تفسير سورة إبراهيم

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تمهيد :
سورة إبراهيم مكية إلا الآيتين ٢٨، ٢٩، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية، وسميت سورة إبراهيم لما فيها من قصص إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق، وسكن إسماعيل وذريته بجوار بيت الله المحرم، ولكن لم يتخذ شخص إبراهيم عليه السلام محور السورة، كما كان الشأن في سورة يوسف عليه السلام.
ابتدئت السورة الكريمة بالحروف المجردة وهي ( الر ) ثم ذكر الكتاب الكريم وأن الله أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد، وذكرت السورة ملك الله للسموات والأرض وما فيهما، وأن الويل للكافرين بآياته الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، ويصدون عن سبيل الله تعالى ويبغونها معوجة، وأولئك في ضلال مبين.
ويذكر الله سبحانه أنه ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، وهو العزيز الحكيم.
وبعد ذلك يشير الله سبحانه إلى طرف من قصة موسى وقومه، فيذكر سبحانه على لسان موسى بنعمته عليهم إذ أخرجهم من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب، ويبين سبحانه وتعالى أنهم إن شكروا زادهم نعما على نعم، ويقول موسى لقومه ﴿... إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ( ٨ ) ﴾.
ويشير سبحانه من بعد ذلك إلى أبناء قوم نوح وعاد والذين من قبلهم لا يعلمهم إلا الله، جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم، وعضوها غيظا، وقالوا إنما بما أرسلتم به كافرون، وإن لفى شك مما تدعوننا إليه مريب.
ويحكى سبحانه وتعالى دعوة الرسل عامة، ومجاوبة المشركين المتشابهين عامة، قالت لهم رسلهم :﴿... أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى...( ١٠ ) ﴾ فيرد عليهم الكافرون وهو رد متحد عند الكافرين جميعا، قد انبعث عن جحود واحد فاتحد.. قالوا :﴿... إن أنتم إلا بشر مثلنا تريد أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ( ١٠ ) ﴾.
وكان رد الرسل واحدا ﴿... إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( ١١ ) ﴾، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، وما كان لنا أن نأتيكم إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وقد قروا أنهم لا يتوكلون إلا على الله، وليصبرن على أذى أقوامهم.
ولقد كان الإيذاء متحدا من الكافرين، إذ اتحد السبب المنبعث منه وهو الجحود، ﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( ١٣ ) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( ١٤ ) ﴾.
وإنه من بعد ذلك الخزي في الحياة الدنيا يكون العذاب الشديد، ﴿... ويسقى من ماء صديد ( ١٦ ) يتجرعه ولا يكاد يسيغه...( ١٧ ) ﴾.
وقد مثل الله تعالى أعمال الذين كفروا في الكفر بأن ﴿... أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ( ١٨ ) ﴾.
ثم بين بعد ذلك خلق السموات والأرض ﴿... إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ( ١٩ ) وما ذلك على الله بعزيز ( ٢٠ ) ﴾، وقد صور الله سبحانه وتعالى حالهم يوم القيامة، إذ تجادل الضعفاء والذين استكبروا ﴿ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء...( ٢١ ) ﴾، قال الذين استكبروا ﴿... لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ( ٢١ ) ﴾.
ويدخل الشيطان في المجادلة فيقول :﴿... إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ( ٢٢ ) ﴾.
وقد ذكر سبحانه بعد ما كان بين المشركين ضعفاء ومستكبرين والشيطان، ذكر سبحانه وتعالى إدخال المؤمنين الجنة.
﴿ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربه تحيتهم فيها سلام ( ٢٣ ) ﴾.
وقد ضرب سبحانه مثلا يفرق بين الإيمان والكفر بالفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فالكلمة الطيبة ﴿... كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( ٢٤ ) ﴾، والكلمة الخبيثة ﴿... كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ( ٢٦ ) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( ٢٧ ) ﴾.
وذكر سبحانه أن حال الكافرين حال عجيبة تثير الاستفهام، فقد ﴿... بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ( ٢٨ ) جهنم يصلونها وبئس القرار ( ٢٩ ) ﴾ ؛ وذلك لأنهم جعلوا لله أندادا من الحجارة، وقد صاروا بذلك غير مدركين حقائق أمورهم، وجديرون بأن يقال لهم ﴿... تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ( ٣٠ ) ﴾، وذكر في مقابل ذلك المؤمننين الذين لم يبدوا نعمت الله كفرا، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلال.
ولقد ذكر الله نعمه على خلقه، فهو ﴿ الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ( ٣٢ ) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ( ٣٣ ) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ( ٣٤ ) ﴾.
ولقد ذكر الله تعالى بعد ذلك خبرا صادقا عن إبراهيم أبى العرب، وكيف كان يدعو الله ولا يعبد الأصنام، ﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ( ٣٥ ) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( ٣٦ ) ﴾. وأخذ يدعو لذريته في البلاد العربية بسعة الرزق فقال :
﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( ٣٧ ) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( ٣٨ ) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ( ٣٩ ) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ( ٤٠ ) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ( ٤١ ) ﴾.
ذكر الله سبحانه وتعالى أدعية إبراهيم ليكون ذلك تذكيرا لذريته من العرب، ليتركوا الأوثان ويتجهوا إلى الضراعة إلى الله تعالى كضراعة جدهم أبي الأنبياء إبراهيم.
ولقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن الله لا يخلف وعده رسله يوم القيامة، فقال عز من قائل :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( ٤٢ ) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( ٤٣ ) ﴾، وقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه بيوم القيامة، وبما كان قد نزل بمن قبلهم، فقال تعالى :﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ( ٤٤ ) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ( ٤٥ ) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( ٤٦ ) ﴾.
ولقد حذر الله تعالى من نزله وعده، وذكر سبحانه أنه في يوم القيامة يكون الجزاء، تجزى فيه كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب. ﴿ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ( ٥٢ ) ﴾.
معاني السورة الكريمة

تكلمنا في هذه ﴿ الر ﴾ وذكرنا أنها من المتشابه الذي اختص به علم الله تعالى، وأشرنا إلى بعض ما نحاول أن نتعرف به الحكمة في وجوده، وما كان من الله ما يسوغ أن يوصف بأنه جاء لغير حكمة وإن خفيت على العقول جلها أو كلها. وهذه الحروف إذا جاء بعدها ذكر الكتاب كانت مبتدأ والكتاب خبره، وهي هنا كذلك، فقوله تعالى :﴿ الر ﴾ مبتدأه خبره ﴿ كتاب ﴾، ويكون الابتداء فيه إشارة واضحة إلى أن هذا الكتاب مكون من تلك الحروف التي يتكون منها كلامكم، ومع ذلك عجزتهم عن أن تأتوا بمثله، فلا يدل هذا على أنه من عند أمثالكم من البشر، بل من عند خالق البشر، ويرشح لذلك كون الكتاب خبرا لهذه الحروف.
و ﴿ كتاب ﴾ التنكير فيه للتعظيم، والمعنى كتاب عظيم الشأن لا يدرك كنهه، ولا تحيط به أفهام البشر، إلا إذا كان ذلك بتوفيق من الله، وما يعلم تأويله إلا الله، وأضف إلى ذلك ما يقوى مكانته أو يحققها، وهو أمران ذكرهما الله تعالى :
الأمر الأول : أنه أضافه إلى الله تعالى على أنه نازل من لدنه في سموه سبحانه، إلى منتهاه في نزوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو قوله تعالى :﴿ أنزلناه إليك ﴾، وبالإضافة إليه سبحانه بضمير الجمع ؛ لأنه الضمير العائد إلى الله خالق الوجود كله، عاقله وغير عاقله، إنسه وجنه، وهو الحكيم الخبير.
الأمر الثاني الذي يكشف عن عظمة الكتاب : وهو شرف ذاتي فوق شرفه الإضافي بالنسبة إلى الله تعالى، وهو أنه يخرج الناس – إذا أدركوه – من ظلمات الضلال إلى نور الهداية وذلك بتبليغ محمد صلى الله عليه وسلم له، وهذا هو قوله :﴿ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ﴾ فهذا النص السامي يدل على أن القرآن هاد ومرشد يخرج به النبي صلى الله عليه وسلم الناس من الضلال إلى الهدى بإذن الله، ففي ذلك ثلاثة معان : أولها : أن الضلال كالظلمة، وثانيها : أن الهداية كالنور، وثالثها : أن الأمور كلها بتوفيق من الله، فمن سلك الهداية وصل إلى الغاية، ومن سلك طريق الضلال وصل إلى نهاية الضلال البعيد.
وعلى ذلك ففي التعبير بالظلمات والنور استعارة، تشبيه الضلال بالظلمة ؛ لأن السائر فيها كالسائر في ظلام لا يعرف طرقه فيكون في حيرة دائمة لا ينتهى فيها إلى حق واضح ولا إلى طريق لاجب، وشبهت الهداية بالنور ؛ لأن من هداه الله تعالى يكون في نور يعرف به طريقه الهادي المرشد إلى أقوم طريق وأهدى سبيل.
وقد عرف الله سبحانه وتعالى بالبيان إلى أن النور صراط الله العزيز الحميد.
الصراط : الطريق المستقيم، وهو أقرب طريق للوصول إلى الحق، وهو في هذا الوصف العظيم مضاف إلى الله تعالى فيزداد شرفا وتكريما، وهو صراط العزيز الذي لا يقهر، وهو فوق كل شيء والغالب على كل أمر وحده، ومن سلك طريق الحميد، فإن العاقبة فيه محمودة، فهو محمود في ذاته ومحمود في غايته ونهايته.
ومن سلك غيره ذل، ولا يحمد العاقبة، والعاقبة هي السوءى.
وقد ذكر سبحانه القلوب المظلمة، فقال عز من قائل :﴿ الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ( ٢ ) ﴾.
صدر سبحانه الجملة التي فيها كمال سلطان الله تعالى في الوجود بلفظ الجلالة، لتربية المهابة في نفس القارئ ؛ ولأن ذلك يتلاقى مع سلطان الله الكامل، و ﴿ له ما في السموات وما في الأرض ﴾ للدلالة على ملكيته لكل ما في السموات، وتكرار ﴿ ما في ﴾ لدلالة على كمال استغراق الملكية له سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، مالك كل شيء، وذكر سبحانه ملكيته لما في السماء والأرض وذلك يقتضي ملكيته لهما ؛ لأن ملكية ما يشتملان عليه يقتضي – لا محالة - ملكيتهما، إذ ملكية المظروف تقتضي ملكية الظرف، وإن الملكية الكاملة لهذا الوجود كله بما فيه من أجرام، وأحياء عاقلة وغير عاقلة يتضمن أنه يملك الأنداد، وأنها وعبادها في قبضته سبحانه العليم بكل شيء، وفي ذلك برهان قاطع أنها غير جديرة بالعبادة ؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذكر سلطان الله تعالى في الوجود كله، وأنه لا سلطان لغيره ذكر بعض مقتضياته، وهو كفر من يعبد الأوثان، واستحقاقه للعذاب ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وويل للكافرين من عذاب شديد ﴾ الويل : الهلاك، وقال الزجاج : هي كلمة تقال للعذاب والهلاك ﴿ من عذاب شديد ﴾ في ذاته، وفي هذا إنذار ووعيد، والمعنى هلاك لهم من عذاب شديد. وكأن المعنى كما يقول الزمخشري : يولولون من عذاب شديد، ويصيحون قائلين يا ويلاه.
وننبه هنا إلى أمرين :
أولهما : أن ذكر الويل ينزل بالكافرين، هو في مقابل الذين يسلكون صراط العزيز الحميد، من حيث إنهم يكونون في عزة بعزته سبحانه وتعالى : وعاقبتهم محمود بسلوكهم طريقه المحمودة، أما الذين لا يسلكون الطريق ويخالفون مقتضى الملكية الثابتة لله تعالى في السموات والأرض ومن فيهن، فإنهم يكونون في ويل من عذاب شديد.
وثانيهما : الله مالك كل شيء، حتى لقد قرر الفقهاء أم ملكية الناس للأشياء ملكية نسبية وليست ملكية حقيقية ؛ لأن المالك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
وقد بين سبحانه وتعالى صفات الكافرين الذين له الويل من عذاب شديد، لا يكتنه كنهه، ذكر سبحانه أوصافهم الظاهرة، فقال تعالى :
﴿ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ( ٣ ) ﴾.
وصفهم سبحانه وتعالى في هذه الآية بثلاث صفات، وختمها بجزائهم المستحق من هذه الصفات والمترتب عليها :
الصفة الأولى : أنهم ﴿ يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ﴾، ( استحب ) السين والتاء للطلب، فمعنى استحب الحياة، أي طلب حب الحياة الدنيا، وهذا يستفاد منه أولا الرغبة الشديدة في الحياة بمعنى اللجاجة في طلبها، ويستفاد منه ثانيا أنه يختار على الحياة الدنيا، ويترك الآخرة تركا، كم يترك كل مهجور، ولقد قال في ذلك الزمخشري :"هم الذين يستحبون، والاستحباب : الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة ؛ لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب منه نفسه أن يكون أحب إليه وأفضل عنده من الآخرة".
والصفة الثانية : أنهم لا يكتفون بإيثارهم الدنيا على الآخرة، بل يصدون عن سبيل الله، أي يقفون مترصدين السبيل يصدون عنها بمنع الناس منها، وقرأ الحسن البصري ﴿ ويصدون ﴾ بضم الياء وكسر الصاد، والمعنى أنهم أعرضوا عن سبيل الله، وحملوا غيرهم على الإعراض عن سبيل الله تعالى، وذلك بالجمع بين القراءتين، وصدهم عن سبيل الله بالدعوة إلى عدم الدخول، كما كان يذهب أبو لهب إلى حيث النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبائل يكذب النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى الإعراض أو عدم الاستماع، وأشد الصد عن سبيل الله إيذاء المتبعين لسبيل الله وتعذيبهم ليحملوهم على الردة عن دينهم، وسبيل الله هو صراط العزيز الحميد، وهو طريق الحق والهداية وتوحيد الله تعالى.
والصفة الثالثة : أنهم يبغونها عوجا، أي يطلبونها راغبين ملحفين أن تكون معوجة غير مستقيمة، بل يطلبونها ناكبة عن الطريق غير سالكة سواء السبيل، يبغونها زيفا ويطلبون الاعوجاج كما كانوا يريدون محمدا صلى الله عليه وسلم أن يكون عن سب آلهتهم ويدعونه إلى اتباع آبائهم، وكأنه جاء ليردد ما عندهم، لا ليهديهم ويرشدهم إلى الطريق الأقوم.
ولقد بين سبحانه بعد ذلك الوصف الجامع لهم، ولذى سيطر عليهم فقال :﴿ أولئك في ضلال بعيد ﴾ الإشارة إليهم محملين بهذه الأوصاف التي استحبوا بها الحياة الدنيا وصارت خلب أكبادهم وآثروها على الحياة الآخرة، ورضوا بالدنية عن الحياة العزيزة الكريمة في الآخرة، وصدوا عن سبيل الله وبغوا الحق معوجا غير مستقيم ﴿ أولئك في ضلال بعيد ﴾.
الضلال ضد الهداية، وضلال الطريق أن يسير في متاهة يتيه فيها، وكلما أوغل في المتاهة ازداد ضلالة وبعد عن الغاية والنجاة من المتاهة، فهؤلاء بحبهم للدنيا دون الآخرة، وصدهم عن سبيل الله وإرادتهم الزيغ دون الحق أمنعوا في متاهة الباطل، فبعدوا بضلالهم، وغابوا عن الحق وسواء السبيل.
والبعد إما أن يكون وصفا للضلال، ويكون معنى ذلك أنهم أوغلوا في ضلال إيغالا حتى بعدوا عن الطريق السوي الموصل إلى الغاية المنشودة والذي هو طريق السلامة.
وإما أن نقول إنه وصف للضال نفسه، وذكر السياق وصفا للضلال من قبيل المجاز المرسل الذي يجعل المصدر هو الموصوف، والحقيقة أن الوصف هو الضال، والله أعلم.
ولقد بين القرآن الكريم حقيقة ثابتة في الرسالات الإلهية، وهي أن يكون الرسول بلسان قومه، فقال تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ( ٤ ) ﴾.
﴿ من ﴾ هنا لاستغراق النفي ثم الإثبات، أي ما أرسلنا أي رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، وهذا النص الكريم يفيد أنه سبحانه لا يرسل رسولا إلا بلسان قومه الذين بعث من بينهم، وأن البيان الأول يكون لهم ثم ينبعث نور الدعوة من ورائهم، وكذلك كان النبيون، فعيسى عليه السلام بعث بلسان قومه وكانت دعوته بلسان قومه وهو العبرية، وعمت دعوته ابتداء بلسان قومه، والأناجيل التي حكت مواعظه في الجبل والسفح كانت بلغة قومه ابتداء، فإذا كانت قد ظهرت بغير لغته ولغة قومه، بل بلغة أعدائهم فإن السند يكون حينئذ منقطعا بين الرسالة ومن أرسل فيهم، بل بينهم، وبين الرسول ذاته، ولذا كان تحريف القول عن موضعه.
وموسى من قبل عيسى – عليهما السلام – بعث أيضا بلغة قومه وهم بنو إسرائيل ابتداء، ثم كانت لغة فرعون عندما خاطبه هو هارون.
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، قد بعث بلغة قومه الذين كانت دعوته الأولى بينهم وانبعث نورها منهم ولكنها كانت عامة، كما قال تعالى عن نبيه :﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا...( ١٥٨ ) ﴾ [ الأعراف ]، وكما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا...( ٢٨ ) ﴾ [ سبأ ]، وكما قال صلى الله عليه وسلم :"بعثت للأحمر والأسود"١.
وكونه بلسان قومه لا يفيد أنه كان للعرب خاصة، فذلك لما قصته الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الشريفة والوقائع التاريخية الصادقة، فإن دعوته دخل فيها صهيب الرومي، وبلال الحبشي، ثم سلمان الفارسي، وذكر صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء يصورون أجناسهم في الدعوة المحمدية، ولم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عمت دعوته الجزيرة العربية أن بعث إلى هرقل ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المقوقس عظيم القبط، يعوهم إلى الإسلام، وهكذا.
إذن فالدعوة كانت للناس قابطة، ولكنها ككل دعوة حق تبتدئ في أضيق دائرة، ثم تتسع شيئا فشيئا حتى تصير نورا ساطعا يعم الأكوان، فابتدأت الدعوة في أسرة الرسول وأصدقائه ثم دعيت عشيرته، كما قال تعالى :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ( ٢١٤ ) ﴾ [ الشعراء ]، ثم كان الصدع بالدعوة والجهر بها ﴿ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( ٩٤ ) ﴾ [ الحجر ]، ثم كانت في القبائل العربية، ثم تجاوزت ربوع الصحراء العربية إلى أرض كسرى وقيصر وسارت إلى الحبشة بعد أن عمت ربوع اليمن.
وقوله تعالى في مقابل إرسال الرسول عن قومه :﴿ ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ﴾.
ذكر سبحانه أن البيان الأول فيكون لقومه، ثم يكون بعد ذلك لغرهم.
والآن ونحن نرى الاختلاط الفكري بين البشرية، حتى إن الأمر ليقع في أرض فيذيع خبره، بعد أقل من ساعة في كل أنحاء الأرض، لا نعجب في أن يكون بعث الرسول بلغة ويعم علمه بعد ساعة من نهار أو ليل كل بقاع الأرض، ولكن العجب في أن يكون في الماضي البعث بلغة والدعوة عامة، هذا ما أثاره وبينه الزمخشري، وهذا ما قاله سننقله بطوله :
"فإن قلت لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس كافة ﴿ قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا... ( ١٥٨ ) ﴾ [ الأعراف ]، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم يكن للعرب حج فليغيرهم حجة، وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم يكن للعرب حجة أيضا، قلت : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة لنزوله بجميع الألسنة ؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما نرى الحال ونشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك جلائل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكذا القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ؛ ولأنه أبعد من التحريف، وأسلم من التنازع والاختلاف..."٢.
وننتهي من كلام الزمخشري إلى أمرين : أولهما : أن نزول القرآن والدعوة المحمدية كانت باللغة العربية ؛ لأنها كانت لغة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أقرب إليه ؛ ولأن القرآن المعجز إذا كان باللغة عانى غيرهم من حفظ لفظه وتفهم معانيه، وفي ذلك ثواب أولا، وصون للقرآن عن التغيير والتبديل فيه ثانيا.
ويشير إلى أنه لو نزل بكل اللغات، وكان معجزا فيها جميعا لكان الإيمان بالإلجاء لا بالاختيار وله في ذلك نظر.
