تفسير سورة التوبة

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .
اللغَة: ﴿بَرَآءَةٌ﴾ برئت من الشيء: إِذا قطعت ما بينك وبينه من سبب وأزلته عن نفسك، قال الزجاج: برئت من الرجل والدين براءة، وبرئت من المرض بُروءاً ﴿فَسِيحُواْ﴾ السياحة: السير في الأرض والذهاب فيها للتجارة أو العبادة أو غيرهما ﴿أَذَانٌ﴾ الأذان: الإِعلام ومنه أذان الصلاة ﴿مَرْصَدٍ﴾ المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلاناً إِذا ترقبته قال الشاعر: إِن المنية للفتى بالمرصد ﴿استجارك﴾ طلب جوارك أي أمانك ﴿إِلاَّ﴾ الإِلُّ: العهد والقرابة وأنشد عبيدة:
أفسد الناس خلوف خلفوا... قطعوا الإِلَّ وأعراف الرحم
﴿نَكَثوا﴾ النكث: النقض وأصله في كل ما فُتل ثم حل ﴿وَلِيجَةً﴾ بطانة ودخيلة، قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج، فالداخل في القوم وليس منهم يسمى وليجة وقال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يفشي إِليهم سره، ويعلمهم أمره. سَبَبُ النّزول: روي أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، وفيهم «العباس بن عبد المطلب» فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعيرّوهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقال: وهل لكم من محاسن؟ فقال: نعم، إِنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين﴾ أي هذه براءة من المشركين ومن عهودهم كائنة من الله ورسوله قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمره الله بإِلقاء عهودهم إليهم، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة، فقام علي فنادى في الناس بأربع: ألاّ يقرب
484
البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم، ومن كان بينه ويبن رسول الله مدة فأجله إِلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه، وهو أمر إباحة وفي ضمنه تهديد ﴿واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة ﴿وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين﴾ أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل، وفي الآخرة بالعذاب الشديد ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس﴾ أي إِعلام إلى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾ أي وم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك قال الزمخشري: وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ﴿أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ أي إعِلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم، ورسوله بريء منهم أيضاً ﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً، ولا تُعجزونه هرباً ﴿وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم قال أبو حيان: جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين﴾ أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم قال في الكشاف: وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم، ولا تُجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر ﴿ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ أي لم ينقصوا من شروط الميثاق شيئاً ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾ أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم ﴿فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾ أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم قال البيضاوي: هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى قال ابن عباس: كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأنتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم عهدهم ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾ أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم، قال ابن عباس: في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ أي بالأسر ﴿واحصروهم﴾ أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد قال ابن عباس: إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام ﴿واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم قال في البحر: وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة﴾ أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ أي كفروا عنهم ولا تتعرضوا لهم ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب {وَإِنْ
485
أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك ﴿فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله﴾ أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره قال الزمخشري: المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر أقول: هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا ما هم عليه من الضلال ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا، ثم بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ استفهام بمعنى الانكار والاستبعاد أي كيف يكون عهد معتدٌ به عند الله ورسوله، ثم استدرك فقال ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام﴾ أي لكن من عهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد قال ابن عباس: هم أهل مكة وقال ابن إسحاق: هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قريش، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم ﴿فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ﴾ أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد قال الطبري: أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ أي يحب من اتقى ربه، ووفى عهده، وترك الغدر والخيانة ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم ﴿لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة، لأنه لا عهد لهم ولا أمان قال أبو حيان: وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم ﴿وتأبى قُلُوبُهُمْ﴾ أي وتمنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه وقال الطبري: المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام ﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة ﴿وأولئك هُمُ المعتدون﴾ أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة﴾ أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين﴾ أي فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ
486
الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل ﴿َوَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيمْان ﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم ﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾ أي رؤساء وصناديد الكفر ﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها ﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ أي كي يكفوا عن الإِجرام، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام، قال البيضاوي: وهو متعلق ب «قاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ﴾ تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول﴾ أي عزموا على تهجير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة، والبادئ أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾ ؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إن تركتم أمره ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾ أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه قال الزمخشري: يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بما سواه.
. ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فتقالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾ أي يذلهم بالأسر والقهر ﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم قال ابن عباس: هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أبشروا فإِن الفرج قريب ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي يذهب ما بها من غيظ، وغمٍّ، وكرب، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم قال الرازي: أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد، فكيف بها إِذا اجتمعت؟ ﴿وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ﴾ كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة قال أبو السعود: ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ﴾ أي منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه! ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ﴾ أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾ أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا
487
بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين، والغرض من الآية: إن الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد ﴿شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ أي حال كونهم مقرين بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك» يعنون الأصنام، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوقة سجدوا للأصنام والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة مساجد الله، مع الكفر بالله وبعبادته ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك ﴿وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾ أي ماكثون في نار حهنم أبداً ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن من المصدق بوحدانية الله، الموقن بالآخرة ﴿وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة﴾ أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله﴾ أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه ﴿فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين﴾ أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة قال ابن عباس: كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه
﴿عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [الإسراء: ٧٩] يقول: إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة قال أبو حيّان: وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إِذ من جميع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من لا ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عارٍ منها؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله﴾ الخطاب للمشركين، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى: أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله؟ وهو رد على العباس حين قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج فنزلت قال الطبري: هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله ﴿لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله﴾ أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق، قال في البحر: ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة، ونفاها عن المشركين هنا فقال ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ ثم قال تعالى {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ
488
وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى: إِن الين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون ﴿وأولئك هُمُ الفائزون﴾ أي أولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة، ورضوان كبير من ربِّ عظيم ﴿وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ أي وجنات عالية، قطوفها دانية، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية ﴿إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي ثوابهم عند الله عظيم، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإِيمان، والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب.
البَلاَغَة: ١ - ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ التنوين للتفخيم والتقييد بأنها من الله ورسوله لزيادة التفخيم والتهويل.
٢ - ﴿وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هذا يسمى «الأسلوب التهكمي» لأن البشارة بالعذاب تهكم به.
٣ - ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾ شبّه مضي الأشهر وانقضاءها بالإِنسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فهو من باب الاستعارة.
٤ - ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ذكر الاسم الجليل مكان الضمير لتربية المهابة وإِدخال الروعة في القلب.
٥ - ﴿وأولئك هُمُ الفائزون﴾ الجملة مفيدة للحصر أي هم الفائزون لا غيرهم.
٦ - ﴿وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة﴾ في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
٧ - ﴿بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ تنكير الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم أي برحمة لا يبلغها وصف واصف.
فَائِدَة: عمارة المساجد نوعان: حسية، ومعنوية، فالحسية بالتشييد والبناء، والمعنوية بالصلاة وذكر الله، وقد ربط الباري جل وعلا بين العمارة والإِيمان وفي الحديث «إِذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإِيمان لأن الله تعالى يقول {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم
489
الآخر} فالعلمارة الحقيقة بالصلاة وذكر الله.
لطيفَة: ذكر القرطبي أن أعرابياً قدم المدينة المنورة فقال: من يقرئني مما أُنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى الآية الكريمة ﴿أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ فقرأها عليه بالجرِّ ﴿وَرَسُولُهُ﴾ فقال الأعرابي: وأنا أيضاً أبرأ من رسوله، فاستعظم الناس الأمر وبلغ ذلك عمر فدعاه فقال يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال يا أمير المؤمنين: قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة فقلت إِن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال: ما هكذا الآية يا أعرابي؟ قال فكيف يا أمير المؤمنين! فقرأها عليه بالضم ﴿وَرَسُولُهُ﴾ فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ألا يقرئ الناس إِلا عالم بلغة العرب.
490
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قبائح المشركين، وأثنى على المهاجرين المؤمنين الذين هجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله، حذر هنا من ولاية الكافرين وذكر أن الانقطاع عن الآباء والأقارب واجب بسبب الكفر، ثم استطرد إِلى تذكير المؤمنين بنصرهم في مواطن كثيرة ليعتزوا بدينهم، ثم عاد إِلى الحديث عن قبائح أهل الكتاب للتحذير من موالاتهم، وأنهم كالمشركين يسعون لإِطفاء نور الله.
اللغَة: ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ جمع ولي: وهو الناصر والمعين الذي يتولى شئون الغير وينصره ويقويه ﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ العشيرة: الجماعة التي يعتز ويحتمي بها الإِنسان قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهو من العِشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى ﴿كَسَادَهَا﴾ كسد الشيء كساداً وكسوداً إِذا بار ولم يكن له تفاق ﴿عَيْلَةً﴾ فقراً يقال: عال الرجل يعيل إذا افتقر قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه... وما يدري الغني متى يعيل
﴿الجزية﴾ ما أخذ من أهل الذمة سميت جزية لأنهم أعطوها جزءا ما مُنحوا من الأمن ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ يشابهون والمضاهاة المماثلة والمحاكاة ﴿يُؤْفَكُونَ﴾ يصرفون عن الحق والإِفك الصرف يقال: أُفك الرجل أي قلب وصرُف.
