب، فتمنوا حين لا ينفعهم التمني؛ أي: ويقولون إذ ذاك على طريق التمني: ليتنا أطعنا الله في الدنيا، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من أمر ونهي، فما كنا نبتلى بهذا العذاب، بل كنا مع أهل الجنة في الجنة، فيا لها من حسرة وندامة ما أعظمها وأجلها:
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةُ مَنْدَمِ وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ
ونحو الآية قوله: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧)﴾، وقوله: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢)﴾.
وهذه الألف في (٢) ﴿الرَّسُولَا﴾ والألف التي ستأتي في ﴿السبيلا﴾ هي الألف التي تقع في الفواصل، ويسميها النحاة: ألف الإطلاق؛ لمد الصوت بها؛ لأن أواخر آيات هذه السورة الألف، والعرب تحفظ هذا في خطبها وأشعارها.
٦٧ - ثم ذكر بعض معاذيرهم بإبقائهم التبعة على من أضلوهم من كبرائهم وسادتهم بقوله: ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال الأتباع من الكافرين، فهو معطوف على ﴿يَقُولُونَ﴾، والعدول (٣) إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرًا كقولهم السابق، ولا مسببًا عنه، بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربًا من التشفِّي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة، وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم منها.
أي: يقولون يومئذ وهم في جهنم: ﴿رَبَّنَا﴾؛ أي: يا مالك أمرنا ﴿إِنَّا أَطَعْنَا﴾ وامتثلنا ﴿سَادَتَنَا﴾؛ أي: أئمتنا في الضلالة، يعنون: قادتهم ورؤساءهم الذين لقنوهم الكفر، وأمروهم به ﴿وَكُبَرَاءَنَا﴾؛ أي: عظماءنا منزلةً في الكفر والدنيا؛ أي:
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) أبو السعود.
145
وافقناهم فيما هم عليه من الكفر. والسادة: جمع سيد، وهو الإِمام الذي يأمرهم بالكفر ويلقنهم، والكبراء: جمع كبير، وهو مقابل الصغير. والمراد: الكبير رتبةً وحالًا، والتعبير عنهم (١) بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة ﴿فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾؛ أي: صرفونا عن طريق الإِسلام والتوحيد بما زينوا لنا الكفر والشرك.
والمعنى: وقال الأتباع من الكفرة - وهم في جهنم -: ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة، وكبراءنا في الشرك، فأضلونا السبيل، وأزالونا عن محجة الحق، وطريق الهدى من الإيمان بك، والإقرار بوحدانيتك، والإخلاص لطاعتك في الدنيا، وفي هذا إحالة الذنب على غيرهم، كما هي عادة المذنب يفعل ذلك، وهو يعلم أنه لا يجد به نفعًا.
وفي هذا (٢): زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا، والتحذير منه، والتنفير عنه، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله تعالى، ويقتدي به، وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم، ومزيد البلادة، وشدة التعصب.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿سَادَتَنَا﴾ جمعًا على وزن: فعلة، أصله: سودة، وهو شاذ في جمع فيعل، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر والعامة في الجامع بالبصرة: ﴿ساداتنا﴾ على الجمع بالألف والتاء، وهو لا ينقاس.
قال في "بحر العلوم": قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص والكسائي ﴿وأطعنا الرسول فأضلونا السبيل﴾ بغير ألف في الوصل، وقرأ حمزة وأبو عمرو ويعقوب في الوقف أيضًا. والباقون: بالألف في الحالين تشبيهًا للفواصل بالقوافي، فإن زيادة الألف لإطلاق الصوت، وفائدتها الوقف. والدلالة على أنَّ الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستانف، وأما حذفها: فهو القياس؛ أي: في الوصل والوقف.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
146
٦٨ - ثم ذكر أنم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم أن يضاعف لهم العذاب؛ إذ كانوا سبب ضلالهم ووقوعهم في بلواهم، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلصهم مما هم فيه، فقالوا: ﴿رَبَّنَا﴾؛ أي: يا مالك أمرنا. تصدير الدعاء بالنداء المكرر للمبالغة في الجؤار، واستدعاء الإجابة ﴿آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ﴾؛ أي: مثلي العذاب الذي أوتيناه؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، فضعف لضلالهم في أنفسهم عن طريق الهداية، وضعف لإضلالهم غيرهم عنها ﴿وَالْعَنْهُمْ﴾؛ أي: واطردهم عن رحمتك ﴿لَعْنًا كَبِيرًا﴾؛ أي: طردًا شديدًا عظيمًا، وأصل الكبير والعظيم أن يستعملا في الأعيان، ثم استعير للمعاني، كما هنا.
أي: ربنا عذبهم مثلي عذابنا الذي تعذبنا به، مثلًا على ضلالهم، ومثلًا على إضلالهم إيانا، واخزهم خزيًا عظيمًا، واطردهم من رحمتك.
وقرأ الجمهور: ﴿كَثِيرًا﴾ بالثاء المثلثة؛ أي: لعنًا كثير العدد، عظيم القدر، شديد الموقع؛ أي: العنهم اللعن علي إثر اللعن؛ أي: مرة بعد مرة، ويشهد للكثرة قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس لمناسبتها للسياق، وقرأ ابن مسعود وأصحابه وحذيفة بن اليمان وابن عامر وعاصم ويحيى بن وثاب والأعرج بخلاف عنه: ﴿كَبِيرًا﴾ بالياء الموحدة؛ أي: كبيرًا في نفسه، شديدًا عليهم ثقيل الموقع.
٦٩ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا تَكُونُوا﴾ في أن تؤذوا رسول الله - ﷺ -. قيل: نزلت في شأن زينب، وما سمع فيه من مقالة الناس، كما سبق. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قسم النبي - ﷺ - قسمًا، فقال رجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي - ﷺ - فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: "يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
﴿كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾ عليه السلام، كقارون وأشياعه وغيرهم من سفهاء بني إسرائيل، هو قولهم: إنَّ به أدرة، أو برصًا، أو عيبًا، وفيه تأديب للمؤمنين، وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله - ﷺ - ﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ﴾؛ أي: فأظهر الله سبحانه براءة موسى عليه السلام: ﴿مِمَّا قَالُوا﴾ في حقه؛ أي: من مضمون ما قالوا، ومؤدَّاه الذي هو الأمر المعيب، فإن البراءة تكون من العيب، لا
147
من القول، وإنما الكائن من القول التخلص. ﴿وَكَانَ﴾ موسى عليه السلام ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿وَجِيهًا﴾؛ أي: ذا جاهٍ ومنزلة ودرجة وقدر، فكيف يوصف بعيب ونقيصة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وجيهًا أي حَظِيًّا، لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، وفيه إشارة إلى أن موسى عليه السلام كان في الأزل عند الله مقضيًّا له بالوجاهة، فلا يكون غير وجيه بتعيير بني إسرائيل إياه، كما قيل:
إِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ يَا مَوْلاَيَ مُطَّرَحًا فَعِنْدَ غَيْرِكَ مَحْمُوْلٌ عَلَى الْحِدَقِ
واختلفوا فيما أوذي به موسى (١)، فروى أبو هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأ بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. قال: فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، قال: فجمح - أسرع - موسى بأثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: واللهِ ما بموسى من بأس، فقام الحجر حتى نظروا إليه. قال: فأخذ ثوبه، فطفق الحجر ضربًا". قال أبو هريرة: والله إن بالحجر ندبًا - أثرًا - ستة أو سبعة من ضرب موسى الحجر. أخرجه البخاري ومسلم.
