ﰡ
مكية إلا ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾، نزلت ببيت المقدس ليلة أُسري به - ﷺ - (١)، وآيها: تسع وثمانون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وأربع مئة حرف، وكلمها: ثماني مئة وثلاث وثلاثون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿حم (١)﴾.[١] ﴿حم﴾ خبر مبتدأ محذوف.
...
﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)﴾.
[٢] ثم تبتدئ مقسمًا ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ يعني: القرآن الذي أبان الهدى، وما تحتاج إليه الأمة.
[٣] وجواب القسم: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ أي: أنزلناه وبيناه، ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق، وهو إخبار عليه وقع القسم، والضمير في (جَعَلْنَاهُ) عائد على (الْكِتَابِ).
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ بلسانكم؛ لئلا يبقى لكم عذر.
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تَرَجٍّ بحسب معتقد البشر؛ أي: إذا أبصر المبصر من البشر هذا الفعل منا، يرجى منه أن يعقل الكلام، ويفهم؛ لأنه لو نزل بغير لغتهم، ما فهموه.
...
﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: القرآن ﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ في اللوح المحفوظ. قرأ حمزة، والكسائي: (إِمَّ) بكسر الهمزة حالة الوصل إتباعًا، وإذا ابتدأا، ضمَّاها، وبه قرأ الباقون في الحالين (١).
﴿لَدَيْنَا﴾ عندنا ﴿لَعَلِيٌّ﴾ رفيع الشأن ﴿حَكِيمٌ﴾ ذو حكمة بالغة.
...
﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥)﴾.
[٥] ثم استفهم منكرًا فقال: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ أفنترك
﴿قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ في كفركم، فلا تؤمرون ولا تنهون.
...
﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ﴾ تسليةٌ لنبيه - ﷺ -.
...
﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٧)﴾.
[٧] وذكرُ أسوةٍ له، ووعيد لهم وتهديد: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ كاستهزاء قومك بك.
...
﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)﴾.
[٨] ﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ﴾ أي: من قريش ﴿بَطْشًا﴾ نصب على التمييز. ﴿وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي: سلفَ في القرآن في غير موضع ذكرُ قصتهم التي يُسار بها لشهرتها مسيرَ الأمثال، وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
[٩] ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يعني: قومَك.
﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ وهم مع ذلك يعبدون أصنامًا، ويدعونها آلهتهم، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا: خلقهن الله، فلما ذكر تعالى المعنى، جاءت العبارة عن الله تعالى بالعزيز العليم؛ ليكون ذلك توطئة لما عدَّدَهُ بعدُ من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها، وقطعها من الكلام الذي حكي معناه عن قريش.
...
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)﴾.
[١٠] وهو قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ فتستقرون فيها. قرأ الكوفيون: (مَهْدًا) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف، والباقون: بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها (١) ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ طرقًا تسلكونها ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد.
[١١] ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ بمقدار الحاجة، ولم يكن طوفانًا كالمرسَل على قوم نوح حتى أهلكهم.
﴿فَأَنْشَرْنَا﴾ فأحيينا ﴿بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ مال عنه النماء، وذُكِّر؛ لأن البلدة بمعنى البلد. قرأ أبو جعفر: (مَيِّتًا) بتشديد الياء، والباقون: بتخفيفها (١).
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ إحياء هذه البلدة الميتة بالمطر ﴿تُخْرَجُونَ﴾ من قبوركم أحياءً. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان عن ابن عامر: (تَخْرُجُونَ) بفتح التاء وضم الراء، والباقون: بضم التاء وفتح الراء (٢).
...
﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ﴾ الأصناف.
﴿كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ في البحر والبر.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٠٢ - ١٠٣).
[١٣] ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ ذُكِّر الضمير ردًّا إلى لفظ (ما)؛ أي: لتثبتوا على ظهور ما تركبونه.
﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ﴾ عليكم ﴿إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ على مركوبكم.
