ﰡ
سورة الأعراف
مكية، غير ثمان آيات: واسئلهم عن القرية، إلى: وإذ نتقنا الجبل وهي مائتان وست آيات [نزلت بعد ص] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف، أى هو كتاب. وأُنْزِلَ إِلَيْكَ صفة له. والمراد بالكتاب السورة فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أى شك منه «٢»، كقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ
وفيه أبو عصمة. وهو متهم بالكذب. وأوله عند الطبراني في الصغير في ترجمة إبراهيم بن نائلة من حديث ابن عمر إلى قوله «والتحميد» وفيه يوسف بن عطية، وهو ضعيف، وأخرجه عنه ابن مردويه في تفسيره وأبو نعيم في الحلية.
(٢). قال محمود: «الحرج: الشك... الخ» قال أحمد: ويشهد له قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ولهذه النكتة ميز إمام الحرمين بين العلم والاعتقاد الصحيح، بأن «العقد» ربط الفكر بمعتقد. و «الاعتقاد» افتعال منه، والعلم يشعر بانحلال العقود وهو الانشراح والتبلج والثقة. وما أحسن تنبيه بقوله: والاعتقاد افتعال منه.
يريد: إذا كان العقد مبايناً للعلم، فما ظنك بالاعتقاد، لأن صيغة الافتعال أبلغ معنى. ومنه الاعتماد والاحتمال.
ومن ثم ورد في الخبر «كسب» وفي نقيضه «اكتسب» لأن النفوس في الشهوات والمخالفات واتباع الأهواء أجدر منها في الطاعات وقمع الأغراض، وعلى ذلك جاء لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ وإن كان «العلم» من «الأعلم» المأخوذ من «العلمة» بالتحريك، وهي انشراح الشفة وانشقاقها، فالذي ذكره الامام حينئذ نهاية في نوعه، والله الموفق.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن والسنة وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ من دون الله أَوْلِياءَ أى ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم، وأمركم باتباعه. وعن الحسن: يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله ما نزلت آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها. وقرأ مالك بن دينار: ولا تبتغوا، من الابتغاء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً. ويجوز أن يكون الضمير في مِنْ دُونِهِ لما أنزل، على: ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره. وقرى: تذكرون، بحذف التاء.
ويتذكرون، بالياء. وقَلِيلًا: نصب يتذكرون، أى تذكرون تذكرا قليلا. وما مزيدة لتوكيد القلة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت النهي في قوله فلا يكن متوجه إلى الحرج، فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم لا أرينك هاهنا» قال أحمد: بريد أن الحرج منهى في الآية ظاهراً والمراد النهى عنه، والله أعلم.
جاءني زيد هو فارس، بغير واو، فما بال قوله هُمْ قائِلُونَ؟ قلت: قدّر بعض النحويين الواو محذوفة، ورده الزجاج وقال: لو قلت جاءني زيد راجلا، أو هو فارس. أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا. لاجتماع حرفى عطف، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاءني زيد راجلا أو هو فارس، كلام فصيح وارد على حدّه.
وأمّا جاءني زيد هو فارس، فخبيث. فإن قلت: فما معنى قوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس؟ قلت: معناه أردنا إهلاكها كقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وإنما خصّ هذان الوقتان وقت البيات ووقت القيلولة، لأنهما وقت الغفلة والدعة، فيكون نزول
الاكتفاء بالضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا ضعيف. والأفصح دخول الواو كما اختاره الزمخشري. وأما الزجاج وغيره فيجعلون أحد الأمرين كافيا في الاسمية، إما الواو وإما الضمير. وأما قول الزمخشري: إن الجملة المعطوفة إنما حذفت منها واو الحال كراهية لاجتماعها وهي واو عطف أيضا مع مثلها، ففيه نظر. وذلك أن واو الحال لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية. ألا تراها تصحب الجملة الاسمية عقيب الفعلية في قولك جاءني زيد وهو راكب، ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين وإن لم يكن قبيحا، فالأصح خلافه، فلما رأينها تتوسط بينهما والكلام حينئذ هو الأفصح أو المتعين، علمت أنها ممتازة بمعنى وخاصية عن واو العطف، وإذا ثبت امتيازها عن العاطفة، فلا غرو في اجتماعها معها، وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية، فاما أن تسلبه حينئذ لاغناء العاطف عنها، أو تستمر عليه، كما تجتمع الواو. ولكن لما فيها من زيادة معنى الاستدراك في مثل قوله وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ فعلى هذا كان من الممكن أن تجتمع واو الحال مع العاطف بلا كراهية، والذي يدل على ذلك أنك لو قلت: سبح الله وأنت راكع، أو وأنت ساجد، لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة فالتحقيق- والله أعلم- في الجملة المعطوفة على الحال: أن المصحح لوقوعها حالا من غير واو، هو العاطف، إذ يقتضى مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحال، فيستغنى عن واو الحال، كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو موقعة في مثل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وفي مثل فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ولو قلت في غير التلاوة: وبالليل إذا عسعس، لجاز، ولكن يستغنى عن تكرار حرف القسم لنيابة العاطف منابه. فهذا والله أعلم سبب استغناء الجملة المعطوفة على الحال عن الواو المصححة للحالية، فالحاصل من هذا أنك إن أتيت بواو الحال مصاحباً للعاطف، لم تخرج عن حد الفصاحة إلى الاستثقال، بل أمدت تأكيداً. وإن لم تأت بها فكذلك في الفصاحة مع إفادة الاختصار، والله الموفق للصواب.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥]
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)
فَما كانَ دَعْواهُمْ ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده. وقولهم إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فيما كنا عليه. ويجوز: فما كان استغاثتهم إلا قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره، ومن قولهم دعواهم: يا لكعب. ويجوز، فما كان دعواهم ربهم إلا اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم، دَعْواهُمْ نصب خبر لكان، وأَنْ قالُوا رفع اسم له، ويجوز العكس
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦ الى ٧]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أُرْسِلَ مسند إلى الجار والمجرور وهو إِلَيْهِمْ ومعناه:
فلنسألنّ المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم، كما قال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ويسأل المرسلين عما أجيبوا به، كما قال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بِعِلْمٍ عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم وعما وجد منهم، فإن قلت: فإذا كان عالماً بذلك وكان يقصه عليهم، فما معنى سؤالهم؟ قلت معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨ الى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ يعنى وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها. ورفعه على الابتداء. وخبره يَوْمَئِذٍ. والْحَقُّ صفته أى: والوزن يوم يسأل الله الأمم «١» ورسلهم
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً. أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. وما يتوصل به إلى ذلك. والوجه تصريح الياء. وعن ابن عامر: أنه همز، على التشبيه بصحائف.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١١]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعنى خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر، ثم صورناه بعد ذلك. ألا ترى إلى قوله ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الآية مِنَ السَّاجِدِينَ، ممن سجد لآدم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)
أَلَّا تَسْجُدَ «لا» في أَلَّا تَسْجُدَ صلة بدليل قوله: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي. ومثلها لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ بمعنى ليعلم: فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب. وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك؟ إِذْ أَمَرْتُكَ لان أمرى لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً وأحتمه عليك حتما لا بدّ لك منه فإن قلت: لم سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه؟ قلت:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
فَاهْبِطْ مِنْها من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة، إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين فَما يَكُونُ لَكَ فما يصح لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصى فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك، كما تقول للرجل: قم صاغراً، إذا أهنته. وفي ضدّه: قم راشداً. وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. وعن عمر رضى الله عنه: من تواضع لله رفع الله حكمته «١» وقال: انتعش أنعشك الله. ومن تكبر وعدا طوره وهصه «٢» الله إلى الأرض «٣».
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
(٢). قوله: «وهصه الله إلى الأرض» وهصه: أى غمزه إلى الأرض والوهص: كسر الشيء الرخو وشدة الوطء على الأرض، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه. حدثنا أبو خالد الأحمر وعبد الله بن إدريس وسفيان بن عتبة عن ابن عجلان عن بكير بن الأشج عن معمر بن أبى حية عن عبيد الله بن عبيد الله بن عدى بن الخيار قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال: انتعش أنعشك الله، فهو في نفسه صغير، وفي أنفس الناس كبير. وإن العبد إذا تعظم وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض. وقال: اخسأ خسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أنفس الناس صغير، لهو أحقر عندهم من خنزير، وأخرجه البيهقي في الشعب من طريق على بن المديني عن سفيان.
وقد روى بعضه مرفوعا، أخرج الدارقطني في العلل من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «ما من آدمى إلا وملك آخذ بحكمته. فإذا رفع نفسه قيل للملك: ضع حكمتك- وإذا وضع نفسه قيل للملك: ارفع حكمتك» قال: لا يثبت. فيه على بن زيد وهو ضعيف.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
فَبِما أَغْوَيْتَنِي فبسبب إغوائك إياى لأقعدنّ لهم. وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغى ولم يثبت كما ثبتت الملائكة، مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب «٢». وعن الأصم:
أمرتنى بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى: فبسبب وقوعى في الغىّ لأجتهدن في إغوائهم «٣» حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم. فإن قلت: بم تعلقت الباء، فإن تعلقها
(٢). قوله «ومن آدم أنفسا ومناصب» هذا عند المعتزلة، أما عند أهل السنه فآدم أفضل منهم. (ع)
(٣). قال محمود: «والمعنى: فبسبب وقوعي في الغى لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي... الخ» قال أحمد: تحت كلام الزمخشري هذا نزغتان من الاعتزال خفيتان:
إحداهما: تحريفه الإغواء إلى التكليف، لأنه يعتقد أن الله تعالى لم يغوه، أى لم يخلق له الغى بناء على قاعدة التحسين. والتقبيح والصلاح والأصلح، فيضطره اعتقاده إلى حمل الإغواء على تكليفه بالسجود، لأنه كان سبباً في غيه. وكثيراً ما يؤول أفعال الله تعالى إذا أسندها إلى ذاته حقيقة إلى التسبب، ويجعل ذلك من مجاز السببية، لأن الفعل له ملابسات بالفاعل والمفعول والزمان والمكان والسبب، فاسناده إلى الفاعل حقيقة، وإسناده إلى بقيتها مجاز ويجعل الفعل مسندا إلى الله تعالى لأنه مسببه لا أنه فاعله. وقد استدل على ذلك فيما سلف بقول مالك بن دينار لرجل رآه مقيداً محبوسا في مال عليه، هذه وضعت القيود في رجليك، وأشار إلى سلة فيها أخبصة وألوان مختلفة رآها عند المسجون، أى اعتناؤك بهذه الأطعمة كان سببا في تبذير المال الذي آل بك إلى وضع القيود في رجليك.
فعلى هذا يروم حمل هذه الآية، يعنى بما كلفتنى من التكليف الذي كان سببا في خلقي الغى لنفسي لأقعدن، فيجعل إبليس هو الفاعل في الحقيقة. وأما إسناد الفعل إلى الله تعالى فمجاز. هذه إحدى النزغتين.
والأخرى: جعله التكليف من جملة الأفعال، لأنه يزعم أن كلام الله تعالى محدث من جملة أفعاله، لا صفة من صفاته، والتكليف من الكلام، فهاتان زلتان جمع القدرية بينهما. وإبليس لعنه الله لم يرض واحدة منهما، لأنه نسب الإغواء إلى الله تعالى، إذ هو خالق كل شيء، فما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفى الشرك ما لم يسبق به إبليس؟ نعوذ بالله من التعرض لسخط الله.
... كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ «٣»
(٢). عاد كلامه. قال: «ومن تكاذيب المجبرة: ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاوس تقوم أو تقام؟ فقام الرجل. فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه، قال رب بما أغويتنى. وهذا يقول: أنا أغوى نفسي. انتهي كلام طاوس على زعمهم. وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه وتعالى أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين» انتهى كلامه. قال أحمد: وإنما أوردت مثل هذا من كلامه وإن كان غير محتاج إلى التنبيه على فساده وحيده عن العقائد الصحيحة لتبلج الحجة في وجوب الرد عليه وتعينه على مر هداه الله إليه. ولقد صدق طاوس رضى الله عنه. وأما قول الزمخشري في أهل السنة الذين سماهم مجبرة أنهم يتهالكون في نسبة القبائح إلى الله تعالى، فحاصله: أنهم يخلصون التوحيد حتى لا يؤمنون بخالق غير الله، ولكي يصدفوا قوله تعالى متمدحا اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا كالقدرية الذين هم يتهالكون حتى هم يشركون ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيؤولون الفاعل بالمسبب.
فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، والله الموفق للصواب.
(٣).
لدن بهز الكف يعسل متنه | فيه كما عسل الطريق الثعلب |
تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: تدع ديارك وتتغرب، فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل «١» » ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من الجهات الأربع التي يأتى منها العدوّ في الغالب. وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ. فإن قلت: كيف قيل مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بحرف الابتداء وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدّى إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس. وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله، قلنا: معنى «على يمينه» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى من المستعلى عليه. ومعنى «عن يمينه» أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له. ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره، كما ذكرنا في «تعالى». ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس، وعلى القوس، ومن القول، لأنّ السهم يبعد عنها، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي، ويبتدئ الرمي منها. كذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه، لأنهما ظرفان للفعل. ومن بين يديه ومن خلفه: لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، كما تقول: جئته من الليل، تريد بعض الليل، وعن شقيق: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد: من بين يدىّ، ومن خلفي، وعن يمينى، وعن شمالي: أمّا من بين يدي فيقول: لا تخف، فإن الله غفور رحيم، فأقرأ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وأمّا من خلفي، فيخوّفنى الضيعة على مخلفي فأقرأ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وأمّا من قبل يمينى، فيأتينى من قبل الثناء فأقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وأمّا من قبل شمالي فيأتينى من قبل الشهوات فأقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قاله تظنيناً، بدليل قوله وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ وقيل: سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
ثانيهما: قوله «بأطرقه» : وقع عند الطيبي، رواه النسائي من حديث سيرة بن معبد. وهو وهم.
واللام في لَمَنْ تَبِعَكَ موطئة للقسم. ولَأَمْلَأَنَّ جوابه، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط مِنْكُمْ منك ومنهم، نغلب ضمير المخاطب، كما في قوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. وروى عصمة عن عاصم: لمن تبعك، بكسر اللام، بمعنى: لمن تبعك منهم هذا الوعيد، وهو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ، على أن لَأَمْلَأَنَّ في محل الابتداء، ولَمَنْ تَبِعَكَ خبره.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
وَيا آدَمُ وقلنا يا آدم. وقرئ: هذى الشجرة، والأصل الياء، والهاء بدل منها. ويقال:
وسوس، إذا تكلم كلاماً خفيا يكرره. ومنه وسوس الحلىّ، وهو فعل غير متعدّ، كولولت المرأة ووعوع الذئب، ورجل موسوس- بكسر الواو- ولا يقال موسوس بالفتح، ولكن موسوس له، وموسوس إليه، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة. ومعنى وسوس له: فعل الوسوسة لأجله، ووسوس إليه: ألقاها إليه لِيُبْدِيَ جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره وأن لا يطلع عليه مكشوفاً. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور «١» وأنه
أن العقل يدرك المعنى الذي لأجله حسن الشرع الستر وقبح الكشف. الأمر الثاني: استدلاله على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقد مضى أن ذلك معتقد المعتزلة وإن كان بعض أهل السنة قد مال إليه والجواب ممن يعتقد تفضيل الأنبياء أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل أن يكون الأمر كذلك في علم الله تعالى. ألا ترى إبليس لعنه الله قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخالدا أولا يكونا ملكين؟ وهو في ذلك كاذب مبطل، فلا دليل فيه، إذ ليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لا بليس على ذلك ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما، إذ قال الله تعالى عنه فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فلعل تفضيله الملكية على النبوة من جملة غروره، والله أعلم.
من سوأتهما، بالتوحيد. وسوّاتهما، بالواو المشدّدة وَقاسَمَهُما وأقسم لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فإن قلت: المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك «١» تقول: قاسمت فلاناً حالفته، وتقاسما تحالفا. ومنه قوله تعالى تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ. قلت: كأنه قال لهما: أقسم لكما إنى لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمة بينهم. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها «٢». أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم فَدَلَّاهُما فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة بِغُرُورٍ بما غرهما به من القسم بالله. وعن قتادة:
وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضى الله عنه: أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له «٣» فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وقيل:
الشجرة هي السنبلة. وقيل: شجرة الكرم بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أى تهافت عنهما اللباس فظهرت لهما عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضى الله عنها: ما رأيت منه ولا رأى منى «٤». وعن سعيد بن جبير: كان لباسهما من جنس الأظفار.
(٢). عاد كلامه. قال: «أو أقسم لهما على النصيحة وأقسما له على قبولها» قال أحمد، وهذا التأويل يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه. وأما حيث جعل المقسم عليه هو النصيحة لا غير، فيبعد التأويل المذكور، إلا أن يحمل الأمر على أنه سمى قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة، كما قيل في قوله تعالى وَواعَدْنا مُوسى أنه سمى التزام موسى للوفاء والحضور للميعاد، ميعادا، فأسند التعبير بالمفاعلة، والله أعلم.