سَبَبُ النّزول: قال الكلبي: لما أُمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: لقد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إِلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وولده فيقولون: نشدناك الله إن تدعنا من غير شيء فنضيع، فيرق فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزلت الآية تعاتبهم ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ النداء بلفظ الإِيمان للتكريم ولتحريك الهمة للمسارعة إِلى امتثال أوامر الله قال ابن مسعود: «إذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا فأَرْعٍها سمعك، فإِنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه» والمعنى: لا تتخذوا آباءكم وإِخوانكم الكافرين أنصاراً وأعواناً تودونهم وتحبونهم ﴿إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان﴾ أي إِن فضلوا الكفر واختاروه على الإِيمان وأصروا عليه إِصراراً ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾ قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ أي إِن كان هؤلاء الأقارب من الآباء، والأبناء، والإِخوان، والزوجات ومن سواهم ﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ أي جماعتكم التي تستنصرون بهم ﴿وَأَمْوَالٌ اقترفتموها﴾ أي وأموالكم التي اكتسبتموها ﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾ أي تخافون عدم نفاقها ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ﴾ أي منازل تعجبكم الإِقامة فيها ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ هذا هو جواب كان أي إِن كانت هذه الأشياء المذكورة أحب إِليكم من الهجرة إِلى الله ورسوله ﴿وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ أي وأحب إِليكم من الجهاد
491
لنصرة دين الله ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾ أي انتظروا وهو وعيد شديد وتهديد ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ أي بعقوبته العاجلة أو الآجلة ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ أي لا يهدي الخارجين عن طاعته إِلى طريق السعادة، وهذا وعيد لمن آثر أهله، أو ماله، أو وطنه، على الهجرة والجهاد، ثم ذكرهم تعالى بالنصر على الأعداء في مواطن اللقاء فقال ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ أي نصركم في مشاهد كثيرة، وحروب عديدة ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ أي ونصركم أيضاً يوم حنين بعد الهزيمة التي منيتم بها بسبب اغتراركم بالكثرة ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾ أي حين أعجبكم كثرة عددكم فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، وكنتم اثني عشر ألفاً وأعداؤكم أربعة آلاف، فلم تنفعكم الكثرة ولم تدفع عنكم شيئاً ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي وضاقت الأرض على رحبها وكثرة اتساعها بكم من شدة الخوف ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ أي وليتم على أدباركم منهزمين قال الطبري: يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد، وأنه ينصر القليل على الكثير إِذا شاء، ويخلي القليل فيهزم الكثير، قيل للبراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين؟ فقال البراء: أشهد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يفر: ولقد رأيته على بغلته البيضاء - وأبو سفيان آخذ بلجامها يقودها - فلما غشية المشركون نزل فجعل يقول:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه ففروا، فما بقي أحد إِلا ويمسح القذى عن عينيه، وقال البراء: «كنا والله إِذا حميَ البأس نتقي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِن الشجاع منا الذي يحاذيه» ﴿ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾ أي أنزل بعد الهزيمة الأمن والطمأنينة على المؤمنين حتى سكنت نفوسهم قال أبو السعود: أي أنزل رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إليها ﴿وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ قال ابن عباس: يعني الملائكة ﴿وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري ﴿وذلك جَزَآءُ الكافرين﴾ أي وذلك عقوبة الكافرين بالله. ﴿ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ﴾ أي يتوب على من يشاء فيوفقه للإِسلام، وهو إِشارة إِلى إِسلام هوازن ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة ﴿ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ أي قذر لخبث باطنهم قال ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ، والجمهور على أن هذا على التشبيه أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم وكفرهم بالله جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في الوصف على حد قولهم: عليٌّ أسدٌ أي كالأسد ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ أي فلا يدخلوا الحرم، أطلق المسجد الحرام وقصد به الحرم كله قال أبو السعود: وقيل: المراد المنع عن الحج والعمرة أي لا يجحدوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة ويؤيده حديث
«وألاّ يحج
492
بعد هذا العام مشرك» وهو العام الذي نزلت فيه سورة براءة ونادى بها عليٌّ في المواسم ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي وإِن خفتم أيها المؤمنون فقراً بسبب منعهم من دخول الحرم أو من الحج فإِن الله سبحانه يغنيكم عنهم بطريق آخر من فضله وعطائه قال المفسرون: لما مُنع المسلمون من تمكين المشركين من دخول الحرم، وكان المشركون يجلبون الأطعمة والتجارات إليهم في المواسم، ألقى الشيطان في قلوبهم الحزن فقال لهم: من أين تأكلون؟ وكيف تعيشون وقد منعت عنكم الأرزاق والمكاسب؟ فأمنهم الله من الفقر والعيلة، ورزقهم الغنائم والجزية ﴿إِن شَآءَ﴾ أي يغنيكم بإِرادته ومشيئته ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين.. ولما ذكر حكم المشركين ذكر حكم أهل الكتاب فقال ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر﴾ أي قاتلوا الذين لا يؤمنون إِيماناً صحيحاً بالله واليوم الآخر وإِن زعموا الإِيمان، فإِن اليهود يقولون عزير ابن الله، والنصارى يعتقدون بألوهية المسيح ويقولون بالتثليث ﴿وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ﴾ أي لا يحرمون ما حرم الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، بل يأخذون بما شرعه لهم الأحبار والرهبان ولهذا يستحلون الخمر والخنزير وما شابههما ﴿وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق﴾ أي لا يعتقدون بدين الإِسلام الذي هو دين الحق ﴿مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ هذا بيان للمذكورين أي من هؤلاء المنحرفين من اليهود والنصارى الذين نزلت عليهم التوراة والإِنجيل ﴿حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ﴾ أي حتى يدفعوا إِليكم الجزية منقادين مستسلمين ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي أذلاء حقيرون مقهورون بسلطان الإِسلام، ثم ذكر تعالى طرفاً من قبائحهم فقال ﴿وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله﴾ أي نسب اللعناء إلى الله الولد، وهو واحد أحد فرد صمد قال البيضاوي: وإِنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد بختنصر من يحفظ التوراة، فلما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إِلا لأنه ابن الله ﴿وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله﴾ أي وزعم النصارى - أعداء الله - أن المسيح ابن الله قالوا: لأن عيسى ولد بدون أب، ولا يمكن أن يكون ولد بدون أب، فلا بد أن يكون ابن الله، قال تعالى رداً عليهم ﴿ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أي ذلك القول الشنيع هو مجرد دعوى باللسان من غير دليل ولا برهان قال في التسهيل: يتضمن معنيين: أحدهما إِلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإِنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قولك بلسانك ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾ أي يشابهون بهذا القول الشنيع قول المشركين قبلهم: الملائكة بنات الله
﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: ١١٨] ﴿قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ﴾ دعاء عليهم بالهلاك أي أهلكهم الله كيف يُصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً ﴿قال الرازي: الصيغة للتعجب وهو راجع إِلى الخلق على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجَّب نبيه من تركهم الحق وإِصرارهم على الباطل {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ أي أطاع اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم في التحليل والتحريم
493
وتركوا أمر الله فكأنهم عبدوهم من دون الله والمعنى: أطاعوهم كما يطاع الرب وإِن كانوا لم يعبدوهم وهو التفسير المأثور عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال عدي ابن حاتم: «أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي إِطرح عنك هذا الوثن، قال وسمعته يقرأ سورة براءة ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ فقلت يا رسول الله: لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه السلام: أليس يُحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه، ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟} فقلت: بلى، قال: فذلك عبادتهم» ﴿والمسيح ابن مَرْيَمَ﴾ أي اتخذه النصارى رباً معبوداً ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً﴾ أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا على لسان الأنبياء إِلا بعبادة إِله واحد هو الله رب العالمين ﴿لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾ لا معبود بحق سواه ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزه الله عما يقول المشركون وتعالى علواً كبيراً ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أي يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب أن يطفئوا نور الإِسلام وشرع محمد عليه السلام بأفواههم الحقيرة، بمجرد جدالهم وافترائهم، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياءً، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه بفمه ولا سبيل إِلى ذلك ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ أي ويأبى الله إِلا أن يعليه ويرفع شأنه ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ أي ولو كره الكافرون ذلك ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق﴾ أي أرسل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالهداية التامة والدين الكامل وهو الإِسلام ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ أي ليعليه على سائل الأديان ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ جوابه محذوف أي ولو كره المشركون ظهوره.
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ صيغته أمر وحقيقته وعيد كقوله ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠].
٢ - ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ من باب عطف الخاص على العام للتنويه بشأنه حيث جاء النصر بعد اليأس، والفرج بعد الشدة.
٣ - ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة والضيق النفسي بضيق الأرض على سعتها على سبيل الاستعارة.
٤ - ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ الصيغة لإِفادة الحصر واللفظ فيه تشبيه بليغ أي كالنجس في خبث الباطن وخبث الاعتقاد حذفت منه أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً ومثله ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً﴾ أي كالأرباب في طاعتهم وامتثال أوامرهم في التحريم والتحليل.
٥ - ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد﴾ عبَّر عن الدخول بالقرب للمبالغة.
٦ - ﴿يُطْفِئُواْ نُورَ الله﴾ أراد به نور الإِسلام فإِن الإِسلام بنوره المضيء وحججه القاطعة يشبه الشمس الساطعة في نورها وضيائها فهو من باب الاستعارة. وهي من لطائف الاستعارات.