وإنه يجب أن نلاحظ أمرين :
أولهما : ما قاله الشافعي رضي الله عنه أنه يجب أن يعرف كل مسلم قدرا من اللغة العربية يصحح به دينه.
وثانيهما : أن جعل القرآن باللغة العربية، ومحاولة الأعاجم أن يحفظوه يقرب بين اللغات، وحيث قربت اللغات قربت العلاقات الإنسانية.
وكان ذلك قائما يوم كانت الوحدة العربية قائمة، وكانت اللغة العربية جامعة لهم وفيها دونت ثقافاتهم وكانت وعاء للعلم الإسلامي، فلما انبعثت اللغات الإقليمية من مراقدها ذهبت الوحدة وتفرقت الكلمة.
ونعود إلى الكلام في معنى الآية الكريمة ﴿ ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ﴾، أي أنه يترتب على البيان أن يسير بعض الناس في طريق الضلالة، إذ يكذبون، ولا يصدقون، ويهدي الله تعالى من يسير في طريق الهداية، فيأخذ بيده إلى غايتها.
وهنا يسأل سائل لماذا قدمت الضلالة على الهداية ؟ ونقول في الجواب عن ذلك إن الآيات سبقت لبيان إنذار الضالين، فهم موضع الإنذار ؛ ولأن الشيطان قريب من نفوس البشر ؛ ولأن هؤلاء تجعل حكم الضلال هو الأغلب.
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ لبيان أن الكفار مهما يكن سلطانهم وقوتهم وحسبانهم أنهم لن يغلبوا، ويذهب بهم غرورهم إلى زعم أنهم العالون، فالله تعالى هو واهب العزة، وهو العزيز الذي يذلهم، ويجعل لأهل الإيمان الكلمة العليا، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته، وبعلمه الذي وسع كل شيء، فهو يمهل الكافرين ويملى لهم، كما قال عز من قائل :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ( ٤٥ ) ﴾ [ القلم ] يملى لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
١ من حديث ابن عباس، أخرجه أحمد، ومن مسند بني هاشم – بداية مسند عبد الله بن عباس (٢٦٠٢)..
٢ الكشاف: ٢/ ٣٦٦..
من نبأ موسى عليه السلام
قال تعالى :
ولقد أرسلنا موسى بئايتا أن أخرج قومك من الظلامت إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( ٥ ) وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( ٦ ) وإذ تأذت ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( ٧ ) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ( ٨ ) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا عليه مريب ( ٩ )
في الآية السابقة ذكر سبحانه وتعالى أنه لا يرسل رسولا إلا بلغة قومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويبين لهم فيضل من يضل، ويهتدي من يهتدي، وفي هذه الآية وما يليها من آيات يبين الله إخبار نبي من أولى العزم بعث في قومه، وغيرهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويذكرهم بأيام الله تعالى من وقائع من نزلت بمن سبقهم من الأمم، وما نزل بهم هم من نعم، وهو موسى عليه السلام، وقد أخرج الله على يدي موسى بنى إسرائيل قومه من فرعون وظهرت آياته فيهم، ومع ذلك صلوا من بعده، وفي حياته.
قال تعالى :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ﴾ أكد الله تعالى إرسال موسى إلى قومه ب ( اللام ) و ب ( قد )، وقومه أهم بنو إسرائيل وحدهم أم قوم موسى كل من أرسل إليهم ؟ ظاهر القول بادئ الأمر أنهم بنو إسرائيل ؛ لأنهم قومه وجنسه أو قبيله، ولكن موسى لم يرسل لبني إسرائيل وحدهم، إنما أرسل إلى سكان مصر وفيهم فرعون، وقد قال تعالى في رسالة موسى وأخيه هارون :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ( ٤٣ ) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ( ٤٤ ) قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ( ٤٥ ) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ( ٤٦ ) ﴾ [ طه ].
وهذه تدل على أنه بعث لمصر كلها، لا لبني إسرائيل وحدهم، وإن كانت فضائل الرسالة عادت على بني إسرائيل بالنعمة والإنقاذ ابتداء، والهداية للجميع كانت المقصد في نهاية الرسالة وغايتها وقال تعالى :﴿ وذكرهم بأيام الله ﴾.
وردت أخبار من السلف بأن أيام الله، الوقائع التي انتصر الله فيها لكلمة الحق والإيمان، كما نزل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وآل مدين ؛ وذلك لأن كلمة ( أيام ) تطلق في التاريخ العربي على الحروب التي كانت لها دوى في العرب كحرب "ذي قار" الذي انتصر فيها العرب على فارس، وكحرب "الفجار"، وكحرب "عبس وذبيان"، وكحرب "البسوس"، إلى غير ذلك من الأيام الشداد.
وروى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن أيام الله هي النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، والأيام التي أنزل بها اعتبارا لأهل مصر ليسلموا، فقد أنزل عليهم تسع آيات هي : الطوفان والجراد والقمل، والضفادع والدم والعصا، ويده إذ تخرج بيضاء من غير سوء، والسنين ونقص من الثمرات.
ويمثل عبارات بعض المفسرين إلى أن الأيام التي طلب الله تعالى من موسى أن يذكرهم بها تعم أيام المحنة التي نزلت ببني إسرائيل وأيام النعمة، وقال الطبري في ذلك : وعظهم الله تعالى بما سلف من الأيام الماضية لهم، أي بما كانوا في أيام الله تعالى من النعمة والمحنة، وقد كانوا عبيدا مستذلين.
وهكذا نرى أن ابن جرير يخص الأيام بأيام الله تعالى في بني إسرائيل محنة ونعمة.
والحق أن أيام الله تعالى تعم أيام الشدائد، وأيام النعم، وتعم بني إسرائيل ومن سبقهم من الأمم كقوم نوح إلى آخره، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى تلك الأيام ببعض التفصيل بذكر النعم والنقم معا.
وهذا بحث نحوي أشار إليه المفسرون اللغويون، وهو يتعلق بقوله تعالى ﴿ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ﴾ فيقول : أرسل الله موسى مؤيدا بالآيات التسع التي أشنا إليها قائلا له :﴿ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ﴾، أي من الضلال الذي هو كالظلمات المتكاثفة إلى الحق الذي كالنور الواضح البين، ويصح أن نقول : إن ﴿ أن ﴾ تفسيرية، أي إن ما بعدها تفسير لمعنى الرسالة، وجوز الزمخشري أن ﴿ أن ﴾ مصدرية ولا مانع من دخولها على الأمر ؛ لأنه فعل، ويكون المعنى : أرسلنا موسى إلى قومه بإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وقد بينا أن قومه تعم كل من بعث إليهم، وهم بنو إسرائيل، وأهل مصر، وقد كانت دعوته – عليه السلام – فيهم.
وقد قال تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾، ﴿ ذلك ﴾ الإشارة إلى إخراجهم من الظلمات إلى النور والآيات الدالة على رسالته، والأيام باشتمالها على النعم التي جاءت إليهم وأفاضها عليهم، والشدائد التي نزلت بغيرهم، ﴿ لآيات ﴾ أي لأمارات هادية مرشدة ﴿ لكل صبار شكور ﴾، وجاء ذكر الصبر بصيغة المبالغة، وذكر الشكر بصيغة المبالغة أيضا، للدلالة على أن من يعرف هذه الآيات ويدركها هو الذي صار الصبر بتمرسه له صفة كالجبلة فيه، وصار شكر النعمة والقيام بحقها كذلك، وقالوا : إن المراد الصبر على البلاء، والشكر على النعماء، وإلى أن الصبر كما يكون في النقمة يكون أيضا في النعمة، والصبر بالنعمة ألا تدفعه إلى الغرور ؛ والأشر والبطر، كما قال تعالى :﴿... ونبلوكم بالشر والخير فتنة...( ٣٥ ) ﴾ [ الأنبياء ]، والنقمة أيضا تحتاج إلى الشكر، إذ تذكر بما أنعم وأكرم في حال البلاء والاختبار، فيكون الشكر على ما أسلف على رجاء الإنقاذ مما أوقع، ثم يكون الشكر على الماضي والحاضر.
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما أنعم، فقال تعالى :
﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسمونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( ٦ ) ﴾.
﴿ إذ ﴾ ظرف زمان للماضي، والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم يذكر بنعم الله تعالى على المظلومين، وأنه سبحانه ينقذهم من أذى طاغية الدنيا في عصره، وهو فرعون، وإن هذا إيذان بأنه ينقذ النبي ومن معه من المشركين، وجاعلا لهم السلطان عليهم، وقوم موسى هنا متعين أن يكون لبني إسرائيل، وإن كان قوله :﴿ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ﴾ لا يخصهم، بل يشملهم وغيرهم.
يقول لهم رسول الله الذي أنقذهم على يديه :﴿ اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون ﴾، أي أصحاب فرعون ونصرائه ومعاونيه على الشر، ونرى أن فرعون في أكثر الآيات المثبتة لظلمه القاسي الغشيم لا يذكر فرعون وحده، إنما يذكر ملؤه أو آله، أو غير ذلك مما يدل على المؤازرين له، وهذا ينبئ بمعنى أن سنة الله تعالى في خلقه أن الطغاة لا يطغون بذات أنفسهم، ولكن بمؤازرة من الأشياع والأتباع، ولو كانوا مرشدين ما كان منهم ذلك الظلم الغاشم فهم آثمون معهم.
وقد كانت النجاة أو الإنجاء من أقسى المظالم الإنسانية، بشاعة وقسوة، كما حاول من ساروا على دأبه – أسكنهم الله معه في السعير، فهم وهو على سواء، إلا أنهم أشد ؛ لأنهم جاءوا بعد أن جاءتهم البينات.
و ﴿ إذ ﴾ بدل من الأولى، وقد بين الله تعالى ما أنجى منه فقال :﴿ يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم ويستحيون نساءكم ﴾.
﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾، أي يذيقونكم أشد العذاب سوءا من استرقاق، وإذلال وتكليفكم المشاق الغلاظ الشداد، أو استباحة لكرامتكم، وإبعادكم عن أماكن السلطان وجعلكم أرذالا تابعين، ولم يجعل منكم سادة متبوعين، حتى أنقذكم الله من هذا فجعلكم سادة أنفسكم، وعبر عن ذلك سبحانه وتعالى بقوله :﴿... وجعلكم ملوكا...( ٢٠ ) ﴾ [ المائدة ]، أي مسيطرين على أنفسكم ولستم خاضعين لغير الله تعالى، وقال سبحانه وتعالى مع هذا الإذلال والاسترقاق ﴿ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ في سورتي البقرة والأعراف ﴿... يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم...( ١٤١ ) ﴾ [ الأعراف ] من غير ( واو )، كان هذا تفسيرا لسومهم العذاب، وهو بيان بأفصح أحواله، وهنا جمع بين الاسترقاق والذل والتكليف بالمشاق والأهوال، وبين ذبح الأبناء واستحياء النساء.
وعبر عن قتل الأبناء هنا بالذبح للإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك، وهم آمنون سالمون غير ثائرين ولا ناقمين، فهم في غير اندفاعة ثورة، ولكن في أمن ودعة، يأتون إلى الطفل من حجر أمه أو بين لداته ويذبحونه ذبحا، وحسبك أن تعلم أن أم موسى رضيت – بإلهام من الله – أن تلقيه في اليم مع رجاء الله تعالى، عن أن تراه يذبح بين يديها.
وقوله تعالى :﴿ ويستحيون نساءكم ﴾، أي يطلبون حياة نسائهم وبقاءهن، لا رغبة في ذات الإحياء بل ليكن إماء في بيوتهم، ويستمتعون بجمالهن، فهو ظلم فاحش لا يعرفه إلا فرعون وأمثاله، كما رأينا واحدا منهم في هذا الزمان.
قال تعالى :﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾، الإشارة إلى الإنجاء، ويصح أن تكون الإشارة إلى سوم العذاب، وعلى الأول يكون البلاء هو بلاء بنعمة الإنجاء، كما أشرنا إلى قوله تعالى :﴿... ونبلوكم بالشر والخير فتنة...( ٣٥ ) ﴾ [ الأنبياء ]، فالنعم تحتاج إلى صبر واختبار، وإذا كانت الإشارة إلى سوم العذاب وتذبيح الأطفال واستحياء النساء يكون اختبارا من الله عظيما، ونسب البلاء إلى الله تعالى، وهو الرب الخالق، للإشارة إلى أن تمكين فرعون من ذلك كان اختبارا من الله تعالى حتى يمتحنوا بالنقمة، وتصقل نفوسهم بها.
وإني أرى أن الأول أوضح، والله تعالى أعلم.
﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( ٧ ) ﴾.
﴿ تأذن ﴾ بمعنى آذن وأعلم، ولفظ ﴿ تأذن ﴾ يدل على المبالغة في الإعلام، وتكرره آنا بعد آن، وشكر النعمة أداؤها فيما خلقت له، فشكر نعمة الأذن ألا يسمع إلى منكر، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا الحق، وشكر نعم العقل ألا يذعن إلا للحق ولا يفكر إلا في الوصول إلى الحق والإيمان بالتوحيد، والإنسان مغمور في نعم من لسان ينطق وأذن تسمع، وعين تبصر وجوارح تكسب، وكل نعمة لها شكرها، فإن شكر زادها الله تعالى.
وكفر النعمة ألا يتخذها في طاعة، فكفر ذي المال بإنفاقه في غير حله، والاستعلاء به وبطر العيش، وأن يطغى إذا استغنى.
ولقد قال تعالى :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ هذا شرط مؤكد بالقسم، والجواب ﴿ لأزيدنكم ﴾ جواب القسم ودل على جواب الشرط، واللام موطئة للقسم، وكان الجواب مؤكدا بنون التوكيد الثقيلة، وكذلك في قوله :﴿ ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ هذا لأن الشكر جواب القسم، وهو دليل على الجواب، وليس نصا فيه لأن الجواب بمدلول الله، ولكن كفرتم لأعذبنكم، إن عذابي لشديد، والمعنى إن شكرتم أجرتم لا محالة، وزادكم الله نعمة، وإن كفرتم منعتم وعوقبتم، وإن الله تعالى شديد شدة بالغة الغاية.
وإن هذا يدل على أن الطاعة تعود عائدتها على من قام بها ؛ لأن شكر المنعم، وشكر النعمة يزيدها، وإن كفر النعمة معه عذاب أليم، والله غنى عن العباد ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ( ٨ ) ﴾.
﴿ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ( ٨ ) ﴾.
صرح الله سبحانه بأن ذلك القول من موسى لقومه، ولم يصرح بأن قوله ﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم ﴾ فاحتمل أن يكون الكلام منسوبا لموسى، أو هو من كلام الله رأسا، والأذان هو ﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم... ﴾ إلى آخر الآية، وسواء أكان الكلام منسوبا لموسى، أم إلى الله، فالإيذان بالزيادة في الشكر والعذاب في الكفر من الله، أما الكلام في هذه الآية فمنسوب لموسى قال لقومه من بني إسرائيل، أو هم وغيرهم.
وفي هذا النص ﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا ﴾ فيه بيان أن الشكر والكفر مغبتهما تعود على الناس والثقلين جميعا، ولا تعود على الله تعالى في شيء ؛ ولهذا قال :﴿ فإن الله لغني حميد ﴾ وهذا ينبئ عن جواب الشرط، والمعنى إن يكفر الناس والثقلان فإن الله لا يضيره شيء، ولا ينقص من ملكه، إن الله لغني حميد، أي لا يحتاج إلى عباده وهو حميد، أي محمود من الملائكة، ولقد قال البيضاوي في تفسير كلمة ﴿ حميد ﴾ :"مستحق للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمه كل المخلوقات، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام وعرضتموها للعذاب الشديد"١.
روى مسلم عن أبي ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"٢.
١ تفسير البيضاوي: ٣/٣٦٨..
٢ رواه مسلم: البر والصلة والآداب – تحريم الظلم (٤٦٧٤). من حديث أبي ذر رضي الله عنه، كما رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، والدارمي، وقد سبق تخريجه..
﴿ ألم يأتيكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ( ٩ ) ﴾.
الاستفهام هذا للإنكار بمعنى نفى الوقوع فهو للنفي جاء على صورة الاستفهام تأكيدا للنفي كأنهم سئلوا فأجابوا بالنفي، وهو داخل على النفي، فنفى النفي إثبات، فمعنى ﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح... ﴾ إلخ، قد جاءكم نبأ الذين من قبلكم قوم... والنبأ الخبر الخطير الشأن.
وقد قال ابن جرير :"إن هذا الكلام على لسان موسى لقومه بني إسرائيل وأهل مصر"، ولكن رد ذلك القول ابن كثير في تفسيره، ونحن معه ؛ لأنه لا دليل على نسبته إلى موسى عليه السلام ؛ ولأن فائدته في جعله عاما أوفى من حيث المعنى ؛ ولأن روح الآية تجعل الخطاب لمن يتلو القرآن من مشركي العرب وغيرهم.
و "النبأ" الخبر الخطير الشأن، وقد كان خبر قوم نوح خطير الشأن، وكذلك عاد وثمود ؛ لأنها أخبار بهلاك أمم وجماعات بسبب خروجهم عن أمر ربهم.
والمعنى في الجملة : قد أتاكم الخبر الخطير الشأن قوم نوح إلى آخره، ﴿ والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ﴾ ومن هم الذين من بعد هؤلاء، ولم يعلم مآلهم إلا الله تعالى.
أحسب أن المراد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين كفروا برسالته، ويعاندون فيها، ويؤذون المؤمنين، ويسفهون قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصرون على عبادة الأوثان.
ويكون قوله تعالى :﴿ والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ﴾ تهديد لهم، وحمل لهم على المقايسة بينهم وبين غيرهم، فإذا كان نبأ الغابرين هلاكهم، فليقيسوا حالهم على حال أولئك الغابرين.
وقد حكى سبحانه ما كان بين الرسل السابقين وأقوامهم، فقال عز من قائل :﴿ جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾، أي بالأدلة المبينة الهادية المرشدة التي لا يدخلها امتراء فلم يجيبوا. وعبر الله سبحانه وتعالى عن امتناعهم عن الإيمان بقوله تعالى :﴿ فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ﴾ كانت حالهم تجيب بأن ردوا أيديهم في أفواههم وقالوا...
وقد تكلم الزمخشري في قوله تعالى :﴿ فردوا أيديهم في أفواههم ﴾ فذكر عدة احتمالات مجازية لمعنى هذا التعبير القرآني الكريم ولم يعين واحد، فقال :﴿ فردا أيديهم في أفواههم ﴾يعضوها غيظا وضجرا مما جاء به الرسل، كقوله تعالى :﴿... عضوا عليكم الأنامل من الغيظ...( ١١٩ ) ﴾ [ آل عمران ]، أو ضحكا واستهزاء، كمن غلب عليه الضحك فوضع يده على فيه، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم من قولهم :﴿ إنا كفرنا بما أرسلتم به ﴾ وهذا قول قوى، أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء أطبقوا أفواهكم وأسكتوا، أو ردوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون، وقيل : الأيدي جمع يد، وهي النعمة بمعنى الأيادي أي ردوا الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم ؛ لأنهم إذا كذبوها ؛ ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل"١.
هذه الاحتمالات مختلفة لم يعين واحد منها للدلالة في الآية الكريمة، وإن كان وصف القول الثالث بأنه قوى، وإنا نرى أن وضع اليد في الفم يكون عندما يلقى إلى الشخص خبر مستغرب، فالتعبير الكريم كناية عن استغرابهم الخبر، وإن كان لنا أن نختار من احتمالات الزمخشري، فهو قوله عضوا أنامله من الغيظ، ولكنا مع ذلك نرى أنه كناية عن استغرابهم.
عرض لهم استغراب قول رسلهم أولا، ثم انتهى الاستغراب بالإنكار، ولكفر ﴿ وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ﴾ انتهى استغرابهم بالإنكار بكونهم رسلا، فالكفر بالرسالة أما موضوعها وهو ما يدعونهم إليه من توحيد وشرائع، فقد قالوا فيه :﴿ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ﴾ ومريب معناه موقع في الريب، من أرابه أو أوجد عنده قلقا، أي أنهم يرتابون في دعوى التوحيد، وأنها تجعلهم في قلق بالنسبة لآلهتهم التي ورثوا عبادتها عن آبائهم، فدعوة التوحيد تخرجهم من الاطمئنان إلى الباطل إلى الشك والريب، فدعهم في ريبهم يترددون.
١ الكشاف: ٢/ ٣٦٨..
إجابة رسلهم
جاء النور على المشركين كالضوء الساطع على من يكون في ظلام دامس، فلا تقوى عينه على النظر وتضطرب وترتاب، فقالوا :﴿ إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ﴾، فهذه حيرة من يكون في ظلمة حالكة فيلاقى ضوءا شديدا.