قال في "إنسان العيون": كان موسى عليه السلام إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته، وربما اشتعلت قلنسوته نارًا لشدة غضبه، ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه.. ضربه مع أنه لا إدراك له، ووُجِّه بأنه لما فرَّ.. صار كالدابة، والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب. انتهى.
وقيل في إذاية موسى عليه السلام: إن قارون دفع إلى زانية مالًا عظيمًا على أن تقول على رأس الملأ من بني إسرائيل: إني حامل من موسى بالزنا، فأظهر الله نزاهته عن ذلك، بأن أقرت الزانية بالمصانعة بينها وبين قارون، وفعل بقارون ما فعل من الخسف، كما فصِّل في سورة القصص.
ومعنى الآية (٢): يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول بقولٍ يكرهه، ولا بفعلٍ لا يحبه، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبيَّ الله، فرموه
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
148
بالعيب كذبًا وباطلًا، فبرأه الله مما قالوه من الكذب والزور، بما أظهر من الأدلة على كذبهم، وكان موسى ذا وجاهة وكرامة عند ربه، لا يسأله شيئًا إلا أعطاه إياه.
ولم يعين (١) لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى، ومن الخير أن لا نعينه حتى لا يكون رجمًا بالغيب دون أن يكون عليه دليل. وقد اختلفوا فيه، أهو عيب في بدنه، كبرص وأدْره، أم هو عيب في خلقه؟ فقد روَوا أنَّ قارون حرَّض بغيًا على قذفه بنفسها، فعصمه الله من كذبها، وقيل: إنهم اتهموه بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور، ومات هناك، ثمَّ استبان لهم بعد أنه مات حتف أنفه.
روي عن عبد الله بن مسعود قال: قسم رسول الله - ﷺ - ذات يوم قسمًا، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فاحمر وجهه، ثم قال: "رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا، فصبر".
وروى أحمد عنه أن رسول الله - ﷺ - قال لأصحابه: "لا يبلِّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" ومن هذا يتبين أن إيذاءه كان بالقدح في أعماله وتصرفاته، لا بالعيب في بدنه كما روي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ بالنون على الظرفية المجازية. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة: ﴿وكان عبدًا﴾ بالباء الموحدة من العبودية ﴿لله﴾: بلام الجر، و ﴿عبدًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، و ﴿وَجِيهًا﴾ صفته. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرأ: ﴿وكان عبدًا لله﴾ على قراءة ابن مسعود.
٧٠ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا الله في رعاية حقوقه وحقوق عباده، فمن الأول: الامتثال لأمره، ومن الثاني: ترك الأذى، لا سيما في حق رسوله - ﷺ - وقولوا في أيِّ شأن من الشؤون ﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾؛ أي: قولًا مستقيمًا عدلًا حقًا موافقًا للصواب. قال قتادة ومقاتل: يعني: قولوا قولًا سديدًا في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي - ﷺ - إلى ما لا يحل. وقال عكرمة: إن القول السديد لا إله إلا الله.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه. وقيل: هو ما أريد به وجه الله تعالى، دون غيره، وقيل: هو الإصلاح بين الناس.
والظاهر من الآية (١): أنه أمرهم بأن يقولوا قولًا سديدًا في جميع ما يأتونه ويذرونه، فلا يخص ذلك نوعًا دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم، فالمقام يفيد هذا المعنى؛ لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولًا يخالف قول أهل الأذى.
وقصةُ زينب، وبعثُهم على أن يسدِّدوا قولهم في كل باب؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله.
حكي أن يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت - من أكابر علماء العربية - جلس يومًا مع المتوكل، فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل، فقال: أيما أحب إليك، ابناي أم الحسن والحسين؟ قال: واللهِ إن قنبرًا خادم علي رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك، فقال: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات في تلك الليلة، ومن العجب أنه أنشد قبل ذلك للمعتز والمؤيد، وكان يعلِّمها فقال:
يُصَابُ اَلْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ يُصَابُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ فِى الْقَوْلِ تُذْهِبُ رَأْسَهُ وَعَثْرَتُهُ فِيْ الرِّجْلِ تَبْرَا عَلَى مَهْلِ
٧١ - ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر، فقال: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾؛ أي: يوفقكم للأعمال الصالحة، أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾؛ أي: يجعلها مغفورة مكفرة باستقامتكم في القول والفعل، وفيه إشارة إلى أن من وفقه الله لصالح الأعمال، فذلك دليل على أنه مغفور له ذنوبه.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَ﴾ يطع ﴿رَسُولَهُ﴾ محمدًا - ﷺ - في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التكليفات، والطاعة: هي موافقة الأمر، والمعصية: هي مخالفته ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ وظفر في الدارين، والفوز: الظفر بالمطلوب مع السلامة من المكروه ﴿فَوْزًا عَظِيمًا﴾؛ أي: عاش في الدنيا محمودًا، وفي الآخرة
(١) الشوكاني.
مسعودًا، أو نجا من كل ما يخاف، ووصل إلى كل ما يرجو، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها.
وإجمال معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أن تعصوه، فتستحقوا بذلك عقوبته، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولًا قاصدًا غير جائر، حقًا غير باطل، يوفقكم لصالح الأعمال، ويغفر لكم ذنوبكم، فلا يعاقبكم عليها، ومن يطع الله ورسوله، فيعمل بما أمره به، وينتهِ عما نهاه عنها، ويقل السديد من القول.. فقد ظفر بالمثوبة العظمى، والكرامة يوم العرض الأكبر.
والخلاصة: أنه سبحانه أمر المؤمنين بشيئين: الصدق في الأقوال، والخير في الأفعال. وبذلك يكونوا قد اتقوا الله وخافوا عقابه، ثم وعدهم على ذلك بأمرين:
١ - صلاح الأعمال؛ إذ بتقواه يصلح العمل، والعمل الصالح يرفع صاحبه إلى أعلى عليين، ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدًا فيها أبدًا.
٢ - مغفرة الذنوب، وستر العيوب، والنجاة من العذاب العظيم.
٧٢ - ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب.. بين عظم شأن التكاليف الشرعية، وصعوبة أمرها فقال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ...﴾ الآية. قال ابن عباس (١): أراد بالأمانة: الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنها إذا أدُّوها.. أثابهم، وإن ضيعوها.. عذبهم. وقال ابن مسعود: الأمانة: أداء الصلوات، وايتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله: الودائع. وقيل: جميع ما أمروا به ونهوا عنه. وقيل: هي الصوم، وغسل الجنابة، وما يخفى من الشرائع، كالنية في الأعمال.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله من الإنسان الفرج، وقال: هذه الأمانة استودعكها، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
(١) الخازن.
