ﰡ
[سورة الانفطار (٨٢) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨)
الإعراب:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ السَّماءُ فاعل لفعل مقدر يفسره انْفَطَرَتْ لأن إِذَا لا تدخل إلا على الفعل.
ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ ما: استفهامية في موضع رفع، مبتدأ، وغَرَّكَ: خبره.
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ: ما: إما زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه، وفِي تتعلق ب رَكَّبَكَ أي ركّبك في أى صورة شاء، فحذف: ما، أو شرطية، وشاءَ: فعل الشرط المجزوم ب ما، ورَكَّبَكَ: جواب الشرط، وفِي حينئذ متعلقة بعامل مقدر لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله، وتقديره: كوّنك في أي صورة. ولا يكون متعلقا ب «عدلك» لأن الاستفهام لا يتعلق بما قبله.
البلاغة:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ سجع مرصّع.
وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ استعارة مكنية، شبّه الكواكب بجواهر متناثرة متفرقة، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الانتثار على طريق الاستعارة المكنية.
ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ استفهام يراد به التوبيخ والإنكار.
انْفَطَرَتْ انشقت. انْتَثَرَتْ تساقطت متفرقة. فُجِّرَتْ شقّقت جوانبها، فصارت بحرا واحدا. بُعْثِرَتْ قلب ترابها الذي وضع على موتاها، وبعث موتاها. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
جواب إِذَا وما عطف عليها، أي علمت نفس وقت حدوث هذه الأمور، وهو يوم القيامة ما قدمت من الأعمال، وما أخرت منها فلم تعمله بسبب الكسل.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ جنس الإنسان. ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ما خدعك وأي شيء جرّأك على عصيانه، والْكَرِيمِ العلي العظيم، وذكر للمبالغة في المنع عن الاغترار. فَسَوَّاكَ جعل أعضاءك سوية سليمة معدّة لمنافعها. فَعَدَلَكَ جعلك معتدلا متناسب الخلق والأعضاء، فلا تجد تنافرا بينها ولا عيبا فيها، فليست يد أو رجل أطول من الأخرى. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي ركّبك وكوّنك في أي صورة هي من أعجب الصور وأحكمها.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ.. الآية قال: نزلت في أبيّ بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحيّ، وقال ابن عباس: الإنسان هنا الوليد بن المغيرة.
وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قال: «غرّه الجهل».
التفسير والبيان:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي إذا انشقت السماء، كما قال تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل ٧٢/ ١٨]، وقال سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان ٢٥/ ٢٥]، وقال عزّ وجلّ: فَإِذَا انْشَقَّتِ
[الرحمن ٥٥/ ٣٧]، وقال عزّ من قائل:
وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ ٧٨/ ١٩].
وإذا تساقطت الكواكب وتفرقت، وذلك بعد تشقق السماء.
وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي فجّر الله بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا، ثم تسجّر أي توقد فتصير نارا تضطرم، كما قال تعالى:
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير ٨١/ ٦].
وإذا قلب تراب القبور، وأخرج موتاها، وصار باطنها ظاهرها.
وإذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة، فهناك يحصل الحشر والنشر، وبما أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم، وفناء الدنيا، فإنه يلاحظ الترتيب، فيبدأ أولا بتخريب السماء التي هي كالسقف، ويلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب، ثم يخرب ما على وجه الأرض التي هي كالبناء، وهو تفجير البحار، ثم تقلب الأرض ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، وهو بعثرة القبور.
وجواب الشرط قوله تعالى:
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أي إذا حدثت الأمور المتقدمة، علمت كل نفس عند نشر الصحف ما قدمت من عمل خير أو شر، وما أخّرت من الأعمال بسبب التكاسل والإهمال، كما قال تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة ٧٥/ ١٣].
وبما أن المراد بهذه الأمور يوم القيامة، فيكون المقصود بالآية الأخيرة في الأصح الزجر عن المعصية، والترغيب في الطاعة.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أي يا أيها الإنسان المدرك نهاية العالم ما الذي خدعك وجرأك على عصيان ربّك الكريم الذي أنعم عليك في الدنيا، حيث خلقك من نطفة بعد العدم، وجعلك سويا مستقيما، معتدل القامة في أحسن هيئة وشكل، متناسب الأعضاء، لا تفاوت فيها، مزوّدا بالحواس من السمع والبصر، وطاقة العقل والفهم.
والأصح أن الآية تتناول جميع العصاة لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله.
