تفسير سورة الطور

اللباب
تفسير سورة سورة الطور من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الطور مكية وهي تسع وأربعون آية، وثلاثمائة واثنتي١ عشرة كلمة، وألف وخمسمائة حرف٢.
١ كذا في النسختين. والصحيح واثنتا رفعا..
٢ وانظر البغوي والقرطبي في مرجعيهما ٦/٢٤٨ و١٧/٥٨..

مكية وهي تسع وأربعون آية، وثلاثمائة واثنتي عشرة كلمة، وألف وخمسمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿والطور﴾ وما بعده أقسام جوابها ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ والواوات التي بعد الأولى عواطف لا حروف قسم كما تقدم في أول هذا الكتاب عن الخليل.
ونكر الكتابَ تفخيماً وتعظيماً.

فصل


مناسبة هذه السورة لما قبلها من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما، وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها، لأن في آخرها قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٦٠] وفي أول هذه السورة ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [الطور: ١١] وفي آخر تلك السورة قوله: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً﴾ [الذاريات: ٥٩] ؛ وذلك إشارة إلى العذاب، وقال هَهُنَا: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ.

فصل


قيل: المراد بالطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالأرض المقدسة، أقسم الله به. وقيل: هو الجبل الذي قال الله تعالى: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ [
113
التين: ٢]. وقيل: هو اسم جنس، والمراد بالكتاب المسطور كتاب موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وهو التوراة. وقيل: الكتاب الذي في السماء، وقيل: صحائف أعمال الخلق، وقال تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾ [الإسراء: ١٣]. وقيل: الفرقان. والمراد بالمسطور المكتوب.
قوله: فِي رَقِّ يجوز أن يتعلق «بمَسْطُورٍ» ؛ أي مكتوب في رَقٍّ. وجوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً آخر لكتاب وفيه نظر؛ لأنه يشبه تَهْيئَةَ العَامِلِ للعَمَلِ وقطْعِهِ منْهُ.
والرَّقُّ - بالفتح - الجلد الرقيق يكتب فيه. وقال الرَّاغِب: الرق ما يكتبُ فيه شبه كاغد. انتهى فهو أعم من كونه جلداً أو غيرَهُ. ويقال فيه: رِقٌّ بالكسر. فأما مِلْكُ العبيد فلا يقال إلا رِقٌّ بالكسر. وقال الزَّمخشري: والرَّقُّ الصحيفة. وقيل: الجلد الذي يكتب فيه. انتهى. وقد غلط بعضهم من يقول: كَتَبْتُ في الرِّقّ بالكسر؛ وليس بغلط لثبوته به لُغَةً.
وقد قرأ أبو السَّمَّال: في رِقٍّ، بالكسر.
فإِن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ﴾ وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ورقه؟!.
فالجواب: أن هذا إِشارة إلى الوضع لأن الكتاب المطويَّ لا يعلم ما فيه فقال: في رق منشور أي ليس كالكتب المطويّة أي منشورٌ لكم لا يمنعكم أحدٌ من مُطَالَعتِهِ.
(قوله: «والبيت المعمور» قيل: هو بيت في السماء العليا تحت العرش بِحيَالِ الكَعْبَةِ يقال له: الصّراح حُرْمَتُهُ في السماء كحُرْمَةِ الكعبة في الأرض يدخله كُلَّ يوم سبعونَ ألفاً من الملائكة يطُوفُونَ به ويُصَلُّون فيه، ثم لا يعودون إليه أبداً.
ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة. وقيل: هو بيت الله الحرام وهو معمورٌ بالحُجَّاج الطائفين به.
114
وقيل: اللام في «البيت المعمور» لتعريف جنس كأنه يُقْسِمُ بالبيوتِ المَعْمُورة والعمائر المشهورة).
قوله: «والسَّقْفِ المَرْفُوعِ» يعني السماء. ونظيرِه: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾
[الأنبياء: ٣٢].
قوله: «والبَحْر المَسْجُور» قيل: هو من الأضداد، يقال: بَحْرٌ مَسْجُورٌ أي مملوء، وبَحْرٌ مَسْجُورٌ أي فارغٌ. وروى ذو الرمة الشاعر عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - أنه قال: خرجت أُمةٌ لتَسْتَقي فَقَالَتْ: إِن الحَوْضَ مَسْجُورٌ؛ أي فارغ. ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة.
وقيل: المسجور الممسوك، ومنه ساجُور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه. وقال محمد بن كعب القرظيّ والضَّحَّاكُ: يعني الموقَد المحمّى بمنزلة التَّنُّور المُحَمَّى، وهو قول ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) ؛ لما روى أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ﴾ [التكوير: ٦].
وروى عَبْدُ اللَّهِ بْن عُمَرَ - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْراً إلاَّ غَازِياً أَوْ مُعْتَمِراً أَوْ حَاجًّا، فَإِنَّ تَحْتَ البَحْرِ نَاراً وتَحْتَ النَّارِ بَحْراً» وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالمالح. وروى الضحاك عن النّزّال بن سَبْرَةَ عن علي أنه قال: البحر المسجور: هو بحر تحت العرش، كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظٌ، يقال له: بحرُ الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم. وهذا قول مقاتل.

فصل


قيل: الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي: الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق
115
وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال لربه: «سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ، لاَ أُحصي ثناءَ عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك». وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ونادى في الظلمات: ﴿أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه (الأماكن) مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب (واقترانه بالطور أدل على ذلك؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور).

فصل


أقسم في بعض السور بجموع كقوله: ﴿والذاريات﴾ [الذاريات: ١] ﴿والمرسلات﴾ [المرسلات: ١] ﴿والنازعات﴾ [النازعات: ١] وفي بعضها بأفراد كقوله: «والطُّورِ» ولم يقل: والأَطوار والبِحار.
قال ابن الخطيب: والحكمة فيه: أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر، فقال: «والذاريات» إشارة إلى النوع المستمر، لا الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت غير متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد، وكذلك في قوله:
﴿والنجم﴾ [النجم: ١]، ولو قال: «والريح» لما علم المقسَمُ به، وفي الطور عُلِمَ.
قوله: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ نازل وكائن. وقوله: «مِنْ دَافِعٍ» يجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً، وأن تكون صفة لواقع أي واقع غير مدفوع. قال أبو البقاء. و «مِنْ دَافِعٍ» يجوز أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ و «مِنْ» مزيدة على الوجهين.
116

فصل


قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعمٍ: قدمت المدينة لأكلمَ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أُسَارَى بدر فدفعت إليه وهي يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ «والطور» إلى قوله: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ فكأنما صُدِّع قلبي حين سمعت (هـ) ولم أَكُنْ أُسْلِمُ يومئذ قال: فأسلمتُ خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقومَ من مكاني حتى يقع بي العذاب.
117
والمراد بالكتاب المسطور كتاب موسى عليه الصلاة والسلام، وهو التوراة. وقيل : الكتاب الذي في السماء، وقيل : صحائف أعمال الخلق، وقال تعالى :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٣ ]. وقيل : الفرقان. والمراد بالمسطور المكتوب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
قيل : الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي : الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عليه الصلاة والسلام - وقال لربه :«سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ، لاَ أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك». وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عليه الصلاة والسلام -، ونادى في الظلمات :﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه ( الأماكن ) ١٠ مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب ( واقترانه١١ بالطور أدل على ذلك ؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور ).

فصل


أقسم في بعض السور بجموع كقوله :﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ] ﴿ والمرسلات ﴾ [ المرسلات : ١ ] ﴿ والنازعات ﴾ [ النازعات : ١ ] وفي بعضها بأفراد كقوله :«والطُّورِ» ولم يقل : والأَطوار والبِحار.
قال ابن الخطيب : والحكمة فيه : أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر، فقال :«والذاريات» إشارة إلى النوع المستمر، لا الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت غير١٢ متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد، وكذلك في قوله :﴿ والنجم ﴾ [ النجم : ١ ]، ولو قال :«والريح» لما علم المقسَمُ به، وفي الطور عُلِمَ١٣.

قوله : فِي رَقِّ يجوز أن يتعلق «بمَسْطُورٍ » ؛ أي مكتوب في رَقٍّ١. وجوَّز أبو البقاء٢ أن يكون نعتاً آخر لكتاب٣ وفيه نظر ؛ لأنه يشبه تَهْيئَةَ العَامِلِ للعَمَلِ وقطْعِهِ منْهُ.
والرَّقُّ - بالفتح - الجلد الرقيق يكتب فيه٤. وقال الرَّاغِب : الرق ما يكتبُ فيه شبه كاغد٥. انتهى فهو أعم من كونه جلداً أو غيرَهُ. ويقال فيه : رِقٌّ بالكسر. فأما مِلْكُ العبيد فلا يقال إلا رِقٌّ بالكسر٦. وقال الزَّمخشري : والرَّقُّ الصحيفة. وقيل : الجلد الذي يكتب فيه٧. انتهى. وقد غلط بعضهم من يقول : كَتَبْتُ في الرِّقّ بالكسر ؛ وليس بغلط لثبوته به لُغَةً٨.
وقد قرأ أبو السَّمَّال : في رِقٍّ، بالكسر٩.
فإِن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى :﴿ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ ﴾ وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ورقه ؟ !.
فالجواب : أن هذا إِشارة إلى الوضع لأن الكتاب المطويَّ لا يعلم ما فيه فقال : في رق منشور أي ليس كالكتب المطويّة أي منشورٌ لكم لا يمنعكم أحدٌ من مُطَالَعتِهِ١٠.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
قيل : الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي : الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عليه الصلاة والسلام - وقال لربه :«سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ، لاَ أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك». وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عليه الصلاة والسلام -، ونادى في الظلمات :﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه ( الأماكن ) ١٠ مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب ( واقترانه١١ بالطور أدل على ذلك ؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور ).

فصل


أقسم في بعض السور بجموع كقوله :﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ] ﴿ والمرسلات ﴾ [ المرسلات : ١ ] ﴿ والنازعات ﴾ [ النازعات : ١ ] وفي بعضها بأفراد كقوله :«والطُّورِ» ولم يقل : والأَطوار والبِحار.
قال ابن الخطيب : والحكمة فيه : أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر، فقال :«والذاريات» إشارة إلى النوع المستمر، لا الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت غير١٢ متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد، وكذلك في قوله :﴿ والنجم ﴾ [ النجم : ١ ]، ولو قال :«والريح» لما علم المقسَمُ به، وفي الطور عُلِمَ١٣.


١ في (ب) القرآن..
٢ التبيان ١١٨٣..
٣ نعتا له أي لكتاب أي كائنا في رق..
٤ وهو قوله الجوهري في الصّحاح "رقق". ولكن الفراء في المعاني ٣/٩٠ له رأي آخر سأذكره بعد..
٥ في المفردات: شبه الكاغد قال في اللسان: الكاغد معروف، وهو فارسي معرّب. انظر المفردات: "رقق" ٢٠٠ واللسان "كغد"..
٦ وانظر اللسان "رقق" ١٧٠٧..
٧ الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال الكشاف ٤/٢٢..
٨ بدليل قول الزمخشري السابق وقول الفراء في المعاني ٣/٩١: "والرق الصحائف التي تخرج إلى بني آدم"..
٩ بنفس المعنى. انظر البحر ٨/١٤٦. وهي شاذة..
١٠ الرازي ٢٨/٢٤٠..
( قوله :«والبيت المعمور » قيل : هو بيت في السماء العليا تحت العرش بِحيَالِ الكَعْبَةِ يقال له : الصّراح حُرْمَتُهُ في السماء كحُرْمَةِ الكعبة في الأرض يدخله كُلَّ يوم سبعونَ ألفاً من الملائكة يطُوفُونَ به ويُصَلُّون فيه، ثم لا يعودون إليه أبداً١.
ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة. وقيل : هو بيت الله الحرام وهو معمورٌ بالحُجَّاج الطائفين به.
وقيل : اللام في «البيت المعمور » لتعريف جنس كأنه يُقْسِمُ بالبيوتِ المَعْمُورة والعمائر المشهورة ) ٢.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
قيل : الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي : الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عليه الصلاة والسلام - وقال لربه :«سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ، لاَ أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك». وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عليه الصلاة والسلام -، ونادى في الظلمات :﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه ( الأماكن ) ١٠ مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب ( واقترانه١١ بالطور أدل على ذلك ؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور ).

فصل


أقسم في بعض السور بجموع كقوله :﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ] ﴿ والمرسلات ﴾ [ المرسلات : ١ ] ﴿ والنازعات ﴾ [ النازعات : ١ ] وفي بعضها بأفراد كقوله :«والطُّورِ» ولم يقل : والأَطوار والبِحار.
قال ابن الخطيب : والحكمة فيه : أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر، فقال :«والذاريات» إشارة إلى النوع المستمر، لا الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت غير١٢ متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد، وكذلك في قوله :﴿ والنجم ﴾ [ النجم : ١ ]، ولو قال :«والريح» لما علم المقسَمُ به، وفي الطور عُلِمَ١٣.


١ وهذا رأي علي وابن عباس انظر القرطبي ١٧/٥٩ و٦٠..
٢ الرازي ٢٨/٢٣٩. هذا وما بين القوسين كله سقط من نسخة "ب"..
قوله :«والسَّقْفِ المَرْفُوعِ » يعني السماء. ونظيرِه :﴿ وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾١ [ الأنبياء : ٣٢ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
قيل : الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي : الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عليه الصلاة والسلام - وقال لربه :«سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ، لاَ أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك». وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عليه الصلاة والسلام -، ونادى في الظلمات :﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه ( الأماكن ) ١٠ مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب ( واقترانه١١ بالطور أدل على ذلك ؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور ).

فصل


أقسم في بعض السور بجموع كقوله :﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ] ﴿ والمرسلات ﴾ [ المرسلات : ١ ] ﴿ والنازعات ﴾ [ النازعات : ١ ] وفي بعضها بأفراد كقوله :«والطُّورِ» ولم يقل : والأَطوار والبِحار.
قال ابن الخطيب : والحكمة فيه : أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر، فقال :«والذاريات» إشارة إلى النوع المستمر، لا الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت غير١٢ متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد، وكذلك في قوله :﴿ والنجم ﴾ [ النجم : ١ ]، ولو قال :«والريح» لما علم المقسَمُ به، وفي الطور عُلِمَ١٣.


١ وانظر القرطبي السابق والبغوي ٦/٢٤٧..
قوله :«والبَحْر المَسْجُور » قيل : هو من الأضداد، يقال : بَحْرٌ مَسْجُورٌ أي مملوء، وبَحْرٌ مَسْجُورٌ أي فارغٌ١. وروى ذو الرمة الشاعر عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) ٢- أنه قال : خرجت أُمةٌ لتَسْتَقي فَقَالَتْ : إِن الحَوْضَ مَسْجُورٌ ؛ أي فارغ٣. ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة.
وقيل : المسجور الممسوك، ومنه ساجُور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه٤. وقال محمد بن كعب القرظيّ والضَّحَّاكُ : يعني الموقَد المحمّى بمنزلة التَّنُّور المُحَمَّى، وهو قول ابن عباس ( - رضي الله عنهما - )٥ ؛ لما روى أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ ﴾ [ التكوير : ٦ ].
وروى عَبْدُ اللَّهِ بْن عُمَرَ - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) ٦ - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْراً إلاَّ غَازِياً أَوْ مُعْتَمِراً أَوْ حَاجًّا، فَإِنَّ تَحْتَ البَحْرِ نَاراً وتَحْتَ النَّارِ بَحْراً ». وقال الربيع بن أنس : المسجور المختلط العذب بالمالح. وروى الضحاك عن النّزّال٧ بن سَبْرَةَ٨ عن علي أنه قال : البحر المسجور : هو بحر تحت العرش، كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظٌ، يقال له : بحرُ الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم. وهذا قول مقاتل٩.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
قيل : الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي : الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عليه الصلاة والسلام - وقال لربه :«سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ، لاَ أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك». وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عليه الصلاة والسلام -، ونادى في الظلمات :﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه ( الأماكن ) ١٠ مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب ( واقترانه١١ بالطور أدل على ذلك ؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور ).

فصل


أقسم في بعض السور بجموع كقوله :﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ] ﴿ والمرسلات ﴾ [ المرسلات : ١ ] ﴿ والنازعات ﴾ [ النازعات : ١ ] وفي بعضها بأفراد كقوله :«والطُّورِ» ولم يقل : والأَطوار والبِحار.
قال ابن الخطيب : والحكمة فيه : أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر، فقال :«والذاريات» إشارة إلى النوع المستمر، لا الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت غير١٢ متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد، وكذلك في قوله :﴿ والنجم ﴾ [ النجم : ١ ]، ولو قال :«والريح» لما علم المقسَمُ به، وفي الطور عُلِمَ١٣.


١ رواه صاحب اللسان عن أبي عليّ. وانظر اللسان "سجر" ١٩٤٣ كما رواه أيضا عن أبي زيد..
٢ زيادة من (أ)..
٣ وقال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وانظر القرطبي ١٧/٦١..
٤ اللسان سجر ١٩٤٣..
٥ زيادة من (أ)..
٦ زيادة من (أ)..
٧ في (ب) البزار..
٨ وفي كلتا النسختين سَمُرة والتصحيح من البغوي..
٩ وانظر هذه الأقوال في تفسير البغوي ٦/٢٤٩..
قوله :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ نازل وكائن. وقوله :«مِنْ دَافِعٍ » يجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً، وأن تكون صفة لواقع أي واقع غير مدفوع. قال أبو البقاء١. و «مِنْ دَافِعٍ » يجوز أن يكون فاعلاً٢، وأن يكون مبتدأ٣ و«مِنْ » مزيدة على الوجهين.

فصل


قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعمٍ : قدمت المدينة لأكلمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أُسَارَى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ «والطور » إلى قوله :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ فكأنما صُدِّع قلبي حين سمعت ( ه ) ولم أَكُنْ أُسْلِمُ٤ يومئذ قال : فأسلمتُ خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقومَ من مكاني حتى يقع بي العذاب٥.
١ التبيان ١١٨٣..
٢ لـ "له" أن تكون نائب فاعل أي ما وُجد له دافع يدفع العذاب..
٣ والخبر: "له" وهو يكون –أي دافع- مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد..
٤ في البغوي: ولم يكن أسلم يومئذ، وفي (ب) ولم أكن أسلمت والبغوي و(ب) هما الواضحان بالمقصود..
٥ وانظر تفسير البغوي والخازن ٦/٢٤٩..
قوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السمآء﴾ يجوز أن يكون العامل فيه: «واقع» أي يقع في ذلك اليوم. وعلى هذا فتكون الجملة المنفية معترضة بين العامل ومعموله. ويجوز أن يكون العامل فيه «دافع». قاله الحَوْفِيُّ، وأبو البقاء. ومنعه مَكِّيٌّ.
قال أبو حيان: ولم يذكر دليل المنع. قال شهاب الدين: وقد ذكر دليل المنع في الكشف إلا أنه ربما يكون غلطاً عليه فإنه وَهَمٌ، وعبارته قال: العامل فيه واقعٌ أي إن عذاب ربك لَوَاقِعٌ في يوم تَمُورُ السَّماء، ولا يعمل فيه «دافع» ؛ لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النّافي، لا يقول: طَعَامَكَ ما زَيْدٌ آكلاً، رفعت آكلاً أو نصبته أو أدخلت عليه الباء. فإن رفعت الطعام بالابتداء وأوقعت «آكلاً» على «هاء» جاز وما بعد الطعام خبراً. انتهى.
117
وهذا كلام صحيح في نفسه، إلا أنه ليس في الآية شيءٌ من ذلك؛ لأن العامل - وهو دافع - والمعمول - وهو يوم - كلاهما بعد النافي وفي حَيِّزِهِ. وقوله: وأوْقَعْتَ آكلاً على هاء أي على ضمير يعود على الطعام فتقول: طَعَامَكَ مَا زيْدٌ آكِلُه.
وقد يقال: إن وجه المنع من ذلك خوف الوَهَم أنه يفهم أن أحداً يدفع العذاب في غير ذلك اليوم. والغرض أن عذاب الله لا يدفع في كل وقت وهذا أمرٌ مناسب قد ذكر مثلهُ كثيرٌ، ولذلك منع بعضهم أن ينتصب ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ [آل عمران: ٣٠] بقوله: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٩] لئلا يفهم منه ما لا يليق. وهذا أبعد من هذا في الوَهَم كثير.
وقال أبو البقاء: وقيل: يجوز أن يكون ظرفاً لما دل عليه «فَوَيْلٌ» انتهى.
وقال ابن الخطيب: والذي أظنه أن العامل هو الفعل المدلول عليه بقوله: ﴿مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ [الطور: ٨] ؛ لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم، لأن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحَشْر ومَوْر السَّماء لأنه في معنى قوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].

فصل


والمَوْرُ الاضطراب والحركة. يقال: مَارَ الشيْءُ أي ذهب وجاء. وقال الأخفش وأبو عبيدةَ تَكْفَأُ وأنشد للأعشى:
٤٥٣٢ - كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا مَوْرُ السَّحَابَةِ لاَ رَيْثٌ وَلاَ عَجَلُ
وقال الزمخشري: وقيل: هو تحرك في تموج. وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة وهي الجلدة التي فوق قُفْل الركبة. وقال الراغب: المَوْر: الجريان
118
السريع ومَار الدَّمُ على وجهه والمُور - أي بالضم - التراب المتردد به الريح.
وأكد بالمصدرية دفعاً للمجاز أي هذان الجرمان العظيمان مع كثافتهما يقع ذلك منهما حقيقة.
وقال ابن الخطيب: فيه فائدة جليلة، وهي أن قوله: «وتَسِيرُ الجِبَالُ» يحتمل أن يكون بياناً لكيفية مور السماء؛ لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر السماء كالسائرة إلى خلاف تلك الجهة، كما يشاهده راكب السفينة، فإنه يرى الجبلَ الساكن متحركاً فكان لقائل أن يقول: السماء تمُور في رأي العين بسبب سير الجبال كما يَرَى القمرَ سائراً راكبُ السفينة، والسماء إذا كانت كذلك فلا يبقى مَهْرَب ولا مَفْزَع لا في الأرض ولا في السماء.