لطيفَة: قال العلامة القرطبي دل قوله تعالى ﴿لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآء﴾ على أن
494
القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان، وقد أنشدوا في ذلك أبياتاً:فقلت:
495
المنَاسَبَة: لما وصف تعالى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية، وصفهم هنا بالطمع والجشع والحرص على أكل أموال الناس، تحقيراً لشأنهم وتسفيهاً لأحلامهم، لأنهم اتخذوا الدين مطية لنيل الدنيا، وذلك نهاية الذل والدناءة، ثم ذكر تعالى قبائحهم وقبائح المشركين، ثم دعا إِلى النفير العام وذكر موقف المنافقين المثبطين عن الجهاد في سبيل الله.
اللغَة: ﴿الأحبار﴾ علماء اليهود ﴿الرهبان﴾ علماء النصارى قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إِلا الملوك... وأحبار سوءٍ ورهبانها
﴿يَكْنِزُونَ﴾ أصل الكنز في اللغة: الجمع والضم ومنه حديث «ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة» أي يضمه لنفسه ويجمعه، ثم غلب استعماله على المدفون من الذهب والفضة قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إِلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها ﴿تكوى﴾ الكي: إِلصاق المحمي من الحديد وشبهه بالعضو حتى يتمزق الجلد وفي الأمثال «آخر الدواء لكي» ﴿النسياء﴾ التأخير يقال: نسأه وأنسأه إِذا أخره ومنه حديث «وينسأ له في أثره» أي يؤخر له في أجله قال الزمخشري: النسيء: تأخير حرمة الشهر إِلى شهر آخر ﴿لِّيُوَاطِئُواْ﴾ ليوافقوا والمواطأة: الموافقة يقال: تواطأ القوم: إِذا اتفقوا على أمر خفية ﴿انفروا﴾ النفر: الخروج بسرعة ومنه ﴿وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً﴾ [الإسراء: ٤٦] ﴿اثاقلتم﴾ أصله تثاقلتم بمعنى تباطأتم ولم تسرعوا ﴿عَرَضاً﴾ العرض: ما يعرض للانسان من منافع الدنيا سمي عرضاً لأنه لا يدوم وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر» ﴿- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
; لشُّقَّةُ﴾
المسافة البعيدة التي لا تقطع إِلا بمشقة قال الجوهري: الشقة السفر البعيد، وكأنه مأخذو من المشقة يقال: شقة شاقة.
سَبَبُ النّزول: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الطائف وغزوة حنين، أمر الناس بالجهاد، لغزو اليوم، وذلك في زمن عسرة من البأس، وجدبٍ من البلاد، وشدةٍ من الحر، حين أثمرت النخل، وطابت الثمار، فعظم على الناس غزو الروم، وأحبوا الظلال والمقام في المساكن والمال، وشق عليهم الخروج إِلى القتال فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إِن كثيراً من علماء اليهود «الأحبار» وعلماء النصارى «الرهبان» ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي ليأخذون أموال الناس بالحرام، ويمنعونهم عن الدخول في دين الإِسلام قال ابن كثير: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال قال ابن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان في شبه من النصارى ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ أي يجمعون الأموال ويدخرون الثروات ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله﴾ أي لا يؤدون زكاتها ولا يبذلون منها في وجوه الخير قال ابن عمر: الكنز ما لم تُؤد زكاته، وما أديت
496
زكاته فليس بكنز ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أسلوب تهكم أي أخبرهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم قال الزمخشري: وإِنما قرن بين الكانزين وبين اليهود والنصارى تغليظاً عليهم ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي من المسملين من طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ أي يوم يحمى عليها بالنار المستعرة حتى تصبح حامية كاوية ﴿فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ أي تحرق بها الجباه والجنوب والظهور بالكي عليها قال ابن مسعود: والذي لا إِله غيره لا يكون عبد بكنزٍ فيمن دينار ديناراً، ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته، وخصت هذه الأماكن بالكي لأن البخيل يرى الفقير قادماً فيقطب جبهته، فإِذا جاء أعرض بجانبه، فإذا طالبه بإِحسان ولاه ظهره، قال القرطبي: الكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الظهر والجنب آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء ﴿هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ أي يقال لهم تبكيتاً وتقريعاً: هذا ما كنزتموه لأنفسكم فذوقوا وبال ما كنتم تكنزونه وفي صحيح مسلم
«ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إِلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكون بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، ثم يرى سبيله إِما إِلى الجنة وإِما إلى النار» ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾ أي إِن عدد الشهور المعتد بها عند الله في شرعه وحكمه هي اثنا عشر شهراً على منازل القمر، فالمعتبر به الشهور القمرية إِذا عليها يدور فلك الأحكام الشرعية ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ أي في اللوح المحفوظ ﴿يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض﴾ قال ابن عباس: كتبه يوم خلق السماوات والأرض في الكتاب الإِمام الذي عند الله ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ أي منها أربعة شهور محرمة هي: «ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب» وسميت حرماً لأنها معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعات ويحرم القتال فيها ﴿ذلك الدين القيم﴾ أي ذلك الشرع المستقيم ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي لا تظلموا في هذه الأشهر المحرمة أنفسكم بهتك حرمتهن وراتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾ أي قاتلوهم جميعاً مجتمعين غير متفرقين كما يقاتلوكم المشركون جميعاً ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي معهم بالنصرة والتأييد، وهو بشارة وضمان لأهل التقوى ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر﴾ أي إِنما تأخير حرمة شهر لشهر آخر زيادة في الكفر لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حمره فهو كفر آخر مضموم إِلى كفرهم قال المفسرون: كان العرب أهل حروب وغارات، وكان القتال محرماً عليهم في الأشهر الحرم، فإِذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، كأنهم يستقرضون حرمة شهر لشهر غيره، فربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى يكمل في العام أربعة أشهر محرمة ﴿يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ﴾ أي يضل بسببه الكافرين ضلالاً على ضلالهم ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾ أي يحلون المحرم عاماً والشهر الحلال عاماً فيجمعون هذا مكان هذا والعكس ﴿لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله﴾ أي
497
ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة ﴿فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله﴾ أي فيستحلوا بذلك ما حرمه الله قال مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إِلى الموسم على حمار له، فيقول أيها الناس: إِني لا أعاب ولا أجاب، ولا مرد لما أقول، إِنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل ويقول: إِنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فذلك قوله تعالى ﴿لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله﴾ ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ﴾ أي زين الشيطان لهم أعمالهم القبيحة حتى حسبوها حسنة ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي لا يرشدهم إِلى طريق السعادة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض﴾ استفهام للتقريع والتوبيخ، وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك والمعنى: ما لكم أيها المؤمنون إِذا قيل لكم اخرجوا لجهاد أعداء الله تباطأتم وتثاقلتم، وملتم إِلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعه؟! ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ أي أرضيتم بنعيم الدنيا ومتاعها الفاني بدل نعيم الآخرة وثوابها الباقي؟ ﴿فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في جنب الآخرة إِلا شيء مستحقر قليل لا قيمة له، ثم توعَّدهم على ترك الجهاد فقال ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي إِن لا تخرجوا إِلى الجهاد مع رسول الله يعذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً، باستيلاء العدو عليكم في الدنيا، وبالنار المحرقة في الآخرة وقال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ أي يهلككم ويستبدل قوماً آخرين خياً منكم، يكونون أسرع استجابة لرسوله وأطوع ﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً﴾ ولا تضروا الله شيئاً بتثاقلكم عن الجهاد فإِنه سبحانه غني عن العالمين ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادر على كل ما يشاء ومنه الانتصار على الأعداء بدونكم قال الرازي: وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إِنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإِذا توعد بالعقاب فعل ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ أي إِن لا تنصروا رسوله فإِن الله ناصره وحافظه وجواب الشرط محذوف تقديره: فسينصره الله دل عليه قوله ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ والمعنى: إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾ أي حين خروجه من مكة مهاجراً إِلى المدينة، وأسند إِخراجه إِلى الكفار لأنهم ألجئوه إِلى الخروج وتآمروا على قتله حتى اضطروا إِلى الهجرة ﴿ثَانِيَ اثنين﴾ أي أحد اثنين لا ثالث لهما هو أبو بكر الصديق ﴿إِذْ هُمَا فِي الغار﴾ أي حين كان هو والصديق مختبئين في النقب في جبل ثور ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ أي حين يقول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق تطميناً وتطييباً: لا تخف فالله معنا بالمعونة والنصر، روى الطبري عن أنس أن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال
«بينا أنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغار، وأقدام المشركين فوق رءوسنا فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا فقال أبو بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ أي أنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ أي
498
قواه بجنوده من عنده من الملائكة يحرسونه في الغار لم تروها أنتم ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى﴾ أي جعل كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، أذل بها الشرك والمشركين ﴿وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا﴾ أي وكلمة التوحيد «لا إِله إِلا الله» هي الغالبة الظاهرة، أعزَّ الله بها المسلمين، وأذل الشرك والمشركين ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي قاهر غالب لا يُغلب، لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة والمصلحة ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ أي اخرجوا للقتال يا معشر المؤمنين شيئاً وشباناً، وركباناً، في جميع الظروف والأحوال، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره ﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي جاهدوا بالاموال والأنفس لإِعلاء كلمة الله ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي هذا النفير والجهاد خير من التثاقل إِلى الأرض والخلود إِليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا إِن كنتم تعلمون ذلك قال في البحر: والخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب العظيم ورضوان الله، ثم ذكر تعالى أحوال المخلفين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وموقف المثبطين المنافقين منهم فقال ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً﴾ أي لو كان ما دعوا إِليه غُنماً قريباص سهل المنال ﴿وَسَفَراً قَاصِداً﴾ أي وسفراً وسطاً ليس ببعيد ﴿لاَّتَّبَعُوكَ﴾ أي لخرجوا معك لا لوجه الله بل طمعاً في الغنيمة ﴿ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾ أي ولكن بعدت عليهم الطريق والمسافة الشاقة ولذلك اعتذروا عن الخروج لما في قلوبهم من النفاق ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ أي وسيحلفون لكم معتذرين بأعذار كاذبة لو قدرنا على الخروج معكم لما تأخرنا، ولو كان لنا سعة في المال أو قوة في الأبدان لخرجنا للجهاد معكم، قال تعالى رداً عليهم وتكذيباً لهم ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي يوقعون أنفسهم في الهلاك بأيمانهم الكاذبة ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي لكاذبون في دعواهم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ تلطف في عتاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قدم العفو على العتاب إِكراماً له عليه السلام والمعنى سامحك الله يا محمد لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الخرنوج معك بمجرد الاعتذار!! ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين﴾ أي وهلا تركتهم حتى يظهر لك الصادق منهم في عذره من الكاذب المنافق قال مجاهد: نزلت في المنافقين قال أناس منهم استأذنوا رسول الله، فإِن أذن لكم فاقعدوا، وإِن لم يأذن لكم فاقعدوا، فقد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإِن لم يأذن لهم، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه أهل الإِيمان فقال ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ أي لا يستأذنك يا
499
محمد عن الجهاد والغزو من يؤمن بالله واليوم الآخر ﴿أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ أي كراهية الجهاد بالمال والنفس لأنهم يعلمون ما أعده الله للمجاهدين الأبرار من الأجر الجزيل فكيف يتخلفون عنه؟ ﴿والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾ أي عليم بهم لأنهم مخلصون في الإِيمان متقون للرحمن ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ أي إِنما يستأذنك يا محمد المنافقون الذين لم يثبت الإِيمان في قلوبهم ﴿وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ أي شكَّت قلوبهم في الله وثوابه فهم يترددون حيارى لا يدرون ما يصنعون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾ بين يحلون ويحرمون طباق وهو من المحسنات البديعية.