وقد وصف الله تعالى نفسه في هذا المقام بالكرم، وهذا الوصف يقتضي الاغترار به، حتى قالت العقلاء: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. فكان الكرم سبب الاغترار، وإنما وقع الإنكار عليه لأن الإنسان لم يدرك أن كرمه صادر عن الحكمة، وهي تقتضي ألا يهمل وإن أمهل، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين، وقيل: غرّه، جهله، وقيل: غرّه عدوه المسلّط عليه، وهو الشيطان، وقيل: غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أول مرة.
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي ركّبك في أي صورة شاءها من أبهى الصور وأجملها، وأنت لم تختر صورة نفسك، كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين ٩٥/ ٤].
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن من علامات يوم القيامة تبدل النظام الكوني، بتشقق السماء، وتساقط الكواكب، وتفجير البحار بعضها في بعضها، حتى تصير بحرا واحدا، ثم توقد حتى تصير نارا تضطرم، وبعثرة القبور وإخراج موتاها منها.
٢- إذا حدثت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة، حصل الحشر والنشر، وختمت صحائف الأعمال، فعلمت كل نفس ما كسبت، ووجدت ما قدمت من خير أو شر، وحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها، ولم يعد ينفعها عمل بعد ذلك.
٣- مسكين هذا الإنسان لا يشكر نعم ربّه بإطاعة أوامره، ولا يدخر من العمل الصالح ما يفيده في سفينة النجاة في آخرته، وغرّه كرم الله الذي تجاوز عنه في الدنيا، أو حمقه وجهله، أو شيطانه المسلط عليه. أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن عمر سمع رجلا يقرأ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فقال عمر: الجهل، كما قال تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب ٣٣/ ٧٢]. وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول: غرّني ستورك المرخاة لأن الكريم هو الستّار.
٤- نعم الله على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى، وأهمها ما يتعلق بنفسه، حيث خلقه الله من نطفة ولم يك شيئا، وجعله سليم الأعضاء، منتصب القامة، متناسب الأعضاء، مستعدا لقبول الكمالات، بالسمع والبصر والعقل وغير ذلك، وصوّره في أحسن الصور وأعجبها وأبدعها، واختار له الهيئة الجميلة والشكل البديع، كما قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين ٩٥/ ٤].
[سورة الانفطار (٨٢) : الآيات ٩ الى ١٩]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨)
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)
الإعراب:
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ... يَوْمَ: بالنصب على البدل من يَوْمَ الدِّينِ [الآية: ١٥] الأول المنصوب. ويقرأ بالرفع على البدل من يَوْمَ الدِّينِ] [الآية: ١٨] المرفوع، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو يوم لا تملك.
البلاغة:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ سجع مرصع، ومثله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. والسجع: هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير، وهو ثلاثة أنواع:
مطرف ومتوازي وترصيع.
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ بينهما مقابلة، قابل بين الأبرار والفجار، وبين النعيم والجحيم. وفيها سجع الترصيع: وهو أن يكون في إحدى الفقرتين مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن والتقفية وهو من المحسنات اللفظية. والمقابلة من المحسنات المعنوية: وهي أن يؤتي معنيين متوافقين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، فقد تكون بين اثنين أو ثلاثة أو أكثر.
نَعِيمٍ وجَحِيمٍ التنكير للتعظيم والتهويل.
وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ إطناب بإعادة الجملة، لتعظيم هول ذلك اليوم وبيان شدته.
كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى، فهي كلمة تفيد نفي شيء تقدم، وتحقق غيره.
بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ بَلْ: إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم. والمراد.
بِالدِّينِ: الجزاء على الأعمال يوم القيامة. لَحافِظِينَ ملائكة حفظة لأعمالكم، يحصون كل ما كان منها من خير أو شر. كِراماً عند الله، ووصفهم بذلك لتعظيم الجزاء. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يعلمون جميع الأفعال.
الْأَبْرارَ هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم، الذين يفعلون البرّ (الخير) ويتقون الله في كل أفعالهم، جمع برّ. نَعِيمٍ جنّة. الْفُجَّارَ هم الكفار التاركون لما شرع الله لعباده، جمع فاجر. جَحِيمٍ نار محرقة. يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرّها. يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي لا يخرجون منها، لخلودهم فيها.
وَما أَدْراكَ ما أعلمك وعرّفك، وكرر الجملة لتفخيم شأن اليوم وتعظيم هوله، بحيث لا يدركه إنسان. لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً من المنفعة. وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي لا أمر لغيره فيه، فلا يمكّن أحد من التوسط فيه. والمقصود بالآية تقرير شدة هول ذلك اليوم، وتفخيم أمره إجمالا.
