تفسير سورة الزخرف

زاد المسير
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
وهي مكية بإجماعهم.
وقال مقاتل : هي مكية، إلا آية، وهي قوله :﴿ وَاسْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ].

سورة الزّخرف
وهي مكية بإجماعهم. وقال مقاتل: هي مكّيّة، إلّا آية، وهي قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
قوله تعالى: حم قد تقدّم بيانه. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قسمٌ بالقرآن. إِنَّا جَعَلْناهُ قال سعيد بن جبير: أنزَلْناه. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه «٢» إلى قوله: وَإِنَّهُ يعني القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ قال الزجاج: أي: في أصل الكتاب، وأصل كلِّ شيء: أُمُّه، والقرآن مُثْبَتٌ عند الله عزّ وجلّ في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: لَدَيْنا أي: عندنا لَعَلِيٌّ أي: رفيع. وفي معنى الحكيم قولان: أحدهما:
مُحْكَم، أي: ممنوعٌ من الباطل، قاله مقاتل. والثاني: حاكمٌ لأهل الإِيمان بالجنة ولأهل الكفر بالنار، ذكره أبو سليمان الدمشقي، والمعنى: إن كذَّبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريفٌ عظيمُ المَحَلِّ. قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً قال ابن قتيبة: أي: نُمْسِكُ عنكم فلا نذكُركم صفحاً، أي:
إِعراضاً، يقال: صَفَحْتُ عن فلان: إذا أعرضت عنه، والأصل في ذلك أن تُولِّيه صَفْحةَ عنقك، قال كُثَيِّر يصف امرأة:
صَفُوحاَ فما تَلْقاكَ إلاّ بَخِيلَةً فمَنْ مَلَّ منها ذلك الوَصْلَ مَلَّتِ «٣»
أي: مُعْرِضَة بوجهها، يقال ضَرَبْتُ عن فلان كذا: إِذا أمسكتَه، وأضربتَ عنه. أَنْ كُنْتُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «أن كنتم» بالنصب، أي: لأِن كنتم قوماً مسرفين.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: «إِن كنتم» بكسر الهمزة. قال الزجاج: وهذا على معنى الاستقبال،
(١) الزخرف: ٤٥.
(٢) النساء: ٨٢، يوسف: ٢.
(٣) البيت لكثير عزة كما في «اللسان» - صفح-
أي: إِن تكونوا مسرفين نَضْرِبْ عنكم الذِّكْر. وفي المراد بالذِّكْر قولان «١» : أحدهما: أنه ذِكْر العذاب، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن عذابكم ونترُكُكم على كفركم؟! وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنه القرآن، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمِنون به؟! وهو معنى قول قتادة، وابن زيد. وقال قتادة: «مُسْرِفِينَ» بمعنى مشركين. ثم أعلم نبيَّه أنِّي قد بعَثتُ رُسُلاً فكُذِّبوا فأهلكتُ المكذِّبين بالآيات التي تلي هذه.
قوله تعالى: أَشَدَّ مِنْهُمْ أي: من قريش بَطْشاً أي: قُوَّةً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: سبق وصفُ عِقابهم فيما أُنزل عليك. وقيل: سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب، فستقع المشابهة بينهم في الإِهلاك. ثم أخبر عن جهلهم حين أقَرُّوا بأنه خالق السموات والأرض ثم عبدوا غيره بالآية التي تلي هذه ثم التي تليها مفسَّرة في طه «٢» إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
قوله تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ قال ابن عباس: يريد أنه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قَدَرٍ فأغرقهم، بل هو بقَدَرٍ ليكون نافعاً. ومعنى «أنشَرْنا» أحيَيْنا.
قوله تعالى: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر: «تَخْرُجُونَ» بفتح التاء وضم الراء، والباقون بضم التاء وفتح الراء. وما بعد هذا قد سبق «٣» إلى قوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ قال أبو عبيدة: هاء التذكير ل «ما». ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذ سخَّر لكم ذلك المَركب في البَرِّ والبحر، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال ابن عباس ومجاهد: أي: مُطيقين، قال ابن قتيبة: يقال: أنا مُقْرن لك، أي:
مُطيق لك، ويقال: هو من قولهم: أنا قِرْنٌ لفلان: إذا كنتَ مثله في الشِّدة، فإن قلتَ: أنا قَرْنٌ لفلان- بفتح القاف- فمعناه: أن تكون مثله بالسِّنّ. وقال أبو عبيدة: «مُقْرِنِينَ» أي: ضابِطِين، يقال: فلان مُقْرِنٌ لفلان: أي: ضابط له.
قوله تعالى: وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: راجعون في الآخرة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أمّا الجَعْل هاهنا، فمعناه: الحُكم بالشيء، وهم الذين
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ١٦٧: وأولى التأولين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله: أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم.
(٢) طه: ٥٣. [.....]
(٣) يس: ٣٦، ٤٢.
زعموا أن الملائكةَ بناتُ الله والمعنى: جَعلوا له نصيباً من الولد، قال الزجاج: وأنشدني بعض أهل اللغة بيتاً يدل على أن معنى «جزءٍ» معنى الإِناث- ولا أدري البيت قديم أو مصنوع:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ، يَوْماً، فلا عجب قد تجزئ الحُرَّةُ المِذْكارُ أَحْيانا
أي: آنثت، ولدت أُنثى.
قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ يعني الكافر لَكَفُورٌ أي: جحود لنعم الله عزّ وجلّ مُبِينٌ أي: ظاهرُ الكُفر. ثم أنكر عليهم فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وهذا استفهام توبيخ وإِنكار وَأَصْفاكُمْ أي: أخلَصَكم بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي: بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كلِّ شيء شبهه وجنسه. والآية مفسرة في النّحل «١».
قوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «يُنَشَّأُ» بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين وقرأ الباقون: بفتح الياء وسكون النون. قال المبرِّد: تقديره: أو يَجَعلون من ينشأ فِي الْحِلْيَةِ قال أبو عبيدة: الحِلْية: الحِلَى. قال المفسرون: والمراد بذلك: البنات، فإنهنُ ربِّين في الحُلِيِّ. والخصام بمعنى المُخاصَمة، غَيْرُ مُبِينٍ حُجَّةً. قال قتادة: قلَّما تتكلَّم امرأة بحُجَّتها إلاّ تكلَّمتْ بالحُجَّة عليها. وقال بعضهم: هي الأصنام.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ قال الزجاج: الجَعْل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء، تقول: قد جعلتُ زيداً أعلَم الناسِ، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به. قال المفسرون: وجَعْلُهم الملائكة إِناثاً قولُهم: هُنَّ بناتُ الله. قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب، وأبان عن عاصم، والشيزري عن الكسائي: «عِنْدَ الرحمن» بنون من غير ألف، وقرأ الباقون: «عِبادُ الرحمن» ومعنى هذه القراءة: جعلوا له من عباده بنات. والقراءة الأُولى موافقة لقوله:
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «٢»، وإِذا كانوا في السماء كان أَبْعَدَ للعِلْم بحالهم. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ قرأ نافع، والمفضل عن عاصم: «أَأُشْهِدوا» بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مضمومة. وروى المسيّبي عن نافع:
«أَوُ شْهِدوا» ممدودة من أشْهدْتُ، والباقون لا يُمدُّون. «أشَهِدوا» من شَهِدْتُ، أي: أحَضَروه فعرَفوا أنهم إِناث؟! وهذا توبيخ لهم إِذ قالوا فيما يُعْلَم بالمشاهَدة من غير مشاهَدة. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على الملائكة أنها بنات الله.
(١) النحل: ٥٨.
(٢) الأعراف: ٢٠٦.
(١٢٥٢) وقال مقاتل: لمّا قال الله عزّ وجلّ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سُئلوا عن ذلك فقالوا: لا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فما يُدريكم أنها إِناث؟» فقالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نَشهد أنهم لم يَكذبوا، فقال الله: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ عنها في الآخرة.
وقرأ أبو رزين، ومجاهد: «سنَكْتُبُ» بنون مفتوحة «شهادتَهم» بنصب التاء، ووافقهم ابن أبي عبلة في «سنَكْتُبُ» وقرأ: «شهاداتِهم» بألف.
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ في المكنيِّ عنهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله قتادة، ومقاتل في آخرين. والثاني: الأوثان، قاله مجاهد. وإِنما عَنَوْا بهذا أنه لو لم يَرْضَ عبادتَنا لها لعجَّل عقوبتنا، فردَّ عليهم قولهم بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ. وبعض المفسرين يقول: إِنما أشار بقوله: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» إلى ادِّعائهم أنَّ الملائكة إِناث، قال: ولم يتعرَّض لقولهم: «لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ» لأنه قول صحيح والذي اعتمدنا عليه أصح، لأن هذه الآية كقوله: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا «١»، وقوله: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «٢»، وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك.
و «يَخْرُصُونَ» بمعنى: يكذبون. وإنما كذَّبهم، لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر ديناً. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي: مِنْ قَبْلِ هذا القرآن، أي: بأن يعبدوا غير الله فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يأخذون بما فيه. بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي: على سُنَّة ومِلَّة ودِين وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ فجعلوا أنفُسهم مهتدين بمجرد تقليد الآباء من غير حُجَّة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذا القول، فقال:
وَكَذلِكَ أي: وكما قالوا قال مُتْرَفو القُرى مِنْ قَبْلهم، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ بهم. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «قال أَوَلَوْ جِئتُكم» بألف. قال أبو علي: فاعل «قالَ» النذير، المعنى: فقال لهم النذير. وقرأ أبو جعفر: «أَوَلَوْ جئناكم» بألف ونون بِأَهْدى أي: بأصوب وأرشد. قال الزجاج: ومعنى الكلام: قُلْ: أتَّتبعونَ ما وجدتم عليه آباءكم وإِن جئتكم بأهدى منه؟! وفي هذه الآية إِبطال القول بالتقليد. قال مقاتل: فرَدُّوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ثم رجع إِلى الأُمم الخالية، فقال: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ الآية.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
قوله تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ قال الزجاج: البَراء بمعنى البَريء، والعرب تقول للواحد: أنا البَراء منك، وكذلك للإثنين والجماعة، وللذكر والأنثى، يقولون: نحن البَراء منك والخلاء منك، لا يقولون: نحن البَراءان منك، ولا البَراءون منك، وإِنما المعنى: أنا ذو البَراء منك، ونحن ذو البراء
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه الواحدي في «الوسيط» ٤/ ٦٨ للكلبي ومقاتل، والكلبي كذاب أيضا، فهذا الخبر لا شيء.
__________
(١) الأنعام: ١٤٨.
(٢) يس: ٤٧.
