تفسير سورة الزخرف

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الزخرف وهي مكية

﴿حم﴾ قد ذكرنَا معنى حم.
وَقَوله: ﴿وَالْكتاب الْمُبين﴾ هُوَ الْقُرْآن، وَسَماهُ مُبينًا؛ لِأَنَّهُ أبان فِيهِ الْهدى من الضَّلَالَة، وَالْخَيْر من الشَّرّ، وَأَبَان فِيهِ جَمِيع مَا يُؤْتى وَجَمِيع مَا يتقى. وَمعنى الْآيَة هُوَ الْقسم، فَكَأَنَّهُ أقسم بحم وَبِالْقُرْآنِ، وَجَوَاب الْقسم قَوْله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا﴾ وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿وَإنَّهُ فِي ام الْكتاب﴾ جَوَاب الْقسم أَيْضا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ قَالَ السدى: أَنزَلْنَاهُ وَقَالَ مُجَاهِد: قُلْنَاهُ. وَعَن بَعضهم: بَيناهُ، قَالَه سُفْيَان الثَّوْريّ. وَاسْتدلَّ بِهَذَا من زعم أَن الْقُرْآن مَخْلُوق، وَذكر أَن الْجعل بِمَعْنى الْخلق بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهدا﴾ أَي: خلق لكم، وَعِنْدنَا هَذَا التَّعَلُّق بَاطِل، وَالْقُرْآن كَلَام الله غير ومخلوق، وَعَلِيهِ إِجْمَاع أهل السّنة، وَزَعَمُوا أَن من قَالَ: إِنَّه مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر؛ لِأَن فِيهِ نفي كَلَام الله تَعَالَى، وَقد بَينا وَجه الْآيَة عِنْد السّلف وَمن يعْتَمد فِي تَفْسِيره.
وَقد ورد الْجعل فِي الْقُرْآن لَا بِمَعْنى الْخلق، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنهم وصفوهم بالأنوثة وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنهم خلقوهم.
وَقَوله: ﴿قُرْآنًا عَرَبيا﴾ أَي: بِلِسَان الْعَرَب.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تعقلون﴾ أَي: تعقلون مَا فِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإنَّهُ فِي أم لكتاب﴾ أَي: الْقُرْآن فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي بعض
90
((٥} وَكم أرسلنَا من نَبِي فِي الْأَوَّلين (٦) وَمَا يَأْتِيهم من نَبِي إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون (٧) فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا وَمضى مثل الْأَوَّلين (٨) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق) التفاسبر: أَن أم الْكتاب مَذْكُور عِنْد الله تَعَالَى، قد بَين فِيهِ جَمِيع الْأَشْيَاء، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة عورض مَا كَانَ من المكاتبات بذلك الذّكر فتوجد على السوَاء.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي [أَنه] قَالَ: " إِن أول مَا خلق الله تَعَالَى الْقَلَم، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَقَوله: ﴿لدينا﴾ أَي: عندنَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لعلى﴾ أَي: رفيع لَا يَنَالهُ أحد بتبديل وَلَا تَغْيِير.
وَقَوله: ﴿حَكِيم﴾ أَي: أحكمت آيَاته لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا ينقص.
91
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا﴾ مَعْنَاهُ: أفنصفح عَنْكُم وَقد كَذبْتُمْ بآياتي وتركتم أوامري. قَالَ القتيبي: وَهَذَا مَأْخُوذ من قَوْلهم: ضرب فلَان دَابَّته وصفحت عَنهُ أَي: مَالَتْ عَنهُ، وَحَقِيقَة المُرَاد: أفنضرب عَنْكُم الذّكر صافحين أَي: نمهلكم ونترككم فَلَا نأمركم وَلَا ننهاكم وَلَا نعرفكم مَا يجب عَلَيْكُم ﴿أَن كُنْتُم قوما مسرفين﴾ أى لَان كُنْتُم قوما مسرفين. وَيُقَال مَعْنَاهُ: نترككم والتكذيب وَلَا نعاقبكم عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكم أرسلنَا من نَبِي فِي الْأَوَّلين﴾ كم للتكثير.
وَقَوله: ﴿من نَبِي فِي الْأَوَّلين﴾ أَي: فِي الْقُرُون الْمَاضِيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا ياتيهم من نَبِي إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون﴾ أَي: يسخرون، وَهَذَا على الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ قد كَانَ فيهم من آمن.
وَقَوله: ﴿فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا﴾ أَي: فأهلكنا من هُوَ أَشد من قَوْمك بطشا أَي: قُوَّة.
وَقَوله: ﴿وَمضى مثل الْأَوَّلين﴾ أَي: عقوبات الْأَوَّلين، وَذكر بِلَفْظ الْمثل على
91
﴿السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن خَلقهنَّ الْعَزِيز الْعَلِيم (٩) الَّذِي جعل لكم لأرض مهدا وَجعل لكم فِيهَا سبلا لَعَلَّكُمْ تهتدون (١٠) وَالَّذِي نزل من السَّمَاء مَاء بِقدر فأنشرنا بِهِ﴾ معنى أَنَّهَا سنة المكذبين من قبل. وَقُرِئَ: " مثل الْأَوَّلين " بِضَم الْمِيم والثاء على الْجمع، وَمَعْنَاهُ مَا بَينا.
92
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: وَلَئِن سَالَتْ الْمُشْركين من خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض ﴿ليَقُولن خَلقهنَّ الْعَزِيز الْعَلِيم﴾ وَهَذَا على طَرِيق التعجيب من حَالهم أَي: كَيفَ يعْبدُونَ الْأَصْنَام ويزعمون أَن لله شَرِيكا، وَقد أقرُّوا أَن الله تَعَالَى خَالق السَّمَوَات والرض؟
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهدا﴾ هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى من غير أَن يكون حِكَايَة عَن الْكفَّار؛ لِأَن كَلَامهم قد تمّ فِي الْآيَة الأولى.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم الآرض مهدا﴾ قد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم فِيهَا سبلا﴾ أَي: [طرقا].
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾ أَي: تهتدون بسلوكها فِي أسفاركم. وَقيل: فِي معايشكم وتصرفاتكم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي نزل من السَّمَاء مَاء بِقدر﴾ أَي: بِمِقْدَار مَعْلُوم، فَلَا ينقص عَن حاجات النَّاس فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلَا يزِيد فَيكون سيلا مهْلكا، وَهَذَا على أَكثر الْأَحْوَال، وَقد يكو بِخِلَافِهِ.
وَقَوله: ﴿فأنشرنا بِهِ بَلْدَة مَيتا﴾ مَعْنَاهُ: أحيينا بِهِ أَرضًا ميتَة.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك تخرجُونَ﴾ يَعْنِي: تبعثون يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا﴾ أَي: الْأَصْنَاف كلهَا، وَيُقَال: لكل شَيْئَيْنِ قرينين زوجان، وكل وَاحِد مِنْهُمَا زوج صَاحبه، وَذَلِكَ السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَالْجنَّة وَالنَّار، وَمَا أشبه ذَلِك. وَكَذَلِكَ مَا يعود إِلَى
92
﴿بَلْدَة مَيتا كَذَلِك تخرجُونَ (١١) وَالَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا وَجعل لكم من الْفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لتستووا على ظُهُوره ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون﴾ أَحْوَال الْإِنْسَان من الْمَرَض وَالصِّحَّة، والفقر والغنى، وَالْخَيْر وَالشَّر، وَالنَّوْم واليقظة، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم من الْفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ﴾ الْفلك: هِيَ السفن، وَاخْتلف القَوْل فِي الْأَنْعَام، فَذهب مقَاتل إِلَى أَنَّهَا الْإِبِل وَالْبَقر، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا الْإِبِل خَاصَّة، وَهُوَ الأولى، قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: وَمَتى ركبت الْبَقَرَة؟ ! وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا ركب بقرة فتكلمت الْبَقَرَة، وَقَالَت: مَا خلقنَا لهَذَا، وَإِنَّمَا خلقنَا للحرث.
93
وَقَوله: ﴿لتستوا على ظُهُوره﴾ فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: على ظُهُورهَا، وَقد تقدم لفظ الْجمع؟ وَالْجَوَاب: أَن قَوْله: ﴿على ظُهُوره﴾ ينْصَرف إِلَى كلمة " مَا "، وَمَعْنَاهُ: لتستووا على ظُهُور مَا تركبونه.
وَقَوله: ﴿ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين﴾ أَي: مطيقين، أَي: مَا كُنَّا نطيق تذليله وتسخيره لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذلله وسخره لنا. قَالَ عَمْرو بن معد يكرب:
(وَقد علم الْقَبَائِل مَا عقيل لنا فِي النائبات بمقرنينا)
وَعَن بَعضهم أَنه ركب بعيره وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين، فَسَمعهُ الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: أهكذا أمرت؟ إِنَّمَا أمرت أَن تذكر نعْمَة الله تَعَالَى ثمَّ تَقول هَذَا، فَإِذا ركبت فَقل: الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمن علينا بِمُحَمد، وَالْحَمْد لله الَّذِي جعلنَا من خير أمة أخرجت للنَّاس، ثمَّ قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا ".
وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر أَن النَّبِي كَانَ إِذا اسْتَوَى على بعيره مُتَوَجها فِي سفر،
93
﴿وَجعلُوا لَهُ من عباده جُزْءا إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين (١٥) أم اتخذ مِمَّا يخلق﴾ كبر الله ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك فِي سفرنا هَذَا الْبر وَالتَّقوى وَالْعَمَل بِمَا ترْضى، اللَّهُمَّ هون علينا سفرنا، واطو علينا بعده، اللَّهُمَّ أَنْت الصاحب فِي السّفر والخليفة فِي الْأَهْل، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنظر، وَسُوء المنقلب فِي الْأَهْل وَالْمَال وَالْولد ". وَإِذا رَجَعَ قَالَ: آيبون تائبون عَابِدُونَ لربنا حامدون ". خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِي بعض الْكتب عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنه قَالَ: كُنَّا فِي سفر وَكَانَ النَّاس إِذا اسْتَووا على دوابهم قَالُوا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين﴾ وَكَانَ أَعْرَابِي على بعير هزيل فَاسْتَوَى على بعيره وَقَالَ: أما إِنِّي لهَذَا مقرن، [فقمص] بِهِ، فَوَقع واندقت عُنُقه وَمَات.
وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن رجلا شَابًّا خرج فِي حلَّة لَهُ، قد رجل شعره، فَقيل لَهُ: إِنَّك لحميل الْيَوْم، فَقَالَ: إِن الله يعجب من جمالي؛ فمسخه الله تَعَالَى.
وَعَن بَعضهم أَيْضا أَنه كَانَ يكْتب الْقُرْآن فانعقد حبره وَلم يحضرهُ المَاء، فقطر فِيهِ قَطْرَة بَوْل فَكتب، فجفت يَده.
94
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون﴾ أَي: رَاجِعُون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجعلُوا لَهُ من عباده جُزْءا﴾ أَي: نَصِيبا، والنصيب الَّذِي جَعَلُوهُ لله تَعَالَى هُوَ أَنهم قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات الله تَعَالَى. [يُقَال] : أَجْزَأت الْمَرْأَة، إِذا
94
﴿بَنَات وأصفاكم بالبنين (١٦) وَإِذا بشر أحدهم بِمَا ضرب للرحمن مثلا ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم (١٧) أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين (١٨) ﴾ ولدت أُنْثَى.
وَقَوله: ﴿إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين﴾ أَي: كفور للنعم بَين الكفران.
95
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم اتخذ مِمَّا يخلق بَنَات﴾ مَعْنَاهُ: أم اتخذ الله مِمَّا يخلق بَنَات ﴿وأصفاكم بالبنين﴾ أَي: اخْتَار لكم الْبَنِينَ، وَهَذَا، [على] طَرِيق الْإِنْكَار لقَولهم. وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا القَوْل كَانَ يَقُوله بَنو كنَانَة وَبَنُو عَامر وَحي ثَالِث. وَعَن بَعضهم: أَن جَمِيع قُرَيْش كَانَت تَقوله، فَقيل لَهُم: من أَيْن تَقولُونَ هَذَا؟ فَقَالَت: سمعنَا آبَاءَنَا يَقُولُونَ كَذَلِك، وَنحن نشْهد أنم لم يكذبوا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا بشر أحدكُم بِمَا ضرب للرحمن مثلا﴾ أَي: وصف الله بِهِ.
وَقَوله: ﴿ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم﴾ أَي: حَزِين مكروب، وَيُقَال مَمْلُوء غما وهما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو من ينشأ فِي الْحِلْية﴾ أَي يُربي وينبت. وَقُرِئَ: " أَو من ينشأ أَي: ينْبت
وَقَوله: ﴿فِي الْحِلْية﴾ أَي: فِي الْحلِيّ، والحلية: الزِّينَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا مَشْغُولَة بزينتها لَيْسَ لَهَا رَأْي فِي الْأُمُور، وَلَا تصرف فِي الْأَشْيَاء.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين﴾ أَي: فِي الْجِدَال ضَعِيف القَوْل. وَفِي التَّفْسِير: قَلما تَكَلَّمت امْرَأَة بِحجَّة فأمكنها أَن تبلغ حجتها، وَيُقَال: قَلما تَكَلَّمت امْرَأَة بِحجَّة إِلَّا وتتكلم مَا يكون حجَّة عَلَيْهَا، وَالْآيَة وَردت للإنكار عَلَيْهِم يَعْنِي: أَنكُمْ جعلتم نَصِيبي من عبَادي مثل هَؤُلَاءِ، وجعلتم نصيبكم الْبَنِينَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا﴾ مَعْنَاهُ: وصفوا،
95
﴿وَجعلُوا لملائكة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا أشهدوا خلقهمْ ستكتب شَهَادَتهم ويسألون (١٩) وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا﴾ وَلَيْسَ الْجعل هَاهُنَا بِمَعْنى الْخلق، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى الْوَصْف وَالتَّسْمِيَة كَمَا يَقُول الْقَائِل: جعل فلَان زيدا أعلم النَّاس أَي: وَصفه بِهِ، وَحكم لَهُ بذلك، وَقُرِئَ: " عِنْد الرَّحْمَن " وَهُوَ عبارَة عَن الْقرب والرفعة.
وَقَوله: ﴿أشهدوا خلقهمْ﴾ مَعْنَاهُ: أحضروا خلقهمْ فعرفوا أَنهم خلقُوا إِنَاثًا، وَقُرِئَ: (اشْهَدُوا خلقهمْ) مَعْنَاهُ: احضروا.
وَقَوله: ﴿ستكتب شَهَادَتهم﴾ وَقُرِئَ (سنكتب) بالنُّون يعْنى: [أَنهم] يجازون بِشَهَادَتِهِم الكاذبة. وَقيل سنكتب ليجاوز.
وَقَوله: ﴿ويسألون﴾ أَي: يسْأَلُون عَن شَهَادَتهم يَوْم الْقِيَامَة.
96
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم﴾ تعلق بِهَذِهِ الْآيَة الْقَدَرِيَّة، وَقَالُوا: حكى الله تَعَالَى عَن الْكفَّار أَنهم قَالُوا: لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم، ثمَّ عقبه بالإنكار والتهديد فَقَالَ: ﴿مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون﴾ أَي: يكذبُون، وعندكم أَن الْأَمر على مَا قَالُوا. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: ﴿مَا لَهُم بذلك من علم﴾ أى: مَالهم بقَوْلهمْ إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله من علم إِن هم إِلَّا يخرصون يعْنى: فِي هَذَا القَوْل وَقد تمّ الْكَلَام على هَذَا عِنْد قَوْله: ﴿لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم﴾ وَالْإِنْكَار غير رَاجع إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يحْكى من الْكفَّار مَا هُوَ حق مثل قَوْله: ﴿وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ﴾ وَهَذَا القَوْل حق وَصدق، فَإِن قيل: أول الْآيَة وَآخِرهَا خرج مخرج الْإِنْكَار عَلَيْهِم فَكيف يحْكى عَنْهُم مَا هُوَ حق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم قَالُوا هَذَا لَا على اعْتِقَاد الْحق وَلَكِن لدفع الْقبُول عَن أنفسهم، وَقد كَانُوا أمروا
96
﴿يخرصون (٢٠) أم آتَيْنَاهُم كتابا من قبله فهم بِهِ مستمسكون (٢١) بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون (٢٢) وَكَذَلِكَ مَا أرسلنَا من قبلك فِي قَرْيَة من﴾ بِالْقبُولِ، فأرادوا أَن يدفعوا الْقبُول من أنفسهم بِهَذَا القَوْل، كَمَا أَن فِي الْآيَة الآخرى أَرَادوا أَن يدفعوا الْأَمر بِالْإِنْفَاقِ عَن أنفسهم بِمَا قَالُوهُ، وَالْقَوْل على هَذَا الْقَصْد غير صَحِيح.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿مَا لَهُم بذلك من علم﴾ أَي: مَا لَهُم فِي هَذَا القَوْل من عذر.
وَقَوله: ﴿إِن هم غلا يخرصون﴾ أَي: يطْلبُونَ مَا لَا يكون من طلب الْعذر بِهَذَا الْكَلَام، حَكَاهُ النّحاس، وَالْأول ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا.
97
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم أتيناهم كتابا من قبله﴾ أَي: بِمَا زَعَمُوا ان الْمَلَائِكَة خلقُوا إِنَاثًا.
وَقَوله: ﴿فهم بِهِ مستمسكون﴾ أَي: مستمسكون، وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار أَيْضا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة﴾ وَقُرِئَ: " إمة " بِكَسْر الْألف فَقَوله: ﴿على أمة﴾ أَي: على مِلَّة وَدين، قَالَ الشَّاعِر:
(حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع)
أَي: ذُو مِلَّة.
وَأما الإمة بِكَسْر الْألف فَهِيَ بِمَعْنى الطَّرِيقَة، قَالَ الشَّاعِر:
(ثمَّ بعد الْفَلاح وَالْملك وإلامة وارتهم هُنَاكَ الْقُبُور)
فَقَوله: والإمة يَعْنِي: الطَّرِيقَة الْحَسَنَة.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون﴾ أَي: متبعون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أرسلنَا من قبلك فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها﴾
97
﴿نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون (٢٣) قَالَ أَو لَو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (٢٤) فانتقمنا مِنْهُم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (٢٥) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فطرني فَإِنَّهُ سيهدين (٢٧) وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عقبه﴾ أَي: متنعموها. وَوجه الْإِنْكَار أَن الرفه مَنعهم عَن طلب الْحق.