151
وفي رواية عن ابن عباس: هي أمانات الناس، والوفاء بالعود، فحقٌّ على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنًا ولا معاهدًا في شيء، لا في قليل ولا كثير، فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين، وأكثر السلف. فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن.. جوزيتن، وإن عصيتن.. عوقبتن، قلن: لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، وقلن ذلك خوفًا وخشيةً وتعظيمًا لدين الله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره. وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا، لو ألزمهن لم يمتنعن من حملها. والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل، مطيعة لأمره، ساجدة له.
قال بعض أهل العلم: ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن وأجبن بما أجبن. وقيل: المراد من العرض على السموات والأرض والجبال: هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها. والقول الأول أصح. وهو قول أكثر العلماء.
وقوله: ﴿إِنَّا﴾ هذه النون (١) نون العظمة والكبرياء عند العلماء، فإن الملوك والعظماء يعبِّرون عن أنفسهم بصيغة الجمع، ونون الأسماء والصفات عند العرفاء. فإنها متعددة ومتكثرة ﴿عَرَضْنَا﴾؛ أي: أظهرنا وأبرزنا ﴿الْأَمَانَةَ﴾؛ أي: التكاليف الشرعية ﴿عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ على أنَّ من أداها فله الثواب، ومن لم يؤدِّها.. فله العقاب. وكان هذا العرض عرض تخيير، لا عرض إلزام ﴿فَأَبَيْنَ﴾؛ أي: فامتنعت السموات والأرض والجبال عن قبولها على هذا الشرط المذكور. والإباء: شدة الامتناع، فكل إباء، امتناع، وليس كل امتناع إباءً.
وأتى بضمير هذه كضمير الإناث؛ لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإن كان مذكرًا، وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أن قد غلَّب المؤنث، وهو السموات على المذكر، وهو الجبال.
واعلم: أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: {أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ
(١) روح البيان.
152
السَّاجِدِينَ}؛ لأن السجود كان هناك فرضًا، وهاهنا الأمانة كانت عرضًا، والإباء هناك كان استكبارًا، وهاهنا كان استصغارًا لقوله تعالى: ﴿وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾؛ أي: خفن من الأمانة أن لا يؤدينها. اهـ "فتوحات".
﴿وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾؛ أي: وخفن من الأمانة وحملها، وقلن: يا رب، نحن مسخرات بأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، ولم يكن هذا القول منهن من جهة المعصية والمخالفة، بل من جهة الخوف والخشية من أن لا يؤدين حقوقها، ويقعن في العذاب، ولو كان لهن استعداد ومعرفة بسعة الرحمة، واعتماد على الله تعالى لما أبين.
فإن قلت (١): ما ذكر من السموات وغيرها جمادات، والجمادات لا إدراك لها، فما معنى عرض الأمانة عليها؟
قلت: للعلماء فيه قولان:
الأول: أنه محمول على الحقيقة، وهو الأنسب بمذهب أهل السنة؛ لأنهم لا يؤولون أمثال هذا، بل يحملونها على الحقيقة خلافًا للمعتزلة وهو القول الثاني. وعلى تقدير الحقيقة فيه وجهان: أحدهما أدق من الآخر:
الوجه الأول: أن للجمادات حياةً حقانيةً دلَّ عليها كثير من الآيات، نحو قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾، وقوله: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، وقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ إلى غير ذلك.
والوجه الثاني: أن الله تعالى ركَّب العقل والفهم في الجمادات المذكورة عند عرض الأمانة، كما ركب العقل، وقبول الخطاب في النملة السليمانية، والهدهد، وغيرهما من الطيور والوحوش والسباع، بل وفي الحجر والشجر والتراب، فهن بهذا العقل والإدراك سمعن الخطاب، وأنطقهن الله بالجواب، حيث قال لهن: أتحملن هذه على أن يكون لكُنَّ الثواب والنعيم في الحفظ والأداء، والعقاب في
(١) روح البيان.
153
الغدر والخيانة.
﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: قبلها الإنسان عند عرض تلك الأمانة عليه، والمراد بالإنسان: الجنس، بدليل قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾؛ أي: تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية، ورخاوة القوة؛ لأن الحمل إنما يكون بالهمة، لا بالقوة.
وقال بعضهم: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مثلت الأمانة كالصخرة الملقاة، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها، فلم يقربوا منها، وقالوا: لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال: لو أمرت بحملها لحملتها، فقلنا له: احمل، فحملها إلى ركبتيه، ثم وضعها، وقال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلنا له: احمل، فحملها إلى حقوه، ثم وضعها وقال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلنا له: احمل، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها، فقال الله: مكانك، فإنها في عنقك، وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الإنسان ﴿كَانَ ظَلُومًا﴾ لنفسه بمعصية ربه؛ حيث لم يف، ولم يراع حقها. وقيل: المراد بظلمه لها: إتعابه إياها. ﴿جَهُولًا﴾ بكنه عاقبتها. وجملة ﴿إِنَّ﴾ اعتراض وُسِّط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهد تحمله؛ أي: إنه كان مفرطًا في الظلم، مبالغًا في الجهل؛ أي: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، أو عهودهم يوم الأرواح، دون من عداهم من الذين لم يبدِّلوا فطرة الله، وجروا على ما اعترفوا بقولهم: بلى.
٧٣ - واللام في قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ - الذين ضيعوا الأمانة بعدما قبلوها ﴿وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ - الذين خانوا في الأمانة بعدم قبولها رأسًا - لامُ العاقبة متعلقة بـ ﴿حَمَلَهَا﴾، وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ معترضة؛ لأن التعذيب، وإن لم يكن غرضًا له من الحمل، لكان لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها.. أبرز في معرض الغرض، وهذا إشارة إلى الفريق الأول؛ أي: كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذِّب الله هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة، وخروجهم عن الطاعة بالكلية. قال في "بحر العلوم": ويجوز أن تكون اللام علة لـ ﴿عَرَضْنَا﴾؛ أي: عرضنا عليه ليظهر نفاق المنافقين، وإشراك
154
المشركين، فيعذبهما الله تعالى.
﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ الذين حفظوا الأمانة، وراعوا حقها. قال في "الإرشاد": وهذا إشارة إلى الفريق الثاني؛ أي: كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله على هؤلاء من أفراده؛ أي: يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة، وتلافيهم فرط منهم من فرطات، قلما يخلو الإنسان عنها بحكم جبليته، وتداركهم لها بالتوبة والإنابة، أو عرضنا عليه ليظهر إيمان المؤمن، فيتوب الله عليه؛ أي: يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منهم تقصير في بعض الطاعات.
وقرأ الأعمش (١): ﴿فيتوب﴾ بالرفع على جعل العلة قاصرة على ما قبله، وذهب صاحب "اللوامح" أن الحسن قرأ: ﴿ويتوب﴾: بالرفع، ذكره أبو حيان في "البحر".
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ أي: كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم، أو كان (٢) غفورًا للظلوم، رحيمًا على الجهول؛ لأن الله سبحانه وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعًا إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك.
وإجمال الآية (٣): أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها، وقوة أسرها، مستعدةً لحمل التكاليف بتلقي الأوامر والنواهي، والتبصر في شؤون الدين والدنيا، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منَّته، وصغر جرمه مستعدًا لتلقيها، والقيام بأعبائها، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب، فكان ظلومًا لغيره، وركِّب فيه حب الشهوات، والميل إلى عدم التدبر في عواقب الأمور، ومن ثَمَّ كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى، وتخفف من سلطانها عليه، ونكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى. ثم بين عاقبة تلك التكاليف، فقال: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ...﴾ الخ. أي: وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
155
والانقياد لها من المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل، وعدم التبصر في العواقب، وتداركهم ذلك بالتوبة.