منك، كما يقال: رجل عَدْل، وامرأة عَدْل. وقد بيّنّا استثناء إبراهيم ربّه عزّ وجلّ مما يعبدون عند قوله:
إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ «١». قوله تعالى: وَجَعَلَها يعني كلمة التوحيد، وهي: «لا إِله إِلا الله»، كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: فيمن يأتي بعده من ولده، فلا يزال فيهم موحِّد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إَلى التوحيد كلُّهم إِذا سمعوا أن أباهم تبرَّأ من الأصنام ووحّد الله عزّ وجلّ.
ثم ذكر نعمته على قريش فقال: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ والمعنى: إِنِّي أجزلتُ لهم النِّعَم ولم أُعاجلهم بالعقوبة حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فكان ينبغي لهم أن يقابِلوا النِّعَم بالطاعة للرسول، فخالفوا. وَلَمَّا جاءَهُمُ يعني قريشاً في قول الأكثرين. وقال قتادة: هم اليهود. والْحَقُّ القرآن.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أي: هلاّ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أمّا القريتان، فمكَّة والطائف، قاله ابن عباس، والجماعة وأمّا عظيم مكَّة، ففيه قولان «٢» : أحدهما: الوليد بن المغيرة القرشي، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي. والثاني: عُتبة بن ربيعة، قاله مجاهد. وفي عظيم الطائف خمسة أقوال: أحدها: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: مسعود بن عمرو بن عبيد الله، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال قتادة. والرابع: أنه ابن عَبْد ياليل، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس: كنانة بن عبد بن عمرو بن عمير الطائفي، قاله السّدّيّ.
فقال الله عزّ وجلّ ردّا عليهم وإنكارا: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النُّبوَّة، فيضعونها حيث شاؤوا، لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ المعنى أنه إِذا كانت الأرزاق بقَدَر الله، لا بحول المحتال- وهو دون النُّبوَّة- فكيف تكون النًّبوَّة؟! قال قتادة: إِنك لَتَلْقَى ضعيفَ الحِيلة عَييَّ اللِّسان قد بُسِطَ له الرِّزْقُ، وتَلْقَى شديدَ الحِيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه. قوله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فيه قولان: أحدهما: بالغنى والفقر. والثاني: بالحرية والرق لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا
وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن: «سِخْرِيّاً» بكسر السين. ثم فيه قولان: أحدهما:
يستخدم الأغنياء الفقراء بأموالهم، فَيَلْتَئِمُ قِوامَ العالَم، وهذا على القول الأول. والثاني: ليملك بعضُهم بعضاً بالأموال فيتَّخذونهم عبيداً، وهذا على الثاني. قوله تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ فيها قولان: أحدهما:
(١) الشعراء: ٧٧.
(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ١٥٠: والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان. وبه قال الطبري.
النًّبوَّة خير من أموالهم التي يجمعونها، قاله ابن عباس. والثاني: الجنة خير ممّا يجمعون في الدنيا، قاله السدي.
قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فيه قولان: أحدهما: لولا أن يجتمعوا على الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: على إِيثار الدنيا على الدِّين، قاله ابن زيد. قوله تعالى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ لهوان الدنيا عندنا. قال الفراء: إن شئتَ جعلت اللّام في «لبيوتهم» مكرّرة، كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ «١» وإِن شئتَ جعلتَها بمعنى «على»، كأنه قال: جَعَلْنا لهم على بُيوتهم، تقول للرجل: جعلتُ لك لقومك الأُعطية، أي: جعلتُها من أجلك لهم.
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «سَقْفاً» على التوحيد. وقرأ الباقون: «سُقُفاً» بضم السين والقاف جميعاً «٢». قال الزجاج: والسَّقف واحد يدلُّ على الجمع فالمعنى: جعلْنا لبيتِ كلِّ واحد منهم سقفاً من فِضَّة وَمَعارِجَ وهي الدَّرَج والمعنى: وجعلْنا معارج من فِضَّة، وكذلك «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» أي من فِضَّة وَسُرُراً أي من فِضَّة. قوله تعالى: عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال ابن قتيبة: أي: يَعْلُون، يقال: ظَهَرْتُ على البيت: إذا علَوْت سطحه. قوله تعالى: وَزُخْرُفاً وهو الذهب والمعنى: ويجعل لهم مع ذلك ذهباً وغنىً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا المعنى: لَمَتاع الحياة الدنيا، و «ما» زائدة. وقرأ عاصم، وحمزة: «لَمّا» بالتشديد، فجعلاه بمعنى «إِلاّ» والمعنى: إِنّ ذلك يُتمتَّع به قليلاً ثم يزول وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصّة لهم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
(١) البقرة: ٢١٧.
(٢) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٦/ ٧٤: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لاحق لرب العلو، لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله.
قال ابن العربي: وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب. فمن له البيت فله أركانه ولا خلاف أن العلو له إلى السماء. واختلفوا في السفل، فمنهم من قال: هو له ومنهم من قال: ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان. ومن أحكام العلو والسفل: إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة. ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. وحجة مالك وأشهب، حديث النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». أخرجه البخاري ٢٤٩٣ وغيره. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
77
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يُعْرَضْ، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء، والزجاج. والثاني: يَعْمَ، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عطاء، وابن زيد.
