ﰡ
والرجل الشَّكِسُ : الضيق الخلق. فالمشرك لما كان يعبد آلهة شَتَّى شُبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين.
والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سَلِمَ له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه. فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه.
فهل يستوي هذان العبدان ؟
وهذا من أبلغ الأمثال. فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين ﴿ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾.
فأجاب الأكثرون : بأنه عام مخصوص، يخص محل النزاع، كسائر الصفات من العلم والنحو.
قال ابن عقيل في «الإرشاد » : ووقع نحو لي أن القرآن لا تتناوله هذه الأخبار، ولا تصلح لتناوله، قال : لأن به حصل عقد الإعلام بكون الله خالقا لكل شيء، وما حصل به عقد الإعلام والإخبار لم يكن داخلا تحت الخبر.
قال : ولو أن شخصا قال : لا أتكلم اليوم كلاما إلا كذبا. لم يدخل إخباره بذلك تحت ما أخبر به.
قلت : ثم تدبرت هذا فوجدته مذكورا في قوله تعالى في قصة مريم :﴿ فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾ [ مريم : ٢٦ ]، وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها. فقولها :﴿ فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾ به يحصل إخبارها بأنها لا تكلم الإنس، ولم يكن ما أخبرت به داخلا تحت الخبر، وإلا كان قولها مخالفا لنذرها.
وقال في «حادي الأرواح » :
قال لأهل الجنة :﴿ حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ﴾ بالواو.
وقال في صفة النار :﴿ حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ﴾ [ الزمر : ٧١ ] بغير واو.
فقالت طائفة : هذه واو الثمانية : دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية، وأبواب النار سبعة، فلم تدخلها الواو. وهذا قول ضعيف لا دليل عليه، ولا تعرفه العرب، ولا أئمة العربية. وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين.
وقالت طائفة أخرى : الواو زائدة : والجواب الفعل الذي بعدها، كما هو في الآية الثانية. وهذا أيضا ضعيف. فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم، ولا يليق بأفصح الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة.
وقالت طائفة ثالثة : الجواب محذوف.
وقوله :﴿ فتحت أبوابها ﴾ عطف على قوله :﴿ جاءوها ﴾ وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد والزجاج وغيرهم.
قال المبرد : وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم.
قال أبو الفتح بن جني : وأصحابنا يدفعون زيادة الواو، ولا يجيزونه، ويرون أن الجواب محذوف للعلم به.
بقي أن يقال : فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة، وذكره في آية أهل النار ؟
فيقال : هذا ابلغ في الموضعين. فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها، وأبوابها مغلقة، حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم، فيفجؤهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة. فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط : أن يكون عقيبه. والنار دار الإهانة والخزي، فلم يستأذن لهم في دخولها، ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول.
وأما الجنة فإنها دار الله، ودار كرامته، ومحل خواصه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة، فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله، وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم. فيقول صلى الله عليه وسلم :«أنا لها » فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعه ما شاء الله أن يدعه، ثم يأذن له في رفع رأسه، وان يسأله حاجته، فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها، فيشفعه، ويفتحها تعظيما لخاطره، وإظهارا لمنزلة رسوله صلى الله عليه وسلم وكرامته عليه، وأن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة، التي أولها من حين عَقَل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها، وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة، حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله، وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم. وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك، لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء. فجنة الله عالية غالية، وبين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به. فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار ؟ فليعد
عنها إلى ما هو أولى به. وقد خلق له وهيئ له.
وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا : من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم، كل زمرة على حده، كمشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين أقوياء القلوب، كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا، ويفرح بعضهم ببعض. وكذلك أصحاب الدار الأخرى : يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا، ويتأذى بعضهم ببعض. وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة. من أن يساقوا واحدا واحدا.
فلا تهمل تدبر قوله :﴿ زمرا ﴾ وقول خزنة أهل الجنة لأهلها ﴿ سلام عليكم ﴾ فبدؤوهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه، أي سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون، ثم قالوا لهم :﴿ طبتم فادخلوها خالدين ﴾ أي سلامتكم ودخولكم الجنة بطيبكم،
فإن الله حرمها إلا على الطيبين، فبشروهم بالسلامة والطيب، والدخول والخلود.
وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن، وفتحت لهم أبوابها فوقفوا عليها، وزيدوا على ما هم عليه : توبيخ خزنتها وتبكيتهم لهم بقولهم :﴿ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ [ الزمر : ٧١ ] فاعترفوا وقالوا ﴿ بلى ﴾ فبشروهم بدخول النار والخلود فيها، وأنها بئس المثوى والمآب لهم.
وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها ﴿ بلى ﴾ وقول خزنة النار لأهلها ﴿ ادخلوا أبواب جهنم ﴾ تجد تحته سرا لطيفا، ومعنى بديعا، لا يخفى على المتأمل. وهو أنها لما كانت النار دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حرا، وأعظمه غما، يستقبل الداخل فيها من العذاب ما هو أشد منها، ويدنوا من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب. فقيل :﴿ ادخلوا أبواب جهنم ﴾ صغارا لهم، وإذلالا وخزيا. ثم قيل لهم : لا يقتصر بكم العذاب على مجرد دخول الأبواب الفظيعة، ولكن وراءها الخلود في النار.
وأما الجنة : فهي دار الكرامة، والمنزل الذي أعده الله لأوليائه، فبشروا من أول وهلة بالدخول إلى الأرائك والمنازل والخلود فيها.
قال الحسن وغيره : لقد دخلوا النار، وإن حمده لفي قلوبهم، ما وجدوا عليه سبيلا.
وهذا - والله أعلم - هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله :﴿ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ﴾ [ الزمر : ٧٢ ] وفي قوله :﴿ وقيل ادخلا النار مع الداخلين ﴾ [ التحريم : ١٠ ] كأن الكون كله نطق بذلك، وقاله لهم ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.