وقد كانت مجاوبة بين الرسل وأقوامهم، وهذه المجاوبة صورة واضحة متحدة في كل الخلاف بين الشرك والإيمان أو بين الرسالة الإلهية ومن ينكرونها، ولم تكن هذه المجاوبة بين رسول بعينه، وقوم بأعيانهم، بل هي صورة عامة جامعة متحدة، وإليك المجاوبة :
﴿ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض ﴾ الاستفهام إنكاري توبيخي لإنكار الواقع، فقد وقع الشك منهم كما تدل الآية السابقة، وهو حيرة أهلل الظلام إذا رأوا النور تحيروا بين الباطل ألفوه، وحق جاء إليهم هاديا فارتابوا.
وقدم الجار والمجرور ﴿ أفي الله شك ﴾ لأهمية الشك في الله أو لغرابة أن يكون ثمة شك في الله تعالى، وهو الذي فطر السموات والأرض، أنشأهما إنشاء، وفطرهما فطرا، أيكون في وجوده شك، وقد قامت الأدلة وتوافرت البراهين من الوجود بكل أطرافه.
هذا عجب عجاب من الشك في الله سبحانه وتعالى، وهناك عجب من الشك فيما يدعو إليه الرسل، إنهم يدعون إلى أمر نافع في ذاته لا يسوغ للعاقل أن يتشكك فيه أو يرتاب، وقال تعالى :﴿ يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ﴾ وهنا أسندت الدعوة إلى الله تعالى لتربية المهابة في نفوسهم، ولتكون النسبة إليه بيانا لوجوده، ورقابته لهم ولأعمالهم وإشعارا لهم بالهيمنة عليهم، وقوله تعالى :﴿ ليغفر لكم من ذنوبكم ﴾، ﴿ من ﴾ هنا إما أن تكون بيانية، ويكون المعنى ( ليغفر لكم ذنوبكم ) وتكون للدلالة على استغراق الغفران لكل الذنوب إذا آمنوا، فإن الإسلام يجب ما قبله كقوله تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف... ( ٣٨ ) ﴾ [ الأنفال ]، وإما أن تكون للتبعيض، أي ( ليغفر لكم بعض ذنوبكم )، وهو ما يتعلق بالشرك ونحوه، أما ما يتعلق بالمظالم فإنه لا يغفر إلا أن يعفوا أصحابه.
وعندي أن تخريج القول الكريم على أنها بيانية أولى بالأخذ أولا، لأن جب الإسلام لما قبله عام غير خاص بذنب دون ذنب، وإذا كان الشرك قد غفر فما دونه أولى. وثانيا، لأنه كان من المشركين من قتلوا وسفكوا فغفر الله لهم ذلك، وحسبك أن الله غفر لو حشى قاتل حمزة، وثالثا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن كل دم في الجاهلية موضوع، وبأن ربا الجاهلية موضوع١.
وقد ذكر سبحانه أنه يؤخرهم إلى أجل مسمى، وبعده يكون البعث، وفي هذا إنذار لهم إن استمروا في ضلالهم يعمهون.
هذا كلام الرسل، فبماذا أجابوا ؟.
أجاب المشركون بتصوير القرآن ذاكرا الإجابة التي اتحدوا فيها على اختلاف قرونهم ليبين للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يضيق صدرا بما يجادل به مشركو مكة، فهو حال الشرك في كل العصور في إنكارهم رسالات الله، ﴿ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ﴾، ﴿ إن ﴾ هنا نافية وهي مع الإثبات بعدها بالاستناد تفيد القصر، أي أنتم معشر الرسل مقصورون على البشرية، لا يصح أن تتعدوها إلى ادعاء أن الله يخاطبكم من عليائه وأنكم رسله إلينا، كما قال مشركو مكة :﴿... ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...( ٧ ) ﴾ [ الفرقان ]، وجاء على لسان المشركين قولهم :﴿ مثلنا ﴾، أي أنكم تماثلوننا في البشرية ونحن لسنا أنبياء، فلستم بأنبياء مثلنا، وإنكم تحاولون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا من أوثان، وكأنهم بهذا يستندون إلى حجة واهية من حججهم الداحضة، وهي أنهم يتبعون آباءهم، وذلك كاف لاستمرارهم في غيهم.
وقرنوا قولهم هذا بأن الرسل لم يقدموا حجة، فأنكروا ما جاء إليهم من معجزات دالة على رسالاتهم تعنتا ولجاجة في الخصومة، وقالوا :﴿ فأتونا بسلطان مبين ﴾، أي بدليل واضح بين يلائمنا، والسلطان هنا الحجة، وكثيرا ما عبر القرآن الكريم عنها بالحجة ؛ لأنها تجعل للخصم سلطانا على خصمه يلزمه بالقبول والخضوع لما يقول.
تنبيهان :
أولهما : أن الله تعالى جمع أقوال الرسل في قول واحد، وهم كانوا في أجيال مختلفة، وجمع أقوال المشركين في قول واحد ؛ لأنهم جميعا على قول واحد، وكأنه نابت من منابت الشرك المتحدة، فيكون إنتاجها واحدا، ولبيان أن الرسل أجيبوا جميعا بمثل ما أجيب فليتأس وليصبر، فإن الله لا يضيع أجر الصابرين.
ثانيهما : أننا خرجنا قوله :﴿ ليغفر لكم من ذنوبكم ﴾ رجحنا أن ﴿ من ﴾ بيانية وسقنا ما نحسبه دليلا على الترجيح، ومن الحق علينا أن نذكر رأيا مخالفا لرأينا وهو رأى إمام البلاغة الزمخشري، فهو يرجح أن ﴿ من ﴾ تبعيضية، ولننقل لك عبارته الدالة على ذلك فهو يقول :"فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله تعالى :﴿ من ذنوبكم ﴾ ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله تعالى :﴿... واتقوه وأطيعون ( ٣ ) يغفر لكم من ذنوبكم...( ٤ ) ﴾ [ نوح ]، ﴿ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم...( ٣١ ) ﴾ [ الأحقاف ]، وقال في خطاب المؤمنين :﴿ يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( ١٠ ) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( ١١ ) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفور العظيم ( ١٢ ) ﴾ [ الصف ]، وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء.
وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد، وقيل : أريد يغفر له ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم٢.
هذا ما وجب ذكره من كلام الزمخشري ليعلم القارئ الموضوع من وجوه النظر، وما كنا لنهمل رأى إمام البيان الزمخشري، وقد يسأل سائل لما ذكرت ﴿ من ﴾ في جانب المشركين إذا آمنوا، ونقول : لكثرة ذنوبهم فكان التعبير فيه إشارة إلى أن الغفران لكلها مع كثرته.
١ صرح به في خطبة الوداع، وهي خطبة طويلة، أخرجها مسلم: الحج – حجة النبي صلى الله عليه وسلم (٢١٣٧) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه..
٢ ذكره الزمخشري: ج ٢/ ٣٦٩..
إجابة الرسل على اعتراض المشركين :
﴿ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( ١١ ) ﴾.
اعترض المشركون بأنهم بشر مثلهم، وبأنهم لم يأتوا بسلطان يثبت الرسالة، ولقد سلموا لهم الأمر الأول مؤكدين تسليمهم، قالوا :﴿ إن نحن إلا بشر مثلكم ﴾ أكدوه بأن قصروا أنفسهم على البشرية لا يعدونها، ولكن المشركين بنوا على المثلية بطلان دعواهم فلم يسلموا لهم ذلك، أي أنهم سلموا لهم بالمقدمة ولم يسلموا لهم بالنتيجة ؛ لأنه لا تلازم بين التماثل بينهم وبين غيرهم في البشرية ومنع الرسالة ؛ ولذا قال :﴿ ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ﴾، فالاستدراك استدراك من النتيجة التي رتبوها في زعمهم وقد عدوا هذه النبوة منا من الله تعالى على الذين اختارهم من صفوة عباده سبحانه وتعالى :﴿... الله أعلم حيث يجعل رسالته...( ١٢٤ ) ﴾ [ الأنعام ]، وقد قالوا : إنه من الله تواضعا، وتبرئة لأنفسهم من أن يعتقدوا أن لهم فضلا على الناس إلا ما اختصهم الله تعالى به من الرسالة منا وفضلا، وما كان ذلك إلا لحكمة قدرها، أو كان فيهم بإرادة الله، فهو أوجد فيهم من المزايا ما يجعلهم أكثر من البشرية المطلقة التي يتصف بها العاصي والطائع، والرسول ومن أرسل إليهم.
أما كلامهم الثاني في أمر المعجزة فقد طلبوا نعتا ولجاجة معجزة اختاروها، وأعلنوا أن لن يؤمنوا إلا إذا جاءتهم هذه الآية، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردوا زعمهم هذا بقولهم :﴿ وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ﴾، أي ما ساغ لنا ولا جاز أن نأتيكم بآية غير ما جئنا به إلا بإذن الله تعالى، فهو الذي من علينا من بين عباده بالنبوة، وهو الذي اختار لنا الآية الدالة على رسالتنا كشأن كل رسالة من غائب لحاضر، أن الغائب هو الذي يختار الإشارة الدالة على أنه مبعوث من قبله، وقد اختار ذلك السلطان، فلا مناص لنا منه إلا أن يمن علينا بسلطان غير ما أعطانا، وإذا كنتم مستمرين على معارضتكم، ومقاومتكم، وإعناتكم وإيذائكم، فنحن قد بلغنا وفي سبيل البلاغ لا حامي لنا إلا الله تعالى ؛ ولذا قالوا :﴿... على الله توكلنا...( ٨٩ ) ﴾ [ الأعراف ]، أي إذا كنتم تعتمدون في معاندتكم وإعانتكم على قوة لكم تحسبونها، فنحن متوكلون على الله يحمينا من إيذائكم، وقدم الجار والمجرور ﴿... على الله توكلنا...( ٨٩ ) ﴾ ؛ لبيان أنهم لا يعتمدون إلا عليه، وأنه فوق كل الأقوياء، وأمروا المؤمنين الذين يؤذيهم المشركون ويسخرون منهم بأن يتوكلوا على الله، ويصبروا فإنه لا محالة ينجيهم من إيذائهم وستكون كلمة الله هي العليا، وهو العزيز، ولذا قال تعالى :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾، وقدم الجار والمجرور للدلالة على أنه لا يعتمد إلا عليه سبحانه، و ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمعنى إذا كنا معشر الرسل قد توكلنا على الله وحده فليتوكل المؤمنون على الله وحده، ويتضمن ذلك طلبين : أحدهما الصبر على أذى المشركين، والثاني : الاعتماد على الله وحده، وأنه سبحانه وتعالى ناصر الرسل ومن اتبعوهم غير خاذلهم ولا ممكن لمشرك منهم.
وبعد ذلك بين سبحانه على لسان رسله المسوغ لتوكلهم عليه وحده فجاء على لسانهم قوله تعالى :﴿ وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾.
﴿ وما لنا ﴾ الاستفهام هنا لتقرير التوكل وتثبيته، أي ما ساغ لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، أي سبيل الحياة الصالحة التي جعلتنا نؤمن بأن الحياة الدنيا طريق الآخرة، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الباقية، أما الأولى : فهي الفانية، وقوله :﴿ وقد هدانا سبلنا ﴾ جملة حالية تفيد أولا أنهم آمنوا بهداية الله فعرفوا سبيل الحق وسبيل الباطل.
وأما الثانية : أنهم عرفوا بطلان عبادة الأوثان. وأفاد ثالثا : أنه لا قوة في الوجود إلا قوته، وأضيفت السبل إليهم ﴿ سبلنا ﴾ للإشارة إلى أن هذه السبل هي التي ينبغي أن تكون مطلبهم وأن تكون غايتهم التي يبتغونها.
وأنهم إذا عرفوا السبيل صراط الله، واتخذوها سبيلا لهم فإنهم المعتمدون على الله الصابرون ؛ ولذا قال تعالى عنهم :﴿ ولنصبرن على ما آذيتمونا ﴾ اللام لام القسم ؛ ولذا كانت معها نون التوكيد الثقيلة التي تلازم القسم ﴿ على ما آذيتمونا ﴾، على ما تقدمونه من إيذاء متوال مستمر، فإن على أهل الحق أن يصبروا على أذى المبطلين.
ولقد أكد الرسل والمؤمنون اعتزامهم على الصبر حتى يبلغوا رسالات ربهم.
وإنهم أمام هؤلاء الأقوياء المتعنتين لابد من اعتماد على القوى القادر القهار ؛ ولذا قال تعالى عنهم :﴿ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾، أي عليه وحده فليتوكل المتوكلون، كان الأمر الأول بالتوكل للمؤمنين فقط، أما هنا فهو يشمل المؤمنين والرسل، وهو تحديد للتوكل الذي يجب أن يكون حال المؤمن لا يفارقه ؛ لأنه التوكل على الله مع اتخاذ الأسباب عبادة.
محاولة الإخراج
بعد أن كلت بهم الحجة ضاق صدرهم، فانتقلوا من الجدل الباطل إلى الإخراج من أرضهم.
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( ١٣ ) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي ونخاف وعيد ( ١٤ )
لا يلجأ أحد إلى القوة إلا إذا كل به الدليل، وأحسن بأن ما يسوقه من قول يحسبه حجة انهيار أمام قول الحق ؛ ولأن أتباع الرسل دائما يكونون قلة وأكثرهم ضعفاء يستهين بهم المشركون ؛ لأنهم أعز نفرا، وأشد بأسا، وأكثر تعنتا ؛ ولذا قال الله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ﴾انحصر كلامهم في أن الرسل والمؤمنين يكونون بين أحد أمرين : الإخراج من أرضهم، أو أن يعودوا في ملتهم في عبادة الأوثان، وهنا أمران مهمان لا بد من الإشارة إليهما.
أولهما : القسم، فمهما هددوا به الرسل، وقد أقسموا ﴿ لنخرجكم من أرضنا ﴾ والقسم دل عليه باللام الموطئة للقسم ونون التوكيد الثقيلة، وهي بالنسبة لهم أوضح ؛ لأنهم يملكون أعمالهم وأنفسهم فكيف يكون القسم بالنسبة للرسل، كأنهم يقسمون على الرسل أنهم أخذوا قاسمين على أمرين لا بد من تحقق أحدهما، وهو لنخرجنكم أو لتعودون، ونحن نقسم عليكم بذلك.
الثاني : أن التعبير ب ﴿ لتعودن ﴾ يوحى إلى أنهم كانوا في ملتهم، وخرجوا منها وطلبوا أن يعودوا إليها، والرسل لم يكونوا في ملتهم أبدا، فما كان الرسل ليشركوا بالله ويعبدوا الأوثان، والجواب عن ذلك من وجوه أولها : أن عاد بمعنى صار، وهي كثيرة الاستعمال في اللسان العربي كذلك، وثانيها : أن ذلك ينطبق على أتباع الرسل، وثالثها أن حال الرسل قبل الرسالة تكون صمتا عن الشرك لا يعتقدونه ولا يقومون بالدعوة ضده، فيحسبهم الجاهلون من أهل الشرك أنهم معهم، فإذا جاءوا بعد البعث يدعونهم حسبوا ذلك جديدا على الرسل كما هو جديد عليهم، فطالبوا بأن يعودوا إلى ما كانوا عليه لا يزعجونهم بدعوة إلى الوحدانية ولا برسالة، ولا ذكر رسول.
وفي هذا الوقت الذي بلغ فيه العند أشده والكفر أطغاه ثبت الله قلوب رسله ﴿ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ﴾ أوحى الله إلى رسله قائلا لهم :﴿ لنهلكن الظالمين ﴾، أو كان مدلول الوحي ﴿ لنهلكن الظالمين ﴾ : اللام لام القسم، والنون نون التوكيد الثقيلة، وهي توكيد للقسم فضل توكيد، وأظهر سبحانه في موضع الإضمار، فلم يقل لنهلكنهم، بل﴿ لنهلكن الظالمين ﴾ لبيان سبب الهلاك وهو الظلم، وقد ظلم هؤلاء إذ لم يؤمنوا وأشركوا ﴿... إن الشرك لظلم عظيم ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ]، وظلموا فتعنتوا وطلبوا آيات أخرى وقد جاءتهم البينات، وظلموا بإيذاء المؤمنين وظلموا أشد الظلم فهموا بإخراج الرسول ومن معه، وحاولوا فتنة المؤمنين ليكفروا بعد إيمان، ولم يتركوا بابا من أبواب الظلم إلا دخلوه ﴿... وما الله يريد ظلما للعباد ( ٣١ ) ﴾ [ غافر ].
وكان من وحي الله تعالى أنه بعد هلاك الظالمين يسكن الله الرسل ومن معهم مكانهم ﴿ ولنسكننكم الأرض من بعدهم ﴾ والأرض هي أرض الدعوة التي هدد المشركون أن يخرجوهم منها، ولكن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر قبل أن يتمكنوا ؛ ولذلك قال الله تعالى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفن مشارق الأرض ومغاربها...( ١٣٧ ) ﴾ [ الأعراف ]، كما قال تعالى :﴿ وأورثكم أرضهم وديارهم...( ٢٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وإن ذلك نصر الله تعالى فقد قال عز من قائل :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وأن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾ [ الصافات ]، وقال تعالى :﴿ والعاقبة للمتقين ( ٨٣ ) ﴾ [ القصص ]، وقال تعالى :﴿ ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ﴾، ﴿ مقامي ﴾ مصدر ميمي، المقام بمعنى قيام، ومعنى قيام الله، ومعنى الخوف من مقام الله تعالى، أو قيامه على تدبير شئونه – رقابة كل أمور الإنسان بأنه لا يعمل عملا إلا والله تعالى يحاسبه عليه صغيرا أو كبيرا فيعبد الله كأنه يرى الله، فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، وإن هذه مرئية الإحسان في الشعور بالله تعالى، كما ورد عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه ﴿ وخاف وعيد ﴾، أي خاف وعيد الله بالعذاب الشديد فهو يغلب الخوف على الرجاء ؛ لأنه يستصغر حسناته ويستكثر سيئاته، وإنه ورد في الأثر :"من آذى جاره ورثه الله داره".
المآل هو العذاب والخيبة
﴿ استفتحوا ﴾ طلبوا الفتح والنصر، والضمير يعود إلى الرسل، أي أن الرسل بعد أن اطمأنوا إلى وعد الله تعالى لهم بأنه مهلك الظالمين بسبب ظلمهم تقدموا لمنازلة المشركين، واستفتحوا كما كان يستفتح النبي صلى الله عليه وسلم في كل غزوة يغزوها، والفتح هو النصر، أي يطلبون النصر من الله تعالى، ويصح أن يكون طلب الحق بأن يفصل بين الحق والباطل، كما قال الله تعالى :﴿... ربا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ( ٨٩ ) ﴾ [ الأعراف ].
ويقول الزمخشري : إنه يكون مشتقا من الفتح بمعنى الحكم.
وقوله تعالى :﴿ وخاب كل جبار عنيد ﴾ بيان لنتيجة المعركة التي استفتح لها الرسل، والواو للعطف على فعل محذوف، تقديره، وفتح الله تعالى للرسل بأن نصرهم أو حكم لهم وخاب كل جبار عنيد، والكلية هنا معناها أن المتكبرين على الحق الجبابرة الذين يعتدون ويلجون في الباطل، ولا يصغون إلى حق من أي مكان، مآلهم الخيبة، والخسران المبين ؛ وذلك لأن الجبار يستعلى فيظلم، ولا نصر لظالم، والعنيد يركب رأسه، فلا ينصت لداع يدعو إلى التأمل وتعرف عواقب الأمور، فلا يرى إلا ما يكون بين يديه من أمور ظاهرة لا يتعرف ما وراءها، ويقول دائما مقالة فرعون :﴿... ما أريكم إلا ما أرى وما أهديهم إلا سبيل الرشاد ( ٢٩ ) ﴾ [ غافر ].
ولقد قال بعض السلف : إن الضمير في قوله تعالى :﴿ واستفتحوا ﴾ يعود إلى الظالمين، أي الظالمين مع ظلمهم وطغيانهم يطلبون النصر، وذلك منهم إمعان في الضلال الفكري ؛ إذ حسبوا ما عندهم خيرا يجيز لهم أن يستفتحوا من أجله.
وقال بعض السلف : إن الاستفتاح كان من الفريقين فريق الحق وفريق الضلالة، وفتح الله للمؤمنين وخاب الكافرون، وعبر عنهم بكل جبار عنيد للإشارة إلى سبب الخيبة، وهو الاستعلاء بالباطل واللجاجة فيه
ويقول تعالى فيما يستقبل كل جبار عنيد من عذاب أليم :
﴿ من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ( ١٦ ) يتجرعه ولا يكاد يسيغه... ﴾.