فصل


لما ذكر أن العذاب واقع بين أنه متى يقع العذاب، فقال: يوم تمور السماء موراً، قال المفسرون: أي تَدُورُ كما يدور الرَّحَا وتَتَكفأ بأهلها تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ.
قال عطاء الخُراسَانيّ: يختلف أجزاؤها بعضها في بعض.
وقيل: تضطرب. ﴿وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً﴾ فتزول عن أماكنها، وتصير هباءً منثوراً، وهذا إيذان وإعلام بأن لا عود إلى السماء لأن الأرضَ والجبالَ والسماءَ والنجومَ كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم فإذا لم يبقَ فيها نفع فلذلك أعدمها الله تعالى.
قوله: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ يومئذ منصوب «بوَيلٍ» والخبر «للمكذبين». والفاء في قوله «فَوَيْلٌ» قال مكي: جواب الجملة المتقدمة وحسن ذلك، لأن في الكلام معنى الشرط، لأن المعنى إذا كان ما ذُكِرَ فَويْلٌ.
قال ابن الخطيب: أي إذا علم أن عذاب الله واقع، وأنه ليس له دافع فويل إذَنْ للمكذبين؛ فالفاء لاتصال المعنى، ولمعنى آخر وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان، لأنه لما قال: إن عذاب ربك لواقع وأنه ليس له دافع لم يبين موقعه بِمَنْ، فلما قال: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ علم المخصوص (به) وهو المكذب.
فإن قيل: إذا قلت بأن قوله: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ بيان لمن يقع به العذاب فمن
119
لا يكذب لا يعذب فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يُكَذِّبون.
فالجواب: أن ذلك العذاب لا يقع إلا على أهل الكبائر، وإنما هذا كقوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ [الملك: ٨ و٩] فالمؤمن لا يُلْقَى فيها إلقاء بهوان، وإنما يُدْخَلُ فيها للتطهير إدْخَالاً مع نوع إكرامٍ، والويل إنما هو للمكَذِّبِينَ.
والويل ينبئ عن الشدة، لأن تركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن وُقُوع شدةٍ، ومنه لَوَى إذا دافع ولَوَاه يلويه إِذا فَتَلَهُ فَتْلاً قوياً.
والوَلِيُّ فيه القوة على المُولَى عَلَيْهِ. وقد تقدم وجه جواز التنكير في قوله: «وَيْلٌ» مع كونه مبتدأ؛ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ [الذاريات: ٢٥].
قوله: ﴿الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ الخَوْضُ: هو الاندفاع في الأباطيل، قال تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩] وقال تعالى: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين﴾ [المدثر: ٤٥].
وتنكير الخوض يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون للتكثير أي في خوضٍ عظيم.
الثاني: أن يكون التنوين عوضاً عن المضاف إليه، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [هود: ١١١] والأصل في خوضهم المعْرُوف منهم. وقوله: يعلبون أي غافلون لاهون.
واعلم أن قوله تعالى: ﴿الذين هُمْ فِي خَوْضٍ﴾ ليس وصفاً للمكذبين بما يميزهم، وإنما هو للذم كقولك: «الشيطانُ الرجيمُ» ولا تُرِيدُ فَصْله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك: أَكْرِمِ الرَّجُلَ العَالِمَ فالوصف بالرجيم للذم له لا للتعريف.
وتقول في المدح: الله الذي خلق، والله العظيم للمدح لا للتمييز، ولا للتعريف عن إله لم يخلق أو إله ليس بعظيم، فإن الله واحد لا غير.
قوله: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ﴾ يجوز أن يكون ظرفاً «ليُقَالُ» المقدرة مع قوله: ﴿هذه النار﴾ [الطور: ١٤] يوم يدعون المكذبين؛ لأن معناه يوم يقع العذابُ ذلك اليوم وهو يوم يُدَعُّون فيه إِلى النار.
120
والعامة على فتح الدال وتشديد العين من دَعَّهُ يَدُعُّهُ أي دفعه في صدره بعُنْفٍ وشِدَّةٍ. قال الراغب: وأصله أن يقال للعاثر: دع كما يقال له لَعاً.
وهذا بعيد من معنى هذه اللفظة.
وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسّلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة من الدُّعَاءِ أي يُدْعَوْنَ إليها فيقال لهم: هَلُمُّوا فادخلوها.
قوله: دَعًّا مصدر معناه تدفعهم الملائكة دفعاً على وجوههم بعُنْفٍ أي يُدْفَعُونَ إِلى النار، فإِذا دَنَوْا منها قال لهم خزنتها: هَذِهِ النَّار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ﴾ يدل على أن خزنتها يقذفونهم في النار وهم بعيداً عنها وقوله تعالى: ﴿يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨] يدلّ على أنهم فيها.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن الملائكة يَسْحَبُونَهُمْ في النار، ثم إذا قربوا من نار مخصوصة وهي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في نار، والدفع في نار أشد وأقوى، بدليل قوله: ﴿يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾ [غافر: ٧١ و٧٢]. أي يسحبون في حَمْوَةِ النار، ثم بعد ذلك يكون لهم إِدخالٌ.
الثاني: يجوز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى النار يدفعهم ملك وفي النار يَسْحَبُهُم آخر.
الثالث: أن يكون السحبُ بسَلاَسِلَ أي يسحبون في النار، والساحب خارج النار.
الرابع: أن يكون الملائكة يدفعونهم إِلى النار إهانةً لهم، واستخفافاً بهم ويدخلون معهم النار ويسحبونهم.
قوله: «أَفَسِحْرٌ» خبر مقدم و «هذا» مبتدأ مؤخر.
121
ودخلت الفاء قال الزمخشري: بمعنى كنتم تقولون للوحي: هذَا سِحرٌ فسحر هذا يريد هذا المِصْداق أيضاً سحر؛ ودخلت الفاء لهذا المعنى، وهذا تحقيقٌ للأمر؛ لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين: إما لأمر عائدٍ إلى المرئيّ، وإمَّا لأمرٍ عائد إلى الرائي، فقوله: «أَفَسحرٌ هَذَا» أي هل في الموت شكٌّ أمْ هل في بصركم خَلَل؟! فهو استفهام إنكار أي لا أمر مِنْهُمَا ثابتٌ فالذي تَرَوْنَهُ حق وقد كنتم تقولون: إنه ليس بحق، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلى السحر، وأنه يغطي الأبصار بالسِّحر، وانشقاق القمر وأمثاله سحر، فوبخوا به، وقيل لهم: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون.
قوله: اصْلَوْ (هَا) أي إذْ لم يمكنكم إنكارها، وتحقق أنه ليس بسحر ولا خَلَل في أبصاركم فاصْلَوْهَا؛ أي قاسوا شدتها. ﴿فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ﴾ أي الصبر وعدمه سواءٌ، وهذا بيان لعدم الخَلاص.
قوله: «سَوَاءٌ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي صبركم وتركه سواء. قاله أبو البقاء.
والثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف أي سواء الصبرُ والجزعُ، قاله أبو حيان.
قال شَهابُ الدِّين: والأول أحسن، لأن جعل النكرة خبراً أولى من جعلها مبتدأ وجعلِ المَعْرِفَةِ خبراً.
ونحا الزمخشري مَنْحَى الوجه الثاني فقال: «سواء» خبره محذوف أي سواء عليكم الصَّبْرَانه الصبرُ وَعَدَمُهُ.
قوله: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيه لطيفة، وهي أن المؤمن بإِيمانه اسْتَفَادَ أن الخير الذي يَنْويهِ يُثَابُ عَلَيْه، والشَّرَّ الذي يقصِدُهُ ولا يقع منه لا يعاقَبُ عليه ولا ظلم، فإن الله تعالى أخبره به وهو اختار ذلك ودخل (فيه) باختياره، فإن الله تعالى قال بأن من كفر ومات كافراً عذبته أبداً فاحذَرُوا، ومن آمن أَثَبْتُهُ دائماً فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعدما سمع ذلك فإذا عوقب دائماً فهو تحقيق لما أَوْعَدَ به فلا يكون ظلماً.
122
وقال ابن الخطيب : فيه فائدة جليلة، وهي أن قوله :«وتَسِيرُ الجِبَالُ » يحتمل أن يكون بياناً لكيفية مور السماء ؛ لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر السماء كالسائرة إلى خلاف تلك الجهة، كما يشاهده راكب السفينة، فإنه يرى الجبلَ الساكن متحركاً فكان لقائل أن يقول : السماء تمُور في رأي العين بسبب سير الجبال كما يَرَى القمرَ سائراً راكبُ السفينة، والسماء إذا كانت١ كذلك فلا يبقى مَهْرَب ولا مَفْزَع لا في الأرض ولا في السماء.

فصل


لما ذكر أن العذاب واقع بين أنه متى يقع العذاب، فقال : يوم تمور السماء موراً، قال المفسرون : أي تَدُورُ كما يدور الرَّحَا وتَتَكفأ بأهلها تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ.
قال عطاء الخُراسَانيّ : يختلف أجزاؤها بعضها في بعض.
وقيل : تضطرب. ﴿ وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً ﴾ فتزول عن أماكنها، وتصير هباءً منثوراً، وهذا إيذان وإعلام بأن لا عود إلى السماء٢ لأن الأرضَ والجبالَ والسماءَ والنجومَ كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم فإذا لم يبقَ فيها نفع فلذلك أعدمها الله تعالى٣.
١ في الرازي مارت. وانظر الرازي ٢٨/٢٤٣، واللسان "مور"..
٢ الصحيح كما في (ب) والرازي: الدنيا فالمعنى يحتم ذلك..
٣ وانظر الرازي ٢٨/٢٤٣ ورأي الخراساني في البغوي ٦/٢٤٩..
قوله :﴿ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ يومئذ منصوب «بوَيلٍ » والخبر «للمكذبين ». والفاء في قوله «فَوَيْلٌ » قال مكي : جواب الجملة المتقدمة١ وحسن ذلك، لأن في الكلام معنى الشرط، لأن المعنى إذا كان ما ذُكِرَ فَويْلٌ٢.
قال ابن الخطيب : أي إذا علم أن عذاب الله واقع، وأنه ليس له دافع فويل إذَنْ للمكذبين ؛ فالفاء لاتصال المعنى، ولمعنى آخر وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان، لأنه لما قال : إن عذاب ربك لواقع وأنه ليس له دافع لم يبين موقعه بِمَنْ، فلما قال :﴿ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ علم المخصوص ( به )٣ وهو المكذب٤.
فإن قيل : إذا قلت بأن قوله :﴿ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ بيان لمن يقع به العذاب فمن لا يكذب لا يعذب فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يُكَذِّبون.
فالجواب : أن ذلك العذاب لا يقع إلا على أهل الكبائر، وإنما هذا كقوله :﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ﴾ [ الملك : ٨ و٩ ] فالمؤمن لا يُلْقَى فيها إلقاء بهوان، وإنما يُدْخَلُ فيها للتطهير إدْخَالاً مع نوع إكرامٍ، والويل إنما هو للمكَذِّبِينَ.
والويل ينبئ عن الشدة، لأن تركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن وُقُوع شدةٍ، ومنه لَوَى إذا دافع٥ ولَوَاه يلويه إِذا فَتَلَهُ فَتْلاً قوياً٦.
والوَلِيُّ فيه القوة على المُولَى عَلَيْهِ. وقد تقدم وجه جواز التنكير في قوله :«وَيْلٌ » مع كونه مبتدأ ؛ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء في تفسير قوله تعالى :﴿ قَالَ سَلاَمٌ ﴾ [ الذاريات : ٢٥ ].
١ في (ب) جملة المقدمة..
٢ قال بذلك كله مكي في المشكل ٢/٣٢٧..
٣ سقط من (ب) فقط دون (أ) والرازي..
٤ وانظر الرازي المرجع السابق..
٥ كذا في (أ) والصحيح دفع من دون ألف كما في المعاجم والرازي فالفعل ثلاثي..
٦ وانظر اللسان "لوى"..
قوله :﴿ الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ﴾ الخَوْضُ : هو الاندفاع في الأباطيل، قال تعالى :﴿ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا ﴾ [ التوبة : ٦٩ ] وقال تعالى :﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين ﴾ [ المدثر : ٤٥ ].
وتنكير الخوض يحتمل وجهين :
الأول : أن يكون للتكثير أي في خوضٍ عظيم.
الثاني : أن يكون التنوين عوضاً عن المضاف إليه، كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ هود : ١١١ ] والأصل في خوضهم المعْرُوف منهم. وقوله : يعلبون أي غافلون لاهون.
واعلم أن قوله تعالى :﴿ الذين هُمْ فِي خَوْضٍ ﴾ ليس وصفاً للمكذبين بما يميزهم، وإنما هو للذم كقولك :«الشيطانُ الرجيمُ » ولا تُرِيدُ فَصْله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك : أَكْرِمِ الرَّجُلَ العَالِمَ فالوصف بالرجيم للذم له لا للتعريف.
وتقول في المدح : الله الذي خلق، والله العظيم للمدح لا للتمييز، ولا للتعريف عن إله لم يخلق أو إله ليس بعظيم، فإن الله واحد لا غير١.
١ قال بهذه المعلومة الرازي ٢٨/٢٤٥ و٢٤٦..
قوله :﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ ﴾ يجوز أن يكون ظرفاً «ليُقَالُ » المقدرة مع قوله :﴿ هذه النار ﴾ [ الطور : ١٤ ] يوم يدعون المكذبين١ ؛ لأن معناه يوم يقع العذابُ ذلك اليوم وهو يوم يُدَعُّون فيه إِلى النار.
والعامة على فتح الدال وتشديد العين من دَعَّهُ يَدُعُّهُ أي دفعه في صدره بعُنْفٍ وشِدَّةٍ. قال الراغب : وأصله أن يقال للعاثر : دع كما يقال له لَعاً٢.
وهذا بعيد من معنى هذه اللفظة٣.
وقرأ علي - رضي الله عنه - والسّلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة٤ من الدُّعَاءِ أي يُدْعَوْنَ إليها فيقال لهم : هَلُمُّوا فادخلوها٥.
قوله : دَعًّا مصدر معناه تدفعهم الملائكة دفعاً على وجوههم بعُنْفٍ أي يُدْفَعُونَ إِلى النار، فإِذا دَنَوْا منها قال لهم خزنتها : هَذِهِ النَّار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ يدل على أن خزنتها يقذفونهم في النار وهم بعيداً٦ عنها وقوله تعالى :﴿ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ [ القمر : ٤٨ ] يدلّ على أنهم فيها.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن الملائكة يَسْحَبُونَهُمْ في النار، ثم إذا قربوا من نار مخصوصة وهي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في نار، والدفع في نار أشد وأقوى، بدليل قوله :﴿ يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ﴾ [ غافر : ٧١ و٧٢ ]. أي يسحبون في حَمْوَةِ النار، ثم بعد ذلك يكون لهم إِدخالٌ.
الثاني : يجوز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى٧ النار يدفعهم ملك وفي النار يَسْحَبُهُم آخر.
الثالث : أن يكون السحبُ بسَلاَسِلَ أي يسحبون في النار، والساحب خارج النار.
الرابع : أن يكون الملائكة يدفعونهم إِلى النار إهانةً لهم، واستخفافاً بهم ويدخلون معهم النار ويسحبونهم٨.
١ وهو أحد قولي أبي البقاء في التبيان ١١٨٣..
٢ نقله الراغب في المفردات "د ع ع" كما نقله ابن منظور في اللسان أيضا "د ع ع". انظر اللسان ١٣٨٢..
٣ فاللفظة هذه المراد منها الدفع، بخلاف تلك..
٤ على البناء للمفعول أي يُدعَون إليها كما أوضحه أعلى..
٥ كذا أورد هذا القراءة أبو حيان في البحر ٨/١٤٨ والزمخشري في الكشاف ٤/٢٣، بينما سكت عنها أبو الفتح في المحتسب عند التعرض لهذه الصورة وقال ابن خالويه: يوم تُدعون علي والسلمي، فرواها بتاء المضارع لا يائه وعلى كلّ فهي شاذة، وانظر المختصر ١٤٥..
٦ كذا في النسختين وفي الرازي: بعداء..
٧ في (ب) وإلى –بالواو-..
٨ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٤٦..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله :﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ ﴾ يجوز أن يكون ظرفاً «ليُقَالُ » المقدرة مع قوله :﴿ هذه النار ﴾ [ الطور : ١٤ ] يوم يدعون المكذبين١ ؛ لأن معناه يوم يقع العذابُ ذلك اليوم وهو يوم يُدَعُّون فيه إِلى النار.
والعامة على فتح الدال وتشديد العين من دَعَّهُ يَدُعُّهُ أي دفعه في صدره بعُنْفٍ وشِدَّةٍ. قال الراغب : وأصله أن يقال للعاثر : دع كما يقال له لَعاً٢.
وهذا بعيد من معنى هذه اللفظة٣.
وقرأ علي - رضي الله عنه - والسّلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة٤ من الدُّعَاءِ أي يُدْعَوْنَ إليها فيقال لهم : هَلُمُّوا فادخلوها٥.
قوله : دَعًّا مصدر معناه تدفعهم الملائكة دفعاً على وجوههم بعُنْفٍ أي يُدْفَعُونَ إِلى النار، فإِذا دَنَوْا منها قال لهم خزنتها : هَذِهِ النَّار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ يدل على أن خزنتها يقذفونهم في النار وهم بعيداً٦ عنها وقوله تعالى :﴿ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ [ القمر : ٤٨ ] يدلّ على أنهم فيها.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن الملائكة يَسْحَبُونَهُمْ في النار، ثم إذا قربوا من نار مخصوصة وهي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في نار، والدفع في نار أشد وأقوى، بدليل قوله :﴿ يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ﴾ [ غافر : ٧١ و٧٢ ]. أي يسحبون في حَمْوَةِ النار، ثم بعد ذلك يكون لهم إِدخالٌ.
الثاني : يجوز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى٧ النار يدفعهم ملك وفي النار يَسْحَبُهُم آخر.
الثالث : أن يكون السحبُ بسَلاَسِلَ أي يسحبون في النار، والساحب خارج النار.
الرابع : أن يكون الملائكة يدفعونهم إِلى النار إهانةً لهم، واستخفافاً بهم ويدخلون معهم النار ويسحبونهم٨.
١ وهو أحد قولي أبي البقاء في التبيان ١١٨٣..
٢ نقله الراغب في المفردات "د ع ع" كما نقله ابن منظور في اللسان أيضا "د ع ع". انظر اللسان ١٣٨٢..
٣ فاللفظة هذه المراد منها الدفع، بخلاف تلك..
٤ على البناء للمفعول أي يُدعَون إليها كما أوضحه أعلى..
٥ كذا أورد هذا القراءة أبو حيان في البحر ٨/١٤٨ والزمخشري في الكشاف ٤/٢٣، بينما سكت عنها أبو الفتح في المحتسب عند التعرض لهذه الصورة وقال ابن خالويه: يوم تُدعون علي والسلمي، فرواها بتاء المضارع لا يائه وعلى كلّ فهي شاذة، وانظر المختصر ١٤٥..
٦ كذا في النسختين وفي الرازي: بعداء..
٧ في (ب) وإلى –بالواو-..
٨ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٤٦..