٢ - ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ﴾ استفهام يقصد به الإِنكار والتوبيخ.
٣ - ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي أرضيتم بنعيم الدنيا ولذائذها بدل نعيم الآخرة.
٤ - ﴿فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ أظهر في مقام الإِضمار لزيادة التقرير والمبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها بالنسبة للآخرة.
٥ - ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٦ - ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى﴾ «كلمة الذين كفروا» استعارة عن الشرك كما أن «كلمة الله» استعارة عن الإِيمان والتوحيد.
٧ - ﴿خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ بينهما طباق.
٨ - ﴿بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾ استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة على النفس.
٩ - ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾ خبر يقصد تقديم المسرة على المضرة وقد أحسن من قال: إِن من لطف الله بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب.
فَائِدَة: روي أن أعرابياً قال لابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤدّ زكاتها فويل له، إِنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله ظهرةً للأموال، وما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أزكيه، وأعمل فيه بطاعة الله تعالى!!
تنبيه: دلت الآية ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ﴾ على عظيم فضل الصديق وجليل قدره، إِذ جعله الله صاحب الرسول في الغار، ورفيقه في الهجرة، ولهذا قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لأنه رد كتاب الله تعالى.
500
لطيفَة: عن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت عليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إِليك قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي: استنفرنا الله خفاقاً وثقالاً، ألا إِنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإِنما يبتلي الله من بعاده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
أقول: رحم الله تلك الأنفس الزكية التي باعت أرواحها مي مرضاة الله تعالى.
501
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المنافقين وتاطؤهم عن الخروج للجهاد، ذكر هنا بعض أعمالهم
501
القبيحة من الكيد، والمكر، وإِثارة الفتن بين المسلمين، والفرح بأذاهم، وذكر تعالى أنهم لو خرجوا مع المؤمنين ما زادوا الجيش إِلا ضعفاً واندحاراً بتفريق الجماعة وتشتيت الكلمة، وذكر كثيراً من مثالبهم وجرائمهم الشنيعة.
اللغَة: ﴿انبعاثهم﴾ الانبعاث: الانطلاق في الأمر ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ التثبيط: رد الإِنسان عن الفعل الذي همَّ به ﴿خَبَالاً﴾ الخبال: الشر والفساد في كل شيء ومنه المخبول للمعتوه الذي فسد عقله ﴿ولأَوْضَعُواْ﴾ الإِيضاع: سرعة السير قال الراجز:
يا ليتني فيها جذع... أخبُّ فيها وأضع
يقال: وضع البعير إِذا أسرع السير، وأوضع الرجل إِذا سار بنفسه سيراً حثيثاً ﴿يَجْمَحُونَ﴾ جمح: نفر بإِسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام ﴿يَلْمِزُكَ﴾ اللمز: العيب يقال: لمزه إِذا غابه قال الجوهري: وأصله الإِشارة بالعين ونحوها ورجل لّماز أي عيَّاب ﴿الغارمين﴾ الغارم: المديون قال الزجاج: أصل الغرم لزوم ما يشق، والغرام العذاب اللازم الشاق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً ولازماً، وسمي الدين غراماً لكونه شاقاً على الإِنسان.
سَبَبُ النّزول: «لما أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخروج إِلى تبوك قال» للجد بن قيس «- وكان منافقاً - يا أبا وهب: هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ فقال يا رسول الله: لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإِني أخشى إِن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذَنْ لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: قد أذنت لك فأنزل الله ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ » الآية.
التفسِير: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾ أي ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك للجهاد أو كانت لهم نية في الغزو لاستعدوا له بالسلاح والزاد، فتركهم الاستعداد دليل على إِرادتهم التخلف ﴿ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم﴾ أي ولكن كره الله خروجهم معك ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل ﴿وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين﴾ أي اجلسوا مع المخلفين من النساء والصبيان وأهل الأعذار، وهو ذم لهم لإِيثارهم القعود على الخروج للجهاد، والآية تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على عدم خروج المنافقين معه إِذ لا فائدة فيه ولا مصلحة بل فيه الاذى والمضرة ولهذا قال ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ أي لو خرجوا معكم ما زادوكم إِلا شراً وفساداً ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾ أي أسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة ﴿يَبْغُونَكُمُ الفتنة﴾ أي يطلبون لكم الفتنة بإِلقاء العداوة بينكم ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي وفيكم ضعفاء قلوب يصغون إِلى قولهم ويطيعونهم ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ أي عالم بالمنافقين علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرهم ﴿لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ﴾ أي طلبوا لك الشر
502
بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك كما فعل ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم يوم أحد ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾ أي دبروا لك المكايد والحيل وأداروا الآراء في إِبطال دينك ﴿حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله﴾ أي حتى جاء نصر الله وظهر دينه وعلا على سائر الأديان ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ أي والحال أنهم كارهون لذلك لنفاقهم ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ أي ومن هؤلاء المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بسبب الأمر بالخروج قال ابن عباس: نزلت في «الجد ابن قيس» حين دعاه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى جلاد بني الأصفر، فقال يا رسول الله: ائذن لي في القعود عن الجهاد ولا تفتني بالنساء ﴿أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ﴾ أي ألا إِنهم قد سقطوا في عين الفتنة فيما أرادوا الفرار منه، بل فيما هو أعظم وهي فتنة التخلف عن الجهاد وظهور كفرهم ونفاقهم قال أبو السعود: وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾ أي لا مفر لهم منها لأنها محيطة بهم من كل جانب إِحاطة السوار بالمعصم، وفيه وعيد شديد ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ أي إِن تصبك في بعض الغزوات حسنة، سواء كانت ظفراً أو غنيمة، يسؤهم ذلك ﴿وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ﴾ أي وإِن تصبك مصيبة من نكبة وشدة، أو هزيمة ومكروه يفرحوا به ويقولوا: قد احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحذر والتيقظ فلم نخرج للقتال من قبل أن يحل بنا البلاء ﴿وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾ أي وينصرفوا عن مجتمعهم وهم فرحون مسرورون ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ أي لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إِلا هو مقدر علينا مكتوب عند الله ﴿هُوَ مَوْلاَنَا﴾ أي ناصرنا وحافظنا ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أي ليفوض المؤمنون أمورهم إِلى الله، ولا يعتمدوا على أحد سواه ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ أي قل لهم هل تنتظرون بنا يا معشر المنافقين إِلا إِحدى العاقبتين الحميدتين: إِما النصر، وإِما الشهادة، وكل واحدة منهما شيء حسن!! ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ أي ونحن ننتظر لكم أسوأ العاقبتين الوخيمتين: أن يهلككم الله بعذابٍ من عنده يستأصل به شأفتكم، أو يقتلكم بأيدينا ﴿فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾ أي انتظروا ما يحل بنا ونحن ننتظر ما يحل بكم، وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ أي قل لهم انفقوا يا معشر المنافقين طائعين أو مكرهين، فمهما أنفقتم الأموال فلن يتقبل الله منكم قال الطبري: وهو أمر معناه الخبر كقوله
﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] والمعنى لن يُتقبل منكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً ﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ تعليل لرد إِنفاقهم أي لأنكم كنتم عتاة متمردين خارجين عن طاعة الله، ثم أكد هذا المعنى بقوله ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ﴾ أي وما منع من قبول النفقات منهم إِلا كفرهم بالله ورسوله {
503
وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} أي ولا يأتون إِلى الصلاة إِلا وهم متثاقلون ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ أي ولا ينفقون أموالهم إِلا بالإِكراه لأنهم يعدونها مغرماً قال في البحر: ذكر تعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر واتبعه بما هو مستلزم له وهو إِتيانهم الصلاة كسالى، وإِيتاء النفقة وهم كارهون، لأنهم لا يرجون بذلك ثواباً ولا يخافون عقاباً، وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما: الصلاة، والنفقة، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا﴾ أي لا تستحسن أيها السامع ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وبما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد، فظاهرها نعمة وباطنها نقمة، إِنما يريد الله بذلك استدراجهم ليعذبهم بها في الدنيا قال البيضاوي: وعذابهم بها بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي ويموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع بزينة الدنيا عن النظر في العاقبة فيشتد في الآخرة عذابهم ﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾ أي ويقسمون بالله لكم إِنهم لمؤمنون مثلكم، وما هم بمؤمنين لكفر قلوبهم ﴿ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ أي ولكنهم يخافون منكم أن تقتلوهم كما تقتلون المشركين، فيظهرون الإِسلام تقية ويؤيدونه بالأَيمان الفاجرة ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً﴾ أي حصناً يلجأون إِليه ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ أي سراديب يختفون فيها ﴿أَوْ مُدَّخَلاً﴾ أي مكاناً يدخلون فيه ولو ضيقاً ﴿لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ أي لأقبلوا إِليه يسرعون إِسراعاً كالفرس الجموح، والمراد من الآية تنبيه المؤمنين إلى أنَّ المنافقين لو قدروا على الهروب منهم ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم فلا تغتروا بأيمانهم الكاذبة أنهم معكم ومنكم ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات﴾ أي ومنهم من يعيبك يا محمد في قسمة الصدقات ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ﴾ أي فإِن أعطيتهم من تلك الصدقات استحسنوا فعلك ﴿وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ أي وإِن لم تعطهم منها ما يرضيهم سخطوا عليك وعابوك قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم غنائم حنين فجاء إِليه رجل من المنافقين يقال له «ذو الخويصرة» فقال: اعدل يا محمد فإِنك لم تعدل فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«ويلك إِن لم أعدل فمن يعدل؟»، الحديث ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ﴾ أي ولو أن هؤلاء الذين عابوك يا محمد رضوا بما أعطيتهم من الصدقات وقنعوا بتلك القسمة وإِن قلَّت قال أبو السعود: وذكرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول كان بأمره سبحانه ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله﴾ أي كفانا فضل الله وإِنعامه علينا ﴿سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾ أي سيرزقنا الله صدقة أو غنيمة أخرى خيراً وأكثر مما آتانا ﴿إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾ أي إِنا إِلى طاعة الله وإِفضاله وإِحسانه لراغبون، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف تقديره لكان خيراً لهم قال الرازي: وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل: لو جئتنا.. ثم لم تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً، ثم ذكر تعالى مصرف الصدقات فقال {إِنَّمَا
504
الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} قال الطبري: أي لا تنال الصدقات إِلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جل ثناؤه والآية تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، والفقير الذي له بُلْغة من العيش، والمسكين الذي لا شيء له قال يونس: سألت اعرابياً أفقير أنت؟ فقال: لا والله بل مسكين، وقيل: المسكين أحسن حالاً من الفقير، والمسألة خلافية ﴿والعاملين عَلَيْهَا﴾ أي الجباة الذين يجمعون الصدقات ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾ هم قوم من أشراف العرب أعطاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتألف قلوبهم على الإِسلام، وروى الطبري عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِنه لأبغض الناس إِلي، فما زال يعطيني حتى إِنه لأحب الناس إِلي ﴿وَفِي الرقاب﴾ أي وفي فك الرقاب لتخليصهم من الرق ﴿والغارمين﴾ أي المديونين الذين أثقلهم الدين ﴿وَفِي سَبِيلِ الله﴾ أي المجاهدين والمرابطين وما تحتاج إِليه الحرب من السلاح والعتاد ﴿وابن السبيل﴾ أي الغريب الذي انقطع في سفره ﴿فَرِيضَةً مِّنَ الله﴾ أي فرضها الله جل وعلا وحددها ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بمصالح العباد، حكيم لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة قال في التسهيل: وإِنما حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه في المعنى بآية اللمز في الصدقات.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾ بينهما جناس الاشتقاق وكذلك في قوله ﴿اقعدوا مَعَ القاعدين﴾.
٢ - ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾ قال الطيبي: فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة إِفسادهم ذات البين بالنميمة بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإِيضاع وهو للإِبل، والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم.
٣ - ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾ فيه استعارة حيث شبه وقوعهم في جهنم بإِحاطة العدو بالجند أو السوار بالمعصم، وإيثار الجملة الإِسمية للدلالة على الثبات والاستمرار.
٤ - ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ..﴾ الآية فيها من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
٥ - ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ تقديم الجار والمجرور على الفعل لإِفادة القصر، وإِظهار الاسم الجليل مكان الاضمار لتربية الروعة والمهابة.
٦ - ﴿طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ بينهما طباق وكذلك بين الرضا والسخط في قوله ﴿رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾.
٧ - ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ صيغة فعيل للمبالغة أي عظيم العلم والحكمة.
لطيفَة: قال الزمخشري في قوله تعالى ﴿وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين﴾ هذا ذم لهم وتعجيز
505
وإِلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت على حد قول القائل:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيبٌ إِن ذا لعجيب
وما تغني ديارٌ قريبة إِذا لم يكن بين القلوب قريب
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإِنك أنت الطاعم الكاسي
تنبيه: قال ابن كثير: لما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة رمته العرب عن قوسٍ واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال ابن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه - يعني أقبل - فدخلوا في الإِسلام ظاهراً، ثم كلما أعز الله الإِسلام وأهله، أغاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.
506
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين توضيحاً لخطرهم، وتحذيراً للمؤمنين من مكائدهم، وفي هذه الآيات ذكر تعالى نوعاً آخر من قبائحهم، وهو إِيذاؤهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإِقدامهم على الإِيمان الكاذبة، واستهزاؤهم بآيات الله وشريعته المطهرة، إِلى غير ما هنالك من الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة.
اللغَة: ﴿أُذُنٌ﴾ قال الجوهري: قال رجل أذن إِذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع وقال الزمخشري: الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع. قال الشاعر:
قد صرت أذناً للوشاة سميعة... ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
﴿يُحَادِدِ﴾ المحادة: المخالفة والمعاداة كالمشاقة وهي أن يكون كل واحد من المتخاصمين في حد وشق غير ما عليه صاحبه ﴿بِخَلاقِهِمْ﴾ الخلاق: النصيب كقوله ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ [البقرة: ٢٠٠] وقد تقدم ﴿وَخُضْتُمْ﴾ الخوض: الدخول في اللهو والباطل وهو مستعار من الخوض في الماء ﴿حَبِطَتْ﴾ بطلت وذهب ثوابها ﴿والمؤتفكات﴾ الائتفاك: الانقلاب ويراد بهم قوم لوط لأن أرضهم ائتكفت بهم أي انقلبت، وقيل هو مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر كقول ابن الرومي:
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة... أعاليها بل أن تسود الأراذل
سَبَبُ النّزول: أ - كان جماعة من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون فيه ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإِنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال «الجلاس بن سويد» : نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإِنما محمد أذن سامعة فأنزل الله ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ... ﴾.
ب - قال مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي سرنا فأنزل الله ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي﴾ أي ومن المنافقين أناس يؤذون الرسول بأقوالهم وأفعالهم ﴿وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ أي يصدّق بكل خبرٍ يسمعه ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾ أي هو أذن خير لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إِذا سمعه ﴿يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي
507
يصدِّق الله فيما يقول، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به لعلمه بإِخلاصهم ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾ أي وهو رحمة للمؤمنين لأنه كان سبب إِيمانهم ﴿والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي والذين يعيبون الرسول ويقولون ما لا يليق بجنابه الشريف لهم عذاب موجع في الآخرة ﴿يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا شيئاً فيه انتقاص للرسول ليرضوكم بتلك الأيمان ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإِرضاء، ولا يكون ذلك إِلا بالطاعة، والمتابعة، وتعظيم أمره عليه السلام ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إِن كانوا حقاً مؤمنين فليرضوا الله ورسوله ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أنه من يعادي ويخالف الله والرسول، والاستفهام للتوبيخ ﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا﴾ أي فقد حق دخوله جهنم وخلوده فيها ﴿ذلك الخزي العظيم﴾.
