تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الزخرف مكية
قيل إلا قوله ﴿ واسأل من أرسلنا ﴾
وهي تسع وثمانون آية وسبع ركوعات
ﰡ
﴿ حم والكتاب المبين ﴾ أقسم بالكتاب المظهر طرق الهدى، أو الظاهر الجلي معناه، والواو إما للقسم وحم أيضا قسم، فهو من نمط التعديد، أو للعطف على القسم، أو معناه بحق الكتاب المبين أنه حم الأمر وقضي،
ثم ابتدأ بقوله ﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيا ﴾ : صيرناه عربيا بلغتكم ﴿ لعلكم تعقلون ﴾
﴿ وإنه ﴾ عطف على " إنا " ﴿ في أم الكتاب ﴾ : اللوح المحفوظ ﴿ لدينا ﴾ : عندنا ﴿ لعلي ﴾ : ذو مكانة وشرف ﴿ حكيم ﴾ : ذو حكمة بالغة، والظرف الأول في موقع الحال، والثاني بدل، أي حال كون ذلك متحققا في اللوح ثابتا عندي، كقولك : زيد عندي كامل الشجاعة، أو هما بيان محل الحكم، أي هذا في أم الكتاب لدينا، وقيل : الأول متعلق ب " لعلي "، واللام غير مانع
﴿ أفنضرب عنكم الذكر ﴾، نبعد وننحيه عنكم ونترك إنزاله ونعرض عنه ﴿ صفحا ﴾ : إعراضا، مصدر من غير لفظه ؛ لأن تنحية الذكر إعراض أو حال بمعنى معرضين ﴿ إن كنتم قوما مسرفين ﴾ أي : لئن كنتم، والفاء عطف على محذوف، أي : أنهملكم ونترك إنزال القرآن لأنكم مسرفون ؟ ! وعن كثير من السلف معناه ألا نذكركم قط ونخليكم ونعرض عنكم ولا نعذبكم ولا نجازيكم لأنكم تركتم أمرنا وأسرفتم ؟ كما تقول أحبك أن كنت شتمتني، ومن قرأ " إن كنتم " بالكسر، فمن باب جعل المحقق منزلة المشكوك، ابتناءا على أن المخاطب كأنه متردد شاك في ثبوت الشرط، قصدا إلى نسبته إلى الجهل
﴿ وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم ﴾ أي : من القوم المسرفين، وهم قومك ﴿ بطشا ﴾ : قوة، وقيل معناه : فأهلكنا أشد المستهزئين من الأولين بطشا ﴿ ومضى ﴾ سلف في القرآن ﴿ مثل الأولين ﴾ : قصتهم وحالهم العجيبة، وعن بعضهم معناه مضى عبرتهم، أي : جعلناهم عبرة لمن بعدهم فيه تسلية ووعد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووعيد للمكذبين
﴿ ولئن سألتم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾ أنكروا قدرته بالبعث وعبدوا غيره، بعد ما أقروا بكمال قدرته وعزته وعلمه
﴿ الذي جعل لكم الأرض مهدا ﴾ تستقرون فيها، وهذا قول الله- تعالى- من غير حكاية وصفا منه لذاته في سياق واحد ﴿ وجعل ﴾ : خلق ﴿ لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ﴾ : إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد، أو إلى كمال حكمته فتؤمنون
﴿ والذي نزل من السماء ماء بقدر ﴾ : بمقدار معلوم ﴿ فأنشرنا ﴾ : أحيينا، فيه التفات ﴿ به بلدة ميتا ﴾ البلدة بمعنى : المكان، فذكر صفته ﴿ كذلك تخرجون ﴾ من قبوركم
﴿ والذي خلق الأزواج ﴾ : الأصناف ﴿ كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ﴾ أي : تركبونه : جعل السفينة كالدابة فعدى الفعل إليها بنفسه، فإنه يقال : ركبت في الفلك
﴿ لتستووا على ظهوره ﴾ أي : ظهور ما تركبون ﴿ ثم تذكروا ﴾ بقلبكم ﴿ نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا ﴾ بلسانكم ﴿ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ﴾ : مطيقين
﴿ وإنا إلى ربنا لمنقلبون ﴾ : منصرفون راجعون، يذكر ركوب النفس بالبدن وسير العمر، وعن طاوس : حق على كل مسلم إذا ركب دابة أو سفينة، أن يقول ذلك، ويتذكر انقلابه في آخر عمره على مركب الجنازة إلى الله تعالى
﴿ وجعلوا له من عباده جزءا ﴾ يعني بعد اعترافهم بأن الخالق هو الله تعالى، جعلوا له ولدا، فإن الولد بضعة وجزء لوالده، فقالوا : الملائكة بنات الله، وقيل معناه : جعلوا جزءا من عباده، فإنهم جعلوا بعض أنعامهم لله تعالى وبعضها لطواغيتهم ﴿ إن الإنسان ﴾ جنسه ﴿ لكفور مبين ﴾ ظاهر الكفران.