قوله :«أَفَسِحْرٌ » خبر مقدم و«هذا » مبتدأ مؤخر.
ودخلت الفاء قال الزمخشري : بمعنى كنتم تقولون للوحي : هذَا سِحرٌ فسحر هذا يريد١ هذا المِصْداق أيضاً سحر٢ ؛ ودخلت الفاء لهذا المعنى، وهذا تحقيقٌ للأمر ؛ لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين : إما لأمر عائدٍ إلى المرئيّ، وإمَّا لأمرٍ عائد إلى الرائي، فقوله :«أَفَسحرٌ هَذَا » أي هل في الموت٣ شكٌّ أمْ هل في بصركم خَلَل ؟ ! فهو استفهام إنكار أي لا أمر مِنْهُمَا ثابتٌ فالذي تَرَوْنَهُ حق وقد كنتم تقولون : إنه ليس بحق٤، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً - صلى الله عليه وسلم - إِلى السحر، وأنه يغطي الأبصار بالسِّحر، وانشقاق القمر وأمثاله سحر، فوبخوا به، وقيل لهم : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون٥.
١ في (ب) يريد هذا مصداق..
٢ بالمعنى من الكشاف ٤/٢٣..
٣ في الرازي: المرئي..
٤ الرازي ٢٨/٢٤٧..
٥ قال بتلك العلة الإمام البغويّ وتبعه الخازن في مرجعيهما معالم التنزيل ولُباب التأويل ٦/٢٥٠..
قوله : اصْلَوْ( هَا ) ١ أي إذْ لم يمكنكم إنكارها، وتحقق أنه ليس بسحر ولا خَلَل في أبصاركم فاصْلَوْهَا٢ ؛ أي قاسوا٣ شدتها. ﴿ فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا ﴾ أي الصبر وعدمه سواءٌ، وهذا بيان لعدم الخَلاص.
قوله :«سَوَاءٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي صبركم وتركه سواء. قاله أبو البقاء٤.
والثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوف أي سواء الصبرُ والجزعُ، قاله أبو حيان٥.
قال شَهابُ الدِّين : والأول أحسن، لأن جعل النكرة خبراً أولى من جعلها مبتدأ وجعلِ المَعْرِفَةِ خبراً.
ونحا الزمخشري مَنْحَى الوجه الثاني فقال :«سواء » خبره محذوف أي سواء عليكم الصَّبْرَانه الصبرُ وَعَدَمُهُ٦.
قوله :﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فيه لطيفة، وهي أن المؤمن بإِيمانه اسْتَفَادَ أن الخير الذي يَنْويهِ يُثَابُ عَلَيْه، والشَّرَّ الذي يقصِدُهُ ولا يقع منه لا يعاقَبُ عليه ولا ظلم، فإن الله تعالى أخبره به وهو اختار ذلك ودخل ( فيه )٧ باختياره، فإن الله تعالى قال بأن من كفر ومات كافراً عذبته أبداً فاحذَرُوا، ومن آمن أَثَبْتُهُ دائماً فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعدما سمع ذلك فإذا عوقب دائماً فهو تحقيق لما أَوْعَدَ به٨ فلا يكون ظلماً.
١ لفظة (ها) ساقطة من (أ) الأصل..
٢ قال بهذا المعنى الرازي في مرجعه السابق..
٣ بينما قال بهذا المعنى البغوي في مرجعه السابق أيضا..
٤ التبيان ١١٨٣..
٥ البحر المحيط ٨/١٤٨..
٦ الكشاف ٤/٢٣..
٧ ما بين القوسين من (ب)..
٨ في (ب) وعده. والصحيح من (أ) كما في الرازي فإن معنى الوعد والوعيد والسياق تحتّم أصحية (أ)..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً، أخبر الله تعالى بذلك بشارة، ويجوز أن يكون من جملة المقول للكفار زيادة في غَمِّهِمْ وتَحَسُّرِهِم. والجنة هي موضع السرور لكن الناطُور قد يكون في البستان الذي هو في غاية الطيبة، فلما قال: «وَنَعِيمٍ» أفاد أنهم فيها متنعمون كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطُور والعمال.
وقوله: «فَاكِهِينَ» يريد في ذلك، لأن المتنعم قد يكون آثار النعيم عليه ظاهرة وقلبه مشغول، فلما قال: «فَاكِهينَ» دل على غاية الطيبة.
قوله: «فَاكِهِينَ» هذه قراءة العامة نصب على الحال، والخبر الظرف، وصاحب الحال الضمير المستتر في الظرف.
وقرأ خَالِدٌ: «فاكِهُونَ» بالرفع، فيجوز أن يكون الظرف لغواً، متعلقاً بالخبر ويجوز أن يكون خبراً آخر من عند من يجيز تعداد الخبر.
وقرئ فَكِهينَ مقصوراً، وسيأتي أنه قرأ به في المُطَفِّفِينَ في المتواتر حفصٌ عن عَاصِمٍ.
123
قوله: «بِمَا آتَاهُمْ» يجوز أن تكون الباء على أصلها وتكون: «ما» حينئذ واقعةً على «الفواكه» التي هي في الجنة أي متلذذين بفاكهةِ الجنة، ويجوز أن تكون بمعنى في أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك. ويجوز أن تكون «ما» مصدريةً أيضاً.
قوله: «وَوَقَاهُمْ» يجوز فيه أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على الصلة أي فَكِهينَ بإيتائِهِم رَبَّهُمْ وبِوقايَتِهِ لهم عذابَ الجَحِيم.
والثاني: أن الجملة حال فتكون «قد» مقدرة عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع حالاً.
الثالث: أن يكون معطوفاً على: «فِي جَنَّاتٍ». قاله الزمخشري يعني فيكون مخبراً به عن المتقين أيضاً فيكون المراد أنهم فاكهون بأمرين: أَحدِهِمَا: بما آتاهم، والثاني: بأنه وَقَاهُمْ.
والعامة على تخفيف القاف من الوقاية. وأبو حيوة بتَشْدِيدِهَا.
قوله: «كلوا واشربوا» أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً. وقد تقدم الكلام في: «هَنِيئاً» فِي النِّسَاء.
قال الزمخشري: هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً. وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ.
ويجوز أن يكون مثله في قوله:
٤٥٣٣ - هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعاً به «ما اسْتَحَلَّت» كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا، فكذلك معنى «هنيئاً» هُنَا هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ والباء مزيدة كما في «كَفَى بِاللَّهِ»
124
والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وهذا من محاسن كلامه.
قال أبو حيان: أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل «كَفَى» على خلافٍ فيها فتجويزها هنا لا يسوغ.
وأما قوله: إنَّها تتعلق ب «كُلُوا واشْرَبُوا» فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما. انتهى. وهذا قريب.
قوله: «مُتَّكِئِينَ» فيه أوجه:
أحدها: أنه حال من فاعل: «كُلُوا».
الثاني: أنه حال من فاعل: «أَتَاهُمْ».
الثالث: أنه حال من فاعل: «وَقَاهُمْ».
الرابع: أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف.
الخامس: أنه حال من الضمير في: «فَاكِهِينَ».
وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف لكونه عُمْدَةً.
وقوله: «عَلَى سُرُرٍ» متعلق ب «متَّكِئينَ».
وقراءة العامة بضم الراء الأولى. وأبو السَّمَّال بفتحها. وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف.
قوله: ﴿وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور.

فصل


اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج، فهذه أمور أربعة ذكرها الله
125
على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله، فقوله: «جَنّات» إشارة إلى المسكن وقال: «فاكهين» إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله، وقال: ﴿كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً﴾ أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما، وقوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إشارة إلى أنه تعالى يقول: إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال: ﴿بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ [الحجرات: ١٧] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ.
فإن قيل: قال في حقّ الكفار: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور: ١٦] وقال في حق المؤمنين: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فما الفرق بينهما؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن كلمة «إنَّما» للحصر، أي لا يجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ، ويَزِيدُهُ من فضله.
الثاني: قال هنا: «بِمَا كُنْتُمْ» وقال هناك: ﴿مَا كُنتُمْ﴾ [النمل: ٩٠] أي تجزون عن أعمالكم. وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة، كأنه يقول: هذا عينُ ما عملت. وقوله في حق المؤمن: بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا.
الثالث: أنه ذكر الجزاء هناك، وقال هنا: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر.
فإن قيل: فاللَّه تعالى قال في موضع آخر:
﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المرسلات: ٤٣] في الثواب.
فالجواب: أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل: بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع. وأما في السرر فذكر أموراً:
أحدها: الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه. وجمع السرر لأَمْرَيْنِ:
أظهرهما: أن يكون لكل واحد سُرَرٌ؛ لأنه قوله: «مَصْفُوفة» يدل على أنه لواحدٍ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور، بخلاف التَّخْتِ وغيره، وقوله: «مَصْفُوفَة» أي منتظمة بعضُها إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع. وقول
126
تعالى: ﴿وَزَوَّجْنَاهُم﴾ إِشارة إلى النِّعمة الرابعة، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه:
الأول: أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء.
الثاني: قال: «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور» ولم يقل: وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف، تقول زَوَّجْتُكَهَا، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب: ٣٧] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم.
الثالث: عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، والذُّرِّيَّات هنا يصدق على الآباء، وعلى الأبناء، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر أُلْحِقَ به مَنْ دُونَهُ في العمل ابناً كان أو أباً. وهو منقول عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيره.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدر، قال أبو البقاء على تقدير: وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا. قال شهاب الدين: فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال، وأن قوله: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ مفسرٌ لذلك الفعل من حيثُ المعنى وأن يريد أنه مضمرٌ لدلالة السِّياق عليه، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شَيْء.
الثالث: قال ابن الخطيب: إنه معطوف على: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ﴾ ثم قال: فإذا كان كذلك فَلِمَ أعَادَ لفظ «الَذين آمنوا» وكان المقصود يحصل بقوله تعالى: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بعد قوله ﴿وَزَوَّجْنَاهُم﴾ كان يصير التقديرُ: وزوَّجْنَاهم وألحقنا بهم؟ نقول: فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال ههنا: الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة، ثم إِن ارتكب الأب كبيرةً أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد، وربما يدخل الجنةَ الابنُ قبل الأب، وقد ورد في الخبر أن الوَلَد الصغيرَ يشفع لأبيه، وذلك إشارة إلى الجزاء.
127
وذكر الزمخشري أنه مجرورٌ عطفاً على «حُورٍ عينٍ» قال الزمخشري: «وَالَّذِينَ آمَنُوا» معطوف على «حُورٍ عينٍ» أي قَرَنَّاهُمْ بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله: ﴿إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧] فيتمتعون تارة بمُلاَعَبَةِ الحور، وتارةً بمُؤَانَسَةِ الإِخْوَان.
ثم قال الزمخشري: ثم قال: «بإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ» أي بسبب إيمان عظيمٍ رفيعِ المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجتهم ذُرِّيَّتَهُم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم.
قال أبو حيان: ولا يتخيل أحد أن «وَالَّذِينَ آمَنُوا» معطوف على «بحُورٍ عِينٍ» غير هذا الرجل. وهو تخيُّلٌ أعجميّ، مخالف لفهم العربي القُحِّ ابن عباس وغيره.
قال شهاب الدين: أما ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شك في حُسْنِهِ ونضارته، وليس في كلام العربي القُحِّ ما يدفعه بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم، وأيُّ مانع مَعْنَويٍّ أو صناعيٍّ يمنعه؟!.
قوله: «وَأَتْبَعْنَاهُمْ» يجوز أن يكون عطفاً على الصلة، ويكون «والذين آمنوا» مبتدأ ويتعلق «بإيمان» بالاتِّباع، بمعنى أن الله تعالى يلحق الأولاد الصّغار وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والضَّحَّاك. ويجوز أن يكون معترضاً بين المبتدأ والخبر. قال الزمخشري ويجوز أن يتعلق «بإِيمَانٍ» ب «أَلْحَقْنَا» كما تقدم.
فإن قيل: قوله: أتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ يفيد قوله: «ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ».
فالجواب: أن قوله: «أَلْحَقْنا بِهِمْ» أي في الدرجات والاتّباع إنما هو في حكم الإِيمان وإن لم يبلغوه كما تقدم.
وقرأ أو عمرو: «وأتْبَعْنَاهُمْ» بإِسناد الفعل إلى المتكلم نفسه. والباقون واتَّبَعَتْهُمْ
128
بإسناد الفعل إلى الذرية وإِلحاق تاء التأنيث. وقد تقدم الخلاف في إِفراد ذرياتهم وجَمْعِهِ في سورة الأَعْرَافِ.

فصل


اختلفوا في معنى الآية، فقيل معناها: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم، والصغار بإيمان آبائهم، فإن الولد الصغير يُحْكَمُ بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين.
وقوله: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، أي المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تَكْرمَةً لآبائهم، لِتَقَرَّ بذلك أعينهم. وهي روايةُ سعيدِ بن جبير عن ابنِ عباس. وقيل: معناه ﴿والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم﴾ البالغون ﴿بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم﴾ الصِّغار الذين لم يبلغوا الإِيمان بإيمان آبائهم. وهو قول الضَّحَّاك في رواية العوفيّ عن ابن عباس. أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ أنه يَجْمَعُ لعبده ذُرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أيديهم من غير أن يَنْقُصَ الآباء من أعمالهم شيئاً فذلك قوله: ﴿وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾.
روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:
«سألت خديجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هما في النار، فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لَوْ رأيتِ مكانَهما لأَبْغَضْتِهِمَا. قالت يا رسول الله: فولدي منك قال: في الجنة. ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إِنَّ المُؤْمِنِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي الجَنَّةِ وإِنَّ المُشْرِكِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي النَّارِ «ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ «.
قوله:»
وَمَا أَلَتْنَاهُمْ «قرأ ابن كثير ألِتْنَاهُمْ بِكَسْرِ اللام. والباقون بفتحها.
فأما الأُولى فمن أَلِتَ يَأْلَتُ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارغ كَعِلمَ يَعْلَمُ. وأما الثانية: فيحتمل أن تكون من أَلَتَ يَأْلِتُ كَضَرب يَضْرِبُ، وأن يكون من أَلاَتَ يُلِيتُ كَأَمَاتَ يُمِيتُ فألَتْنَاهُمْ كأَمَتْنَاهُمْ.
وقرأ ابْنُ هُرْمُزَ آلَتْنَاهُمْ - بألف بعد الهمزة - على وزن أفْعَلْنَاهُمْ، يقال: آلَتَ
129
يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ. وعبد الله وأُبيّ والأعْمش وطلحةُ - وتُرْوى عن ابن كثيرٍ - لِتْنَاهُمْ بكسر اللام.
قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال، ولذلك أنكر آلَتْنَاهُمْ بالمد وقال: لا يدل عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ.
وليس كما زَعَمَ، بل نقلَ أهلُ اللغةِ آلَتَ يُؤْلِتُ.
وقرئ: - ولَتْنَاهُمْ - بالواو - كَوعَدْنَاهُمْ نقلها هارُون. قال ابن خَالَوَيْهِ: فيكون هذا الحرف من لاَتَ يَلِيتُ ووَلَتَ يَلِيت وأَلِتَ يأْلَتُ وأَلَت يأْلِتُ وأَلاَتَ يُلِيتُ، وكلها بِمَعْنَى نَقَصَ.
ويقال: ألت بمعنى غلَّظَ وقام رجل إلى (أمير المؤمنين) عُمَرَ يَعِظُهُ فقال له رجل: لاَ تَأْلِتْ أَمِيرَ المؤمنين، أي لا تُغَلِّظْ عليه.
قال شهابُ الدِّين: ويجوز أن يكون هذا الأثر على حاله والمعنى لا تَنْقُصْ أمير المؤمنين حقه؛ لأنه إذا أغلظ القول نقصه حقه.
وفي الضمير في» أَلَتْنَاهُمْ «وَجْهَانِ:
أظهرهما: أنه عائد على»
المؤمنين «.
الثاني: أنه عائد على»
أَلَتْنَاهُمْ «. قيل: ويقويه قوله تعالى: ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾.
قوله: ﴿مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ من شيء مفعول ثان ل»
ألتْنَاهُمْ «و» مِنْ «مزيدة؛ والأولى في محل نصب على الحال مِنْ (شَيْءٍ) ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قدمت
130
نصبت حالاً. وجوز أبو البقاء أن يتعلق بِأَلَتْنَاهُمْ.

فصل


في قوله:» وَمَا أَلَتْنَاهُمْ «تطييب لقلبهم، وإزالة وَهَم المتَوهِّم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوَالِدِ والوَلَدِ بل للوالد أجْر عَمَلِهِ، ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة. وقال: مِنْ عملهم» ولم يقل: من أجرهم لأن قوله: وما ألتناهم من عملهم دليل على بقاء عملهم كما كان، والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إِليه، ولو قال: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء، لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل، ولأنه لو قال: مَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال: إن الله تعالى يفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص، وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً.
فإِن قيل: ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله: «وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإِيمانٍ ألحقنا» ؟.
فالجواب: (هو) إما للتحقير أو للتكثير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإِيمان مخلصٍ كاملٍ. أو نقول: أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه، فإِن الإِيمانَ كاملاً لا يوجد في الولد، بدليل أنَّ من آمنَ له ولدٌ صغيرٌ حكم بإِيمانه، فإِذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التَّبَعِيَّة قيل: بأنه لا يكون مرتداً وتبيين بقوله أنه لم يُتْبَعْ. وقيل: بأنه يكون مرتداً؛ لأنه كفر بعدما حكم بإِيمانه كولد المسلم الأصلي. فإِذن تبين بهذا الخلاف أنَّ إيمانَه ليس بقويٍّ. ذكر هذين الوجهين الزمخشري.
ويحتمل أن يكون المراد أن يكون التنوينُ للتعويض عن المضاف إِليه كقوله تعالى: ﴿بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٨٨] و [الزخرف: ٦٧] ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [الحديد: ١٠] لأن التقدير: أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإِتباع ليس بإيمانٍ كَيْفَ كان وممَّنْ كَانَ وإِنما هو إِيمان الآباء، لكن الإِضافة تُنْبِئُ عن تَقْييد، وعدم كون الإِيمان إيماناً على الإِطلاق، فإن قول القائل: ماءُ الشجر وماءُ الرمان فيصحّ، وإطلاق اسم «ماء» من غير إضافة لا يصح، فقوله: «بإيمانهم» يوهم أنه إيمان مضافٌ إليهم كقوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥] حيث أثبت الإِيمان المضاف فلم يكن إيماناً فقطع الإِضافة مع ردتها ليعلم أنه إيمان صحيحٌ وعوض التنوين ليعلم أنه مضاف لا
131
يوجب الإيمان في الدنيا إلا إيمان الآباء. قال ابن الخطيب: وهَذا وجهٌ حَسَنٌ.
قوله: ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ قال مقاتل: كل امرئ كافر بما عمل من الشرك فهو مرتهن في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين﴾ [المدثر: ٣٨ - ٣٩]. قال الواحدي: هذا يعود إلى ذكر أهل النار. وهُو قولُ مُجَاهِدٍ أيْضاً.
وقال الزمخشري: هذا عام في كل واحد أنه يكون مرهوناً عند الله بالكسب فإن كَسَبَ خيراً فك رقبته وإلا أغلق الرهن.
قال ابن الخطيب: وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهينُ فَعِيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى: كل امرئ بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً، وإن أساء ففي النار مخلداً؛ لأن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العَرَض لا يبقى إلا في جوهر فلا يوجد إلا فيه، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات، وما عند الله باقٍ والباقي يبقى مع عمله.
قوله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ﴾، زيادة على ما كان لهم ﴿وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ﴾ من أنواع اللّحْمَانِ. والمعنى زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهةُ واللحم، والمشروب الكأس. وفي هذا لطيفةٌ وهي أنه لما قال: مَا أَلَتْنَاهُمْ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوئ، فقال: ليس عدم النقصان باقتصار على المساوئ؛ بل بالزيادة والإمداد.
قوله: «يَتَنَازَعُونَ» في موضع نصب على الحال من مفعول: «أمْدَدْنَاهُمْ» ويجوز أن يكون مستأنفاً.
وتقدم الخلاف في قوله: ﴿لاَّ لَغْوٌ فِيهَا﴾ في البقرة. والجملة في موضع نصب صفة لكأسٍ. وقوله: فِيهَا أي في شَرَابِهَا. وقيل: في الجَنَّة. ومعنى يتنازعون أي يَتَعَاطَوْن. ويحتمل أن يقال: التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب مُلاَعَبةٍ لا تَجاذُبَ مُنَازَعَة. وفيه نوع لذَّةٍ، قال الشاعر:
132
٤٥٣٤ - نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشَّمُولِ وَقَدْ صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي
وقوله: ﴿لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ﴾ قال قتادة: اللَّغْو: الباطل. وقال مقاتل بن حيّان: لا فضولَ فيها. وقال سعيد بن المسيب: لاَ رَفَث فيها. وقال ابن زَيْد: لا سبابَ ولا تخاصُمَ فيها.
وقال القُتَيْبِيُّ: لا يذهب عقولهم فيَلْغُوا أو يَرْفُثُوا «وَلاَ تَأْثيمٌ» أي لا يكون منهم ما يُؤْثِمُهُمْ. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السُّكْر. وقال الزجاج: لا يجري منهم ما يُلْغَى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشَرَبَةِ الخَمْر.
وقيل: لا يأثمون في شُرْبِهَا.
قوله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ﴾ أي يطوف عليهم بالخِدمة غلمانٌ لهم «كَأَنَّهُمْ» في الحسن والبياض والصَّفاء.
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ صفة ثانية «لِغِلْمَانٍ». والمعنى يطوف عليهم بالكُؤُوس غلمانٌ لهم. وهم الوِلْدَان المُخَلَّدُون ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ أي مخزون مَصُونٌ لم تَمَسَّهُ الأَيْدِي.
قال سعيدُ بن جُبَيْر: يعني في الصِّدق، وقال عبد الله بن عمر: ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألفُ غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه. «وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال: قَالُوا يا رسول الله: الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخْدُوم؟ قال: فَضْلُ المَخْدُومِ عَلَى الْخَادِمِ كَفَضْلِ لَيْلَةَ البدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَواكِبِ».
133
وقوله :«فَاكِهِينَ » يريد١ في ذلك، لأن المتنعم قد يكون آثار النعيم عليه ظاهرة وقلبه مشغول، فلما قال :«فَاكِهينَ » دل على غاية الطيبة٢.
قوله :«فَاكِهِينَ » هذه قراءة العامة نصب على الحال، والخبر الظرف، وصاحب الحال الضمير المستتر في الظرف.
وقرأ خَالِدٌ :«فاكِهُونَ »٣ بالرفع، فيجوز أن يكون الظرف لغواً، متعلقاً بالخبر٤ ويجوز أن يكون خبراً٥ آخر عند من يجيز تعداد الخبر٦.
وقرئ فَكِهينَ مقصوراً، وسيأتي أنه قرأ به في المُطَفِّفِينَ في المتواتر حفصٌ عن عَاصِمٍ.
قوله :«بِمَا آتَاهُمْ » يجوز أن تكون الباء على أصلها وتكون :«ما » حينئذ واقعةً على «الفواكه » التي هي في الجنة أي متلذذين بفاكهةِ الجنة، ويجوز أن تكون بمعنى في أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك٧. ويجوز أن تكون «ما » مصدريةً أيضاً.
قوله :«وَوَقَاهُمْ » يجوز فيه أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على الصلة أي فَكِهينَ بإيتائِهِم رَبَّهُمْ وبِوقايَتِهِ لهم عذابَ الجَحِيم.
والثاني : أن الجملة حال فتكون «قد » مقدرة٨ عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع٩ حالاً.
الثالث : أن يكون معطوفاً على :«فِي جَنَّاتٍ ». قاله الزمخشري١٠ يعني فيكون مخبراً به عن المتقين أيضاً فيكون المراد أنهم فاكهون بأمرين : أَحدِهِمَا : بما آتاهم، والثاني : بأنه وَقَاهُمْ.
والعامة على تخفيف القاف من الوقاية. وأبو حيوة بتَشْدِيدِهَا١١.
١ كذا في النسختين: يريد. في الرازي: يزيد، وهو المراد..
٢ المرجع السابق..
٣ وهي شاذة. وانظر البحر ٨/١٤٨ والكشاف ٤/٢٣..
٤ وانظر الكشاف السابق والبحر السابق أيضا..
٥ البحر المحيط السابق..
٦ في جواز تعدد الخبر لمبتدأ واحد أقوال:
أحدها: وهو الأصح وعليه الجمهور الجواز، كما في النعوت، سواء اقترن بعاطف أم لا مثل: ﴿وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعّال لما يريد﴾ (البروج ١٤ -١٦).
الثاني: المنع وهو اختيار ابن عصفور وكثير من المغاربة، وقد جعلوا المتعدد إما صفة للخبر أو خبرا لمبتدأ مقدر.
الثالث: الجواز إن اتحدا في الإفراد والجملة والمنع إن كان أحدهما مفردا والآخر جملة.
الرابع: قصر الجواز على ما كان المعنى منها واحدا نحو: الرمان حلو حامض أي مزٌّ. وانظر الهمع ١/١٠٨. والأشموني على الألفية ١/٢٢١ إلى ٢٢٣..