أي ذلك هو الذل العظيم، والشقاء الكبير، المقرون بالفضيحة حيث يفتضحون على رءوس الأشهاد ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم﴾ أي يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تكشف عما في قلوبهم من النفاق ﴿قُلِ استهزءوا﴾ أي استهزئوا بدين الله كما تشتهون وهو أمر للتهديد كقوله ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ﴿إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق، قال الزمخشري: كانوا يستهزئون بالإِسلام ويحذرون أن يفضحهم الله بالوحي، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إِلا شر خلق الله، ولوددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب، في حقك وفي حق الإِسلام، ليقولون لك ما كنا جادين، وإِنما كنا نمزح ونلعب للترويح عن النفس قال الطبري: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسير في غزوته إِلى تبوك وبين يديه ناس من المنافقين، فقالوا: انظروا إِلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات!! فأطلع الله نبيه فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله: إِنما كنا نخوض ونلعب فنزلت ﴿قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾ أي قل لهؤلاء المنافقين: أتستهزئون بدين الله وشرعه، وكتابه ورسوله؟ والاستفهام للتوبيخ، ثم كشف تعالى أمرهم وفضح حالهم فقال ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ أي لا تعتذروا بتلك الأيمان الكاذبة فإِنها لا تنفعكم بعد ظهور أمركم، فقد أظهرتم الكفر بإِيذاء الرسول بعد إظهاركم الإِيمان ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ﴾ أي إِن نعف عن فريقٍ منكم لتوبتهم وإِخلاصهم ﴿نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ أي نعذب فريقاً آخر لأنهم أصروا على النفاق والإِجرام ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ أي المنافقون والمنافقات صنف واحد، وهم متشابهون في النفاق والبعد عن الإِيمان، كتشابه أجزاء الشيء الواحد قال في الكشاف: وأريد بقوله ﴿بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم ﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ [التوبة: ٥٦] ثم وصفهم بما يدل على مخالفة حالهم لحال المؤمنين فقال {يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ
508
عَنِ المعروف} أي يأمرون بالكفر والمعاصي وينهون عن الإِيمان والطاعة ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي يمسكون أيديهم عن الانفاق في سبيل الله ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ أي اتركوا طاعته فتركهم من رحمته وفضله وجعلهم كالمنسيين ﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي الكاملون في التمرد والعصيان، والخروج عن طاعة الرحمن، وكفى به زجراً لأهل النفاق ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ﴾ أي وعد الله المنافقين والمتجاهرين بالكفر بإِصلائهم في نار جهنم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ماكثين فيها أبداً ﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ أي هي كفايتهم في العذاب، إِذ ليس هناك عذاب يعادلها ﴿وَلَعَنَهُمُ الله﴾ أي أبعدهم من رحمته وأهانهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أي دائم لا ينقطع ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ﴾ أي حالكم يا معشر المنافقين كحال من سبقكم من المكذبين، وفيه التفات من الغيبة إِلى الخطاب ﴿أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً﴾ أي كانوا أقوى منكم أجساماً وأشد بطشاً ﴿وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً﴾ أي وكانوا أوفر أموالاً، وأكثر أولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ﴾ أي تمتعوا بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ﴾ أي استمتعتم بملاذ الدنيا وشهواتها كما استمتع أولئك الذين سبقوكم بنصيبهم منها ﴿وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا﴾ أي وخضتم في الباطل والضلال كما خاضوا هم فيه قال الطبري: المعنى سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بالدنيا كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، وخضتم في الكذب والباطل على الله كخوض تلك الأمم قبلكم، فاحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حل بهم ﴿أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من قبيح الفعال ذهبت أعمالهم باطلاً فلا ثواب لها إِلا النار ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون﴾ أي وأولئك هما الكاملون في الخسران ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السابقين حين عصوا الرسل ماذا حلَّ بهم من العقوبة؟ ﴿قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ أي قوم نوح الذين أهلكوا بالطوفان وقوم هود «عاد» الذين أهلكوا بالريح، وقوم صالح «ثمود» الذين أهلكوا بالصيحة ﴿وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ﴾ الذين أهلكوا بسلب النعمة ﴿وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ﴾ قوم شعيب الذين أهلكوا بعذاب يوم الظلة ﴿والمؤتفكات﴾ قرى قوم لوط الذين انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات﴾ أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات فكذبوهم ﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أي فما أهلكهم الله ظلماً إِنما أهلكهم بإِجرامهم ﴿ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي، أفأمن هؤلاء المنافقون أن يُسلك بهم في الانتقام سبيل أسلافهم المكذبين من أهل الإِجرام؟ ولما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أعقبها بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أي هم إِخوة في الدين يتناصرون ويتعاضدون ﴿يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ أي يأمرون الناس بكل خيرٍ وجميلٍ يرضي الله، وينهونهم على كل قبيح يسخط الله، فهم على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاة﴾ أي
509
يؤدونها على الوجه الكامل ﴿وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ أي يُعطونها إلى مستحقيها ابتغاء وجه الله ﴿وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي في كل أمر ونهي ﴿أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله﴾ أي سيدخلهم في رحمته، ويفيض عليهم جلائل نعمته ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ أي غالب لا يٌغلب من أطاعه ويذل من عصاه ﴿حَكِيمٌ﴾ أي يضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة، في النعمة والنقمة ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي وعدهم على إِيمانهم بجنات وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي لابثين فيها أبداً، لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي ومنازل يطيب فيها العيش في جنات الخلد والاقامة قال الحسن: هي قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ أي وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، وفي الحديث يقول الله تعالى لأهل الجنة:
«يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من خلقك! فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» ﴿ذلك هُوَ الفوز العظيم﴾ أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا سعادة بعده ﴿ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾ قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان ﴿واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ أي اشدد عليهم بالجهاد والقتال والارعاب ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي مسكنهم ومثواهم جهنم ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي بئس المكان الذي يصار إِليه جهنم ﴿يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ﴾ أي يحلف المنافقون أنهم ما قالوا الذي بلغك عنهم من السب قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي، وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وانصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال ابن سلول للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل «سمن كلبك يأكلك» فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأرسل إليه يسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الآية ﴿وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر﴾ هي قول ابن سلول «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» ﴿وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾ أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ قال ابن كثير: هم نفر من المنافقين همّوا بالفتك بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند عودته من تبوك وكانوا بضعة عشر رجلاً ﴿وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾ أي ما عابوا على الرسول وما له عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته، ويُمن سعادته، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب.
. ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة فقال ﴿فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ﴾ أي فإِن يتوبوا عن النفاق يكن رجوعهم وتوبتهم خيراً لهم وأفضل ﴿وَإِن يَتَوَلَّوْا﴾ أي يعرضوا ويصروا على النفاق ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي يعذبهم عذاباً شديداً ﴿فِي الدنيا والآخرة﴾ أي في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار وسخط الجبار ﴿وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي ليس لهم من ينقذهم من العذاب، أو يشفع لهم فيخلصهم وينجيهم يوم الحساب.
510
البَلاَغَة: ١ - ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ أصله هو كالأذن يسمع كل ما يقال له، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه فصار تشبيهاً بليغاً مثل زيد أسد.
٢ - ﴿يُؤْذُونَ رَسُولَ الله﴾ أبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً ﴿يُؤْذُونَه﴾ تعظيماً لشأنه عليه السلام وجميعاً له بين الرتبتين العظيمتين «النبوة والرسالة» وإِضافته إِليه زيادة في التكريم والتشريف.
٣ - ﴿ذلك الخزي العظيم﴾ الإِشارة البعيدة عن القريب للإيذان ببعد درجته في الهول والفظاعة.
٤ - ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجودة والكرم.
٥ - ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ من باب المشاكلة لأن الله لا ينسى أي تركوا طاعته فتركهم تعالى من رحمته.
٦ - ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ إِلتفات من الغيبة إِلى الخطاب لزيادة التقريع والعتاب.
٧ - ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ... ﴾ الآية فيه إِطناب والغرض منه الذم والتوبيخ لاشتغالهم بالمتاع الخسيس، عن الشيء النفيس.
٨ - ﴿وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله... ﴾ في الآية تأكيد المدح بما يشبه الذم على حد قول القائل «ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم» البيت.
فَائِدَة: روى ابن كثير عن علي كرم الله وجهه قال: بُعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأربعة أسياف: سيف للمشركين ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر..﴾ [التوبة: ٢٩] وسيف لأهل الكتاب ﴿جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾ وسيفٍ للمنافقين ﴿جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾ وسيف للبغاة ﴿فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله﴾ [الحجرات: ٩].
لطيفَة: قال الإِمام الفخر: لما وصف تعالى المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض، ذكر بعده خمسة أمور بها يتميز المؤمن، عن المنافق، فالمنافق يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ولا يقوم إِلى الصلاة إِلا بكسل، ويبخل بالزكاة وسائر الواجبات، وإِذا أُمر بالمسارعة إِلى الجهاد فإِنه يتخلف ويثبط غيره، والمؤمن بالضد منه فإِنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويؤدي الصلاة على الوجه الأكمل، ويؤتي الزكاة، ويسارع إِلى طاعة الله ورسوله، ولهذا قابل تعالى بين صفات المؤمنين، وصفات المنافقين بقوله ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ كما يقابل في الجزاء بين نار جهنم والجنة فكانت مقابلة لطيفة.
511
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم، باعتبار خطرهم الداهم عن الإِسلام والمسلمين.