(٣). أخرجه ابن سعد من رواية نافع قال «كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه- وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه. فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد. فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه. فيقول له أصحابه: - فذكره. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه.
(٤). أخرجه أبو يعلى من رواية كامل أبى العلاء عن أبى صالح- رواه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
قالت عائشة «ما أتى رسول الله ﷺ أحدا من نسائه إلا متقنعا مرخى الثوب على رأسه، وما رأيته من رسول الله ﷺ ولا رآه منى- تعنى الفرج» إسناده ضعيف. وروى الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن أبى شيبة من رواية عبد الله بن بزيد عن مولى عائشة قالت «ما رأيت فرج رسول الله ﷺ قط» وروى الدارقطني في غرائب مالك عن الزهري ورواه الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة مثله- وزاد «ولا نظر إلى فرجي قط» وفي إسناده زيد بن الحسن عن مالك. وهو ضعيف، وقال لا يصح هذا عن مالك ولا عن الزهري. وروى الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة نحوه. وفي إسناده بركة بن محمد الحلبي، وهو متروك.
يخصفان، بكسر الخاء وتشديد الصاد، وأصله يختصفان. وقرأ الزهري: يخصفان، من أخصف، وهو منقول من خصف أى يخصفان أنفسهما وقرئ: يخصفان، من خصف بالتشديد مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قيل: كان ورق التين أَلَمْ أَنْهَكُما عتاب من الله تعالى وتوبيخ وتنبيه على الخطأ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس وروى: أنه قال لآدم:
ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أنّ أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا. فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٣]
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
وسميا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلما لأنفسهما «١» وقالا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات، واستصغارهم العظيم من الحسنات.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٦]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
جعل ما في الأرض منزلا من السماء، لأنه قضى ثم وكتب. ومنه وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ والريش لباس الزينة، استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أى أنزلنا عليكم لباسين: لباسا يوارى سوءاتكم، ولباسا يزينكم، لأن الزينة غرض صحيح، كما قال لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ وقرأ عثمان رضى الله عنه. ورياشاً، جمع ريش، كشعب وشعاب وَلِباسُ التَّقْوى ولباس الورع والخشية من الله تعالى، وارتفاعه على الابتداء وخبره إمّا الجملة التي هي ذلِكَ خَيْرٌ كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وأمّا المفرد الذي هو خير وذلك صفة للمبتدإ، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. ولا تحلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى، أو أن تكون إشارة إلى اللباس المواري للسوأة، لأنّ مواراة السوأة من التقوى، تفضيلا له على لباس الزينة. وقيل: لباس التقوى خبر مبتدإ محذوف، أى وهو لباس التقوى، ثم قيل: ذلك خير. وفي قراءة عبد الله وأبىّ: ولباس التقوى خير. وقيل:
المراد بلباس التقوى: ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر «١» وغيرها مما يتقى به في الحروب وقرئ: ولباس التقوى، بالنصب عطفاً على لباساً وريشاً ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته على عباده. يعنى إنزال اللباس لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفوا عظيم النعمة فيه وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة، كما محن أبويكم بأنّ أخرجهما منها يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما حال، أى أخرجهما نازعاً لباسهما، بأنه كان سبباً في أن نزع عنهما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ تعليل للنهى وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدوّ المداجى «١» يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. وعن مالك بن دينار. إنّ عدواً يراك ولا تراه، لشديد المؤنة إلا من عصم الله وَقَبِيلُهُ وجنوده من الشياطين، وفيه دليل بين أن الجنّ لا يرون»
ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدّعى رؤيتهم زور ومخرقة إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أى خلينا بينهم وبينهم «٣» لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سئلوا لهم من الكفر والمعاصي، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول. فإن قلت: علام عطف وقبيله؟ قلت: على الضمير في يراكم المؤكد بهو، والضمير في أنه للشأن والحديث، وقرأ اليزيدي وَقَبِيلُهُ بالنصب وفيه وجهان: أن يعطفه على اسم إن، وأن تكون الواو بمعنى مع، وإذا عطفه على اسم إن وهو الضمير في أنه، كان راجعاً إلى إبليس.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٨]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)
(٢). قال محمود: «وفيه دليل بين أنهم لا يرون... الخ» قال أحمد: أين يذهب به هما ورد في الحديث الصحيح، من اعتراض إبليس رأسهم ومقدمهم للنبي ﷺ يروم أن يشغله عن صلاته، حتى أمكنه الله منه فأخذه عليه الصلاة والسلام فدغنه وأراد أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد يلعب به الصبيان، حتى ذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. وإذا جاز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام كان جائزا لأولياء الله والمتبعين لسنة رسول الله ﷺ كرامة، لكن الزمخشري يصده عن ذلك جحده لكرامة الأولياء، لأنه عقيدة إخوانه، إذ الكرامة إنما يؤتاها الولي الصادق، فكيف ينالها من يشك في إسلامه، فإنهم لفي عذر من جحدها والتكذيب بها.
رزقنا الله الايمان بالكرامات إن لم نكن لها أهلا، والله الموفق.
(٣). قوله «أى خلينا بينهم وبينهم» فسر الجعل بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة. وعند أهل السنة يخلقة كالخير. (ع)
لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه «٣» لعدم الداعي ووجود الصارف، فكيف يأمر بفعله أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط.
وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٩]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)
بِالْقِسْطِ بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز. وقيل: بالتوحيد وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ وقل: أقيموا وجوهكم أى اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة وَادْعُوهُ واعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصاً كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى:
أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٠]
فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
(٢). قوله «وهم قدرية مجبرة» أى كالمجبرة يعنى أهل السنة، لقولهم: إن الله يريد الشر كالخير، والارادة هي الأمر عند المعتزلة، لكنها غيره عند أهل السنة، فالفحشاء بإرادته تعالى، لكنه لا يأمر بها. وتحقيقه في التوحيد.
(٣). قوله «فعل القبيح مستحيل عليه» يريد أن الله لا يريد فعل القبيح وهي عقيدة المعتزلة. أما عند أهل السنة فالله يريد القبيح والحسن «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (ع)
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣١]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
خُذُوا زِينَتَكُمْ أى ريشكم ولباس زينتكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ كلما صليتم أو طفتم، وكانوا يطوفون عراة. وعن طاوس، لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدكم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا:
لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها: وقيل: تفاؤلا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب.
وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة، وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل، فقيل لهم: كلوا واشربوا ولا تسرفوا. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة «١» ويحكى أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني «٢» حاذق، فقال لعلى بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان، علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب؟ فقال: قد جمع رسولنا ﷺ الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال قوله «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء «٣» وأعط
(٢). لم أجد لها- أى حكاية الرشيد- إسنادا.
(٣). لم أجده، وروى العقيلي في الضعفاء من رواية إبراهيم بن جريج الرهاوي عن زيد ابن أبى أنيسة عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة- رفعه «المعدة حوض البدن. والعروق إليها واردة: فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم» وقال: حديث باطل لا أصل له. وقال الدارقطني لا يصح ولا يعرف من كلام النبي ﷺ لسند إبراهيم بن جريج غير هذا وكان طبيبا، فجعل له إسنادا.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٢]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وكل ما يتجمل به وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المستلذات من المآكل والمشارب. ومعنى الاستفهام في من: إنكار تحريم هذه الأشياء. قيل: كانوا إذا أحرموا حرّموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم، لأنّ المشركين شركاؤهم فيها خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشركهم فيها أحد. فإن قلت: هلا قيل: هي للذين آمنوا ولغيرهم. قلت: لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبع لهم، كقوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وقرئ: خالصة بالنصب على الحال، وبالرفع على أنها خبر بعد خبر.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٣]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)
الْفَواحِشَ ما تفاحش قبحه أى تزايد. وقيل هي ما يتعلق بالفروج وَالْإِثْمَ عام لكل ذنب. وقيل: شرب الخمر وَالْبَغْيَ الظلم والكبر، أفرده بالذكر كما قال وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ. ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره «١» وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ وأن تتقوّلوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم وقرئ: فإذا جاء آجالهم. وقال ساعَةً لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس. يقول المستعجل لصاحبه: في ساعة، يريد أقصر وقت وأقربه.
على لا حب لا يهتدى بمناره
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» مؤكدة لمعنى الشرط. ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة. فإن قلت: فما جزاء هذا الشرط؟ قلت: الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى: فمن اتقى وأصلح منكم، والذين كذبوا منكم. وقرئ: تأتينكم، بالتاء.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
فَمَنْ أَظْلَمُ فمن أشنع ظلماً ممن تقوّل على الله ما لم يقله، أو كذب ما قاله أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أى مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا حتى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، أى إلى وقت وفاتهم، وهي «حتى» التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هاهنا الجملة الشرطية، وهي إذا جاءتهم رسلنا قالوا. ويَتَوَفَّوْنَهُمْ حال من الرسل، أى متوفيهم. والرسل ملك الموت وأعوانه. «وما» وقعت موصولة بأين في خط المصحف، وكان حقها أن تفصل، لأنها موصولة بمعنى: أين الآلهة الذين تدعون ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم، اعترافا منهم بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
قالَ ادْخُلُوا أى يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لا يصعد لهم عمل صالح إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وقيل: إنّ الجنة في السماء، فالمعنى لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرّق لهم إليها ليدخلوا الجنة. وقيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين.
وقيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون، ففتحنا أبواب السماء. وقرئ: لا تفتح، بالتشديد.
ولا يفتح بالياء. ولا تفتح، بالتاء والبناء للفاعل ونصب الأبواب، على أنّ الفعل للآيات. وبالياء على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ ابن عباس: الجمل، بوزن القمل. وسعيد بن جبير: الجمل، بوزن النغر. وقرئ: الجمل «بوزن القفل. والجمل، بوزن النصب. والجمل. بوزن الحبل. ومعناها القلس الغليظ «لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنّ الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، يعنى أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه، إلا أن قراءة العامّة أوقع لأن سم الابرة مثل في ضيق المسلك. يقال: أضيق من خرت الابرة. وقالوا للدليل الماهر: خرّيت، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر.
والجمل: مثل في عظم الجرم. قال:
إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام، فقيل: لا يدخلون الجنة، حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلا في باب واسع، في ثقب الإبرة. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل، فقال: زوج الناقة، استجهالا للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. وقرئ فِي سَمِّ بالحركات الثلاث: وقرأ عبد الله: في سم المخيط، والخياط، والمخيط كالحزام والمحزم: ما يخاط به وهو الإبرة وَكَذلِكَ ومثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ليؤذن أن الاجرام هو السبب الموصل إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب، وقد كرره فقال وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لأن كلّ مجرم ظالم لنفسه مِهادٌ فراش غَواشٍ أغطية. وقرئ: غواش. بالرفع، كقوله تعالى: «وله الجوار المنشآت» في قراءة عبد الله.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة معترضة بين المبتدإ والخبر، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الأعمش: لا تكلف نفس.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٣]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
حار بن عمرو ألا أحلام تزجركم | عنا وأنتم من الجوف الجماخير |
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم | جسم الجمال وأحلام العصافير |
كأنهم قصب جوف أسافله | مثقب نفخت فيه الأعاصير |
العقول. و «الجوف» بالضم: جمع أجوف، أى واسع الجوف. و «الجماخير» جمع جمخور، أى عظيم الجسم.
يقول: كيف لا يكون لكم أحلام وأنتم عظام الأجرام، ثم بين ذلك بقوله: لا بأس ولا ضرر يعترى هؤلاء من جهة الطول والغلظ، يعنى: لا نقص بهم من ذلك. وفيه تهكم بهم. أو لا يستنكفون من ذلك فهم أحقاء به، أو لا بأس يعتريك بسبب القوم من أجل طولهم وغلظهم فأجسامهم كأجسام الجمال، وعقولهم كعقول العصافير إن كان لها عقول، يعنى أنه لا عقل لهم. ويروى «جسم البغال» وشبههم في فراغ أجوافهم من العقل والشجاعة بالقصب:
إذا انشقت أجواف أسافله فأعاليه أكثر. وشبه منافذ حواسهم بثقوبه الخالية عن الحسن. و «الأعاصير» جمع إعصار، وهي ريح تهب مستديرة ذاهبة نحو السماء. واستعار النفخ لا دخالها الهواء فيه بقوة كالنفخ. وفي القافية الاقواء، لاختلاف حركة الروى بالكسر والضم.
(٢). قال محمود: اللام لتوكيد النفي يعنون وما كان يستقيم... الخ» قال أحمد: وهذه تكفح وجوه القدرية بالرد، فإنها شاهدة شهادة تامة مؤكدة باللام على أن المهتدى من خلق الله له الهدى، وأن غير ذلك محال أن يكون، فلا يهتدى إلا من هدى الله، ولو لم يهده لم يهتد، وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى، فهو إذاً مهتد وإن لم يهده الله، إذ هدى الله العبد خلق الهدى له- وفي زعمهم أن الله تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدى، ولا يتوقف ذلك على خلقه- تعالى الله عما يقولون- ولما فطن الزمخشري لذلك، جرى على عادته في تحريف الهدى من الله تعالى إلى اللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، فأنصف من نفسك واعرض قول القائل: المهتدى من اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله- أى يخلق له الهدى، على قوله تعالى حكاية عن قول الموحدين في دار الحق وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وانظر تباين هذين القولين، أعنى قول المعتزلي في الدنيا، وقول الموحد في الآخرة في مقعد صدق. واختر لنفسك أى الفريقين تقتدى به، وما أراك- والخطاب لكل عاقل تعدل بهذا القول المحكي عن أوليا الله في دار السلام منوها به في الكتاب العزيز، قول قدرى ضال تذبذب مع هواء وتعصبه في دار الغرور والزوال، نسأل الله حسن المآب والمآل.
(٣). عاد كلامه. قال: «وقوله تعالى وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ المراد بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة» قال أحمد: يعنى بالمبطلة قوما سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله وبرحمته. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» فقالوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل السنة. قيل لهم: فما معنى قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ قالوا: الله تفضل بأن جعل الجنة جزاء العمل، فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب العباد وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، جمعا بين الدليلين على وجه يطابق دليل العقل، الدال على أن الله تعالى يستحيل أن يجب عليه شيء، فانظر أيها المنصف، هل تجد في هذا الكلام من الباطل ما يوجب أن يلقب أصحابه بالمبطلة؟ وحاكم نفسك إليها، ثم إذا وضح لك أنهم برآء في هذا البر، فاعرضه على قوم زعموا أنهم يستحقون على الله تعالى حقا بأعمالهم التي لا ينتفع بوجودها ولا يتضرر بتركها- تعالى وتقدس عن ذلك- ويطلقون القول بلسان الجرأة أن الجنة ونعيمها أقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى لا تفضل له عليهم فيه. بل هو بمثابة دين تقاضاه بعض الناس من مديانه. وانظر أى الفريقين المذكورين أحق بلقب المبطلة، والسلام.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
«أن» في أَنْ قَدْ وَجَدْنا يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت آنفاً، وكذلك أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وزيادة في غمهم، لتكون حكايته لطفاً لمن سمعها، وكذلك قول المؤذن بينهم:
لعنة الله على الظالمين. وهو ملك يأمره الله فينادى بينهم نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار. وقرئ:
أنّ لعنة الله، بالتشديد والنصب. وقرأ الأعمش: إن لعنة الله، بكسر إن على إرادة القول، أو على إجراء فَأَذَّنَ مجرى قال. فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: ما وعدنا «٢» ربنا؟
قلت: حذف ذلك تخفيفاً لدلالة وعدنا عليه. ولقائل أن يقول: أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة، لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم، وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٦]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
وَبَيْنَهُما حِجابٌ يعنى بين الجنة والنار. أو بين الفريقين، وهو السور المذكور في قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ. وَعَلَى الْأَعْرافِ وعلى أعراف الحجاب وهو السور المضروب
(٢). عاد كلامه: قال: فان قلت هلا قيل ما وعدكم ربكم كما قيل ما وعدنا... الخ» قال أحمد: ولقائل أن يقول:
ولو ذكر المفعول حسب ذكره في الأول فقيل: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، لكان الفعل مطلقا أيضا باعتبار الموعود به، لأنه لم يذكر، فكان يتناول كل موجود من البعث والحساب والعقاب، الذي هو أنواع من جملتها التحسر على نعيم أهل الجنة، فليس ذلك خاصا بحذف المفعول الواقع على الموعودين، فالوجه أن حذفه إيجاز وتخفيف واستغناء عنه بالأول. والله أعلم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادرا رجالا من رؤوس الكفرة يقولون لهم أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ إشارة لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون.
وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدّم والتأخر على حسنها، وأن أحداً لا بسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه. وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملا. وقوله وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ فيه أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش: وإذا قلبت أبصارهم وقرئ: أدخلوا الجنة، على البناء للمفعول. وقرأ عكرمة: دخلوا الجنة. فإن قلت: كيف لاءم هاتين القراءتين قوله لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ؟ قلت: تأويله: أدخلوا، أو دخلوا الجنة مقولا لهم: لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فإن قلت: ما محل قوله: لم يدخلوها وهم يطمعون؟ قلت: لا محل له لأنه استئناف، كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل:
لم يدخلوها وهم يطمعون، يعنى حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
أَفِيضُوا عَلَيْنا فيه دليل على أن الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة، ويجوز أن يراد: أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة. كقوله:
عَلَفْتُهَا تِبْنا وَمَاءً بَارِدا «١»
وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم، كما يفعل المضطر الممتحن.
حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرّم عليه ويحظر، كقوله:
حَرَامٌ عَلَى عَيْنَىَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى «٢»
ما حططت الرحل عنها واردا | علفتها تبنا وماء باردا |
علفتها تبنا وماء باردا | حتى شتت همالة عيناها |
نصب على الحال، وعيناها: فاعل به. ويروى: حتى غدت، وحتى بدت.
(٢).
حرام على عيني أن تطعم الكرى | وأن ترقئا حتى ألاقيك يا هند |
وأنال من نوالك. وفي النداء معنى التفجع.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء حكيما قيما غير ذى عوج. وقرأ ابن محيصن: فضلناه، بالضاد المعجمة. بمعنى فضلناه على جميع الكتب، عالمين أنه أهل للتفضيل عليها. وهُدىً وَرَحْمَةً حال من منصوب فضلناه، كما أن على علم حال من مرفوعه إِلَّا تَأْوِيلَهُ إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أى تبين وصحّ أنهم جاءوا بالحق نُرَدُّ جملة معطوفة على الجملة التي قبلها، داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل: هل لنا من شفعاء، أو هل نردّ. ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم، كما تقول ابتداء: هل يضرب زيد؟
ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه. فلا يقدّر: هل يشفع لنا شافع أو نردّ. وقرأ ابن أبى إسحاق. أو نردّ، بالنصب عطفاً على فيشفعوا لنا. أو تكون «أو» بمعنى «حتى أنّ» أى يشفعوا لنا حتى نردّ فنعمل، وقرأ الحسن بنصب نُرَدُّ ورفع فَنَعْمَلَ بمعنى: فنحن نعمل.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وقرئ يغشى بالتشديد، أى يلحق الليل النهار، والنهار بالليل يحتملهما جميعاً. والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس: يغشى الليل النهار، بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار، أى يدرك النهار الليل ويطلبه حثيثاً، حسن الملاءمة لقراءة حميد بِأَمْرِهِ بمشيئته وتصريفه، وهو متعلق بمسخرات أى خلقهنّ جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره، وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك أمرا على التشبيه، كأنهنّ مأمورات بذلك. وقرئ: والشمس والقمر
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٨]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً نصب على الحال، أى ذوى تضرع وحفية. وكذلك خوفاً وطمعاً.
والتضرع تفعل من الضراعة «١» وهو الذل، أى تذللا وتملقا. وقرئ. وخفية «٢» وعن الحسن رضى الله عنه: إنّ الله يعلم القلب التقى والدعاء الخفي، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة وعنده الزور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أنّ الله تعالى يقول
(٢). قوله «وقرئ وخفية» لعل هذه بالكسر. (ع)
ونشراً تخفيف نشر، كرسل ورسل. وقرأ مسروق: نشراً، بمعنى منشورات، فعل بمعنى مفعول، كنقض وحسب. ومنه قولهم «ضم نشره» وبشراً جمع بشير. وبشراً بتخفيفه. وبشراً- بفتح الباء- مصدر من بشره بمعنى بشره، أى باشرات، وبشرى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أمام رحمته، وهي الغيث الذي هو من أتمّ النعم وأجلها وأحسنها أثراً أَقَلَّتْ حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأنّ الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلا سَحاباً ثِقالًا سحائب ثقالا بالماء جمع سحابة سُقْناهُ الضمير للسحاب على اللفظ، ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث، كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلا لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لأجل بلد ليس فيه حياً ولسقيه. وقرئ:
ميت فَأَنْزَلْنا بِهِ بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق. وكذلك فَأَخْرَجْنا بِهِ | كَذلِكَ مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ |
(٢). قوله «هو النقيض والضغيب» النقيض: هو صوت العقاب وصوت المحمل، والضغيب: صوت الأرنب. (ع)
وقرئ: نكداً، بفتح الكاف على المصدر، أى ذا نكد. ونكداً، بإسكانها للتخفيف، كقوله: نزه عن الريب، بمعنى نزه. وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك. وعن مجاهد: آدم وذرّيته منهم خبيث وطيب. وعن قتادة: المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت. والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد كَذلِكَ مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ نردّدها ونكرّرها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله وهم المؤمنون، ليفكروا فيها ويعتبروا بها. وقرئ:
يصرف، بالياء أى يصرفها الله.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٩]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩)
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً جواب قسم محذوف. فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام، إلا مع «قد» وقلّ عنهم، نحو قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر... لناموا........ «١»....
فقالت سباك الله إنك فاضحى | ألست ترى السمار والنار أحوالى |
حلفت لها بالله حلفة فاجر | لناموا فما إن من حديث ولا صالى |
فأصبحت معشوقا وأصبح يعلها | عليه قتام كاسف الظن والبال |
يغط غطيط البكر شد خناقه | ليقتلني والمره ليس بقتال |
أيقتلنى والمشرفي مضاجعى | ومسنونة زرق كأنياب أغوال |
حزين القلب، أو سيئ الحال. والغطيط: ارتفاع صوت النفس عند الخنق والنعاس ونحو ذلك. والبكر: الفتى من الإبل. والخناق: حبل يخنق به كالحزام لما يتحزم به، والاسار لما يربط به الأسير. وقوله: ليس بقتال، أى كما يزعم أنه شجاع. والمشرفي: السيف، نسبة إلى مشارف جمع مشرف كجعفر، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، شبهه بالمضاجع لامتداده بجانبه وملازمته له، والمسنونة النبال: المحددة الأطراف. والزرق:
جمع زرقاء، الصافيات اللون. وشبهها بأنياب الأغوال في حدة الأطراف، واستبشاع كل عند النفوس. وهذا لا يستلزم وجود الغول ورؤية نابها، وإن زعمته العرب.
أرسل نوح عليه السلام وهو ابن خمسين سنة، وكان نجاراً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام. وقرئ: غيره، بالحركات الثلاث، فالرفع على المحل، كأنه قيل: ما لكم إله غيره. والجر على اللفظ والنصب على الاستثناء، بمعنى: ما لكم من إله إلا إياه، كقولك: ما في الدار من أحد إلا زيد أو غير زيد. فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله اعْبُدُوا اللَّهَ؟ قلت: الأولى بيان لوجه اختصاصه بالعبادة. والثانية: بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم: يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
الْمَلَأُ الأشراف والسادة. وقيل: الرجال ليس معهم نساء فِي ضَلالٍ في ذهاب عن طريق الصواب والحق. ومعنى الرؤية: رؤية القلب. فإن قلت: لم قال لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ولم يقل ضلال «١» كما قالوا؟ قلت: الضلالة أخصّ من الضلال، فكانت أبلغ في نفى الضلال
والتحقيق في الجواب أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال وأقل، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة منه. وأما الضلال فينطلق على القليل والكثير من جنسه، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، لا من حيث كونه أخص، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، والله أعلم.
أَنَا الَّذِى سَمَّتْنِ أُمِّى حَيْدَرَهْ «٢»
ابن جنى قول أبى الطيب:... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبى
عدولا عن لفظ الغيبة لو كان إلى أدبه، وهذه الآية والرجز العلوي كفيلان بتحسين ما ارتكبه أبو الطيب.
(٢).
أنا الذي سمتن أمى حيدره... كليث غابات كريه المنظرة
أو فيهم بالصاع كيل السندره... أضربكم ضربا يبين الفقرة
للإمام على رضى الله عنه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر، فقال مرحب:
قد علمت خيبر أنى مرحب... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب
فأجابه على بذلك «وكانت أمه فاطمة بنت أسد سمته كاسم أبيها، لأن «حيدرة» من أسماء الأسد، فلما حضر أبو طالب سماه علياً. وسمى الأسد «حيدرة» لشدة انحداره على من يصول عليه. والليث: اسم جامد له، واشتقوا منه، لا ينه إذا عامله معاملة الليث. والغابة: بيته الذي يغيب فيه. والسندرة: اسم امرأة كانت تبيع البر وتوفى الكيل، أو مكيال كبير. وكان الظاهر أن يقول: الذي سمته أمه ليطابق الضمير مرجعه وهو الموصول في الغيبة. ولكن أتى بضمير التكلم ذهابا إلى المعنى. وحسنه تقدم ضمير المتكلم، أى أنا الشجاع الذي ظهرت على أمارة الشجاعة من صغرى، فسمتني أمى باسم الأسد، ولا أكذبها في ظنها، وأنا كليث غابات منظرته كريهة لعبوسى في وجه عدوى، ثم قال:
أوفى الأعداء، أى أعطيهم عطاء وافياً. وكيل السندرة: نصب به على المفعول المطلق، أو بمقدر: أى أكيل لهم مثل كيل تلك المرأة في الوفاء، أو أعطيهم بالصاع الصغير كيل المكيال الكبير. ويروى: أو فيهم بالسيف. وهذا من باب الاستعارة التمثيلية التهكمية، شبه هيئة إيصاله الطعان إلى الأعداء بكثرة في مقابلة مكروه يفرط منهم. بهيئة إيصال البر بالكيل في مقابلة ثمنه، وإن كان البر محبوبا والطعن مكروها، والتفت مفسراً ذلك بقوله أضربكم ضرباً يبين، أى يفصل الفقرة: جمعها فقار، وفقرات. وهي عظام الظهر، وقد علمت خيبر، أى أهلها. وشاكي السلاح.
حاده وتلمه. يجوز أنه نعت مرحب. ويجوز أنه خبر بعد خبر. وبطل مجرب: خبر بعد خبر لا غير. واستعار الالتهاب لاشتداد الحروب على طريق التصريح.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٦٣]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل:
أكذبتم وعجبتم أَنْ جاءَكُمْ من أن جاءكم ذِكْرٌ موعظة مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ على لسان رجل منكم، كقوله ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وذلك أنهم يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، يعنون إرسال البشر، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٦٤]
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
وَالَّذِينَ مَعَهُ قيل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: تسعة، بنوه سام وحام ويافث، وستة ممن آمن به. فإن قلت: فِي الْفُلْكِ بم يتعلق؟ قلت: هو متعلق بمعه، كأنه قيل: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك. ويجوز أن يتعلق بفعل الإنجاء، أى أنجيناهم في السفينة من الطوفان عَمِينَ عمى القلوب غير مستبصرين. وقرئ: عامين. والفرق بين العمّى والعامىّ، أن العمى يدل على عمى ثابت. والعامي على عمى حادث. ونحوه قوله وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)أَخاهُمْ واحداً منهم من قولك: يا أخا العرب، للواحد منهم. وإنما جعل واحداً منهم، لأنهم أفهم عن رجل منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وأخاهم: عطف على نوحا. وهُوداً عطف بيان له. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله قالَ يا قَوْمِ ولم يقل «فقال» كما في قصة نوح «١» ؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله، وكذلك قالَ الْمَلَأُ. فإن قلت: لم وصف الملأ الَّذِينَ كَفَرُوا دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى: وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذمّ لا غير فِي سَفاهَةٍ في خفة حلم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز: أرادوا أنه متمكن فيها غير منفك عنها. وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام- من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة، بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس وأسفههم- أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عزّ وجلّ ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على
«إذ» في قوله إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ ما وجه انتصابه؟ قلت: هو مفعول به وليس بظرف، أى اذكروا وقت استخلافكم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء.. في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حباً لما نشأوا عليه، وألفاً لما صادفوا آباءهم يتدينون به. فإن قلت: ما معنى المجيء في قوله أَجِئْتَنا قلت: فيه أوجه: أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه، كما كان يفعل رسول الله ﷺ بحراء قبل المبعث «١» فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم. وأن يريدوا به الاستهزاء، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة، فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك، وأن لا يريدوا حقيقة المجيء، ولكن التعرّض بذلك والقصد، كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب، كأنهم قالوا: أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرّضت لنا بتكليف ذلك؟
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا استعجال منهم للعذاب قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أى حق عليكم ووجب، أو قد نزل عليكم. جعل المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع. ونحوه قولك لمن طلب إليك
وقصتهم أن «عاداً» قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها.
صداء. وصمود، والهباء، فبعث الله إليهم هوداً نبياً، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً، فكذبوه وازدادوا عتوّاً وتجبراً، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم قيل بن عنز، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه. فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان.
- قينتان كانتا لمعاوية- فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك وقال: قد هلك أخوالى وأصهارى وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحى أن يكلمهم خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين. فقالتا: قل شعراً نغنيهم به لا يدرون من قاله. فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم | لعلّ الله يسقينا غماما |
فيسقى أرض عاد إن عادا | قد امسوا ما يبينون الكلاما «٢» |
(٢).
ألا يا قيل ويحك قم فهينم | لعل الله يسقينا غماما |
فيسقى أرض عاد إن عادا | قد أمسوا ما يبينون الكلاما |
من العطش الشديد فليس نرجو | لها الشيخ الكبير ولا الغلاما |
وقد كانت نساؤهم بخير | فقد أمست نساؤهم عيامى |
وإن الوحش يأتيهم جهارا | فلا يخشى لعادى سهاما |
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم | نهاركم وليلكم التماما |
فقبح وفدكم من وفد قوم | ولا لقوا التحية والسلاما |
والمراد بها مطلق الفاقة. والعيامى: جمع عيم بالتشديد، أى رثيئة الحال، وأصله عيائم، فقلب إلى عيامى، كما روى أيامى، وهو جمع أيم، وأصله أيائم، أى فاقدات الأزواج. فالمعنى على التشبيه. ويجوز أن المراد: نساءكم التي تركتموهن كأنهن بلا أزواج هناك. وتكرير النساء للاستعطاف عليهن. والعادي: نسبة لعاد، وكانوا الغلاظ الشداد. والوحش: اسم جنس جمعى، واحده وحشى، كانس وإنسى، وترك وتركى. فيذكر باعتبار لفظه، ويؤنث باعتبار جمعيته. وروى «بهما» ونهاركم: نصب على الظرف، و «من وقد قوم» تمييز مقترن بمن، والسلام عطف على التحية، وفيه تورية لأنه يشير إلى انقطاع الكلام، كما أن المجتمعين يأتيان به عند المفارقة. فلما سمع القوم ذلك انطلقوا إلى للكعبة، فلحقهم مرثد بن سعد وكان مؤمنا فأخروه، فدعا الله تعالى لنفسه لا للقوم. وقال قيل:
اللهم إن كان هود صادقا فاسقنا، فأنشأ سحابة بيضاء وسحابة حمراء وسحابة سوداء. ثم نودي: يا قيل، اختر أيها شئت. فقال: أما البيضاء فجفل، وأما الحمراء فعارض. وأما السوداء فهيطل، فاختارها فنودي. قد اخترت رمادا أرمدا، لا يبقى من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا. فسارت السوداء إلى عاد فأهلكتهم، وجاء لقمان بن عاد بعد أن فرغوا من دعواتهم فقال: اللهم إنى جئتك وحدي، فأعطنى سؤلي. وسأل عمر سبعة أنسر، وكان عمر النسر ثمانين سنة، فكان يأخذ النسر من وكره فلا يزال عنده حتى يموت، وكان آخر نسوره اسمه لبد، فلما مات مات.
ثم إن ذلك كان قبل وجود مكة وزمزم، لأنهما إنما وجدان في زمن إبراهيم وإسماعيل، فلعل معاوية بن بكر كان سكنه قريبا من موضع مكة، لا في نفس موضعها، لأنه إذ ذاك لم تكن فيه كلأ ولا ماء.
يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهنّ ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. فإن قلت:
ما فائدة نفى الإيمان عنهم في قوله وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت:
هو تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد، ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أنّ الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)قرئ وَإِلى ثَمُودَ بمنع الصرف بتأويل القبيلة، وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحىّ، أو باعتبار الأصل، لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل:
سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الشام والحجاز إلى وادى القرى قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ آية ظاهرة وشاهد على صحة نبوّتى. وكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً وآية نصب على الحال، والعامل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية. ولكم: بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود، لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال: لكم خصوصاً، وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحل وطروقة آية من آياته، كما تقول: آية الله. وروى أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالا، حتى أن الرجل كان يبنى المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام، وكانوا قوما عربا وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى الله تعالى فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعوا إلهك وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم، ثم قال سيدهم- جندع بن عمرو، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة- أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء- والمخترجة التي شاكلت البحت- فإن فعلت صدّقناك وأجبناك. فأخذ صالح عليه السلام عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمننّ ولتصدّقنّ، قالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء. كما
(٢). قوله «وانفجت الصخرة» أى انفتحت. (ع)
(٣). متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما من طرق.