﴿ أم اتخذ مما يخلق بنات ﴾ أي : اتخذ ربكم لنفسه البنات ﴿ وأصفاكم ﴾ : أخلصكم ﴿ بالبنين ﴾ فالهمزة للإنكار والتعجب من عدم اكتفائهم بنسبة الولد، حتى نسبوا له الجزء الأخس
﴿ وإذا بشر ﴾ الجملة حالية ﴿ أحدهم بما ضرب ﴾ بالجنس الذي جعله ﴿ للرحمن مثلا ﴾ : شبها فإن الولد شبه الوالد ﴿ ظل وجهه مسودا ﴾ من الحزن﴿ وهو كظيم ﴾ مملوء قلبه من الغيظ
﴿ أو من ينشؤا ﴾ : يتربى ﴿ في الحلية وهو في الخصام ﴾ : في المجادلة ﴿ غير مبين ﴾ ليس له بيان أي : تنسبون له من هو ناقص الظاهر- يستكمل نقصه بالحلي- والباطن- لا يقدر على إيراد الحجة على من يخاصمه- وتقديره : أو اتخذ من ينشؤ، عطف على أم اتخذوا، والهمزة بين المعطوفين لمزيد الإنكار، وفي الخصام متعلق بمبين ؛ لأن غير في المعنى النفي، فجاز تقديمه عليه، وقيل : من مبتدأ حذف خبره، أي : أمن هذا حاله وكده، أو عطف على ما يخلق
﴿ وجعلوا ﴾ : سموا ﴿ الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ﴾ فهذا كفر آخر منهم، ومن قرأ " عند الرحمن " فمعناه : قربتهم ورتبتهم ﴿ أشهدوا ﴾ : حضروا ﴿ خلقهم ﴾ : خلق الله تعالى إياهم فشاهدوا ﴿ ستكتب شهادتهم ﴾ على الملائكة ﴿ ويسألون ﴾ عنها يوم القيامة
﴿ قالوا لو شاء الرحمن ﴾ أن لا نعبد الملائكة ﴿ ما عبدناهم ﴾ كفر آخر، فإنهم أرادوا أن كفرهم بمشيئة الله تعالى، فلا يكون منكرا منهيا عنه، بل مأمور به، فرأيهم رأي القدرة من أن كل مأمور به مراد، وكل منهي عنه غير مراد ﴿ ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ﴾ يعني : أنهم جاهلون كاذبون، مصيبين في استصوابه، ومعذورين في ارتكابه
﴿ أم آتيناهم كتابا من قبله ﴾ : قبل القرآن، بأن يعبدوا غير الله تعالى، وينسبوا إليه الولد، ويقول هو راض عنا ﴿ فهم به مستمسكون ﴾ نسبهم إلى الكذب أولا، ثم أضرب عنه إلى إنكار سندهم من جهة النقل
﴿ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ﴾ : دين ﴿ وإنا على آثارهم مهتدون ﴾ جعلوا من جهلهم تقليد جهلتهم اهتداءا
﴿ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها ﴾ متنعموها ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾ فهذه شنشنتهم القديمة ليست مخصوصة بقومك
﴿ قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ﴾ الظاهر أن قل حكاية أمر ماض أوحى إلى نبينا عليه السلام، ويؤيده قراءة " قال " أي : أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى ؟ ! ﴿ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾
﴿ فانتقمنا منهم ﴾ بأنواع من العذاب ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ﴾.