ثم علل قبوله لتوبتهم فقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ أي: وكان ستارًا لذنوب عباده، كثير الرحمة بهم، ومن ثَمَّ قبل توبة من أناب إليه، ورجع إلى حظيرة قدسه، وأخلص له العمل، وتلافى ما فرِّط منه من الزلات، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم. نسألك اللهم أن تتوب علينا، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٥٨)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعوله. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة صلة الموصول. ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: متعلق بـ ﴿لَعَنَهُمُ﴾. ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿الدُّنْيَا﴾. ﴿وَأَعَدَّ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدّ﴾. ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به. ﴿مُهِينًا﴾: صفة ﴿عَذَابًا﴾، وجملة ﴿أَعَدَّ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لَعَنَهُمُ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، ﴿وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾: معطوف على ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾. ﴿بِغَيْرِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْذُونَ﴾ وهو مضاف، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه. ﴿اكْتَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بغير الذنب الذي اكتسبوه، أو ﴿مَا﴾ مصدرية، والجملة الفعلية صلته، والمصدر المنسبك منها مضاف إليه لـ ﴿غَيْرِ﴾؛ أي: بغير اكتسابهم وجرمهم. ﴿فَقَد﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿احْتَمَلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بُهْتَانًا﴾: مفعول به. ﴿وَإِثْمًا﴾: معطوف على ﴿بُهْتَانًا﴾. ﴿مُبِينًا﴾: صفة. ﴿كَانَ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر
156
المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٩)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -. ﴿لِأَزْوَاجِكَ﴾: متعلق بـ ﴿قُلْ﴾، وجملة القول جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: معطوفان على ﴿أَزْوَاجِكَ﴾. ﴿يُدْنِينَ﴾: فعل مضارع وفاعل؛ لأن النون ضمير النسوة. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: متعلق بـ ﴿يُدْنِينَ﴾، أو حال مقدمة على صاحبها، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، وقيل: هو مجزوم بلام الأمر المحذوفة؛ أي: ليدنين. ﴿مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾: متعلق بـ ﴿يُدْنِينَ﴾. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يُعْرَفْنَ﴾: فعل مضارع مغيَّر الصيغة مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة نائب فاعل، والمصدر المنسبك من الفعل مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أي ذلك أدنى وأقرب إلى معرفتهن. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية. ﴿يُؤْذَيْنَ﴾: فعل مضارع مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُعْرَفْنَ﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان له، والجملة مستأنفة.
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠)﴾.
﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَنْتَهِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَّمْ﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء. ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾: فاعل. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن لم ينتهوا نغرينك بهم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالْمُرْجِفُونَ﴾: معطوف على ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾ ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾: متعلق بـ ﴿مرجفون﴾. ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة
157
للقسم مؤكدة للأولى، وكُرِّرت لإفادة أن المذكور جواب القسم لتقدمه على الشرط، كما هو القاعدة عندهم. ﴿نغرينك﴾: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا، تقديره: نحن، يعود على الله، والكاف: مفعول به. ﴿بِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿نغرينك﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب وتراخ. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُجَاوِرُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿نغرينك﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يجاورون﴾، أو حال من فاعل ﴿يجاورون﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿قَلِيلًا﴾: ظرف زمان متعلق بـ ﴿يجاورون﴾؛ لأنه صفة لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، أو منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف. إلا جوارًا قليلًا.
﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)﴾.
﴿مَلْعُونِينَ﴾: حال من فاعل ﴿يُجَاوِرُونَكَ﴾، أو حال من مقدر حذف هو وعامله. تقديره: ثم يخرجون ملعونين. ﴿أَيْنَمَا﴾: اسم شرط جازم يجزم فعلين، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، والظرف متعلق بالجواب ﴿ما﴾ زائدة زيدت لتأكيد معنى الكلام. ﴿ثُقِفُوا﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿أَيْن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿أُخِذُوا﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿أَيْن﴾ على كونه جواب الشرط لها، وجملة الشرط مستأنفة. ﴿وَقُتِّلُوا﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل معطوف على ﴿أُخِذُوا﴾. ﴿تَقْتِيلًا﴾: مفعول مطلق مؤكد لعامله. ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾: مفعول مطلق مؤكد لعاملة المحذوف، تقديره: سنَّ الله ذلك الأخذ والقتل في الذين نافقوا من قبل. ﴿فِي الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾، أو بعامله المحذوف. ﴿خَلَوْا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَوْا﴾. ﴿وَلَنْ تَجِدَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَن تجد﴾: ناصب وفعل مضارع منصوب بـ ﴿وَلَنْ تَجِدَ﴾، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد. ﴿لِسُنَّةِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَبْدِيلًا﴾. و ﴿تَبْدِيلًا﴾: مفعول به لـ ﴿تَجدَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿سن﴾ المحذوفة.
158
﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (٦٣)﴾.
﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل. ﴿عَنِ السَّاعَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْأَلُكَ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لحكاية حال المستهزئين من المشركين واليهود ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿عِلْمُهَا﴾: مبتدأ. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿مَا﴾: اسم استفهام للإنكار مبتدأ، وجملة ﴿يُدْرِيكَ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة؛ أي: أيُّ شيء مدر إياك وقت مجيئها؛ أي: لا تعلمه. ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ﴾: ناصب واسمه. ﴿تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿السَّاعَةَ﴾ ﴿قَرِيبًا﴾: خبرها؛ أي: شيئًا قريبًا، وجملة ﴿تَكُونُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لَعَلَّ﴾، وجملة ﴿لَعَلَّ﴾ في محل نصب مفعول ثانٍ لـ ﴿يُدْرِيكَ﴾، والتقدير: وما يدريك قرب قيام الساعة.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَعَنَ الْكَافِرِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿الْكَافِرِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَأَعَدَّ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿لَعَنَ﴾. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدَّ﴾. ﴿سَعِيرًا﴾: مفعول به. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من ﴿الْكَافِرِينَ﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿أَبَدًا﴾ ظرف زمان متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾ أيضًا. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَجِدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿وَلِيًّا﴾: مفعول به. لـ ﴿يَجِدُونَ﴾، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾: معطوف على ﴿وَلِيًّا﴾، وجملة ﴿لَا يَجِدُونَ﴾ حال ثانية من ﴿الْكَافِرِينَ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: ظرف زمان متعلق بـ ﴿يَقُولُونَ﴾، أو بمحذوف، تقديره: اذكر، أو متعلق بـ ﴿لَا يَجِدُونَ﴾. ﴿تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ﴾: فعل مضارع مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة ﴿يَوْمَ﴾ إليه. ﴿فِي النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿تُقَلَّبُ﴾. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو حال من ضمير ﴿وُجُوهُهُمْ﴾. ﴿يَا لَيْتَنَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، والمنادى محذوف، تقديره: يا قوم، أو يا هؤلاء. ﴿ليتنا﴾: ناصب واسمه،
159
وجملة ﴿أَطَعْنَا اللَّهَ﴾ خبر ﴿لَيْتَ﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَأَطَعْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿الرَّسُولَا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَطَعْنَا اللَّهَ﴾.