(٤). أخرجه ابن إسحاق في المغازي: حدثني يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خيثم والد يزيد المذكور عن عمار بن ياسر قال «كنت أنا وعلى رفيقين في غزوة العسرة إلى أن قال: فقال يا على، ألا أخبرك بأشقى الناس: رجلين؟ قال: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ «ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا على على هذه وأشار إلى رأسه- حتى يبل هذه- ووضع يده على لحيته» ومن هذا الوجه أخرجه النسائي في الخصائص والحاكم والطبري والبيهقي في الدلائل. وفي الباب عن جابر بن سمرة أخرجه الطبراني وعن صهيب أخرجه أبو يعلى والطبراني. وعن على أخرجه ابن مردويه في تفسير والشمس وضحاها «تنبيه» في رواية المذكورين «أن النبي ﷺ سأل عليا، فقال له في الأول: عاقر الناقة، قال صدقت. وقال في الثانية «لا علم لي» وفي رواية جابر بن سمرة «الله أعلم».
يَنْبَاعُ مِنْ ذَفْرَى أَسِيلٍ حُرَّةٍ «٢»
فإن قلت: علام انتصب بُيُوتاً؟ قلت: على الحال، كما تقول: خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلما، وهي من الحال المقدّرة، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حال الخياطة والبرى. وقيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٥ الى ٧٩]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
(٢).
وكان ربا أو كحيلا معقدا | حش الوقود به جوانب قمقم |
ينباع من ذفرى أسيل حرة | زيافة مثل الفنيق المكرم |
فان قلت: كيف صحّ قولهم إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ جوابا عنه «٢» ؟ قلت: سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب، كأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه «٣» ولا شبهة يدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «٤» فوضعوا آمَنْتُمْ بِهِ موضع أُرْسِلَ بِهِ رداً لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلماً فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلا واحد منهم وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، وأمر ربهم: ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أو شأن ربهم وهو دينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدر عتوّهم عن أمر ربهم، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم. ونحو عن هذه ما في قوله
(٢). عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت كيف وقع قولهم إنا بما أرسل به مؤمنون جوابا... الخ» قال أحمد:
وقولهم إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ليس إخباراً عن وجوب الايمان به، بل عن امتثال الواجب والعمل به، ونحن قد امتثلنا.
(٣). قوله «ما لا كلام فيه» لعله: مما لا كلام فيه. (ع)
(٤). عاد كلامه. قال محمود: «ولذلك كان جواب الكفرة إنا بالذي... الخ» قال أحمد: ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، ولكن أبوا ذلك حذراً مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته وهم يجحدونها. وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فأثبت إرساله تهكما، وليس هذا موضع التهكم، فان الغرض إخبار كل واحد من الفريقين المؤمنين والمكذبين عن حاله، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الايمان بالرسالة احتياطاً للكفر وعلواً في الإصرار.
واستعجالهم له لتكذيبهم به، ولذلك علقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين الرَّجْفَةُ الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها فِي دارِهِمْ في بلادهم أو في مساكنهم جاثِمِينَ هامدين لا يتحركون موتى. يقال: الناس جثم، أى قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة. ومنه المجثمة التي جاء النهى عنها «١»، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى. وعن جابر أنّ النبي ﷺ لما مر بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا من هو؟ قال: ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه «٢» » وروى أنّ صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروى أنه عليه السلام مرّ بقبر أبى رغال فقال: «أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبى رغال، وأنه دفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب» فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن «٣». فَتَوَلَّى عَنْهُمْ الظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولى مغتمّ متحسر على ما فاته من إيمانهم يتحزن لهم ويقول يا قَوْمِ لَقَدْ بذلت فيكم وسعى ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم ولكنكم لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ويجوز أن يتولى عنهم تولى ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وروى أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروى أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكى، فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار. وروى أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
فإن قلت: كيف صحّ خطاب الموتى وقوله وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ؟ قلت: قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة: يا أخى، كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل منى؟ وقوله وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية.
(٢). أخرجه ابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والطبري من رواية عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبى الزبير عن جابر- وزاد «في غزوة تبوك»، فقام فخطب الناس.
(٣). أخرجه أبو داود وابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل من رواية بجير بن أبى بجير عن عبد الله بن عمرو بن العاص ولفظه «فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن» وأما قوله «فبحثوا عنه بأسيافهم» فأخرجه عبد الرزاق عن معمر مرسلا. [.....]
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)وَلُوطاً وأرسلنا لوطا. وإِذْ ظرف لأرسلنا. أو واذكر لوطا، وإذ بدل منه، بمعنى: واذكر وقت قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أتفعلون السيئة المتمادية في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها ما عملها قبلكم، والباء للتعدية من قولك: سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه السلام «سبقك بها عكاشة «١» » مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ «من» الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة مستأنفة، أنكر عليهم أوّلا بقوله أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أوّل من عملها. أو على أنه جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان لقوله: أتأتون الفاحشة. والهمزة مثلها في أَتَأْتُونَ للإنكار والتعظيم. وقرئ: إنكم، على الإخبار المستأنف لتأتون الرجال، من أتى المرأة إذا غشيها شَهْوَةً مفعول له، أى للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرّد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، أنه لا داعى لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماجة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعوا إلى اتباع الشهوات وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ. وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا يعنى ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام، من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ولكنهم جاءوا
أى فرق بين مطر وأمطر؟ قلت: يقال مطرتهم السماء وواد ممطور «٣». وفي نوابغ الكلم: حرى غير ممطور. حرى أن يكون غير ممطور «٤» ومعنى مطرتهم: أصابتهم بالمطر، كقولهم. غاثتهم وو بلتهم وجادتهم ورهمتهم. ويقال: أمطرت عليهم كذا، بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. ومعنى وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيباً يعنى الحجارة. ألا ترى إلى قوله فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.
(٢). قوله «من ذويه أو من المؤمنين» يعنى أقاربه وامرأته. (ع)
(٣). قال محمود: «يقال مطرتهم السماء وواد ممطور... الخ» قال أحمد: مقصود المصنف الرد على من قول:
مطرت السماء في الخير، وأمطرت في الشر. ويتوهم أنها تفرقة وضعية، فبين أن أمطرت: معناه أرسالات شيئاً على نحو المطر وإن لم يكن ماء، حتى لو أرسل الله من السماء أتواعا من الخيرات والأرزاق مثلا كالمن والسلوى، لجاز أن يقال فيه: أمطرت السماء خيرات، أى أرسلتها إرسال المطر. فليس الشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية، ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا، فظن الواقع اتفاقا مقصودا في الوضع فنبه على تحقيق الأمر فيه وأحسن وأجمل.
(٤). قوله «حرى غير ممطور حرى أن يكون غير ممطور» حرى الأول بمعنى ناحية وجانب. والثاني بمعنى جدير وحقيق. وممطور الأول بمعنى مصاب بالمطر. والثاني بمعنى مذهوب فيه. كذا يؤخذ من الصحاح. (ع)
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة شاهدة بصحة نبوّتى أوجبت عليكم الإيمان بى والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا. فإن قلت:
ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة، لقوله قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.
ولأنه لا بدّ لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلا لم تصح دعواه، وكان متنبئاً لا نبيا غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا ﷺ فيه. ومن معجزات شعيب عليه السلام: ما روى من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين «١» حين دفع إليه غنمه. وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات، لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزات لشعيب. فإن قلت: كيف قيل الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وهلا قيل: المكيال والميزان، كما في سورة هود عليه السلام؟ قلت: أريد بالكيل: آلة الكيل وهو المكيال. أو سمى ما يكال به بالكيل، كما قيل: العيش، لما يعاش به. أو أريد: فأوفوا الكيل ووزن الميزان. ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر، ويقال: بخسته حقه: إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم: تحسبها حمقاء وهي باخس. وقيل أَشْياءَهُمْ لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوة كما يفعل أمراه الحرمين. وروى أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعا، ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفا بَعْدَ إِصْلاحِها بعد الإصلاح فيها، أى لا تفسدوا فيها بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم. وإضافته كإضافة قوله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بمعنى بل مكركم في الليل والنهار، أو
ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله، وباغيها عوجاً. فإن قلت: صراط الحق واحد، وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فكيف قيل: بكل صراط؟
قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيء منها أو عدوه وصدّوه. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في آمَنَ بِهِ؟ قلت: إلى كل صراط. تقديره: توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه. وقيل: كانوا يجلسون على الطرق والمراصد، فيقولون لمن مرّ بهم: إن شعيباً كذاب فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان يفعل قريش بمكة. وقيل: كانوا يقطعون الطرق.
وقيل: كانوا عشارين وَتَبْغُونَها عِوَجاً وتطلبون لسبيل الله عوجا، أى تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها: أو يكون تهكما بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأنّ طريق الحق لا يعوج وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا إذ مفعول به غير ظرف. أى: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم فَكَثَّرَكُمْ الله ووفر عددكم.
قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا. ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم: فجعلكم مكثرين موسرين. أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فَاصْبِرُوا فتربصوا وانتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أى بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ أو هو عظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم.
ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين، أى ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب وَهُوَ خَيْرُ
لأنّ حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
أى ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم، وإمّا عودكم في الكفر. فإن قلت: كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود «١» في الكفر في قولهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وكيف أجابهم بقوله إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير، فضلا عن الكبائر، فضلا عن الكفر؟ قلت: لما قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك، فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا: لتعودنّ، فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال:
إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم
توفيقاً من الله له ولطفا به. وبالعكس في حق الكافر، وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لاقامة حجة الله على عباده، والله أعلم.
(١). قوله «والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين» أى تنزه عن أن يشاء | الخ، على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد الشر. أما عند أهل السنة فيريده كالخير. (ع) |
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أى أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدالكم الضلالة بالهدى، كقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية. فإن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وجواب الشرط؟ قلت: قوله إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ سادّ مسدّ الجوابين الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا وكذلك كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم، لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعه فإنهم الرابحون. وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير: مبالغة في ردّ مقالة الملإ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٩٣]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
الأسى: شدّة الحزن. قال العجاج:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
اشتدّ حزنه على قومه ثم أنكر على نفسه فقال: فكيف يشتدّ حزنى على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ويجوز أن يريد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حلّ بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني فكيف آسى عليكم يعنى أنه لا يأسى عليهم لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى. وقرأ يحيى بن وثاب: فكيف إيسى، بكسر الهمزة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ بالبؤس والفقر وَالضَّرَّاءِ بالضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أى أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة كقوله وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ حَتَّى عَفَوْا كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت. ومنه قوله ﷺ «وأعفوا اللحى» «١» وقال الحطيئة:
بِمُسْتَأسِدِ القرْيَانِ عَافَ نَبَاتُهُ «٢»
وقال:
ولكنّا نعضّ السّيف منها | بأسوق عافيّات الشّحم كوم «٣» |
(٢).
فان نظرت يوما بمؤخر عينها | إلى علم في الغور قالت أبعد |
بأرض ترى فرخ الحبارى كأنها | بها راكب موف على ظهر قردد |
بمستأسد القريان عاف نباته | تساقطنى والرحل من صوت هدد |
وقالت له «ابعد» مجاز عن تركها إياه بسرعة، فيبعد عنها. والحبارى: طير يهوى الجبال، وفرخها يسمى النهار.
وفرخ الكروان يسمي الليل. والموفى: المشرف. والقردد- كهدهد- المكان الغليظ المرتفع. والمستأسد: النبات القوى الغليظ الطويل، كما سمى السبع أسداً لقوته. والقريان- بالضم- جمع قرى كفعيل: مجرى الماء الذي يجمعه إلى الروض. والعافي الكثير، يصف ناقته بسرعة السير وأنها لخوفها في ذلك الطريق لا نتمكن من تمام النظر إلى أعلامه، فإذا لمحت فيه شبحاً أسرعت مبعدة عنه في أرض مجهل، كأن فرخ الحبارى فيها راكب مشرف فوق مكان مرتفع. وقوله «بمستأسد» بدل من قوله «بأرض» أو متعلق بتساقطنى. والمعنى: أنه لا فرق عندها بين الحزن والسهل في نبات الغدران حال كثرته، ترديني مع رحلها لسرعة سيرها من خوفها من صوت هدهد واحد. وعلى الأول، تساقطني حال من فاعل «قالت» أو جواب الشرط، وقالت له: ابعد، صفة علم. وعبر بالتساقط، لأن المعنى:
كلما تمكنت حركتنى، حتى أكاد أسقط.
(٣).
إذا ما درها لم يقر ضيفا | ضمن له قراه من الشحوم |
فلا تتجاوز العضلات منها | إلى البكر المعازب والكروم |
ولكنا لعض السيف منها | بأسوق عافيات الشحم كوم |
[سورة الأعراف (٧) : آية ٩٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)
اللام في القرى: إشارة إلى القرى التي دل عليها قوله وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ كأنه قال:
ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمَنُوا بدل كفرهم وَاتَّقَوْا المعاصي مكان ارتكابها لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لآتيناهم بالخير من كل وجه. وقيل أراد المطر والنبات وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس. فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ، إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
البيات يكون بمعنى البيتوتة. يقال: بات بياتاً. ومنه قوله تعالى فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ وقد يكون بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. يقال: بيته العدو بياتاً، فيجوز أن يراد: أن يأتيهم بأسنا بائتين، أو وقت بيات، أو مبيتاً، أو مبيتين، أو يكون بمعنى تبييتاً، كأنه قيل:
أن يبيتهم بأسنا بياتاً. وضُحًى نصب على الظرف. يقال: أتانا ضحى، وضحيا، وضحاء
[سورة الأعراف (٧) : آية ٩٩]
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
فإن قلت: فلم رجع فعطف بالفاء قوله أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ قلت: هو تكرير لقوله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ومكر الله: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر. ولاستدراجه. فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثيم، أن ابنته قالت له: مالى أرى الناس ينامون ولا أراك تنام، فقال: يا بنتاه، إنّ أباك يخاف البيات، أراد قوله أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٠]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
إذا قرئ أَوَلَمْ يَهْدِ بالياء كان أَنْ لَوْ نَشاءُ مرفوعاً بأنه فاعله، بمعنى: أو لم يهد للذين يخلفون، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، كما أصبنا من قبلهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورّثين. وإذا قرئ بالنون، فهو منصوب كأنه قيل: أو لم يهد الله للوارثين هذا الشأن، بمعنى: أولم نبين لهم أنا لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كما أصبنا من قبلهم. وإنما عدّى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين. فإن قلت: بم تعلق قوله تعالى وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ «١» ؟ قلت: فيه أوجه، أن يكون معطوفا على ما دلّ عليه
الاصابة ببعض ذنوبهم، والآخر الطبع على قلوبهم. وهذا الثاني أشد من الأول، وهو أيضا نوع من الاصابة بالذنوب أو العقوبة عليها، ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب. وكثيرا ما يعاقب الله على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه، كما قال تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم. وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه، فثواب الايمان إيمان وثواب الكفر كفر. وإنما الزمخشري يحاذوا من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى. وذلك عنده محال، لأنه قبيح والله عنه متعال، وأنى يتم الفرار من الحق. وكم من آية صرحت بوقوع الطبع من الله، فضلا عن تعلق المشيئة به.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠١]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها كقوله هذا بَعْلِي شَيْخاً في أنه مبتدأ وخبر وحال ويجوز أن يكون الْقُرى صفة لتلك ونَقُصُّ خبرا، وأن يكون الْقُرى نَقُصُّ خبرا بعد خبر.
فإن قلت: ما معنى تِلْكَ الْقُرى حتى يكون كلاما مفيدا؟ قلت: هو مفيد، ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم. فإن قلت: ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت: معناه أنّ تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل، أى استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات. ومعنى اللام تأكيد النفي وأنّ الإيمان كان منافياً لحالهم في التصميم على الكفر. وعن مجاهد: هو كقوله وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. كَذلِكَ مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٢]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥)
مِنْ بَعْدِهِمْ الضمير للرسل في قوله وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ أو للأمم فَظَلَمُوا فكفروا بآياتنا. أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أو فظلموا الناس بسببها حين او عدوهم وصدّوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً، فلذلك قيل: فظلموا بها، أى كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان. يقال لملوك مصر: الفراعنة، كما يقال لملوك فارس الأكاسرة، فكأنه قال:
يا ملك مصر وكان اسمه قابوس. وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فيه أربع قراآت، المشهورة: وحقيق علىّ أن لا أقول «١»، وهي قراءة نافع وحقيق أن لا أقول
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
وكقوله:
قد صرح السر عن كتمان وابتذلت | وضع المحاجن بالمهرية الدقن |
والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به | وللسيوف كما للناس آجال |
طوال الردينيات يقصفها دمى | وبيض السريجيات يقطعها لحمى |
وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ «١»
ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرماح، وحقيق علىّ أن لا أقول، وهي قراءة نافع. والثاني: أنّ ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق، أى لازماً له.
والثالث: أن يضمن حَقِيقٌ معنى حريص، كما ضمن «هيجنى» معنى ذكرني في بيت الكتاب.
والرابع- وهو الأوجه- الأدخل في نكت القرآن: أن يعرق موسى «٢» في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدو الله فرعون قال له- لما قال إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ
كذبتم وبيت الله حين تعالجوا | قوادم حرب لا تلين ولا نمرى |
نزلت بخيل لا هوادة بينها | وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر |
الصلح والبقية من القوم يرجى بها صلاحهم، والمعنى أنهم لا يرجى صلحهم. وتشقى: أى تتعب الرماح بسبب الضياطرة، وهو من باب القلب لا من اللبس. والمعنى: وتشقى الضياطرة بالرماح. والضيطر: الضخم الجبان.