الضمير في ﴿ من ورائه ﴾ يعود إلى كل جبار عنيد، أي أنه في الدنيا خيبة، وعجز مع استعلاء وتجبر وعناد، وبعد ذلك في الآخرة ﴿ جهنم ﴾ يدخلها، ﴿ ويسقى من ماء ﴾ هو صديد من قروح جلود أهل النار، ووراء تجئ بمعنى بعد، كما تقول عذاب وراء ولوم وراء لوم، كما قال النابغة الذبياني :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي بعد الله، وكما قال الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
كما تقول : جاءوا صفوفا صفا وراء صف.
وقوله تعالى :﴿ ويسقى من ماء صديد ﴾ الواو عاطفة على فعل محذوف، تقديره من ورائه جهنم يبقى فيها، ويسقى من ماء صديد، وهو الماء الناتج من القروح التي تجئ من حرق جلودهم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها حتى يذوقوا العذاب، وكأنه يستقبلهم من وراء عنتهم ولجاجتهم عذابان : أحدهما : الإبقاء في جهنم وهو ذاته عذاب، إذ يكون لهيبها، والعذاب الثاني : أنهم لا يرتوون إلا بماء شربه ذاته عذابه أليم، وهو الصديد، وقد
وصف سبحانه وتعالى شربه فقال :
﴿ يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما وهو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ( ١٧ ) ﴾.
يطلبون الماء فيحابون، ولكن سقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه، فإذا استسقوا جاءهم ماء، هو صديد يجتمع فيه قبح ذاته وحرارته، وأنه يقطع الأمعاء، ولكنهم مع ذلك يشربونه لأنهم عدموا الرى، فلا رى سواه ﴿ يتجرعه ولا يكاد يسيغه ﴾ أن يحاول شربه بأن يتجرعه جرعة جرعة ولا يطيق أن يشربه شربا مع رغبته في الماء ﴿ ولا يكاد يسيغه ﴾ يقال : ساغه، أي شربه مستطيبا له مسيغا له، أي مر في حلقه بسهولة، وكذلك أساغ، أو نقول : أساغه حاول أن يجعله يمر في الحلق سائغا ولا يكاد يستطيع ذلك، قد اجتمع فيه ما ذكرنا من قبح الذات والمنظر والحرارة وشأنه ليس بمرئ، وقد وصف الله تعالى حالهم، فقال :﴿ ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ﴾ فالموت يأتيه من فوقه، ومن تحته، ويقول بعض الصالحين ناقلا عن المأثور : إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها، أي أن أسباب الموت تتضافر عليه فلا يموت، وإنه كما قال تعالى :﴿ ثم لا يموت فيها ولا يحيى ( ١٣ ) ﴾ [ الأعلى ]، فهي حياة هي الفناء، بل إنه لو كان الفناء لكان خلاصها.
﴿ ومن ورائه عذاب ﴾ أما بعد تلك الحياة الشديدة الغليظة التي لا تفنى، ولا تبقى، من بعدها عذاب شديد ﴿ غليظ ﴾ يجمع بين صفتين : الشدة والغلظ، فيكون أقسى العذاب ؛ لأنهم تمتعوا بالشر والأذى والاستكبار فكان ذلك العذاب جزاء وفاقا لما قدموا.
وقد بين الله تعالى مع ذلك أن ما يفعلون من نفع في الدنيا لأنه ينقصه الإيمان، يذهب هباء، فقال عز من قائل :
﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ( ١٨ ) ﴾.
المثل : الصفة الغربية، وغرابتها ليست في ذاتها فقط، إنما كانت غرابتها لأنها جاءت على خلاف ما يزعمون، إذ يزعمون أولا، أن أوثانهم ستكون شفيعة لهم، وكانوا يفعلون أمورا يحسبونها من مكارم الأخلاق كإكرام الضيفان وإغاثة الملهوف أحيانا، كما فعل بعض كبرائهم في حلف الفضول، ويحسبون ذلك عملا طيبا، ولو كان مقصده المفاخرة والمباهاة. ثانيا، ويرون أنهم الكبراء الذين لا تنسى محامدهم ثالثا، لكنهم يرونها يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
﴿ مثل الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ﴾، أي حال الذين كفروا بربهم، أي جحدوا بربهم الذي خلقهم وأنشأهم وقام على شئونهم وربهم وحفظهم، حالهم الغريبة أعمالهم كرماد اشتدت به الريح، وفي قراءة الرياح، وهذه الجملة هي الخبر أو دالة عليه.
وقد شبه الله سبحانه وتعالى أعمالهم بالرماد الذي تأتى عليه ريح عاصفة شديدة الهبوب فتثيره فتكون رمادا يتبدد، يغير به الجو، ثم لا يبقى منه شيء، إلا الغبار الذي يصيب أعينهم ويفسد جوهم، والريح هو العاصف، ولكن وصف اليوم بأنه العاصف من باب إطلاق الزمن على اسم ما يحل فيه، كيوم ماطر، ويوم صائف، ويوم صائم.
وذلك لاستغراق عصف الرياح لليوم كله، حتى كأنه اليوم الذي اتصف بالعصف وليس غيره.
وقوله تعالى :﴿ اشتدت به الريح ﴾ مشتقة من الشد بمعنى العدو، كقولهم شد عليه بمعنى عدا عليه وغلبه، أو مشتقة من الشدة، وهو الأظهر، والباء للتعدي، أي اشتدت فيه الريح وفي قراءة الرياح.
وقوله تعالى :﴿ لا يقدرون مما كسبوا على شيء ﴾ قدم ﴿ مما كسبوا ﴾ على ﴿ على شيء ﴾ للاهتمام بما كسبوه فهم كانوا يحسبونه شيئا من المكارم، والأعمال الصالحة فلا يجدونه شيئا ؛ وذلك لأنه فقد المؤثر النفسي وهو الإيمان، وقصد الخير لذات الخير للمفاخرة والمباهاة وإثارة العصبية، والمفاخرة، ومعنى ﴿ لا يقدرون ﴾ لا يملكون، يكون في مقدورهم أن ينتفعوا به ؛ لأنه صار منثورا لا يقبض عليه، كما قال تعالى في آيات أخرى :
﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ( ٢٣ ) ﴾ [ الفرقان ]، وقال تعالى :﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيه صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسه فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ( ١١٧ ) ﴾ [ آل فرعون ]، وتلك النهاية هي غاية البعد من الحق والضلال البعيد في الضلالة.
وقد بين سبحانه أن الجزاء الأوفى يكون يوم القيامة، وأنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة، كما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون ( ٢٩ ) ﴾ [ الأعراف ] ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ( ١٩ ) وما ذلك على الله بعزيز ( ٢٠ ) ﴾.
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع أي للنفي، وهو داخل على النفي ( لم ) ونفى النفي إثبات وهو إثبات مؤكد، كأنه استفهم فكان الجواب هو الإثبات، وتأكيد أن الله خلق السموات والأرض، وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾، أي متلبسا بالحق في ذاته، وبأنها لم تخلق عبثا، كما قال تعالى :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( ١١٥ ) ﴾ وبأنها ثابتة دائما ثبات الحق، فوضع لها نظما، وسننا ونواميس تجعلها مربوطة برباط محكم، فأقام السماء بغير عمد ترونها وزينها بزينة الكواكب.
وكما قال تعالى :﴿... ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ( ١٩١ ) ﴾ [ آل عمران ]، وكما قال تعالى :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ( ٢٧ ) ﴾ [ ص ]، ما خلق الله ذلك إلا بالحق.
وقوله تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ﴾ أن هذا الذي أنشأ السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يذهبهم وأن يفنيهم، فالإفناء أسهل من الإنشاء ﴿ ويأت بخلق جديد ﴾ وإن الإتيان بجديد مثلهن القدرة عليه ثابتة بالمقايسة، فمن قدر على الإنشاء قادر على الإنشاء الثاني ﴿ وما ذلك على الله بعزيز ( ٢٠ ) ﴾، أن ليس ذلك الإنشاء الثاني بعزيز، أي متعذر أو متعسر عليه سبحانه، فهو سبحانه وتعالى قادر بذاته، لا يختص بابتداء ولا إنشاء من جديد، فالقدرة ثابتة، ومتى يثبت لا يعز شيء عليه ولا صعب.
وفي هذا الكلام بيان أن الله سبحانه وتعالى قادر على الإعادة ؛ لأنه قادر على الإنشاء من جديد، كما قال سبحانه :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ﴾.
وكما قال تعالى :﴿ أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحقاف ].
وكما قال تعالى :﴿ أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ( ٨١ ) ﴾ [ يس ].
وإن الآية تفيد بإشارتها ترهيب المشركين بأنهم لا يعجزون الله، فإنه يستطيع إهلاكهم، وخلق غيرهم.
وإنهم في قبضة الله في الدنيا، وجزاؤهم عنده في الآخرة، وهو يتولى الجزاء بالإحسان لمن أحسن وبالعذاب لمن عصى.
وقد بين سبحانه أن الجزاء الأوفى يكون يوم القيامة، وأنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة، كما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون ( ٢٩ ) ﴾ [ الأعراف ] ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ( ١٩ ) وما ذلك على الله بعزيز ( ٢٠ ) ﴾.
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع أي للنفي، وهو داخل على النفي ( لم ) ونفى النفي إثبات وهو إثبات مؤكد، كأنه استفهم فكان الجواب هو الإثبات، وتأكيد أن الله خلق السموات والأرض، وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾، أي متلبسا بالحق في ذاته، وبأنها لم تخلق عبثا، كما قال تعالى :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( ١١٥ ) ﴾ وبأنها ثابتة دائما ثبات الحق، فوضع لها نظما، وسننا ونواميس تجعلها مربوطة برباط محكم، فأقام السماء بغير عمد ترونها وزينها بزينة الكواكب.
وكما قال تعالى :﴿... ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ( ١٩١ ) ﴾ [ آل عمران ]، وكما قال تعالى :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ( ٢٧ ) ﴾ [ ص ]، ما خلق الله ذلك إلا بالحق.
وقوله تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ﴾ أن هذا الذي أنشأ السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يذهبهم وأن يفنيهم، فالإفناء أسهل من الإنشاء ﴿ ويأت بخلق جديد ﴾ وإن الإتيان بجديد مثلهن القدرة عليه ثابتة بالمقايسة، فمن قدر على الإنشاء قادر على الإنشاء الثاني ﴿ وما ذلك على الله بعزيز ( ٢٠ ) ﴾، أن ليس ذلك الإنشاء الثاني بعزيز، أي متعذر أو متعسر عليه سبحانه، فهو سبحانه وتعالى قادر بذاته، لا يختص بابتداء ولا إنشاء من جديد، فالقدرة ثابتة، ومتى يثبت لا يعز شيء عليه ولا صعب.
وفي هذا الكلام بيان أن الله سبحانه وتعالى قادر على الإعادة ؛ لأنه قادر على الإنشاء من جديد، كما قال سبحانه :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ﴾.
وكما قال تعالى :﴿ أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحقاف ].
وكما قال تعالى :﴿ أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ( ٨١ ) ﴾ [ يس ].
وإن الآية تفيد بإشارتها ترهيب المشركين بأنهم لا يعجزون الله، فإنه يستطيع إهلاكهم، وخلق غيرهم.
وإنهم في قبضة الله في الدنيا، وجزاؤهم عنده في الآخرة، وهو يتولى الجزاء بالإحسان لمن أحسن وبالعذاب لمن عصى.
ما بين التابع والشيطان
هاتان الآيتان تصوران المجاوبة التي تكون بين العصاة وأولهم الشيطان الذي أقسم ليغوين الناس إلا عباد الله المخلصين، والطبقة التي استغواها ابتداء المتبوعون من ذوي الاستكبار والاستعلاء على الناس بالجاه الدنيوي والمال والعزة، وهؤلاء يؤثرون في غيرهم فتكون الطبقة التابعة والإمعات١ الطائعة.
صور الله سبحانه أقوال التابعين وابتداء من الدنيا في العصيان إلى من أخذوهم إلى الضلال، فقال تعالى :﴿ وبرزوا لله جميعا ﴾، أي ظهروا أمام الله جميعا وقد عصوه، إذ أشركوا به أندادا لا تنفع ولا تضر، وذلك بعد أن بعثهم الله تعالى، وأنشرهم من قبورهم وجمعهم يوم الحشر فكانوا أمام الله، وقد كذبوا بلقائه، وقالوا :﴿... أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد...( ٥ ) ﴾ [ الرعد ]، والتعبير ب ﴿ برزوا ﴾ فيه تذكير بالعيان لبطلان أقوالهم في الدنيا، وجميعا : إشارة إلى أنه قد جمع التابع والمتبوع والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، وكانوا بين يدي الله وحده، وكانت المجاوبة الآتية :﴿ فقال الضعفاء للذين استكبروا ﴾ الضعفاء : جمع ضعيف، والضعيف يشمل ثلاثة أنواع ممن يستصفون بالضعف :
أولهم : الأرقاء والفقراء والأرذلون في معيشتهم في الدنيا، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا وفيهم ذلة لم يزيلوها بالإيمان.
وثانيهم : الضعفاء في تفكيرهم الذين يرضون بأدنى فكرة ويتبعون غيرهم اتباعا من غير دليل، بل في استكانة، وإن كانوا أقوياء في مالهم فهم ضعفاء في نفوسهم.
وثالثهم : الذين يتبعون القوة دون دليل.
يقولون للذين استكبروا من الكبراء ذوى الوجاهة والقيادة في الضلال :﴿ إنا كنا لكم تبعا ﴾، وتبع جمع تابع، أو مصدر نعت به، ويكون معنى التعبير هو الإيغال في التبعية كأنهم لا وجود لهم ﴿ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ﴾ الفاء تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، أي بسبب هذه التبعية هل أنتم مغنون عنا عذابا من عذاب الله من شيء ﴿ من ﴾ الأولى للتبعيض، ومن الثانية للاستغراق، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي لستم مغنون عنا بأي قدر من عذاب.
أجاب الذين استكبروا عن الحق، فقد أجابوا عن هذا الاستفهام الإنكاري، الذي لا يخلو من معنى التوبيخ والملامة حيث لا لوم قائلين :﴿ لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ﴾، والمعنى أننا على سواء، لو هدانا الله إلى الحق لهديناكم إليه ولكنا ضللنا فضللتم، وإنكم تبعا لنا فارتضوا بما وقع لنا، ولا يخلو هذا الكلام من إلقاء اللوم عليهم في التبعية من غير تفكير وتبرير، وكأنهم يشيرون إليهم إلى أنهم كان عليهم أن يتبعوا عن بينة.
ثم يقولون لهم : إننا وقد وقعنا في الضلال علينا أن نذوق مغبتها طائعين ؛ لأننا مجبرون، وفي آية أخرى صرح الكبراء فقالوا :﴿... فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ( ٣٩ ) ﴾ [ الأعراف ].
وفي هذه الآية يقولون :﴿ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ﴾ سواء معناها يستوي علينا جزعنا أم صبرنا، فالجزع لا يحول الشر عنا، والصبر لا يمنع الأذى. وقد فسروا هذه التسوية بقولهم :﴿ ما لنا من محيص ﴾، أي منجاة من العذاب، أو مهرب منه أو متحول من هذه الحال إلى غيرها، ومحيص : من حاص حيصا، وهو التحول، أي مالنا من تحول، ومحيص هنا إما أن يخرج القول على أن محيص اسم مكان، ومكانهم جهنم، أي ما لنا تحول عن هذا المكان، أو مصدر ميمي، أي ما لنا تحول عما نحن فيه، فالأمر لله.
١ جمع إمعة: وهو من يقلد في قوله أو فعله..
تلك هي المجاوبة التي بين التابع والمتبوع، والشيطان مصدر ضلالهم وإغوائهم وهو كالمتفرج عليهم ولكنه غير ناج :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر ﴾ أي أحكم وفصل فيه، ولم يكن لحكم الله مرد ولا نقص، ﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ﴾، أي وعد هو الحق، فالإضافة بيانية، أي الأمر الصحيح الثابت الصادر من مالكه، وهو الذي يجازي عليه بالثواب وعلى مخالفته بالعقاب، والفعل في ذاته نفع لا ضرر فيه، وخير لا شر فيه، وكان عليكم أن تطيعوه، ولا تخرجوا عليه.
﴿ ووعدتكم فأخلفتكم ﴾ ولم يذكر وصف وعده ؛ لأنه مفهوم من وصف الأول بأنه الحق ومقابله باطل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وترك لأنه مفهوم من السياق، ولكي تذهب مذاهب فيما يعد به الشيطان إنه لا يعد إلا بما يكون من ورائه الفساد والبوار، والعبث والشر، فهو ليس باطلا فقط بل أكثر من باطل إمعانا في الشر، وقوله :﴿ فأخلفتكم ﴾، أي منيتكم الأماني الباطلة، وأودعت نفوسكم الأوهام، وزينت لكم السوء لتحسبوه أنه حق، وإسناد الإخلاف إليه – لعنه الله تعالى – مع أن الإخلاف من الله تعالى، وبيان كذب ما وعد وألقى به في أمنية الناس ؛ لبيان أنه وهو يعد يعلم أنه باطل وأنه إغواء، فكأنه هو الذي أخلف لأنه يعلم أنه كذب لا حقيقة بل هو وهم وضلال.
بعد ذلك اتجه الشيطان لتبكيتهم لأنهم أطاعوه، فقال :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾، أي أجبتم دعوتي الخالية من أي تسلط أو دليل طالبين ذلك مجيبين له، فما كانت تبعة طاعتكم لي علي، إنما كانت عليكم ؛ ولذا قال :﴿ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾ لقد كان أمامكم أمر الله، وهو الخالق المنشئ، ودعاكم إلى الحق، ومعه الأدلة الثابتة وأمامكم دعوتي الخالية من البرهان والدليل، وليس لي عليكم قوة مهيمنة إلى وسوسة خفية فأطعتموني وعصيتم ربكم.
وهذا شأن أتباع إبليس دائما يقعون في الشر ثم يلومون من أوقعوهم لأنهم أطاعوهم، وإن الشيطان له عذاب، وهو يصرخ بأنه فيه، وإنه لا يستغيث ؛ لأن أحدا لا يغيثه ولا يستطيع أن يغيث أحدا ؛ ولذا جاء على لسانه قوله :﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ﴾ المصرخ هو المجيب للمستصرخ المغيث له، والصارخ هو المستغيث والمعنى بمستطيع إغاثتكم وما أنتم بمستطيعين إغاثتي، فالعذاب نازل بنا، وعلى كل أن يتحمل مغبة ما عمل وما اعتقد وما وسوس به من ش.
وقد أعلن ضلاله وضلالهم بقوله :﴿ إني كفرت بما أشركتموني من قبل ﴾، ( ما ) هنا مصدرية أو موصولة ولا يختلف المعنى في التقديرين، والمعنى : إني كفرت بالذي أشركتموني في عبادتكم من قبل، أي كفرت الآن بشرككم في الدنيا، وآمنت بالله تعالى وحده لا أشرك به شيئا، وقال : أشركتموني مع أنهم ظاهرا ما كانوا يشركون الشيطان بل كانوا يشركون أوثانا. فلم نسب إليه أنهم كانوا يشركونه ؟ والجواب عن ذلك أن عبادتهم الأوثان كانت بوسوسته هو وتسويلهم، والأصنام لا حقيقة لها، فكأنهم كانوا يشركونه بالله سبحانه وتعالى، وقوله تعالى :﴿ كفرت ﴾ تفيد أنه يكفر الآن، مع أنه وهو الذي يزين عبادة الأوثان يعلم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، ولا معبودا سواه، وأن عمله إغواء وإضلال، فهو غير مؤمن بها من قبل، والجواب عن ذلك : أنه الآن يعلن كفره بها.
ويقول الله تعالى واصفا العصاة بالظلم :﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾ تحتمل هذه الجملة السامية أن تكون تتميما لكلام إبليس، وتحتمل أن تكون من الله لبيان استحقاق العصاة جميعا للعذاب، وأرى أن الاحتمال الثاني هو الحق، فهو بيان لتسجيل العذاب المؤلم في ذاته عليهم بسبب ظلمهم تابعين ومتبوعين ومغويهم معهم، فهم ظلموا الناس، وأفسدوا في الأرض فحقت عليهم كلمة العذاب.