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿أَطَعْنَا سَادَتَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنّ﴾، وجملة ﴿إِنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَكُبَرَاءَنَا﴾: معطوف على ﴿سَادَتَنَا﴾، ﴿فَأَضَلُّونَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أضلونا﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿أَطَعْنَا﴾. ﴿السَّبِيلَا﴾: مفعول ثان لـ ﴿أَضَلُّونَا﴾، وزيادة الألف لإطلاق الصوت، جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف، والإشارة إلى أن الكلام قد انقطع. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿آتِهِمْ﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول؛ لأنه بمعنى: أعطي. ﴿ضِعْفَيْنِ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿آتِهِمْ﴾. ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾: صفة لـ ﴿ضِعْفَيْنِ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَالْعَنْهُمْ﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على ﴿آتِهِمْ﴾. ﴿لَعْنًا﴾: مفعول مطلق. ﴿كَبِيرًا﴾: صفة ﴿لَعْنًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (٦٩)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾. ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿لَا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَكُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿كَالَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿تَكُونُوا﴾، وجملة ﴿تَكُونُوا﴾ جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿آذَوْا مُوسَى﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿بَرَّأَهُ اللَّهُ﴾: فعل ماض ومفعول به وفاعل، معطوف على جملة {آذَوْا
160
مُوسَى}. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿بَرَّأَ﴾، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية، أو موصولة، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما قالوه فيه، أو من مضمون قولهم: إن قلنا: إنها مصدرية. ﴿وَكَانَ﴾: فعل ناقص، واسمه مستتر يعود على موسى. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَجِيهًا﴾. و ﴿وَجِيهًا﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَقُولُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿اتَّقُوا﴾. ﴿قَوْلًا﴾: مفعول مطلق. ﴿سَدِيدًا﴾: صفة ﴿قَوْلًا﴾. ﴿يُصْلِحْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بالطلب السابق. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُصْلِحْ﴾. ﴿أَعْمَالَكُمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَيَغْفِرْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله تعالى، معطوف على جملة ﴿يُصْلِحْ﴾ ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿اللَّهَ﴾. ﴿ذُنُوبَكُمْ﴾: مفعول به. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشوط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُطِعِ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ الشرطية، مجزوم بـ ﴿مَن﴾ الشوطية على كونها فعل شرط لها. ﴿اللَّهَ﴾: لفظ الجلالة مفعول به. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف عليه. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ ﴿قَدْ﴾. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿فَازَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. ﴿فَوْزًا﴾: مفعول مطلق. ﴿عَظِيمًا﴾: صفة ﴿فَوْزًا﴾، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة
161
في محل الرفع خبر ﴿إِنَّا﴾، وجملة ﴿إِنَّا﴾ مستأنفة. ﴿عَلَى السَّمَاوَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿عَرَضْنَا﴾. ﴿وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾: معطوفان على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿فَأَبَيْنَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أَبَيْنَ﴾: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والنون فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿عَرَضْنَا﴾. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يَحْمِلْنَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أبين﴾؛ أي: فأبين حملهن إياها. ﴿وَأَشْفَقْنَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أَشْفَقْنَ﴾: فعل ماض وفاعل، مبني على السكون. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَشْفَقْنَ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أَبَيْنَ﴾. ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فعرضناها على الإنسان، وحملها الإنسان. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الإنسان. ﴿ظَلُومًا﴾: خبرها الأول. ﴿جَهُولًا﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٣)﴾.
﴿لِيُعَذِّبَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يُعَذِّبَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل. ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾: مفعول به ﴿وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾: معطوفات على ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتعذيب الله المنافقين الخ، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿حَمَلَهَا﴾، وقيل: بـ ﴿عَرَضْنَا﴾، واللام لام التعليل، أو لام العاقبة على الخلاف المار فيه. ﴿وَيَتُوبَ﴾: معطوف على ﴿يُعَذِّبَ﴾. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل. ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَتُوبَ﴾. ﴿وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾: معطوف على ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ يقال: آذى يؤذي أذى وأذيَّة وإذاية، ولا يقال: إيذاءً،
162
كما في "القاموس"، ولكن شاع بين أهل التصنيف استعماله، كما في "التنبيه" لابن كمال.
﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ من الإدناء من الدنو، وهو القرب. والجلابيب: جمع جلباب. وفي "القاموس" وغيره: الجلباب، والجلبَّاب - بتشديد الباء - الأولى: ثوب أوسع من الخمار دون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله إلى صدرها، كما في "الكشاف".
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ الانتهاء: الانزجار عما نهي عنه. ﴿وَالْمُرْجِفُونَ﴾ قال في "الأساس": وأرجفوا في المدينة بكذا: إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم، وهذا من أراجيف الغواة، وتقول: إذا وقعت المخاويف كثرت الأراجيف. وجاء في غيره ما نصه: أرجف: خاض في الأخبار السيئة والفتن، قصد أن يهيج الناس، وأرجف القوم بالشيء وفيه: خاضوا فيه، وأرجفت الريح الشجر: حركته، وأرجفت الأرض بالبناء للمجهول: زلزلت، وأصل الإرجاف: التحريك، مأخوذ من الرجفة، وهي الزلزلة، ووصفت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة، وسمي البحر رجافًا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر:
الْمُطْعِمُوْنَ اللَّحْمَ كُلَّ عَشِيَّةٍ حَتَّى تَغِيْبَ الشَّمْسُ فِيْ الرَّجَّافِ
﴿لَنُغْرِيَنَّكَ﴾ يقال: غرى بكذا؛ أي: لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء، وهو ما يلصق به الشي، وقد أغريت فلانًا بكذا إغراءً ألهجته به.
﴿مَلْعُونِينَ﴾ قال في "الأساس" و"اللسان": لعنه أهله: طردوه وأبعدوه وهو لعين؛ أي: طريد، وقد لعن الله إبليس: طرده من الجنة، وأبعده من جوار الملائكة، ولعنت الكلب والذئب طردتهما، ويقال للذئب: اللعين، ولعنه وهو ملعَّن؛ أي: مكثر لعنه، وتلاعن القوم وتلعنوا والتعنوا والتعن فلان: لعن نفسه، ورجل لُعَنَةٌ ولُعْنَةٌ، كضُحَكَة وضُحْكَة، ولا تكن لعانًا طعانًا، ولاعن امرأته ولاعن القاضي بينهما: أوقع بينهما اللعان.
﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾؛ أي: وجدوا وأدركوا. قال الراغب: الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، يقال: ثقفت كذا: إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قد تجوِّز به، فاستعمل في الإدراك، وإن لم يكن معه ثقافة.
163
﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ﴾؛ أي: القيامة؛ أي: عن وقت قيامها، والساعة في الأصل: جزء من أجزاء الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة تشبيهًا بذلك لسرعة حسابها.
﴿سَعِيرًا﴾؛ أي: نارًا مسعورة شديدة الاتقاد، يقال: سعر النار وأسعرها وسعرها: أوقدها.