والثالث: أنه البَصَر الضعيف، حكاه الماوردي. وقال أبو عبيدة: تُظْلِمْ عينه عنه. وقال الفراء: من قرأ:
«يَعْشُ»، فمعناه: يُعْرِضْ، ومن نصب الشين، أراد: يَعْمَ عنه قال ابن قتيبة: لا أرى القول إلاّ قولَ أبي عبيدة، ولم نر أحداً يجيز «عَشَوْتُ عن الشيء» : أعرضتُ عنه، إِنما يقال: «تَعاشَيْتُ عن كذا»، أي:
تغافلتُ عنه، كأنِّي لم أره، ومثلُه: تعامَيْتُ، والعرب تقول: «عَشَوْتُ إِلى النار» : إِذا استدللتَ إِليها ببصر ضعيف، قال الحطيئة:
متَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نَارِهِ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
ومنه حديث ابن المسّيب: «أن إحدى عينَيْه ذهبتْ، وهو يَعْشُو بالأًخرى»، أي: يُبْصِر بها بصراً ضعيفاً. قال المفسرون: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فلم يَخَف عِقابه ولم يلتفت إِلى كلامه نقيِّضْ له أي: نسبب له شيطاناً فنجعل ذلك جزاءَه فهو له قرين لا يفارقه. وَإِنَّهُمْ يعني الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ يعني الكافرين، أي: يمنعونهم عن سبيل الهدى وإِنما جمع، لأن «مَنْ» في موضع جمع، وَيَحْسَبُونَ يعني كفار بني آدم إِنَّهُمْ على هدىً. حَتَّى إِذا جاءَنا وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «جاءنا» واحد، يعني الكافر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «جاءانا» بألفين على التثنية، يعنون الكافر وشيطانه. وجاء في التفسير أنهما يُجعلان يومَ البعث في سلسلة، فلا يفترقان حتى يًصَيِّرَهما الله إِلى النار، قال الكافر للشيطان: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي: بُعْدَ ما بين المَشْرِقَيْن وفيهما قولان: أحدهما: أنهما مَشْرِقُ الشمس في أقصر يوم في السنة، ومَشْرِقُها في أطول يوم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنه أراد المَشْرِق والمَغْرِب، فغلَّب ذِكْر المَشْرِق، كما قالوا: سُنَّة العُمَرَيْن، يريدون: أبا بكر وعمر، وأنشدوا من ذلك:
أَخَذْنا بِآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ... لَنا قَمراها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ «١»
يريد: الشمس والقمر وأنشدوا:
فَبَصْرَةُ الأزّدِ مِنَّا والعِراقُ لَنا... والمَوْصِلانِ ومِنَّا مِصْرُ والحَرَمُ
يريد: الجزيرة والموصل، وهذا اختيار الفراء، والزجاج.
قوله تعالى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي: أنتَ أيُّها الشَّيطان. ويقول الله عزّ وجلّ يومئذ للكفار: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أي: أشركتم في الدنيا أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي: لن ينفعكم الشِّركة في العذاب، لأن لكل واحد منه الحظَّ الأوفر. قال المبرِّد: مُنِعوا روح التَّأسِّي، لأن التَّأسِّيَ يُسهِّل المُصيبة، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى:
ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي... على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ... أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي
وقرأ ابن عامر: «إِنَّكم» بكسر الألف. ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشَّقاوة بقوله: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ... الآية.
(١) البيت للفرزدق، ديوانه: ٥١٩، و «الكامل» ١٢٤.
78

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤١ الى ٤٤]

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)
قوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ قال أبو عبيدة: معناها: فإن نَذْهَبَنَّ وقال الزجاج: دخلت «ما» توكيداً للشرط، ودخلت النون الثقيلة في «نَذْهَبَنَّ» توكيداً أيضاً والمعنى: إنّا ننتقِم منهم إِن تُوفيِّتَ َأوْ نُرِيَنَّكَ ما وَعَدْناهم ووعَدْناك فيهم من النَّصر. قال ابن عباس: ذلك يومَ بدر. وذهب بعض المفسرين إِلى أن قوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ منسوخ بآية السيف، ولا وجه له.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ يعني القرآن لَذِكْرٌ لَكَ أي شَرَفٌ لَكَ بما أعطاكَ اللهُ وَلِقَوْمِكَ في قومه ثلاثة أقوال: أحدها: العرب قاطبة. والثاني: قريش. والثالث: جميع من آمن به.
(١٢٥٣) وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا سئل: لِمَنْ هذا الأمرُ من بعدك؟
لم يُخْبِر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: «لقريش» وهذا يدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَهِم من هذا أنه يَلِي على المسلمين بحُكْم النًّبوَّة وشَرَفِ القرآن، وأن قومه يَخْلُفونه من بعده في الوِلاية لشرف القرآن الذي أُنزلَ على رجُلٍ منهم. ومذهب مجاهد أن القوم هاهنا: العرب، والقرآن شَرَفٌ لهم إِذْ أُنزلَ بلُغتهم.
قال ابن قتيبة: إنما وُضع الذِّكر موضعَ الشَّرَف لأن الشَّريف يُذْكَر. وفي قوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ قولان. أحدهما: عن شُكر ما أُعطيتم من ذلك. والثاني: عمّا لزمكم فيه من الحقوق.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٥ الى ٥٦]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إن قيل: كيف يسأل الرُّسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة «١» : أحدها: أنه لمّا أُسري به جُمع له الأنبياءُ فصلَّى بهم، ثم قال له جبريل: سل من أرسلنا
لا أصل له ذكره المصنف تعليقا، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، حيث روى تفسيرا كاملا عن الضحاك عن ابن عباس، وهو مصنوع، والضحاك لم يلق ابن عباس.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ١٩٢: وأولى القولين بالصوال في تأويل ذلك قول من قال: عني به:
سل مؤمني أهل الكتابين. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٥٢: قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا: أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد.