وَقَوله: ﴿إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْآيَتَيْنِ دَلِيل على ذمّ التَّقْلِيد وَالرُّجُوع إِلَى قَول الْآبَاء من غير حجَّة.
98
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ أَو لَو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم﴾ مَعْنَاهُ: أتتبعون مَا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم وَإِن جِئتُكُمْ بأهدى مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون﴾ أَي: جاحدون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فانتقمنا مِنْهُم﴾ أَي: بالإهلاك والعقوبة.
وَقَوله: ﴿فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين﴾ أَي: الجاحدين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ﴾ وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " بَرِيء " فَقَوله: ﴿برَاء﴾ بِمَعْنى قَوْله: " بَرِيء "، وَيُقَال: إِنَّه لُغَة اهل الْحجاز يَعْنِي قَوْله: ﴿برَاء﴾ وَهُوَ مِمَّا لَا يثنى وَلَا يجمع.
وَقَوله: ﴿إِلَّا الَّذِي فطرني﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء إِلَّا أَنهم كَانُوا يعْبدُونَ الله وَمَا دونه، فيستقيم الِاسْتِثْنَاء على هَذَا. وَالثَّانِي: أَنه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن لذِي فطرني أَي: جعلني ﴿فَإِنَّهُ سيهدين﴾ أَي: يرشدني.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة﴾ قَالَ مُجَاهِد: هِيَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ الْإِخْلَاص والتوحيد. وَعَن بَعضهم: أَن الْكَلِمَة هِيَ قَول إِبْرَاهِيم:
98
﴿لَعَلَّهُم يرجعُونَ (٢٨) بل متعت هَؤُلَاءِ وآباءهم حَتَّى جَاءَهُم الْحق وَرَسُول مُبين (٢٩) وَلما جَاءَهُم الْحق قَالُوا هَذَا سحر وَإِنَّا بِهِ كافرون (٣٠) وَقَالُوا لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم (٣١) أهم يقسمون رحمت رَبك نَحن قسمنا بَينهم﴾ ﴿أسلمت لرب الْعَالمين﴾. وَذَلِكَ عِنْدَمَا قيل لَهُ: ﴿أسلم﴾. وَأما قَوْله: ﴿فِي عقبَة﴾ أَي: فِي وَلَده. وَفِي التَّفْسِير: لَا يزَال فِي عقب إِبْرَاهِيم من هُوَ مُسْتَقِيم على كلمة التَّوْحِيد. وَقيل: ﴿فِي عقبه﴾ هُوَ رجل وَاحِد، وَذَلِكَ مُحَمَّد. وَقَالَ السدى: فِي عقبه يَعْنِي: فِي آل مُحَمَّد وَرَضي عَنْهُم.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يرجعُونَ﴾ أَي: يرجعُونَ إِلَى الْهدى بعد الضَّلَالَة.
99
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل متعت هَؤُلَاءِ وآباءهم﴾ أَي: أمتعتهم بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ، وأمتعت آبَاءَهُم.
وَقَوله: ﴿حَتَّى جَاءَهُم الْحق وَرَسُول مُبين﴾ أَي: جَاءَهُم الْقُرْآن يبين الْهدى من الضَّلَالَة، وَالْحق من الْبَاطِل.
وَقَوله: ﴿وَلما جَاءَهُم الْحق قَالُوا هَذَا سحر وَإِنَّا بِهِ كافرون﴾ أَي: جاحدون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم﴾ وَتَقْدِيره: على رجل من رجْلي القريتين عَظِيم. والقريتان هما مَكَّة والطائف، وَأما الرّجلَانِ اخْتلفُوا فيهمَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: الَّذِي من مَكَّة هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَالَّذِي من الطَّائِف هُوَ حبيب بن عَمْرو الثَّقَفِيّ. وَقيل: الَّذِي من مَكَّة هُوَ عتبَة بن ربيعَة، وَالَّذِي من الطَّائِف هُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، قَالَه قَتَادَة. وَقَالَ مُجَاهِد فِي الَّذِي من الطَّائِف: هُوَ ابْن عبد ياليل الثَّقَفِيّ. وَعَن السدى أَيْضا فِيهِ: أَنه كنَانَة بن عدي بن عَمْرو.
وَقَوله: ﴿أهم يقسمون رَحْمَة رَبك﴾ أَي: رِسَالَة رَبك فيختارون لَهَا من شَاءُوا. وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ لَهُم هَذَا الِاخْتِيَار.
99
﴿معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا ورحمت رَبك خير مِمَّا يجمعُونَ (٣٢) وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا﴾
وَقَوله: ﴿نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: كَمَا قسمنا معيشة الْحَيَاة الدُّنْيَا فاخترنا للغنى من شِئْنَا، وللفقر من شِئْنَا، فَكَذَلِك اخترنا واصطفينا للرسالة من شِئْنَا. وَقد روى ابْن مَسْعُود أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله يُعْطي الدُّنْيَا من يحب وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إِلَّا من يُحِبهُ، وَمن أعطَاهُ الدّين فقد أحبه ". وَعَن قَتَادَة: رب رجل ضَعِيف (الجبلة) عيي اللِّسَان [مَبْسُوط لَهُ] فِي الرزق، وَرب رجل شَدِيد (الجبلة)، فصيح اللِّسَان مقتر عَلَيْهِ فِي الرزق.
وَقَوله: ﴿ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات﴾ أَي: فِي الدُّنْيَا، فغني وفقير، وفاضل ومفضول، وحر وَعبد، وصحيح وَسَقِيم، وَأَشْبَاه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا﴾ أَي: خولا. وَقيل: بتسخير الْغَنِيّ الْفَقِير بِمَالِه، وَالْقَوِي الضَّعِيف بِفضل قوته. وَيُقَال: تتخذونهم مماليك وعبيدا، وَبِهَذَا الْقيام صَلَاح الْعَالم، وَأنْشد بَعضهم:
(سُبْحَانَ من سخر [الْأَنَام] بَعضهم للْبَعْض حِين اسْتَوَى التَّدْبِير واطردا)
(فَصَارَ يخْدم هَذَا ذَاك من جِهَة وَذَاكَ من جِهَة هَذَا وَإِن بعدا)
(كل بِمَا عِنْده مُسْتَبْشِرٍ فَرح يرى السَّعَادَة فِيمَا نَالَ واعتقدا)
وَقَوله: ﴿وَرَحْمَة رَبك خير مِمَّا يجمعُونَ﴾ أَي: النُّبُوَّة خير مِمَّا يجمعُونَ من الدُّنْيَا، وَقيل: الْآخِرَة خير من الدُّنْيَا. وَقُرِئَ: " تجمعون " بِالتَّاءِ، وَالْأول أشهر.
100
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة﴾ مَعْنَاهُ: وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس كلهم كفَّارًا. وَقيل: لَوْلَا أَن الدُّنْيَا تميل بِالنَّاسِ عَن الدّين، لَو فعلنَا هَذَا بالكفار لفعلنَا
100
﴿لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون (٣٣) ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا يتكئون (٣٤) وزخرفا وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ هَذَا لهوان الدُّنْيَا عندنَا.
وَقَوله: ﴿لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة﴾ وَقُرِئَ: " سقفا " بِفَتْح السِّين يَعْنِي: جعلنَا جدرها فضَّة.
وَقَوله: ﴿ومعارج عَلَيْهَا يظهرون﴾ أَي: جعلنَا لَهُم مراقي من فضَّة يظهرون عَلَيْهَا على السّقف. وَمَعْنَاهُ: يظهرون يصعدون ويعلون. وَفِي الْأَخْبَار: أَن نَابِغَة بن جعدة أنْشد للنَّبِي:
(بلغت السَّمَاء عفة وتكرما وَإِنَّا لنَرْجُو فَوق ذَلِك مظْهرا)
أَي: معلا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " إِلَى أَيْن يَا أَبَا ليلى؟ " قَالَ: إِلَى لجنة. قَالَ: " أجل إِن شَاءَ الله ".
101
وَقَوله: ﴿ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا يتكئون﴾ أَي: جعلنَا ذَلِك لَهُم من فضَّة.
وَقَوله: ﴿وزخرفا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وذهبا أَي: (جعلنَا) جَمِيع ذَلِك من ذهب. فَإِن قَالَ قَائِل لم أنتصب؟ قُلْنَا: لِأَن الْمَعْنى من فضَّة وَمن ذهب، فنزعت " من " فانتصب. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وذهبا " وَهَذَا يبين صِحَة هَذَا القَوْل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وزخرفا﴾ أَي: غنى. وَعَن الْحسن قَالَ: الزخرف هِيَ النقوش. وَقيل: كل مَا هُوَ زِينَة فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: تكون مُدَّة ويفنى سَرِيعا.
101
﴿عِنْد رَبك لِلْمُتقين (٣٥) وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين (٣٦) وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون (٣٧) ﴾
وَقَوله: ﴿وَالْآخِرَة عِنْد رَبك لِلْمُتقين﴾ أَي: لِلْمُتقين من الشّرك والمعاصي.