﴿سَادَتَنَا﴾ جمع تكسير على وزن فعلة بفتحتين؛ لأن أصله سودة، وهو شائع في وصف لمذكر عاقل صحيح اللام، نحو كامل وكملة، وساحر وسحرة، وسافر وسفرة، وبارٌّ وبررة، وقال تعالى: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ﴾، ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦)﴾ فخرج بالوصف الاسم، نحو: واد وباز، وبالتذكير نحو: حائض وطالق، وبالعقل نحو: سابق ولاحق صفتي فرسين وبصحة اللام نحو: قاضٍ وغازٍ، فلا يجمع شيء من ذلك على فعلة بفتحتين باطرادٍ، وشذ في غير فاعل نحو: سيد وسادة، فوزنها: فعلة، ويجوز أن يكون جمعًا لسائد، نحو: فاجر وفجرة، وكافر وكفرة، وهو أقرب إلى القياس، كما رأيت على أن صاحب "القاموس" لم يلتزم بالقاعدة، فقال: والسائد: السيد أو دونه، والجمع: سادة وسيايد.
وقرأ ابن عامر: ﴿سادتنا﴾، فجمعه ثانيًا بالألف والتاء، وهو غير مقيس أيضًا.
﴿وَكُبَرَاءَنَا﴾ جمع: كبير، وهو مقابل الصغير، والمراد: الكبير رتبةً وحالًا.
﴿فَأَضَلُّونَا﴾ يقال: أضله الطريق، وأضله عن الطريق بمعنًى واحد؛ أي: أخطأ به عنه.
﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ﴾ أصل البراءة: التفصِّي مما تكره مجاورته؛ أي: فأظهر براءة موسى عليه مما قالوا في حقه.
﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ الوجيه: سيد القوم ذو الجاه والوجاهة. وفي "الوسيط": وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه: إذا كان ذا جاه وقدر.
﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾ مستقيمًا مائلًا إلى الحق، من سد يسد سدادًا من باب ضرب: صار صوابًا ومستقيمًا، فإنَّ السداد الاستقامة، يقال: سدد السهم نحو الرمية: إذا لم يعدل به عن سمتها، وخص القول الصدق بالذكر، وهو ما أريد به وجه الله ليس فيه شائبة غيرٍ وكذب أصلًا؛ لأن التقوى صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل
164
أو ترك، فلا يدخل فيها.
﴿عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ﴾ يقال: عرض لي أمر كذا؛ أي: ظهر. وعرضت له الشيء: أظهرته وأبرزته إليه، وعرضت الشيء على البيع، وعرض الجند: إذا أمرهم عليه، ونظر ما حالهم. والأمانة: ضد الخيانة، والمراد بها هنا: التكاليف الشرعية، والأمور الدينية المرعية.
﴿فَأَبَيْنَ﴾؛ أي: امتنعن من حملها، والإباء: شدة الامتناع، كما مر في مبحث التفسير.
﴿وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾؛ أي: خفن منها. قال في "المفردات": الإشفاق: عناية مختلطة بخوف؛ لأن الشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه، فإذا عدي بـ ﴿من﴾ فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدِّي بـ ﴿على﴾ فمعنى العناية فيه أظهر.
﴿ظَلُومًا﴾ والظلم: وضع الشيء في غير موضعه المختص به؛ إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا: ظلمت السقاء: إذا تناولته في غير وقته، ويسمى ذلك اللبن: الظلم، وظلمت الأرض: إذا حفرتها، ولم تكن موضعًا للحفر، وتلك الأرض يقال لها: المظلومة، والتراب الذي يخرج منها ظليم. والظلم يقال في مجاوزة الحد الذي يجري مجرى النقطة في الدائرة، ويقال فيما يكثر ويقل من التجاوز، ولذا تستعمل في الذنب الصغير والكبير، ولذا قيل لآدم في تقدمه: ظالم، وفي إبليس ظالم، وإن كان بين الظلمين بون بعيد.
قال بعض الحكماء: الظلم ثلاثة:
أحدها: بين الإنسان وبين الله سبحانه، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق.
والثاني: ظلم بينه وبين الناس.
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وهذه الثلاثة في الحقيقة للنفس، فإن الإنسان أول ما يهم بالظلم، فقد ظلم نفسه.
﴿جَهُولًا﴾ والجهل: خلو النفس من العلم، وهو على قسمين: ضعيف: وهو الجهل البسيط، وقوي: وهو الجهل المركب الذي لا يدري صاحبه أنه لا يدري، فيكون محرومًا من التعلم، وكذا كان قويًا. وقال بعضهم: الإنسان ظلوم ومجهول؛
165
أي: من شأنه الظلم والجهل، كما يقال: الماء طهور؛ أي: من شأنه الطهارة. واعلم أنَّ الظلومية والجهولية صفتا ذم عند أهل الظاهر؛ لأنهما في حق الخائنين في الأمانة، فمن وضع الغدر والخيانة موضع الوفاء والأداء.. فقد ظلم وجهل. اهـ "روح".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بإن، وبفعلية الخبر في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ إلخ.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾، ﴿وَالْمُرْجِفُونَ﴾: هم من المنافقين، فعمم ثم خصص زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم. ومنها: التأكيد بالمصدر.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾؛ لأنه في الأصل إلصاق الشيء بالشيء، فاستعير هنا للتسليط.
ومنها: الإتيان بالمصدر مع الفعل للتأكيد في قوله: ﴿وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾، وفيه أيضًا: جناس الاشتقاق.
ومنها: الإتيان بعنوان السيادة والكبر في قوله: ﴿سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾ لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَعْنًا كَبِيرًا﴾؛ لأن الأصل في الكبير أن يستعمل في الأجرام، ثم استعير هنا للمعاني.
ومنها: التحسر والتفجع بطريق التمني في قوله: ﴿يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار﴾ فأطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: أجسامهم، وفيه أيضًا تخصيص الوجوه بالذكر؛ لأناقة الوجه على جميع الأعضاء، وهو مثابة المقابلة.
166
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، وفي قوله: ﴿فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ مثَّل للأمانة في ضخامتها وعظمها وتفخيم شأنها بأنها من الثقل، بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال، وهي من القوة والشدة بأعلى المنازل.. لأبت عن حملها، وأشفقت منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾، وبين قوله: ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾، وفي ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع: ردَّ العجز على الصدر؛ لأن بدء السورة كان في ذم المنافقين، وختامها كان في بيان سوء عاقبة المنافقين، فحسن الكلام.
ومنها: العدول إلى صيغة الماضي في قوله: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا﴾ مع كونه معطوفًا على يقولون قبله؛ للإشعار بأن قولهم ليس مستمرًا، كقولهم السابق، بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربًا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة.
ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة الذي هو الاسم الجليل في قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ لتهويل الخطب وتربية المهابة.
ومنها: الإظهار في موضع الاضمار ثانيًا في قوله: ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ﴾ لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين والمؤمنات توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه.
