تفسير سورة الهمزة

فتح البيان
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الهمزة
هي تسع آيات، وهي مكية بلا خلاف. قال ابن عباس : نزلت بمكة، وقال المحلي : أو مدنية، والأول أولى.

(ويل) هو مرتفع على الإبتداء، وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة كونه دعاء عليهم، وخبره (لكل همزة لمزة) والمعنى خزي أو عذاب أو هلكة أو واد في جهنم لكل همزة لمزة، والتاء فيهما للمبالغة في الوصف، وقد أطرد أن بناء فعلة لمبالغة الفاعل أي المكثر لمأخذ الاشتقاق، وإذا سكنت العين يكون لمبالغة المفعول، يقال رجل لعنة بفتح العين لمن كان يكثر لعن غيره، ولعنة بسكون العين إذا كان ملعوناً للناس يكثرون لعنه:
قال أبو عبيدة والزجاج الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس، وعلى هذا هما بمعنى، وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح (الهمزة) الذي يغتاب الرجل في وجهه (واللمزة) الذي يغتابه من خلفه، وقال قتادة عكس هذا، وروي عن قتادة ومجاهد أيضاًً أن الهمزة الذي يغتاب الناس في أنسابهم وعن مجاهد أيضاًً أن الهمزة الذي يهمز الناس بيده، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه.
وقال سفيان الثوري يهمزهم بلسانه ويلمزهم بعينه، وقال ابن كيسان الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه، وقيل هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون العيب للبريء.
وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب،
381
ويدخل في ذلك من يحاكي الناس في أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه. والأول أولى.
وأصل الهمزة الكسر يقال همز رأسه كسره، وقيل أصل الهمز واللمز الضرب والدفع، يقال همزه يهمزه همزاً ولمزه يلمزه لمزاً إذا دفعه وضربه.
قرأ الجمهور يقال همزة لمزة بضم أولهما وفتح الميم فيهما، وقرىء بسكون الميم فيهما وقرأ أبو وائل والنخعي والأعمش (ويل للهمزة اللمزة) والآية تعم كل من كان متصفاً بذلك ولا ينافيه نزولها على سبب خاص، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وعن ابن عباس أنه سئل عن همزة لمزة قال: هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الأخوان، وعنه قال همزة طعان ولمزة مغتاب.
وقوله
382
(الذي جمع مالاً وعدده) يدل من كل، أو في محل نصب على الذم، وهذا أرجح لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح أو تعليل لما قبله، وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال، وظنه أنه الفضل فلأجل ذلك يتنقص غيره.
قرأ الجمهور جمع مخففاً وقرىء مثقلاً. قال الرازي الفرق أن التشديد يفيد أنه جمعه من ههنا ومن ههنا ولم يجمعه في يوم واحد، ولا في يومين، ولا في شهر ولا في شهرين، وأن التخفيف لا يفيد ذلك، ونكر (مالاً) للتعظيم أي مالاً بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به.
وقرأ الجمهور (وعدده) مشدداً وقرىء بالتخفيف والتشديد في الكلمتين يدل على التكثير، وهو جمع الشيء بعد الشيء وتعديده مرة بعد أخرى، قال الفراء معنى عدده أحصاه فهو مأخوذ من العد، وقال الزجاج
382
وعدده لنوائب الدهور يقال أعددت الشيء وعددته إذا أمسكته، قال السدي أحصى عدده، وقال الضحاك أعد ماله لمن يرثه، وقيل المعنى فاخر بكثرته وعدده.
والمقصود ذمه على جمع المال وإمساكه وعدم إنفاقه في سبل الخير، وقيل المعنى على قراءة التخفيف في عدده أنه جمع عشيرته وأقاربه، قال المهدوي من خفف وعدده فهو معطوف على المال أي وجمع عدده.
وجملة
383
(يحسب أن ماله أخلده) مستأنفة لتقرير ما قبلها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل جمع أي يعمل عمل من يظن أن ماله يتركه حياً مخلداً لا يموت، وأخلده ماض معناه المضارع أي يخلده، وقال عكرمة يحسب أن ماله يزيد في عمره.
والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ، وقيل هو تعريض بالعمل الصالح وأنه الذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية لا المال، والخلد بالضم البقاء والدوام وبابه دخل، وأخلده الله وخلد تخليداً.
(كلا) ردع له عن ذلك الحسبان أي ليس الأمر كما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده أو معناه حقاً (لينبذن في الحطمة) اللام جواب قسم محذوف أي ليطرحن في النار وليلقين فيها. قرأ الجمهور لينبذن وقرىء لينبذان بالتثنية أي لينبذ هو وماله في النار، وقرىء لينبذن أي لينبذن ماله في النار.
والمعنى تحطم وتكسر كل ما ألقي فيها ففي الحطمة مماثلة لعمله لفظاً ومعنى لأنها على وزن همزة لمزة وفيهما كسر كما فيها، وحطمة من باب ضرب، والتحطيم التكسير والحطمة من أسماء النار لأنها تحطم ما تلتقم.
(وما أدراك ما الحطمة) هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول، وتبلغه الأفهام، قيل هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم وقيل الطبقة الثانية منها، وقيل الطبقة الرابعة.
383
ثم بيّنها سبحانه فقال
384
(نار الله الموقدة) بأمر الله سبحانه التي لا تخمد أبداً ووجب وتحتم إيقادها، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها وتفخيم، وكذلك في وصفها بالإيقاد.
(التي تطلع على الأفئدة) أي يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة بالذكر مع كونها تغشى جميع أبدانهم لأنها محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها لأن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشد تألماً بأدنى أذى يمسه أي أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون كما قال تعالى (لا يموت فيها ولا يحيى) وقيل المعنى أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد من العذاب وذلك بأمارات عرفها الله بها.
(إنها عليهم مؤصدة) أي مطبقة مغلقة كما تقدم بيانه في سورة البلد، يقال أصدت الباب إذا أغلقته، وقال ابن عباس مطبقة، وجمع الضمير في عليهم رعاية لمعنى كل.
(في عمد ممددة) في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم أي كائنين في عمد ممددة موثقين فيها أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم في عمد أو صفة لمؤصدة أي مؤصدة بعمد ممددة.
قال مقاتل أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح.
ومعنى كون العمدة ممددة أنها مطولة وهي أرسخ من القصيرة، وقيل العمد أغلال في جهنم، وقيل القيود، وقال قتادة المعنى هم في عمد يعذبون بها، واختار هذا ابن جرير.
قرأ الجمهور عمد بفتح العين والميم، وقيل هو اسم جمع لعمود، وقيل جمع له، قال الفراء هي جمع لعمود كأديم وأدم، وقال أبو عبيدة هي جمع عماد.
384
وقرىء بضم العين والميم جمع عمود، قال الفراء هما جمعان صحيحان لعمود، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور.
قال الجوهري: العمود عمود البيت وجمع القلة أعمدة وجمع الكثرة عمد وعمد، وقرىء بهما وهما سبعيتان.
قال أبو عبيدة: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد، قال ابن عباس عمد من نار، وقال ابن مسعود هي الأدهم، وعن ابن عباس أيضاًً الأبواب هي الممددة، وعنه قال أدخلهم في عمد فمدت عليهم في أعناقهم فسدت بها الأبواب.
قال ابن جزي: المعنى أن أبواب جهنم أغلقت عليهم بعمد ممدودة على أبوابها تشديداً في الإغلاق، وقيل معناه في دهر ممدود أي لا انقطاع له، قال القشيري أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار تشد تلك الأطباق حتى يرجع عليهم غمها وحرها فلا يدخل عليهم روح.
385
سورة الفيل
هي خمس آيات وهي مكية بلا خلاف، قال ابن عباس نزلت بمكة.
387

بسم الله الرحمن الرحيم

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)
389
Icon