102
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن﴾ قَالَ قَتَادَة: يعرض. وَمِنْه قَوْلهم: فلَان يعشو أَي: يمشي ببصر ضَعِيف. [يُقَال] : عشا يعشو إِذا ضعف بَصَره، وعشى يعشي إِذا عمى بَصَره، وَمِنْه الْأَعْشَى. وَفِي الحَدِيث أَن سعيد بن الْمسيب ذهبت إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَجعل يعشو بِالْأُخْرَى أَي: يبصر بصرا ضَعِيفا. وَقُرِئَ: " يَعش " بِنصب الشين أَي: يعمى. وَيُقَال فِي معنى قَوْله: ﴿يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن﴾ أَي: يذهب عَن ذكره؛ فيسير فِي ظلمَة وخبط عَن جَهَالَة.
وَقَوله: ﴿نقيض لَهُ شَيْطَانا﴾ أَي: نوكل بِهِ شَيْطَانا. وَيُقَال: نلقيه شَيْطَانا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْكَافِر إِذا خرج من الْقَبْر لقِيه شَيْطَان، فَأدْخل يَده فِي يَده، وَلَا يزَال مَعَه حَتَّى يصير إِلَى النَّار، وَالْمُؤمن إِذا خرج من قَبره يلقاه ملك، فَيدْخل يَده فِي يَده، فَلَا يزَال مَعَه حَتَّى يصير إِلَى الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿فَهُوَ لَهُ قرين﴾ أَي: مُقَارن. وَيُقَال: يجعلان فِي سلسلة وَاحِدَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل﴾ أَي: الشَّيَاطِين يصدونهم عَن طَرِيق الْحق.
وَقَوله: ﴿وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون﴾ أَي: الْكفَّار يحسبون أَنهم مهتدون بإرشاد الشَّيَاطِين.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " عَلَيْكُم بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَالِاسْتِغْفَار، فَأَكْثرُوا مِنْهَا فَإِن إِبْلِيس قَالَ: أهلكت بني آدم بِالذنُوبِ،
102
﴿حَتَّى إِذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين (٣٨) وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذا ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون (٣٩) ﴾ وأهلكوني بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَالِاسْتِغْفَار، فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك أهلكتهم بالأهواء، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي: ﴿وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون﴾ ".
103
قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا جَاءَنَا﴾ وَقُرِئَ: " جاءانا "، فَقَوله: " جَاءَنَا " هُوَ الْكَافِر وَحده، وَقَوله: " جاءانا " هُوَ الْكَافِر وقرينه الشَّيْطَان.
وَقَوله: ﴿قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: بعد الْمشرق من الْمغرب، وسماها مشرقين على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يذكرُونَ [شَيْئَيْنِ] مُخْتَلفين ويسمونهما باسم وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
(أَخذنَا بآفاق السَّمَاء عَلَيْكُم لنا قمراها والنجوم الطوالع)
أَي الشَّمْس وَالْقَمَر.
وَقَالَ آخر:
(وبصرة الأزد لنا وَالْعراق والموصلان وَمنا مصر وَالْحرم)
وَأَرَادَ بالموصلين الْموصل والجزيرة.
وروى أَن أهل الْبَصْرَة قَالُوا لعَلي رَضِي الله عَنهُ حِين حَارَبُوهُ مَعَ عَائِشَة يَوْم الْجمل: إِنَّا نطلب مِنْك سنة العمرين يَعْنِي: أَبَا بكر وَعمر، وَقَالَ جرير:
(مَا كَانَ يرضى رَسُول الله فعلهم والعمران أَبُو بكر وَلَا عمر)
وَالْقَوْل الثَّانِي: بعد المشرقين أَي: مشرق الشتَاء ومشرق الصَّيف.
وَقَوله: ﴿فبئس القرين﴾ أَي: بئس الْمُقَارن أَنْت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذْ ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون﴾ أَي: لن يسهل عَلَيْكُم عذابكم رؤيتكم غَيْركُمْ مشاركين لكم فِي الْعَذَاب، فَكَأَن الله
103
﴿أفأنت تسمع الصم أَو تهدي الْعمي وَمن كَانَ فِي ضلال مُبين (٤٠) فإمَّا نذهبن بك فَإنَّا مِنْهُم منتقمون (٤١) أَو نرينك الَّذِي وعدناهم فَإنَّا عَلَيْهِم مقتدرون (٤٢) فَاسْتَمْسك﴾ تَعَالَى مَنعهم التأسي بِمَا يسهل على الْإِنْسَان الْمُصِيبَة والعقوبة، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ فِي مُصِيبَة فَرَأى غَيره فِي مثلهَا سهل عَلَيْهِ. والتأسي [التسلي]. قَالَت الخنساء فِي أَخِيهَا صَخْر:
104
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أفأنت تسمع الصم أَو تهدي الْعمي وَمن كَانَ فِي ضلال مُبين﴾ أَي: لَا تسمع وَلَا تهدي.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فإمَّا نذهبن بك فَإنَّا مِنْهُم منتقمون﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: فَإِنَّمَا نخرجنك من مَكَّة، فَإنَّا منتقمون مِنْهُم يَوْم بدر بِالْقَتْلِ والأسر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: ﴿فإمَّا نذهبن بك﴾ يَعْنِي: بالوفاة، فَإنَّا منتقمون مِنْهُم بعْدك، وَيُقَال: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو نرينك الَّذِي وعدناهم﴾ قَالَ السدى: هَذَا فِي الْمُشْركين. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: هَذَا فِي أمته. " وروى أَن النَّبِي أرى فِي أمته بعض مَا يصيرون إِلَيْهِ، فَمَا رُؤِيَ ضَاحِكا نشيطا بعد ذَلِك إِلَى أَن فَارق الدُّنْيَا ".
وَفِي بعض التفاسير: أَنه مَا من نَبِي إِلَّا وأري النقمَة فِي أمته إِلَّا نَبينَا، فَإِن الله تَعَالَى لم يره النقمَة فِي أمته، وَقد كَانَ فِي أمته من النقمات، وَيكون إِلَى قيام السَّاعَة.
وَقَوله: ﴿فَإنَّا عَلَيْهِم مقتدرون﴾ أَي: قادرون.
104
﴿بِالَّذِي أُوحِي إِلَيْك إِنَّك على صِرَاط مُسْتَقِيم (٤٣) وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك وسوف تسْأَلُون (٤٤) واسأل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة﴾
105
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاسْتَمْسك بِالَّذِي أوحى إِلَيْك﴾ أَي: بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: ﴿إِنَّك على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: طَرِيق وَاضح.
وَقَوله: ﴿وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك﴾ أَي: الْقُرْآن شرف لَك ولقومك.
وَقَوله: ﴿وسوف تسْأَلُون﴾ أَي: تسْأَلُون عَن شكر هَذِه النِّعْمَة. وَعَن قَتَادَة أَو غَيره فِي هَذِه الْآيَة قَالَ: يُقَال للرجل: مِمَّن أَنْت؟ فَيَقُول: من الْعَرَب. فَيُقَال لَهُ: من أَي الْعَرَب؟ فَيَقُول: من قُرَيْش، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك﴾ وروى بَعضهم عَن مَالك بن أنس قَالَ: ﴿وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك﴾ هُوَ قَول الْقَائِل: حَدثنِي أبي عَن جدي، وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول، وَمعنى شرف قُرَيْش: أَن الْقُرْآن نزل بلغتهم، وَالرَّسُول كَانَ مِنْهُم.
﴿ [واسأل من أرسلنَا من قبلك] من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ﴾ الْمَعْرُوف من القَوْل فِي هَذِه الْآيَة أَن مَعْنَاهُ: واسأل أُمَم من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي مَعْنَاهُ: وسل تبَاع من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا. وَقَالَ بَعضهم: واسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب مِمَّن أرسلنَا إِلَيْهِم رسلًا من قبلك. وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: " واسال الَّذين أرسلنَا إِلَيْهِم رسلًا من قبلك هَل جعلنَا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ " وَهِي تَفْسِير الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: مَا رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى جمع الْمُرْسلين لَيْلَة الْإِسْرَاء فِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس ثمَّ إِن جِبْرِيل أذن، ثمَّ أَقَامَ، ثمَّ قَالَ للنَّبِي: تقدم وصل بهم، فَلَمَّا فرغ من صلَاته، قَالَ لَهُ: " وسل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا
105
﴿يعْبدُونَ (٤٥) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فَقَالَ إِنِّي رَسُول رب الْعَالمين (٤٦) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذا هم مِنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) وَمَا نريهم من آيَة إِلَّا هِيَ أكبر﴾ وَزعم بَعضهم أَنه سَأَلَهُمْ فَأَجَابُوا وَقَالُوا: مَا أمرنَا الله تَعَالَى إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاص. وَفِي بعض التفاسير: أَن مِيكَائِيل قَالَ لجبريل: هَل سَأَلَ مُحَمَّد الرُّسُل عَمَّا أَمر بِهِ؟ فَقَالَ: لَا، كَانَ أَشد يَقِينا وَأعلم بِاللَّه من أَن يسال عَن ذَلِك. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه السُّؤَال وَالْجَوَاب فِي هَذِه المسالة؟ وَالسُّؤَال عَن هَذَا إِنَّمَا يكون من شَاك فِي الْأَمر أما من مستقين فَلَا، وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ تَقْرِير الرَّسُول على مَا يَعْتَقِدهُ وتوبيخ الْكفَّار وتوقيفهم أَن الْأَمر على مَا يَقُول الرَّسُول. وَقَالَ بَعضهم: الْخطاب للرسول وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة، وَيُقَال: [إِن] الْخطاب للْمُشْرِكين كَأَنَّهُ أَمرهم أَن يسْأَلُوا مؤمني أهل الْكتاب، هَل أَمر الله بِمَا يزعمونه فِي كتاب من كتبهمْ، وَهُوَ عبَادَة الْأَصْنَام وتعظيمها؟ وَقد كَانُوا يرجعُونَ إِلَى قَول أهل الْكتاب فِي بعض الْأَشْيَاء، ويعتمدون عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
106
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فَقَالَ إِنِّي رَسُول رب الْعَالمين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا﴾ أَي: بالمعجزات والدلالات.