أهل الجنة
بعد أن صور الله تعالى حال العصاة، وشيخهم إبليس ليعلم المؤمنون مآل العصيان فيجتنبوا أسبابه في الدنيا، بين سبحانه ما ينتظر المؤمنين تشجيعا لهم ليستمروا في طريقهم وهو طريق الحق، فقال سبحانه :﴿ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾.
﴿ وأدخل الذين آمنوا ﴾ البناء للمجهول، ومن الذي أدخلهم، أي ما الفاعل الذي لم يذكر وبنى للمجهول، قالوا : إن الفاعل هم الملائكة، وإن ذلك سائغ مستقيم، ويصح أن تقول : إن الله سبحانه هو الذي أدخلهم، ولكن لم يذكر لفظ الجلالة للإشارة إلى أن ذلك جزاء عملهم، فالبناء للمجهول يؤدى إلى هذا المعنى وهو ترتيب الإدخال في الجنة على أعمالهم، وقوله تعالى :﴿ بإذن ربهم ﴾، أي برضاه وأمره، وما رتبه من أن كل نفس ما كسبت، وقد ذكر سبب دخول الجنة في صلى الموصول :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ فسبب دخول الجنة أمران : الإيمان وهو بالحق وتصديقه والإذعان به، والعمل الصالح، وقال تعالى :
﴿ وعملوا الصالحات ﴾، أي الأفعال الصالحة من أداء الفرائض، والصح وصف عام لكل عمل هو نافع لذاته، وقصد به وجه المنفعة للناس، فالصالحات تشمل كل الفرائض الشرعية والعمل الطيب والقول الطيب.
ولا نتعرض لكون العمل جزءا من الإيمان أولا، إنما نقول : إن ما تنطق به الآية ومثيلاتها أن العمل جزء من استحقاق الثواب الذي أعد للمؤمنين.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة بأنها النعيم المقيم، فالأنهار تجري من تحتها، أي أن الأنهار تجري من تحت الأشجار، فتجرى فيها متخللة أشجارها فيكون المنظر بهيجا، وتكون متعة النفس بالظلال، ومنظر الماء يجرى، والخضرة التي تسر النفس، وتمتع القلب.
ويكون مع ذلك الأنس الروحي بالائتلاف والأمة والسلام ؛ ولذا قال تعالى :﴿ تحيتهم فيها سلام ﴾ يتبادلون التحية، وليس تلاوما أو تأثيما، كما يجري بين أهل النار بين التابع والمتبوع والشيطان من ورائهم.
وإن الفرق بين الإيمان والكفر أمران : أولهما الإيمان، وثانيهما كلمة الحق، وإن كلمة الحق تهدي إلى البر والإيمان ؛ ولذا مثل الله تعالى كلمة الحق، وكلمة الكفر بمثلين، فقال تعالت كلماته :
﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( ٢٤ ) تؤتى أكلها كل حين بإذن ربهما ﴾.
الاستفهام لإنكار الوقوع بمعنى النفي، وقد دخل على ( لم ) وهي للنفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى، لقد ترى كيف ضرب الله مثلا.... والإثبات على هذا النحو يدل على تأكيد الإثبات والتنبيه وتوجيه النظر إليه.
والعلم متجه إلى الحال والكيف، قال :﴿ كيف ضرب الله مثلا... ﴾ أي لقد ترى الحال في ضرب الله المثل، ضرب بين، والمعنى : كيف بين مثلا كلمى طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
﴿ أصلها ثابت ﴾ في الأرض بجذورها الممتدة في عروق الأرض، ثابتة بثبات هذه الجذور، ﴿ وفرعها في السماء ﴾، أي غصونها ممتدة في السماء، وكلما علت الشجرة في السماء وامتدت فروعها فيها كثرت ثمراتها، وتدلت مع فروعها، والمراد من الفرع والفروع كما في بعض القراءات، أي فروعها في السماء.
ثم وصف سبحانه طيب هذه الشجرة فوق ما وصف بأن ثمراتها دائمة لا تنقطع، فقال تعالى :﴿ تؤتي أكلها حين بإذن ربها ﴾، أي تؤتى ثمراتها في كل حين، وإيناعها بإذن ربها.
والشجرة هي المشبه به، وقد وصفها سبحانه بأنها طيبة، وطيبها في أنها ثابتة الأصل، وبأنها مرتفعة، وبأنها تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها.
هذا هو المشبه به، فأما المشبه : هي الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة فيها عناصر الطيبة التي ذكرت في الشجرة، فهي كلمة النفس والقلب والعقل، تنبع من القلب والعقل فقال بإخلاص لله تعالى، وهو الحق، وإنها إذ تقال تعلو بصاحبها عن سفاسف الأمور، وتتجه به إلى معاليها، فهي ترفع صاحبها ولا تهوى، وهي هادية مرشدة ممتدة النفع تؤتى ثمراتها كل حين، والكلمة الطيبة تبقى ببقاء الأنفس المتبصرة المدركة، فالكلمة حياة تحيى النفوس والأفئدة.
وما الكلمة التي تتحقق فيها هذه المعاني ؟ قيل : إنها كلمة التوحيد، وقيل : إنها الإيمان، والحق أنها الكلمة التي تكون صادقة في ذاتها ومنبعثة من النفس لإرضاء الله تعالى، والذود عن محارمه وتتحقق فيها النية الطيبة، والقول الطيب، كما قال تعالى :﴿ وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ( ٢٤ ) ﴾ [ الحج ]، وروى من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة، الإيمان فروعها، والصلاة أصلها، والزكاة فروعها، والصيام أغصانها، والتأذى في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله ثمراتها".
ولقد قال تعالى :﴿ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ﴾، أي الأمور المتشابهة بين بعضها البعض، فيبين المعنوي بالحسي كأنه محسوس مرئي، ويبين الله سبحانه وتعالى ذلك البيان ليرجوهم أن يتذكروا ويعتبروا، فالرجاء ليس من الله تعالى الذي يعلم كل شيء ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.
هذا مثل الكلمة الطيبة وهي كلمة الحق الجامعة لكل معاني الخير والطيب، والكمال والجمال، أما الكلمة الخبيثة فقد قال تعالى في مثلها :
﴿ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ( ٢٦ ) ﴾
﴿ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ( ٢٦ ) ﴾
الكلمة الخبيثة هي الكلمة التي تنبعث من خبث النفس، وضلال الفكر، وتكون في باعثها أئمة، وفي غايتها أئمة فهي على نقيض الكلمة الطيبة ؛ لأنها لا تنبعث من إخلاص لله ولرسوله، ولا تكون طيبة في واقعها، ولا في نتائجها، وما يترتب عليها، وأوضحها الكذب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عن الله صديقا، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا"١.
والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة التي لا فائدة منها ﴿ اجتثت من فوق الأرض ﴾، أي أنها ليس لها جذوع ممتدة في باطن الأرض، بل هي على سطحها، ومعنى ﴿ اجتثت من فوق الأرض ﴾ أي ظهرت جثتها من فوق الأرض فليس لها جذور تمتد فيها كبعض أنواع النباتات التي ليس لها جذور تغوص في عروق الأرض، ﴿ ما لها من قرار ﴾، أي استقرار وثبات في باطن الأرض، والمؤدى من هذا التشبيه أن الكلمة الخبيثة لا تعيش في الوجود، وليس لها بقاء فيه، بل إنها تنتهي بانتهاء زمانها وتنزل من الأضرار بمقدار وقتها، كالسعاية والنميمة والكذب والخديعة والغيبة، وليس لها وجود إلا بمقدار زمانها وقد تضر، لكن عاقبتها وخيمة، وطعامها وبئ، ولا تبقى إلا الكلمة الطيبة، وما يكون لله وللحق وحده.
وعن قتادة رضي الله عنه أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة ؟ فقال :"ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة"، اللهم جنبنا خبث القول، واجعلنا من الذين قلت فيهم :﴿ وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ( ٢٤ ) ﴾ [ الحج ].
١ سبق تخريجه..
﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( ٢٧ ) ﴾.
يثبت الله الذين آمنوا بأن يلقى في روعهم الاطمئنان إلى الحق والجزم به والنطق بمقتضاه، والثبات عليه لا يحيد عن النطق بالحق والعمل به، والرضا بنتائجه ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ بالقول الثابت ﴾، ولقد قرر العلماء أن صاحب النفس المطمئنة الراضية بحكم الله المنفذة لتكليفه يلقى الله فيها بالإخلاص، والإخلاص لله يجعل النفس تشرق بنور الله، فتدرك فتؤمن فتقول الحق وتعمل به، ويكون من بعد ذلك السلوك الاجتماعي المستقيم بأمر الله ونهيه، فمعنى ﴿ بالقول الثابت ﴾ القول الذي يقوم على دعائم الحق، ولا يتزلزل لباطل، ويصح أن نقول : إن الثبات صفة لصاحب القول، وأضيفت إلى القول ؛ لأنه لا يثبت القول إلا بثبات صاحبه الذي لا تزلزله عوابث الهوى ولا أوهام الشيطان، وما أحكم ما قاله الزمخشري إذ يقول رضي الله عنه :"القول الثابت هو الذي يثبت بالحجة، والبرهان في قلب صاحبه، وتكمن فيه فاعتقده، واطمأنت إليه نفسه، وتثبيتهم به في الدنيا أنهم إذا فتنوا في دينهم لن يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقداتهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر".
هذا كلام صدق، وإن القول الثابت كما يشمل الصبر في العقيدة يدخل في عمومه الثبات على الحق في نصيحة الحاكم، والامتناع عن قول الباطل مداهنة له، ويقول للحاكم الظالم : اتق الله، ويكررها كلما اقتضت الحال قولها في غير مواربة، إلا إذا كانت الحكمة أن يداور لأجل إيصال الحق إلى قلب الحاكم، وتسويغه في نفسه، فللقول سياسة، وللعلم سياسة ومنها تسويغ الحق ليهضم معناه، وخصوصا في أزمان الفساد كالزمن الذي نعيش فيه، ولعل الإمام الزمخشري عاش في مثله، وما ضيع المسلمين إلا سكوتهم عن القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى :﴿ ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ﴾ معنى إضلال الظالمين أنهم إذا ساروا في طريق الضلالة أوغلوا فيه ولا يردهم سبحانه وتعالى عنه بل يزكيهم سبحانه يسيرون فيه إلى نهايته، ووصفهم بالظالمين فيه إشارة إلى أنهم يبدءون بالسير في طريق الظلم الذي يشمل الظلم في الاعتقاد بالإشراك، والظلم للنفس بارتضاء طريق الشر، والظلم للناس في معاملاتهم، وفتنة الناس في دينهم وإيذائهم في اعتقادهم.
﴿ ويفعل الله ما يشاء ﴾ ؛ لأنه المختار المريد، لا يسأل عن يفعل وهم يسألون.
ويلاحظ أن لفظ الجلالة ذكر مرتين في جملتين متعاقبتين، ولم يكتف بالإضمار بل أظهر في موضعه، فقال سبحانه :﴿ ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ﴾ وذلك لتربية المهابة أولا، ولبيان كمال سلطانه ثانيا، وتأكيد إرادته المختارة ومشيئته الحكيمة ثالثا، والله ولي
الإنعام.
جزاء كفر النعمة وجزاء مكرها
التبديل معناه التحويل، أو جعل شيء بدل شيء، ومعنى تبديل نعمة الله كفرا في قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا ﴾ أنهم جعلوا بدل النعمة التي تستوجب الشكر كفرا، فالذين أعطوا نعمة بدل أن ينتفعوا بها في وضعها موضعها من الشكر عليها كفروا بها، وكثيرون من ذوي النعم الذي أنعم الله عليهم بالثراء استعلوا به فجعلوه كفرا، ومن أنعم الله تعالى عليه بجاه في الدنيا بدلوا كفرا، فاستغلظوا واستعلوا، وجعلوا جاههم غرطسة وكبرا، وبطروا معيشتهم.
وكذلك أهل مكة في الجاهلية أكرهم الله تعالى بمقامهم حول البيت الحرام، وتلك نعمة أنعم الله بها عليهم، فبدل أن يقوموا على سدانته وطهارته وضعوا عليه الأوثان، فاستبدلوا بالنعمة كفرا، وكذلك أنعم الله عليهم وعلى البشرية ببعث محمد صلى الله عليه وسلم، فبدلوا كفرا وعاندوه وآذوه وأصحابه، وأعم الله تعالى عليهم برحلتي الصيف والشتاء، وأن تكون مكة وسط البلاد العربية تغدو منها المتاجر وتروح إليها بين اليمن والشام فبدلوها كفرا، واتخذوها ربا الجاهلية، وأكلوا السحت، وكذلك اليهود بدلوا نعمة الله إلى كفر، أعطاهم الله تعالى علم الكتاب فغيروا وبدلوا واستطالوا على الناس، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وظلموا الناس وأكلوا أموالهم سحتا ورشوة، وقالوا :﴿... ليس علينا في الأميين سبيل...( ٧٥ ) ﴾ [ آل عمران ]، وهكذا.
ولذا نقول : إن الآية عامة تشمل كل من أنعم الله عليه بنعمة، فبدل أن يضعها في موضعها يتخذها أداة للطغيان والضلال، فتكون كفرا، وأنهم بسبب ذلك الطغيان الذي يستخدمون النعمة طريقا له ويكفرون ﴿ وأحلوا قومهم دار البوار ﴾، أي الهلاك، أي ينزلون قومهم من عزة الإنسانية إلى الذل فيكون ذلك طريقا لانحدارهم إلى الهلاك، وأصحاب النعم التي يكفرونها هم الذين يفسدون أقوامهم، ويأخذونهم إلى حيث الفناء، وفناء الأمم والأقوام بشيوع الكفر والجحود فيها.
وقال الزمخشري :"إن تبديل النعمة كفرا، معناه تبديل شكر النعمة كفرا، وقد ذكر وجوها كثيرة فقال :﴿ بدلوا نعمت الله ﴾، أي شكر نعمة الله ﴿ كفرا ﴾ ؛ لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر، وبدلوه تبديلا ونحوه ﴿ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( ٨٢ ) ﴾ [ الواقعة ]، أي شكر رزقكم ؛ حيث وضعتم الكذب موضعه، ووجه آخر، وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفرا على أنهم لما كفروها سلبوها، فبقوا مسلوبي النعمة، موصوفين بالكفر حاصلا لهم بدل النعمة، وهم أهل مكة أسكنهم الله تعالى حرمه، وجعلهم كرام بنبيه فأكرمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر، وقد ذهبت عنهم النعمة، وبقى الكفر طوقا في أعناقهم، وعن عمر رضي الله عنه هم الأفجران من قريش، بنوا المغيره، وبنوا أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية، فمتعوا حتى حين". هذه وجوه ذكرها إمام البيان الزمخشري، ونحن لا نقيد عموم القرآن ببلد أو جماعة إلا أن يكون لفظ الكريم، يوحى بالتخصيص بدل التعميم، واللفظ هنا فيه بيان لأحوال النفوس الإنسانية عندما تحيد عن أمر ربها، وخلاصة الوجوه بعد إخلائها من التخصيص بقوم أو قبيل أنها تتجه إلى أن التبديل في الشكر، فيكون الكلام على حذف مضاف، بدلوا شكر النعمة كفرا، أو يكون التبديل في ذات النعمة فلم ينتفعوا بها الانتفاع الطيب وبدلوا كفرا.
وبذلك سرى الفساد إلى أقوامهم فأحلوهم دار الهلاك في الدنيا بالذل والهوان وفي الآخرة بجهنم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ جهنم يصلونها وبئس القرار ( ٢٩ ) ﴾.
جهنم عطف بيان لدار الهلاك، وأن هلاك أشد من النيران يصطلون بها، يحبط بهم حرها الشديد ويكونون وقودا لها، وإنها أسوأ نهاية ؛ ولذا ذمها الله فقال تعالت كلماته :﴿ وبئس القرار ﴾، أي بئس المقر الدائم، فالقرار مصدر أريد به المكان، فالذم للمكان، أو الذم لذات القرار في جهنم، وهو الحال التي انتهوا إليها.
وقد ذكر الله تعالى أشد الكفر الذي بدلوا به نعمة الله تعالى : وهو اتخاذ الأنداد شركاء له في العبادة فقال تعالى :
﴿ وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ( ٣٠ ) ﴾.
الواو عاطفة على ﴿ بدلوا نعمت الله كفرا ﴾، فقد بدلوا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وجعلوا لله أندادا، وجعل الله سبحانه وتعالى الأصل، وهو تبديل نعمه التي أنعم الله بها نعمة تجزى، فجعلوها كفرا هو الأصل لكل مآثمهم، ونتيجة عقوبته ؛ وذلك لأن الانغماس في الأهواء والاستطالة بها سب الشر ونسيان الله تعالى، من نسي الله تعالى كان منه الانحراف الفكري والاعتقادي، والانغماس في الشهوات.
﴿ وجعلوا ﴾ معناها اتخذوا ﴿ لله أندادا ﴾، وأنداد جمع ند، وهو المماثل، وهذه الأوثان بالبداهة ليست أندادا مماثلة لله جل جلاله، ولكنهم اتخذوها أندادا بأوهامهم وأهوائهم وفساد تفكيرهم ؛ إذ كيف تكون الأحجار التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع أندادا، ولكنهم جعلوها كذلك.
وقوله تعالى :﴿ ليضلوا عن سبيله ﴾ فيها قراءتان : إحداهما بضم الياء والثانية بفتحها، والأولى قراءة كثرة القراء، والثانية قراءة من دونهم عددا وهما متواترتان، ونحن نعدهما كلتيهما قرآنا لا ريب فيه، ويكون المعنيان صحيحين ما داما غير متعارضين، ولا يمكن أن يكون ذلك في قراءتين متواترتين.
فالمعنى ليضلوا عن سبيل الله تعالى بذلك الجهل الذي جعلوا فيه الأحجار أندادا لله تعالى، فإنه ذاته هلاك، وعاقبته ضلال، إذ العاقبة دائما من جنس مؤثراتها والنتيجة دائما من جنس مقدماتها.
وهم إذا ضلوا بها يعملون على إضلال غيرهم بالفتنة في الدين، وإيذاء المؤمنين وسب دعاة الحق، والسخرية منهم.
وقد يقول قائلهم : إنهم اتخذوها بغير الضلال، ونقول : إن النتيجة كان الضلال أو الإضلال، ولذلك قالوا : إن اللام لام العاقبة لتكون النتيجة ضلالهم بها ؛ وإضلال غيرهم لتقديسها ؛ وذلك أنهم صنعوا حجارة على أشكال آدمية، ثم توهموا فيها قوى خفية، ثم عبدوها ضلالا بها.
وقد أمر الله تعالى نبيه الأمين بأن يقول :﴿ تمتعوا ﴾ إن الذي أغراهم بعبادة الأحجار واتخاذها أندادا لله هو ضلال عقولهم وانغماسهم في الأهواء والشهوات مما جعلهم لا يفكرون في حقائق الأمور ويستمتعون بأهوائهم، فأمر الله تعالى نبيه بأن يقول :﴿ تمتعوا ﴾، أي استمروا في تمتعكم وأهوائكم ومفاسدكم الفكرية والتفسيرية، وليس هذا أمر للطلب بل للتهديد، أي استمروا فإن مصيركم إلى النار، فالعبرة بالنتيجة لا بصيغة الأمر كما في قول صلى الله عليه وسلم :"إذا لم تستح فاصنع ما شئت"١، والنتيجة الاندحار في كفاسد الأخلاق والأهواء إلى أراذل الأعمال، وقال الزمخشري :"إن الأمر هنا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره، ولا يريدونه مأمورين قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه، ولا يملكون أمرا دونه، وهو أمر الشهوة، والمعنى : إن دمتم على الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار"٢.
أي أن الأمر ليس من الله والنبي صلى الله عليه وسلم، إنما الأمر من آمر هو الانسياق وراء الأهواء والشهوات، فكأنه أمر أمروه، واتبعوه، وكان مآلهم إلى النار.
هذا شأن الذين بدلوا نعمة الله كفرا واتخذوا الأنداد، أما شأن الذين أدركوا النعمة وشكروها ولم يكفروها فإنهم لا يضلون في ذات أنفسهم، ولا يضلون غيرهم بل يكون منهم الخير والطهارة لأنفسهم ولجماعتهم ؛ ولذا قال عز من قائل :
﴿ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ( ٣١ ) ﴾.
١ سبق تخريجه..
٢ الكشاف: ج ٢/ ٣٧٧..
﴿ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ( ٣١ ) ﴾.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم في مقابل الأمر للكافرين بأن يمتعوا بالعاجلة، فالآجلة مصيرهم فيها إلى النار، والأمر للمؤمنين هو أمر بثمرات إيمانهم، وعبر عن المؤمنين ب ( عبادي ) للإشارة إلى أنهم قاموا بحق العبودية، فلم يشركوا مع الله أحدا، وأخلصوا الذات، وأعطوا ما هو على العبد أن يؤذيه.