٧ بالتوضيح لما في التبيان للعكبري ١١٨٣..
٨ قاله في البحر ٨/١٤٨..
٩ قال في الهمع ١/٢٤٧: "ويجب في الماضي المثبت المتصرف غير التالي "إلا" والمتلوّ بأو العاري من الضمير "قد" مع الواو، فإن كان جامدا كليس أو منفيا فلا. هذا ما جزم به المتأخرون كابن عصفور والأبذيّ والجُزوليّ تبعا للمبرد والفارسي. قال أبو حيان: والصحيح وقوع الماضي حالا بدون قد. ولا يحتاج إلى تقديرها للكثرة" انظر همع الهوامع المرجع السابق..
١٠ الكشاف ٤/٢٣..
١١ البحر ٨/١٤٨ شاذة..
قوله :«كلوا واشربوا » أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً. وقد تقدم الكلام في :«هَنِيئاً » فِي النِّسَاء.
قال الزمخشري : هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً. وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ.
ويجوز أن يكون مثله في قوله :
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ١
أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعاً به «ما اسْتَحَلَّت » كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا، فكذلك٢ معنى «هنيئاً » هُنَا٣ هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ٤ والباء مزيدة كما في «كَفَى بِاللَّهِ » والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب٥. وهذا من محاسن كلامه.
قال أبو حيان : أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل «كَفَى » على خلافٍ٦ فيها فتجويزها هنا لا يسوغ.
وأما قوله : إنَّها تتعلق ب «كُلُوا واشْرَبُوا » فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما. انتهى٧. وهذا قريب.
قوله :«مُتَّكِئِينَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من فاعل :«كُلُوا ».
الثاني : أنه حال من فاعل :«أَتَاهُمْ ».
الثالث : أنه حال من فاعل :«وَقَاهُمْ ».
الرابع : أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف.
الخامس : أنه حال من الضمير في :«فَاكِهِينَ »٨.
وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف٩ لكونه عُمْدَةً.
وقوله :«عَلَى سُرُرٍ » متعلق ب «متَّكِئينَ ».
وقراءة العامة بضم الراء الأولى. وأبو السَّمَّال بفتحها١٠. وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف.
قوله :﴿ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ١١ بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور١٢.

فصل


اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله، فقوله :«جَنّات » إشارة إلى المسكن وقال :«فاكهين » إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله، وقال :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً ﴾ أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما، وقوله :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال :﴿ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ [ الحجرات : ١٧ ] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ١٣.
فإن قيل : قال في حقّ الكفار :﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ وقال في حق المؤمنين :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فما الفرق بينهما ؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن كلمة «إنَّما » للحصر، أي لا يجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ، ويَزِيدُهُ من فضله.
الثاني : قال هنا :«بِمَا كُنْتُمْ » وقال هناك :﴿ مَا كُنتُمْ ﴾ [ النمل : ٩٠ ] أي تجزون عن أعمالكم. وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة، كأنه يقول : هذا عينُ ما عملت. وقوله في حق المؤمن : بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا.
الثالث : أنه ذكر الجزاء هناك، وقال هنا :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر.
فإن قيل : فاللَّه تعالى قال في موضع آخر :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤٣ ] في الثواب.
فالجواب : أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل : بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع. وأما في السرر فذكر أموراً :
أحدها : الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه. وجمع السرر لأَمْرَيْنِ :
أظهرهما : أن يكون لكل واحد سُرَرٌ ؛ لأنه قوله :«مَصْفُوفة » يدل على أنه لواحدٍ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور، بخلاف التَّخْتِ وغيره، وقوله :«مَصْفُوفَة » أي منتظمة بعضُها١٤ إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع. وقول تعالى :﴿ وَزَوَّجْنَاهُم ﴾ إِشارة إلى النِّعمة الرابعة، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه :
الأول : أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء.
الثاني : قال :«وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور » ولم يقل : وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف، تقول زَوَّجْتُكَهَا، قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم.
الثالث : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ١٥.
١ من الطويل وهو لكُثيّر وهو بالديوان. والشاهد قد أوضحه أعلى وهو وقوع "هنيئا" صفة استعملت استعمال المصدر كما أوضحه أعلى وانظر الكشاف ٤/٢٤، وشرح شواهده ٢٥٤ والبحر ٨/١٤٨، وديوانه ١/٤٩ الجزائر ١٩٢٨..
٢ في الكشاف: وكذلك..
٣ وفيه: ههنا..
٤ وانظر الكشاف ٤/٢٣ و٢٤..
٥ المرجع السابق..
٦ زيادة الباء في كفى غالبة وواجبة، وضرورة فالغالبة كما هنا في: "كفى بالله"، وقال الزجاج: دخلت الباء لتضمن كفى معنى اكتف. وقال ابن السّراج: الفاعل ضمير الاكتفاء وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر. وهو قول الفارسي والرماني أجازوا: "مُروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح" وانظر المغني في حرف "الباء" ص ١٠٦ و١٠٧ إلى ١١١..
٧ البحر ٨/١٤٨..
٨ قاله بهذه الأوجه العُكبريّ في التبيان ١١٨٤..
٩ البحر السابق..
١٠ على وزن فُعَل..
١١ وقد ذكر هاتين القراءتين أبو حيان في البحر المحيط ٨/١٤٨ وكلتاهما شاذة..
١٢ أي بزوجات حور عين..
١٣ وانظر الرازي بالمعنى منه ٢٨/٢٤٨ و٢٤٩..
١٤ في (ب) بعضا..
١٥ وانظر هذا في المرجع السابق ٢٨/٢٤٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:قوله :«كلوا واشربوا » أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً. وقد تقدم الكلام في :«هَنِيئاً » فِي النِّسَاء.
قال الزمخشري : هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً. وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ.

ويجوز أن يكون مثله في قوله :
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ١
أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعاً به «ما اسْتَحَلَّت » كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا، فكذلك٢ معنى «هنيئاً » هُنَا٣ هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ٤ والباء مزيدة كما في «كَفَى بِاللَّهِ » والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب٥. وهذا من محاسن كلامه.
قال أبو حيان : أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل «كَفَى » على خلافٍ٦ فيها فتجويزها هنا لا يسوغ.
وأما قوله : إنَّها تتعلق ب «كُلُوا واشْرَبُوا » فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما. انتهى٧. وهذا قريب.
قوله :«مُتَّكِئِينَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من فاعل :«كُلُوا ».
الثاني : أنه حال من فاعل :«أَتَاهُمْ ».
الثالث : أنه حال من فاعل :«وَقَاهُمْ ».
الرابع : أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف.
الخامس : أنه حال من الضمير في :«فَاكِهِينَ »٨.
وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف٩ لكونه عُمْدَةً.
وقوله :«عَلَى سُرُرٍ » متعلق ب «متَّكِئينَ ».
وقراءة العامة بضم الراء الأولى. وأبو السَّمَّال بفتحها١٠. وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف.
قوله :﴿ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ١١ بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور١٢.

فصل


اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله، فقوله :«جَنّات » إشارة إلى المسكن وقال :«فاكهين » إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله، وقال :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً ﴾ أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما، وقوله :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال :﴿ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ [ الحجرات : ١٧ ] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ١٣.
فإن قيل : قال في حقّ الكفار :﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ وقال في حق المؤمنين :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فما الفرق بينهما ؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن كلمة «إنَّما » للحصر، أي لا يجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ، ويَزِيدُهُ من فضله.
الثاني : قال هنا :«بِمَا كُنْتُمْ » وقال هناك :﴿ مَا كُنتُمْ ﴾ [ النمل : ٩٠ ] أي تجزون عن أعمالكم. وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة، كأنه يقول : هذا عينُ ما عملت. وقوله في حق المؤمن : بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا.
الثالث : أنه ذكر الجزاء هناك، وقال هنا :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر.
فإن قيل : فاللَّه تعالى قال في موضع آخر :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤٣ ] في الثواب.
فالجواب : أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل : بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع. وأما في السرر فذكر أموراً :
أحدها : الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه. وجمع السرر لأَمْرَيْنِ :
أظهرهما : أن يكون لكل واحد سُرَرٌ ؛ لأنه قوله :«مَصْفُوفة » يدل على أنه لواحدٍ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور، بخلاف التَّخْتِ وغيره، وقوله :«مَصْفُوفَة » أي منتظمة بعضُها١٤ إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع. وقول تعالى :﴿ وَزَوَّجْنَاهُم ﴾ إِشارة إلى النِّعمة الرابعة، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه :
الأول : أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء.
الثاني : قال :«وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور » ولم يقل : وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف، تقول زَوَّجْتُكَهَا، قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم.
الثالث : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ١٥.
١ من الطويل وهو لكُثيّر وهو بالديوان. والشاهد قد أوضحه أعلى وهو وقوع "هنيئا" صفة استعملت استعمال المصدر كما أوضحه أعلى وانظر الكشاف ٤/٢٤، وشرح شواهده ٢٥٤ والبحر ٨/١٤٨، وديوانه ١/٤٩ الجزائر ١٩٢٨..
٢ في الكشاف: وكذلك..
٣ وفيه: ههنا..
٤ وانظر الكشاف ٤/٢٣ و٢٤..
٥ المرجع السابق..
٦ زيادة الباء في كفى غالبة وواجبة، وضرورة فالغالبة كما هنا في: "كفى بالله"، وقال الزجاج: دخلت الباء لتضمن كفى معنى اكتف. وقال ابن السّراج: الفاعل ضمير الاكتفاء وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر. وهو قول الفارسي والرماني أجازوا: "مُروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح" وانظر المغني في حرف "الباء" ص ١٠٦ و١٠٧ إلى ١١١..
٧ البحر ٨/١٤٨..
٨ قاله بهذه الأوجه العُكبريّ في التبيان ١١٨٤..
٩ البحر السابق..
١٠ على وزن فُعَل..
١١ وقد ذكر هاتين القراءتين أبو حيان في البحر المحيط ٨/١٤٨ وكلتاهما شاذة..
١٢ أي بزوجات حور عين..
١٣ وانظر الرازي بالمعنى منه ٢٨/٢٤٨ و٢٤٩..
١٤ في (ب) بعضا..
١٥ وانظر هذا في المرجع السابق ٢٨/٢٤٩..

قوله :﴿ والذين آمَنُواْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله :﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾، والذُّرِّيَّات هنا يصدق على الآباء، وعلى الأبناء، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر أُلْحِقَ به مَنْ دُونَهُ في العمل ابناً كان أو أباً. وهو منقول عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيره.
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر، قال أبو البقاء على تقدير : وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا١. قال شهاب الدين : فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال، وأن قوله :﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ مفسرٌ لذلك الفعل من حيثُ المعنى وأن يريد أنه مضمرٌ لدلالة السِّياق عليه، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شَيْء٢.
الثالث : قال ابن الخطيب : إنه معطوف على :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ ﴾ ثم قال : فإذا كان كذلك فَلِمَ أعَادَ لفظ «الذين آمنوا » وكان المقصود يحصل بقوله تعالى :﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ بعد قوله ﴿ وَزَوَّجْنَاهُم ﴾ كان يصير التقديرُ : وزوَّجْنَاهم وألحقنا بهم ؟ نقول : فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال ههنا : الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة، ثم إِن ارتكب الأب كبيرةً أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد، وربما يدخل الجنةَ الابنُ قبل الأب، وقد ورد في الخبر أن الوَلَد الصغيرَ يشفع لأبيه، وذلك إشارة إلى الجزاء٣.
وذكر الزمخشري أنه مجرورٌ عطفاً على «حُورٍ عينٍ » قال الزمخشري :«وَالَّذِينَ آمَنُوا » معطوف على «حُورٍ عينٍ » أي قَرَنَّاهُمْ بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله :﴿ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٧ ] فيتمتعون تارة بمُلاَعَبَةِ الحور، وتارةً بمُؤَانَسَةِ الإِخْوَان٤.
ثم قال الزمخشري : ثم قال :«بإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ » أي بسبب إيمان عظيمٍ رفيعِ المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجتهم ذُرِّيَّتَهُم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم٥.
قال أبو حيان : ولا يتخيل أحد أن «وَالَّذِينَ آمَنُوا » معطوف على «بحُورٍ عِينٍ » غير هذا الرجل. وهو تخيُّلٌ أعجميّ، مخالف لفهم العربي القُحِّ ابن عباس وغيره٦.
قال شهاب الدين : أما ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شك في حُسْنِهِ ونضارته، وليس في كلام العربي القُحِّ ما يدفعه بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم، وأيُّ مانع مَعْنَويٍّ أو صناعيٍّ يمنعه٧ ؟ !.
قوله :«وَأَتْبَعْنَاهُمْ » يجوز أن يكون عطفاً على الصلة، ويكون «والذين آمنوا »٨ مبتدأ ويتعلق «بإيمان » بالاتِّباع٩، بمعنى أن الله تعالى يلحق الأولاد الصّغار وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والضَّحَّاك١٠. ويجوز أن يكون معترضاً بين المبتدأ والخبر. قال الزمخشري١١ ويجوز أن يتعلق «بإِيمَانٍ » ب «أَلْحَقْنَا » كما تقدم١٢.
فإن قيل : قوله : أتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ يفيد فائدة قوله :«ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ ».
فالجواب : أن قوله :«أَلْحَقْنا بِهِمْ » أي في الدرجات والاتّباع إنما هو في حكم الإِيمان وإن لم يبلغوه كما تقدم١٣.
وقرأ أبو عمرو :«وأتْبَعْنَاهُمْ » بإِسناد الفعل إلى المتكلم نفسه. والباقون واتَّبَعَتْهُمْ بإسناد الفعل إلى الذرية وإِلحاق تاء التأنيث١٤. وقد تقدم الخلاف في إِفراد ذرياتهم وجَمْعِهِ في سورة الأَعْرَافِ١٥.

فصل


اختلفوا في معنى الآية، فقيل معناها : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم، والصغار بإيمان آبائهم، فإن الولد الصغير يُحْكَمُ بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين.
وقوله : أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، أي المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تَكْرمَةً لآبائهم، لِتَقَرَّ بذلك أعينهم. وهي روايةُ سعيدِ بن جبير عن ابنِ عباس. وقيل : معناه ﴿ والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم ﴾ البالغون ﴿ بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ﴾ الصِّغار الذين لم يبلغوا الإِيمان بإيمان آبائهم. وهو قول الضَّحَّاك في رواية١٦ العوفيّ عن ابن عباس. أخبر الله عز وجل أنه يَجْمَعُ لعبده ذُرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أيديهم من غير أن يَنْقُصَ الآباء من أعمالهم شيئاً فذلك قوله :﴿ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾.
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال :«سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هما في النار، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : لَوْ رأيتِ مكانَهما لأَبْغَضْتِهِمَا. قالت يا رسول الله : فولدي منك قال : في الجنة. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ المُؤْمِنِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي الجَنَّةِ وإِنَّ المُشْرِكِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي النَّارِ » ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ »١٧.
قوله :«وَمَا أَلَتْنَاهُم » قرأ ابن كثير ألِتْنَاهُمْ بِكَسْرِ١٨ اللام. والباقون بفتحها١٩.
فأما الأُولى فمن أَلِتَ يَأْلَتُ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارغ كَعِلمَ يَعْلَمُ. وأما الثانية : فيحتمل أن تكون من أَلَتَ يَأْلِتُ كَضَرب يَضْرِبُ، وأن يكون من أَلاَتَ يُلِيتُ كَأَمَاتَ يُمِيتُ فألَتْنَاهُمْ كأَمَتْنَاهُمْ.
وقرأ ابْنُ هُرْمُزَ آلَتْنَاهُمْ٢٠ - بألف بعد الهمزة - على وزن أفْعَلْنَاهُمْ، يقال : آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ. وعبد الله وأُبيّ والأعْمش وطلحةُ - وتُرْوى٢١ عن ابن كثيرٍ - لِتْنَاهُمْ بكسر اللام٢٢.
قال سهل٢٣ : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال، ولذلك أنكر آلَتْنَاهُمْ بالمد وقال : لا يدل عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ.
وليس كما زَعَمَ، بل نقلَ أهلُ اللغةِ آلَتَ يُؤْلِتُ.
وقرئ :- ولَتْنَاهُمْ - بالواو - كَوعَدْنَاهُمْ نقلها هارُون٢٤. قال ابن خَالَوَيْهِ : فيكون هذا الحرف من لاَتَ يَلِيتُ ووَلَتَ يَلِيت٢٥ وأَلِتَ يأْلَتُ وأَلَت يأْلِتُ٢٦ وأَلاَتَ يُلِيتُ، وكلها بِمَعْنَى نَقَصَ.
ويقال : ألت بمعنى غلَّظَ وقام رجل إلى ( أمير المؤمنين ) عُمَرَ يَعِظُهُ فقال له رجل : لاَ تَأْلِتْ أَمِيرَ المؤمنين، أي لا تُغَلِّظْ عليه٢٧.
قال شهابُ الدِّين : ويجوز أن يكون هذا الأثر على حاله والمعنى لا تَنْقُصْ أمير المؤمنين حقه ؛ لأنه إذا أغلظ القول نقصه حقه.
وفي الضمير في «أَلَتْنَاهُمْ » وَجْهَانِ :
أظهرهما : أنه عائد على «المؤمنين »٢٨.
الثاني : أنه عائد على «أَلَتْنَاهُم ». قيل : ويقويه قوله تعالى :﴿ كُلُّ امرئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ﴾٢٩.
قوله :﴿ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ من شيء مفعول ثان ل «ألتْنَاهُمْ » و «مِنْ » مزيدة ؛ والأولى في محل نصب على الحال مِنْ ( شَيْءٍ ) ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قدمت نصبت حالاً. وجوز أبو البقاء أن يتعلق بِأَلَتْنَاهُمْ٣٠.