المناسبة:
بعد بيان أمارات الساعة الدالة على صحة القول بالبعث والنشور، وبعد تعداد نعم الله على الإنسان، وجحوده إياها، ذكر الله تعالى علة هذا الجحود وهو التكذيب بالبعث، ثم رغب بالطاعة، وحذر من المعصية بسبب كتابة الحفظة جميع الأعمال، ثم أوضح أن الناس يوم القيامة فريقان: أبرار منعمون، وفجار معذبون مخلّدون في النار، وأن يوم القيامة ذو شدائد وأهوال، تتجرد فيه النفوس من قواها، ويتفرد الله عزّ وجلّ بالحكم والسلطان.
التفسير والبيان:
كَلَّا، بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي ارتدعوا وانزجروا عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به، والواقع أنكم تكذبون بيوم المعاد والحساب
ثم زاد في التحذير من العناد والتكذيب بالإخبار أن جميع الأعمال مرصودة على الناس بالملائكة، فقال:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ أي إن عليكم لملائكة حفظة كراما، فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم، ويعلمون جميع ما تفعلون، كما قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق ٥٠/ ١٧- ١٨].
وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد مرسلا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين: الجنابة والغائط.
فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط، أو ببعيره، أو ليستره أخوه».
ورواه الحافظ أبو بكر البزار، فوصله بلفظ آخر، وأسنده عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم، الكرام الكاتبين، الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء، فليستتر بثوبه أو بجرم حائط، أو ببعيره».
لذا كره العلماء الكلام عند الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك.
ثم ذكر الله تعالى تصنيف الناس العاملين يوم القيامة فريقين نتيجة كتابة الحفظة لأعمال العباد، فقال:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي إِنَّ الْأَبْرارَ: وهم الذين أطاعوا الله عزّ وجلّ، ولم يقابلوه بالمعاصي يصيرون إلى دار النعيم وهي الجنة، وَإِنَّ الْفُجَّارَ: وهم الذين كفروا بالله وبرسله، وقابلوا ربّهم بالمعاصي، يصيرون إلى دار الجحيم، وهي النار المحرقة،
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى ٤٢/ ٧].
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي لا يفارقون الجحيم ولا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف من عذابها، بل هم فيها إلى الأبد، ملازمون لها، كما قال تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [البقرة ٢/ ١٦٧].
ثم وصف يوم القيامة وصفا إجماليا في غاية التهويل وأكد ذلك مرتين، فقال:
وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ أي وما أعلمك وما أعرفك ما يوم الجزاء والحساب، وكرر الجملة تعظيما لشأن يوم القيامة، وتفخيما لقدره، وتهويلا لأمره، مما يستدعي التدبر والتأمل، فلو عرف المرء تلك الأهوال، لما فارق طاعة الله ساعة، وابتعد عن المعصية بعد السماء من الأرض، ولكن الإنسان في غفلة وسهو وتجاهل، يعيش في الآمال، ويعتمد على الأحلام أحيانا، ويهرب من الواقع.
ثم حسم الله تعالى الأمر، وأبان حقيقة الموقف، ودور الإنسان فيه، فقال:
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي إنه اليوم الذي لا يقدر فيه أحد كائنا من كان عليه نفع أحد، ولا خلاصه مما هو فيه، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، ولا يملك أحد القضاء بشيء أو صنع شيء، إلا الله ربّ العالمين، فهو المتفرد بالحكم والسلطان، فبيده الأمر كله، وإليه ترجع الأمور كلها. قال قتادة: والأمر، والله اليوم، لله، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد.
ونظير الشطر الأول من الآية قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة ٢/ ٤٨]، وقوله عزّ وجلّ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ
[غافر ٤٠/ ١٧]، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس ٨٠/ ٣٤- ٣٧].
وجاء في الحديث الثابت الذي أخرجه الترمذي: «يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، لا أملك لكم من الله شيئا».
ونظير الشطر الآخر قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر ٤٠/ ١٦]، وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ.. [الحج ٢٢/ ٥٦]، وقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة ١/ ٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أمر تعالى بأن نرتدع عن الاغترار بحلم الله وكرمه، وأن نتفكر في آيات الله.
٢- إن منشأ عدم الخوف من الله والتجرؤ على الكفر والعصيان في الحقيقة والواقع هو التكذيب بالجزاء والحساب في يوم القيامة.
٣- حال الناس مما يثير التعجب، فهم يكذبون بيوم الحساب والجزاء، وملائكة الله موكلون بهم، يكتبون أعمالهم، حتى يحاسبوا بها يوم القيامة.
ولا يختلف الحال بين المؤمنين والكفار، فعليهم جميعا الحفظة لقوله تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ... [الحاقة ٦٩/ ١٩]، ثم قال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ [الحاقة ٦٩/ ٢٥]، وفي آية أخرى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق ٨٤/ ١٠]، فهذا خبر يدل أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة.