﴿ وإذ قال ﴾ أي : واذكره ﴿ إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء ﴾ مصدر مستو فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ﴿ مما تعبدون ﴾ أي بريء من معبودكم
﴿ إلا الذي فطرني ﴾ منقطع أو متصل، فإنهم كانوا معترفين بأن الله تعالى هو الإله الأصلي المعبود، و " ما " تعم أولى العلم أو غلب غيره ؛ لأن أكثر معبودهم الأصنام غير العقلاء ﴿ فإنه سيهدين ﴾ الأظهر أن السين لمجرد التأكيد والتسويف، والمضارع للاستمرار
﴿ وجعلها ﴾ أي : جعل الله تعالى، أو إبراهيم كلمة التوحيد ﴿ كلمة باقية في عقبه ﴾ في ذريته لا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ الضمير للبعض من المعقب، أو لهم بحذف المضاف، أي : لعل مشركهم
﴿ بل متعت هؤلاء ﴾ أي : قومك، فإنهم من عقب إبراهيم ﴿ وآباءهم ﴾ في الدنيا فاغتروا بها ﴿ حتى جاءهم الحق ﴾ القرآن ﴿ ورسول مبين ﴾ : ظاهر رسالته
﴿ ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من ﴾ إحدى ﴿ القريتين ﴾ مكة والطائف ﴿ عظيم ﴾ بالجاه والمال أرادوا وليد بن المغيرة من مكة، وعروة ابن مسعود الثقفي من الطائف، أو غيرهما فإنهما من الأعاظم، ولا يليق تلك الرتبة العظيمة إلا بمثلها
﴿ أهم يقسمون رحمة ربك ﴾ أي ليس الأمر مردودا إليهم، بل إنه يعلم حيث يجعل رسالته، فإنها لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا، وأشرفهم وأطهرهم وأظهرهم بيتا وأصلا، لا على أكثرهم مالا وجاها ﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ﴾ فجعلنا البعض غنيا والبعض فقيرا ﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾ بالمال، ودرجات إما تمييز أو بدل ﴿ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾ ليسخر الأغنياء الفقراء بأموالهم، ويستخدموهم فينتظم العالم، وليس هذا من شرف في الغنى ونقص في الفقير﴿ ورحمة ربك ﴾ بخلقه ﴿ خير مما يجمعون ﴾ : من الأموال ومن حطام الدنيا
﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ﴾ أي : لولا كراهة اجتماع الخلق على الكفر لرغبة النفس في الدنيا ﴿ لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا ﴾ لبيوتهم بدل اشتمال من " لمن يكفر "، وجاز تعلقه بسقفا، كما تقول : جعلت لك نوحا لكتابك ﴿ من فضة ومعارج ﴾ : سلالم ومصاعد منها ﴿ عليها يظهرون ﴾ : يعلون السطوح، لحقارة الدنيا فيغتروا بها أكثر مما اغتروا
﴿ ولبيوتهم أبوابا وسررا ﴾ : من فضة ﴿ عليها ﴾ أي : على السرر﴿ يتكئون ﴾
﴿ وزخرفا ﴾ : ذهبا، عطف على محل من فضة، والزخرف : الزينة، فعطف على سقفا، وروى الترمذي وقال : حسن صحيح " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا " ﴿ وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ﴾ إن نافية، و " لما " بمعنى إلا، ومن قرأ " لما " بالتخفيف فإن مخففة، واللام هي الفارقة، وما صلة ﴿ والآخرة عند ربك للمتقين ﴾ أي : خاصة لمن هو متقي عند الله وفي عمله، أو حاصل عند الله تعد لهم.