فصل


في قوله :«وَمَا أَلَتْنَاهُمْ » تطييب لقلبهم، وإزالة وَهَم المتَوهِّم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوَالِدِ والوَلَدِ بل للوالد أجْر عَمَلِهِ، ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة. وقال :«مِنْ عملهم » ولم يقل : من أجرهم لأن قوله : وما ألتناهم من عملهم دليل على بقاء عملهم كما كان، والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إِليه، ولو قال : وَمَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء، لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل، ولأنه لو قال : مَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال : إن الله تعالى يفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص، وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً٣١.
فإِن قيل : ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله :«وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإِيمانٍ ألحقنا » ؟.
فالجواب :( هو )٣٢ إما للتحقير أو للتكثير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإِيمان مخلصٍ كاملٍ. أو نقول : أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه، فإِن الإِيمانَ كاملاً لا يوجد في الولد، بدليل أنَّ من آمنَ له ولدٌ صغيرٌ حكم بإِيمانه، فإِذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التَّبَعِيَّة٣٣ قيل : بأنه لا يكون مرتداً وتبيين بقوله أنه لم يُتْبَعْ. وقيل : بأنه يكون مرتداً ؛ لأنه كفر بعدما حكم بإِيمانه كولد المسلم الأصلي. فإِذن تبين بهذا الخلاف أنَّ إيمانَه ليس بقويٍّ. ذكر هذين الوجهين الزمخشري٣٤.
ويحتمل أن يكون المراد أن يكون التنوينُ للتعويض عن المضاف إِليه كقوله تعالى :﴿ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] و[ الزخرف : ٦٧ ] ﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾ [ الحديد : ١٠ ] لأن التقدير : أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإِتباع ليس بإيمانٍ كَيْفَ كان وممَّنْ كَانَ وإِنما هو إِيمان الآباء، لكن الإِضافة تُنْبِئُ عن تَقْييد، وعدم كون الإِيمان إيماناً على الإِطلاق، فإن قول القائل : ماءُ الشجر وماءُ الرمان فيصحّ، وإطلاق اسم «ماء » من غير إضافة لا يصح، فقوله :«بإيمانهم » يوهم أنه إيمان مضافٌ إليهم كقوله تعالى :﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٥ ] حيث أثبت الإِيمان المضاف فلم يكن إيماناً فقطع٣٥ الإِضافة مع ردتها ليعلم أنه إيمان صحيحٌ وعوض التنوين ليعلم أنه مضاف لا يوجب الإيمان٣٦ في الدنيا إلا إيمان الآباء. قال ابن الخطيب : وهَذا وجهٌ حَسَنٌ٣٧.
قوله :﴿ كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهينٌ ﴾ قال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك فهو مرتهن في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين ﴾ [ المدثر : ٣٨ - ٣٩ ]. قال الواحدي : هذا يعود إلى ذكر أهل النار. وهُو قولُ مُجَاهِدٍ أيْضاً٣٨.
وقال الزمخشري : هذا عام في كل واحد أنه يكون مرهوناً عند الله بالكسب فإن كَسَبَ خيراً فك رقبته وإلا أغلق٣٩ الرهن.
قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهينُ فَعِيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى : كل امرئ بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً، وإن أساء ففي النار مخلداً ؛ لأن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العَرَض لا يبقى إلا في جوهر فلا يوجد إلا فيه، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات، وما عند الله باقٍ والباقي يبقى مع عمله٤٠.
١ قال بهذين الوجهين العكبري في التبيان ١١٨٤ وأبو حيان في البحر ٨/١٤٨ وقد اختار الأول أبو حيان..
٢ الدر المصون مخطوط بمكتبة الاسكندرية لوحة رقم ١١٣..
٣ قاله الإمام الفخر في مرجعه السابق ٢٨/٢٥١..
٤ في الكشاف: الإخوان المؤمنين..
٥ وفيه أيضا: تفضلا عليهم وعلى آبائهم. وانظر الكشاف ٤/٢٤..
٦ وكلام ابن عباس حديث رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّ بهم عينه". وانظر البحر المحيط ٨/٢٤..
٧ وهذا اعتراض نقله المؤلف عن السمين الحلبي في الدر المصون على أبي حيان أستاذه في تعقبه لكلام الزمخشري. أقول: وأنا لا أرى أيضا أي مانع عن عطف "الذين آمنوا" على "حور عين" وهو كلام جميل ومقبول من الزمخشري –رحمه الله-..
٨ الواو سقط من (ب) من قوله: "والذين"..
٩ من قوله: "واتبعتهم"..
١٠ بالمعنى من تفسير البحر المحيط ٨/١٤٨..
١١ الكشاف ٤/٢٤..
١٢ البحر المرجع السابق..
١٣ الرازي ٢٨/٢٥١..
١٤ الكشف ٢/٢٩٠ وحجة ابن خالويه ٣٣٣ وهي قراءة سبعية متواترة..
١٥ عند قوله: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم ذريتهم﴾ (الأعراف ١٧٢)..
١٦ في (ب): "ورواية". وهو المناسب والموافق لما في البغوي..
١٧ وانظر تفسيري البغوي والخازن ٦/٢٥٠ و٢٥١..
١٨ وهي لغة فيه..
١٩ وهي لغة أيضا. وانظر الكشف والحجة لابن خالويه السابقين. وانظر أيضا السبعة ٦١٢..
٢٠ وهي قراءة شاذة غير متواترة. ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٩٠ وابن خالويه في المختصر ١٤٦ وانظر أيضا الكشاف ٤/٢٤ والبحر ٨/١٤٩..
٢١ قال في البحر: ورويت عن شِبلٍ وابن كثير. ورواها عن ابن كثير صاحب الكشف ٢/٢٩١ وابن مجاهد في السبعة ٦١٢..
٢٢ وانظر المحتسب والبحر وابن خالويه في المختصر والكشاف المراجع السابقة..
٢٣ سهل هو أبو حاتم السِّجستاني. وقد تقدم التعريف به..
٢٤ ابن خالويه في المختصر، والزمخشري في الكشاف وأبو حيان في البحر السابقة. وهي شاذة..
٢٥ في (ب) يولت و(أ) و(ب) كلتاهما خطأ. والصحيح يَلِت كما في المختصر وكما هو العُرف النحويّ..
٢٦ هذا الفعلان الثلاثيان مفتوحا الهين ومضمومهما في المضارع ليسا في المختصر..
٢٧ وانظر المختصر السابق وانظر اللغة في الألت ومادته المختلفة في اللسان والصحاح "ألت" والمجاز لأبي عبيدة ٢/٢٣٢. والقرطبي ١٧/٦٧ و٦٨..
٢٨ وهو اختيار أبي حيّان قال: والظاهر أن الضمير في "ألتناهم" عائد على المؤمنين والمعنى أنه تعالى يلحق المقصّر بالمحسن ولا ينقص المحسن من أجره شيئا. وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور..
٢٩ وقد نقل أبو حيان في البحر أنه رأي ابن زيد. وانظر البحر ٨/١٤٩..
٣٠ التبيان ١١٨٤..
٣١ وانظر تفسير الرازي ٢٨/٢٥٠..
٣٢ لفظ "هو" سقط من (ب)..
٣٣ في (ب) البعثة. وهو خطأ وتحريف..
٣٤ باللفظ من الرازي ٢٨/٢٥٢، وبالمعنى من الكشاف ٤/٢٤..
٣٥ في (ب) لقطع..
٣٦ كذا في (ب) أيضا وفي الرازي: الأمان..
٣٧ وانظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/٢٥٢..
٣٨ وانظر الرازي المرجع السابق..
٣٩ في (ب) أعلق والصحيح "أوبَق" كما في الرازي والكشاف وكما يقتضيه المعنى. وعبارة الكشاف: "أي مرهون كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدَيْن عليه، فإن عمل صالحا فكّها وخلّصها وإلا أوْبَقها" وانظر الكشاف ٤/٢٤..
٤٠ في الرازي: مع عامله. وانظر الرازي ٢٨/٢٥٢ و٢٥٣..
قوله تعالى :﴿ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ ﴾، زيادة على ما كان لهم ﴿ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ من أنواع اللّحْمَانِ. والمعنى زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهةُ واللحم، والمشروب الكأس. وفي هذا لطيفةٌ وهي أنه لما قال : مَا أَلَتْنَاهُمْ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوئ، فقال : ليس عدم النقصان باقتصار على المساوئ ؛ بل بالزيادة والإمداد١.
١ السابق أيضا..
قوله :«يَتَنَازَعُونَ » في موضع نصب على الحال من مفعول :«أمْدَدْنَاهُمْ »١ ويجوز أن يكون مستأنفاً.
وتقدم الخلاف في قوله :﴿ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا ﴾ في البقرة٢. والجملة في موضع نصب صفة لكأسٍ. وقوله : فِيهَا أي في شَرَابِهَا. وقيل : في الجَنَّة. ومعنى يتنازعون أي يَتَعَاطَوْن. ويحتمل أن يقال : التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب مُلاَعَبةٍ لا تَجاذُبَ مُنَازَعَة. وفيه نوع لذَّةٍ، قال الشاعر :
نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشَّمُولِ وَقَدْ صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي٣
وقوله :﴿ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾ قال قتادة : اللَّغْو : الباطل. وقال مقاتل بن حيّان : لا فضولَ فيها. وقال سعيد بن المسيب : لاَ رَفَث فيها. وقال ابن زَيْد : لا سبابَ ولا تخاصُمَ فيها٤.
وقال القُتَيْبِيُّ : لا يذهب عقولهم فيَلْغُوا أو يَرْفُثُوا «وَلاَ تَأْثيمٌ » أي لا يكون منهم ما يُؤْثِمُهُمْ٥. قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السُّكْر٦. وقال الزجاج : لا يجري منهم ما يُلْغَى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشَرَبَةِ الخَمْر٧.
وقيل : لا يأثمون في شُرْبِهَا.
١ وهو قول أبي البقاء في التبيان ١١٨٤..
٢ عند قوله: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ من الآية ٢٢٥..
٣ من البسيط وهو للأخطل. والساري هو السائر بالليل ويروى وفقة الساري. وانظر الديوان ٧٩ و٨٠.
وشاهده: أن "نازعته" بمعنى جاذبته بلذة وملاعبة. وانظر البحر ٨/١٤٩، والقرطبي ١٧/٦٨، وحجة ابن خالويه ٣٣٤ والشعر والشعراء ٤٨٣..

٤ وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/٢٥١..
٥ غريب القرآن له ٤٢٥..
٦ الرازي ٢٨/٢٤٥..
٧ معان القرآن له ٥/٦٣..
قوله تعالى :﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ ﴾ أي يطوف عليهم بالخِدمة غلمانٌ لهم «كَأَنَّهُمْ » في الحسن والبياض والصَّفاء.
قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴾ صفة ثانية «لِغِلْمَانٍ ». والمعنى يطوف عليهم بالكُؤُوس غلمانٌ لهم. وهم الوِلْدَان المُخَلَّدُون ﴿ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴾ أي مخزون مَصُونٌ لم تَمَسَّهُ الأَيْدِي.
قال سعيدُ بن جُبَيْر : يعني في الصِّدق، وقال عبد الله بن عمر : ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألفُ غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه. «وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال : قَالُوا يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخْدُوم ؟ قال : فَضْلُ المَخْدُومِ عَلَى الْخَادِمِ كَفَضْلِ لَيْلَةَ البدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَواكِبِ ».
قوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ يسأَلُ بعضُهم بعضاً في الجنة. قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: يتذاكرُون ما كانوا فيه من التَّعَب والخوف في الدنيا؛ فقوله: «يَتَسَاءَلُونَ» جملة حالية من «بَعْضُهُمْ».
133
قوله: ﴿قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ أي خائفين. والمعنى أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون: خَشْيَة اللَّهِ أي كنا نخاف الله «فَمَنَّ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ». قال الكلبي: عذاب النار. وقال الحسن: (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -) : السموم اسمٌ من أسماء جهنم. والسَّمُوم في الأصل الرِّيحُ الحَارَّة التي تَتَخَلَّل المَسَامَّ، والجمع سَمَائِمُ. وسُمَّ يَوْمُنَا أي اشتدَ حَرُّهُ. وقال ثعلب: السموم شدة الحر أو شدة البرد في النَّهَار وقال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحَرُور بالليل وقد يكون بالنهار وقد يستعمل السموم في لَفْحِ البَرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر. وقد تقدم شيء من ذلك في سُورة «فاطر».
وقرأ العامة: وَوَقَانَا بالتخفيف، وأبو حَيْوَة بالتَّشديد وقد تقدم. قوله: «إنَّا كُنَّا قَبْلُ» أي في الدنيا «نَدْعُوهُ» نُخْلِصُ له العبادة.
وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ البر﴾ قرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح الهمزة على التعليل أي لأنَّه والباقون بالكسر على الاستئناف الذي فيه معنى العلة فيتحد معنى القراءتين.
وقوله: «هُوَ البَرُّ». قال ابن عباس: اللطيف. وقال الضحاك: الصادق فيما وعد الرحيم بعباده، (اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا).
134
قوله :﴿ قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴾ أي خائفين. والمعنى أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون : خَشْيَة اللَّهِ أي كنا نخاف الله.
«فَمَنَّ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ». قال الكلبي : عذاب النار. وقال الحسن :( - رضي الله عنه - )١ : السموم اسمٌ من أسماء جهنم. والسَّمُوم في الأصل الرِّيحُ الحَارَّة التي تَتَخَلَّل المَسَامَّ، والجمع سَمَائِمُ. وسُمَّ يَوْمُنَا أي اشتدَ حَرُّهُ٢. وقال ثعلب : السموم شدة الحر أو شدة البرد في النَّهَار٣ وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحَرُور بالليل وقد يكون بالنهار وقد يستعمل السموم في لَفْحِ البَرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر٤. وقد تقدم شيء من ذلك في سُورة «فاطر ».
وقرأ العامة : وَوَقَانَا بالتخفيف، وأبو حَيْوَة بالتَّشديد٥ وقد تقدم. قوله :«إنَّا كُنَّا قَبْلُ » أي في الدنيا «نَدْعُوهُ » نُخْلِصُ له العبادة.
١ ما بين الأقواس سقط من (ب). وانظر هذه الأقوال في تفاسير البغوي والخازن ٦/٢٥١ والقرطبي ١٧/٧٠..
٢ وانظر القرطبي المرجع السابق..
٣ ينظر فصيح الإمام ثعلب واللسان "سَ مَ مَ" ٢١٠٣..
٤ كذا نسبه أيضا القرطبي في الجامع ١٧/٧٠ وصاحب اللسان "سَمَمَ" لأبي عبيدة ولم أجده في مجازه عند التحدث عن تلك الآية. وانظر اللسان "سمم" ٢١٠٣..
٥ ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ٨/١٥٠ وهي شاذة..
وقوله :﴿ إِنَّهُ هُوَ البر ﴾ قرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح الهمزة على التعليل أي لأنَّه والباقون بالكسر على الاستئناف١ الذي فيه معنى العلة فيتحد معنى القراءتين.
وقوله :«هُوَ البَرُّ ». قال ابن عباس : اللطيف. وقال الضحاك : الصادق فيما وعد الرحيم بعباده، ( اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا ) ٢.
١ من القراءة السبعية المتواترة وانظر الكشف ٢/٢٩١..
٢ هذه الجملة الدعائية زيادة من أ..
قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ لما بين تعالى أن في الوجود قوماً يخافون الله، ويشفقون في أهلهم والنبي - عبليه الصلاة والسلام - مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] فوجب التذكير فلذلك ذَكَرَهُ بالفاء.
قوله: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مقسم به متوسط بين اسم «ما» وخبرها. ويكون الجواب حينئذ محذوفاً لدلالة هذا المذكور عليه والتقدير: «وَنِعْمَةَ رَبّكَ مَا أَنْتَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ».
الثاني: أن الباء في موضع نصب على الحال، والعامل فيها: «بِكَاهِنٍ أوْ مَجْنُون» والتقدير: ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. قاله أبو البقاء. وعلى هذا فهي حالٌ لازمة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يفارق هَذِهِ الحَالَ.
الثالث: أن الباء متعلقة بما دل عليه الكلام وهو اعتراض بين اسم «ما» وخبرها والتقدير: ما أنت في حال أذْكَارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون. قاله الحوفيّ. قال شهاب الدين: ويظهر وجه رابع وهو أن تكون الباء سببية وتتعلق حينئذ بمضمون الجملة المنفية. وهذا هو مقصود الآية الكريمة. والمعنى انتفى عنك الكَهَانَةُ والجنونُ بسبب نعمةِ الله عليك كما تقول: مَا أَنْتَ بمُعْسرٍ بحمْدِ اللَّهِ وَغِنائِهِ.

فصل


المعنى «فَذَكِّرْ» يا محمد أهل مكة بالْقُرْآنِ ﴿فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ أي برحمته وعصمته «بِكَاهِنٍ» مبتدع القول ومخبر بما في غد من غير وحي «وَلاَ مَجْنُونٍ» نزلت في الذين اقتسموا عِقَابَ مكة يرمون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالكَهانةِ والسِّحر والجُنُون والشِّعر.
135
قوله: «أَمْ يَقُولُونَ» قال الثعلبي: قال الخليل: كل ما في سورة الطور من «أم» فاسْتِفْهَامٌ وليس بِعَطْفٍ.
وقال أبو البقاء: «أم» في هذه الآيات منقطعة. وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر بِبَلْ وحدَها أو بِبَلْ والهمزة أو بالهمزة وحدها. والصحيحُ الثاني.
وقال مجاهد في قوله: «إنْ تَأمُرهُمْ» تقديره بَلْ تَأمُرُهُمْ. وقرأ: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ يدل: أم هُمْ قَوْمٌ.
قوله: «نَتَرَبَّصُ» في موضع رفع صفة ل «شَاعِرٌ» والعامة على «نَتَرَبَّص» بإسناد الفعل لجماعة المتكلمين «رَيْبَ» بالنصب.
وزيد بن علي: يُتَرَبَّصُ - بالياء من تحت - على البناء للمفعول «رَيْبُ» بالرفع.
و «رَيْبُ المَنُونِ» : حَوَادِثُ الدَّهْر، وتَقَلُّبَات الزَّمان؛ لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل. قال الشاعر:
٤٥٣٥ - تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتُ خَلِيلُهَا
وقال أبو ذُؤَيْب:
٤٥٣٦ - أَمِنَ الْمَنُونَ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
والمنون في الأصل الدهر. وقال الراغب: المَنُونُ: المنيّة؛ لأنها تَنْقُصُ العَدَدَ، وتَقْطَعُ الْمَدَدَ. وجَعَلَ من ذلك قوله: ﴿أجر غير ممنون﴾ أي غير منقطع. وقال الزمخشري: وهو في الأصل: فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع، ولذلك سميت شعوب. و «رَيْبَ» وريبة مفعول به أي ننتظر به حوادث الدهر أو المنية.

فصل


المعنى: بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخَرَّاصين شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ المنون
136
حوادث الدهر وصروفه وذلك أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون فقالوا: لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شِعْره وإنما نصبر وَنَتَربَّصُ موتَهُ ويَهْلِك كما هلك من قبله من الشعراء ويتفرق أصحابه وإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه. والمنون يكون بمعنى الدهر فيكون بمعنى الموت سُمِّيَا بذلك لأنَّهما يقطعان الأجل. أو يقال: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يقول: إن الحَقَّ دين الله، وإنَّ الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر، وكتابي يُمْلَى إلى قيام الساعة فقالوا: ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهَلاَك فنتربص به ذلك. وَرَيْبُ المَنُون: هو اسم للموت فَعُولٌ من المَنِّ، وهو القطع.
ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد انه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذِهْنَهُ وتُورثُ وَهَنَهُ فيتبين لكل أحد فساد أمره وكساد شعره.
قوله: «قُلْ تَرَبَّصُوا» أي انتظروا بي الموت.
فإن قيل: هذا أمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يُبِيحُه ويجوزه وتربصتم كان حراماً.
فالجواب: ليس ذلك بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا فإني متربصٌ الهلاك بكم كقول الغَضْبَانِ لعبده: افْعَلْ مَا شِئْتَ فإني لَسْتُ عَنْكَ بغافلٍ.
فإن قيل: لو كان كذلك لقال: تَرَبَّصوا أو لا تَتَرَبَّصُوا كما قال: ﴿اصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ﴾ [الطور: ١٦].
فالجواب: ليس كذلك، لأن ذلك يفيد عدم الخوف أكثر.
قوله: ﴿فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين﴾ أي أتربصُ هَلاَكَكُمْ، وقد أهلكوا يوم بدر وغيره من الأيَّام. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون معناه إذا قلنا: (إن) ريب المنون صروفُ الدهر فمعناه إنكار كَوْن صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول: أَنَا مِنَ المتربِّصين حتى أُبْصِرَ ماذا يأتي به الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يُصِيْبُني منه.
قوله: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ﴾ عقولهم ﴿بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ والإشارة بقوله: «بِهَذَا» إلى ما ظهر منهم عقلاً ونقلاً. وهو عبادة الأوثان وقولهم الهَذَيَان. وقيل: إشارة إلى قولهم: كَاهنٌ وشاعرٌ ومجنونٌ. وقيل إشارة إلى التربص وذلك أن الأشياء إما أن
137
تَثْبُتَ بعقلٍ أو نقلٍ فقال: هل ورد أمرٌ سَمْعِيّ أم عقولهم تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون مُفْتَرُونَ ويَقُولُونَ ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً؟ والطُّغْيَان مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في العِصْيَانِ وكذلك كل شيء مكروهٌ ظاهرٌ، قال تعالى:
﴿لَمَّا طَغَا المآء﴾ [الحاقة: ١١].
واعلم أن قوله: «أَمْ تَأمُرُهُمْ» متصل تقديره: أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وَفْق العقل لا ينبغي أن يقال؛ وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قولهُ عقلاً.
والأحلام جمع حِلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المَعْقُول لا يتحرك عن مكانه والحِلْم من الاحتلام، وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأن الحُلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلّفاً، فالله تعالى من لطيفِ حِكمته قَرَن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحِلْم ليعلم أنه يريد به كمال العقل.
قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ أي يخلق القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، والتَّقَوُّلُ تكلّف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ﴾ تقديره: كاهن أم يقولون تقوله بالمعنى ليس الأمر كما زَعَمُوا بل لا يؤمنون بالقرآن استكباراً.
ثم ألزمهم الحُجَّة وأبطل جميع الأقسام فقال: ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ﴾ أي القُرْآنِ ونظمه ﴿إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ أنَّ محمداً تقوَّلهُ من قِبَلِ نفسه، ولما امتنع ذلك كَذَّبوا في الكُلّ.
قوله: «فَلْيأتُوا» الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى بهِ لِيَصحَّ كلامُهُم ويبطل كلامه. قال بعض العلماء: وهذا أمر تعجيزٍ قال ابن الخطيب: والظاهر أن الأَمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل: إيتوا مطلقاً بل قال: إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يَجِبُ الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم.
138
قوله: «بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» العامة على تنوين «حَدِيثٍ» وَوَصْفِهِ ب «مِثْلِهِ». والجَحْدَرِيُّ وأبو السَّمَّال «بحَدِيثِ مِثْلِهِ» بإضافة حديث إلى «المِثْل» على حذف موصوف أي بحديثِ رجلٍ مِثْلِهِ من جِنْسِهِ.

فصل


قالت المعتزلة: الحديث محْدَث، والقرآن سماه حديثاً فيكون مُحْدَثاً.
وأجيبوا: بأن الحديث اسمٌ مشترك يقال للمُحْدَث والمنقول وهذا يصح أن يقال: هذا حديث قديم أي متقادم العَهْد، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لاَ نِزَاع فِيهِ.
فإن قيل: الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا: «حَدِيث» وهو مُنَكَّر، و «مِثْلِهِ» مضاف إلى «القرآن» والمضاف إلى القرآن مُعَرَّف فكيف هذا؟
فالجواب: أن «مِثْلاً» و «غَيْراً» لا يتعرَّفان بالإضافة، وكذلك كل ما هو مثله كشِبْهٍ، وذلك أن «غَيْراً ومِثْلاً» وأمثالهما في غاية التنكير؛ لأنك إذا قلت: «مِثْلُ زَيْدٍ» يتناول كل شيء، فإن كل شيء مثل زيد في شيء فالحِمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنباتُ مثله في النُّشُوء والنَّمَاء والذّبُول والفَنَاء، والحَيَوَان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف.
وأما «غَيْرُ» فهو عند الإضافة ينكَّر وعند قطع الإضافة ربَّما يَتَعرَّف؛ فإنك إذا قلت: غَيْر زيدٍ صار في غاية الإبهام، فإنه يتناول أموراً لا حصر لها، وأما إذا قطعتَ «غير» عن الإضافة فربَّما يكون الغَيْرُ والمُغَايَرَةُ من بابٍ واحد وكذلك التَّغيُّر فتجعل الغير كأسماء الجنس وتَجْعَلُهُ مبتدأ أو تريد به معنى معيَّناً.
قوله: «أَمْ خُلِقُوا» لا خلاف أن «أم» هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على
139
أن المراد ما وقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول: «أَخُلِقُوا مِنْ غير شيء».
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره: أَم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون؟
قوله: ﴿مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ يجوز أن تكون «من» لابْتِدَاء الغاية على معنى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شيء حَيٍّ كالجَمَادِ فهم لا يُؤْمَرُون ولا يُنْهَوْنَ كما الجَمَادَات، وقيل: هي للسَّبَبِيَّة على معنى من غير عِلَّةٍ، ولاَ لِغَايَةِ ثوابٍ ولا عقابٍ.

فصل


وجه تعلق الآية بما قبلها أنهم لما كذبوا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ونسبوه إلى الكَهَانَةِ والشِّعْر والجُنُونِ وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صِدْقِهِ إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم فكأنه يقول: كيف تكذبونَهُ وفي أنفسكم دليل صدقه، لأن قوله كانَ في ثلاثة أشياء، في التوحيدِ، والحَشْرِ، والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم صدقه وهو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما تقدم أنَّ:
فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ؟
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني.