﴿ يقيموا الصلاة ﴾، ( أن ) هنا محذوفة وهي تفسيرية تفسر مضمون القول، قل لهم أن يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية.
أو نقول :"إن قوله تعالى :﴿ يقيموا ﴾ خبرية على أنها جواب الأمر، أي قل لهم تكليفات الله ليقيموا الصلاة، ويرى الزمخشري أن تكون ﴿ يقيموا ﴾ بمعنى لقيموا الصلاة، والمعنى على ذلك قل لهم مبينا أحكام الشريعة وهديها، وخص الصلاة والزكاة أي الإنفاق ؛ لأن الصلاة لتهذيب وإقامتها استشعار للربوبية، وهي عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، والزكاة – أو الإنفاق – فيها التعاون ؛ ولذا تسمى "الماعون"، كما قال تعالى :﴿ فويل للمصلين ( ٤ ) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( ٥ ) الذين هم يراءون ( ٦ ) ويمنعون الماعون ( ٧ ) ﴾ [ الماعون ].
الإنفاق في السر سترا للمتجملين من الفقراء أحسن في ذاته، والإنفاق علانية للافتداء ونشر التعاون، وكل في موضعه حسن.
﴿ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ﴾ ليتدارك التقصير بتعويض يقدمه أو فدية يغتدي بها نفسه، ولا مخالة وصداقة ينقذ بها الصديق صديقه، والرفيق رفيقه، وقد قال تعالى في هذا المعنى :﴿ واتفقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ( ٤٨ ) ﴾ [ البقرة ].
والسرية تحسن في حالة التطوع، وإيثار ذوي القربى والجيران سترا عليهم، والإعلان يكون في الواجب، وهنا يرد سؤال، إن الزكاة لم تجب إلا في المدينة، والسورة مكية، كما هو معلوم، فكيف يجب الإنفاق ؟ ونقول : إن وجوب الإعطاء هو من قبيل معاونة المؤمنين من الضعفاء والأرقاء على الصبر على الأذى يؤذيهم به المشركون لإخراجهم من دينهم، وإنه دعى إلى الزكاة في سورة مكية، منها قوله تعالى في سور الروم :﴿ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( ٣٩ ) ﴾ [ الروم ].
وقبل أن ننتقل هذه الآية الكريمة إلى ما بعدها نذكر كلاما قيما ذكره الزمخشري في حكمة اقتران قوله :﴿ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ﴾، قال أثابه الله تعالى :"فإن قلت كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ قلت : من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها، وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله :﴿ وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( ١٩ ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( ٢٠ ) ﴾" [ الليل ]، فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص فينفقوا منه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى"١.
وإن هذه إشارة بيانية قويمة تشير إلى أن الإنفاق سرا وعلانية المطلوب هو لوجه الله تعالى، لا للكسب بمعاوضة ولا للكسب بإرضاء صديق أو رجاء في شدة.
وفي قوله تعالى :﴿ من قبل أن يأتي... ﴾ إشارة إلى أن الإنفاق لوجه الله تعالى هو ذكر لله تعالى، فليس من التجارة التي قال الله تعالى فيها :﴿... لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله...( ٩ ) ﴾ [ المنافقون ]، ولا التجارة التي ذم بها المنافقون في قوله تعالى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ( ١١ ) ﴾ [ الجمعة ].
١ الكشاف: ج ٢/٣٧٨..
وقد ذكر سبحانه بعض نعمه فقال :
﴿ الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ( ٣٢ ) ﴾.
ذكر سبحانه وتعالى أن المشركين بدلوا نعمة الله كفرا وجعلوا لله أندادا من حجارة وجعلوها آلهة، وفي هذه الآية يذكر بعض نعمه على الوجود كله فقال تعالت كلماته :﴿ الله الذي خلق السموات والأرض ﴾ صدر الآية الكريمة بلفظ الجلالة مفيض النعم، لتربية المهابة، ولمقابلة عبادته، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، بعبادة الأوهام والضلال، و ﴿ الله ﴾ لفظ الجلالة : مبتدأ، والموصول هو خبره، فهو تعريف لله تعالى بأنه الذي خلق السموات والأرض، خلق سبحانه وتعالى السماء ببروجها ونجومها وكواكبها، والأرض بطبقاتها وجبالها وما أودع ببطنها من أحجار وفلزات ومعادن جامدة وسائلة، اقرأ قوله تعالى :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ( ٦ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل وزج بهيج ( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ( ٨ ) ونزلنا من السماء ماء مباركا به جنات وحب الحصيد ( ٩ ) والنخل باسقات لها طلع نضيد ( ١٠ ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ( ١١ ) ﴾ [ ق ].
هذا هو الإله القادر القاهر الغالب، وهو الجدير بأن يعبد لما أنشأ وأبدع وأنعم. ثم ذكر نعمته في تلاقي السماء بالأرض يجمع بينهما الذي يسقى الأنفس والثمرات ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به من الثمرات رزقا لكم ﴾ أفرد السماء هنا وجمع السموات في الخلق ؛ لأن الماء ينزل من المزن السحاب الثقال المملوءة ماء وسميت سحابا ؛ لأنها فوق الأرض التي تمطرها، أما السموات فتحيط بالأرض كأنها الشيء الصغير قبة، وإن هذا الماء هو الذي تخرج منه الثمرات ؛ ولذا قال :﴿ فأخرج به من الثمرات ﴾، والثمرات جمع ثمرة وهو ما تنتجه الأرض من زروع وغراس وكروم، ونخيل، ومن الثمرات تكون المطاعم والملابس والمساكن اليدوية والأخشاب وغير ذلك ( رزقا ) بمعنى مرزوق كمطحن بمعنى مطحون، أي أنه يرزقكم إياه ويجئ إليكم سهلا بغير مشقة إلا العمل الذي يكون سببا مقترنا بالعطاء وليس منشئا له، فالله هو الرزاق ذو القوى المتين.
و ﴿ من ﴾ في قوله :﴿ من الثمرات ﴾ بيانية لتنوعها، والمعنى فأخرج من الثمرات المتنوعة المختلفة الفوائد التي ترجع بأحسن الفوائد.
وإن هذه الثمرات تنقل من أرض إلى أرض، وإنه ثبت الآن أن خير السبل البحار وما كان ذلك معروفا عند العرب، بل النقل عند العرب كان بالجمال التي كانت تسمى أو سميت سفن الصحراء، ولكن القرآن أنزل من حميد يعلم ما كان وما يكون، فهو يعلم أنه سيكون زمن يكون النقل بالبحار في جله، وفي الأرض في قله ؛ ولذا قال عز من قائل :﴿ وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ﴾ ومعنى سخرها مكن الإنسان من صناعتها واستخدامها وجعلها تعلو في البحر سائرة من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، حاملة خيرات وفيرة من أرض إلى أرض أخرى، هذه الخيرات كثيرة، وبذلك تكون الخيرات موزعة في الأرض بالقسطاس لولا ظلم الإنسان.
﴿ وسخر لكم الأنهار ﴾ وهي المجاري العذبة كنهر النيل ودجلة والفرات وسيحون وجيحون، ومعنى سخرها سهلها وتكون في البلاد التي تقل أمطارها، ولا يكفي ما تنزل السماء من ماء لسقيها وزرعها، وسمى النهر نهرا لأنه ينهرها ويشقها ويجري فيها، والأنهار الكبار تمخر فيها السفن كالبحار، والله هو الرزاق.
بعد أن ذكر سبحانه ما سخر في الأرض من اقترانها بالسماء أخذ يبين للإنسان من أجرام السماء فقال :﴿ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ( ٣٣ ) ﴾.
الدءوب معناه السير في استمرار ودأب من غير لغوب، وتلك سنة الله تعالى في أجرام السماء، فهي تسير في دأب يعلم الله تعالى سيرها، وناموسها وسننها من غير إبطاء، والشمس والقمر يسيران ويتحركان في دأب مستمر ﴿ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ( ٣٨ ) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ( ٣٩ ) ﴾ [ يس ].
وهي مسخرة يستفيد الإنسان من حركتها، فالشمس ذات الضياء والأشعة التي تمد الزرع والشجر والثمار بالنمو، والإنسان بالدفء والحرارة والأشعة، وكل ما فيه حياة الإنسان، والقمر يمده بما تنتظم به الحياة في الإنسان والحيوان، وحسبك أن تعلم أن طمث المرأة وحملها وجهازها مرتبط بمنازل القمر، وأن تعلم أم المد والجزر مرتبطان أيضا بالقمر، وإن ارتباط الشمس بالأرض كان منهما الليل والنهار، فالأرض في دورانها يحجب عنها ضوء الشمس فيكون الليل وينبسط عليها ضوء الشمس فيكون النهار، وفي الليل الهدأة والسكون والثبات والراحة، والاستجمام، وفي النهار تكون الحركة والسعي للرزق كما قال تعالى :﴿ وجعلنا الليل لباسا ( ١٠ ) وجعلنا النهار معاشا ( ١١ ) ﴾ [ النبأ ].
وقد أنعم الله على عباده بتلك النعم كلها، وظهرت بها قدرته القاهرة، وإبداعه، وإنعامه وهو المستجيب في السراء والضراء، والمنقذ في المدلهمات، وما يكرث العباد ؛ ولذا ختم الكلام في نعمه بقوله تعالى :﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ( ٣٤ ) ﴾.
( الواو ) عاطفة على ﴿ خلق ﴾ في قوله تعالى :﴿ السموات والأرض ﴾ فكلها نعم مترادفة متوالية جامعة، بعضها مع بعض أو تالى لبعض، ﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه ﴾، فيها قراءتان إحداهما من غير تنوين في ( كل )، بل كل مضاف إلى ما بعدها : وقرئ بالتنوين، ولها إضافة و ( ما ) في ﴿ ما سألتموه ﴾ اسم موصول بمعنى ( الذي ) أو نافية.
ومن في قوله :﴿ من كل ﴾ إما تبعيضية، وإما مؤكدة لاستغراق الحكم زائدة في الإعراب، والمعنى على أنها تبعيضية على قراءة الإضافة، وآتاكم بعض ما سألتموه، أما ما احتججتم إليه، وكانت حاكم حال من يسأله إياه، وإن لم يسأل باللسان بل سأله بالاستعداد والتكوين، فأعطاكم الكساء والغطاء واللباس والوقاية، ومكنكم من أن تتسلحوا ضد من يغير عليكم من سباع الأرض حيوانات أو أناسى، وغير ذلك، والبعضية بعضية أنواع أي بإعطاء بعض كل نوع من الأنواع تسألونه بمقتضى الفطرة والتكوين والحاجة الفطرية، وعلى أن ﴿ من ﴾ بيانية، يكون المعنى أعطاكم كل ما سألتموه بمقتضى الاستعداد والفطرة على ما بينا، وإن ذلك واضح جمع فيه لين الكلية في كل – ومعنى العطاء.
وعلى قراء التنوين : يكون ثمة مضاف محذوف دل عليه التنوين، والمعنى آتاكم من ( كل ) شيء سألتموه، أي بمقتضى أصل التكوين، وتكون القراءتان متلاقيتين على تخريج ﴿ من ﴾ بأنها بيانية.
ولا أرى موجبا أو داعيا لأن نقول : إنها نافية، والله أعلم.
وإن هذه وما سبقها من نعم هي نعم الإنشاء والإبقاء، فقد أنعم بالإنشاء وأنعم سبحانه وتعالى بالإبقاء مستمكنا من كل شيء حتى يكون اليوم الآخر يوم الجزاء لمن شكر بالنعيم المقيم، ولمن كفر بالعذاب الأليم.
وقد أشار سبحانه إلى أن الإنسان يكفر النعمة ظلما، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿... وقليل من عبادي الشكور ( ١٣ ) ﴾ [ سبأ ].
وقد قال تعالى :﴿ إن الإنسان لظلوم كفار ﴾ ظلوم صيغة مبالغة من الظلم، أي أنه ظالم أبلغ الظلم بظلم نفسه بالكفر وغمط حق غيره، والاعتداء على الناس وعلى الحقائق، والاعتداء بعبادة الأوثان، و ﴿ كفار ﴾ صيغة مبالغة في الكفر، وهو كفر النعمة وعدم شكرها، بل اتخاذها سبيلا لعتوه واستكباره وفساده في الأرض، وقد أكد الله تعالى ظلم الإنسان ب "إن"، وب "اللام" وبصيغة المبالغة في الظلم، وكفر النعمة، والله محيط بالكافرين.
دعاء أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام
قال تعالى :
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ءامنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ( ٣٥ ) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( ٣٦ ) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( ٣٧ ) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( ٣٨ )
هذا دعاء أبي العرب ومن يتشرفون بالانتساب إليه وهو باني البيت، وأول دعائه ما يتعلق بالبيت العتيق الذي كان أول بيت وضع للناس.
أول دعائه إلى الأرض في البيت، ﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا ﴾ والبلد هو مكة المكرمة، زادها الله تعالى تشريفا، وقوله تعالى :﴿ آمنا ﴾ أي ذا أمن" ؛ لأن الأمن للسكان لا للمكان، ومعنى الأمن لا اعتداء فيه، ووصف المكان بالأمن، فيه بيان سيادة الأمن، فالمكان لا اعتداء فيه، وهو مقدس، وقد أجاب الله تعالى دعاءه وكان فضلا من الله على العرب، كما قال تعالى :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ( ٦٧ ) ﴾ [ العنكبوت ].
والجزء الثاني من الدعاء أنه دعا ربه مبتهلا إليه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام فقال تعالى حاكيا دعاءه :﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾ دعا عليه السلام لنفسه ولبنيه أن يجنبهم عبادة الأصنام، فقوله تعالى :﴿ أن نعبد الأصنام ﴾ فيه ﴿ أن ﴾ وما بعدها، مصدر وهو عبادة الأصنام، وذكر الفعل المضارع لتصوير عبادة الأصنام، وفي ذلك إشارة إلى قبحها وبعدها عن المعقول.
وقول إبراهيم :﴿ وبني ﴾ واضح أنه لا يشمل الذرية كلها لدلالة اللفظ على ذلك ؛ ولأن الإجابة لم تكن للذرية كلها، فقد كان من هذه الذرية من عبد الأصنام، بدليل هؤلاء الذين نظر فيهم القرآن، وخاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا يشركون به شيئا، فالله تعالى لم يكن في إجابته سبحانه وتعالى ما يعم الذرية كلها.
ولقد كان إبراهيم عليه السلام الذي كان أبوه صانع أصنام، والذي ابتدأ حياته بحطم الأصنام، والذي قال :﴿ وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ( ٨٧ ) فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم...( ٥٨ ) ﴾ [ الأنبياء ].
كان إبراهيم أشد الناس بغضا للأصنام وإدراكا لضلال من يعبدونها ؛ ولذا قال مؤكدا :﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ﴾ أسند الإضلال إلى الأحجار، مع أن الإضلال هو من الشيطان الذي ابتدع الأوهام حولها ؛ وذلك لأنهم لما عبدوها وأحاطوها بأوهام كثيرة وصار الوهم يولد وهما توالت وتكاثرت، وكلها حولها صح إسناد الإضلال إليها، وعير إبراهيم عليه السلام عن الذين ضلوا بها أنهم كثير، وليسوا عددا قليلا، وذلك لعموم الضلال بها، وعمومه لا يجعلها حقا، بل هي باطل، ﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ( ١١٦ ) ﴾ [ الأنعام ].
وإن ذكر ضلال الأوثان على لسان إبراهيم عليه السلام، وهمك يتشرفون بنسبتهم إليه وهو باني الحرم الشريف المقدس، فيه بيان أنه برئ منهم ما داموا يعبدون الأوثان ؛ ولذا قال عليه السلام في دعائه :﴿ فمن تبعني فإنه مني ﴾ ملة إبراهيم هي التوحيد، كما قال تعالى :﴿... ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ١٢٣ ) ﴾ [ النحل ]، فمن تبعه في ملته فإنه منه، ومفهوم هذا أن من لم يتبعه في التوحيد، وعبد الأوثان فليس منه ؛ لأن اشتراط كونه موحدا ليكون منه، فيه بيان لئن لم يتبعه لا يكون منه، بل هو برئ منه، كما تبرأ من أبيه، وكما تبرأ من قومه إذ قال :﴿... إني بريء مما تشكرون ( ٧٨ ) ﴾ [ الأنعام ]، ثم قال عليه السلام في دعائه :﴿ ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ وصف الله تعالى خليله بقوله :﴿... إن إبراهيم لأواه حليم ( ١١٤ ) ﴾ [ التوبة ]، وإن حلمه وعطفه وشفقته لتبدو في قوله :﴿ فإنك غفور رحيم ﴾ فهو عليه السلام لم يحكم بالعذاب على من عصاه، بل ترك أمره لله تعالى، كما قال عيسى عليه السلام مثل ذلك فقال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( ١١٨ ) ﴾ [ المائدة ]، وليس معنى النص أنه يطلب الغفران لمن أشرك بالله، فمحال أن يطلب السامية أنه يرجو الرحمة لمن عصاه ابتداء ألا يستمر على عصيانه فهو يرجو التوبة ولا يقدر البقاء على الشرك حتى يكون العذاب الأليم.
وهنا إشارة بيانية حكيمة، فيقول خليل الله عليه السلام في دعوته :﴿ واجنبني وبني ﴾ تعبر عن ترك عبادة الأوثان ﴿ واجنبني ﴾، أي اجعلني في جانب وبني في جانب فهي تتضمن المباعدة، وكان حقا على ذرية إبراهيم التي عبدت الأوثان أن تباعد بينهما وبينها.
بعد أن دعا أبو العرب الشفيق لهم بتطهير نفوسهم، وأن يكونوا لله تعالى، دعا لهم بالرزق فقال :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( ٣٧ ) ﴾.
كان دعاء إبراهيم عليه السلام بضمير المتكلم ﴿ واجنبني وبني ﴾ وذلك في العبادة، أما في طلب الرزق فقد طلبه بضمير الجمع فقال :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ﴾ ؛ لأن الرزق يطلبه المخلص ليعم لا ليخص فهو يطلبه باسمه وباسم ذريته، ويعم مؤمنهم وكافرهم، كما قال تعالى منبها إبراهيم إلى أن يطلب لمن آمن ومن كفر، فقد قال تعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ( ١٢٦ ) ﴾ [ البقرة ].
يقول إبراهيم في دعائه مقررا ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أنه أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع، و ﴿ من ﴾ هنا للتبعيض وهي ذريته من إسماعيل، أما ذريته من إسحاق فلم تكن بواد غير ذي زرع، أي أنه لا زرع فيه، ينبت ما يكون غذاء للإنسان والحيوان كالحنطة والشعير ونحوهما مما يكون غذاء للإنسان.
الأمر الثاني : كان إسكان هؤلاء لغرض تعمير بيتك العتيق الذي بناه بأمر الله أبو الأنبياء ؛ ولذلك قال :﴿ عند بيتك المحرم ﴾، أضاف البيت إليه سبحانه وتعالى تشريفا لشأنه، ووصفه بالمحرم ؛ لأنه تحرم فيه الدماء، وهو في ذاته حرم آمن يأمن كل من يأوى إليه.
وقد بنى في صحراء جرداء ليكون آمنا من طمع الطامعين ورغبة المعتدين، إذ إنهم يرمون خصب الأرض ليشبعوا نهمتهم ويرضوا مطامعهم، وليكون الاستغلال الغاشم والاستعمار الظالم، فكان في أرض لا يطمع فيها طامع، ولا يرموها فاتح.
وقد كرر نداء ربه بضراعة، فقال :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة ﴾، وقوله تعالى :﴿ ليقيموا الصلاة ﴾ متعلق بأسكنت، اللام للتعليل، أي أن أسكنتهم لأجل إقامة الصلاة فيه وأن يعمروه بصلاتهم، لا يستمروا خرابا من العبادة، خاويا من الناس، فلا تنتهي إلى الغاية التي أمرت بإنشائه من أجله، وفي هذا إشارة إلى أن المشركين من ذرية إبراهيم قد انحرفوا به عن غايته عندما أحاطوا بالأوثان التي هدمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة في العام الثامن من الهجرة على صاحبها أفضل السلام وأتم التسليم.
الأمر الثالث : بعد أن ذكر إبراهيم حالهم وحال أرضهم ذكر دعاء طالبا من ربه ﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ﴾ ( الفاء ) تدل على أن الباعث لهذا الدعاء ما قبلها، وهو ﴿ أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ﴾.