وَقَوله: ﴿إِذا هم مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ يَعْنِي: ضحك الْمُسْتَهْزِئِينَ المكذبين، وَالْمرَاد من الْآيَة تعجيب الرَّسُول من ضحكهم وتكذيبهم مَعَ وُرُود الْآيَات الظَّاهِرَة مَعَ مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا نريهم من آيَة إِلَّا هِيَ أكبر من أُخْتهَا﴾ أَي: أعظم من الْآيَة الْمُتَقَدّمَة. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْآيَة الأولى من آيَات مُوسَى أَن فِرْعَوْن كَانَ قد جعل على قصره سبع حَوَائِط، بَين كل حائطين سباغ وغياض، والأبواب على الْحِيطَان كَانَت تقفل وَلَا تفتح إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فَلَمَّا حضر مُوسَى بَاب فِرْعَوْن، انفتحت لَهُ الْأَبْوَاب،
106
﴿من أُخْتهَا وأخذناهم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُم يرجعُونَ (٤٨) وَقَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر ادْع لنا رَبك﴾ وانكسرت الأقفال، وسجدت لَهُ السبَاع حَتَّى وصل إِلَى قصر فِرْعَوْن، فَهَذِهِ الْآيَة الأولى، ثمَّ إِنَّه لما أحضر فِرْعَوْن السَّحَرَة وألقوا الْعَصَا والحبال، وَهِي شبه الْحَيَّات الْكِبَار فِي أعين النَّاس ثمَّ ألْقى مُوسَى الْعَصَا الَّتِي كَانَت مَعَه، وتلقفت جَمِيع الحبال والعصي على مَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي الْقِصَّة، فَهَذِهِ الْآيَة أعظم من الأولى. وَزعم بَعضهم أَن الْآيَات كلهَا سَوَاء فِي الإعجاز وَالدّلَالَة، إِلَّا أَنه سمى الْآيَة الْحَاضِرَة أكبر من الذاهبة لحضور هَذِه الْآيَة وَذَهَاب تِلْكَ. وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول فِي عِلّة تصيبه: مَا مرت بِي عِلّة مثل هَذِه الْعلَّة، وَإِن كَانَ قد مرت عَلَيْهِ علل هِيَ أكبر مِنْهَا أَو مثلهَا، وَلكنه يَقُول هَذَا القَوْل (لحضور) هَذِه الْعلَّة وَذَهَاب تِلْكَ الْعلَّة. وَمِنْهُم من قَالَ: المُرَاد من الْآيَات قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم﴾ وَمَا من آيَة أظهرها بعد آيَة إِلَّا وَهِي أكبر من الأولى، وَمَا ذَكرْنَاهُ من القَوْل الأول هُوَ الْأَحْسَن فِي الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وأخذناهم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُم يرجعُونَ﴾ أَي: إِلَى الله تَعَالَى.
107
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك إننا لَمُهْتَدُونَ﴾ فَإِن قيل: كَيفَ قَالُوا: يَا أَيهَا السَّاحر ثمَّ قَالُوا: إننا لَمُهْتَدُونَ بك [وَلَا يَهْتَدِي أحد] بالساحر؟ وَالْجَوَاب: أَن السَّاحر عِنْدهم هُوَ الْعَالم، وَمعنى قَوْله ﴿يَا أَيهَا السَّاحر﴾ أَي: يَا أَيهَا الْعَالم، وَهَذَا قَول الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَقَالَ الزّجاج: قَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر على مَا (كَانُوا) من قَوْلهم لَهُ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء والسخرية وَلم يَكُونُوا اعتقدوا أَن يُؤمنُوا بِهِ.
وَقَوله: ﴿بِمَا عهد عنْدك﴾ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَن مُوسَى قَالَ لَهُم: إِن آمنتم كشف الله عَنْكُم هَذِه الْعقُوبَة، وَهَذَا مَذْكُور فِي سُورَة الْأَعْرَاف على مَا سبق.
107
﴿بِمَا عهد عنْدك إننا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب إِذْ هم ينكثون (٥٠) ونادى فِرْعَوْن فى قومه قَالَ يَا قوم أَلَيْسَ لي ملك مصر وَهَذِه الْأَنْهَار تجْرِي من تحتي﴾
108
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب إِذْ هم ينكثون﴾ أَي: ينقضون الْعَهْد، وَلَا يَقُولُونَ بقَوْلهمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ونادى فِرْعَوْن فِي قومه قَالَ يَا قوم أَلَيْسَ لي ملك مصر﴾ قَالَ بَعضهم: كَانَ ملكه أَرْبَعِينَ فرسخا فِي أَرْبَعِينَ. وَقَالَ بَعضهم: مسيرَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَقَوله: ﴿وَهَذِه الْأَنْهَار تجْرِي من تحتي﴾ أَي: من تَحت قصري، وَقَالَ قَتَادَة: بَين يَدي. وَفِي تفسيرالنقاش: أَنه كَانَ فِي زمَان فِرْعَوْن خَمْسَة أَنهَار بِمصْر اندرست من بعد، وَلم يبْق مِنْهَا شَيْء. وَفِي هَذَا التَّفْسِير أَيْضا: أَنه كَانَ بِمصْر سبع خلج الَّتِي وَاحِدهَا خليج، واندرست من بعد، وَكَانَ فِرْعَوْن يركب من فَيوم إِلَى دمياط والإسكندرية فَلَا يسير إِلَّا تَحت الْأَشْجَار ملتفة وأنهار جَارِيَة.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت لَيْلَة الْمِعْرَاج سِدْرَة الْمُنْتَهى وَإِذا يخرج من أَصْلهَا أَرْبَعَة أَنهَار: نهران باطنان، ونهران ظاهران قَالَ: فَسَأَلت جِبْرِيل عَن الْأَنْهَار فَقَالَ: أما الباطنان فَفِي الْجنَّة، وَأما الظاهران فالنيل والفرات ".
وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى يغذي النّيل بِجَمِيعِ الْأَنْهَار من بَين الْمشرق وَالْمغْرب، وَذَلِكَ عِنْد زِيَادَته إِلَى أَن تَنْتَهِي الزِّيَادَة مُنْتَهَاهَا، ثمَّ يرجع إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿أَفلا تبصرون﴾ يَعْنِي: أَفلا ترَوْنَ. وَفِي بعض التفاسير: أَن معنى الْأَنْهَار فِي هَذِه الْآيَة هِيَ الْأَمْوَال، وسماها أَنهَار لكثرتها وظهورها.
وَقَوله: ﴿تجْرِي من تحتي﴾ أَي: أفرقها على من شِئْت. قَالُوا: وَإِظْهَار التَّرْغِيب
108
﴿أَفلا تبصرون (٥١) أم أَنا خير من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين وَلَا يكَاد يبين (٥٢) فلولا ألقِي عَلَيْهِ أسورة من ذهب أَو جَاءَ مَعَه الْمَلَائِكَة مقترين (٥٣) ﴾ وَالْقُدْرَة فِي هَذَا أكبر مِنْهُ فِي الْأَنْهَار، ذكره الْمَاوَرْدِيّ أَبُو الْحسن القَاضِي.
109
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم أَنا خير من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين﴾ قَالَ بَعضهم قَوْله: ﴿أم﴾ مُتَّصِل بِمَا قبله، وَمَعْنَاهُ: أَفلا تبصرون أم تبصرون. وَقيل: أم أَنْتُم بصراء وَتمّ الْكَلَام على هَذَا، ثمَّ ابْتِدَاء قَوْله: ﴿أَنا خير﴾ وَهَذَا محكي عَن الْخَلِيل وسيبويه، وَقَالَ بَعضهم: " أم " صلَة زَائِدَة، وَالْكَلَام فِي قَوْله: ﴿أَنا خير من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين﴾ وَفِي بعض الْقرَاءَات: (أَنا خير) على التفخميم.
وَقَوله: ﴿من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين﴾ أَي: ضَعِيف حقير.