﴿ ومن يعش ﴾ : يعرض ﴿ عن ذكر الرحمن نقيض له ﴾ نسبب له ونسلط عليه ﴿ شيطانا ﴾ يزين له الغواية، ويصده عن الهداية ﴿ فهو له قرين ﴾ : لا يفارقه
﴿ وإنهم ﴾ أي : الشياطين ﴿ ليصدونهم ﴾جمع الضميرين للمعنى ﴿ عن السبيل ﴾ : عن طريق الحق ﴿ يحسبون ﴾ أي : الكفار ﴿ أنهم ﴾ أي : أنفسهم ﴿ مهتدون ﴾
﴿ حتى إذا جاءنا ﴾ الكافر ﴿ قال ﴾ للشيطان ﴿ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ﴾ بعد المشرق من المغرب، فغلب وأضاف البعد إليهما بعد التثنية ﴿ فبئس القرين ﴾ أنت
﴿ ولن ينفعكم اليوم ﴾ هذا قول الله تعالى أو الملك لهم ﴿ إذ ظلمتم ﴾ أي : إذ يتبين ظلمكم أنفسكم في الدنيا فإذ لتحقق الوقوع، والمعنى على الاستقبال كما في ﴿ ولو ترى إذ وقفوا ﴾ ( الإنعام : ٢٧، ٣٠ ) وجاز أن يكون بدلا من اليوم ﴿ أنكم في العذاب مشتركون ﴾ أي : لا ينفعكم اشتراككم واجتماعكم في العذاب ؛ لأن لكل نصيبه الأوفر، فإنكم فاعل لن ينفعكم، وفاعل ضمير يرجع إلى التمني المستفاد من قوله :" يا ليت " وإنكم علة أي لأنكم في العذاب مشتركون
﴿ أفأنت تسمع الصم ﴾ همزة إنكار، فإنه عليه السلام يتعب روحه في إهدائهم ﴿ أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ﴾ أي ليس هذا في وسعك، والقادر على ذلك هو الله تعالى وحده
﴿ فإما تذهبن بك ﴾ فإن قبضناك قبل أن نعذبهم، وما زائدة للتأكيد بمنزلة لام القسم في استجلاب نون التأكيد ﴿ فإنا منهم منتقمون ﴾ بعد موتك
﴿ أو نرينك ﴾ أي : إن أردنا أن نريك ﴿ الذي وعدناهم ﴾ من العذاب ﴿ فإنا عليهم مقتدرون ﴾
﴿ فاستمسك بالذي أوحي إليك ﴾ من الشرائع ﴿ إنك على صراط مستقيم ﴾
﴿ وإنه ﴾ أي : الذي أوحى إليك ﴿ لذكر ﴾ : لشرف ﴿ لك ولقومك ﴾ حيث إنه أنزل بلغتهم، فينبغي أن يكون أقوم الناس، أو لتذكير لك ولقومك وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم ﴿ وسوف تسألون ﴾ عن حقه
﴿ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ﴾ السؤال عن الرسل سؤال عن أممهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود " واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا " ﴿ أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ﴾ أي : هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، ومعنى الأمر به التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى، وعن بعض السلف : جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم، فلم يشك ولم يسأل.