وقياس جمعه ضياطير، إلا أنه عوض الهاء من الياء. والحمر عند العرب: كناية عن العجم، لأنها تصف الحسن بالأخضر، والقبيح بالأحمر. والمعنى: تتعب ضياطرتهم من حمل رماحهم. ويجوز أن المراد من طعن رماحنا.
ويحتمل أن لا قلب، وأنه بالغ في ضخمهم، حتى كأن الرماح تتعب من طعنهم، لكن الأول هو المنقول.
والمعنى: لا تصالحوهم بل نحاربهم.
(٢). قوله «أن يعرق موسى» لعله: يغرق بالمعجمة. وفي الصحاح. أغرق النازع في القوس، أى استوفى مدها. (ع)
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
فإن قلت: كيف قال له فَأْتِ بِها بعد قوله إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ؟ قلت: معناه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتنى بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان. وروى أنه كان ثعبانا ذكراً أشعر فاغراً فاه «١» بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب، وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى، خذه وأنا أو من بك وأرسل معك بنى إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصى. فإن قلت: بم يتعلق لِلنَّاظِرِينَ؟ قلت يتعلق ببيضاء. والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجا عن العادة، يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب، وذلك ما يروى أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟
قال: يدك، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها، فإذا هي بيضاء بياضاً نورانيا غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٩ الى ١١٢]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم فَماذا تَأْمُرُونَ من أمرته فأمرنى بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأى. وقيل: فماذا تأمرون؟ من كلام فرعون، قاله للملإ لما قالوا له: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم، كأنه قيل: فماذا تأمرون؟ قالوا: أرجئه وأخاه، ومعنى أرجئه وأخاه أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل: احبسهما.
وقرئ: أرجئه، بالهمزة. وأرجه، من أرجأه وأرجاه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)
فإن قلت: هلا قيل: وجاء السحرة فرعون فقالوا؟ قلت: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أى جعلا على الغلبة: وقرئ: إن لنا لأجراً، على الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه: كأنهم قالوا: لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، كقول العرب: إنّ له لإبلا، وإنّ له لغنما، يقصدون الكثرة. فإن قلت: وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ما الذي عطف عليه؟ قلت: هو معطوف على محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب، كأنه قال إيجابا لقولهم: إن لنا لأجراً: نعم إن لكم لأجراً، وإنكم لمن المقرّبين، أراد: إنى لأقتصر بكم على الثواب وحده، وإنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب، وهو التقريب والتعظيم، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة.
وروى أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج. وروى أنه دعا برؤساء السحرة ومعلميهم فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به. وروى أنهم كانوا ثمانين ألفاً. وقيل: سبعين ألفاً وقيل: بضعة وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر. وقيل: كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى. وقيل: قال فرعون: لا نغالب موسى إلا بما هو منه، يعنى السحر.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٥ الى ١٢٢]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين، قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع. وقولهم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل، وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أروها بالحيل والشعوذة «١» وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، كقوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. روى أنهم ألقوا حبالا غلاظاً وخشبا طوالا، فإذا هي أمثال الحيات، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضا وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وأرهبوهم إرهابا شديداً، كأنهم استدعوا رهبتهم بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في باب السحر. روى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل: جعلوا فيها الزئبق ما يَأْفِكُونَ ما موصولة
وقد ورد السمع بوقوعه، فوجب الإقرار بوجوده، ولا يمنع عند أهل السنة أن يرقى الساحر في الهواء، ويستدق فيتولج في الكوة الضيقة، ولا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه، وذلك واقع بقدرة الله تعالى عند إرشاد الساحر. هذا هو الحق والمعتقد الصدق، وإنما أجريت هذا الفصل لأن كلام الزمخشري لا يخلو من رمز إلى إنكاره، إلا أن هذا النص القاطع بوقوعه يلجمه عن التصريح بالدفاع وكشف القناع، ولا يدعه التصميم على اعتقاد المعتزلة من التنفيس عما في نفسه، فيسميه شعوذة وحيلة. وبالقطع يعلم أن الشعوذة لا تعلم في يد ابن عمر رضى الله عنه حتى بكوعها، ولا تؤثر في سيد البشر حتى يخيل اليه أنه يأتى نساءه وهو لا يأتيهن.
وقد ورد ذلك وأمثاله مستفيضا واقعا، فالعمدة أن كل واقع فبقدرة الله تعالى، فلا يمتنع أن يوقع تعالى بقدرته عند إرشاد الساحر أعاجيب يضل بها من يشاء ويهدى من يشاء، والله الموفق.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٤]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
آمَنْتُمْ بِهِ على الإخبار، أى فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخا لهم وتقريعاً. وقرئ:
أآمنتم، بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بنى إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان. وروى أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر: أتؤمن بى إن غلبتك؟ قال لآتين بسحر لا يغلبه سحر.
وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون يسمع، فلذلك قال ما قال فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد أجمله ثم فصله بقوله لَأُقَطِّعَنَّ وقرئ لأقطعن بالتخفيف، وكذلك ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفا. وقيل: إن أوّل من قطع من خلاف وصلب لفرعون.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٦]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ فيه أوجه، أن يريدوا: إنا لا نبالى بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك. أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم «١»
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغا. وعن بعض السلف: إن أحدكم ليفرغ على أخيه ذنوباً ثم يقول: قد مازحتك، أى يغمره بالحياء والخجل. أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرة لهم وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٧]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)
وَيَذَرَكَ عطف على لِيُفْسِدُوا لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، وكان ذلك مؤدّيا إلى ما دعوه فساداً وإلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. أو هو جواب للاستفهام بالواو كما يجاب بالفاء، نحو قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني | وبينكم المودّة والإخاء «٢» |
ويذرك وآلهتك بالرفع عطفا على أتذر موسى، بمعنى: أتذره وأ يذرك، يعنى: تطلق له ذلك.
أو يكون مستأنفا أو حالا على معنى: أتذره وهو يذرك وآلهتك. وقرأ الحسن: ويذرك بالجزم،
على عرفات للطعان عوابس | بهن كلوم بين دام وجالب |
إذا استنزلوا للطعن عنهن أرقلوا | إلى الموت إرقال الجمال المصاعب |
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٥٧٨ فراجعه إن شئت اهـ مصححه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ قال لهم ذلك- حين قال فرعون: سنقتل أبناءهم فجزعوا منه وتضجروا- يسكنهم ويسلبهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويذكر لهم ما وعد الله بنى إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم. فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على التي قبلها؟ قلت: هي جملة مبتدأة مستأنفة. وأمّا وَقالَ الْمَلَأُ فمعطوفة على ما سبقها من قوله قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وقوله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يجوز أن تكون اللام للعهد ويراد أرض مصر خاصة، كقوله وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ وأن تكون للجنس فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض، كما قال ضمرة: إنما المرء بأصغريه، فأراد بالمرء الجنس، وغرضه أن يتناوله تناولا أوليا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولة لهم. وقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بالنصب: أبىّ وابن مسعود، عطفا على الأرض.
أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئ، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٠]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)
بِالسِّنِينَ بسنى القحط. و «السنة» من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم ونحو ذلك، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم، بمعنى أقحطوا. وقال ابن عباس رضى الله عنه: أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم. وأمّا نقص الثمرات فكان في أمصارهم. وعن كعب: يأتى على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتنبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر «١» وتكذيبهم لآيات الله، ولأن الناس في حال الشدّة أضرع خدودا وألين أعطافا وأرق أفئدة.
وقيل: عاش فرعون أربعمائة سنة ولم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣١]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١)
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب والرخاء قالُوا لَنا هذِهِ أى هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها ولم نزل في النعمة والرفاهية، واللام مثلها في قولك. الجل للفرس وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من ضيقة وجدب يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ يتطيروا بهم ويتشاءموا ويقولوا: هذه بشؤمهم، ولولا مكانهم لما أصابتنا، كما قالت الكفرة لرسول الله ﷺ هذه من عندك. فإن قلت: كيف. قيل: فإذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة «٢»، وإن تصبهم
(٢). عاد كلامه. قال: فان قلت: «كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة... الخ» قال أحمد: وقد ورد: إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ فلم يراع فرق ما بينهما، ولعل بين سياق الآيتين اختلافا أوجب في كل واحد منهما ما ذكر فيه.
هو تكسير.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٣]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
مَهْما هي «ما» المضمنة معنى الجزاء «١»، ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء في
والذي عده أولا من كلام سيبويه، وسنذكره: قال سيبويه: وسألت الخليل عن مهما فقال: هي «ما» أدخلت معها «ما»، بلغو بمنزلتها مع متى، إذا قلت: متى ما تأتنى حدثتك. انتهى كلام سيبويه. وكأن هذا القائل- والله أعلم- اغتر بتشبيه الخليل لها بمتى ما، فظنها في معناها. وإنما شبه الخليل بالثانية من مهما في لحاقها زائدة مؤكدة للأولى بما اللاحقة لمتى. عاد كلام سيبويه قال: ولكنهم استقبحوا تكرير لفظ واحد، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى انتهى نقله عن الخليل. قال سيبويه: ويجوز أن تكون كذا ضمت اليها ما انتهى كلامه. قال أحمد: ومعنى تشبيه سيبويه لها بإذما أن الجزاء بجملة الكلمة لا بالجزء الأول منها خاصة وإلا لكان عين مذهب الخليل. والذي يحقق ذلك أن سيبويه قال أول هذا الباب: وأما «حيث» و «إذ» فلا يجازى بهما حتى بضم اليهما ما، فتصير إذ مع ما بمنزلة إنما وكأنما، وليست ما فيهما بلغو، ولكن كل واحدة منهما مع ما بمنزلة حرف واحد، فانظر قوله: وليست ما فيهما بلغو، يعنى ليست زائدة مؤكدة، ولكن لها حظ في اقتضاء الجزاء حتى لا يفيده إلا اجتماع جزئى الكلمة ويبقى وراء ذلك نظر في أن سيبويه هل أراد أن «ما» ضمت إلى «مه» التي هي الصوت، أو إلى «ما» الجزائية.
والظاهر من مراده أن انضمامها إلى الصوت، لأنها لو كانت منضمة إلى «ما» الجزائية، لكانت مستقلة بافادة الجزاء قبل انضمام «ما» إليها، ولا تكون مثل إذا وحيث، ولا يكون تنظير سيبويه مطابقا. وهذا الذي فهمه ابن طاهر وتبعه فيه تلميذه ابن خروف. وعزا ابن خروف هذا المذهب إلى سيبويه، ورد قول ابن بابشاذ أن هذا المذهب للخليل خاصة، وقد تواطأ ابن بابشاذ والزمخشري على نفى هذا المذهب عن سيبويه، وإعزائه إلى غيره.
وأظهر ما قوى به مذهب الخليل- والله أعلم- أن هذه الكلمة استعملت في الاستفهام حسب استعمالها في الجزاء وأنشدوا:
مهما لي الليلة مهما ليه | أودى بنعلي وسر ماليه |
وعذر الزمخشري واضح في الرد على تسجيله وإغلاظ النكير عليه، وتفويق سهام التشنيع إليه. فتأمل هذا الفصل، ففيه إنارة للسبيل، وشفاء للغليل، والله الموفق.
ومهما يكن عند امرئ من خليقة | وإن خالها تخفى على النّاس تعلم «٢» |
(٢). لزهير بن أبى سلمى من معلقته. ومهما: اسم شرط بمعنى أى شيء على المختار، فلذلك يعود عليه الضمير، ثم إن كان المراد به مؤنثا كما هنا، فتارة يعود عليه الضمير مذكراً باعتبار اللفظ كما في قوله «يكن» وتارة مؤنثا باعتبار المعنى كما في قوله «وإن خالها» ولم يجعل هذا عائداً على الخليقة، لأن «مهما» هو المحدث عنه، و «من خليقة» بيان له. ولما بين بالمؤنث حسن تأنيث ضميره بعد بيانه. يقول: أى طبيعة وسجية تكون في الإنسان تعلم الناس بأماراتها، وإن ظنها خافية عليهم.
الطوفان الجدري، وهو أوّل عذاب وقع فيهم، فبقى في الأرض. وقيل: هو الموتان «١» وقيل:
الطاعون، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع عنهم، فما آمنوا، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله، فأقاموا شهراً، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة، فكشف عنهم بعد سبعة أيام: خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا، فأقاموا شهراً، فسلط الله عليهم القمل وهو الحنان في قول أبى عبيدة كبار القردان. وقيل: الدبا وهو أولاد الجراد. قيل:
نبات أجنحتها. وقيل: البراغيث. وعن سعيد بن جبير: السوس، فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان يأكل أحدهم طعاماً فيمتلئ قملا، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا يسيرا. وعن سعيد ابن جبير. أنه كان إلى جنبهم كثيب أعفر، فضربه به موسى بعصاه فصار قملا، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع، فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، ولا يكشف أحد شيئا من ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلى، وفي التنانير وهي تفور، فشكوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً، فشكوا إلى فرعون فقال:
إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والاسرائيلى على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلى ماء
وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك، فكان يمص الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجا. وعن سعيد بن المسيب: سال عليهم النيل دما. وقيل: سلط الله عليهم الرعاف وروى أنّ موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات، وروى أنه لما أراهم اليد والعصا ونقص النفوس والثمرات قال: يا رب، إنّ عبدك هذا قد علا في الأرض فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية. فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان، ثم الجراد، ثم ما بعده من النقم. وقرأ الحسن: والقمل، بفتح القاف وسكون الميم، يريد القمل المعروف آياتٍ مُفَصَّلاتٍ نصب على الحال. ومعنى مفصلات: مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم. أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم، أم ينكثون إلزاماً للحجة عليهم؟
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٦]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ما مصدرية. والمعنى بعهده عندك وهو النبوّة والباء إمّا أن تتعلق بقوله ادْعُ لَنا رَبَّكَ على وجهين: أحدهما أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوّة. أو ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك. وإمّا أن يكون قسما مجاباً بلنؤمنن، أى أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى حدّ من الزمن هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب لما، يعنى: فلما كشفناه عنهم فاجئوا النكث وبادروا لم يؤخروه ولكن كما كشف عنهم نكثوا فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم فَأَغْرَقْناهُمْ. واليهم: البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه، واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أى كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٧]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هو بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. والأرض:
أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاءوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ إلى قوله ما كانُوا يَحْذَرُونَ والحسنى: تأنيث الأحسن صفة للكلمة. ومعنى تمت على بنى إسرائيل: مضت عليهم واستمرت من قولك: تمَّ على الأمر إذا مضى عليه بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم، وحسبك به حاثاً على الصبر، ودالا على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج. وعن الحسن: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله. وتلا الآية.
ومعنى خف: طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن رزانة أولى الصبر. وقرأ عاصم في رواية: وتمت كلمات ربك الحسنى. ونظيره مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ أو وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. كصرح هامان وغيره.
وقرئ: يعرشون، بالكسر والضم. وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح. وبلغني أنه قرأ بعض الناس. يغرسون، من غرس الأشجار. وما أحسبه إلا تصحيفا منه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٤٠]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)
وهذا آخر ما اختصّ الله من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم ثم أتبعه اقتصاص نبأ بنى إسرائيل وما أحدثوه- بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر- من عبادة البقر وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك
أعلاه وعلاه وعالاه. وقرئ: يعكفون، بضم الكاف وكسرها اجْعَلْ لَنا إِلهاً صنما نعكف عليه كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أصنام يعكفون عليها. «وما» كافة للكاف، ولذلك وقعت الجملة بعدها وعن على رضى الله عنه أنّ يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجفّ ماؤه. فقال: قلتم اجعل لنا إلها قبل أن تجفّ أقدامكم إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع إِنَّ هؤُلاءِ يعنى عبدة تلك التماثيل مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ مدمّر مكسر ما هم فيه، من قولهم إناء متبر، إذا كان فضاضا «١». ويقال لكسار الذهب: التبر، أى يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدىّ، ويحطم أصنامهم هذه ويتركها رضاضاً وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى ما عملوا شيئاً من عبادتها فيما سلف إلا وهو باطل مضمحل لا ينتفعون به وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله كما قال تعالى وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وفي إيقاع هؤُلاءِ اسما لإن، وتقديم خبر المبتدإ من الجملة الواقعة خبراً لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً، وهو فعل بكم ما فعل دون غيره، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحداً غيركم، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره. ومعنى الهمزة: الإنكار والتعجب من طلبتهم- مع كونهم مغمورين في نعمة الله- عبادة غير الله.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤١]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يبغونكم شدّة العذاب، من سام السلعة إذا طلبها. فإن قلت: ما محل
وذلِكُمْ اشارة إلى الإنجاء أو إلى العذاب. والبلاء: النعمة أو المحنة. وقرئ: يقتلون. بالتخفيف.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٢]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
وروى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوّهم، أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذى القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذى الحجة لذلك. وقيل: أمره الله أن يصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة، وفصلها هاهنا. ومِيقاتُ رَبِّهِ ما وقته له من الوقت وضربه له. وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً نصب على الحال أى تمَّ بالغاً هذا العدد. وهارُونَ عطف بيان لأخيه. وقرئ بالضم على النداء اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ وكن مصلحاً. أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بنى إسرائيل، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
لِمِيقاتِنا لوقتنا الذي وقتنا له وحدّدنا. ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قيل: واختص مجيئه بميقاتنا، كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة «١» كما يكلم
والكلام في هذه العقيدة طويل، والشوط بطين. وهذه النكتة هي الخاصة بهذه الآية، والله الموفق.