79
قَبْلَك... الآية. فقال: لا أَسألُ، قد اكتَفَيْتُ، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا قول سعيد بن جبير، والزهري، وابن زيد، قالوا: جُمع له الرُّسل ليلةَ أُسري به، فلقَيهم، وأُمر أن يسألَهم، فما شَكّ ولا سأل. والثاني: أن المراد: اسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إِليهم الأنبياء، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. قال ابن الأنباري: والمعنى سَلْ أتباع مَنْ أرسَلْنا قَبْلَكَ، كما تقول: السخاء حاِتم، أي: سخاء حاتِم، والشِّعر زهير، أي: شِعر زهير.
وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين. وقال الزجاج: هذا سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأمم، لم يأتوا بأن في كتبهم: أن اعبدوا غيري. والثالث: أن المراد بخطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: خطابُ أُمَّته، فيكون المعنى سَلُوا، قاله الزجاج. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ استهزاءً بها وتكذيباً.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يعني ما ترادف عليهم من الطُّوفان والجراد والقُمَّل والضَّفادع والدَّم والطَّمْس «١»، فكانت كُلُّ آية أكبرَ من التي قَبْلَها، وهي العذاب المذكور في قوله:
وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فكانت عذاباً لهم، ومعجزات لموسى عليه السلام. قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ، في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا: يا أيها العالِم، وكان الساحر فيهم عظيماً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله الحسن.
والثالث: أنهم خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسّاحر، قاله الزجّاج. قوله تعالى: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي: مؤمنون بك. فدعا موسى، فكُشف عنهم، فلم يؤمِنوا. وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في الأعراف «٢». قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: من تحت قصوري أَفَلا تُبْصِرُونَ عظَمتي وشِدَّةَ مُلكي؟! أَمْ أَنَا خَيْرٌ قال أبو عبيدة: أراد: بل أنا خَيْرٌ. وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا: عطف «أنا» ب «أمْ» على «أَفَلا تُبْصِرُونَ» فكأنه قال: أفلا تُبْصِرون أم أنتم بُصَراء؟! لأنهم إِذا قالوا:
أنتَ خيرٌ منه، فقد صاروا عنده بُصَراءَ. قال الزجاج: والمَهينِ: القليل يقال: شيء مَهِين، أي: قليل.
وقال مقاتل: «مَهِين» بمعنى ذليل ضعيف. قوله تعالى: وَلا يَكادُ يُبِينُ أشار إِلى عُقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه، فكأنه عيَّره بشيءٍ قد كان وزال، ويدل على زواله قوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «٣»، وكان في سؤاله وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «٤». وقال بعض العلماء: ولا يكاد يُبِين الحُجَّة ولا يأتي ببيان يُفْهم. فَلَوْلا أي: فهلاّ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وقرأ حفص عن عاصم: «أسْوِرةٌ» بغير ألف. قال الفراء: واحد الأساوِرة إِسْوار، وقد تكون الأساوِرة جمع أسْوِرة، كما يقال في جمع الأسْقِية: الأساقي، وفي جمع الأكْرُع: الأكارِع. وقال الزجاج: يصلُح أن تكون الأساوِرة جمع الجمع، تقول: أسْوِرَة وأساوِرة، كما تقول: أقوال وأقاويل، ويجوز أن تكون جمع إسْوار، وإنما صرفتَ أساوِرة، لأنك ضممتَ الهاء إِلى أساوِر، فصار اسماً واحداً، وصار له مثال في الواحد، نحو «علانية».
(١) في «اللسان» : الطموس: الدّروس والانمحاء، وطموس البصر: ذهاب نوره وضوئه.
(٢) الأعراف: ١٣٥.
(٣) طه: ٣٦. [.....]
(٤) طه: ٢٧.
80
قال المفسرون: إِنما قال فرعون هذا، لأنهم كانوا إذا سوَّدوا الرجل منهم سوَّروه بِسِوار. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فيه قولان: أحدهما: متتابعين، قاله قتادة: والثاني: يمشون معه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ قال الفراء: استفزَّهم وقال غيره: استخَفَّ أحلامَهم وحملهم على خِفَّة الحِلْم بكيده وغُروره فَأَطاعُوهُ في تكذيب موسى. فَلَمَّا آسَفُونا قال ابن عباس:
أغضبونا. قال ابن قتيبة: الأسَف: الغَضَب، يقال: أسِفْتُ آسَفُ أسَفاً، أي: غَضِبْتُ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي: قوماً تقدَّموا. وقرأها أبو هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وحميد الأعرج: «سُلَفاً» بضم السين وفتح اللام، كأن واحدته سُلْفَةٌ من الناس، مثل القِطعة، يقال: تقدمتْ سُلْفَةٌ من الناس، أي: قِطعة منهم. وقرأ حمزة، والكسائي: «سُلُفاً» بضم السين واللام، وهو جمع «سَلَف»، كما قالوا: خَشَب وخُشُب، وثَمَر وثُمُر، ويقال: هو جمع سَلِِيفٍ، وكلُّه من التقدُّم. وقال الزجاج: السَّلِيف جمعٌ قد مضى والمعنى: جعلْناهم سَلَفاً متقدِّمين ليتعظ بهم الآخرون. قوله تعالى: وَمَثَلًا أي: عبرة وعظة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٦]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦)
قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزّبعرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزل قوله: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... الآية «١». وقد شرحنا القصة في سورة الأنبياء «٢». والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مَثَلاً لآلهتهم وشبَّههوه بها، لأن تلك الآية إنما تضمنت ذِكْر الأصنام، لأنها عُبِدَتْ مِنْ دون الله، فألزموه عيسى، وضربوه مَثلاً لأصنامهم، لأنه معبود النصارى، والمراد بقومه: المشركون. فأمّا يَصِدُّونَ فقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بضم الصاد، وكسرها الباقون قال الزجاج: ومعناهما جميعاً: يَضِجُّون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يُعْرِضون. وقال أبو عبيدة: من كسر الصاد، فمجازها: يَضِجُّون، ومن ضمَّها، فمجازها: يَعْدِلون.