﴿وَتَقُولُوا﴾: ما نُقل عن النبي - ﷺ - حين وضع رجلَه في الركاب، وهو: "باسم الله"، فلما استوى على الدابة قال: "الحمد لله ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ (١)؛ أي: ذلله. قرأ أبو عمرو: (سَخَّر لّنَا) بإدغام الراء في اللام (٢) ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ مُطيقين، ثم حمد الله ثلاثًا، وكبر ثلاثًا، ثم قال: "لا إله إلا الله، ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت" (٣)، ويقال إذا ركب السفينة: ﴿فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: ٤١].
...
﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ لمنصرفون في المعاد.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٠٣).
(٣) انظر: تخريج الحديث السابق.
[١٥] ﴿وَجَعَلُوا لَهُ﴾ أي: حكموا أن لله تعالى ﴿مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ أي: نصيبًا، وهو قولهم: الملائكة بنات الله؛ لأن الولد جزء الوالد. قرأ أبو جعفر: (جُزًّا) بتشديد الزاي بغير همز، وقرأ أبو بكر: بضم الزاي والهمز، والباقون: بالجزم والهمز (١).
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ ظاهر الكفران.
...
﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦)﴾.
[١٦] ثم جيء (بأَم) المنقطعة تجهيلًا لهم، فقيل: ﴿أَمِ اتَّخَذَ﴾ تعالى لنفسه.
﴿مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ﴾ أَخْلَصَكم.
﴿بِالْبَنِينَ﴾ هذا مستحيل في صفاته.
...
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا﴾ بالجنس الذي جعل له مثلًا؛ إذ الولد لا بد أن يماثل الوالد.
﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ والكظيم: الممتلئ غيظًا، الذي قد ردَّ غيظَه إلى جوفه، فهو يتجرَّعُه ويروم رده، وهذا محسوس عند الغيظ.
...
﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)﴾.
[١٨] ثم زاد توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يُنَشَّأُ) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين؛ أي: يُرَبَّى، وقرأ الباقون: بفتح الياء وإسكان النون وتخفيف الشين (١)؛ أي: يَنْبُتُ ﴿فِي الْحِلْيَةِ﴾ في الزينة؛ يعني: النساء ﴿وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ بالحجة؛ من ضعفهن، والمعنى: أو يُجعل للرحمن من الولد (٢) مَنْ هذه صفتُه؟
...
﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (عِنْدَ) بالنون ساكنة وفتح الدال من غير ألف على أنه ظرف، وتصديقه قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦]، وقرأ
(٢) "من الولد" زيادة من "ت".
﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَأُشْهِدُوا) بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة على أصلهما، مع إسكان الشين، وفصل بينهما بألف: أبو جعفر، وقالون على أصلهما؛ أي: أَأُحْضِروا، وقرأ الباقون: بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين (٢)؛ أي: أحضروا خلقَ الملائكة إناثًا؟ وهذا استهزاء بهم، وتوبيخ لهم.
روي أنه - ﷺ - قال: "وما يُدريكم أن الملائكةَ إناثٌ؟ " قالوا: سمعنا من آبائنا، ونشهد بصدقهم، فنزل:
﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ﴾ (٣) على آبائهم بأنوثة الملائكة هنا.
﴿وَيُسْأَلُونَ﴾ عنها في الآخرة، فيجازون عليها.
...
﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ يعنون: الملائكة وغيرهم؛ أي: لو لم يرض، لعجَّلَ عقوبتنا.
(٢) المصادر السابقة.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٩٥)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٧٣).
...
﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ثم زادهم توبيخًا فقال: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ﴾ من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله ﴿فَهُمْ بِهِ﴾ بالكتاب (١) ﴿مُسْتَمْسِكُونَ﴾.
...
﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] فلم يجيبوا انقطاعًا، ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ طريقة وملة.
﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين، فلا حجة لهم على ذلك غير تقليد آبائهم الجهلة.