(٢). عاد كلامه. قال: «وقوله أرنى أنظر إليك محذوف المفعول الأول مذكور الثاني، والتقدير أرنى نفسك أنظر إليك... الخ» قال أحمد: ما أشد ما اضطرب كلامه في هذه الآية، لأن غرضه أن يدحض الحق بالضلالة، ويشين بكفه وجه الغزالة، هيهات قد تبين الصبح لذي عينين، فالحق أبلج لا يمازجه ريب إلا عند ذى رين. أما حظ المعقول من إجازة رؤية الله تعالى فوظيفة علم الكلام، وأخصر وجه في إجادة ذلك: أن الوجود مصحح الرؤية، بدليل أن جواز الرؤية حكم يستدعي مصححاً. وقد شمل الجواز الجوهر والعرض، ولا جامع بينهما يمكن جعله مصححاً سوى الوجود، وإذا كان الوجود هو المصحح فقد صحت رؤيته تعالى لوجوده. وأما استبعاد أن يرى ما ليس في جهة فأمر وهمى مثله عرض للمعطلة فعميت بصائرهم، حتى أنكروا موجوداً لا في جهة، ومن اتبع الأوهام اغتسق مهامه الضلال وهام، ولو كانت الرؤية تتوقف على جهة المرئي لكانت المعرفة تتوقف على جهة المعروف، ولا خلاف أنه سبحانه يعرف لا في جهة، فكذلك يرى لا في جهة، فالحق أن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه، لعلمه بجواز ذلك على الله تعالى، والقدرية يجبرهم الطمع ويجرؤهم حتى يروموا أن يجعلوا موسى عليه السلام كان على معتقدهم، وما هم حينئذ إلا ممن آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها «وأما قوله عليه السلام:
أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا تبريا من أفاعيلهم وتسفيها لهم وتضليلا لرأيهم، فلا راحة للقدرية في الاستشهاد به على إنكار موسى عليه السلام لجواز الرؤية، فان الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة العجل في قول أكثر المفسرين ثم. وإن كان السبب طلبهم الرؤية، فليس لأنها غير جائزة على الله. ولكن لأن الله تعالى أخبر أنها لا تقع في دار الدنيا والخبر صدق، وذلك بعد سؤال موسى للرؤية فلما سألوا وقد سمعوا الخبر بعدم وقوعها، كان طلبهم خلاف المعلوم تكذيباً للخبر، فمن ثم سفههم موسى عليه السلام وتبرأ من طلب ما أخبر الله أنه لا يقع ثم، ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها، فإنما سفههم موسى عليه السلام لاقتراحهم على الله هذه الآية الخاصة، وتوقيفهم الايمان عليها حيث قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ألا ترى أن قولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إنما سألوا فيه جائزاً، ومع ذلك قرعوا به لاقتراحهم على الله مالا يتوقف وجوب الايمان عليه، فهذه المباحث الثلاثة توضح لك سوء نظر الزمخشري بعين الهوى وعمايته عن سبيل الهدى، والله الموفق.
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. فإن قلت: فهلا قال: أرهم ينظروا إليك «٣» ؟ قلت: لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسماعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه، إرادة مبنية على قياس فاسد. فلذلك قال موسى:
(٢). قوله «ومنع المجبرة إحالته» يعنى أهل السنة، حيث ذهبوا إلى جواز رؤيته تعالى ومنعوا اشتراط كون المرئي في جهة. قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ والجائز قد ينتفي في بعض الأوقات ويقع في بعض.
والحديث كما سيأتى «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» ومحل الكلام علم الكلام. (ع)
(٣). عاد كلامه. قال: فان قلت: هلا قال أرهم ينظروا إليك... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا الكلام الآخر من الطراز الأول، وأقرب شاهد على رده أنه لو كان طلب الرؤية لهم حتى إذا سمعوا منع الله تعالى لها أيقنوا أنها ممتنعة لكان طلبها عبثا غير مفيد لهذا الغرض، لأن هؤلاء لا يخلو أمرهم. إما أن يكونوا مؤمنين بموسى، أو كفاراً به، فان كانوا مؤمنين به، فاخباره إياهم بأن الله تعالى لا يرى ولا يجوز عليه ذلك، كان في حصول المقصود من غير حاجة إلى أن يسأل موسى عليه السلام من الله أن ير به ذاته، على علم بأن ذلك محال. وإن كانوا كفاراً بموسى عليه السلام فلا يحصل الغرض من ذلك أيضا، لأن الله تعالى إذا منعه مسؤله من الرؤية، فإنما يثبت ذلك لهم بقول موسى عن الله تعالى أنه منعه ذلك، وهم كفار بموسى عليه السلام، فكيف يفيدهم غيره عن الله بامتناع ذلك؟ فهذا أوضح مصداق، لأن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه اعتقاداً لجوازها على الله تعالى، فأخبره الله أن ذلك لا يقع في الدنيا وإن كان جائزاً.
وأما إقناعه في تفصيله برجحانه عليه السلام في العلم بالله وبصفاته على واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبى الهذيل والشيخين، فهو نقص عن منصبه العلى، وأقل العوام المقلدين لأهل السنة، راجح عند الله على أصحاب البدع والأهواء، وإن ملؤوا الأرض نفاقا، وشحنوا مصنفاتهم عناداً لأهل السنة وشقاقا، فكيف بكليم الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت ما معنى لن؟ قلت تأكيد النفي الذي تعطيه لا... الخ» قال أحمد. «لن» كما قال تشارك «لا» في النفي وتمتاز بمزية تأكيده. وأما استنباط الزمخشري من ذلك منافاة الرؤية لحال الباري عز وجل، ثم إطلاق الحال على الله تعالى مما يستحرز عنه، واستشهاده على أن «لن» تشعر باستحالة المنفي بها عقلا، مردود كثيراً بكثير من الآي، كقوله تعالى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً فذلك لا يحيل خروجهم عقلا، ولَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، لَنْ تَتَّبِعُونا. فهذه كلها جائزات عقلا، لولا أن الخبر منع من وقوعها، فالرؤية كذلك.
(٣). عاد كلامه. قال: «ثم حقق تعالى عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد... الخ» قال أحمد: نسبة جواز الرؤية إلى الله تعالى عند الزمخشري كنسبة الولد إليه، وهذا مفرع على المعتقد السالف بطلانه، وليس له في هذا الفصل وظيفة إلا تتبع الشبه لامتناع الرؤية، تلقفها من كل فج. والحق أن دك الجبل إنما كان لأن الله عز وجل أظهر له آية من ملكوت السماء. ولا تستقر الدنيا لإظهار شيء من ملكوت السماء. وهذا هو المأثور عن السلف في هذه الآية. ومعناه عند أبى الحسن رحمه الله فعل فعلا سماه تجليا، وكان الغضب إما لأنهم طلبوا رؤية جسمانية في جهة، وإما لأنهم كتموا الخبر. بأنه لا يرى في الدنيا، وإما لأنهم كفروا بالاقتراح أو بالمجموع.
(٢). عاد كلامه. قال: «ومعنى وخر موسى صعقا: وخر مغشيا عليه غشية كالموت وروى أن الملائكة مرت عليه... الخ» قال أحمد، وهذه حكاية إنما يوردها من يتعسف لامتناع الرؤية فيتخذها عونا وظهراً على المعتقد الفاسد. والوجه التورك بالغلط على ناقلها وتنزيه الملائكة عليهم السلام من إهانة موسى كليم الله بالوكز بالرجل والغمص في الخطاب.
(٣). عاد كلامه. قال: «فان قلت إن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب... الخ» ؟ قال أحمد:
أما دك الجبل، فقد سلف الكلام على سره. وأما تسبيح موسى عليه السلام فلما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم سبح الله وقدس علمه وخبره عن الخلف. وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرا من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية عن الاذن كان أكمل. وقد ورد: سيئات المقربين حسنات الأبرار.
لجماعة سموا هواهم سنّة | وجماعة حمر لعمري موكفه |
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا | شنع الورى فتستّروا بالبلكفه «٤» |
(٢). عاد كلامه. قال: «ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقد انتقل الزمخشري في هذا الفصل إلى ما تسمعه من هجاء أهل السنة. ولولا الاستناد بحسان بن ثابت الأنصارى صاحب رسول الله ﷺ وشاعره والمنافح عنه وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاما، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله ﷺ أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله ﷺ أعداءهم فنقول:
وجماعة كفروا برؤية ربهم | حقاً ووعد الله ما لن يخلفه |
وتلقبوا عدلية قلنا أجل | عدلوا بربهم فحسبهمو سفه |
وتلقبوا الناجين كلا إنهم | إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه |
(٤). الزمخشري في أهل السنة، أى هم جماعة سموا هوى أنفسهم سنة، ولكن من عرف أن مستند المعتزلة العقل، ومستند الجماعة النقل عرف الهوى من الهدى. وحمر أى كالحمر. موكفة: أى موضوع عليها الاكاف، مبالغة في التشبيه.
قد شبهوه: أى الله عز وجل بخلقه حيث قالوا: إنه يرى بالعين، فخافوا تشنيع الناس عليهم فتستروا بقولهم: إنه يرى بلا كيف. فالبلكفة منحوتة من ذلك.
(٥). متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال كنا جلوساً عند رسول الله ﷺ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر. فقال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر- الحديث» وللبخاري من رواية «إنكم سترون ربكم عيانا» واتفقا عليه من حديث أبى سعيد وأبى هريرة بمعناه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٤]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم بِرِسالاتِي وهي أسفار التوراة وَبِكَلامِي وبتكليمى إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم. وقيل: خرّ موسى صعقاً يوم عرفة، وأعطى التوراة يوم النحر. فإن قلت: كيف قيل: اصطفيتك على الناس وكان هرون مصطفى مثله ونبيا؟ قلت: أجل، ولكنه كان تابعاً له وردآً ووزيراً. والكليم: هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
ذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح. وقيل: سبعة. وقيل: لوحين، وأنها
أمر الله موسى بقطعها من صخرة صماء لينها له، فقطعها بيده وشقها بأصابعه. وعن الحسن:
كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة، وأن طولها كان عشرة أذرع. وقوله مِنْ كُلِّ شَيْءٍ في محل النصب مفعول كتبنا. ومَوْعِظَةً وتفصيلا بدل منه. والمعنى: كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام. وقيل أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزإ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى عليهم السلام. وعن مقاتل: كتب في الألواح: إنى أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بى شيئا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين، فإنّ من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه، ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين فَخُذْها فقلنا له: خذها، عطفاً على كتبنا. ويجوز أن يكون بدلا من قوله فَخُذْ ما آتَيْتُكَ والضمير في فَخُذْها للألواح، أو لكل شيء، لأنه في معنى الأشياء، أو الرسالات، أو للتوراة. ومعنى بِقُوَّةٍ بجدّ وعزيمة فعل أولى العزم من الرسل يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها
أى فيها ما هو حسن وأحسن، كالاقتصاص، والعفو، والانتصار، والصبر. فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب، كقوله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وقيل: يأخذوا بما هو واجب أو ندب، لأنه أحسن من المباح. ويجوز أن يراد: يأخذوا بما أمروا به، دون ما نهوا عنه، على قولك: الصيف أحرّ من الشتاء سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ يريد دار فرعون وقومه وهي مصر، كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم، لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. وقيل منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم. وقيل: دار الفاسقين: نار جهنم. وقرأ الحسن: سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال: أورنى كذا، وأوريته. ووجهه أن تكون من أوريت الزند، كأن المعنى: بينه لي وأنره لأستبينه. وقرئ: سأورثكم، وهي قراءة حسنة يصححها قوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ. سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها، غفلة وانهما كا فيما يشغلهم عنها من شهواتهم. وعن الفضيل بن عياض: ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عظمت أمّتى الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حرمت بركة الوحى «١». وقيل: سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون
وهو ضعيف.
سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها. وتسميتها سحراً بإهلاكهم. وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها، لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه وجهان: أن يكون حالا بمعنى يتكبرون غير محقين، لأنّ التكبر بالحق لله وحده. وأن يكون صلة لفعل التكبر، أى يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من الآيات المنزلة عليهم لا يُؤْمِنُوا بِها وقرأ مالك بن دينار: وإن يروا بضم الياء. وقرئ: سبيل الرشد والرشد والرشاد، كقولهم: السقم والسقم والسقام. وما أسفه من ركب المفازة، فإن رأى طريقاً مستقيما أعرض عنه وتركه، وإن رأى معتسفا مرديا أخذ فيه وسلكه، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه ذلِكَ في محل الرفع أو النصب على معنى: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو صرفهم الله ذلك الصرف بسببه. وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به، أى ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الآخرة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)
مِنْ بَعْدِهِ من بعد فراقه إياهم إلى الطور. فإن قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلا، والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلا منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه. والثاني: أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه. وقرئ مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء والتشديد، جمع حلى، كثدي وثدىّ، ومن حليهم- بالكسر- للإتباع كدلى. ومن حليهم، على التوحيد. والحلي: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة. فإن قلت: لم قال: من حليهم، ولم يكن الحلىّ لهم، إنما كانت عوارى في أيديهم؟ قلت:
الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم. ألا ترى إلى قوله عزّ وعلا فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ، جَسَداً بدناً ذا لحم ودم كسائر
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
الأسِف: الشديد الغضب فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ وقيل: هو الحزين خَلَفْتُمُونِي قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي. وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجوه بنى إسرائيل وهم هرون عليه السلام والمؤمنون منه. ويدل عليه قوله اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي والمعنى: بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيث لم تكفوا من عبد
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٢]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)
غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ الغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم. والذلة: خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب. وقيل: هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريظة والنضير، من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء، ومن الذلة بضرب الجزية الْمُفْتَرِينَ المتكذبين على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى. ويجوز أن يتعلق في الحياة الدنيا بالذلة وحدها ويراد: سينالهم غضب في الآخرة، وذلة في الحياة الدنيا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٣]
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر والمعاصي كلها ثُمَّ تابُوا ثم رجعوا مِنْ بَعْدِها إلى الله واعتذروا إليه وَآمَنُوا وأخلصوا الإيمان إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد تلك العظائم لَغَفُورٌ لستور عليهم محاء لما كان منهم رَحِيمٌ منعم عليهم بالجنة. وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم. عظم جنايتهم «١» أولا ثم أردفها تعظيم رحمته، ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل، ولكن لا بدّ من حفظ الشريطة: وهي وجوب التوبة «٢» والإنابة، وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة «٣»، لا يلتفت إليها حازم.
(٢). قوله: «من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة» مذهب المعتزلة أن الكبيرة لا تغفر إلا بالتوبة. ومذهب أهل السنة أنها قد تغفر بمجرد الفضل. (ع)
(٣). قوله «وأشعبية باردة» خصلة منسوبة إلى أشعب، وهو رجل كان طماعا. ويضرب به المثل في الطمع، كما في الصحاح. (ع)
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه «١» على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة. وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: ولما سكن عن موسى الغضب، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهمزة، وطرفا من تلك الروعة. وقرئ: ولما سكت. وأسكت:
أى أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها وفيما نسخ منها، أى كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً. ونحوه لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ وتقول: لك ضربت.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
ومنّا الّذى اختير الرّجال سماحة «١»
قيل اختار من اثنى عشر سبطا، من كل سبط ستة حتى تناموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروى أنه لم يصب إلا ستين شيخنا، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخا. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا لميفات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بنى إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل.
ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرنى أنظر إليك، يريد: أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب بلن تراني، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجعة قالَ موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكنى قبل هذا أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يعنى أتهلكنا جميعاً. يعنى نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفها وجهلا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أى محنتك وابتلاؤك حين كلمتنى وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ تضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدى العالمين
ومنا الذي اختير الرجال سماحة | وجوداً إذا هب الرياح الزعازع |
يا راكب الذّنب هدهد | واسجد كأنّك هدهد «٢» |
وعدت، بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض. وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون هُدْنا بالضم فعلنا من هاده يهيده عَذابِي من حاله وصفته أنى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أى من وجب علىّ في الحكمة «٣» تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأمّا رَحْمَتِي فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي. وقرأ الحسن: من أساء، من الإساءة. فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بنى إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكافرون بشيء منها الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي نوحى إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن النَّبِيَّ صاحب المعجزات الَّذِي يَجِدُونَهُ يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بنى إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ...... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها. أو ما طاب في الشريعة والحكم، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلى كسبه من السحت وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيئة. الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أى يحبسه من الحراك لثقله
(٢). للزمخشري، شبه ملازمته للذنب بملازمة الراكب للمركوب. وهاد يهود، إذا تاب ورجع. وهد: أمر منه، وكرر للتوكيد. ثم قال: واسجد كأنك هدهد، فشبهه به لكثرة ما يطرق برأسه إلى الأرض لا في السرعة، فالمعنى: اسجد كثيراً.