512
اللغَةَ: ﴿أَعْقَبَهُمْ﴾ قال الليث: يقال أعقبت فلاناً ندامة إِذا صارت عاقبة أمره ذلك، ويقال: أكل أكلة أعقبته سقماً أي حصل له بها السقم قال الهذلي:
أودى بني وأعقبوني حسرة... بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
﴿سِرَّهُمْ﴾ السر: ما ينطوي عليه الصدر ﴿نَجْوَاهُمْ﴾ النجوى: ما يكون بين شخصين أو أكثر من الحديث مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي، كأن المتناجين منعاً إِدخال غيرهما معهما ﴿يَلْمِزُونَ﴾ يعيبون واللمز: العيب ﴿المخلفون﴾ المخلف، المتروك الذي تخلف عن الجهاد ﴿الطول﴾ الغنى ﴿المعذرون﴾ جمع معذر كمقصِّر وهو الذي يعتذر بغير عذر قال الجوهري: هو الذي يعتذر بالكذب وأصله من العذر وفي الأمثال «أُعذر من أنذر» أي بالغ في العذر من تقدم إِليك فأنذرك.
سَبَبُ النّزول: أ - «روي أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزال يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه فأخبروه يخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ..﴾ الآية» فهلك في خلافة عثمان.
ب - عن ابن عمر قال: «لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت» فقيل لي ﴿استغفر لَهُمْ﴾ الآية ولو أعلم أني زدت على السبعين غفر له زدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه ﴿لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ﴾ أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين﴾ أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله ﴿بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ أي جعل الله
513
عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله ﴿بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ﴾ أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح ﴿وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ ﴿وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب﴾ أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟ ﴿الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزءون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءٌ، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة ﴿فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾ أي فرح المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخالفة له حين سار وأقاموا ﴿وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق ﴿وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر﴾ أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإِنما قال ﴿وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ على قوله «وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو» إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعلى رداً عليهم ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً﴾ أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر
514
جهنم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل ﴿لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف وهذا ولكنهم «كالمستجير من الرمضاء بالنار» ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً﴾ أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي جزاءً لهم ما اجترحوا من فنون المعاصي ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾ أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر ﴿فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ﴾ أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً﴾ أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً ﴿وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك ﴿فاقعدوا مَعَ الخالفين﴾ أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة ﴿وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾ أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيادة والدعاء ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان، نزلت في ابن سلول ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ﴾ أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا﴾ أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن ﴿أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ﴾ أي بأن آمنوا بالله بصدقٍ ويقين، وجاهدوا مع رسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين ﴿استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ﴾ أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير ﴿وَقَالُواْذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين﴾ أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت ﴿وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ﴾ أي ختم عليها ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة ﴿لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم
515
يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً ﴿وأولئك لَهُمُ الخيرات﴾ أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي الفائزون بالمطلوب ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي لايثين في الجنة أبداً ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا فوز راءه ﴿وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب﴾ أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار تخلفوا عن الجهاد ﴿لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم «أسد» و «غطفان» استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال ﴿وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم ﴿سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى﴾ أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم ﴿وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾ أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد ﴿حَرَجٌ﴾ أي إِثم في القعود ﴿إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار ﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ﴾ أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل قال في التسهيل: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحملهم عليه قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون ﴿قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً﴾ أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن ﴿أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند رسول الله ما يحملهم عليه ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ﴾ أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنونك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة ﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَعْلَمُ... عَلاَّمُ الغيوب﴾ بين يعلم وعلام جناس الاشتقاق.
516
٢ - ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ التنوين في عذابٌ للتهويل والتفخيم.
٣ - ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ بينهما طباق السلب، وقد خرج الأمر عن حقيقته إِلى التسوية.
٤ - ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
٥ - ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي بعد رجيل الرجال ففيه استعارة، وإِنما سمي النساء خوالف تشبيهاً لهن بالخوالف وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحي فشبههن لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت.
٦ - ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ هو من عطف الخاص على العام اعتناءً بشأنهم أفاده الألوسي.
فَائِدَة: قال الزمخشري عند قوله تعالى ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ لفظ السبعين جارٍ مجرى المثل في كلام العرب للتكثير قال علي بن أبي طالب.
لأصبحن العاص وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدي النواصي
فذكرها ليس لتحديد العدد، وإِنما هو المبالغة جرياً على أساليب العرب.
تنبيه: إِنما منع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة على المنافقين، لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.
لطيفَة: «اشتهر» حذيفة بن اليمان «بأنه صاحب سر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِني مسرٌ إِليك سراً فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، نْرهط ذوي عدد من المنافقين، ولذلك كان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يأتيه فيقول: أسألك باللهِ هل عدَّني رسول الله من المنافقين».
517
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن المنافقين، الذين تخلفوا عن الجهاد وجاءوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، وقد ذكر تعالى من مكائد المنافقين «مسجد الضرار» الذي بنوه ليكون وكراً للتآمر على الإسلام والمسلمين، وحذر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة فيه، لأنه لم يشيد على أساس من التقوى، وإِنما بني ليكون مركزاً لأهل الشقاق والنفاق، ولتفريق وحدة المسلمين، وقد اشتهر باسم مسجد الضرار.
اللغَة: ﴿انقلبتم﴾ رجعتم ﴿رِجْسٌ﴾ الرجس: الشيء الخبيث المستقذر، وقد يطلق على النجس ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوى إِليه ليلاً ونهاراً ﴿الأعراب﴾ جمع أعرابي قال أهل اللغة: يقال رجل عربي إِذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب، ورجل أعرابي إِذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب ﴿أَجْدَرُ﴾ أولى وأحق ﴿مََغْرَماً﴾ المغرم: الغرم والخسران وأصله من الغرام وهو لزوم الشيء ﴿مَرَدُواْ﴾ ثبتوا واستمروا وأصل الكلمة من اللين والملامسة
518
والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها، وغصن أمرد ولا ورق عليه، وغلام أمرد لا لحية له ﴿مُرْجَوْنَ﴾ الإِرجاء: التأخير يقال: ارجأته أي أخرته ومنه المرجئة لأنهم أخروا العمل ﴿ضِرَاراً﴾ الضرار: محاولة الضر وفي الحديث «لا وضر ولا ضرار» ﴿إِرْصَاداً﴾ الإِرصاد: الترقب والانتظار يقال أرصدت له كذا إِذا أعددته مرتقباً له به ﴿شَفَا﴾ الشفا: الحرف والشفير ومنه أشفى على كذا إذا دنا منه ﴿جُرُفٍ﴾ : ما تجرفه السيول من الأودية ويبقى على الأطراف طين مشرف على السقوط وأصله من الجرف وهو اقتلاع الشيء من أصله ﴿هَارٍ﴾ ساقط يقال: تهور البناء إِذا سقط وأصله هائر.
سَبَبُ النّزول: «روي أن» أبا عامر الراهب «قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاداه لأنه ذهبت رياسته وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم - وسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا عامر الفاسق - فلما انهزمت هوازن في حنين خرج إِلى الشام، وأرسل إِلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنو لي مسجدا فإِني ذاهب إِلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجداً إِلى جانب مسجد قباء، وأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: إِنا بنينا مسجداً لذي العِلة، والحاجة، والليلة المطيرة، وإِنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فدعا بثوبه ليلبسه فيأتيهم فنزل عليه القرآن، وأخبر الله رسوله خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض الصحابة وقال لهم: انطلقوا إِلى هذا المسجد الظالم وأهله واحرقوه، فذهبوا إِليه فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله، وفيه نزلت ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً... ﴾ الآية».
التفسِير: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غوزة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون ﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ أي قد أخرنا الله بأحوالكم وما فيه من ضمائركم من الخبث والنفاق ﴿وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية ﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل ﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ﴾ أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون ﴿إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ﴾ أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة ﴿لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي جزاءً
519
لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾ كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم ﴿فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾ أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة ﴿الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً﴾ الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح ﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ﴾ أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع قال في البحر: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بخلقه حكيم في صنعه ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾ أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر﴾ أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالهم عليهم بأفعالهم ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله﴾ أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته ﴿وَصَلَوَاتِ الرسول﴾ أي دعاء الرسول واستغفاره له ﴿ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾ أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين ﴿سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ﴾ أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة ﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار﴾ أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة ﴿والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾ أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ وعدٌ بالغفران والرضوان أي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم قال الطبري: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لطاعتهم وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار﴾ أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي مقيمين فيها من غير انتهاء ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه قال في
520
البحر: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال ﴿ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾ وهناك قال ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار﴾ وهنا ختم ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وهناك ختم ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ﴾ أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾ أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً ﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ أي لجوا في النفاق واستمروا عليه قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة ﴿عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ أي لعل الله يتوب عليهم قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوضار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم قال ابن عباس: ﴿سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ رحمة لهم ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لقولهم عليهم بنياتهم ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، ﴿وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ أي يتقبلها ممن أخلص النية ﴿وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله
﴿غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب﴾ [غافر: ٣] ﴿وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون﴾ صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
521
عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بأحوالهم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ [التوبة: ١١٨] وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم «مسجد الضرار» ﴿وَكُفْراً﴾ أي نصرة للكفر الذي يخفونه ﴿وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين﴾ أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء ﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى﴾ أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد، ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾ أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى﴾ اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ أي من أول يوم ابتدئ في بنائه ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي ﴿والله يُحِبُّ المطهرين﴾ أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، ثم أشار تعالى إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾ الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة ﴿خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ ﴿فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ أي فسقط به البناء في نار جهنم ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يوافق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار أو شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه،
522
يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم ﴿إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿الغيب والشهادة﴾ بين الكلمتين طباق.