في قوله تعالى :﴿ أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ مؤداها أن يفد بعض من الناس على هذه الأرض التي لا زرع فيها مسرعين تميل قلوبهم وتهوى نفوسهم محبين الرحلة مع رمالها، وجبالها وأنها لا خير فيها، وقوله تعالى :﴿ من الناس ﴾ معناها بعض الناس، وروى ابن عباس أنه قال : لو قال تعالى : أفئدة الناس لازدحم بالفرس والترك من غير المسلمين، وقوله تعالى :﴿ تهوي ﴾ من هوت الناقة إذا أسرعت في سيرها إسراعا شديدا كأنها تسابق الريح، وقوله تعالى :﴿ أفئدة ﴾ خرجها بعض العلماء على أن أصلها ( أوفدة ) جمع وفدة، حصل فيه قلب مكاني فحلت الفاء محل الواو، وحلت الواو محلها فقلبت همزة، وإنه لا داعي لهذا التخريج النحوي ولا دليل عليه، وإن الأولى أن تكون كلمة أفئدة على معناها الأصلي وهي أنها جمع فؤاد بمعنى القلب، والدعاء يكون منصبا على أن تميل القلوب إلى المكان مع جفاف مائه وصعوبة أرضه وارتفاع جباله الصماء التي لا تكسى بخضرة قط، والمعنى على ذلك يكون مستقيما وقويا ككل معاني الذكر الحكيم.
وذكر الزمخشري أن هناك قراءة أخرى وهي ( آفدة ) اسم فاعلة من أفدت بمعنى أسرعت جماعة أو جماعات متتالية جماعة بعد جماعة، حتى لا ينقطع عنهم خير الأرض كلها ؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك :﴿ وارزقهم من الثمرات ﴾، و ﴿ من ﴾ هنا يصح أن تكون بيانية، أي ارزقهم الثمرات التي حرمتهم أرضهم منها، ويصح أن تكون بمعنى بعض، ارزقهم بعض الثمرات من كل صنف.
ثم قال تعالى :﴿ لعلهم يشكرون ﴾، أي رجاء أن يشكروا هذه النعم، أي تكون حالهم حال شكر، لا حال كفر فلا يعبدوا إلا الله تعالى العزيز الحكيم.
والرجاء من العباد لا من الله، أي ليكونوا في حال رجاء الشكر دائمة بدوام هذه الخيرات التي يسوقها الله سبحانه وتعالى إليهم وتجئ إليهم في واد ( قفر ) ليس فيه زرع ولا ثمر، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام فجعله حرما آمنا تجئ إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه وفضله، بهذا الخير يتوافر أصناف الثمار ما لا يوجد كله في أخصب الأرض وريف الأمصار، وفي بلد من بلاد الشرق والغرب، إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، ثم يقول : وليس ذلك من أيامه بعجيب متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا الشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب". تلك كلمات جار الله في مكة المكرمة – الزمخشري١.
١ الكشاف: ج ٢/ ٣٨٠..
وقد أحس إبراهيم خليل الله بالخشوع أمام ربه والشراعة إليه بعد أن دعا لولده وذريته بما دعا، وأدرك أن دعاءه فيه معنى التطاول مع علم ربه، وهو العليم بكل شيء فقال :﴿ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( ٣٨ ) ﴾.
نادى ربه بضمير الجمع، فقال :﴿ ربنا ﴾، أي أنه ربه ورب ذريته، ورب الوجود كله. وأنه أعلم بحالهم، سرهم وعلانيتهم، وأن العلم على سواء يستوى فيه المغيب والمعلن وما غاب وما حضر، وكأنه يستدرك على دعائه ؛ لأنه سبحانه هو الذي أسكنهم في ذلك الوادي الجدب، وهو الذي أقامهم بجوار بيته المحرم الذي يحرم فيه ما يباح في غيره من صيد وقتال لو كان عادلا، إلا أن يكون دفاعا.
يعلم كل ذلك، بل إنه ما كان له أن يتطاول على مقام الألوهية بهذا الدعاء، وقثد ابتدأ الدعاء بذكر حالهم من العلم بسرهم وجهرهم، ثم عمم علمه سبحانه فقال :﴿ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ﴾، و ﴿ من ﴾ هنا لعموم النفي، أي ما يخفى على الله شيء في الأرض من خيرها وجدبها وزرعها، وقحطها، وطبقاتها، وما فيها من معادن سائلة وجامدة، والسماء وما فيها من نجوم وكواكب، وسحب ثقال تأتي بالدر الوفير والخير الكثير.
ولقد قال الزمخشري في هذه الآية كلاما قيما ننقله عنه فيما يلي :
"والمعنى أنك أعلم بأحوالنا، وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك وقربا إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده في إصابة معروفة، مع توفر السيد على حسن الملكة"١.
وقوله تعالى :﴿ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ ذكرت الأرض أولا ؛ لأن الكلام في جدبها وخصبها، وذكرت السماء ؛ لأنها تمدها بالسقي والماء.
وظاهر القول أن ذلك من ضراعة إبراهيم عليه السلام، وهو ما نراه، وقيل : إن ذلك من قول الله، والحق أن كله من قوله تعالى ما جاء على لسان إبراهيم وغيره.
١ الكشاف: ج ٢/ ٣٨١..
شكر النعمة
يقول تعالى :﴿... لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( ٧ ) ﴾ فاستدامة النعمة بالشكر ؛ لذلك بادر إبراهيم بشكر النعمة التي أنعم الله بها عليه. إن الله تعالى وهب له وهو كبير طاعن ولديه إبراهيم وإسحق، وكانت أمرا خارقا للعادة، وعندما بشرت بذلك امرأة إبراهيم :﴿ قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا.. ٧٢ ) ﴾ [ هود ]، فأعلن بالحمد إبراهيم الذي كان مثلا للإنسان الفطري الكامل :﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ( ٣٩ ) ﴾.
ابتدأ كلامه بالحمد إشعارا بشكر النعمة وتقديرها، إذا أعطاه ولدا حيث يستحيل ذلك عادة وعلى مجرى الأسباب المعروفة ؛ إذ أم إسحق عجوز وزوجها شيخ هرم، حتى قيل : إن سنه عند البشارة بإسحق كانت فوق المائة، وقوله :﴿ الحمد لله ﴾ فيه معنى القصر، أي أن الحمد لله تعالى وحده، فهو مانح النعم ومجريها وحده، وهو الذي وهبه في هذا الكبر العتي، وقوله تعالى :﴿ على الكبر ﴾، ﴿ على ﴾ هنا بمعنى مثلها في قول الشاعر :
إني على ما ترين كبرى أعلم من حيث تؤكل الكتف
وقوله :﴿ على الكبر ﴾ تدل على جلال الشعور بالنعمة، إن ذلك واضح أنه إكرام من الله تعالى بخرق الأسباب، وإن شكر النعمة بذكر إسماعيل وإسحق فيه معنى جليل ؛ لأنهما ولدا أبى الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام، فكان النبوة انحصرت في ذريته عيه السلام، كما يبدو من قصص القرآن الكريم الصادق في ذاته.
وقد جاءت العبارة الضارعة التي تؤكد شكره للنعمة، فقال :﴿ إن ربي لسميع الدعاء ﴾، والدعاء هنا هو الضراعة إلى الله تعالى، وطلبه منه الولد، فقد طلبه، ودعا ربه به، فقد جاء في سورة الصافات أنه قال :﴿ رب هب لي من الصالحين ( ١٠٠ ) فبشرناه بغلام حليم ( ١٠١ ) فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ١٠٢ ) ﴾ [ الصافات ]، فهذه بشراه بإسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكانت استجابة لدعائه، وكانت بعد ذلك في نفس السورة بشراه بإسحق فقال سبحانه :﴿ وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ( ١١٢ ) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ( ١١٣ ) ﴾.
والبشارتان مختلفتان : فإسماعيل أكبر من إسحق، فالذبيح إسماعيل لا إسحق كما جاء في التوراة المحرفة.
ومهما يكن الأمر في هذا فقوله تعالى على لسان إبراهيم :﴿ إن ربي لسميع الدعاء ﴾ فيه ما يدل على أن ذلك كان بدعاء من الخليل واستجابة من الله تعالى، فقد أكد أن الله سميع الدعاء أولا : بالجملة الاسمية، وثانيا ب ( إن ) المؤكدة، وثالثا باللام في قوله :﴿ لسميع الدعاء ﴾ وعبر بقوله :﴿ إن ربي ﴾ فيه أيضا شعور بالشكر الجزيل لربه ؛ لأنه الذي ربه وكونه وقام على شئونه واستجاب دعاءه.
ولقد كان إبراهيم عليه السلام صورة سامية للفطرة الإنسانية، وأوضح هذه الفطرة حب الذرية والحدب عليها وإكرامها وتوجيهها إلى الحق وإلى عبادة الله تعالى ؛ ولذا قال الله تعالى على لسانه :
﴿ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ( ٤٠ ) ﴾.
النداء إلى الله سبحانه وتعالى بوصف أنه ربه كونه وأنشأنه، وربه وقام على شئونه يدعوه إلى أن تكون نفسه للعبادة، يفديه بروحه وبالإيمان، وإقامة الصلاة، كما غذاه في بدنه وعموم أحواله، وحاجاته البدنية، فيطلب غذاءه الروحي بعد غذائه الجسدي.
ويقول عليه السلام مخاطبا ربه :﴿ اجعلني مقيم الصلاة ﴾، أي صبرني وحولني ووجهني إلى أن أكون مقيم الصلاة، أي مؤديا لها أداء مقوما مستقيما كاملا، بأن تكون أركانها الحسية مستوفاة، ومنها الخشوع والخضوع المطلق، والصلاة رمز إلى القيام بحق الدين كاملا من غير التواء، ولم يكتف بالدعاء لنفسه بل أضاف إلى ذلك الدعاء لذريته، ولكن الله تعالى أشار إلى أنه سيكون من ذريته من لا يشكر الله تعالى، ومن يعصيه ؛ ولذا قال :﴿ ومن ذريتي ﴾، و ﴿ من ﴾ هنا للتبعيض، أي اجعل من ذريتي مقيم الصلاة ليكون حبل العبادة متصلا إلى يوم القيامة لا ينقطع التوحيد، وإقامة شعائره، بل تتصل إلى يوم القيامة، ومن ذريته قائمون على الحق يهتدون بهديه، ويسيرون في طريق الحق، وهو الطريق المستقيم.
﴿ ربنا وتقبل دعاء ﴾ ( الواو ) عاطفة على ﴿ اجعلني مقيم الصلاة ﴾، وجاء قوله :﴿ ربنا ﴾ كالجملة تكون بين متلازمين، وهما هنا المعطوف والمعطوف عليه، وذكر ﴿ الدعاء ﴾ للضراعة والابتهال إلى الله تعالى، وذكر بضمير المتكلم ﴿ رب ﴾، والجمع ﴿ ربنا ﴾ للإشارة إلى أنه يتكلم عن نفسه، وعن الصالحين من ذريته، والدعاء هنا هو العبادة، إذ هي دعاء لله تعالى وضراعة إليه، ومن يدعون الأنداد إنما يعبدونها، وهي لا تضر ولا تنفع، وفهم بدعوتهم من دون الله سبحانه وتعالى يعبدون ما لا يضر ولا ينفع، ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"الدعاء مخ العبادة"١ فالدعاء من العبادة، وهو ذاته عبادة.
وقال :﴿ تقبل دعاء ﴾ والتقبل شدة القبول، وتقبل العبادة من الله تعالى قبولها مع الرضوان، ومحبة القائم بها.
وإن ذلك يتقاضى أن يكون ذلك من العابد بقلب سليم مخلص طاهر، لا يقصد بها غير وجه الله الكريم، لا يرائي به، ولا ينقض بعضها ببعض، بل يتجه بكل نفسه لربه لا يكون فيها موطن لغيره سبحانه.
١ سبق تخريجه..
وإن إبراهيم عليه السلام يمثل في شخصه النبوي، الرجل الفطري المستقيم النفس في كل اتجاهاتها، وقد رأينا من فطرته أنه فكر في ذريته كما فكر في نفسه، والفطرة السليمة تجعله يذكر عند الخير أبويه كما ذكر ذريته ؛ ولذا عندما اتجه إلى ربه طالبا مغفرته ذكر أبويه فقال تعالى على لسانه :
﴿ ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ( ٤١ ) ﴾.
كان إبراهيم عليه السلام متجها دائكا إلى مقام الربوبية فنادى ربه بالربوبية، وقد ذكرناها في ذلك من ضراعة المؤمن المقدر لنعمة الإيجاد، والربوبية، والقيام على شئونه، وأنه الحي القيوم القائم على ما أنشأ من خلق، وهو اللطيف الخبير، ودعاه بالمغفرة، وابتدأ بنفسه أولا، ثم ثنى بوالديه، وثلث بالمؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، سواء أكانوا من ذريته أم كانوا من غيرهم، فهو دعاء لعامة المؤمنين، وإبراهيم عليه السلام كانت أدعيته العامة جماعية ؛ لأنه نادى بالأخوة الإنسانية.
وطلب الغفران وستر الذنوب، ومحو السيئات، وقيام الحسنات، يوم يقوم الحساب، وهو يوم القيامة حيث يكون الحساب بأن يقوم كل إنسان ما قدم من خير، وقد كتب ما ارتكب من خير وشر، فهو يطلب من الله في هذا اليوم عفوه وتغليب مغفرته على عذابه، وذلك بالنسبة للمؤمنين، وبالنسبة لوالديه.
وهنا يسأل سائل كيف يستغفر إبراهيم لأبويه، وأبوه بلا ريب كان مشركا يعبد الأوثان ؟ ويقال : إنه كان يصنعها ؟ ونقول في هذا : إن إبراهيم كان رجل الفطرة المستقيمة، ففطرته الإنسانية المستقيمة دفعته لأن يكبر عليه أن يهتدي وأبوه مشرك، وأن يعبد الله وأبوه يعبد، وأن يكون في الجنة وأبوه في النار، وقد بدا ذلك في مجاوبته، إذ قال لأبيه :﴿... يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ( ٤٢ ) يا أبت قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ( ٤٣ ) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ( ٤٤ ) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ( ٤٥ ) ﴾ [ مريم ]، طرده أبوه من حضرته مع ما في عبارته من رفق، وما تشف عنه من محبة، ولكنه يستمر في رفقه بمقتضى حكم الفطرة، فيقول :﴿... سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ( ٤٧ ) ﴾ [ مريم ]، كانت هذه أول موعدة وعدها إياه، فاستغفر له ولم تكن بينهما بغضاء الضلال التي اتسم بها أبوه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحجه إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء...( ٤ ) ﴾ [ الممتحنة ].
إذن كان الخليل عليه السلام يستغفر لأبيه ويطلب له المغفرة ومرتبط معه بمودة لم تفرقها عداوة، وهذه السورة التي نتكلم في معانيها سورة مكية، وسورة الممتحنة التي فيها ﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ﴾ مدنية، وهذا يدل على أن النهي لم يكن حتى سورة الممتحنة، وجاء النهي بعد ذلك كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ( ١١٤ ) ﴾ [ التوبة ].
وقد قلنا : إن إبراهيم عليه السلام تتمثل فيه الفطرة القويمة.
الكافرون بالنعم ظالمون
ذكر الله سبحانه وتعالى مثلا كاملا لشكر النعمة، واختار لذلك خليله إبراهيم عليه السلام ؛ لأنه أبو العرب الذين يعتزون بنسبه، وهو الذي أجرى الله على يديه بناء البيت مكان عزهم، وكره دعوة إلى اتباع ملته، والإسلام ملة إبراهيم الذي سمى المسلمين مسلمين.
بعد ذلك ذكر سبحانه من يكفرن النعمة ويظلمون أنفسهم بكفرهم، فقال عز من قائل :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( ٤٢ ) ﴾.
الحسبان هو الظن أو العلم المبني على الظن، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يظن الغفلة أو السهو على الله تعالى، فالله يعلم ما كان وما يكون، وما هو كائن ؛ ولأنه تعالى وعده بالنصر، والعقاب الشديد على ما يفعله، وأنه محص عليهم أعمالهم كل امرئ بما كسب فكيف ينهى عن الظن بأن الله غافل، وما كان احتمال لأن يرد ذلك على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينهى عنه، والجواب في ذلك أن هذا الكلام لتأكيد أن الله تعالى يحصى على المشركين أعمالهم، كما يقول تعالى :﴿... ولا تكونن من المشركين ( ٨٧ ) ﴾ [ القصص ]، وكقوله تعالى :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر...( ٨٨ ) ﴾ [ القصص ]، فهو نهى للتثبت، وتأكيد أنه لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فوق ذلك أن النهي إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه عالم بحالهم محص عليهم سيئاتهم، وهو تهديد شديد لهم، كما يقول المجادل لمجادله : لا تجهل أنى عالم بكل أخطائك، فهو إعلام، وهو تهديد للمشركين.
وعبر بقوله تعالى :﴿ الظالمون ﴾ فأظهر في موضع الأضمار لتسجيل الظلم عليهم ؛ ولأن العقاب سبب الظلم، فهم أشركوا، والشرك ظلم عظيم، وذوا المؤمنين والمؤمنات، وذلك اعتداء ظالم آثيم، وصدوا عن سبيل الله، فلم يتركوا الناس أحرارا يعتقدون ما يرونه حقا.
وإذا كان الله تعالى عالما بظلمهم مجازيهم على ما يفعلون من آثام، فهو لا يهملهم، ولكن يمهلهم، ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ( ٤٥ ) ﴾ [ القلم ]، وفي هذا النص السامي يقول سبحانه :﴿ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( ٤٢ ) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( ٤٣ ) ﴾.
﴿ إنما ﴾ هنا أداة حصر، أي كان التأخير لأجل هذا اليوم الذي يكون شديدا، وفيه النفوس جميعا تكون في هلع وفزع، فليس التأخير لنسيان، أو غفو أو ترك، إنما التأخير هو ليوم كله عذاب الأجساد والأنفس، وإذا كانوا يمشون في الأرض مرحا، ويستهزءون ويرتعون ويلعبون ويسخرون من المؤمنين فسيكون عليهم يوم عسير شديد، وقد وصف الله تعالى حالهم في ذلك اليوم فذكر لهم خمس أحوال كل حال فيها تنبئ عن فزع بذاته.
الحال الأولى : ما ذكر سبحانه بقوله :﴿ ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾، أي العين تشخص لا تغمض من هول ما ترى، فإن إغماض العين يكون من الدعة والاطمئنان، أما يوم القيامة يوم الفزع الأكبر، فإنه لا يكون اطمئنانا ولا يكون دعة، وتكون العين مفتوحة متسعة الأحداق من الأهوال التي تراها، حتى كأنها مع فتحها وعدم إغماضها لا تشعر بشيء إلا الهول وأسباب الفزع.
والحال الثانية : هي ما قاله سبحانه وتعالى :﴿ مهطعين ﴾، ومعناها مسرعين فإنهم كانوا في الدنيا يسيرون متئدين مالكي أنفسهم مسيطرين على قواهم، وكما قال في آية أخرى في وصف حالهم يوم القيامة :﴿ مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسير ( ٨ ) ﴾ [ القمر ]، والإهطاع إسراع في ذل وتكسر وخوف وهلع، فبعد أن كانوا يسيرون في الأرض مرحا كأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون السماء طولا يسيرون أذلاء خالفين لأول داع، خائفين من أن يكون وراء الدعوة أمر أشد هولا.
والحال الثالثة : عبر عنها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ مقنعي رءوسهم ﴾ من أقنع رأسه، وتستعمل بمعنى رفعها متطلعا إلى من فوقها من شدة الهلع، وقد قال في معناها الأصفهاني في مفرداته : أقنع رأسه رفعها قال :﴿ مقنعي رءوسهم ﴾، وقال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناع، وهو ما يغطى به الرأس، فقنع لبس القناع ساترا لفقره، كقولهم حفى أي لبس الحفاء، وقنع إذا رفع قناعه كاشفا رأسه بالسؤال كخفي إذا رفع الخفاء.
وخلاصة هذه المعاني أنهم يكشفون ذلهم وحاجتهم رافعين رءوسهم بالذل والهوان، لا يستتر من أمرهم شيء، فلا يبدون ما يخفون، ويظهرون ما لا يسرون.
وذكر الزمخشري أن بعض علماء اللغة يفسر ﴿ مقنعي رءوسهم ﴾ يخفضها ذلا وانكسارا، ورءوسهم ارتفعت، أو انخفاضها، فهو ذل ظاهر واضح، وصار كالسائل الذي كشف قناعه للمسألة.