قوله تعالى: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ المعنى: ليست خيراً منه، فإن كان في النار لأنه عُبِدَ مِنْ دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتُنا بمنزلته. ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي: ما ذَكَروا عيسى إَلاّ ليجادلوك به، لأنهم قد عَلِموا أن المراد ب حَصَبُ جَهَنَّمَ «٣» ما اتخذوه من الموات بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: أصحاب خصومات.
(١) الأنبياء: ٩٨.
(٢) الأنبياء: ١٠١.
(٣) الأنبياء: ١٠١.
قوله تعالى: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي: آية وعبرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعرِفون به قُدرة الله على ما يريد، إِذ خلَقه من غير أب. ثم خاطب كفار مكة، فقال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: لَجَعَلْنا بدلاً منكم ملائكةً ثم في معنى «يَخْلُفُونَ» ثلاثة أقوال: أحدها:
يخلُف بعضُهم بعضاً، قاله ابن عباس. والثاني: يخلُفونكم ليكونوا بدلاً منكم، قاله مجاهد. والثالث:
يخلُفون الرُّسل فيكونون رسلاً إِليكم بدلاً منهم، حكاه الماوردي.
والقول الثاني: أن المعنى: «ولو نشاء لجَعَلْنا منكم ملائكة» أي: قَلَبْنَا الخِلقة فجَعَلْنا بعضَكم ملائكةً يخلُفون مَنْ ذهب منكم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تَرْجِع إِلى عيسى عليه السلام. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: نزولُ عيسى من أشراط الساعة يُعْلَم به قُربها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي. والثاني: أن إحياءَ عيسى الموتى دليلٌ على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إِسحاق. والقول الثاني: أنها تَرْجِع إلى القرآن، قاله الحسن وسعيد بن جبير. وقرأ الجمهور: «لَعِلْمٌ» بكسر العين وتسكين اللام وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن وقتادة وحميد وابن محيصن بفتحهما. قال ابن قتيبة: من قرأ بكسر العين فالمعنى أنه يُعْلَم به قُرْبُ الساعة، ومن فتح العين واللام فإنه بمعنى العلامة والدليل.
قوله تعالى: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي: فلا تَشُكُّنًّ فيها وَاتَّبِعُونِ على التوحيد هذا الذي أنا عليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قد شرحنا هذا في سورة البقرة «١». قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وفيها قولان: أحدهما: النُّبوَّة، قاله عطاء، والسدي. والثاني: الإِنجيل، قاله مقاتل.
وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي: من أمر دينكم وقال مجاهد: «بعضَ الذي تختلفون فيه» من تبديل التوراة وقال ابن جرير: من أحكام التوراة. وقد ذهب قوم إِلى أن البعض هاهنا بمعنى الكُلّ.
وقد شرحنا ذلك في حم المؤمن «٢» قال الزجاج: والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكُلّ، وإِنما بيَّن لهم عيسى بعض الذي اختلَفوا فيه ممّا احتاجوا إِليه وقد قال ابن جرير: كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم، فبيَّن لهم أمر دينهم فقط. وما بعد هذا قد سبق بيانه «٣» إلى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ يعني كفار مكة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ أي في الدنيا يَوْمَئِذٍ أي في القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن الخُلَّة إِذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوةً يومَ القيامة وقال مقاتل: نزلت في أميّة بن خلف وعقبة بن
(١) البقرة: ٨٧.
(٢) غافر: ٢٨.
(٣) النساء: ١٧٥- مريم: ٣٧.
أبي معيط إِلَّا الْمُتَّقِينَ يعني الموحِّدين. فإذا وقع الخوف يومَ القيامة نادى منادٍ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقول: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ، فينكِّس الكفار رؤوسهم. قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يا عبادي» بإثبات الياء في الحالين وإِسكانها، وحذفها في الحالين ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص، والمفضل عن عاصم، وخلف. وفي أزواجهم قولان: أحدهما: زوجاتهم. والثاني:
قرناؤهم. وقد سبق معنى تُحْبَرُونَ «١».
قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ قال الزجاج: واحدها صَحْفة، وهي القَصْعة. والأكواب، واحدها: كُوب، وهو إٍناء مستدير لا عُرْوَةَ له قال الفراء: الكُوب: الكوز المستدير الرأس الذي لا أُذُن له، وقال عديّ:
مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبوابُه يَسْعَى عليه العَبْدُ بالكُوبِ «٢»
وقال ابن قتيبة: الأكواب: الأباريق التي لا عُرى لها. وقال شيخنا أبو منصور اللغوي: وإنما كانت بغير عُرىً لِيَشرب الشارب من أين شاء، لأن العُروة تَرُدُّ الشارب من بعض الجهات.