...
﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾ أغنياؤها ورؤساؤها:
...
﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿قَالَ﴾ قرأ ابن عامر، وحفص: (قَالَ) على الخبر، وقرأ الباقون: (قُلْ) على الأمر (١) ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ﴾ ألف الاستفهام دخلت على واو العطف. قرأ أبو جعفر: (جِئْنَاكُمْ) بنون وألف على الجمع، ويبدل الهمزة ياء ساكنة، ويصل الميم بواو في اللفظ حالة الوصل على أصله، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة على التوحيد، وأبو عمرو يبدل الهمزة كأبي جعفر، وابن كثير وقالون يصلان الميم بخلاف عن الثاني (٢).
﴿بِأَهْدَى﴾ بدينٍ أصوبَ.
﴿مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ أتتبعون آباءكم، فأبوا أن يقبلوا.
﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ أيها الرسل.
﴿كَافِرُونَ﴾ أي: ثابتون على الكفر.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٩٥)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٩)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٠٨).
[٢٥] ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ بإهلاكهم.
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ وعيد لقريش، وضربُ مثل لمن سلف من الأمم المعذَّبة المكذِّبة بأنبيائها كما كذبت هي برسول الله - ﷺ -.
...
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي: واذكر وقتَ قوله ﴿لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾:
﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ أي: متبرئ ولا يُثَنَّى (البراءُ) ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأنه مصدر وُضع موضعَ النعت ﴿مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ من آلهتكم.
...
﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكن الذي فطرني لا أبرأ منه.
﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ يرشدني، قال هنا: (سَيَهْدِينِ)، وقال في الشعراء [الآية: ٧٨]: (يَهْدِينِ)؛ للإيذان بدوام الهداية حالًا واستقبالًا. قرأ يعقوب: (سَيَهْدِينِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (١).
[٢٨] ﴿وَجَعَلَهَا﴾ إبراهيم ﴿كَلِمَةً﴾ يعني: كلمة التوحيد.
﴿بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله.
﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أي: كفار مكة ﴿يَرْجِعُونَ﴾ إلى الإيمان إذا علموا أن أباهم إبراهيم أوصى بذلك، وهي قوله -عز وجل-: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢].
...
﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ﴾ المشركين بدنياهم ﴿وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾ القرآنُ ﴿وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ يبين الأحكام ويوضحها، وهو محمد - ﷺ -.
...
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾ القرآنُ؛ لينبههم عن غفلتهم، جاؤوا بما هو أقبح من غفلتهم؛ حيث ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ ضموا إلى شركهم: معاندةَ الحق، واستخفافَ القرآن، واستحقارَ الرسول - ﷺ -.
﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَقَالُوا لَوْلَا﴾ هَلَّا ﴿نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ﴾ مكةَ
...
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ثم قال تعالى: على جهة التوبيخ لهم: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ أي: نبوَّتَه، فيجعلون من شاؤوا أنبياء مع عجزهم؟ و (رَحْمَت) رسمت بالتاء في سبعة مواضع، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (١). ثم قال تعالى:
﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ﴾ ما يعيشون به ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لأنا قادرون على ذلك.
﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ بالفقر والغنى، والحرية والرق ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ بضم السين باتفاق القراء؛ من التسخير؛ أي: ليسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب معاش، فيلتئم قوام أمر العالم.
﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ﴾ الجنة ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من الأموال.
[٣٣] ثم أومأ تعالى إلى أن لا قدر للدنيا عنده بقوله: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: لولا أن يصيروا كلهم كفارًا، فيجتمعون على الكفر.
﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ﴾ وتبدل من (لِمَنْ) ﴿لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (سَقْفًا) بفتح السين وإسكان القاف مفردًا، وقرأ الباقون: بضم السين والقاف جمعًا (١).
﴿وَمَعَارِجَ﴾ مصاعِدَ، جمع مَعْرَج ﴿عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ يعلون إلى السطح.