٢ - ﴿لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾ الإِظهار في مضع الإِضمار لزيادة التشنيع والتقبيح وأصله لا يرضى عنهم.
٣ - ﴿سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ﴾ فيه مجاز مرسل أي يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة وهو من إِطلاق الحال وإِرادة المحل.
٤ - ﴿عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ بين ﴿صَالِحاً سَيِّئاً﴾ طباق.
٥ - ﴿إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ فيه تشبيه بليغ حيث جعل الصلاة نفس السكن والاطمئنان مبالغة وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
٦ - ﴿هَارٍ فانهار﴾ بينهما جناس ناقص وهو من المحسنات البديعية.
٧ - ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى﴾ في الكلام استعارة مكنية حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يعتمد عليها البنيان وطوي ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس.
تنبيه: كلمة «عسى» من الله واجب قال الإِمام الرازي: وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إِذا الشمس المحتاج منه شيئاً فإِنه لا يجيبه إِلا على سبيل الترجي مع كلمة «عسى» أو «لعل» تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمه بشيء، بل كل ما يفعله فإِنما هو على سبيل التفضل والتطول، وفيه فائدة أخرى وهو أن يكون المكلف على الطمع والإِشفاق لأنه أبعد من الإِتكال والإِهمال.
لطيفَة: روى الأعمش أن أعرابياً جلس إِلى «زيد بن صوحان» وهو يحدث أصحابه - وكانت يده أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إِن حديثك ليعجبني، وإِن يدك لتريبني! قال زيد: ما يريبك من يدي إِنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد:
523
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال المنافقين، المتخلفين عن الجهاد، المثبطين عنه، ذكر صفات المؤمنين المجاهدين، الذين باعوا أنفسهم لله.. ثم ذكر قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتوبة الله عليهم، وختم السورة بتذكير المؤمنين بالنعمة العظمى، ببعثة السراج المنير، النبي العربي، الذي أرسله الله رحمة للعالمين.
اللغَة: ﴿أَوَّاهٌ﴾ كثير التأوه ومعناه الخاشع المتضرع، يقال: تأوه الرجل تأوهاً إِذا توجع قال الشاعر:
إِذا ما قمت أُحلها بليلٍ... تأوه آهة الرجل الحزين
﴿حَلِيمٌ﴾ الحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنب ويصبر على الأذى ﴿العسرة﴾ الشدة وصعوبة الأمر وتسمى غزوة تبوك «غزوة العسرة» لما فيها من المشقة والشدة ﴿يَزِيغُ﴾ الزيغ: الميل: يقال زاغ قلبه إِذا مال عن الهدى والإِيمان ﴿ظَمَأٌ﴾ الظمأ: شدة العطش ﴿نَصَبٌ﴾ النصب: الإِعياء والتعب ﴿مَخْمَصَةٌ﴾ مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ﴿يَنَالُونَ﴾ يصيبون، نال الشيء إِذا أدركه وأصابه ﴿غِلْظَةً﴾ شدة وقوة وحمية ﴿عَزِيزٌ﴾ صعب وشاق ﴿عَنِتُّمْ﴾ العنت: الشدة والمشقة.
سَبَبُ النّزول: أ - «لما بايع الأنصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة - وكانوا سبعين رجلاً - قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإِذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل» فنزلت ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ... ﴾ الآية.
ب - لما حضرت أبا طالب الوفاة، «دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم قل» لا إِله إِلا الله «كلمة لك بها عند الله، فقال أبو جهل وابن أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول» لا إِله إِلا الله «فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ... ﴾ » ونزلت ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
التفسِير: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ أي اشترى أموال
525
المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائع فيه المؤمن، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم ﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً﴾ أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً ﴿فِي التوراة والإنجيل والقرآن﴾ أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة «التوراة، والإِنجيل، والقرآن» ﴿وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ﴾ الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ ﴿مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ أي أبشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح ﴿وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه ﴿التائبون العابدون الحامدون﴾ كلا مستأنف قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإِن لم يجاهدوا كقوله
﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [النساء: ٩٥] والمعنى التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء والضراء ﴿السائحون﴾ أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار ﴿الراكعون الساجدون﴾ أي المصلون ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر﴾ أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن الفساد والردى ﴿والحافظون لِحُدُودِ الله﴾ أي المحافظون على فرائض الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام قال الطبري: أي المؤدون فرائض الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ أي بشرهم بجنات النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين ﴿وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى﴾ أي ولو كان المشركون أقرباء لهم ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم﴾ أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي طالب ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ﴾ هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ [مريم: ٤٧] وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ
526
مِنْهُ} أي فلما تبين لإِبراهيم أن أباه مصرّ على الكفر ومستمر على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ﴾ أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب ﴿حَلِيمٌ﴾ أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله
﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم: ٤٦] فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك قال أبو حيان: ولما اكن استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً﴾ نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ أي بعد أن وفقهم للإِيمان ﴿حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال ﴿إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي بيده وحده حياتهم وموتهم ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه املك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى، ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا إِياه ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار﴾ أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك، حيث تباطأ بعضهم، وتثاقل عن الجهاد آخرون، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ﴿الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة﴾ أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى تبوك في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فقد أبو بكر يا رسول الله: إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها
527
جاوزت العسكر ﴿مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾ أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب، لما نالهم من المشقة والشدة ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي لطيف رحيم بالمؤمنين ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو، وهم «كعب، وهلال، ومرارة» ﴿حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي ضاقت عليهم مع سعتها ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾ أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب
«أن الرسول عليه السلام دار لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم» ﴿وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ﴾ أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾ أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها ﴿إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله﴾ عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام، بل عليهم أن يفدوه بالمُهَج والأرواح، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب قال الزمخشري: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، وتهييج لمتابعته عليه السلام ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش ﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾ أي ولا تعب ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾ أي ولا مجاعة ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ أي في طرق الجهاد ﴿وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً﴾ أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم ﴿يَغِيظُ الكفار﴾ أي يغضب الكفار وطؤها ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾ أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله ﴿إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ قال ابن عباس: تمرة فما فوقها ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً﴾ أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾ أي أثبت لهم أجر ذلك ﴿لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم قال الألوسي: على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن، وهو سبحانه اختار لهم أحسن
528
جزاء ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد، روي عن ابن عباس أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ أي فإِذا لم يكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾ أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه قال الألوسي: وكان الظاهر أن يقال
﴿ليعلموا﴾ [الكهف: ٢١] بدل ﴿َلِيُنذِرُواْ﴾ و ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ﴾ بدل ﴿يَحْذَرُونَ﴾ لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم: الإِرشاد والإِنذار، وغرض المتعلم: اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار﴾ أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا إلى غيرهم، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد ﴿وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ أي من سور القرآن ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء: أيكم زادته هذه إِيماناً؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون: أي عجب في هذا وأي دليل في هذا؟ يقول تعالى ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ أي فأما المؤمنون فزداتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً ﴿وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي ماتوا على الكفر ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي؟ ﴿ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا﴾ أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا ﴿صَرَفَ الله قُلُوبَهُم﴾ جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي لقد جاءكم أيها
529
القوم رسول عظيم القدر، من جنسكم عربي قرشي، يُبلغكم رسالة الله ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي حريص على هدايتكم ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين، شديد الشفقة والرحمة عليهم قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله﴾ أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود سواه ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره ﴿وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء، لكونه أعظم الأشياء؛ الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿إِنَّ الله اشترى﴾ استعارة تبعية شبه بذلهم الأموال والأنفس وإِثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء.
٢ - ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ فيه جناس ناقص لاختلافهما في الشكل وهو من المحسنات البديعية.
٣ - ﴿الراكعون الساجدون﴾ يعني المصلون فيه مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
٤ - ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ الإِظهار في مقام الإِضمار للاعتناء بهم وتكريمهم.
٥ - ﴿مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٦ - ﴿لِيُضِلَّ... هَدَاهُمْ﴾ بينهما طباق وكذلك بين ﴿يُحْيِي... وَيُمِيتُ﴾ وكذلك ﴿ضَاقَتْ... رَحُبَتْ﴾.
٧ - ﴿التواب الرحيم﴾ من صيغ المبالغة.
٨ - ﴿يَطَأُونَ مَوْطِئاً﴾ جناس الاشتقاق وكذلك ﴿يَنَالُونَ نَّيْلاً﴾.
٩ - ﴿صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ طباق.
١٠ - ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ قال في تلخيص البيان: السورة لا تزيد الأرجاس رجساً، ولا القلوب مرضاً، بل هي شفاء للصدور وجلاء للقلوب، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمىً، وحسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.
تنبيه: «روي أن أبا خيثمة الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحر والريح ﴿ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح فنظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خلفه فإِذا براكب وراء السراب، فقال: كن أبا خيثمة﴾ فكان ففرح به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستغفر له».
530
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
صدق الله ﴿الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ ﴾ الآية، معنى تريبني أي تدخل إِلى قلبي الشك هل قطعت في سرقة وهذا من جهل الأعرابي.