ومنها: الاعتراض بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
تنبيه: ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من شؤون الزوجية، وكيف تعامل الزوجات، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان
167
الأخرى، ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم، وسمعوا كلام المبشرين، ظنًا منهم أنهم وجدوا مغمزًا في الإِسلام، وأصابوا هدفًا يصمي الدين، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين، وأنى لهم ذلك، وليتهم فكروا وتأملوا قبل أن يتكلموا:
أَرَى الْعَنْقَاءَ تَكْبُرُ أَنْ تُصَادَا فَعَانِدْ مَنْ تُطِيْقُ لَهُ عِنَادَا
١ - تعدد زوجاته - ﷺ - وكثرتهن، بينما لم يبحْ مثل ذلك لأمته.
٢ - إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين، ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما.
أسباب تعدد زوجاته - ﷺ -
قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أنَّ النبي - ﷺ - عاش مع خديجة خمسًا وعشرين سنة، لم يتزوج سواها، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين، وكان قد تزوجها في شرخ شبابه؛ إذ كانت سنه وقتئذ خمسًا وعشرين سنة، وكانت سنها أربعين، وعاشا معًا عيشًا هنيئًا، شعاره الإخلاص والوفاء، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه، وألحقوا به ضروبًا شتى من الأذى، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه، بل ظل وفيًا لها حتى توفيت، فحزن عليها حزنًا شديدًا، وسمي عام وفاتها: عام الحزن، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته.
والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي - ﷺ - إلى التعدد، وهي قسمان: أسباب عامة، وأسباب خاصة.
الأسباب العامة
١ - إن رسالة النبي - ﷺ - عامة للرجال والنساء، ومن التشريع ما هو مشترك بين الوجل والمرأة، وما هو خاص بأحدهما، وكل يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل؛ لتفوق المرسل إليهم، وكثرتهم، وقصر زمن حياة الرسول، وكثرة الأحكام وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم. ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحي المرأة أن تعرفه من الرجل، ويستحي الرجل من تبليغه للمرأة، ألا ترى إلى ما روي
168
عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصاري قالت للنبي - ﷺ -: كيف أغتسل من الحيض؟ قال: "خذي فرصة ممسكة - قطعة قطن - فتوضئي" قالها ثلاثًا، وهو في كل ذلك يقول: "سبحان الله" عند إعادتها السؤال، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء، فأخذتها عائشة، وأخبرتها بما يريد النبي - ﷺ -.
ومن ثمَّ وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول - ﷺ - عدد كثير منهن، وهن يبلِّغن ذلك إلى النساء، ولا يصلح للتلقي عنه إلا أزواجه؛ لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي - ﷺ - دون تأفُّف ولا استحياء، يرشد إلى ذلك قوله: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" يريد عائشة رضي الله عنها والعرب تقول: امرأة حمراء؛ أي: بيضاء.
٢ - إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر، كما هو مشاهد معروف، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة، إلى الإكثار من ذلك؛ لاجتذاب القبائل إليه، ومؤازرتهم له لذود عوادي الضالين، وكفِّ أذاهم عنه، ومن ثَمَّ كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب.
٣ - إن المؤمنين كانوا يرون أنَّ أعظم شرف، وأمتن قربة إلى الله تعالى مصاهرتهم لنبيه، وقربهم منه، فمن ظفر بالمصاهرة.. فقد أدرك ما يرجو، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول الله - ﷺ - ابنته، وقال: لا يعبأ بعدها بعمر، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت، وأنَّ عليًا كرم الله وجهه على اتصاله برسول الله - ﷺ - من طريق النسب، وشرف اقترانه بالزهراء، رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبي طالب؛ ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصِّر في القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها.
الأسباب الخاصة
١ - تزوج النبي - ﷺ - بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو الذي أسلم، واضطر إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربًا من اضطهاد المشركين، ومات هناك، وأصبحت امرأته بلا معين، وهي أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق، فتزوجها النبي - ﷺ - وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظًا بعقيدته، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها؛
169
لأنها مع زوجها على غير رغبتهم.
٢ - تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، وعمرها زهاء خمسين عامًا، وكان زواجه منها سببًا في دخول خالد بن الوليد في دين الله، وهو المجاهد الكبير، والبطل العظيم، وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد، وله في الإِسلام أيام غر محجلة إلى أن زواجها بالنبي - ﷺ - يسر لذوي قرباها وسيلة للعيش، فطعموا من جوع، وأمنوا من مخوف، وأثروا بعد فاقة.
٣ - تزوج جويرية، وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق بن خزاعة، جمع قبل إسلامه جموعًا كثيرة لمحاربة النبي - ﷺ -، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول - ﷺ - الإِسلام فأبوه، فحاربهم حتى هزموا، ووقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على سبع أواق من الذهب، فلم تر معينًا لها غير النبي - ﷺ -، فجاءت إليه، وأدلت بنسبها، وطلبت حريتها، فتذكر النبي - ﷺ - ما كان لأهلها مع العز والسؤدد، وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم، ثم تزوجها، فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بني المصطلق: إن أصهار رسول الله لا يسترقون، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرًا لله على الحرية بعد ذل الكفر والأسر.
٤ - تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبي بكر الصديق؛ إذ كان شديد التمسك برسول الله - ﷺ -، مولعًا بالتقرب منه، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها، وفخرًا لذوي قرباها، وكان عبد الله بن الزبير - ابن أختها - يفاخر بني هاشم بذلك.
٥ - تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفي مجروحًا في وقعة بدر، وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول - ﷺ - وزوج عثمان قد توفيت، فعرض عمر ابنته على عثمان، فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول - ﷺ -؛ ليستديم له بذلك الشرف، فعز هذا على عمر، وأنفت نفسه، فشكاه إلى أبي بكر، فقال له: لعلها تتزوج من هو خير منه، ويتزوج من هي خير منها له. [يريد زواج عثمان بأم كلثوم، وزواج حفصة بالنبي - ﷺ -].
٦ - تزوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، وكانت قد وقعت في السبي مع عشيرتها، فأراد النبي - ﷺ - أن يتزوجها رأفة بها؛ إذ ذلت بعد عزة،
170
واسترقت، وهي السيدة الشريفة عند أهلها، وتأليفًا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام، وينضووا تحت لوائه.
٧ - تزوَّج زينب بنت جحش الأسدية لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب، وهي التبني، بتنزيل الدعيِّ منزلة الابن الحقيقيِّ، وإذ أراد الله سبحانه إبطال هذه العادة.. جعل رسوله - ﷺ - أسوةً حسنةً في هذا، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد، فأنفت هي وأخوها عبد الله، وأبت أن تكون زوجًا لدعيٍّ غير كفء، فنزل الله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ فرضيا بقضاء الله ورسوله، غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن، مترفعة عن زيد، ضائقة به ذرعًا، فآثر فراقها، فسأل الرسول - ﷺ - الإذن في ذلك، فقال له: "أمسك عليك زوجك واتق الله"، وأخفى في نفسه ما الله مبديه من تزوجه منها بعد زيد، وخشي أن يقول الناس: تزوج محمد من زوجة زيد ابنه، ولما لم يبق لزيد فيها شيء من الرغبة.. طلَّقها، فتزوجها النبي - ﷺ - إبطالًا لتلك العادة، وهي إعطاء المتبنى حكم الابن، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء التفسير بشيء من البسط والإيضاح.
ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوَّله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي - ﷺ - خول لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه، لا وجه له من الصحة، فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراضٍ اجتماعية اقتضتها الدعوة، ودعا إليها حب النصرة، ولا سيما إذا علم أنَّه لم يتزوج بكرًا قط إلا عائشة، وأنه تزوج من أمهات من كن في سن الكهولة أو جاوزتها.
أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإِسلام
يجدر بذوي الحصافة في الرأي أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإِسلام تعدد الزوجات، دون أن ينقموا عليه ذلك، ويرموه بالقسوة، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد، لا مجيز له فحسب، وهاك أهم الأسباب:
١ - قد تصاب المرأة أحيانًا بمرض مزمن، أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بواجبات الزوجية، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة، ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج أخرى.
171
٢ - دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى، وتضوي الأجسام، ولا سيما الحروب الطاحنة، فإذا منع التعدد.. لا يجد بعض النساء أزواجًا يحصنونهن ويقومون بشؤونهن، فيكثر الفساد، ويلحق الأسر العار، وتعضهن الحياة بأنيابها.
٣ - حضت الشريعة الإِسلامية على كثرة النسل؛ لتقوى شوكة الإِسلام، وتعلو سطوته، وتنفذ كلمته، حتى ترهبه الأعداء، وتتقيه الأمم المناوئة له، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات؛ لأن المنع مفض إلى تناقص النسل، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج، والاجتزاء بالسفاح فرارًا من حقوق الزوجية، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى، ومن ثمَّ لجأ كثير من الدول الغربية إلى اربتاط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق، طلبًا لنيل فائدة التكاثر، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.
٤ - دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أنَّ حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين، مما حدا بعض المفكِّرين إلى النظر في توريثهم.
٥ - كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال، حتى عجز الطب عن مكافحتها، وتغلغل الداء، وعز الدواء، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صك رسميِّ بخلو الزوجين من الأمراض المعدية، والأمراض التي تجعل النسل ضعيفًا ضاويًا، لا يستطيع الكفاح في الحياة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
172
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من أغراض ومقاصد
وجملة ما تضمنت هذه السورة:
١ - الأمر بتقوى الله سبحانه، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.
٢ - وجوب اتباع ما ينزل به الوحي مع ضرب المثل لذلك.
٣ - إبطال العادة الجاهلية، وهي إعطاء المتبنى حكم الابن، وبيان أن الدين منه براء.
٤ - إبطال التوريث بالحلف، والتوريث بالهجرة، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.
٥ - ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتدَّ بهم الخطب.
٦ - تخيير النبي نساءه بين شيئين: الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا، والبقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة.
٧ - التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش، ونهيهن عن الخضوع في القول، وأمرهن بالقرار في البيوت، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله، ونهيهن عن التبرج.
٨ - قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسول الله - ﷺ -.
٩ - ما أحل الله سبحانه لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.
١٠ - النهي عن إيذاء المؤمنين للنبي - ﷺ - إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه.
١١ - الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شيء، إلا الآباء والأبناء والأرقاء.
١٢ - أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.
١٣ - تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.
173
١٤ - سؤال المشركين عن الساعة متى هي؟
١٥ - النهي عن إيذاء النبي - ﷺ -، حتى لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى.
١٦ - عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
174
سورة سبأ
سورة سبأ مكية، قال القرطبي: في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ...﴾ الآية، فقالت فرقة: هي مكية، وقالت فرقة: هي مدنية.
وآيها: أربع وخمسون. وكلماتها: ثمان مئة وثلاث وثلاثون كلمة. وحروفها: ألف وخمس مئة واثنا عشر حرفًا.
الناسغ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة سبأ كلها محكمة إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)﴾ الآية، نسخها الله تعالى بآية السيف، وسميت سورة سبأ؛ لذكر قصة سبأ فيها.
المناسبة: ووجه اتصالها بما قبلها (١):
١ - أن الصفات التي أجريت على الله في مفتتحها تشاكل الصفات التي نسبت إليه في مختتم السورة السالفة.
٢ - أنه في السورة السابقة ذكر سؤال الكفار عن الساعة استهزاءً، وهنا حكى عنهم إنكارها صريحًا، وطعنهم على من يقول البعث، وقال هنا ما لم يقله هناك.
وقال أبو حيان: وسبب نزولها: أن (٢) أبا سفيان قال لكفار مكة - لما سمعوا ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ -: إن محمدًا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوِّفنا بالبعث، واللاتِ والعزى لا تأتينا الساعة أبدًا، ولا نبعث، فقال الله: قل يا محمد ﴿بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾. قاله مقاتل.
وباقي السورة تهديد لهم وتخويف، ومن ذكر هذا السبب ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
175
فضلها: وروي في فضلها (١): أنه - ﷺ - قال: "من قرأ سورة سبأ.. لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقًا ومصافحًا، ولكن لا أصل له صحيح، وسميت سورة سبأ لذكر قصة سبأ فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الخازن
176

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)﴾.
المناسبة
تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة التي قبلها، فلا عود ولا إعادة.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
177
الآيات لما قبلها: أن الله (١) سبحانه وتعالى لما بيَّن أنَّ له الحمد في الآخرة على ما أسدى إلى عباده من النعم.. أردف ذلك ببيان أنَّ كثيرًا منهم ينكرها أشد الإنكار، ويستهزء بمن يثبتها ويعتقد أنها ستكون، وقد بلغ من تهكمهم أنهم يستعجلون مجيئها ظنًا منهم أنَّ هذه خيالات، بل أضغاث أحلام. وقد ذكر أنَّ مجيئها ضربة لا زب، لتجزى كل نفس بما تسعى من خير أو شر، ثم أعقب هذا ببيان أنَّ الناس فريقان: مؤمن بآيات ربه، يرى أنها الحق، وأنها تهدي إلى الصراط المستقيم، ومعاند جاحد بها، يسعى في إبطالها، ومآل أمره العذاب الأليم على ما دسَّ به نفسه من قبيح الخلال.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله - سبحانه وتعالى - لمَّا (٢) بين أنهم أنكروا الساعة، ورد عليهم ما قالوا، وأكده كل التأكيد، ثم ذكر ما يكون إذ ذاك من جزاء المؤمن بالثواب العظيم على ما عمل من صالح الأعمال، وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب في الجحيم على ما دسَّ به نفسه من اجتراح المعاصي، وفاسد المعتقدات.. أردف ذلك بذكر مقال للكافرين ذكروه تهكمًا واستهزاءً، ثم ذكر الدليل على صحة البعث بخلق السموات والأرض، ثم توعدهم على تكذيبهم بأشد الوعيد لعلهم يرجعون عن عنادهم، ويثوبون إلى رشادهم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنَّ في خلق السموات والأرض آية لكل من أناب إلى الله تعالى ورجع إليه.. أردف ذلك بذكر بعض من أنابوا إلى ربهم، فأنعم عليهم بما آتاهم من الفضل المبين، ومن جملتهم: داود عليه السلام، فقد جمع الله له النبوة والملك والجنود ذوي العَدد والعُدد، ومنحه الصوت الرخيم، فكان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات، وتقف له الطيور الراسيات، وعلمه سرد الدروع؛ لتكون عدة للمقاتلين، درءًا للمجاهدين.
قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما منَّ به على داود من النبوة والملك..
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
178
Icon