وَقَوله: ﴿وَلَا يكَاد يبين﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا قَالَ هَذَا للثغة الَّتِي كَانَت فِي لِسَانه، وَذَلِكَ بِمَا كَانَ بَقِي فِي لِسَانه من الْعقْدَة بإلقائه الْجَمْرَة فِي فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه كَانَ بِلِسَانِهِ لَا يُمكنهُ تَبْيِين الْكَلَام غَايَة الْبَيَان، وأنشدوا فِيمَا ذكرنَا من قَوْله: ﴿أم﴾ قَول الشَّاعِر:
(وَلَوْلَا كَثْرَة الباكين حَولي على إخْوَانهمْ لقتلت نَفسِي)
(وَمَا يَبْكُونَ مثل أخي وَلَكِن أعزي النَّفس [عَنهُ] بالتأسي)
(فيا ظَبْيَة الوغا بَين خلاخل وَبَين النقا أَنْت أم سَالم)
مَعْنَاهُ: أَنْت أحسن أم سَالم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فلولا ألقِي عَلَيْهِ أساورة من ذهب﴾ وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أساور من ذهب " وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا إِذا سوروا [رجلا] سوروه بِسوار من ذهب فِي يَده، وطوقوه بطوق من ذهب فِي عُنُقه. وَالْمرَاد من الْآيَة أَنهم قَالُوا: وَلَو كَانَ مُوسَى نَبيا فَهَلا سوره الله سوارا، أَو طوقه بطوق، أَو بعث مَعَه لملائكة أعوانا لَهُ على أمره، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿أَو جَاءَ مَعَه الْمَلَائِكَة مقترنين﴾ أَي: مُتَتَابعين يتب بَعضهم بَعْضًا.
109
﴿فاستخف قومه فأطاوه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (٥٤) فَلَمَّا آسفونا انتقمنت مِنْهُم فأغرقناهم أَجْمَعِينَ (٥٥) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (٥٦) وَلما ضرب ابْن مَرْيَم﴾
110
وَقَوله: ﴿فاستخف قومه فأطاعوه﴾ أَي: حركهم بدعائه إيَّاهُم (إِلَى) باطله، فخفوا مَعَه وأجابوه، وَيُقَال: استفزهم، فأطاعوه بجهلهم.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين﴾ أَي: خَارِجين عَن الطَّاعَة. وَيُقَال: استخف قومه أَي: حملهمْ على خفَّة الْجَهْل، وَمَعَ الْعقل الْوَقار، وَمَعَ الْجَهْل الخفة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا آسفونا﴾ أَي: أغضبونا وأسخطونا. فَإِن قيل: الأسف إِنَّمَا يكون على شَيْء فَائت، وَالله تَعَالَى لَا يفوتهُ شَيْء؟
وَالْجَوَاب [عَنهُ] : أَن مَعْنَاهُ الْغَضَب كَمَا بَينا، وَقَالَ بَعضهم: آسفونا أَي: فعلوا فعلا لَو فَعَلُوهُ مَعَ مَخْلُوق لَكَانَ متأسفا حَزينًا. وَفِي بعض الْآثَار: أَن عُرْوَة بن الزبير كَانَ جَالِسا مَعَ وهب بن مُنَبّه، فجَاء قوم فشكوا عاملهم، وَكَانَ الْعَامِل حَاضرا، فَغَضب وهب بن مُنَبّه وَأخذ عَصا وشج رَأس الْعَامِل، فَضَحِك عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا ينْهَى عَن الْغَضَب ويغضب؟ فَقَالَ وهب: لَا، لَا تلمني، فَإِن الله تَعَالَى يغْضب وَهُوَ خَالق الأحلام، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم﴾ وَمعنى قَوْله: ﴿انتقمنا مِنْهُم﴾ أَي: بالإغراق والإهلاك، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿فأغرقناهم أَجْمَعِينَ فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين﴾ أَي: سلفا للكبار وَمن بعدهمْ، ومثلا لمن فعل مثل فعلهم. وَمعنى " مثلا " أَي: عظة وعبرة. وَقُرِئَ " سلفا " وَهُوَ جمع سليف، وَقُرِئَ: " سلفا " وَالْمعْنَى فِي الْكل وَاحِد. وَعَن زيد بن أسلم قَالَ: مَا من أحد إِلَّا وَله سلف فِي الخيروالشر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٥:قوله تعالى :( فلما آسفونا ) أي : أغضبونا وأسخطونا. فإن قيل : الأسف إنما يكون على شيء فائت، والله تعالى لا يفوته شيء ؟
والجواب [ عنه ]٣ : أن معناه الغضب كما بينا، وقال بعضهم : آسفونا أي : فعلوا فعلا لو فعلوه مع مخلوق لكان متأسفا حزينا. وفي بعض الآثار : أن عروة بن الزبير كان جالسا مع وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وكان العامل حاضرا، فغضب وهب بن منبه وأخذ عصا٤ وشج رأس العامل، فضحك عروة بن الزبير فقال : انظروا إلى هذا ينهى عن الغضب ويغضب ؟ فقال وهب : لا، لا تلمني، فإن الله تعالى يغضب وهو خالق الأحلام، ثم قرأ قوله تعالى :( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) ومعنى قوله :( انتقمنا منهم ) أي : بالإغراق والإهلاك، وهو معنى قوله :( فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) أي : سلفا للكبار ومن بعدهم، ومثلا لمن فعل مثل فعلهم. ومعنى " مثلا " أي : عظة وعبرة. وقرئ " سلفا " وهو جمع سليف، وقرئ :" سلفا " ٥ والمعنى في الكل واحد. وعن زيد بن أسلم قال : ما من أحد إلا وله سلف في الخيروالشر.

قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي مخاصمة عبد الله بن الزبعري رَسُول الله فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا
110
﴿مثلا إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون (٥٧) وَقَالُوا أآلهتنا خير أم هُوَ مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل﴾ تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم)، فَإِنَّهُ لما نزل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿أَنْتُم لَهُ وَارِدُونَ﴾ وَقرأَهَا رَسُول الله على كفار قُرَيْش، قَالَ عبد الله بن الزبعري: هَذَا لنا ولآلهتنا خَاصَّة أم لنا وَلِجَمِيعِ الْأُمَم وآلهتهم؟. فَقَالَ: بل لكم ولآلهتكم وَلِجَمِيعِ الْأُمَم وآلهتهم، فَقَالَ ابْن الزعبري: خصمتك وَرب الْكَعْبَة، ثمَّ ذكر مَا أوردنا من قبل فِي حق عِيسَى وعزيز وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام، فعلى هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا﴾ مَعْنَاهُ: لما جعلُوا ابْن مَرْيَم مثلا لآلهتهم، وَقَالُوا: إِذا كَانَ ابْن مَرْيَم فِي النَّار فرضينا أَن نَكُون نَحن وَآلِهَتنَا فِي النَّار ".
وَقَوله: ﴿إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون﴾ بِكَسْر الصَّاد أَي: يضجون ضجاج المجادلين، وَيُقَال: يصدون أَي: يَضْحَكُونَ ويفرحون بقول ابْن الزبعري. وَقُرِئَ " " يصدون " بِضَم الصَّاد، وَمَعْنَاهُ: يعرضون، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن النَّبِي لما ذكر حَدِيث [عِيسَى] لقريش، وَأَنه خلقه الله تَعَالَى من غير أَب كَمَا خلق آدم من غير أَب، وَذكر مَا أظهر الله على يَده من الْآيَات جعلت قُرَيْش يَضْحَكُونَ، وقاوا مَا يُرِيد مُحَمَّد من ذكر عِيسَى إِلَّا أَن نعبده كَمَا عبدت النَّصَارَى عِيسَى، وَهَذَا قَول مُجَاهِد.
111
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا أآلهتنا خير أم هُوَ﴾ على القَوْل الأول مَعْنَاهُ: أآلهتنا خير أم عِيسَى؟ بل عِيسَى خير من آلِهَتنَا، فَإِذا كَانَ عِيسَى فِي النَّار فلتكن آلِهَتنَا فِي النَّار. وعَلى القَوْل الثَّانِي: أآلهتنا خير أم هُوَ؟ يَعْنِي: مُحَمَّدًا، فَإِذا كَانَ مُحَمَّد يطْلب أَن نعبده فَنحْن نعْبد آلِهَتنَا. وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " أآلهتنا خير أم هَذَا "؟ وَهَذَا يُؤَيّد القَوْل الثَّانِي.
وَقَوله: ﴿مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا﴾ يَعْنِي: مَا قَالُوا هَذَا القَوْل إِلَّا مجادلة بِالْبَاطِلِ؛
111
﴿هم قوم خصمون (٥٨) إِن هُوَ إِلَّا عبد أنعمنا عَلَيْهِ وجعلناه مثلا لبني إِسْرَائِيل (٥٩) وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون (٦٠) وَإنَّهُ لعلم للساعة فَلَا تمترن﴾ لأَنهم علمُوا أَن ابْن مَرْيَم لَا يدْخل النَّار وَعَلمُوا أَنه غير دَاخل فِي الْآيَة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ﴾ و " مَا " لمن لَا يعقل، لَا لمن يعقل.
وَقَوله: ﴿بل هم قوم خصمون﴾ أَي: مخاصمون بِغَيْر الْحق، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون﴾. وَالْمرَاد بِالْآيَةِ المجادلة بِالْبَاطِلِ لَا المجادلة فِي طلب الْحق أَو لبَيَان الْحق؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾.