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذ هم منها يضحكون ﴾ فاجئوا بالاستهزاء بالآيات
﴿ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ﴾ أي : صاحبتها التي كانت قبلها، أو هو تمثيل باتصاف الكل بالكمال، حيث لا يظهر التفاوت ويظن عند النظر بكل واحد أنه أفضل من البواقي ﴿ وأخذناهم بالعذاب ﴾ كالطوفان والجراد وغيرهما ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ لكي يرجعوا عن الكفر
﴿ وقالوا يا أيها الساحر ﴾ أي : العالم الكامل وهذا تعظيمه منهم، فإن السحر عندهم فضيلة لا نقيصة، أو لفرط حيرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به ﴿ ادع لنا ربك ﴾ بكشف العذاب عنا ﴿ بما عهد عندك ﴾ : بسبب عهده عندك أن يجيب دعوتك، أو بحق ما عندك من عهد الله تعالى وهو النبوة، أو بحق الإيمان، أو بسبب ما عهده الله تعالى من كشف العذاب لمن آمن ﴿ إننا لمهتدون ﴾ : مؤمنون
﴿ فلما كشفنا عنهم العذاب إذ هم ينكثون ﴾ فاجئوا نكث العهد
﴿ ونادى فرعون في قومه ﴾ أمر بالنداء، أو هو نادى بنفسه في مجمع عظمائه ﴿ قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار ﴾ أنهار النيل عطف على ملك مصر ﴿ تجري من تحتي ﴾ تحت قصري أو أمري، جملة حالية، أو خبر لهذه الأنهار، والواو للحال ﴿ أفلا تبصرون ﴾ ذلك
﴿ أم أنا خير ﴾ بل أنا خير، والهمزة للتقرير والتحقيق، وقيل : أم متصلة حاصله، أفلا تبصرون أم تبصرون، من إقامة المسبب موقع السبب، فإن إبصارهم سبب لقولهم : أنت خير ﴿ من هذا الذي هو مهين ﴾ : حقير ﴿ ولا يكاد يبين ﴾ : يفصح ويعرب عما في ضميره، لما في لسانه من اللكنة
﴿ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ﴾ أي : هلا ألقى رب موسى عليه أسورة إن كان سيدا مطاعا، فإنهم إذا كانوا سودوا رجلا، سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب، يكون ذلك دلالة لسيادته ﴿ أو جاء معه الملائكة مقترنين ﴾ : مقرونين يصدقونه، أو متتابعين يشهدون له مرة بعد أخرى
﴿ فاستخف ﴾ أي فرعون ﴿ قومه ﴾ حملهم على الخفة والجهل ﴿ فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ فأطاعوا فساقا
﴿ فلما آسفونا ﴾ : أغضبونا ﴿ انتقمنا منهم فأغرقناهم ﴾ في اليم ﴿ أجمعين ﴾
﴿ فجعلناهم سلفا ﴾ : متقدمين، ليتفكروا المتأخرون فيهم ويتعظوا ﴿ ومثلا ﴾ : قصة عجيبة ﴿ للآخرين ﴾
﴿ لما ضرب ابن مريم مثلا ﴾ لما نزل ﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ ( الأنبياء : ٨٩ ) جادل ابن الزبعري وقال : رضينا، إن آلهتنا مع عيسى فجعلوه مثلا حجة سائدة، أو مقياسا ومثالا في بيان إبطال ما ذكر من أنكم وما تعبدون ﴿ إذا قومك ﴾ : قريش ﴿ منه يصدون ﴾ : يضجون فرحا بأنه أسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومن قرأ بضم الصاد فمعناه : من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، وعن الكسائي : هما لغتان كيعرش ويعرش، قال الواحدي : إذا قومك المؤمنون يضجون من هذا يعني غما وشكا
﴿ وقالوا أآلهتنا خير ﴾ عندك ﴿ أم هو ﴾ أي : عيسى فإن كان هو حصب جهنم فليكن آلهتنا كذلك ﴿ ما ضربوه ﴾ أي : المثل ﴿ لك إلا جدلا ﴾ لأجل الجدل فإنه معلوم لكل من له نظر، أن المراد مما تعبدون : الأصنام، سيما إذا جعل ما لغير العقلاء على ما هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق ﴿ بل هم قوم خصمون ﴾ فهذا رد الله تعالى عليه إجمالا، وتفصيله في موضع آخر، حيث قال :" إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " كالملائكة وعيسى وعزير " أولئك عنها مبعدون "