...
﴿وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا﴾ من فضة ﴿عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾ قرأ أبو جعفر: (يَتَّكُونَ) بضم الكاف وإسكان الواو من غير همز، والباقون: بكسر الكاف والهمز (٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١١٢).
[٣٥] ﴿وَزُخْرُفًا﴾ ذهبًا؛ أي: لولا الخوف على المؤمن، لأعطينا الكافر هنا عطاءً جزيلًا؛ إذ لاحظ له في الآخرة في النعيم.
﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿لَمَّا﴾ قرأ عاصم، وحمزة، وابن جماز عن أبي جعفر، وهشام بخلاف عنه: (لَمَّا) بتشديد الميم، فتكون (إِنْ) نافية بمعنى (ما)، و (لَمَّا) بمعنى (إلَّا)، تقديره: وما كلُّ ذلك إلَّا، وقرأ الباقون: بتخفيف الميم (١)، فتكون (إِنْ) مخففة من الثقيلة، و (لَمَا) بمعنى الذي، والعائد عليها من صلتها محذوف، والتقدير: وإنْ كلُّ ذلك لَلَّذِي هو.
﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تلخيصه: حطام الدنيا يزول، وقد يشترك فيه المؤمن والكافر في الدنيا.
﴿وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ أي: الجنة خاصة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الكفرَ.
قال - ﷺ -: "لو كانتِ الدنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضة، لما سقى منها كافرًا شربةَ ماء" (٢).
(٢) رواه الترمذي (٢٣٢٠)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل وقال: صحيح غريب، وابن ماجه (٤١١٠)، كتاب: الزهد، باب: مثل الدنيا. من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-.
[٣٦] ﴿وَمَنْ يَعْشُ﴾ يُعرض ﴿عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ فلم يخفْ عقابه، والمراد بذكر الرحمن: القرآن (١).
[قال رسول الله - ﷺ -: "عليكم بلا إلهَ إلا اللَّهُ، والاستغفار، وأكثروا منهما؟ فإن إبليس قال: أهلكتُ الناسَ بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار، ولا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك، أهلكتهم بالأهواء، وهم يحسبون أنهم مهتدون"] (٢) (٣).
﴿نُقَيِّضْ﴾ نسبب ﴿لَهُ شَيْطَانًا﴾ نسلطه عليه. قرأ يعقوب: (يُقَيِّضْ) بالياء؛ أي: الرحمن، وقرأ الباقون: بالنون، واختلف عن أبي بكر راوي عاصم (٤).
﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ لا يفارقه يغويه دائمًا.
(٢) ما بين معكوفتين ساقطة من "ت".
(٣) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (١/ ٩)، وأبو يعلى في "مسنده" (١٣٦)، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٠/ ٢٠٧): فيه عثمان بن مطر. وهو ضعيف.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٩٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١١٤).
[٣٧] ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ يعني: الشياطين ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ يمنعون العاشِين.
﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾ عن طريق الهدى ﴿وَيَحْسَبُونَ﴾ كفارُ الإنس ﴿أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
...
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (جَاءَانَا) بألف بعد الهمزة على التثنية؛ أي: العاشي والشيطان، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد (١)؛ أي: إذا جاء العاشي القيامةَ، ورأى أهوالَها ﴿قَالَ﴾ لشيطانه تندمًا:
﴿يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ﴾ أي: بُعْدَ ما بينَ المشرق والمغرب، فغلِّب المشرقُ كتغليب القمر في القمرين للشمس والقمر.
﴿الْقَرِينُ﴾ الشيطانُ.
...
﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)﴾.
[٣٩] فعند دخول العاشين النار يقال لهم: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ﴾ في الآخرة.
...
﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٠)﴾.
[٤٠] ولما كان - ﷺ - يبالغ في طلب إيمان الكفار، نزل إيماءً إلى أن لا نافعَ إلا هو تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ والمراد: من حقت عليه كلمة العذاب.