112
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هُوَ إِلَّا عبد﴾ يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا عِيسَى ابْن مَرْيَم إِلَّا عبد ﴿أنعمنا عَلَيْهِ﴾ أَي: بِالنُّبُوَّةِ والآيات.
وَقَوله: ﴿وجعلناه مثلا﴾ أَي: عظة وعبرة لبني إِسْرَائِيل، وَيُقَال: جَعَلْنَاهُ مثلا لَهُم أَي: بشرا مثلهم.
وَقَوله: ﴿وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم﴾ أَي: بَدَلا مِنْكُم ﴿مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون﴾ أَي: تخلفكم، وَيُقَال: يخلف بَعْضكُم بَعْضًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإنَّهُ لعلم للساعة﴾ مَعْنَاهُ. أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام شَرط من
112
﴿بهَا واتبعون هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (٦١) وَلَا يصدنكم الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (٦٢) وَلما جَاءَ عِيسَى بلبينات قَالَ قد جِئتُكُمْ بالحكمة ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ﴾ أَشْرَاط السَّاعَة، فَيعلم بنزوله علم السَّاعَة، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لينزلن ابْن مَرْيَم حكما مقسطا يكسر الصَّلِيب، وَيقتل الْخِنْزِير ". الْخَبَر.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه " ينزل على ثنية فَوق جبل من جبال بَيت الْمُقَدّس وليه ممصرتان وَبِيَدِهِ حَرْبَة يقتل بهَا الدَّجَّال "، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: ﴿وَإنَّهُ لعلم للساعة﴾ أَي: آيَة من آيَات حُضُورهَا.
قَالَ الفرزدق يمدح عَليّ بن الْحُسَيْن:
(هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته والركن يعرفهُ والحل وَالْحرم)
(هَذَا ابْن خير عباد الله كلهم هَذَا التقي النقي الطَّاهِر الْعلم)
وَقَوله: ﴿فَلَا تمترن بهَا واتبعون هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: لَا تشكن فِيهَا أَي: الْقِيَامَة، وَالْبَاقِي ظَاهر الْمَعْنى.
113
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا يصدنكم الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: من عداوته أَنه أخرج أَبَاكُم من الْجنَّة، وَنزع عَنْهُم لِبَاس النُّور.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قد جِئتُكُمْ بالحكمة ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل الَّذِي تختلفون فِيهِ. وَقَالَ غَيره من أهل اللُّغَة: لَا يَصح الْبَعْض بِمَعْنى الْكل، وَمعنى الْآيَة: ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ فِي الْإِنْجِيل، وَبَعض الَّذِي تختلفون فِيهِ فِي غير الْإِنْجِيل. وَيُقَال مَعْنَاهُ: ولأبين لكم مَا اختلفتم فِيهِ من أَمر دينكُمْ لَا من أَمر دنياكم، فَهُوَ بعض مَا اختلفتم فِيهِ، وَالله أعلم.
113
﴿فَاتَّقُوا الله وأطيعون (٦٣) إِن الله هُوَ رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (٦٤) فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم فويل للَّذين ظلمُوا من عَذَاب يَوْم أَلِيم (٦٥) هَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (٦٦) الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا﴾
وَقَوله: ﴿فَاتَّقُوا الله وأطيعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
114
وَقَوله: ﴿إِن الله هُوَ رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم﴾ هَؤُلَاءِ هم الَّذين اخْتلفُوا فِي عِيسَى بعد رَفعه إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة.
وَقَوله: ﴿فويل للَّذين ظلمُوا من عَذَاب يَوْم أَلِيم﴾ أَي: موجع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة، وَقَوله: ﴿وهم لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ بمجيئها، قَالَ أهل الْعلم: وَقد أخْفى الله تَعَالَى أَمر السَّاعَة وزمان قِيَامهَا ليَكُون أبلغ فِي الْإِنْذَار والتخويف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو﴾ فِي التَّفْسِير: أَنهم أُميَّة بن خلف، وَعقبَة بن أبي معيط، والوليد بن الْمُغيرَة، وَالْعَاص بن وَائِل، وَأَبُو جهل بن هِشَام، وَالنضْر بن الْحَارِث، وَحَفْص بن الْمُغيرَة، وَعتبَة بن ربيعَة. وَذكر النقاش: أَن عقبَة بن أبي معيط كَانَ صديقا لأمية بن خلف، وَكَانَ غقبة يَأْتِي النَّبِي وَيجْلس عِنْده وَيسمع كَلَامه، فَقَالَ لَهُ أُميَّة بن خلف: لقد صبوت يَا عقبَة، فَقَالَ: وَالله مَا صبوت. فَقَالَ: وَجْهي من وَجهك حرَام إِن لم تَتْفُل فِي وَجه مُحَمَّد، فَفعل عقبَة ذَلِك، فَقَالَ لَهُ الرَّسُول: " لَئِن قدرت عَلَيْك خَارج الْحرم لأريقن دمك، فَضَحِك عقبَة، وَقَالَ: يَا ابْن أبي كَبْشَة، وَمن أَيْن تقدر عَليّ خَارج الْحرم؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر وَأسر عقبَة أَمر النَّبِي عليا فِي بعض الطَّرِيق أَن يضْرب عُنُقه، فَقَالَ: يَا معشر قُرَيْش، مَالِي أقتل من بَيْنكُم. فَقَالَ النَّبِي: بتكذيبك الله وتكذيبك رَسُوله. فَقَالَ: وَمن للمصبية؟ فَقَالَ: النَّار ".
114
﴿الْمُتَّقِينَ (٦٧) يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلمين (٦٩) ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون (٧٠) يُطَاف عَلَيْهِم﴾ وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي، وَقيل: هُوَ عَن عَليّ، قَالَ: " الأخلاء أَرْبَعَة: مُؤْمِنَانِ، وَكَافِرَانِ، فيتقدم أحد الْمُؤمنِينَ فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي فلَان؟ يَعْنِي: خَلِيله فَيَقُول: لقد عَرفته آمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر، اللَّهُمَّ بشره كَمَا بشرتني، وَارْضَ عَنهُ كَمَا رضيت عني، ويتقدم أحد الْكَافرين فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي فلَان؟ يَعْنِي: خَلِيله، فَيَقُول: عَرفته آمرا بالمنكر ناهيا عَن الْمَعْرُوف، اللَّهُمَّ أدخلهُ النَّار كَمَا أدخلتني، واخزه كمت أخزيتني "؟
وَفِي التَّفْسِير: أَن كل أخوة تكون فِي الدُّنْيَا عَن مَعْصِيّة تصير عَدَاوَة يَوْم الْقِيَامَة، وكل أخوة تكون عَن دين تبقى يَوْم الْقِيَامَة.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَ لي ابْن عَبَّاس: أحب لله وَأبْغض لله، ووال فِي الله، وَعَاد فِي الله، فَإِنَّهُ لَا ينَال مَا عِنْد الله إِلَّا بِهَذَا.
وَقَوله: ﴿إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ فَقَالَ: إِن هَذَا فِي أَصْحَاب النَّبِي حِين آخى رَسُول الله بَينهم قَالَ: رَسُول الله وعَلى أَخَوان، وَأَبُو بكر وَعمر أَخَوان، وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر أَخَوان، وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَخَوان، إِلَى غير هَذَا.
115
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم﴾ وروى أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: ﴿يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ﴾ فيرفع جَمِيع الْخَلَائق رُءُوسهم،
فَيَقُول: ﴿الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا﴾ فيرفع جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى رُءُوسهم فَيَقُول: ﴿وَكَانُوا مُسلمين﴾ فينكس جَمِيع الْخلق رُءُوسهم سوى الْمُسلمين. وَذكر بَعضهم قَوْله: ﴿الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلمين﴾ مرّة وَاحِدَة فِي النداء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون﴾ أَي: تنعمون، وَقيل:
115
﴿بصحاف من ذهب وأكواب وفيهَا مَا تشتهه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ (٧١) وَتلك الْجنَّة الَّتِي أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٧٢) لكم فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة مِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٣) إِن الْمُجْرمين فِي عَذَاب حهنم خَالدُونَ (٧٤) لَا يفتر عَنْهُم وهم فِيهِ﴾ تكرمون. والحبورة فِي اللُّغَة هِيَ السرُور والفرح. يُقَال: مَا من حبرَة إِلَّا وَبعدهَا عِبْرَة، وَعَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: تحبرون هُوَ السماع فِي الْجنَّة.
116
قَوْله تَعَالَى: ﴿يُطَاف عَلَيْهِم بصحاف من ذهب﴾ الصحاف: القصاع، وَاحِدهَا [صَحْفَة]. وَفِي التَّفْسِير: سَبْعُونَ ألف [صَحْفَة] فِيهَا ألوان الْأَطْعِمَة.
وَقَوله: ﴿وأكواب﴾ الأكواب وَاحِدهَا كوب، وَهُوَ إِنَاء مستدير لَيْسَ لَهُ عُرْوَة وَلَا خرطوم.
وَقَوله: ﴿وفيهَا مَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين﴾ أَي: تشتهيه الْأَنْفس، وَقد قرئَ هَكَذَا فِي بعض الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة.
وَقَوله: ﴿وتلذ الْأَعْين﴾ إِنَّمَا نسب اللَّذَّة إِلَى الْأَعْين؛ لِأَن المناظر الْحَسَنَة تلذ النُّفُوس، فنسب اللَّذَّة إِلَى الْأَعْين؛ لِأَن نسبتها كَانَت إِلَيْهَا أليق.