قوله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تشتهيه» بزيادة هاءٍ. وحذفُ الهاء كإثباتها في المعنى. قوله تعالى: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ يقال: لَذِذْتُ الشيءَ، واستلذذتُه، والمعنى: ما من شيء اشتهتْه نَفْس أو استلذَّتْه عين إِلاّ وهو في الجنة، وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنة في هذين الوصفين، فإنه ما من نِعمة إِلاّ وهي نصيب النَّفْس أو العين، وتمام النَّعيم الخلود، لأنه لو انقطع لم تَطِب. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ يعني التي ذكرها في قوله: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» الَّتِي أُورِثْتُمُوها قد شرحنا هذا في الأعراف «٣» عند قوله: أُورِثْتُمُوها.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٨٣]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني الكافرين، لا يُفَتَّرُ أي: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ يعني في العذاب مُبْلِسُونَ قال ابن قتيبة: آيسون من رحمة الله. وقد شرحنا هذا في الأنعام «٤». وَما ظَلَمْناهُمْ أي: ما عذَّبْناهم على غير ذَنْبٍ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنفسهم بما جَنَوْا عليها. قال الزجاج:
والبصريُّون يقولون: «هُم» هاهنا فصل، كذلك يسمُّونها، ويسمِّيها الكوفيّون: العماد. قوله تعالى:
(١) الروم: ١٥.
(٢) البيت لعدي بن زيد وهو في «مجاز القرآن» : ٢/ ٢٠٦ و «تفسير القرطبي» ١٦/ ٩٩.
(٣) الأعراف: ٤٣.
(٤) الأنعام: ٤٤.
83
وَنادَوْا يا مالِكُ وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وابن يعمر: «يا مالِ» بغير كاف مع كسر اللام. قال الزجاج: وهذا يسميه النحويون: الترخيم، ولكني أكرهها لمخالفة المصحف. قال المفسرون: يَدْعُون مالكاً خازنَ النار فيقولون: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: لِيُمِتْنا والمعنى: أنهم توسَّلوا به ليَسأل الله تعالى لهم الموتَ فيستريحوا من العذاب فيسكُت عن جوابهم مُدَّةً، فيها أربعة أقوال:
أحدها: أربعون عاماً، قاله عبد الله بن عمرو، ومقاتل. والثاني: ثلاثون سنة، قاله أنس. والثالث: ألف سنة، قاله ابن عباس. والرابع: مائة سنة، قاله كعب. وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان.
أحدهما: أنه سكت حتى أوحى الله إِليه أَن أَجِبْهم، قاله مقاتل. والثاني: لأن بُعْدَ ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذَلُّ. قال الماوردي: فردَّ عليهم مالك فقال: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي: مقيمون في العذاب. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ أي: أرسَلْنا رسلنا بالتوحيد وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ قال ابن عباس: يريد: كُلّكم كارِهُونَ لِما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً في «أَمْ» قولان: أحدهما: أنها للاستفهام. والثاني: بمعنى «بل».
والإِبرام: الإِحكام. وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال: أحدها: المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليقتُلوه أو يُخْرِجوه حين اجتمعوا في دار النّدوة وقد سبق بيان القصة «١»، قاله الأكثرون. والثاني: أنه إِحكام أمرهم في تكذيبهم، قاله قتادة. والثالث: أنه: إِبرامُ أمرهم يُنجيهم من العذاب، قاله الفراء. فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي:
مُحْكِمون أمراً في مجازاتهم. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وهو ما يُسِرُّونه من غيرهم وَنَجْواهُمْ ما يتناجَوْن به بينهم بَلى والمعنى: إنّا نَسمع ذلك وَرُسُلُنا يعني من الحَفَظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ في «إِنْ» قولان «٢» : أحدهما: أنها بمعنى الشرط، والمعنى: إِن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم، فعلى هذا في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: فأنا أول الجاحدين، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن أعرابيَّين اختصما إليه، فقال أحدهما: إِن هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أوّل
(١) الأنفال: ٣٠.