فصل


قال المفسرون: معنى الآية: أم خلقوا من غير شَيْءٍ فوُجِدُوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون ﴿أَمْ هُمُ الخالقون﴾ لأنفسهم وذلك في البُطْلاَن أشدُّ؛ لأن ما لا وجودَ له كيف يخلق فإذا بَطَلَ الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به. قال هذا المعنى أبو سليمان الخَطَّابِيُّ. وقال الزجاج: معناه أَخُلِقُوا باطلاً لا يُحَاسَبُون ولا يُؤْمِنُون وقال ابْنُ كَيْسَانَ: أخلقوا عبثاً وتركوا سُدًى لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنهَوْن كقول القائل
140
فعلت كذا وكذا (وقوله) :﴿مِنْ غير شيء﴾ لغير شيء ﴿أَمْ هُمُ الخالقون﴾ لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر.
وقيل: معناه أخلقوا من غير أبٍ وأُمٍّ.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: أم خلقوا من غير شيء أي أَلَمْ يُخْلَقُوا من ترابٍ أو من ماء لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ [المرسلات: ٢٠] ويحتمل أن يقال: الإستفهام ليس بنفي بل هو بمعنى الإثبات كقوله تعالى: ﴿أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون﴾ [الواقعة: ٥٩] و ﴿أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون﴾ [الواقعة: ٦٤] و ﴿أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون﴾ [الواقعة: ٧٢] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ أي إنَّ الصادقَ هو الثاني وهذا حينئذ كقوله تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان: ١].
فإن قيل: كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟
نقول: والتراب خلق من غير شيء، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه ونظرت إلى ابتداء أمره تجده مخلوقاً من غير شيء.
أو نقول: المراد أم خلقوا من غير شيء مذكوراً أو متغيراً وهو الماء المَهِينُ؟
قوله: ﴿أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ﴾ قال الزمخشري: «لا يوقنون بأنهم خُلِقُوا» وهو في معنى قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم.
وقيل: بل لا يوقنون بأن الله خالقٌ واحدٌ أي ليس الأمر كذلك وما خلقوا وإنما لا يوقنون بوَحْدَةِ الله. وقيل المعنى لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول كَقْولِكَ: فُلانٌ لَيْسَ بمُؤْمِنٍ وفُلاَنٌ كَافِرٌ لبيان مذهبه وإن لم يَنْوِ مفعولاً. والمعنى أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل، بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية بدليل قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾. وهذه الآية دليل الآفاق وقوله من قَبْلُ دَليلُ الأنفس.
141
قوله: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ﴾ قال عكرمة: يعني النبوة، وقال مقاتل: أَبِأَيْديهم مفاتيحُ ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ وقال الكلبي: خَزَائِنُ المَطَر والرِّزق. وقيل: خزائن الرحمة.
قوله: ﴿أَمْ هُمُ المسيطرون﴾ وهذه تَتِمَّةُ الردِّ عليهم؛ لأنه لما (قَا) ل: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ﴾ أشار على أنهم ليسوا بخزنة الله فعلموا خزائن الله لكن بمجرد انتفاء كونهم خزنة (لا) ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخَزَنَةِ، فإن العلم بالخَزَائنِ عند الخازن والكاتب بالخِزَانَة فقال: لستم بخَزَنَةٍ ولا بِكَتَبَة الخزانة المسلطين عليها.
قال ابن الخطيب: ولا يبعد تفسير: «المُسَيْطِرِين» بكَتَبَةِ الخزائن؛ لأن التركيب يدل على السَّطْر وهو يستعمل في الكِتَابة.
قال أهل اللغة: المُسَيْطِرُ الغالب القاهر من سَيْطَرَ عليه إذا راقبه وَحَفظَهُ أو قَهَرَهُ.
قال المفسرون: المسيطرون المسلطون الجَبَّارُون. وقال عطاء: أربابٌ قاهرونَ، فلا يكونوا تحت أمرٍ أو نهي يفعلون ما شَاؤُوا. ويجوز بالسين والصاد جميعاً.
وقرأ العامة: المُصَيْطِرُون بصاد خالصة من غير إشْمَامِها زاياً لأجل الطاء كما تقدم في: «صراط» [الفاتحة: ٧].
وقرأ هشامٌ وقُنْبُلٌ من غير خلاف عنهما بالسين الخالصة التي هي الأصل وحفصٌ بخلافٍ عنه.
وقرأ خلاَّدٌ بصاد مشمَّةٍ زاياً من غير خلاف عنه. وقرأ خلادٌ بالوجهين أعني كخَلَفٍ والعامَّةِ. وتوجيه هذه القراءات واضحٌ مما تقدم في أول الفاتحة، ولم
142
يأتِ على «مُفَيْعِلٍ» إلا خمسة ألفاظ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعل نحن مُهَيْمِن ومُبَيْقِر، ومُسَيْطرِ ومُبَيْطر وواحد اسم جبل - وقيل: اسم أرضٍ لبني فِزارة - وهو المُجَيْمِر قال امرؤ القيس:
٤٥٣٧ - كَأَنَّ ذُرَى رَأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ﴾ أي مِرْقَاةٌ ومِصْعَد إلى السماء «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ». وهذا أيضاً تتميم الدليل، فإن مَنْ لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال: أنتم لستم بخزنة ولا كَتَبَةٍ ولا اجتمعتم بهم، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم.
قوله: «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» صفة «لسُلَّمٍ» و «فِيهِ» على بابه من الظرفية. وقيل: هي بمعنى «عَلَى». قاله الواحدي، كقوله تعالى: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١]. ولا حاجة إلَيْهِ.
وقدَّره الزمخشري متعلقاً بحال محذوفة تقديرها: صَاعِدِينَ فيه. ومفعول «يَسْتَمِعُونَ» محذوف فقدره الزمخشري يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من عِلْم الغيب. وقدره غيره يستمعون الخبر بصحة ما يدعون من أنه شاعر، وأنَّ لِلَّهِ شركاءَ.
والظاهر أنه لا يقدر له مفعول بل المعنى يوقعون الاستماع أي هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول.
قوله: «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ» إن ادَّعَوْا ذلك «بسلطان مبين» أي حجة وبينة.
فإن قيل كيف قال: «فَلْيَأتِ مُسْتَمِعُهُمْ» ولم يقل: فَلْيَأتُوا كما قال تعالى: ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ﴾ [الطور: ٣٤] ؟
143
فالجواب: أنه طلب منهم الأهون على تقدير صدقهم ليكون امتناعُه عليهم أدلَّ على بُطْلان قولهم، وقال هناك: فَلْيَأتوا أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله، فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارْتِقَاءُ في السلم بالاجتماع فمتعذِّر، لأنه يرتقي واحدٌ بعد واحد فلا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال: فَلْيَأتِ ذَلك الواحد بما سَمِعَهُ. وفيه لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه لكان الواحد أن يفتري ويقول: سَمِعْتُ كذا فقال: لاَ بل الواجب أن يأتي بدليل يَدُلُّ عليه.
قوله: ﴿أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون﴾ وهذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون كقوله تعالى: ﴿فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون﴾ [الصافات: ١٤٩].
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً﴾ جعلاً على ما جئتهم به ودعوتهم إليه ﴿فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ أي أثقلهم ذلك المَغْرَم الذي يسألهم، فيمنعهم ذلك عن الإسلام.
فإن قيل: ما الفائدة في سؤال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث قال: أَمْ تَسْأَلَهُمْ ولم يقل: أَمْ تُسْأَلُونَ أجراً كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً﴾ إلى غير ذلك؟
فالجواب: أنَّ فيه فائدتين:
إحداهما: تسلية قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنهم امتنعوا عن الاستماع صَعُبَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال له ربه: أَنْتَ أتيتَ بما عليك فلا يَضيقُ صدرُك حيث لم يُؤْمنوا، فأنت غير مُلْزَم، وإنما كنت تُلاَمُ إن كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأَثْقَلْتَهُمْ فلا حَرَجَ عليك إذَنْ.
الثانية: لو قال: أَمْ تُسْأَلُونَ ففي طلب الأجر مطلقاً وليس كذلك لأنهم كانوا مشركين مطالبين بالأجر من رؤسائهم وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أنتَ لا تسألهم أجراً فهم لا يَتَّبِعُونَك وغيرهُم يسألهم وهم يسألون ويتَّبِعون السائلين هذا غاية الضَّلاَل.
قوله: ﴿أَمْ عِندَهُمُ الغيب﴾ أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم من أمر القيامة والبعث باطل. قال قتادة: هذا جواب لقوله: ﴿نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ يقول: أعندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم فهم يكتبون.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لبعد ذكره، أو لأن قوله تعالى: ﴿قُلْ تَرَبَّصُواْ﴾ متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذاك.
144
قال القُتَيْبِيّ: أي يحكمون والكِتَاب الْحُكم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للرجلين اللذين تخاصما إليه: أقضي بينكما بكِتَاب الله أي بحُكْمِ الله.
وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - معناه: أم عِنْدهُمُ اللَّوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويُخْبِرُون الناس به.
والألف واللام في ﴿الغيب﴾ لا للْعَهْد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب، كما تقول: اشْتَرِ اللَّحْمَ تريد بيان الحقيقة لا كلّ لحم ولا لحماً معيناً.
قوله ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً﴾ أي مكراً بك ﴿فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون﴾ أي المَخْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ، أي إن ضَرَرَ ذلك يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم لأنهم مكروا به في دَار الندوة فقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.

فصل


وجه التعلق إذا قيل بأن قوله: ﴿أَمْ عِندَهُمُ الغيب﴾ متصل بقوله تعالى: ﴿نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ فالمعنى أنهم لما قالوا: نتربص به ريب المنون قيل لهم: أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أَمْ تُرِيدُون كيداً فتقولون نقتله فيموت فقيل لهم: إن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنُّون أنّكم تقدرون عليه فأنتم غالِطُون فإن الله يَصُونُه ويَنْصُره عليكم.
وإن قيل بأن المراد أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يسألكم عن الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لكونه من الغُيُوبِ ففي المراد بقوله: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً﴾ وجهان:
الأول: أن المعنى أم يريدون أي من الشيطان فكأنه تعالى قال: أنتَ لا تَسْألهم أجراً وهم لا يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كَيْدَ الشيطان، وارتَضَوْا بإزاغَتِهِ.
والإرادة بمعنى الاختيار كقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة﴾ [الشورى: ٢٠] وقوله: ﴿أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ﴾ [الصافات: ٨٦] وقوله: ﴿إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ [المائدة: ٢٩].
الثاني: أن المراد أم يريدون كيداً، فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدونَ والمعنى
145
أنه لم يبق لهم حجةٌ في الإعراض فهم يريدون نُزُول العذاب والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويَهْدِيهم إلى ما لاَ عِلْمِ لَهم به ولا كتابَ عندهم وهم معرضون فهم يريدون إذَنْ أن يهلكهم ويكيدهم، لأن الاستدراجَ كيدٌ، والإملاء لازدياد الإثْم كذلك ولا يقال: هذا فاسد، لأن الكيد والإساءة لا تطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقال: أسَاءَ اللَّهُ إلى الكافر ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً منهم شيء من ذلك، ثم يقال بعده مثله لفظاً في حق الله تعالى، كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] ﴿يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً﴾ [الطارق: ١٥ - ١٦] ؛ لأنا نقول: الكيد (ما) يسُوءُ مَنْ نَزَلَ به، وإن حسن ممن وجد منه كقول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧] من غير مقابلة. ونكر الكيد، إشارةً إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرُون، فكأنه قال: يأتيهم بَغْتة ولا يكون لهم علم بِعظمِهِ.
قوله: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا» هذا من وقوع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على اتِّصافهم بهذه الصفة القبيحة، والأصل أَم يُريدُونَ كَيْداً فَهُم المكيدون، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون اندراجاً أوَّلِيًّا لتوغلهم في هذه الصفة.
قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله﴾ يرزقهم وينصرهم ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
قال الخليل: ما في هذه السورة من ذكر «أَمْ» كلمةُ استفهام وليس بعطف.

فصل


قَالَ أَهْلُ اللُّغَة: «سُبْحَانَ اللَّهِ» اسم علم على التسبيح، و «مَا» في قوله «عَمَّا يُشْرِكُونَ» يحتمل أن تكون مصدرية أي عن إشراكهم، ويحتمل أن تكون خبريةً أي عن الذين يشركون. وعلى هذا يحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون: لَهُ البَنَاتُ فقال: «سُبْحَانَ اللَّهِ عن البنات والبنين». ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة أي سبحانه الله عن مِثْل ما يعبدونه.
قوله تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً﴾ «إنْ» هذه شرطية على بابها. وقيل: هي بمعنى «لو». وليس بِشَيءٍ.
146
وقوله: «سَحَابٌ» خبر مبتدأ مضمر أي هذا سَحَابٌ، والجملة نَصْبٌ بالقول.

فصل


لما بين فَسَاد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنه لم يبق لهم عُذْرٌ، فإن الآيات والحُجَج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك ﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً﴾ أي قطعةً ﴿مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ﴾ أي ينكرون كونه آية.
ومعنى الآية لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم يَنْتَهُوا عن كفرهم ويقولوا لمعاندتهم: هَذَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ أي بعضه على بعض.
قوله: «سَاقِطاً» يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً كقولك: رَأَيْتُ زيداً عَالِمَاً، وأن يكون حالاً كقولك: ضربته قائماً.
والثاني أولى؛ لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكونُ بمعنى العلم، تقول: رَأَيْتُ هَذَا المَذْهَبَ صَحِيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى «رأي العين» في الأكثر، تقول: رأيت زيداً؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٤] وقال: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً﴾ [مريم: ٢٦].
والمراد من الآية رؤية العين.

فصل


قولهم: «سَحَابٌ مَرْكومٌ» إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يعقلوا وقوع شيء على الأرض يَرْجِعون إلى التأويل والتَّخْييل، وقالوا: سَحَابٌ ولم يقولوا: هذا سحاب إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العِنَاد فأتوا بما لا شك فيه. وقالوا: «سحاب مركوم» وحذفوا المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقولون عند تكذيب الخلق إيّاهم: قُلْنَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ شبهة أو مثلة. وإن مشى الأمر على عوامِّهم استمروا. وهذه طريق من يخاف من كلام لا يعلم هل يقبل منه أم لا فيجعل كلامه ذَا وَجْهَيْنِ. فإن رأى القبول صرح بمرادهِ، وإن أنكر عليه أحدهما فَسَّره بالآخَر.
147
وقال أبو البقاء :«أم » في هذه الآيات منقطعة١. وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر بِبَلْ وحدَها أو بِبَلْ والهمزة أو بالهمزة وحدها. والصحيحُ الثاني.
وقال مجاهد في قوله :«إنْ تَأمُرهُمْ » تقديره بَلْ تَأمُرُهُمْ. وقرأ :﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ يدل : أم هُمْ قَوْمٌ.
قوله :«نَتَرَبَّصُ » في موضع رفع صفة ل «شَاعِرٌ » والعامة على «نَتَرَبَّص » بإسناد الفعل لجماعة المتكلمين «رَيْبَ » بالنصب.
وزيد بن علي : يُتَرَبَّصُ - بالياء من تحت - على البناء للمفعول «رَيْبُ » بالرفع٢.
و«رَيْبُ المَنُونِ » : حَوَادِثُ الدَّهْر، وتَقَلُّبَات الزَّمان ؛ لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل. قال الشاعر :
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتُ خَلِيلُهَا٣
وقال أبو ذُؤَيْب :
أَمِنَ الْمَنُونَ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ٤
والمنون في الأصل الدهر. وقال الراغب : المَنُونُ : المنيّة ؛ لأنها تَنْقُصُ العَدَدَ، وتَقْطَعُ الْمَدَدَ. وجَعَلَ من ذلك قوله :﴿ أجر غير ممنون ﴾٥ أي غير منقطع٦. وقال الزمخشري : وهو في الأصل : فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع، ولذلك سميت شعوب٧. و«رَيْبَ » وريبة مفعول به أي ننتظر به حوادث الدهر أو المنية.

فصل


المعنى : بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخَرَّاصين شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ المنون حوادث الدهر وصروفه وذلك أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون فقالوا : لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شِعْره وإنما نصبر وَنَتَربَّصُ موتَهُ ويَهْلِك كما هلك من قبله من الشعراء ويتفرق أصحابه وإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه. والمنون يكون بمعنى الدهر فيكون بمعنى الموت سُمِّيَا بذلك لأنَّهما يقطعان الأجل. أو يقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقول : إن الحَقَّ دين الله، وإنَّ الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر، وكتابي يُمْلَى إلى قيام الساعة فقالوا : ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهَلاَك فنتربص به ذلك. وَرَيْبُ المَنُون : هو اسم للموت فَعُولٌ من المَنِّ، وهو القطع.
ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذِهْنَهُ وتُورثُ وَهَنَهُ فيتبين لكل أحد فساد أمره وكساد شعره.
١ التبيان ١١٨٤..
٢ قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر ٨/١٥١ والكشاف ٤/٢٥..
٣ من الطويل وجيء به على أن "ريب المنون" معناه حوادث الدهر كما أوضح أعلى. وانظر القرطبي ١٧/٧٢ وفتح القدير ٥/٩٩ وروح المعاني ١٧/٣٦ ومجمع البيان ٩/٢٥٣ وقد روي عجزه: سيهلك عنها بلعها أو سيجنح..
٤ من الكامل لأبي ذؤيب، وشاهده كالبيت السابق. وانظر القرطبي ١٧/٧٢ والبحر ٨/١٥١ والكشاف ٤/٢٥ وشرح شواهده ٥/٤٤٢..
٥ الآية ٣ من القلم، و٢٥ من الانشقاق، و٦ من التين، و٨ من فصّلت..
٦ وانظر المفردات للراغب ٤٧٤..
٧ الكشاف ٤/٢٥..
قوله :«قُلْ تَرَبَّصُوا » أي انتظروا بي الموت.
فإن قيل : هذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم١ - ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يُبِيحُه ويجوزه وتربصتم٢ كان حراماً.
فالجواب : ليس ذلك بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا فإني متربصٌ الهلاك بكم كقول الغَضْبَانِ لعبده : افْعَلْ مَا شِئْتَ فإني لَسْتُ عَنْكَ بغافلٍ.
فإن قيل : لو كان كذلك لقال : تَرَبَّصوا أو لا تَتَرَبَّصُوا كما قال :﴿ اصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا ﴾.
فالجواب : ليس كذلك، لأن ذلك يفيد عدم الخوف أكثر٣.
قوله :﴿ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربّصين ﴾ أي أتربصُ هَلاَكَكُمْ، وقد أهلكوا يوم بدر وغيره من الأيَّام. قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون معناه إذا قلنا :( إن ) ٤ ريب المنون صروفُ الدهر فمعناه إنكار كَوْن صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول : أَنَا مِنَ المتربِّصين حتى أُبْصِرَ ماذا يأتي به الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يُصِيْبُني منه.
١ في ب –عليه الصلاة والسلام-..
٢ في ب وهو الأقرب تربصهم..
٣ وانظر المعني أعلى في تفسير البغوي والخازن ٦/٢٥٢ وهذان القيلان وجوابهما في تفسير الرازي ٢٨/٢٥٥ و٢٥٦..
٤ سقط من ب..
قوله :﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ ﴾ عقولهم ﴿ بهاذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ والإشارة بقوله :«بِهَذَا » إلى ما ظهر منهم عقلاً ونقلاً. وهو عبادة الأوثان وقولهم١ الهَذَيَان. وقيل : إشارة إلى قولهم : كَاهنٌ وشاعرٌ ومجنونٌ. وقيل إشارة إلى التربص وذلك أن الأشياء إما أن تَثْبُتَ بعقلٍ أو نقلٍ فقال : هل ورد أمرٌ سَمْعِيّ أم عقولهم٢ تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون مُفْتَرُونَ ويَقُولُونَ ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً ؟ والطُّغْيَان مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في العِصْيَانِ وكذلك كل شيء مكروهٌ ظاهرٌ، قال تعالى :﴿ لَمَّا طَغَا الماء ﴾ [ الحاقة : ١١ ].
واعلم أن قوله :«أَمْ تَأمُرُهُمْ » متصل تقديره : أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وَفْق العقل لا ينبغي أن يقال ؛ وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قولهُ عقلاً.
والأحلام جمع حِلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المَعْقُول لا يتحرك عن مكانه والحِلْم من الاحتلام، وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأن الحُلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلّفاً، فالله تعالى من لطيفِ حِكمته قَرَن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحِلْم ليعلم أنه يريد به كمال العقل٣.
١ في ب وقوله على الرسول..
٢ في ب عقليّ..
٣ وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٨/٢٥٦ و٢٥٧..
قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾ أي يخلق القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، والتَّقَوُّلُ تكلّف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ ﴾ تقديره : كاهن أم يقولون تقوله بالمعنى ليس الأمر كما زَعَمُوا بل لا يؤمنون بالقرآن استكباراً.
ثم ألزمهم الحُجَّة وأبطل جميع الأقسام فقال :﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ أي القُرْآنِ ونظمه ﴿ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾ أنَّ محمداً تقوَّلهُ من قِبَلِ نفسه، ولما امتنع ذلك كَذَّبوا في الكُلّ.
قوله :«فَلْيأتُوا » الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى بهِ لِيَصحَّ١ كلامُهُم ويبطل كلامه. قال بعض العلماء : وهذا أمر تعجيزٍ٢ قال ابن الخطيب : والظاهر أن الأَمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل : إيتوا مطلقاً بل قال : إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يَجِبُ الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم٣.
قوله :«بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ » العامة على تنوين «حَدِيثٍ » وَوَصْفِهِ ب «مِثْلِهِ ». والجَحْدَرِيُّ وأبو السَّمَّال «بحَدِيثِ مِثْلِهِ »٤ بإضافة حديث إلى «المِثْل » على حذف موصوف أي بحديثِ رجلٍ مِثْلِهِ من جِنْسِهِ.