وَقَوله: ﴿وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون لَا يخرجُون أبدا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَتلك الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا من أحد إِلَّا وَله منزل فِي الْجنَّة ومنزل فِي النَّار، فيرث الْمُؤمن منزل الْكَافِر فِي الْجنَّة، وَيَرِث الْكَافِر منزل الْمُؤمن فِي النَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لكم فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة مِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الْمُجْرمين فِي عَذَاب جَهَنَّم خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون.
وَقَوله: ﴿لَا يفتر عَنْهُم﴾ أَي: لَا يُخَفف عَنْهُم.
116
﴿مبلسون (٧٥) وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين (٧٦) وَنَادَوْا يَا مَالك ليَقْضِ علينا رَبك قَالَ إِنَّكُم مَاكِثُونَ (٧٧) لقد جئناكم بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَكُم للحق كَارِهُون (٧٨) أم أبرموا أمرا فَإنَّا مبرمون (٧٩) أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى﴾
وَقَوله: ﴿وَهُوَ فِيهِ مبلسون﴾ أَي: آيسون من الْخُرُوج، والملبس فِي اللُّغَة هُوَ السَّاكِت الَّذِي سكت تحيرا ويأسا.
117
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين﴾ مَعْنَاهُ: إِنَّا جازيناهم بعملهم، وَلم نزد عَلَيْهِم شَيْئا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالك ليَقْضِ علينا رَبك﴾ أَي: ليمتنا رَبك. قَالَ عبد الله ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ: ينادون [مَالِكًا] أَرْبَعِينَ سنة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُنَادُونَهُ ألف سنة ثمَّ يُجِيبهُمْ فَيَقُول: إِنَّكُم مَاكِثُونَ، ثمَّ ينادون الله تَعَالَى، وَيَقُولُونَ ﴿رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا﴾ فَلَا يُجِيبهُمْ عمر الدُّنْيَا، ثمَّ يَقُول: ﴿اخسأوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون﴾. فَلَا يسمع مِنْهُم بعد ذَلِك إِلَّا شبه صَوت الْحمر من الزَّفِير والشهيق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لقد جئناكم بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم للحق كَارِهُون﴾ أَي: كرهتم مَجِيء الْحق ودعوتكم إِلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم أبرموا أمرا﴾ الإبرام هُوَ إحكام الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: أَنهم عزموا وَأَجْمعُوا على التَّكْذِيب، وَنحن أجمعنا على التعذيب، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فَإنَّا مبرمون﴾ وَيُقَال: أم أبرموا أَي: كَادُوا كيدا، ومكروا مكرا، وَقَوله: ﴿فَإنَّا مبرمون﴾ ) أَي: نقابل كيدهم ومكرهم بالإبطال، ونجازيهم جَزَاء مَكْرهمْ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم﴾ روى أَن الْأَخْنَس وَالْأسود بن عبد يَغُوث كَانَا عِنْد الْكَعْبَة، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: أَتَرَى الله يسمع مَا
117
﴿وَرُسُلنَا لديهم يَكْتُبُونَ (٨٠) قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين (٨١) سُبْحَانَ﴾ نقُول: فَقَالَ الآخر: إِن جهرنا يسمع، وَإِن أسررنا لم يسمع؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿بلَى وَرُسُلنَا﴾ يَعْنِي: بلَى نسْمع ﴿وَرُسُلنَا لديهم يَكْتُبُونَ﴾ أَي: يَكْتُبُونَ بِمَا يعْملُونَ وَيَقُولُونَ.
118
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين﴾ الْآيَة مشكلة، وفيهَا أَقْوَال: أَحدهَا: قَول مُجَاهِد، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: قل إِن كَانَ للرحمن ولد على زعمكم فَأَنا أول العابدين أَنه إِلَه لَا ولد لَهُ وَلَا شريك لَهُ، وَأَن مَا قلتموه بَاطِل وَكذب، وَهَذَا أحسن الْأَقَاوِيل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " إِن " هَاهُنَا بِمَعْنى " مَا "، وَمَعْنَاهُ: قل مَا كَانَ للرحمن ولد وَتمّ الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: فَأَنا أول العابدين، وَأهل النَّحْو يستبعدون هَذَا، وَيَقُولُونَ: لَا يجوز أَن تكون " إِن " بِمَعْنى " مَا " إِلَّا على بعد عَظِيم.
وَالْقَوْل الثَّالِث: قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين أَي: الآنفين، يُقَال: عبد إِذا أنف، قَالَ الفرزدق:
(أُولَئِكَ آبَائِي فجئني بمثلهم... وأعبد أَن يهجى كُلَيْب بدارم) أَي: آنف. وَحكى بَعضهم: أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قيل لي: إِنَّك قتلت عُثْمَان فعبدت وَسكت أَي: أنفت.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الْآيَة على هَذَا القَوْل: أَنى غضب (وَله غضب) أنف أَن ينْسب إِلَيْهِ ولد كَمَا تَزْعُمُونَ.
118
﴿رب السَّمَوَات وَالْأَرْض رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ (٨٢) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعون (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم (٨٤) وتبارك الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعِنْده علم السَّاعَة وَإِلَيْهِ ترجعون (٨٥) وَلَا يملك الَّذين يدعونَ من دونه الشَّفَاعَة إِلَّا من شهد﴾
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا على النَّفْي من الْجَانِبَيْنِ بِمَعْنى: إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين، وَلَيْسَ لَهُ ولد وَلَا أَنا أول عَابِد، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: إِن كنت كَاتبا فَأَنا حاسب يَعْنِي: لست بكاتب وَلَا أَنا حاسب، وَحكى هَذَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة والسدى.
119
قَوْله تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: ﴿رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ﴾ أَي: عَمَّا يصفونه بِالْوَلَدِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون﴾ أَي: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه﴾ أَي: معبود فِي السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وتبارك الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعِنْده علم السَّاعَة﴾ أَي: علم قيام السَّاعَة.
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ أَي: تردون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا يملك الَّذين يدعونَ من دونه الشَّفَاعَة﴾ قَالَ مُجَاهِد: أَي: عِيسَى وعزيز وَالْمَلَائِكَة. وَقَالَ قَتَادَة: الْأَصْنَام لِأَن للْمَلَائكَة والنبيين شَفَاعَة.
وَقَوله: ﴿إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ﴾ مَعْنَاهُ على القَوْل الأول: إِلَّا لمن شهد بِالْحَقِّ، وَهُوَ من شهد بِلَا إِلَه إِلَّا الله. وعَلى القَوْل الثَّانِي: لَكِن من شهد بِالْحَقِّ وَهُوَ يشفع، فعلى
119
﴿بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ (٨٦) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون (٨٧) وقيله يَا رب إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ (٨٨) فاصفح عَنْهُم وَقل سَلام فَسَوف يعلمُونَ (٨٩) ﴾ هَذَا الْأَنْبِيَاء يشفعون، والمؤمنون يشفعون.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ يعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَمَعْنَاهُ: يشْهدُونَ عَن علم.
120
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون﴾ أَي: يصرفون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقيله يَا رب﴾ فِيهِ قراءتان معروفتان: " وقيله " بِنصب اللَّام، " وقيله " بِكَسْر اللَّام، وَالْقِرَاءَة الثَّالِثَة: " قيله " بِالضَّمِّ، وَهِي قِرَاءَة الْأَعْرَج، أما بِنصب اللَّام فَمَعْنَاه: وَيسمع قيله، فَهُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: ﴿أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى﴾ أَي: بلَى نسْمع سرهم ونجواهم، ونسمع قيله. وَقَالَ الزّجاج: ونعلم قيله، وَهُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: ﴿وَعِنْده علم السَّاعَة﴾ وَيعلم قيله. وَعَن بَعضهم: " وقيله " أَي: وَقَالَ: قيله أَي: قَالَ: قَوْله من الشكوى عَن الْكفَّار يَعْنِي: الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَأما الْقِرَاءَة بِكَسْر اللَّام فَمَعْنَاه: وَعِنْده علم قيله، وَهُوَ عطف على قَوْله تَعَالَى: ﴿وَعِنْده علم السَّاعَة﴾.
وَأما رفع اللَّام فعلى الِابْتِدَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَوله يارب، إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاصفح عَنْهُم﴾ أَي: أعرض عَنْهُم، وَهَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف. [فنسخت] بِآيَة السَّيْف.
وَقَوله: ﴿وَقل سَلام﴾ أَي: قل مَا تسلم بِهِ عَن شرهم، قَالَ الْحسن: " وَقل سَلام " أَي: احلم عَنْهُم. وَيُقَال: هَذَا سَلام توديع، وَلَيْسَ بِسَلام تَحِيَّة.
وَقَوله: ﴿فَسَوف يعلمُونَ﴾ تهديد ووعيد.
120

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿حم (١) وَالْكتاب الْمُبين (٢) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مباركة إِنَّا كُنَّا منذرين (٣) فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم (٤) ﴾
تَفْسِير سُورَة حم الدُّخان
وَهِي مَكِّيَّة

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

121
Icon