(٢) قال الطبري في «تفسيره» ١١/ ٢١٦: وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى (إن) الشرط الذي يقتضي الجزاء وذلك أن «إن» لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء، أو تكون بمعنى الجحد، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى لأنه يصير بمعنى: قل ما كان للرحمن ولد، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أن يقولوا له: صدقت، وهو كما قلت ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد، ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتج لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وعلى مكذبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه، ذلك إذ كان في توجيهنا «إن» إلى معنى الجحد على ما ذكرنا، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط، ومعنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد فأنا أول عابديه بذلك منكم، ولكنه لا ولد له، فأنا أعبده بأنه لا ولد له، ولا ينبغي أن يكون له، وهذا لم يكن على وجه الشك، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحسن الخطاب. ووافقه ابن كثير وقال في «تفسيره» ٤/ ١٦٠:
أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده، مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس عندي إباء عن عبادته، فلو فرض كان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، كما قال تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
84
العابدين الجاحدين أن لله ولداً. والثاني: فأنا أوَّل مَنْ عَبَدَ اللهَ مخالفاً لقولكم، هذا قول مجاهد. وقال الزجاج: معناه: إن كنتم تزعُمون للرحمن وَلَداً، فأنا أوَّل الموحِّدين. والثالث: فأنا أول الآنفين لله مما قُلتم، قاله ابن السائب، وأبو عبيدة «١». قال ابن قتيبة: يقال: عَبِدْتُ من كذا، أَعبَدُ عَبَداً، فأنا عبد وعابد، قال الفرزدق:
وأَعْبَدُ أنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِدارِمِ «٢»
أي: آنَفُ. وأنشد أبو عبيدة:
وأَعْبَدُ أن أسُبَّهُمُ بقَوْمِي وأُوثِرُ دارِماً وبَنِي رَزاحِ
والرابع: أن معنى الآية: كما أنِّي لستُ أول عابدٍ لله، فكذلك ليس له ولد وهذا كما تقول: إن كنتَ كاتباً فأنا حاسبٌ، أي: لستَ كاتباً ولا أنا حاسبٌ حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة. والقول الثاني: أنّ «إِنْ» بمعنى «ما»، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد فيكون المعنى:
ما كان للرحمن ولد، فأنا أولُ من عَبَدَ اللهَ على يقين أنه لا وَلَدَ له. وقال أبو عبيدة: الفاء على هذا القول بمعنى الواو.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يعني كفار مكة يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وابن محيصن وأبو جعفر: «حتَّى يَلْقَوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف. والمراد: يلاقوا يوم القيامة، وهذه الآية عند الجمهور منسوخة بآية السّيف.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال مجاهد، وقتادة: يُعْبَد في السماء ويُعْبَد في الأرض. وقال الزجاج: هو الموحَّد في السماء وفي الأرض. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «في السماء اللهُ وفي الأرض الله» بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما. وما بعد هذا قد سبق بيانه «٣» إِلى قوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ.
(١٢٥٤) سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ١٦١: وهذا القول فيه نظر، لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره: إن كان هذا فأنا ممتنع منه؟ هذا فيه نظر فليتأمل. اللهم إلا أن يقال: إن (إن) ليست شرطا، وإنما هي نافية. [.....]
(٢) هو عجز بيت وصدره: أولئك قوم إن هجوني هجوتهم.
(٣) الأعراف: ٥٤، لقمان: ٣٤.
85
نتولّى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمدٍ، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي معنى الآية قولان «١» : أحدهما: أنه أراد بالذين يَدْعَون مِنْ دونه: آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيرَ والملائكةَ، فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة. والثاني: أن المراد بالذين يَدْعُون:
عيسى وعزيرُ والملائكةُ الذين عبدهم المشركون بالله لا يَمْلِك هؤلاء الشفاعةَ لأحد إِلَّا مَنْ شَهِدَ أي:
إلاَ لِمَنْ شَهِد بِالْحَقِّ وهي كلمة الإِخلاص وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنّ الله عزّ وجلّ خلق عيسى وعزير والملائكة، وهذا مذهب قوم، منهم مجاهد. وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به.
قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ قال قتادة: هذا نبيُّكم يشكو قومَه إِلى ربِّه. وقال ابن عباس: شكا إلى الله تخلُّف قومه عن الإِيمان. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «وقِيلَه» بنصب اللام وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أضمر معها قولاً، كأنه قال: وقال قيلَه، وشكا شكواه إِلى ربِّه. والثاني:
أنه عطف على قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وقِيلَه فالمعنى: ونَسمع قِيلَه، ذكر القولين الفراء، والأخفش. والثالث: أنه منصوب على معنى: وعنده عِلْم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، لأن معنى «وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» : يَعْلَم الساعة ويَعْلَم قِيلَه، هذا اختيار الزجاج. وقرأ عاصم وحمزة: «وقِيلهِ» بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إِلى الياء والمعنى: وعنده عِلْم الساعة وعِلْمُ قِيلِه. وقرأ أبو هريرة وأبو رزين وسعيد بن جبير وأبو رجاء والجحدري وقتادة وحميد برفع اللام والمعنى: ونداؤه هذه الكلمة: يا ربّ ذكر عِلَّة الخفض والرفع الفراء والزجاج.
قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: فأعْرِض عنهم وَقُلْ سَلامٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قُلْ خيراً بدلاً من شرِّهم، قاله السدي. والثاني: ارْدُد عليهم معروفاً، قاله مقاتل. والثالث: قُلْ ما تَسْلَم به من شرِّهم، حكاه الماوردي. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يَعْلَمون عاقبة كفرهم. والثاني:
أنك صادق. والثالث: حلول العذاب بهم، وهذا تهديد لهم: «فسوف يعلمون». وقرأ نافع، وابن عامر: «تعلمون» بالتاء. ومن قرأ بالياء، فعلى الأمر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطبهم بهذا، قاله مقاتل فنَسختْ آيةُ السيف الإعراض والسّلام.
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٦١: قوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي من الأصنام، والأوثان (الشفاعة) أي لا يقدرون على الشفاعة لهم، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحقّ على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. وقال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٢١٩: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد بالحق، وشهادته بالحق: هو إقراره بتوحيد الله، يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده، فأثبت جل ثناؤه للملائكة وعيسى وعزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه. ووافقهما القرطبي في «تفسيره» ١٦/ ١٠٦ وقال: وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يدل على معنيين: أحدهما- أن الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أي شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها.
86
Icon