فصل


قالت المعتزلة : الحديث مُحْدَث، والقرآن سماه حديثاً فيكون مُحْدَثاً.
وأجيبوا : بأن الحديث اسمٌ مشترك يقال للمُحْدَث٥ والمنقول وهذا يصح أن يقال : هذا حديث قديم أي متقادم العَهْد، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لاَ نِزَاع فِيهِ.
فإن قيل : الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا :«حَدِيث » وهو مُنَكَّر، و«مِثْلِهِ » مضاف إلى «القرآن » والمضاف إلى القرآن مُعَرَّف فكيف هذا ؟
فالجواب : أن «مِثْلاً » و«غَيْراً » لا يتعرَّفان بالإضافة٦، وكذلك كل ما هو مثله كشِبْهٍ، وذلك أن «غَيْراً ومِثْلاً » وأمثالهما في غاية التنكير ؛ لأنك إذا قلت :«مِثْلُ زَيْدٍ » يتناول كل شيء، فإن كل شيء مثل زيد في شيء٧ فالحِمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنباتُ مثله في النُّشُوء والنَّمَاء والذّبُول والفَنَاء، والحَيَوَان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف. وأما «غَيْرُ » فهو عند الإضافة ينكَّر وعند قطع الإضافة ربَّما يَتَعرَّف٨ ؛ فإنك إذا قلت : غَيْر زيدٍ صار في غاية الإبهام، فإنه يتناول أموراً لا حصر لها، وأما إذا قطعتَ «غير » عن الإضافة فربَّما يكون الغَيْرُ والمُغَايَرَةُ من بابٍ واحد وكذلك التَّغيُّر فتجعل الغير كأسماء الجنس وتَجْعَلُهُ مبتدأ أو تريد به معنى معيَّناً.
١ كذا في النسختين وفي الرازي: ليصحّح أي الآتون به. وقد نقل هذا الرأي في معنى الفاء فخر الدين الرازي في تفسيره السابق..
٢ فيراد به المجاز..
٣ من اللطائف التي تكثر في تفسير الإمام الرازي والتي تدل على تميّز كتابه دون كتب التفاسير الأخرى باللطائف وإعمال العقل. وانظر المرجع السابق..
٤ وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط بنسبة ٧/١٥٢ بينما نسب الإمام القرطبي القراءة إلى الجحدري في ١٧/٧٣..
٥ في ب للحدث وهو تحريف..
٦ لشدة إبهامها كما سيأتي..
٧ عبارة الرازي: فإنك إذا قلت: "ما رأيت شيئا مثل زيد" يتناول كل شيء فإن كل شيء مثل زيد في كونه شيئا..
٨ "غير" اسم ملازم للإضافة في المعنى، ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقدمت عليها كلمة "ليس" وتستعمل غير المضافة لفظا على وجهين:
أحدهما: وهو الأصل: أن تكون صفة للنكرة نحو "نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل" أو لمعرفة قريبة منها نحو: "صراط الذين أنعمت عليهم"؛ لأن المعرف الجنسي قريب من النكرة ولأن "غيرا" إذا وقعت بين ضدّين ضعف إبهامها حتى زعم ابن السراج أنها حينئذ تتعرف وترده الآية الأولى.
الثاني: أن تكون استثناء فتعرب إعراب الاسم التالي إلا في ذلك الكلام. وانظر المغني ١٥٨ و١٥٧ والأشموني ٢/٢٦٦ و٢٦٧..

قوله :«أَمْ خُلِقُوا » لا خلاف أن «أم » هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما وقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول :«أَخُلِقُوا مِنْ غير شيء »١.
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره : أَم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون ؟٢
قوله :﴿ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ﴾ يجوز أن تكون «من » لابْتِدَاء الغاية على معنى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شيء حَيٍّ كالجَمَادِ فهم لا يُؤْمَرُون ولا يُنْهَوْنَ كما الجَمَادَات، وقيل : هي للسَّبَبِيَّة على معنى من غير عِلَّةٍ٣، ولاَ لِغَايَةِ٤ ثوابٍ ولا عقابٍ.

فصل


وجه تعلق الآية بما قبلها أنهم لما كذبوا النبي - عليه الصلاة والسلام - ونسبوه إلى الكَهَانَةِ والشِّعْر والجُنُونِ وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صِدْقِهِ إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم فكأنه يقول : كيف تكذبونَهُ٥ وفي أنفسكم دليل صدقه، لأن قوله كانَ في ثلاثة أشياء، في التوحيدِ، والحَشْرِ، والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم صدقه وهو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما تقدم أنَّ :
فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ ؟
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني٦.

فصل


قال المفسرون : معنى الآية : أم خلقوا من غير شَيْءٍ فوُجِدُوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون ﴿ أَمْ هُمُ الخالقون ﴾ لأنفسهم وذلك في البُطْلاَن أشدُّ ؛ لأن ما لا وجودَ له كيف يخلق فإذا بَطَلَ الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به. قال هذا المعنى أبو سليمان الخَطَّابِيُّ٧. وقال الزجاج : معناه أَخُلِقُوا باطلاً لا يُحَاسَبُون ولا يُؤْمِنُون٨ وقال ابْنُ كَيْسَانَ : أخلقوا عبثاً وتركوا سُدًى لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنهَوْن كقول القائل فعلت كذا وكذا ( وقوله ) :﴿ مِنْ غير شيء ﴾ لغير شيء ﴿ أَمْ هُمُ الخالقون ﴾ لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر٩.
وقيل : معناه أخلقوا من غير أبٍ وأُمٍّ١٠.
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : أم خلقوا من غير شيء أي أَلَمْ يُخْلَقُوا من ترابٍ أو من ماء لقوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ] ويحتمل أن يقال : الإستفهام ليس بنفي بل هو بمعنى الإثبات كقوله تعالى :﴿ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون ﴾ و﴿ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون ﴾ و﴿ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون ﴾ [ الواقعة : ٥٩ و٦٤ و٧٢ ] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ﴾ أي إنَّ الصادقَ هو الثاني وهذا حينئذ كقوله تعالى :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ [ الإنسان : ١ ].
فإن قيل : كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب ؟
نقول : والتراب خلق من غير شيء، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه ونظرت إلى ابتداء أمره تجده مخلوقاً من غير شيء.
أو نقول : المراد أم خلقوا من غير شيء مذكوراً أو متغيراً وهو الماء المَهِينُ ؟١١
١ أو هل قاله الرازي في تفسيره ٢٨/٢٥٩، والقرطبي في الجامع ١٧/٧٤..
٢ الرازي السابق. أقول: ويقصد "بأم" الثانية لا الأولى..
٣ ذكر هذين الوجهين أبو حيان في البحر ٨/١٥٢..
٤ في ب ولا لقاء ثواب ولا عقاب..
٥ في ب والرازي يكذبونه بيان الغيبة..
٦ وانظر تفسير الإمام ٢٨/٢٥٩..
٧ انظر هذا القول في معالم التنزيل للبغوي ٦/٥٢٥. أبو سليمان الخطّابي هو: حَمَد بن محمد بن إبراهيم أبو سليمان الخطّابي كان حُجة صدوقا، له من التصانيف غريب الحديث، شرح البخاري. مات سنة ٣٨٨ هـ انظر بغية الوعاة ١/٥٤٧..
٨ الصحيح أن الزجاج قال بمعنى آخر خلاف هذا المعنى وهذا المعنى المذكور هو رأي نقله في كتاب لغيره قال: "معناه بل أخلقوا من غير شيء" وفي المعاني له: "لا يؤمرون" بدل يؤمنون. وانظر المعاني ٥/٦٥..
٩ وانظر هذه الأقوال والمعاني مجتمعة في البغوي ٦/٢٥٢، وانظر أيضا القرطبي ١٧/٧٤..
١٠ السابق والرازي ٢٨/٢٦٠..
١١ الرازي السابق..
قوله :﴿ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ ﴾ قال الزمخشري :«لا يوقنون بأنهم خُلِقُوا »١ وهو في معنى قوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم.
وقيل : بل لا يوقنون بأن الله خالقٌ واحدٌ أي ليس الأمر كذلك وما خلقوا وإنما لا يوقنون بوَحْدَةِ الله. وقيل المعنى لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول كَقْولِكَ : فُلانٌ لَيْسَ بمُؤْمِنٍ وفُلاَنٌ كَافِرٌ٢ لبيان مذهبه وإن لم يَنْوِ مفعولاً. والمعنى أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل، بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية بدليل قوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السماء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴾. وهذه الآية دليل الآفاق وقوله من قَبْلُ٣ دَليلُ الأنفس٤.
١ بالمعنى من الكشاف ٤/٢٦ وباللفظ من الرازي السابق..
٢ في الرازي: ليس بكافر..
٣ وهو: ﴿أم خُلقوا من غير شيء أمهم الخالقون﴾ الآية ٣٥ من نفس السورة..
٤ وانظر الرازي السابق ٢٨/٢٦١..
قوله :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ ﴾ قال عكرمة : يعني النبوة، وقال مقاتل : أَبِأَيْديهم مفاتيحُ ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا ؟ وقال الكلبي : خَزَائِنُ المَطَر والرِّزق١. وقيل : خزائن الرحمة.
قوله :﴿ أَمْ هُمُ المصيطرون ﴾ وهذه تَتِمَّةُ الردِّ عليهم ؛ لأنه لما ( قَا ) ٢ ل :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ ﴾ أشار على أنهم ليسوا بخزنة الله فعلموا خزائن الله لكن بمجرد٣ انتفاء كونهم خزنة ( لا ) ٤ ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخَزَنَةِ٥، فإن العلم بالخَزَائنِ عند الخازن والكاتب بالخِزَانَة٦ فقال : لستم بخَزَنَةٍ ولا بِكَتَبَة الخزانة المسلطين عليها.
قال ابن الخطيب : ولا يبعد تفسير :«المُسَيْطِرِين » بكَتَبَةِ الخزائن ؛ لأن التركيب يدل على السَّطْر وهو يستعمل في الكِتَابة٧.
قال أهل اللغة : المُسَيْطِرُ الغالب القاهر من سَيْطَرَ عليه إذا راقبه وَحَفظَهُ أو قَهَرَهُ٨.
قال المفسرون : المسيطرون المسلطون الجَبَّارُون. وقال عطاء : أربابٌ قاهرونَ، فلا يكونوا تحت أمرٍ أو نهي يفعلون ما شَاؤُوا. ويجوز بالسين والصاد جميعاً.
وقرأ العامة : المُصَيْطِرُون بصاد خالصة من غير إشْمَامِها زاياً لأجل الطاء كما تقدم في :«صراط »٩ [ الفاتحة : ٧ ].
وقرأ هشامٌ وقُنْبُلٌ من غير خلاف عنهما بالسين الخالصة التي هي الأصل وحفصٌ بخلافٍ عنه١٠.
وقرأ خلاَّدٌ١١ بصاد مشمَّةٍ زاياً من غير خلاف١٢ عنه. وقرأ خلادٌ١٣ بالوجهين أعني كخَلَفٍ والعامَّةِ. وتوجيه١٤ هذه القراءات واضحٌ مما تقدم في أول الفاتحة، ولم يأتِ على «مُفَيْعِلٍ » إلا خمسة ألفاظ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعل نحن مُهَيْمِن ومُبَيْقِر١٥، ومُسَيْطرِ ومُبَيْطر١٦ وواحد اسم جبل - وقيل : اسم أرضٍ لبني فِزارة - وهو المُجَيْمِر١٧ قال امرؤ القيس :
كَأَنَّ ذُرَى رَأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ١٨
١ ذكر تلك الأقوال العلماء البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/٢٥٣ والقرطبي في الجامع ٢٨/٧٤ و٧٥..
٢ ذلك المقطع سقط من نسخة أ..
٣ في الرازي: وليس بمجرّد..
٤ زيادة من النسختين على الرازي..
٥ وفيه الخِزانة لا الخَزَنة..
٦ وفيه: في الخزانة..
٧ وانظر الرازي ٢٨/٢٦١..
٨ اللسان "سطر" ٢٠٠٧..
٩ وهذه القراءة للعامة ليعمل اللسان عملا واحدا في الإطباق والاستعلاء..
١٠ وانظر الكشف ٢/٢٩٢ والإتحاف ١٩٩ وانظر أيضا السبعة ٦١٣..
١١ هو هكذا في الإتحاف وفي البحر: وأشمّ خلف عن حمزة وخلاّد عنه بخلاف عنه الزّاي. وفي الكشف لمكيّ: وقرأ حمزة بين الصاد والزاي على اللغة..
١٢ في الإتحاف المرجع السابق، قال: وأثبت له الخلاف في التيسير وتبعه الشاطبيّ..
١٣ وفي الإتحاف أيضا: والصاد الخالصة هي رواية الحلواني والبزّار عن خلاّد. وبه قرأ الباقون..
١٤ السين على الأصل من سطر. والصاد لأجل الطاء حيث يعمل اللسان عملا واحدا في الإطباق والاستعلاء. وقراءة الإشمام بين الصاد والزاي لغة. وانظر الكشف ٢/٢٩٢، وحجة ابن خالويه ٦٢ و٣٢٥..
١٥ كذا ذكرها ابن خالويه في الحجة في القراءات السبع ولم أعرف معناها بعد طول بحث..
١٦ ذكر ابن منظور في اللسان أنه معالج الدّواب. انظر اللسان "بطر" ٣٠١..
١٧ ذكر السيوطي في المزهر عن ابن قتيبة عن أبي عبيدة ثلاث كلمات مُهيمِن ومُسيطِر ومُبيطِر. انظر المزهر ٢/٩٣، بينما ذكر ابن خالويه في الحجة الأربعة الأول. انظر الحجة ٣٣٥..
١٨ من الطويل له، والذّروة أعلى الشيء والمُجَيمر: أكمة والغثاء ما جاء به السيل من الحشيش والشجر والكلأ والتراب وغير ذلك والجمع الأغثاء. يقول: كأن هذه الأكمة غدوة مما أحاط بها من أغثاء السيل فلكة مغزل فهو شبه استدارة هذه الأكمة وبما أحاط بها من الأغثاء باستدارة فلكة المغزل.
وانظر شرح المعلقات السبع للزوزني ٤٧ (معلقة امرئ القيس) واللسان "غزل" العجُز فقط ٣٢٥٢..

قوله :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ﴾ أي مِرْقَاةٌ ومِصْعَد إلى السماء «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ». وهذا أيضاً تتميم الدليل، فإن مَنْ لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال : أنتم لستم بخزنة ولا كَتَبَةٍ ولا اجتمعتم بهم، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم.
قوله :«يَسْتَمِعُونَ فِيهِ » صفة «لسُلَّمٍ » و«فِيهِ » على بابه من الظرفية. وقيل : هي بمعنى «عَلَى ». قاله الواحدي١، كقوله تعالى :﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل ﴾ [ طه : ٧١ ]. ولا حاجة إلَيْهِ٢.
وقدَّره الزمخشري متعلقاً بحال محذوفة تقديرها : صَاعِدِينَ فيه. ومفعول «يَسْتَمِعُونَ » محذوف فقدره الزمخشري يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من عِلْم الغيب٣. وقدره غيره٤ يستمعون الخبر بصحة ما يدعون من أنه شاعر، وأنَّ لِلَّهِ شركاءَ.
والظاهر أنه لا يقدر له مفعول بل المعنى يوقعون الاستماع أي هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس٥ برسول.
قوله :«فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ » إن ادَّعَوْا ذلك «بسلطان مبين » أي حجة وبينة.
فإن قيل كيف قال :«فَلْيَأتِ مُسْتَمِعُهُمْ » ولم يقل : فَلْيَأتُوا كما قال تعالى :﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ الطور : ٣٤ ] ؟
فالجواب : أنه طلب منهم الأهون على تقدير صدقهم ليكون امتناعُه عليهم٦ أدلَّ على بُطْلان قولهم، وقال هناك : فَلْيَأتوا أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله، فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارْتِقَاءُ في السلم بالاجتماع فمتعذِّر، لأنه يرتقي واحدٌ بعد واحد فلا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال : فَلْيَأتِ ذَلك الواحد بما سَمِعَهُ. وفيه لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه لكان الواحد أن يفتري ويقول : سَمِعْتُ كذا فقال : لاَ بل الواجب أن يأتي بدليل يَدُلُّ عليه٧.
١ تفسير الفخر الرازي ٢٨/٢٦٢..
٢ لما فيه من التغيير..
٣ الكشاف ٤/٢٦..
٤ هو أبو حيان في البحر ٨/١٥٢..
٥ وهو رأي الإمام الرازي في تفسيره ٢٨/٢٦٢..
٦ كذا في النسختين وفي الرازي: اجتماعهم عليه..
٧ وانظر الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون ﴾ وهذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون كقوله تعالى :﴿ فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون ﴾ [ الصافات : ١٤٩ ].
﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً ﴾ جعلاً على ما جئتهم به ودعوتهم إليه ﴿ فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ أي أثقلهم ذلك المَغْرَم الذي يسألهم، فيمنعهم ذلك عن الإسلام.
فإن قيل : ما الفائدة في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم ١- حيث قال : أَمْ تَسْأَلُهُمْ ولم يقل : أَمْ تُسْأَلُونَ أجراً كما قال تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ ﴾ ﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ﴾ إلى غير ذلك ؟
فالجواب : أنَّ فيه فائدتين :
إحداهما٢ : تسلية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لما امتنعوا عن الاستماع صَعُبَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له ربه : أَنْتَ أتيتَ بما عليك فلا يَضيقُ صدرُك حيث لم يُؤْمنوا، فأنت غير مُلْزَم، وإنما كنت تُلاَمُ إن كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأَثْقَلْتَهُمْ فلا حَرَجَ عليك إذَنْ.
الثانية : لو قال : أَمْ تُسْأَلُونَ ففي طلب الأجر مطلقاً وليس كذلك لأنهم كانوا مشركين مطالبين بالأجر من رؤسائهم وأما النبي - صلى الله عليه وسلم -٣ فقال : أنتَ لا تسألهم أجراً فهم لا يَتَّبِعُونَك وغيرهُم يسألهم وهم يسألون ويتَّبِعون السائلين هذا غاية الضَّلاَل.
١ في ب –عليه الصلاة والسلام-..
٢ في النسختين أحدهما. وهو خطأ نحوي..
٣ في ب –عليه الصلاة والسلام-..
قوله :﴿ أَمْ عِندَهُمُ الغيب ﴾ أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم من أمر القيامة والبعث باطل. قال قتادة : هذا جواب لقوله :﴿ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ يقول : أعندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم فهم يكتبون.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لبعد ذكره، أو لأن قوله تعالى :﴿ قُلْ تَرَبَّصُواْ ﴾ متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذاك١.
قال القُتَيْبِيّ : أي يحكمون٢ والكِتَاب الْحُكم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين تخاصما إليه : أقضي بينكما بكِتَاب الله أي بحُكْمِ الله.
وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) ٣ - معناه : أم عِنْدهُمُ اللَّوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويُخْبِرُون الناس به٤.
والألف واللام في ﴿ الغيب ﴾ لا للْعَهْد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب، كما تقول : اشْتَرِ اللَّحْمَ تريد بيان الحقيقة لا كلّ لحم ولا لحماً معيناً٥.
قوله ﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ﴾ أي مكراً بك ﴿ فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون ﴾ أي المَخْزِيُّونَ٦ بِكَيْدِهِمْ، أي إن ضَرَرَ ذلك يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم لأنهم مكروا به في دَار الندوة فقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ٧.

فصل


وجه التعلق إذا قيل بأن قوله :﴿ أَمْ عِندَهُمُ الغيب ﴾ متصل بقوله تعالى :﴿ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ فالمعنى أنهم لما قالوا : نتربص به ريب المنون قيل لهم : أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أَمْ تُرِيدُون كيداً فتقولون نقتله فيموت فقيل لهم : إن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنُّون أنّكم تقدرون عليه فأنتم غالِطُون فإن الله يَصُونُه ويَنْصُره عليكم.
وإن قيل بأن المراد أنه عليه الصلاة والسلام لا يسألكم عن الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لكونه من الغُيُوبِ ففي المراد بقوله :﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ﴾ وجهان :
الأول : أن المعنى أم يريدون أي من الشيطان فكأنه تعالى قال : أنتَ لا تَسْألهم أجراً وهم لا يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كَيْدَ الشيطان، وارتَضَوْا بإزاغَتِهِ.
والإرادة بمعنى الاختيار كقوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة ﴾ [ الشورى : ٢٠ ] وقوله :﴿ أَإفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ٨٦ ] وقوله :﴿ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ [ المائدة : ٢٩ ].
الثاني : أن المراد أم يريدون كيداً، فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدونَ والمعنى أنه لم يبق لهم حجةٌ في الإعراض فهم يريدون نُزُول العذاب والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويَهْدِيهم إلى ما لاَ عِلْمِ لَهم به ولا كتابَ عندهم وهم معرضون فهم يريدون إذَنْ أن يهلكهم ويكيدهم، لأن الاستدراجَ كيدٌ، والإملاء لازدياد الإثْم كذلك ولا يقال : هذا فاسد، لأن الكيد والإساءة لا تطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقال : أسَاءَ اللَّهُ إلى الكافر ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً منهم٨ شيء من ذلك، ثم يقال بعده مثله لفظاً في حق الله تعالى، كقوله تعالى :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] ﴿ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٥ - ١٦ ] ؛ لأنا نقول : الكيد ( ما )٩ يسُوءُ مَنْ نَزَلَ به، وإن حسن ممن وجد منه كقول١٠ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ﴿ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٥٧ ] من غير مقابلة. ونكر الكيد، إشارةً إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرُون، فكأنه قال : يأتيهم بَغْتة ولا يكون لهم علم بِعظمِهِ١١.
قوله :«فَالَّذِينَ كَفَرُوا » هذا من وقوع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على اتِّصافهم بهذه الصفة القبيحة، والأصل أَم يُريدُونَ كَيْداً فَهُم المكيدون، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون اندراجاً أوَّلِيًّا لتوغلهم في هذه الصفة١٢.
١ وانظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨/٢٦٤..
٢ لم أجد نصه هذا في كتابه غريب القرآن عند هذه الآية؛ وإنما نقله عنه البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٥٣..
٣ زيادة من أ..
٤ وانظر البغوي السابق ٦/٢٥٣..
٥ قاله الرازي في مرجعه السابق..
٦ جمع مخزيّ من الخزي. وانظر هذا المعنى في البغوي ٦/٢٥٣..
٧ السابق..
٨ كذا في النسختين وفي الرازي: فيهم لا منهم..
٩ سقط من ب..
١٠ في ب لقول..
١١ وانظر الرازي ٢٨/٢٦٦..
١٢ قال بتلك العلتين أبو حيان في البحر ٨/١٥٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:قوله :﴿ أَمْ عِندَهُمُ الغيب ﴾ أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم من أمر القيامة والبعث باطل. قال قتادة : هذا جواب لقوله :﴿ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ يقول : أعندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم فهم يكتبون.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لبعد ذكره، أو لأن قوله تعالى :﴿ قُلْ تَرَبَّصُواْ ﴾ متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذاك١.
قال القُتَيْبِيّ : أي يحكمون٢ والكِتَاب الْحُكم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين تخاصما إليه : أقضي بينكما بكِتَاب الله أي بحُكْمِ الله.
وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) ٣ - معناه : أم عِنْدهُمُ اللَّوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويُخْبِرُون الناس به٤.
والألف واللام في ﴿ الغيب ﴾ لا للْعَهْد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب، كما تقول : اشْتَرِ اللَّحْمَ تريد بيان الحقيقة لا كلّ لحم ولا لحماً معيناً٥.
قوله ﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ﴾ أي مكراً بك ﴿ فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون ﴾ أي المَخْزِيُّونَ٦ بِكَيْدِهِمْ، أي إن ضَرَرَ ذلك يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم لأنهم مكروا به في دَار الندوة فقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ٧.