(٣). قوله «أى من وجب على في الحكمة» هذا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فلا يجب على الله تعالى عندهم شيء. (ع)
وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت. وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلى لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ آصارهم، على الجمع وَعَزَّرُوهُ ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ. وقرئ بالتخفيف. وأصل العزر: المنع. ومنه التعزير للضرب دون الحدّ، لأنه منع عن معاودة القبيح. ألا ترى إلى تسمية الحدّ، والحدّ هو المنع. والنُّورَ القرآن. فإن قلت: ما معنى قوله أُنْزِلَ مَعَهُ وإنما أنزل مع جبريل؟
قلت: معناه أنزل مع نبوّته، لأنّ استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعا به. ويجوز أن يعلق باتبعوا. أى: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه.
أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه. فإن قلت: كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت: لما دعا لنفسه ولبنى إسرائيل، أجيب بما هو منطو على توبيخ بنى إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعرّض بذلك في قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله ﷺ وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين، لطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يحشروا معهم ولا يفرّق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله «١» التي وسعت كل شيء.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً قيل: بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد ﷺ إلى كافة الإنس وكافة الجن. وجميعاً: نصب على الحال من إليكم. فإن قلت: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما محله؟ قلت: الأحسن أن يكون منتصباً بإضمار أعنى، وهو الذي يسمى النصب على المدح. ويجوز أن يكون جرا على الوصف، وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله إليكم. إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بدل من الصلة التي هي له ملك
وقيل: هي الكلمة التي تكوّن منها عيسى وجميع خلقه، وهي قوله كُنْ وإنما قيل إن عيسى كلمة الله، فخص بهذا الاسم، لأنه لم يكن لكونه سبب غير الكلمة، ولم يكن من نطفة تمنى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة أن تهتدوا. فإن قلت: هلا قيل: فآمنوا بالله وبى، بعد قوله: إنى رسول الله إليكم؟ قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجرى عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمى الذي يؤمن بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيرى، إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٩]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ هم المؤمنون التائبون من بنى إسرائيل، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى، ذكر أنّ منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم. وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون. أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي ﷺ وآمن به من أعقابهم. وقيل: إنّ بنى إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثنى عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي ﷺ أن جبريل ذهب به ليلة الاسراء نحوهم، فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد النبي الأمى، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد، فليقرأ عليه منى السلام فردّ محمد على موسى عليهما السلام السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت. وعن مسروق. قرئ: بين يدي عبد الله فقال رجل: إنى منهم. فقال عبد الله: يعنى لمن كان في مجلسه من المؤمنين: وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئاً من يهدى بالحق وبه يعدل. وقيل: لو كانوا في طرف من الدنيا متمسكين بشريعة ولم يبلغهم نسخها كانوا معذورين.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٠]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
وَقَطَّعْناهُمُ وصيرناهم قطعا، أى فرقا وميزنا بعضهم من بعض لقلة الألفة بينهم. وقرئ وقطعناهم بالتخفيف اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كقولك اثنتي عشرة قبيلة. والأسباط: أولاد الولد، جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثنى عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام. فإن قلت:
مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعا؟ وهلا قيل: اثنى عشر سبطا؟ قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقا لأنّ المراد: وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباطا موضع قبيلة. ونظيره:
بين رماحى مالك ونهشل «١»
تبقلت في أول التبقل | بين رماحي مالك ونهشل |
في حبة حرف وحمض هيكل | مستأسد ذبانه في عيطل |
وذبان جمع ذباب، كغربان وغراب. والعيطل- بالعين المهملة-: الأصوات المختلطة. والرائد: هو الذي يتقدم القوم لطلب الخصب. يقلن، أى الذبان. وأعشب الرجل: وجد العشب، وصف النبات بالكثرة والالتفاف حتى كثر ذبابه وصارت له أصوات مختلطة، فكان يدعو الرائد ويحمله على النزول في هذا المكان عند سماع صوته، فاستعار القول لذلك على سبيل التصريح. وروى: مستأسد أذنابه في عيطل. تقول للرائد، فالأذناب جمع ذنب، أى أطرافه تصوت بالريح بقول ذلك النبات والمجاز كما تقدم. هذا، وحق الرواية: بين رماكى مالك ونهشل.
والرمكة: الأنثى من البراذين والخيل، وجمعها رماك وأرماك ورمكات، كثمرة وثمار وأثمار وثمرات. يصف فرسه بأنها رعت البقل حقيقة مع تلك الخيول والبراذين، فلا مجاز هنا.
وكيف غربي دالج تبجّسا «١»
فإن قلت: فهلا قيل: فضرب فانبجست؟ قلت: لعدم الإلباس، وليجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر للدلالة على أنّ الموحى إليه لم يتوقف عن اتباع الأمر، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به. من قوله كُلُّ أُناسٍ نظير قوله: اثنتي عشرة أسباطاً، يريد كل أمّة من تلك الأمم الثنتى عشرة. والأناس، اسم جمع غير تكسير، نحو. رخال وتناء وتوام «٢» وأخوات لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسرة والتكسير، والضمة بدل من الكسرة، كما أبدلت في نحو. سكارى وغيارى «٣» من الفتحة وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وجعلناه ظليلا عليهم في التيه، وكُلُوا على إرادة القول وَما ظَلَمُونا وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم، ولكن كانوا يضرون أنفسهم. ويرجع وبال ظلمهم إليهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
وانحلبت عيناه من فرط الأسى | وكيف غربي دالج تبجسا |
والدالج: من يأخذ الدلو من البئر فيفرغه في الحوض. والتبجس. اتساع الانفجار. يقول: انصبت دموع عينيه من شدة الحزن، كانصباب دلوي رجل مفرغ لهما في الحوض تفجرا بسعة. وفيه تشبيه العينين بالغربين.
(٢). قوله: «نحو رخال وتناء وتؤام» رخال: هي الإناث من أولاد الضأن. والتناء: القاطنون بالبلد.
والتؤام- بالمد- واحدة توأم، وزان كوكب. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله: «نحو سكارى وغيارى» غار الرجل على أهله فهو غيور. وجمعه غير وغيران. وجمعه غيارى وغيارى، كذا في الصحاح. (ع)
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
وَسْئَلْهُمْ وسل اليهود. وقرئ: واسألهم. وهذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحى، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحى. ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك: أعدوتم في السبت؟ والقربة أيلة. وقيل: مدين. وقيل: طبرية. والعرب تسمى المدينة قرية. وعن أبى عمرو بن العلاء. ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعنى رجلين من أهل المدن حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه راكبة لشاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. وقرئ: يَعدّون بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين، ويُعدّون من الإعداد، وكانوا
مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه: يعدون في تعظيم هذا اليوم، كذلك قوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت. ويدل عليه قوله وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ قراءة عمر بن عبد العزيز: يوم إسباتهم. وقرئ: لا يسبتون، بضم الباء.
وقرأ على: لا يسبتون بضم الياء، من أسبتوا. وعن الحسن: لا يسبتون على البناء للمفعول، أى لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا، فإن قلت: إذ يعدون، وإذ تأتيهم، ما محلهما من الإعراب؟ قلت: أمّا الأوّل فمجرور بدل من القرية، والمراد بالقرية أهلها، كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون منصوباً بكانت، أو بحاضرة. وأمّا الثاني فمنصوب بيعدون. ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل. والحيتان السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة شُرَّعاً ظاهرة على وجه الماء. وعن الحسن: تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا. وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أى مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ معطوف على إذ يعدون، وحكمه حكمه في الإعراب أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، حتى أيسوا من قبولهم، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أى مخترمهم ومطهر الأرض منهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً لتماديهم في الشر. وإنما قالوا ذلك، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أى موعظتنا إبلاء عذر إلى الله، ولئلا نسب في النهى عن المنكر إلى بعض التفريط وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء. وقرئ مَعْذِرَةً بالنصب، أى وعظناهم معذرة إلى ربكم، أو اعتذرنا معذرة فَلَمَّا نَسُوا يعنى أهل القرية، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الظالمين الراكبين للمنكر. فإن قلت: الأمة الذين قالوا لِمَ تَعِظُونَ من أى الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم المعذبين؟ قلت:
من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين. وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه، حيث لم يروا فيه غرضا صحيحاً لعلمهم بحال القوم. وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهى لا يؤثر فيه، سقط عنه النهى. وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث. ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر «١» والجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه،
نجت فرقتان وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان. وروى أنّ اليهود أُمروا باليوم الذين أُمرنا به وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا يوم السبت، فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يستبون لا تأتيهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها. وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال له: إنى أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثا، ثلث نهوا وكانوا نحواً من اثنى عشر ألفاً، وثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة. فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب. ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا، فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتى نسيبه فيشم ثيابه ويبكى، فيقول: ألم ننهك فيقول برأسه: بلى. وقيل: صار الشباب قردة، والشيوخ خنازير. وعن الحسن: أكلوا والله أو خم أكلة أكلها أهلها، أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة، هاه وايم الله، ماحوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم. ولكن الله جعل موعدا، والساعة أدعى وأمرّ بَئِيسٍ شديد. يقال: بؤس يبؤس بأسا، إذا اشتدّ، فهو بئيس. وقرئ: بئس، بوزن حَذِر. وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء، كما يقال: كبد في كبد. وبيس على قلب الهمزة ياء، كذيب في ذئب، وبيئس على فيعل، بكسر الهمزة وفتحها. وبيس، بوزن ريس، على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها،
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
تَأَذَّنَ رَبُّكَ عزم ربك، وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام، لأنّ العازم على الأمر يحدّث نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجرى مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله لَيَبْعَثَنَّ والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا ﷺ فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى ليبعثنّ عليهم ليسلطنّ عليهم، كقوله: بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٨ الى ١٦٩]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩)
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً وفرقناهم فيها، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين آمنوا منهم بالمدينة، أو الذين وراء الصين وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الكفرة والفسقة. فإن قلت: ما محل دون ذلك؟ قلت:
الرفع، وهو صفة لموصوف محذوف، معناه: ومنهم ناس منحطون عن الصلاح، ونحوه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ بمعنى: وما منا أحد إلا له مقام وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ بالنعم والنقم لَعَلَّهُمْ ينتهون فينيبون فَخَلَفَ من بعد المذكورين خَلْفٌ وهم الذين كانوا في زمن رسول الله
وتقوّل عليه ما ليس بحق. وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان أَنْ لا يَقُولُوا مفعولا له. ومعناه: لئلا يقولوا. ويجوز أن تكون إِنْ مفسرة، ولا يَقُولُوا نهياً، كأنه قيل: ألم يقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ فإن قلت: علام عطف قوله وَدَرَسُوا ما فِيهِ؟ قلت: على أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ لأنه تقرير، فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٠]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ فيه وجهان، أحدهما: أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم، لأنّ المصلحين في معنى الذين يمسكون
أن يكون مجروراً عطفاً على الذين يتقون، ويكون قوله إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراضا. وقرئ:
يمسكون، بالتشديد. وتنصره قراءة أبىّ. والذين مسكوا بالكتاب. فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة. ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ قلت: إظهارا لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه. والذين استمسكوا بالكتاب.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ قلعناه ورفعناه، كقوله: ورفعنا فوقهم الطور. ومنه: نتق السقاء، إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. والظلة: كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب. وقرئ بالطاء، من أهل عليه إذا أشرف وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا.
أن يقبلوا أحكام التوراة. لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في فرسخ. وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر، ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله. لم يبق جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهوديا تقرأ عليه التوراة إلا اهتز وأنغض لها رأسه «١» خُذُوا ما آتَيْناكُمْ على إرادة القول. أى: وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب بِقُوَّةٍ وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر والنواهي ولا تنسوه.
أو واذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه. ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوّة إن كنتم تطيقونه، كقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانفذوا. وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ما أنتم عليه. وقرأ ابن مسعود: وتذكروا. وقرئ: واذّكروا، بمعنى. وتذكروا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بنى آدم بدل البعض من الكل. ومعنى أخذ ذرّياتهم من ظهورهم:
إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم. وقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا من باب التمثيل والتخييل «١» ! ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي كلام العرب.
ونظيره قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وقوله:
إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ «٢»
قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا قَرْقَارِ «٣»
(٢). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ١٨١ فراجعه هناك إن شئت اه مصححه.
(٣).
قالت له ريح الصبا قرقار | واختلط المعروف بالإنكار |
هذا قول سيبويه. وقال المبرد تبعاً للمازنى: هو حكاية صوت الرعد، وهو على كل مبنى على الكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، لكنه على الأول متحمل للضمير، فهو مركب. وعلى الثاني: لا ضمير فيه، فهو مفرد، لكن فيه أن حكاية الأصوات لا تفيد حثا ولا زجراً. وهنا يفيد الحث لقرينة المقام ولا فعل لها، وهذا له فعل. يقال: قرقرت الدجاجة إذا صوتت، إلا أن يقال إن المعنى: صوت يا رعد قرقار. وقولهم. قرقرت الدجاجة، مأخوذ من قرقار، كما أخذوا العياط من عيط بكسرتين بينهما سكون، حكاية لصوت المتلاعبين. واختلط يحتمل أنه أمر وهو أنسب بما قبله. ويحتمل أنه ماض. والمراد بالإنكار المنكر، ولا قول للريح. وإنما شبهها حيث تسوق السحاب بمن يصح منه القول، على طريق المكنية والقول تخييل. ويجوز أن يستعار القول لصوب السحاب، على طريق التصريح. ويجوز أنه من باب الكناية. وعلى هذا النحو قوله في ناقة صالح: فأتاها أحيمر كأخى السهم بغضب، فقال كوني عقيراً. وصرف الممنوع الضرورة. وأضاف الملقى لغير الملقى، ليدل على الملازمة لوجه شبه العاقر بالمبهم. أى قالت الصبا للسحب: قرقر بالرعد. واختلط الأماكن التي اعتدت سقيها بالتي كنت لا تبلغها بالسقى، أى سو بين الجميع فيه. ويحتمل أن المعروف المطر والمنكر الرعد والبرق والصواعق، أى افعل الجميع على أنه ماض، فهو عطف على قالت. وليس من قول الريح. وعليه فيجوز أيضاً رفع المعروف، ويكون الفعل لازما. وهذا البيت من أبيات الكتاب.
قوله أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ والدليل على أنها في اليهود: الآيات التي عطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ، إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أى كانوا السبب في شركنا، لتأسيسهم الشرك، وتقدّمهم فيه، وتركه سنة لنا وَكَذلِكَ ومثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ الْآياتِ لهم وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها. وقرئ: ذريتهم، على التوحيد. وأن يقولوا: بالياء.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٦]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)
كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع؟ قلت: المعنى: ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها. وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة. والمراد: ما هي تابعة له ومسببة عنه، كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون وَلَوْ شِئْنا في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ فصفته التي هي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث «١» به واتصاله، سواء حمل عليه- أى شدّ عليه وهيج فطرد- أو ترك غير متعرّض له بالحمل عليه. وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج منه وحرّك، وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعاً، وكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ موضع حططناه أبلغ حط، لأنّ تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. وعن ابن عباس رضى الله عنه، الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يجمل عليه. وقيل: معناه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث. فإن قلت: ما محل الجملة الشرطية؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثاً في الحالتين. وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من اليهود بعد ما قرءوا نعت رسول الله ﷺ في التوراة،
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٧]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أى مثل القوم. أو ساء أصحاب مثل القوم. وقرأ الجحدري ساء مثل القوم. وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إما أن يكون معطوفا على كذبوا، فيدخل في حيز الصلة بمعنى:
الذين جمعوا بين التكذيب، بآيات الله وظلم أنفسهم. وإما أن يكون كلاما منقطعا عن الصلة، بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل:
وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٨]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
فَهُوَ الْمُهْتَدِي حمل على اللفظ. وفَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حمل على المعنى.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم. وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسماعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان، وجعلهم- لإعراقهم «١» في الكفر وشدّة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتى منهم إلا أفعال أهل النار- مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ومنه كتاب عمر رضى الله عنه إلى خالد بن الوليد: بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكا «٢» عجن
(٢). قوله «دلوكا» في الصحاح: الدلوك ما يدلك به من طيب وغيره. (ع) [.....]
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي هي أحسن الأسماء «٣»، لأنها ندل على معان حسنة من تمجيد وتقديس وغير ذلك فَادْعُوهُ بِها فسموه بتلك الأسماء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم «٤» : يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخىّ. أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى، نحو أن يقولوا: يا الله، ولا يقولوا: يا رحمن وقد قال الله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى «٥»، وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق
(٢). قوله «والمراد وصف حال اليهود» إنما فسره بذلك لأنه تعالى يجب عليه الأصلح العبد عند المعتزلة، وخلقه لجهنم ليس أصلح له. وعند أهل السنة لا يجب عليه شيء. (ع)
(٣). قال محمود: «معنى الحسنى التي هي أحسن الأسماء... الخ» قال أحمد: أى مما يجوز عليه وإن لم يرد إطلاقه شرعا، كالشريف والعارف، ونحو ذلك.