﴿ إن هو ﴾ : عيسى ﴿ إلا عبد أنعمنا عليه ﴾ بالنبوة ﴿ وجعلنا مثلا ﴾ : أمرا عجيبا ﴿ لبني إسرائيل ﴾
﴿ لو نشاء لجعلنا منكم ﴾ بدلكم ﴿ ملائكة في الأرض يخلفون ﴾ أي : يخلفونكم في الأرض يعبدونني، فالملائكة وعيسى لا يستحقون الألوهية، وقيل : معنى لجعلنا منكم لولدنا منكم يا رجال ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير فحل، لتعرفوا أن الملائكة مثلكم أجسام، وأن الله تعالى قادر على كل شيء
﴿ وإنه ﴾ : عيسى ﴿ لعلم للساعة ﴾ أي : علامتها، فإن نزوله من أشراطها وقيل ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وغيرها، كفى به دليلا على علم الساعة وقيل : الضمير للقرآن فإن فيه الدلالة عليها، ﴿ فلا تمترن بها ﴾ : لا تشكن فيها، ﴿ واتبعون ﴾ أي : شرعي وما أخبركم به ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ : أي ما أدعوكم إليه صراط لا يظل سالكه،
﴿ ولا يصدنكم الشيطان ﴾ : عن إتباعه، ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾
﴿ ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ﴾ : النبوة، ﴿ ولأبين لكم ﴾ هو من عطف الجملة أي : جئتكم بالحكمة وجئتكم لأبين لكم، وجاز عطفه على محذوف عام، أي : جئتكم بالحكمة لمصالحكم ولأبين، ﴿ بعض الذي تختلفون فيه ﴾ أي : بعضا توضيحه صلاح دينكم، أو بعض ما أنتم تختلفون فيه من أحكام التوراة فإن الذي لم يختلفوا فيه لما احتاج إلى تبيين،
﴿ فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم ﴾ الفرق المتحزبة، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله، ومنهم من يدعي أنه ولد الله أو هو الله ومنهم من يدعي أنه كذاب، ﴿ فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ﴾
﴿ هل ينظرون ﴾ ينتظرون، ﴿ إلا الساعة أن تأتيهم ﴾ : إلا إتيان الساعة، وأن تأتيهم بدل من الساعة، ﴿ بغتة ﴾ : فجأة، مفعول مطلق ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ لإنكارهم، أو لانهماكهم في دنياهم، يعني : أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم ينتظرونها،
﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو ﴾ يومئذ ظرف، عدو الفصل بالمبتدأ غير مانع، ﴿ إلا المتقين ﴾ فإن محبتهم تبقى.
﴿ يا عباد ﴾ : حكاية لما ينادي به المتحابون المتقون، ﴿ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ﴾
﴿ الذين ﴾ : منصوب على المدح، ﴿ آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ﴾
﴿ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم ﴾ : المؤمنات، ﴿ تحبرون ﴾ : تسرون،
﴿ يطاف عليهم بصحاف ﴾ : جمع صفحة ﴿ من ذهب وأكواب ﴾ : جمع كوب وهو كوز لا عروة له، ﴿ وفيها ﴾ : في الجنة، ﴿ ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ﴾ : بمشاهدته، وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين فلم يذكرها، ﴿ وأنتم فيها خالدون ﴾ وهو من أتم النعم،
﴿ وتلك ﴾ : الجنة المذكورة، ﴿ الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾، والجنة إما خبر، والتي أورثتموها صفة لها، أو صفة والتي خبر، أو هما صفتان والظرف خبر،
﴿ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ﴾ : يبقى بعضها، أبدا لا تجد شجرة عريانة من الثمرة،
﴿ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم ﴾ : لا يخفف ولا ينقص، ﴿ وهم فيه ﴾، في العذاب، ﴿ مبلسون ﴾ : ساكتون سكوت يأس،
﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ﴾ : على أنفسهم،
﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ : من قضى عليه، إذ أماته وهو تمني الموت في فرط شدتهم وحيرتهم، وهذا الكلام والنداء قبل الإبلاس وقبل أن يقال لهم :﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾[ المؤمنون : ١٠٨ ] ﴿ قال إنكم ماكثون ﴾ : المكث يشعر بالانقطاع ولا انقطاع ففيه استهزاء،
﴿ لقد جئناكم بالحق ﴾ : جواب من الله تعالى بعد جواب الملك، أو في قال ضمير يرجع إلى الله تعالى، ﴿ ولكن أكثركم للحق كارهون ﴾
﴿ أم أبرموا ﴾ : أحكموا، ﴿ أمرا ﴾، في رد الحق بحيل ومكر، ﴿ فإنا مبرمون ﴾ : كيدنا في مجازاتهم،
﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ﴾ : ما يخفون من الغير، ﴿ ونجواهم ﴾ : ما تكلموا به فيما بينهم، ﴿ بلى ﴾ : نسمعهما، ﴿ ورسلنا ﴾ : أي الحفظة ﴿ لديهم يكتبون ﴾ : ذلك،
﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ﴾، لذلك الولد جعل ثبوت الولد ملزوما لأمر منتف محال في اعتقاده، وهو عبادته للولد، لكن اللازم منتف فكذا الملزوم، والغرض نفي الولد على أبلغ وجه قال تعالى :﴿ لو أراد الله أن يتخذ ولدا ﴾ ( الزمر : ٤ ) وعن بعضهم معناه : إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله تعالى فإن من عبد الله تعالى فقد دفع أن يكون له ولد، أو معناه : فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد، المنكرين لما قلتم، يقال عبد يعبد : إذ اشتد أنفه أو إن نافية أي : ما كان له ولد، فأنا أول من قال بذلك،
﴿ سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون ﴾ : من كونه ذا ولد،
﴿ فذرهم يخوضوا ﴾ : في الباطل، ﴿ ويلعبوا ﴾ : في الدنيا :﴿ حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ أي : القيامة،
﴿ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ﴾ أي : هو إله فيهما، فالظرف متعلق بأل لما فيه من معنى الوصفية، أو لأنه بمعنى المعبود بالحق، ﴿ وهو الحكيم ﴾ : في التدبير، ﴿ العليم ﴾، بكل شيء فلا يحتاج إلى ولد،
﴿ وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة ﴾، لا عند غيره، ﴿ وإليه ترجعون ﴾ : للجزاء،
﴿ ولا يملك الذين يدعون من دونه ﴾ أي : آلهتهم :﴿ الشفاعة ﴾ : كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، ﴿ إلا من شهد بالحق ﴾ : بالتوحيد، ﴿ وهم يعلمون ﴾، حقيقة ما شهدوا به ولا يكونون منافقين، والاستثناء متصل، أي : لا يملكها أحد من المعبودين إلا الموحدين كالملائكة، وعيسى، فإن لهم الشفاعة بإذن لمن ارتضى أو منقطع لأي : متعلق الذين بالأصنام،
﴿ ولئن سألتم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ﴾ : يصرفون من عبادته إلى عبادة غيره،
﴿ وقيله ﴾ : بالنصب مفعول مطلق أي : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قيله أي : شكى إلى ربه شكواه من قومه فقال :﴿ يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ﴾، أو عطف على سرهم ونجواهم أو على معنى وعنده علم الساعة أي : يعلم الساعة، و " قيله " وبالجر عطف على الساعة أي : عنده علم قيله :
﴿ فاصفح ﴾ : أعرض، ﴿ عنهم ﴾، ولا تجادلهم بمثل ما يخاطبونك من الكلام السيئ، ﴿ وقل سلام ﴾ أي : أمري وشأني تسلم ومسالمة منكم، ﴿ فسوف يعلمون ﴾ : غبّ ما فعلوا، فهذا وعيد أكيد لهم، ومن قرأ بالتاء فهو أيضا من مقول قل.
والحمد لله رب العالمين.