...
﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ يا محمد؛ بأن نُميتك قبلَ تعذيب الكفار، هنا قرأ رويس عن يعقوب: (نَذْهَبَنْ) (أو نُرِيَنْكَ) بإسكان النون مخففة فيهما، والباقون: بفتحها مشددة فيهما (٢).
﴿فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ بعدك بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١١٥ - ١١٦).
[٤٢] ﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ﴾ في حياتك ﴿الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ﴾ به من العذاب إن لم يؤمنوا.
﴿فَإِنَّا عَلَيْهِمْ﴾ وعلى إهلاكهم ﴿مُقْتَدِرُونَ﴾ قادرون.
...
﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن، واعمل به، أمرٌ له - ﷺ - والمرادُ غيرُه.
﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لا عِوَجَ له.
...
﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: القرآن ﴿لَذِكْرٌ﴾ لشرفٌ ﴿لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ قريش.
﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ عن القيام بحق القرآن.
...
﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ أي: الأنبياء الذين لقيتَهم ليلةَ الإسراء، وهم سبعون جُمعوا له ببيت المقدس:
﴿أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ ومعنى السؤال: التقريرُ لمشركي
...
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وهذه آية ضرب مثل وأسوة لمحمد - ﷺ - بموسى عليه السلام، ولكفار قريش بقوم فرعون وملئه، والآيات التي أرسل بها موسى هي التسع وغيرها.
...
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ استهزاءً.
...
﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)﴾.
﴿إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ التي قبلها؛ ليكون العذاب أعظم. قرأ يعقوب: (نُرِيهِمُ) بضم الهاء، وقرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وقالون بخلاف عنه: (نُرِيهمُو) بصلة الميم بواو في اللفظ (١) حالة الوصل، والباقون: بكسر الهاء وإسكان الميم (٢).
﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ﴾ بالسنين، والطوفان، وغيرِهما.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن كفرهم.
...
﴿وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] وعند مجيء موسى -عليه السلام- بالآيات، ذلوا ﴿وَقَالُوا﴾ تعظيمًا له:
﴿يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ﴾ أي: العالم الكامل. قرأ ابن عامر: (يَا أَيُّهُ) بضم الهاء في الوصل، والباقون: بفتحها، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: يقفون (يَا أَيُّهَا) بالألف، والباقون: بغير ألف (٣) ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ﴾ أي:
(٢) انظرها عند تفسير الآية (٦) من سورة البقرة.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٦١ - ١٦٢)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١١٧ - ١١٨).
﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ مؤمنون، وعدٌ منهم معلن بشرط الدعاء.
...
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ﴾ بدعاء موسى.
﴿إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ ينقُضون عهدَهم، ويُصِرُّون على كفرهم.
...
﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ افتخارًا.
﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ وهو من نحو الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ﴾ وهي الخلجان الكبار الخارجة من النيل، وأعظمها نهر الإسكندرية، وتنبس، ودمياط، ونهر طولون ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ أي: من تحت قصوري وسريري، وبين يدي (١)، وفي بساتيني.
قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي - رحمه الله - يومًا في قول فرعون: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾: ويحه! افتخر بنهر ما أجراه ما أجراه. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب، وقنبل عن ابن كثير: (تَحْتِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٧)، =
...
﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿أَمْ﴾ أي: بل ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ ضعيف حقير.
﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ معنى كلامه إشارة إلى العقدة في لسانه التي حدثت بسبب الجمرة.
...
﴿فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿فَلَوْلَا﴾ فهلَّا ﴿أُلْقِيَ عَلَيْهِ﴾ إن كان صادقًا ﴿أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ جمع سِوار؛ لأنهم إذا سَوَّدوا رجلًا، ألبسوه أسورة ذهب، وطوقوه طوق ذهب، فقال فرعون: هلَّا ألقى رب موسى عليه من السماء أسورة من ذهب إن كان سيدًا تجب طاعته. قرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (أَسْوِرَةٌ) بإسكان السين من غير ألف بعدها جمع سوار، وقرأ الباقون: بفتح السين وألف بعدها (١)، جمع أسورة، وهي جمع الجمع.
﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ متتابعين يشهدون بصدقه.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٧)، و "تفسير البغوي" (٤/ ١٠٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١١٩ - ١٢٠).
[٥٤] ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ﴾ استعجلهم وطلب خِفَّتهم، وطلب (١) إجابتهم إلى غرضه ﴿فَأَطَاعُوهُ﴾ فيما يريده.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
...
﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ أغضبونا (٢).
﴿انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ في اليم.
...
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا﴾ قرأ حمزة، والكسائي: بضم السين واللام، جمع سَليف؛ من سلَفَ؛ أي: تقدم، وقرأ الباقون: بفتحهما (٣)، جمع سالف؛ أي: جعلناهم متقدمين؛ ليتعظ بهم الآخرون ﴿وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ بعدَهم، يتمثلون بحالهم، فلا يُقْدِمون على مثل فعالهم.
(٢) "أغضبونا" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٧)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٢٠).
[٥٧] ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا﴾ في خلقه من غير أب، فشبه بآدم في خلقه من غير أب ولا أم، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩].
﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وعاصم، وحمزة: بكسر الصاد؛ أي: يَضِجُّون، يقولون: ما يريد محمدٌ منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهًا؛ كما عبدت النصارى عيسى، وقرأ الباقون: بضم الصاد (١)؛ أي: يعرضون.
...
﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾ يعنون محمدًا، فنعبده ونترك آلهتنا. قرأ الكوفيون، وروح عن يعقوب: (آَالِهَتُنَا) بتحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية (٢)، ولم يدخل هنا أحد بينهما ألفًا؛ لئلا يصير اللفظ في تقدير أربع ألفات: الأولى همزة الاستفهام، والثانية الألف الفاصلة، والثالثة همزة القطع، والرابعة المبدلة من الهمزة الساكنة، وذلك إفراط في التطويل، وخروج عن كلام العرب.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٨٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٦٤ - ٣٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٢١ - ١٢٢).
﴿إِلَّا جَدَلًا﴾ خصومة بالباطل.
﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ لُدٌّ شديدو الخصومة، والجدل: فتل الخصم عن قصده؛ لطلب صحة قوله، وإبطال غيره، وهو مأمور به على وجه الإنصاف وإظهار الحق بالاتفاق.
...
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي: عيسى ﴿إِلَّا عَبْدٌ﴾ مربوبٌ، فلا يجوز أن يكون إلهًا، لكن ﴿أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ بالنبوة ﴿وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا﴾ آية ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يستدلون بها على قدرة الله على خلقه من غير أب.
...
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ﴾ أي: أهلكناكم، وجعلنا بدلًا منكم.
﴿مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ يكونون خَلَفًا منكم.
...
﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: نزول عيسى ﴿لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ أي: شرط من أشراط الساعة.
﴿هَذَا﴾ الذي آمرُكم به ﴿صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ لا يضل سالكه. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر: (وَاتّبَعُونبي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (١).
...
﴿وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ﴾ يصرفَنَّكم ﴿الشَّيْطَانُ﴾ عن دين الله.
﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ بَيِّنُ العداوة.
...
﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى﴾ بني إسرائيل ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات والشرائع ﴿قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ﴾ بشرائع الإنجيل ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ من أحكام التوراة؛ لأنهم اختلفوا في أمر الدين وغيره، فبين لهم أمر الدين دون أمر الدنيا.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ قرأ يعقوب: (وَأَطِيعُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٢٤).
[٦٤] ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ بيان لما أمرهم به، وهو التوحيد.
﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ حكاية عن عيسى؛ إذ أشار إلى شرعه.
...
﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ﴾ الذين تحزبوا من بني إسرائيل، فمنهم من آمن به، وهو قليل، وكفر الغير، وهذا إذ كان معهم حاضرًا ﴿مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ من تلقائهم، ومن أنفسهم ثار شرهم، ولم يدخل عليهم اختلاف من غيرهم.
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وهم المشركون.
﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ هو يوم القيامة.
...
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينتظرون؛ يعني: قريشًا ﴿إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ فجأة دون مقدمة ولا إنذار بها ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ لاشتغالهم بالدنيا.
...
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿الْأَخِلَّاءُ﴾ على المعصية في الدنيا ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يومَ القيامة.
...
﴿يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿يَاعِبَادِ﴾ أي: يقال للمتقين: يا عبادي. قرأ أبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (يَا عِبَادِيَ) بفتح الياء، ووقفا عليها ساكنة، وأسكنها نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابن عامر في الوصل والوقف، وحذفها الباقون في الحالين، وهذه الياء مثبتة في مصاحف المدينة والشام، محذوفة في مصحف أهل مكة والعراق (١).
﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.
...
﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩)﴾.
[٦٩] روي أن الناس يبعثون، وكلٌّ فزع، فينادي مناد: ﴿يَاعِبَادِ﴾ الآية، فيرجوها الناس كلهم، فإذا قيل: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ فييئسون منها غير المسلمين (٢).
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٢١/ ٦٣٩)، وانظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٠٦).
[٧٠] ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ تُسَرُّون.
...
﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٧١)﴾.
[٧١] فإذا دخلوا الجنة، واستقروا فيها ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ﴾ بقِصاع ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ جمع صحيفة، وهي القصعة الواسعة ﴿وَأَكْوَابٍ﴾ جمع كوب، وهي أباريق لا عرا لها ولا خراطيم؛ ليشرب الشارب من حيث شاء.
﴿وَفِيهَا﴾ أي: في الجنة ﴿مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ﴾ تلذذًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: (تشتَهِيهِ) بزيادة هاء ضمير مذكر بعد الياء على الأصل، وكذلك هو في المصاحف المدنية والشامية، وقرأ الباقون: بحذفها استخفافًا، وكذلك هو في مصاحف العراق (١) ﴿وَتَلَذُّ﴾ أي: تلتذُّ به ﴿الْأَعْيُنُ﴾ إذا شوهد.
﴿وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون.
...
﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَتِلْكَ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿الْجَنَّةُ﴾ صفتها.
﴿لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ في الحديث: "لا ينزعُ رجلٌ من الجنة من ثمرها إلَّا نبت مكانها مِثْلاها" (٢).
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾ وهم الكفار ﴿فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ خبر (إن).
﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿لَا يُفَتَّرُ﴾ لا يُخَفَّف ﴿عَنْهُمْ﴾ العذابُ.
﴿وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ آيسون.
(٢) رواه البزار في "مسنده" (١٠/ ٤١٤ - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والطبراني في "المعجم الكبير" (١٤٤٩)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. قال الهيثمي: وأحد إسنادي البزار ثقات.
[٧٦] ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ بأن وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه.
﴿وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ بأن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها، ووضعوا الكفر في جنب الله.
...
﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿وَنَادَوْا﴾ عند طول مكثهم وشدة العذاب: ﴿يَامَالِكُ﴾ يدعون خازن النار ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ أي: ليمتنا فنستريح، قال مجيبًا لهم بعد ألف سنة:
﴿قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ مقيمون في العذاب.
...
﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ثم يقال لهم توبيخًا: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ﴾ أي أرسلنا إليكم رسولَنا.
﴿بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ لما في اتباعه من إتعاب النفس، وقد ورد لفظ القضاء في القرآن على عشرة أوجه: الأول: بمعنى الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ [الآية: ٢٠٠]، الثاني: بمعنى وجوب العذاب، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة أيضًا: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [الآية: ٢١٠]، الثالث: بمعنى تقدير المدة، ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾ [الآية: ٢]، الرابع: بمعنى التمام، ومنه قوله في سورة الأنعام أيضًا: ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الآية: ٦٠]،
...
﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿أَمْ أَبْرَمُوا﴾ أحكموا: أهل مكة ﴿أَمْرًا﴾ في كيد محمد - ﷺ -؛ كما فعلوا في اجتماعهم على قتله في دار الندوة، إلى غير ذلك.
﴿فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ كيدَنا بإهلاكهم.
...
﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾ ما يخطر ببالهم ﴿وَنَجْوَاهُمْ﴾ ما يتناجون بينهم جهرًا ﴿بَلَى﴾ نسمعُها ﴿وَرُسُلُنَا﴾ الحفظةُ ﴿لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ ما يُسرون وما يُعلنون.
[٨١] ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ في زعمكم. قرأ حمزة، والكسائي: (وُلْدٌ) بضم الواو وإسكان اللام، والباقون: بفتحهما (١) ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ لله؛ فإنه واحد لا شريك له، ولا ولد، نزلت لما قيل: الملائكة بنات الله؛ تبكيتًا لهم. قرأ نافع، وأبو جعفر: (فَأَنَا أَوَّلُ) بالمد (٢).
...
﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ثم نزه تعالى نفسه، فقال: ﴿سُبْحَانَ﴾ الله (٣).
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ يقولون؛ من الكذب، وخص السموات والأرض والعرش؛ لأنها أعظم المخلوقات.
...
﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا﴾ في باطلهم ﴿وَيَلْعَبُوا﴾ في دنياهم.
﴿حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ فيه العذاب، وهو يوم القيامة. قرأ
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٠ - ٢٣١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٢٧ - ١٢٨).
(٣) لفظ الجلالة "الله" سقط من "ت".
...
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ أي: هو النافذ أمره في كل شيء، وهو المستحق لأن يُعبد في السماء والأرض.
﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ في تدبير خلقه.
﴿الْعَلِيمُ﴾ بصلاحهم. واختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ) كاختلافهم فيهما من قوله (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: ٣٣].
...
﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿وَتَبَارَكَ﴾ تعظَّمَ وتقدَّس.
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من جميع الموجودات.
﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ أي: علمُ تحديدِ قيامها، والوقوف على تعيينه وحصره.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف،
...
﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَلَا يَمْلِكُ﴾ آلهتُهم ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ من دون الله ﴿الشَّفَاعَةَ﴾ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكن من شهد.
﴿بِالْحَقِّ﴾ وهم عيسى وعزير والملائكة، فإنهم عُبدوا من دون الله، ويملكون شفاعة بأن يملِّكها الله إياهم؛ إذ هم ممن شهد بالحق، وهو قول لا إله إلا الله كلمة التوحيد.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم.
...
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ يُصْرَفون (٢) عن عبادته.
(٢) "يصرفون" زيادة من "ت".
[٨٨] ﴿وَقِيلِهِ يَارَبِّ﴾ يعني: قول محمد - ﷺ - شاكيًا إلى ربه: يا ربِّ ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قرأ عاصم، وحمزة: (وَقِيلِهِ) بخفض اللام وكسر الهاء على معنى: وعندَه علمُ الساعة وعلمُ قيلِه: يا رب! وقرأ الباقون: بنصب اللام وضم الهاء (١)، ولها وجهان: أحدهما: معناه: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، وقيلَه: يا رب! والوجه الثاني: وقالَ وقيلَه.
...
﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿فَاصْفَحْ﴾ فاعف ﴿عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ أي: قولًا تسلم به من شرهم، ومعناه: المتاركة، ونسختها آية السيف.
﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ وعيدٌ من الله لهم، وتسليةٌ للنبي - ﷺ -. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (تَعْلَمُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (٢)، والله أعلم.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٧)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٨١٠) و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٣١).