(٤). قال محمود: «كما سمعنا البدو يقولون يجهلهم... الخ» قال أحمد: وفي هذا التأويل بعد، لأن ترك الدعاء ببعض الأسماء لا يطلق عليه إلحاد في العرف، وإنما يطلق على فعل لا على ترك، ولكن يتميز عن الوجه السالف بأنه أضاف الأسماء الملحد فيها إلى ذاته، وهذا أدل على الرحمن منه على مثل أبيض الوجه ونحوه، فان هذا ليس من أسمائه، إلا أن يقال: أضافه إليه تنزيلا على زعمهم.
(٥). قال محمود: «ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والخير... الخ» قال أحمد:
لا يدع حشو العقائد الفاسدة في غير موضع يسعها، فان يكن المراد الأوصاف، فالحسنى منها وصف الله بعموم القدرة والانفراد بالمخلوقات، حتى لا يشرك معه عباده في خلق أفعالهم. ويعظم الله تعالى بأنه لا يسأل عما يفعل، وأن كل قضائه عدل، وانه لا يجب عليه رعاية ما يتوهمه الخلق مصلحة بعقولهم، وأن وعده الصدق وقوله الحق، وقد وعد رؤيته فوجب وقوعها، إلى غير ذلك من أوصافه الجليلة، وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيجحدونها، ثم يزعمون أنه لا تشمل قدرته المخلوقات، بل هي مقسومة بينه وبين عباده، ويوجبون عليه رعاية ما يتوهمونه مصلحة، ويحجرون واسعاً من مغفرته وعفوه وكرمه على الخطائين من موحديه، إلى غير ذلك من الإلحاد المعروف بالطائفة المتلقبين عدلية، المزكين لأنفسهم وهو أعلم بمن اتقى.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨١]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
لما قال وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً فأخبر أنّ كثيراً من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار، أتبعه قوله وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وعن النبي ﷺ أنه كان يقول إذا قرأها «هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها «٣» » وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وعنه ﷺ «إنّ من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى عليه السلام «٤» » وعن الكلبي:
هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٥]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
(٢). قال محمود: «وقيل إلحادهم في أسمائه: تسميتهم... الخ» قال أحمد: وهذا تفسير حسن ملائم، والله أعلم.
(٣). ذكره الثعلبي عن قتادة وابن جريج. وإسناده إليها مذكور في أول كتابه.
(٤). ذكره الثعلبي عن الربيع بن أنس، وإسناده إليه في أول كتابه. رواه أحمد من حديث عمران بن حصين بلفظ «لا تزال طائفة من أمتى على الحق حتى يأتى أمر الله، وينزل عيسى ابن مريم» وفي تاريخ البخاري عن عبد الطغاوى عن جابر نحوه، ورواه أبو يعلى من وجه آخر، وزاد «فيقول إمامهم: تقدم يا روح الله فيقول: أنتم أحق أمر كرم به هذه الأمة».
قال الأعشى:
فلو كنت في جبّ ثمانين قامة | ورقيت أسباب السّماء بسلّم |
ليستدر جنك القول حتّى تهرّه | وتعلم أنّى عنكم غير مفحم «١» |
(٢). قوله «بات يهوت» أى يضيح. (ع)
(٣). أخرجه الطبري بإسناد صحيح إلى قتادة قال «ذكر لنا- فذكره. فأنزل الله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الآية
(٤). قوله «قبل مغافصة الأجل» أى أخذه إياهم على حين غفلة. اه من الصحاح. (ع)
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٦]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
قرئ وَيَذَرُهُمْ بالياء والنون، والرفع على الاستئناف، ويذرهم، بالياء والجزم عطفا على محل فَلا هادِيَ لَهُ كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
يَسْئَلُونَكَ قيل إن قوما من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً، فإنا نعلم متى هي، وكان ذلك امتحاناً منهم، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها. وقيل: السائلون قريش. والسَّاعَةِ من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا. وسميت القيامة بالساعة، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. أَيَّانَ بمعنى متى. وقيل: اشتقاقه من أىّ فعلان منه، لأن معناه أىّ وقت وأى فعل، من أويت إليه، لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه، قاله ابن جنى، وأبى أن يكون من «أين» لأنه زمان، «وأين» مكان. وقرأ السلمى: إيان، بكسر الهمزة «١» مُرْساها إرساؤها، أو وقت إرسائها، أى إثباتها وإقرارها. وكل شيء ثقيل رسوّه ثباته واستقراره. ومنه: رسى الجبل وأرسى السفينة. والمرسى: الأنجر الذي ترسى به، ولا أثقل من الساعة، بدليل قوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمعنى: متى يرسيها الله إِنَّما عِلْمُها أى علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به، لم يخبر به أحداً من ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل، يكاد يخفيها من نفسه، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أى لا تزال خفية، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة، لا يجليها «٢» بالخبر عنها قبل مجيئها أحد من خلقه، لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى كل من أهلها من الملائكة
(٢). قوله «بغتة لا يجليها» لعله: وقيل لا يجليها، بل لعله «أو لا يجليها». (ع)
(٢). أخرجه الطبري بالإسناد المذكور إلى قتادة قال ذكر لنا- فذكره، وفي الصحيحين عن أبى هريرة رفعه «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه- الحديث».
(٣). قال محمود «معناه كأنك بليغ في السؤال عنها... الخ» قال أحمد وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز، وهو أجل من أن يشارك فيها، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بنى على مقصد، واعترض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول وقد بعد عهده، طرى بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته، وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وسيأتى وهذا منها، فانه لما ابتدأ الكلام بقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي إلى قوله بَغْتَةً أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمن في قوله كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده فطري ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله بما تقدم، فمن ثم قيل يَسْئَلُونَكَ ولم يذكر المسئول عنه وهو الساعة، اكتفاء بما تقدم، فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد تطرية للذكر قوله:
عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال | الشحم إنا قد مللناه يجل |
يا خليلي أربعا واستخبرا ال | منزل الدارس من أهل الحلال |
مثل سحق البرد عنى بعدك ال | قطر مغناه وتأويب الشمال |
(٤). قوله «ورصن» أى: ثبت وتمكن اه. (ع)
(٥). قوله «إذا ألحف» أى ألح وعنف اه. (ع)
وقيل: كأنك حفىّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره، يعنى أنك تكره السؤال عنها لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً من خلقه. فإن قلت: لم كرر يسئلونك وإنما علمها عند الله؟
قلت: للتأكيد، ولما جاء به من زيادة قوله كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة زائدة، منهم محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رحمهما الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه العالم بها، وأنه المختص بالعلم بها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي هو إظهار للعبودية والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب:
أى أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك والعبيد إِلَّا ما شاءَ ربى ومالكى من النفع لي والدفع عنى وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لكانت حالى على خلاف ما هي عليه، ومن استكثار الخير، واستغزار المنافع، واجتناب السوء والمضارّ، حتى لا يمسني شيء منها. ولم أكن غالباً مرة ومغلوبا أخرى في الحروب، ورابحا وخاسرا في التجارات، ومصيبا مخطئا في التدابير إِنْ أَنَا إِلَّا عبد أرسالات نذيراً وبشيراً، وما من شأنى أنى أعلم الغيب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق بالنذير والبشير جميعاً، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم.
أو يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير محذوفا أى إلا نذير للكافرين، وبشير لقوم يؤمنون.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٠]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وقال لِيَسْكُنَ فذكر بعد ما أنث في قوله: واحدة. منها زوجها، ذهابا إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم. ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. والتغسى: كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى، ولم تستثقله كما يستثقلنه، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها: ما كان أخفه على كبدي حين حملته فَمَرَّتْ بِهِ فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق «١» وقيل حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً يعنى النطفة فَمَرَّتْ بِهِ فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه:
فاستمرت به، وقرأ يحيى بن يعمر: فمرت به، بالتخفيف. وقرأ غيره: فمارت به، من المرية، كقوله أَفَتُمارُونَهُ وأ فتمرونه. ومعناه: فوقع في نفسها ظن الحمل، فارتابت به فَلَمَّا أَثْقَلَتْ حان وقت ثقل حملها كقولك: أقربت «٢». وقرئ: أثقلت، على البناء المفعول: أى أثقلها الحمل دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا لَئِنْ آتَيْتَنا لئن وهبت لنا صالِحاً ولداً سوياً قد صلح بدنه وبريء «٣». وقيل. ولداً ذكراً، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في آتَيْتَنا ولَنَكُونَنَّ. لهما ولكل من يتناسل من ذرّيتهما «٤»
(٢). قوله «كقولك أقربت» أى قرب ولادها. (ع)
(٣). قوله «وبريء» لعله: وبريء من الآفات. (ع)
(٤). قال محمود: «الضمير في آتَيْتَنا ولَنَكُونَنَّ لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما... الخ» قال أحمد وأسلم من هذين التفسيرين وأقرب- والله أعلم- أن يكون المراد جنسى الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين، وكان المعنى- والله أعلم- خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرّى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون، لأن المشركين منهم أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا وقُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ كما أنه كذلك على التفسير الأول أضاف الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من بعضهم وعلى التفسير الثاني أضافه إلى قصى وعقبه، والمراد البعض، فهذا السؤال وارد على التأويلات الثلاثة، وجوابه واحد ويسلم هذا الثالث من حذف المضاف المضطر إليه في التأويل الأول. ومما ينصرف إلى التأويل الثاني من استبعاد تخصيص قصى بهذا الأمر المشترك في الجنس، وهو جعل زوجته منه وكون المراد بذلك أن يسكن إليها لأن ذلك عام في الجنس، والله أعلم.
فَيَا لَقُصَىّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ | بِهِ مِنْ فَخَارٍ لَا يُبَارَى وَسُودَدِ «٣» |
(٢). هذا طرف من حديث أم معبد في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه الحاكم مطولا. من حديثها وحديث أخيها حبيس بن خالد. ومن حديث زوجها أبى معبد، وطريق أم معبد رويناها في الغيلانيات. وفي الطبراني وفي الدلائل لأبى نعيم والبيهقي.
(٣).
جزى الله رب الناس خير جزائه | رفيقين حلا خيمتي أم معبد |
هما نزلا بالبر ثم ترحلا | فيا فوز من أمسى رفيق محمد |
فيالقصى ما زوى الله عنكم | به من فخار لا يبارى وسؤدد |
ليهن بنى سعد مقام فتاتهم | ومقعدها للمؤمنين بمرصد |
وفي هذا الاستفهام معنى التعجب والاستعظام، حتى كأن المستفهم عنه لا يعرف كنهه. ويجوز أن اللام للتعجب، و «ما» موصول بدل من «قصى». ويجوز أن اللام للاستغاثة، كأنه استغاث بهم لعلهم يتداركون ما فاتهم. وساد في قومه: شرف، ومصدره السؤدد، بالهمز وضم الدال، وبالواو فتفتح داله كما هنا. والأصل: السود- بالضم- كالحسن، فزيدت الدال للإلحاق بيرفع وجندب. «وليهن» مجزوم بلام الأمر، والمقصود الدعاء. و «مقام» فاعل، و «بنى» مفعول. يقال: هنأه الطعام ونحوه، بالهمز: إذا نفعه وحمدت عاقبته عنده، وهو من بابى نفع وضرب، ويبدل همزه بما يناسب ما قبله، وقد يحذف البدل كما هنا، كأنه أصلى، لكن الحذف عامي. والمرصد والمرصاد: الطريق يرصد فيه الرصد. وقوله «للمؤمنين» فيه حث على الهجرة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩١ الى ١٩٣]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
أجريت الأصنام مجرى أولى العلم في قوله وَهُمْ يُخْلَقُونَ بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم. أو لا يقدر على اختلاق شيء، لأنه جماد، وهم يخلقون، لأن عبدتهم يختلقونهم، فهم أعجز من عبدتهم وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم وَإِنْ تَدْعُوهُمْ وإن تدعوا هذه الأصنام إِلَى الْهُدى أى إلى ما هو هدى ورشاد، وإلى أن يهدوكم. والمعنى: وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. ويدل عليه قوله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أم صمتم عن دعائهم، في أنه لا فلاح معهم. فإن قلت: هلا قيل: أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية؟ قلت: لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم، كقوله وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٤ الى ١٩٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أى ناصري عليكم الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ الذي أوحى إلىّ كتابه وأعزنى برسالته وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٨]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وهم لا يدركون المرئىّ
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٩]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
الْعَفْوَ ضد الجهد: أى خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، كقوله ﷺ «يسروا ولا تعسروا» «١» قال:
خذي العفو منى تستديمى مودّتى | ولا تنطقى في سورتي حين أغضب «٢» |
(٢). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ٣٦٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
لما نزلت الآية سأل جبريل فقال: لا أدرى حتى أسأل «١»، ثم رجع فقال: يا محمد، إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. وعن جعفر الصادق:
أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٠]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ وإما ينخسنك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولا تطعه. النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغا، كما قيل جدّ جدّه. وروى أنها لما نزلت قال رسول الله ﷺ «كيف يا رب والغضب «٢» » فنزل وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب، كقول أبى بكر رضى الله عنه: إنّ لي شيطاناً يعتريني «٣»
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠١ الى ٢٠٢]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
(٢). أخرجه الطبري من رواية ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم «لما نزلت» فذكره مفصلا.
(٣). أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده. وابن سعد في الطبقات قالا: حدثنا وهب بن جرير حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن يقول «خطب أبو بكر رضى الله عنه يوما، فقال: أما والله، ما أنا بخيركم ولقد كنت لمقامى هذا كارها. ولوددت أن فيكم من يكفيني أفرط، وأن أعمل فيكم بسنة رسول الله ﷺ إذ؟؟؟؟ أقوم لها، إن رسول الله ﷺ كان يعتصم بالوحي. وكان معه ملك. وإن لي شيطانا يعتريني. فإذا غضبت فاجتنبوني الحديث» رواه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن الحسن نحوه. ورويناه في جزء الأنصارى من طريق أبى هلال عن الحسن قال «لما استخلف أبو بكر بدأ بكلام والله ما تكلم به أحد غيره» فذكر نحوه.
أنَّى ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ بَطِيفُ «١»
أو هو تخفيف طيف فيعل، من طاف يطيف كلين. أو من طاف يطوف كهين. وقرئ: طائف، وهو يحتمل الأمرين أيضاً. وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم: إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته تَذَكَّرُوا ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم. وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين يمدونهم في الغى، أى يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ: يمُدّونهم من الامداد. ويمادّونهم، بمعنى يعاونونهم ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا. وقوله وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ كقوله:
قَوْمٌ إذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِى كَوَاثِبِهَا «٢»
في أنّ الخبر جار على ما هو له. ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين، فيكون الخبر جاريا على ما هو له، والأوّل أوجه، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا. فإن قلت: لم جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد؟ قلت: المراد به الجنس، كقوله أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ.
أنى ألم به الخيال يطيف | ومطافه بك ذكرة وشغوف |
(٢).
قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها | فوارس الخيل لا ميل ولا قدم |
و «الميل» جمع أميل، وهو الذي لا يثبت على ظهر فرسه. والقدم: جمع أقدم، وهو اللئيم الضعيف. أو جمع قدم بالسكون بمعناه. وضمير «جالوا» للقوم، فجرى الخبر على غير ما هو له. أى إذا الخيل جالوا هم في سروجها وما يبرز الضمير هكذا، لأن محل وجوبه في الصفة لا الفعل، أو لأمن اللبس، لأن الواو ضمير العقلاء. فان قيل:
إن «إذا» لا تضاف إلا الجملة الفعلية، فالخيل فاعل فعل محذوف. أجيب بمنع أنها لا تضاف إلا للفعلية، وبأن ذلك في الشرطية لا الظرفية كما هنا. وقيل: يحتمل على بعد أن الخيل بمعنى الفرسان، وضمير كواثبها للأفراس المدلول عليها بذكر الخيل: أى قوم إذا الفرسان جالوا في كواثب الأفراس، فوارس الخيل، ثابتون عليها لا مائلون عن ظهورها، ولا عاجزون كأن أيديهم مغلولة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه: أى جمعه، كقولك: اجتمعه، أو جبى إليه فاجتباه: أى أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها، ومعنى لَوْلا اجْتَبَيْتَها هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أو هلا أخذتها منزّلة عليك مقترحة؟ قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترح لها هذا بَصائِرُ هذا القرآن بصائر مِنْ رَبِّكُمْ أى حجج بينة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة. وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل: معنى فاستمعوا له: فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٥]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ هو عامّ في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك تَضَرُّعاً وَخِيفَةً متضرعاً وخائفاً وَدُونَ الْجَهْرِ ومتكلما كلاماً دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ لفضل هذين الوقتين. أو أراد الدوام. ومعنى بالغدوّ: بأوقات الغدوّ، وهي الغدوات. وقرئ:
والإيصال، من آصل إذا دخل في الأصيل، كأقصر وأعتم «١» وهو مطابق للغدوّ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٦]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)