قال: إذا همّ العبد بحسنة، وجدوا منه ريح المسك، وإذا همّ بسيئة وجدوا منه ريح النّتن.
٤- وصف الله تعالى الملائكة الحفظة بصفات أربع: هي كونهم حافظين، وكونهم كراما، وكونهم كاتبين، وكونهم يعلمون ما تفعلون. ووصف الله إياهم بهذه الصفات يدل على أنه تعالى أثنى عليهم وعظم شأنهم، وفي تعظيمهم تعظيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله تعالى من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكلوا بضبط ما يحاسب عليه كل إنسان. قال بعض العلماء: من لم يزجره من المعاصي مراقبة الله إياه، كيف يرده عنها كتابة الكرام الكاتبين.
٥- أحوال العاملين ومصيرهم يوم القيامة: إن الأبرار يكونون في جنات النعيم، وإن الفجار يكونون في نيران الجحيم، يدخلونها ويقاسون لهابها وحرها يوم الجزاء والحساب، ويلازمونها إلى أبد الآبدين، فلا يغيبون عنها. وليس صاحب المعصية الكبيرة فاجرا، وإنما الكفار هم الفجرة لا غيرهم كما تقدم، وليس صاحب الكبيرة بفاجر على الإطلاق، لقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس ٨٠/ ٤٢].
وفي هذا تهديد عظيم للعصاة، حكي أن سليمان بن عبد الملك مرّ بالمدينة، وهو يريد مكة، فقال لأبي حازم: كيف القدوم على الله غدا؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، قال: فبكى، ثم قال: ليت شعري ما لنا عند الله! فقال أبو حازم:
اعرض عملك على كتاب الله، قال: في أي مكان من كتاب الله؟ قال: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال سليمان: فأين إذن هي رحمة الله؟ فأجابه بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «١» [الأعراف ٧/ ٥٦].
وفي هذا وعيد عظيم وتهويل جسيم ليوم القيامة، ودليل على أنه لا يغني عن الناس إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. قال الواسطي في قوله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إشارة إلى فناء غير الله تعالى، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات فمن كانت صفته في الدنيا كذلك، كانت دنياه أخراه.
وقال الرازي في قوله تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ: هو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم، وفي الآخرة، ولم يتغير من حال إلى حال، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر، لا إلى أحوال المنظور إليه «١».
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المطففينمكيّة، وهي ست وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة (المطففين)، لافتتاحها بقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وهم الذين يبخسون المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضوا من الناس، وإما بالنقصان إن قضوهم أو وزنوا أو كالوا لهم.
مناسبتها لما قبلها:
تتعلق هذه السورة بما قبلها من وجوه أربعة:
١- قال الله تعالى في آخر السورة المتقدمة واصفا يوم القيامة: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة، فلهذا أتبعه هنا بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والمراد: الزجر عن التطفيف: والبخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية. أما الكثير فيظهر، فيمنع منه.
٢- في كل من السورتين توضيح أحوال يوم القيامة.
٣- ذكر الله تعالى في السورة السابقة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ [١٠- ١١] وذكر هنا ما يكتبه الحافظون: كِتابٌ مَرْقُومٌ [٢٠] يجعل في عليين، أو في سجين.
ما اشتملت عليه السورة:
عنيت هذه السورة كسائر السور المكية بأمور العقيدة، وعلى التخصيص أحوال يوم القيامة وأهوالها، وعنيت بأمور الأخلاق الاجتماعية، وهي هنا تطفيف الكيل والميزان.
بدأت السورة بمطلع مخيف، وهو وعيد المطففين بالعذاب الشديد: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.. [الآيات ١- ٦].
ثم أبانت أن كتاب الفجار الأشقياء في ديوان الشر، وفي كتاب مرقوم بعلامة، وأن مصيرهم أسفل السافلين في نار جهنم: كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ.. [الآيات ٧- ١٧].
وأردفت ذلك على سبيل المقارنة والعبرة والجمع بين الترغيب والترهيب ببيان أن صحائف الأبرار في أعلى عليين، وأنها في كتاب مرقوم بعلامة متميزة عن صحائف الفجار: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ.. [الآيات ١٨- ٢٨].
وختمت السورة بوصف موقف المجرمين من المؤمنين، حيث كانوا يستهزئون ويضحكون منهم في الدنيا لإيمانهم وتقواهم ربهم، ثم انعكاس هذا الموقف في الآخرة حيث صار المؤمنون يتضاحكون من الأشقياء المجرمين ويسخرون منهم،