فصل


وجه التعلق إذا قيل بأن قوله :﴿ أَمْ عِندَهُمُ الغيب ﴾ متصل بقوله تعالى :﴿ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ فالمعنى أنهم لما قالوا : نتربص به ريب المنون قيل لهم : أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أَمْ تُرِيدُون كيداً فتقولون نقتله فيموت فقيل لهم : إن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنُّون أنّكم تقدرون عليه فأنتم غالِطُون فإن الله يَصُونُه ويَنْصُره عليكم.
وإن قيل بأن المراد أنه عليه الصلاة والسلام لا يسألكم عن الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لكونه من الغُيُوبِ ففي المراد بقوله :﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ﴾ وجهان :
الأول : أن المعنى أم يريدون أي من الشيطان فكأنه تعالى قال : أنتَ لا تَسْألهم أجراً وهم لا يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كَيْدَ الشيطان، وارتَضَوْا بإزاغَتِهِ.
والإرادة بمعنى الاختيار كقوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة ﴾ [ الشورى : ٢٠ ] وقوله :﴿ أَإفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ٨٦ ] وقوله :﴿ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ [ المائدة : ٢٩ ].
الثاني : أن المراد أم يريدون كيداً، فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدونَ والمعنى أنه لم يبق لهم حجةٌ في الإعراض فهم يريدون نُزُول العذاب والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويَهْدِيهم إلى ما لاَ عِلْمِ لَهم به ولا كتابَ عندهم وهم معرضون فهم يريدون إذَنْ أن يهلكهم ويكيدهم، لأن الاستدراجَ كيدٌ، والإملاء لازدياد الإثْم كذلك ولا يقال : هذا فاسد، لأن الكيد والإساءة لا تطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقال : أسَاءَ اللَّهُ إلى الكافر ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً منهم٨ شيء من ذلك، ثم يقال بعده مثله لفظاً في حق الله تعالى، كقوله تعالى :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] ﴿ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٥ - ١٦ ] ؛ لأنا نقول : الكيد ( ما )٩ يسُوءُ مَنْ نَزَلَ به، وإن حسن ممن وجد منه كقول١٠ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ﴿ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٥٧ ] من غير مقابلة. ونكر الكيد، إشارةً إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرُون، فكأنه قال : يأتيهم بَغْتة ولا يكون لهم علم بِعظمِهِ١١.
قوله :«فَالَّذِينَ كَفَرُوا » هذا من وقوع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على اتِّصافهم بهذه الصفة القبيحة، والأصل أَم يُريدُونَ كَيْداً فَهُم المكيدون، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون اندراجاً أوَّلِيًّا لتوغلهم في هذه الصفة١٢.
١ وانظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨/٢٦٤..
٢ لم أجد نصه هذا في كتابه غريب القرآن عند هذه الآية؛ وإنما نقله عنه البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٥٣..
٣ زيادة من أ..
٤ وانظر البغوي السابق ٦/٢٥٣..
٥ قاله الرازي في مرجعه السابق..
٦ جمع مخزيّ من الخزي. وانظر هذا المعنى في البغوي ٦/٢٥٣..
٧ السابق..
٨ كذا في النسختين وفي الرازي: فيهم لا منهم..
٩ سقط من ب..
١٠ في ب لقول..
١١ وانظر الرازي ٢٨/٢٦٦..
١٢ قال بتلك العلتين أبو حيان في البحر ٨/١٥٣..

قوله :﴿ أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله ﴾ يرزقهم وينصرهم ﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
قال الخليل : ما في هذه السورة من ذكر «أَمْ » كلمةُ استفهام وليس بعطف١.

فصل


قَالَ أَهْلُ اللُّغَة :«سُبْحَانَ اللَّهِ » اسم علم على التسبيح، و«مَا » في قوله «عَمَّا يُشْرِكُونَ » يحتمل أن تكون مصدرية أي عن إشراكهم، ويحتمل أن تكون خبريةً أي عن الذين يشركون. وعلى هذا يحتمل أن يكون عن الولد٢ لأنهم كانوا يقولون : لَهُ البَنَاتُ فقال :«سُبْحَانَ اللَّهِ عن البنات والبنين ». ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة أي سبحانه الله عن مِثْل ما يعبدونه٣.
١ سبق هذا القول في السورة نفسها..
٢ في ب عن الواو وهو تحريف من الناسخ..
٣ قال بهذا الاحتمالات إمامنا الفخر الارزي في تفسيره ٢٨/٢٦٧..
قوله تعالى :﴿ وَإِن يَرَوا كِسْفاً مِّنَ السماء سَاقِطاً ﴾ «إنْ » هذه شرطية على بابها. وقيل : هي بمعنى «لو »١. وليس بِشَيءٍ.
وقوله :«سَحَابٌ » خبر مبتدأ مضمر أي هذا سَحَابٌ، والجملة نَصْبٌ بالقول.

فصل


لما بين فَسَاد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنه لم يبق لهم عُذْرٌ، فإن الآيات والحُجَج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك ﴿ إِن يَرَوْاْ كِسْفاً ﴾ أي قطعةً ﴿ مِّنَ السماء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ ﴾ أي ينكرون كونه آية.
ومعنى الآية لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم يَنْتَهُوا عن كفرهم ويقولوا لمعاندتهم : هَذَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ أي بعضه على بعض.
قوله :«سَاقِطاً » يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً كقولك : رَأَيْتُ زيداً عَالِمَاً، وأن يكون حالاً كقولك : ضربته قائماً.
والثاني أولى ؛ لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكونُ بمعنى العلم، تقول : رَأَيْتُ هَذَا المَذْهَبَ صَحِيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى «رأي العين » في الأكثر، تقول : رأيت زيداً ؛ قال تعالى :﴿ فلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٤ ] وقال :﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً ﴾ [ مريم : ٢٦ ].
والمراد من الآية رؤية العين٢.

فصل


قولهم :«سَحَابٌ مَرْكومٌ » إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يعقلوا وقوع شيء على الأرض يَرْجِعون إلى التأويل والتَّخْييل، وقالوا : سَحَابٌ ولم يقولوا : هذا سحاب إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العِنَاد فأتوا بما لا شك فيه. وقالوا :«سحاب مركوم » وحذفوا المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقولون عند تكذيب الخلق إيّاهم : قُلْنَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ شبهة أو مثلة. وإن مشى الأمر على٣ عوامِّهم استمروا. وهذه طريق من يخاف من كلام لا يعلم هل يقبل منه أم لا فيجعل كلامه ذَا وَجْهَيْنِ٤. فإن رأى القبول صرح بمرادهِ، وإن أنكر عليه أحدهما فَسَّره بالآخَر٥.
١ ذكرهما دون نسبة القول الثاني لقائله أبو البقاء في التبيان ١١٨٥..
٢ وانظر الرازي ٢٨/٢٦٩ و٢٦٨..
٣ في ب مع وهو ما وافق الرازي..
٤ في النسختين "ذو" والصحيح ما أثبته أعلى..
٥ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٦٩..
قوله: ﴿فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ﴾ «يومهم» مفعول به لا ظرف. وقرأ أبو حيوة:
147
يَلْقُوا مضارع لَقِيَ ويُضْعِفُ أن يكون المفعول محذوفاً و «يَوْمَهم» ظرف أي يلاقوا أو يلقوا جزاء أعمالهم في يَوْمِهِمْ.

فصل


قوله: «فذرهم» كقوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: ٦٨]، ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ [الصافات: ١٧٨] إلى غير ذلك. فقيل: كلها منسوخة بآيات القتال. وهو ضعيف. وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن ينصحه: دَعْهُ فإنه سَيَنَالُ جِنَايَتَهُ.
قوله: ﴿الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ قرأ ابنُ عامر وعاصم بضم ياء يصعقون مبنياً للمجهول. وباقي السبعة بفتحها مبنياً للفاعل. وقرأ أبو عبد الرَّحْمَنِ: بضم الياء وكسر العين.
فأما الأولى: فيحتمل أن تكون من صُعِقَ فهو مَصْعُوق مبنياً للمفعول. وهو ثلاثي حكاه الأخفش، فيكون مثل سُعِدُوا وأن يكون من أَصْعَقَ رُبَاعِيًّا، يقال: أُصْعِقَ فهو مُصْعَقٌ. قاله الفارسي. والمعنى أن غيرَهم أَصْعَقَهُمْ.
وقراءة السلمي تؤذن أن أفْعَلَ بمعنى فَعِلَ. ومعنى يصعقون أي يموتون أي حتى يعاينوا الموت.
وقوله: ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ﴾ يوم بدل من «يَوْمَهُمْ».
وقيل: ظرف «يُلاَقُوا».
فإن قيل: يلزم منه أن يكون اليومُ في يوم فيكون اليومُ ظرفَ الْيَوْمِ؟
فالجواب: هو على حدّ قولك: يأتي يَوْمُ قتل فلان يَوْمَ تَبين جَرائِمُهُ. قاله ابن الخطيب. وقوله ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانعٌ.
قوله: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ يجوز أن يكون من إتباع الظاهر موقع المضمر وأن لا يكون كما تقدم. والمعنى وإن للذين ظلموا أي كفروا ﴿عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ﴾ أي عذاباً في
148
الدنيا قبل عذاب الآخرة. قال ابن عباس - (رَضِيَ الله عنهما) - يعني القتل يوم بدر.
وقال الضحاك: هو الجوع والقحط سَبْعَ سنين. وقال البراءُ بن عازب: عذاب القبر.
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أن العذاب نازل بهم.
والمراد بالظلم هنا هو كيدهم نَبِيَّهم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهم أهل مكة. وقيل: ظلموا بعبادة غير الله فيكون عاماً في كل ظالم. والإشارة بقوله: «ذَلِكَ» إلى اليوم الذي فيه يُصْعَقُونَ.
ومقعول «يعلمون» يجوز أن يكون ما تقدم، ويجوز أن يكونَ لا مفعولَ له أي أكثرهم غافِلونَ جَاهِلُون.
قوله تعالى ﴿واصبر لِحُكْمِ﴾. أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمت عليهم «فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا» قراءة العامة بالفك، وأبو السَّمَّال بإدغام النون فيما بعدها. وناسب جمع الضمير هنا جمع العين ألا تراه أفرد حَيْثُ أفردها في قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ [طه: ٣٩]. قاله الزمخشري. والمعنى: فَإنك بِمرأًى مِنَّا.
قال ابن عباس: نَرَى ما يُعْمَلُ بك. وقال الزجاج: إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مَكْرُوهِكَ.
قال ابن الخطيب: اللام في قوله «لِحُكْمِ رَبِّكَ» تحتمل وجوهاً:
أحدها: هي بمعنى «إلى» أي اصبر إلى أن يحكم الله.
الثاني: أن الصبر فيه معنى الثبات أي تَثَبَّت لحكم ربك واحْتَمِلْهُ.
الثالث: هي اللام التي للسبب، يقال: لِم خرجت؟ فتقول: لحكم فلان عليَّ بالخروج، فقال: فَاصْبِرْ واجعل سبب الصبر امتثال الأمر، أي فاصبر لهذا الحكم عليك لا لشيءٍ آخر.
قوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ تقدم الكلام على نظيره وقوله: «حِينَ تَقُومُ» قال سعيد بن جبير وعطاء: أي قل حين تقوم من مجلسك: سُبْحَانك اللهم وبحمدك، فإن
149
كان المجلس خيراً ازددتَ إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارةً له.
وروى أبو هريرة قال: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً وكَثُر فيه لَغَطُهُ فقال قبل أن يقوم: سُبْحَانَكَ اللَّهُ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ إلاَّ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا» وقال ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : معناه: صَلِّ لله حين تقوم من مقامك. وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانَك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك. وقال الكلبي: هو ذكر الله باللسان «حِينَ تَقُومُ» من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة، لِمَا رَوَى عاصمُ بنُ حُمَيْدٍ قال: «سألتُ عائشةَ بأيِّ شيءٍ كان يَفْتَتِحُ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قيامَ الليل؟ فقالت: كان إذا قَامَ كَبَّر عَشْراً، وحَمِدَ الله عشراً وهَلَّلَ عَشْراً واسْتَغْفَر عَشْراً وقال: اللهم اغْفِرْ لي واهْدِنِي وارْزُقْنِي وعَافِنِي ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة» وقيل: حين تقوم لأمر ما ولا سيما إذا كنت تَنْتَصِبُ لمُجَاهَدةِ قومك ومُعَادَاتِهِم والدعاء عليهم «فسبح بحمد ربك» وبدل قيامك بالمناداة، وانتصابك للانتقام بقيامك بذكر الله وتسبيحه.
قوله: ﴿وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ﴾ أي صَلِّ له، قال مقاتل: حتَّى صلاة المغربِ والعشاءِ «وإدْبَارَ النُّجُومِ» يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تُدْبِرُ النجوم أي تغيب بضوء الصبح.
هذا قول أكثر المفسرين. وقال الضحاك: هي فريضة صلاة الصبح.
قوله: «وإدْبَارَ النّجُومِ» العامة على كسر الهمزة مصدراً، بخلاف التي في آخر «ق» كما تقدم، فإنَّ الفتح هناك لائق لأنه يراد به الجمع لدَبْر السجود أي أعْقَابِهِ.
على أنه قرأ سالم الجَعديُّ ويعقوب، والمِنْهَالُ بن عمرو بفتحها هنا؛ أي أعقاب النجوم وآثارها إذا غَرُبَتْ.

فصل


هذه الآية نظير قوله: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧] وقد تقدم الكلام عليها.
قال ابن الخطيب: قال ههنا: «وإدبار النجوم» وقال في «ق» وأَدْبَار السُّجُّودِ «
150
فيحتمل أن يكون المعنى واحداً، والمراد من السجود جمع ساجد، والنُّجُوم سجود قال تعالى:
﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦].
وقيل: المراد من النجوم نجوم السماء. وقيل: النجم: ما لا ساق له من النبات قال تعالى: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض....﴾ [الرعد: ١٥]. والمراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نَجْمٌ في اللغة إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل: سبحان الله كما تقدم.
روى أبيّ بن كعب - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأَرْضَاهُ) - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَة» والطُّورِ «كان حَقًّا على اللَّه - عزَّ وَجَلَّ - أن يُؤمِّنَهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر وَأَنْ يُدْخِلَهُ بِنِعْمَتِهِ فِي جَنَّتِهِ».
(والله - سبحانه وتعالى -) أعْلَمُ.
151
سورة النَجم
152
وقوله :﴿ يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ ﴾ يوم بدل من «يَوْمَهُمْ »١.
وقيل : ظرف «يُلاَقُوا »٢.
فإن قيل : يلزم منه أن يكون اليومُ في يوم فيكون اليومُ ظرفَ الْيَوْمِ ؟
فالجواب : هو على حدّ قولك : يأتي يَوْمُ قتل٣ فلان يَوْمَ تَبين جَرائِمُهُ. قاله ابن الخطيب٤. وقوله ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانعٌ.
١ التبيان ١١٨٥..
٢ قاله الرازي في تفسيره ٢٨/٢٧١..
٣ في النسختين: قيل. وفي الرازي ما أثبتّ أعلى..
٤ الرازي السابق..
قوله :﴿ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ يجوز أن يكون من إتباع الظاهر موقع المضمر وأن لا يكون كما تقدم. والمعنى وإن للذين ظلموا أي كفروا ﴿ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ﴾ أي عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة. قال ابن عباس - ( رَضِيَ الله١ عنهما ) - يعني القتل يوم بدر.
وقال الضحاك : هو الجوع والقحط سَبْعَ سنين. وقال البراءُ بن عازب : عذاب القبر.
﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن العذاب نازل بهم٢.
والمراد بالظلم هنا هو كيدهم نَبِيَّهم - عليه الصلاة والسلام - وهم أهل مكة. وقيل : ظلموا بعبادة غير الله فيكون عاماً في كل ظالم. والإشارة بقوله :«ذَلِكَ » إلى اليوم الذي فيه يُصْعَقُونَ.
ومفعول «يعلمون » يجوز أن يكون ما تقدم٣، ويجوز أن يكونَ لا مفعولَ له أي أكثرهم غافِلونَ جَاهِلُون٤.
١ زيادة من أ..
٢ وانظر البغوي ٦/٢٥٤..
٣ من الأمر وهو أن لهم عذابا دون ذلك..
٤ وانظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨/٢٧٤..
قوله تعالى ﴿ واصبر لِحُكْمِ ﴾. أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمت عليهم «فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا » قراءة العامة بالفك، وأبو السَّمَّال بإدغام النون فيما بعدها١. وناسب جمع الضمير هنا جمع العين ألا تراه أفرد حَيْثُ أفردها في قوله :﴿ وَلِتُصْنَعَ على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ]. قاله الزمخشري٢. والمعنى : فَإنك بِمرأًى مِنَّا.
قال ابن عباس : نَرَى ما يُعْمَلُ بك. وقال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مَكْرُوهِكَ٣.
قال ابن الخطيب : اللام في قوله «لِحُكْمِ رَبِّكَ » تحتمل وجوهاً :
أحدها : هي بمعنى «إلى » أي اصبر إلى أن يحكم الله.
الثاني : أن الصبر فيه معنى الثبات أي تَثَبَّت لحكم ربك واحْتَمِلْهُ.
الثالث : هي اللام التي للسبب، يقال : لِم خرجت ؟ فتقول : لحكم فلان عليَّ بالخروج، فقال : فَاصْبِرْ واجعل سبب الصبر امتثال الأمر، أي فاصبر لهذا الحكم عليك لا لشيءٍ آخر٤.
قوله :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ تقدم الكلام على نظيره٥ وقوله :«حِينَ تَقُومُ » قال سعيد بن جبير وعطاء : أي قل حين تقوم من مجلسك : سُبْحَانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيراً ازددتَ إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارةً له.
وروى أبو هريرة قال : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - :«مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً وكَثُر فيه لَغَطُهُ فقال قبل أن يقوم : سُبْحَانَكَ اللَّهُ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ إلاَّ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا » وقال ابن عباس ( - رضي الله٦ عنهما - ) : معناه : صَلِّ لله حين تقوم من مقامك. وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانَك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك. وقال الكلبي : هو ذكر الله باللسان «حِينَ تَقُومُ » من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة، لِمَا رَوَى عاصمُ بنُ حُمَيْدٍ قال :«سألتُ عائشةَ بأيِّ شيءٍ كان يَفْتَتِحُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قيامَ الليل ؟ فقالت : كان إذا قَامَ كَبَّر عَشْراً، وحَمِدَ الله عشراً وهَلَّلَ عَشْراً واسْتَغْفَر عَشْراً وقال : اللهم اغْفِرْ لي واهْدِنِي وارْزُقْنِي وعَافِنِي ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة » وقيل : حين تقوم لأمر ما ولاسيما إذا كنت تَنْتَصِبُ لمُجَاهَدةِ قومك ومُعَادَاتِهِم والدعاء عليهم «فسبح بحمد ربك » وبدل قيامك بالمناداة، وانتصابك للانتقام بقيامك بذكر الله وتسبيحه٧.
١ فتكون هكذا: بأعيُنّا. وهي شاذة. انظر الكشاف ٤/٢٦ و٢٧، والبحر ٨/١٥٣..
٢ الكشاف المرجع السابق..
٣ معاني القرآن وإعرابه له ٥/٦٨..
٤ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٢٧٤ و٢٧٥..
٥ في سورة "ق" من قوله: ﴿فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب﴾..
٦ سقط من ب..
٧ وانظر البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦/٢٥٤..
قوله :﴿ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ ﴾ أي صَلِّ له، قال مقاتل : حتَّى صلاة المغربِ والعشاءِ «وإدْبَارَ النُّجُومِ » يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تُدْبِرُ النجوم أي تغيب بضوء الصبح.
هذا قول أكثر المفسرين. وقال الضحاك : هي فريضة صلاة الصبح.
قوله :«وإدْبَارَ النّجُومِ » العامة على كسر الهمزة مصدراً، بخلاف التي في آخر «ق »١ كما تقدم، فإنَّ الفتح هناك لائق لأنه يراد به الجمع٢ لدَبْر السجود أي أعْقَابِهِ.
على أنه قرأ سالم الجَعديُّ ويعقوب، والمِنْهَالُ بن عمرو بفتحها٣ هنا ؛ أي أعقاب النجوم وآثارها إذا غَرُبَتْ.

فصل


هذه الآية نظير قوله :﴿ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [ الروم : ١٧ ] وقد تقدم الكلام عليها.
قال ابن الخطيب : قال ههنا :«وإدبار النجوم » وقال في «ق » «وأَدْبَار السُّجُّودِ » فيحتمل أن يكون المعنى واحداً٤، والمراد من السجود جمع ساجد، والنُّجُوم سجود قال تعالى :﴿ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ ﴾ [ الرحمان : ٦ ].
وقيل : المراد من النجوم نجوم السماء. وقيل : النجم : ما لا ساق له من النبات قال تعالى :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض. . . . ﴾ [ الرعد : ١٥ ]. والمراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نَجْمٌ في اللغة إذا فرغت من وظائف الصلاة٥ فقل : سبحان الله كما تقدم.
١ وهي قوله تعالى: ﴿وأدبار السجود﴾ من الآية ٤٠..
٢ وانظر البحر ٨/١٥٣ والإتحاف ٤٠١ و٤٠٢..
٣ البحر المرجع السابق وذكر في الإتحاف الفتح عن المُطوَّعي. انظر الإتحاف المرجع السابق وهي من الأربع فوق العشر المتواترة..
٤ عبارة الرازي: ويحتمل أن يقال: المعنى واحد وفي النسختين: أن يكون المعنى واحد..
٥ في ب الصلاة وفي أ الله. والتصحيح من ب..
Icon