والحال الرابعة من أحوالهم : أن أبصارهم زائغة لا تتحرك أطرافها من هول ما هم فيه وهذه عبر الله عنها بقوله تعالى :﴿ لا يرتد إليهم طرفهم ﴾، والمعنى أن أنظارهم قد استغرقتها الأهوال التي تراها فهي فزعة هلعة قد سمرت أعينهم فيما ترى من عذاب هو عذاب الهول الأكبر، فلا ترجع إليهم، أي لا تعود إلى سيطرتهم فترى ما يجب أن تراه وتمتنع عن رؤية ما لا يجب أن تراه، فهي قد ملكتها تلك المرئية المفزعة ولم يعد له عليها من سلطان.
والحال الخامسة : أن أفئدتهم فرغت من أسباب الاطمئنان، وامتلأت بأسباب الهموم والخوف، وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته :﴿ وأفئدتهم هواء ﴾، أي لا تدرك شيئا ولا تعيه من شدة الخوف والهلع، فهو كقوله تعالى :﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا...( ١٠ ) ﴾ [ القصص ]، أي أنه فرغ من الوعي والإدراك ولم يبق إلا موسى والخوف عليه، والهواء في اللغة المجوف الخالي، والمعنى أصبح فؤادهم مجوفا خاليا من العلم والإدراك الشدة ما رأى وما وقع، ومن هذا المعنى قول حسان شاعر الإسلام من أبي سفيان قائد الشرك آن ذلك :
ألا أبلغ أبا سفيان عنى فأنت مجوف نخب هواء
وهذه الأحوال تصوير لحالهم يوم القيامة من فزع وذل وانكسار، وامتلاء قلوبهم بالخوف والرهبة، وإنها من آيات الإعجاز، وكل القرآن إعجاز يبهر المدركين.
ولقد أمر الله تعالى نبيه أن ينذر الناس بهذا اليوم الذي ذكر فزع الناس فيه فقال تعالى :﴿ وأنذر يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾.
الكافر مادي لا يؤمن إلا بما يرى ويحس، فما لم يحسه لا يؤمن به، وليس عنده نفاذ بصيرة يعي به ما لم يدرك وما لم يره ؛ ولذا كان من أوصاف أهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب وهم بالآخرة هم يوقنون، يرون الناس يموتون ويحيون، فيعلمون أن الحياة لغاية وأن الموت ابتداء نهاية.
ولذا كان أول إنذار هو الإنذار بالعذاب الأليم في يوم القيامة، وهذا قوله تعالى :﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ﴾ الإنذار : التخويف، وهو يتعدى إلى مفعولين الأول ﴿ الناس ﴾، والثاني ﴿ يوم ﴾.
والإنذار متجه لما يجري في هذا اليوم من حال تقشعر من هولها الأبدان، إذ تكون أبصارهم فيها شاخصة، خوف العذاب الأليم الذي هو في ذاته هول أكبر، ولكن جعل التخويف لليوم من إطلاق اسم المحل وإرادة الحال، وإنه لشديد تضطرب له نفوس أهل النار ﴿ فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب ﴾ الفاء هنا لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها فيما فيه من هول شديد، وما فيه من جحيم ﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ( ٧١ ) ﴾ [ مريم ]، يكون سببا لأن يطلبوا الرجعة إلى الدنيا، وقد قالوا :﴿ أخرنا إلى أجل قريب ﴾ إلى زمن قليل، وعبر عنه بالقريب ما بين طرفيه أوله ومنتهاه، وهذا كقولهم فيما يحكى الله تعالى عنهم :﴿... ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ( ١٢ ) ﴾ [ السجدة ]، وكقولهم فيما حكى سبحانه عنهم :﴿... ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل...( ٣٧ ) ﴾ [ فاطر ].
وقوله تعالى :﴿ نجب دعوتك ﴾ وهي دعوة التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئا وما جاء به القرآن وغيره من كتب السماء، ومن شرائع، ﴿ ونتبع الرسل ﴾، أي لا نستكبر عليهم ولا نتعالى ونتسامى عليهم، بل لنكون لهم تبعا.
فيقول الملائكة بأمر الله تعالى مبكتا مذكرا لهم كفرهم :﴿ أو لم تكونوا أقستم من قبل ما لكم من زوال ﴾، وقوله تعالى :﴿ أو لم تكونوا أقسمتم ﴾، ( الواو ) عاطفة على ما قبلها، والهمزة للاستفهام الإنكاري الذي فيه إنكار الواقع، والاستفهام داخل على النفي ونفي النفي إثبات على معنى التوبيخ، والمعنى لقد أقسمتم من قبل مغترين على الله تعالى جاهلين لأنفسكم، ولمجرى الحياة ﴿ ما لكم من زوال ﴾، أي ليس لكم أي زوال، وإنهم في الحقيقة كما يظهر من مجرى أمورهم أنهم كانوا لا ينكرون الموت، ولكن ينكرون الحياة بعد الموت ويقولون :﴿... أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد...( ٥ ) ﴾ [ الرعد ].
ولكن لأنهم عتاة غاشمون لا يرعون إلا ولا ذمة، وقد اغتروا بالحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور، يعملون كأنهم لا يموتون ولا يفنون، وأنهم في الدنيا خالدون.
وقد فسر بعض العلماء أن المراد من الزوال المنفي أنهم لا يزولون ثم يبعثون، وهذا تفسير مجاهد تلميذ ابن عباس ترجمان القرآن، كما سماه عبد الله ابن مسعود، ويكون المعنى على هذا التفسير : ما لكم من زوال من هذه الدنيا تنتقلون من بعده إلى الآخرة.
وإنهم في قسمهم هذا أو في حال الغرور التي اغتروا بها وحسبوا أنها حياة خالدة، والعبر بين أيديهم قائمة، ولذا قال تعالى :﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ( ٤٥ ) ﴾.
سكن، معناه قر فيها، وغنى فيها، وتتعدى ب ( في )، كما تتعدى بنفسها، فيقال سكنت الدار، والأصل هو التعدية ب ( في ) ثم لما شاع الاستعمال تعدت بنفسها.
والمعنى أن العبر كانت قائمة، وأقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لا يبعثون بعد موتهم، وقد سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، والإيذاء للمؤمنين والصد عن سبيل الله، وتبين لكم ما نزل بسبب ظلمهم من إمطارهم حجارة من سجيل منضود، ومن جعل الأرض عاليها سافلها إلى آخر ما هو ثابت عبرة للآخرين ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ﴾، أي تبين ما فعله الله بهم، وحالهم العجيبة الجديرة بالنظر، وبينا لكم الأمثال الأشباه، ومع ذلك لم تعتبروا، فاليأس من إيمانكم كان ثابتا، واليأس من إيمانكم بعد رجعتكم إلى الدنيا أشد ثبوتا.
ومع هذه العبر والأمثال استمروا في غيهم ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( ٤٦ ) ﴾.
الكلام في أخبار الذين سكنوا في مساكنهم، وقد تبين كيف فعل الله بهم، وقد بين هي هذه الآية أنهم كانوا يدبرون التدبيرات الخبيثة للكيد للحق وأهله، والتوحيد ومعتنقيه، أي دبروا كل ما يحاربون به عقيدة التوحيد، فاعتقدوا الباطل وناصروا الشرك، وحاربوا المؤمنين بكل أنواع الحرب من فتنة في الدين... وإيذاء للمؤمنين وسخرية بهم ﴿ وعند الله مكرهم ﴾، أي وعند الله تعالى علم مكرهم، وأنه محيط بما كانوا يمكرونه ﴿ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾.
الجبال هنا المراد بها شرائع الله تعالى التي جاء بها النبيون، فشبهت بالجبال لثباتها وشموخها وعلوها ورفعتها، و ﴿ إن ﴾ هنا إما أن نقول : إنها مخففة من ( إن ) الثقيلة، والمعنى أن الحال والشأن أن ذلك المكر كان مهيأ ومعدا لتزول به الشريعة، ولكن تدبير الله كان أحكم فنجت الشرائع التي بلغت في شموخها وعلوها وثباتها مبلغ الجبال.
وإما أن نقول : إنها نافية وتكون اللام لام الجحود، ويكون المعنى، وما كان مكرهم مهما يبلغ من القوة والتدبير والإحكام في زعمهم لتزول منه الشرائع المحكمة التي هي كالجبال في ثباتها وعظمتها، وإن الله تعالى حافظ شرعه وأنبياءه والمؤمنين، ولو تضافر الشرك كله.
إن الله لا يخلف الميعاد
كان النهي في الآيات السابقة عن أن يحسب أن الله تعالى تارك الظالمين، وما يفعلونه، غير منزل بهم ما يستحقون من عقاب، جزاء وفاقا لما يفعلون، وهنا في هذه الآيات يبين أن الله تعالى أنه منزل هذا العقاب لأن جزاؤهم، ولأنه قد وعد رسله به، وإن الله تعالى لا يخلف رسله ما وعدهم به.
قوله تعالى :﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ﴾، و ﴿ رسله ﴾ مفعول للوعد، أي لا تحسبن الله مخلف ما وعد الرسل، وقدم الوعد على الرسل للإشارة إلى أن إخلاف الميعاد ليس أمرا جائزا بالنسبة لله، سواء أكان من وعده رسولا أم كان غير رسول.
وقد وعد الله رسله بالغلب، وأن يكون السلطان للحق، كما قال تعالى :﴿... لأغلبن أنا ورسلي...( ٢١ ) ﴾ [ المجادلة ]، وقد بين تعالى أن الغلب لهم في هذه الآية، فقال تعالت كلماته :﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾، ﴿ عزيز ﴾ معناه غالب قوى مسيطر يعز من يشاء ويذل من يشاء، وقوله تعالى :﴿ ذو انتقام ﴾، أي صاحب انتقام للحق من الباطل، وللضعفاء من الأقوياء، والانتقام معناه مجازاة المسئ بما أساء وأن يقتص بالحق من القوى للضعيف، وأن تكون العقوبة على قدر الجريمة، فأساس العقاب في الشريعة أوفى، أي يكون العقاب على قدر الجريمة، وأن يكون جزاء وفاقا لها.
وهنا يسال سائل، لماذا عبر سبحانه في الجزاء بالانتقام ؟ لأن الظالمين من المشركين قد أرهقوا الضعفاء المؤمنين من أمرهم عسرا وصعبوا الاستمساك بالحق وجعلوه مرا فكان لا بد من الجزاء انتقاما من الظالمين لتقر أعين الضعفاء ويذوقوا حلاوة الحق بعد أن ذاقوا مرارته.
وقد يسأل سائل لا يعرف آداب القرآن ولا حكمة الديان : كيف يسمى العقاب انتقاما وهو لإصلاح النفوس لا للانتقام منها، ونظرية الانتقام علم القانون، ونقول في الإجابة على ذلك : إن شأن الآخرة هو القصاص من جرائم الدنيا، وأما في الدنيا فكلامهم قد يكون واردا على نظر فيه، فإن العقوبات الإسلامية للردع، والإصلاح يكون من طريقه، إذ يكون فيه عبر لمن يكون على استعداد للارتكاب، وقد قال بعض القانونيين : إن العقوبة إذا كانت من جنس الجريمة كانت أردع للجاني ؛ لأنه يتصور وهو يرتكبها أن سينزل به مثل الذي ينزله بالمجنى عليه فيمتنع رهبة.
وإن ذكر العقوبات القاهرة فيه عبرة لمن يكونون على وشك الارتكاب في الدنيا، فمن يعرف أنه سيبذل يوم القيامة لا يذل الناس، ومن يعلم أنه ينال عذاب الجحيم لا يكفر ولا يؤذى عبدا.
وإن ذلك الذي يكون فيه انتقام الله تعالى من الأشرار هو يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض ؛ ولذا قال تعالى :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ( ٤٨ ) ﴾ يوم متعلق ب ( انتقام )، أي أن الله تعالى في هذا اليوم :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض... ﴾ والتبديل قد يكون في الذات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه ﴿... بدلناهم جلودا غيرها...( ٥٦ ) ﴾ [ النساء ]، ﴿... وبدلناهم بجنتيهم جنتين...( ١٦ ) ﴾ [ سبأ ]، وقد تكون في الأوصاف كتبديل سبائك الذهب إلى حلى فثقلت من شكل إلى شكل، والجوهر واحد في القولين، وقد يكون تغييرا بين النقيضين أو الضدين، ومنه قوله تعالى :﴿... فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات...( ٧٠ ) ﴾ [ الفرقان ] فالعبرة في هذا بالأثر.
وتبديل الأرض أمر واقع لا محالة، واختلف في كيفة وحاله، فقيل : تبدل أوصافها، فالجبال تتفكك وتصبر كالعهن المنفوش، وتتحرك وتطرب وتتفجر الينابيع وتسوى الماء باليابس فلا يرى عوج ولا أمت، وقيل : إن الأرض كما هي، ولكن يتغير ناسها، ولا يكون فيها ظلم يقع، بل تكون كلها تحت سلطان القهار وروى ذلك عن ابن عباس.
فقد انشد عن ابن عباس.
فقد أنشد بعد ذلك :
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار الذي كنت تعلم
وتبديل السموات بانتشار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها١، ومن الحق أن كل الكون يتغير في أحواله وأوصافه ودورانه، فالسماء تتغير، كما قال تعالى :﴿ إذا الشمس كورت ( ١ ) وإذا النجوم انكدرت ( ٢ ) وإذا الجبال سيرت ( ٣ ) وإذا العشار عطلت ( ٤ ) وإذا الوحوش حشرت ( ٥ ) وإذا البحار سجرت ( ٦ ) وإذا النفوس زوجت ( ٧ ) ﴾ [ التكوير ].
وهكذا تبدل الأشياء، وتتبدل الأحوال، فبعد أن كان الظلم في الأرض بغالب الحق فإذا الحق هو الأمر الذي لا يغالبه شيء.
هذا يوم القيامة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وبرزوا لله الواحد القهار ﴾، أي ظهروا وعلموا أنهم قد لقوا الله تعالى وقد كانوا يكذبون لقاء الله، ويعجبون من أن يعودوا بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، ولكنه لقاء لا يسرهم، إنا هو لقاء القهار لعقابهم ؛ ولذلك ذكر سبحانه وتعالى بوصفه الرهيب عندهم الذي ينقض اعتقادهم الباطل فقال :﴿ لله الواحد القهار ﴾، ولفظ ﴿ لله ﴾ يلقى وحده المهابة في نفوسهم بعد إنكارهم لقاءه، ووصفه ب ﴿ الواحد ﴾ ليعرفوا أن شركهم كان باطلا، وأنه وحده الحكم العدل، فلا شفاعة لأحد، ولا لأوثانهم، و ﴿ القهار ﴾ صيغة مبالغة من القهر، أي أنه سبحانه وتعالى وحده الذي سيوفيهم جزاءهم مقهورين مغلوبين.
ولقد صور الله تعالى حالهم بعد ذلك اللقاء المفزع الذي تشخص فيه الأبصار، وهذه كقوله تعالى :﴿... لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ].
١ من الكشاف بتصرف..
﴿ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ( ٤٩ ) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ( ٥٠ ) ﴾.
ذكر الله تعالى لهم أحوالا ثلاثة :
الأولى : أنهم مقرنون في الأصفاد.
والثانية : أن سرابيلهم من قطران.
والثالثة : أن النار تغشى وجوههم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أولا وصفهم بالأجرام ؛ لأن ما كسبوه من جرائم في اعتقادهم، وفي أعمالهم، وفي إفسادهم في الأرض عبثا وفسادا، هو السبب فيما ينالون من عقاب.
وقوله تعالى في الحال الأولى :﴿ مقرنين في الأصفاد ﴾ من قرن بمعنى جمع، وقرن بمعنى شدد في الجمع ووثق في الأمر الجامع، والمعنى مشدودون بوثاق مجموعين فيه لتشابه جرائمهم، واتحادهم في أوصافهم الإجرامية، ومقرنين في أيديهم وأرجلهم بالأصفاد، جمع صفد، وهو القيد يقيدون به، وتغل أيديهم وأرجلهم به.
هذه هي الحال الأولى.
والحال الثاني : وهي مما ينزل بهم آحادا كما جمعوا جميعا وهي قوله تعالى :﴿ سرابيلهم من قطران ﴾ والسرابيل : جمع سربال، وهو القميص الذي يلاصق أجسامهم، ويسبغها، ولا يترك فراغا بينه وبينها، والقطران هو ما استحلب من بعض الأشجار، وتهنأ به الإبل دواء لها من الجرب، ومن شأنه أنه يشتعل بالنار، فإذا بقمصانهم المتصلة بأجسامهم اللاصقة بها نيران مشتعلة، فالنار تحوطهم من كل ناحية في أجسامهم.
ولكن القمصان أو السرابيل لا تغطى الوجوه عادة فتجئ الحال الثالثة، وهي قوله تعالى :﴿ وتغشى وجوههم النار ﴾، أي النار تستر وجوههم كما ستر القطران الملتهب أجسامهم.
﴿ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ( ٤٩ ) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ( ٥٠ ) ﴾.
ذكر الله تعالى لهم أحوالا ثلاثة :
الأولى : أنهم مقرنون في الأصفاد.
والثانية : أن سرابيلهم من قطران.
والثالثة : أن النار تغشى وجوههم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أولا وصفهم بالأجرام ؛ لأن ما كسبوه من جرائم في اعتقادهم، وفي أعمالهم، وفي إفسادهم في الأرض عبثا وفسادا، هو السبب فيما ينالون من عقاب.
وقوله تعالى في الحال الأولى :﴿ مقرنين في الأصفاد ﴾ من قرن بمعنى جمع، وقرن بمعنى شدد في الجمع ووثق في الأمر الجامع، والمعنى مشدودون بوثاق مجموعين فيه لتشابه جرائمهم، واتحادهم في أوصافهم الإجرامية، ومقرنين في أيديهم وأرجلهم بالأصفاد، جمع صفد، وهو القيد يقيدون به، وتغل أيديهم وأرجلهم به.
هذه هي الحال الأولى.
والحال الثاني : وهي مما ينزل بهم آحادا كما جمعوا جميعا وهي قوله تعالى :﴿ سرابيلهم من قطران ﴾ والسرابيل : جمع سربال، وهو القميص الذي يلاصق أجسامهم، ويسبغها، ولا يترك فراغا بينه وبينها، والقطران هو ما استحلب من بعض الأشجار، وتهنأ به الإبل دواء لها من الجرب، ومن شأنه أنه يشتعل بالنار، فإذا بقمصانهم المتصلة بأجسامهم اللاصقة بها نيران مشتعلة، فالنار تحوطهم من كل ناحية في أجسامهم.
ولكن القمصان أو السرابيل لا تغطى الوجوه عادة فتجئ الحال الثالثة، وهي قوله تعالى :﴿ وتغشى وجوههم النار ﴾، أي النار تستر وجوههم كما ستر القطران الملتهب أجسامهم.
وكان ذلك جزاء، والإخبار به تبليغا ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ( ٥٠ ) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ( ٥٢ ) ﴾.
هذا البيان من قوله تعالى :﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ﴾ إلى بيان ذلك العذاب الذي تعم فيه النيران أجسامهم، إنما هو :
أولا : لبيان العدالة الإلهية.
وثانيا : ليبلغوا بالفعل وجزائه، والخير والشر، وما يجب عليهم.
وثالثا : للإنذار لكي يعلم أهل الشر مآلهم.
ورابعا : ليعلموا أن الله هو الواحد القهار، وأن لاشيء له صفة الألوهية إلا الله تعالى.
وخامسا : ليتذكر أهل الألباب المدركين المؤمنين، فهو ذكر لهم وإنذار لغيرهم.
أما أولها : فقد ذكره سبحانه بقوله تعالى :﴿ ليجزي الله كل نفس ما كسبت ﴾ وعبر بأن الجزاء هو ما كسبوا من عمل، فليس في ظاهر اللفظ أنه جزاء العمل، بل هو العمل ذاته ؛ وذلك للإشارة إلى المساواة التامة بين الجزاء والعمل، فكأنه هو هو، وقد أكد الله وقوعه فقال :﴿ إن الله سريع الحساب ﴾ فإن السرعة هنا تأكيد للوقوع، وأن المقاربة الزمنية بالنسبة لله تعالى مؤكدة، فهو سبحانه لا تستطال على أفعاله الأزمان.
أما الأمر الثاني : وهو التبليغ، فقد عبر سبحانه عنه بقوله :﴿ هذا بلاغ للناس ﴾ تبليغ من الله تعالى لكي يكون حسابهم على بينة من أمورهم، كما قال تعالى :﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ [ فاطر ].
ومن التبليغ ما جاء في الأمر الرابع وهو أن يعلموا ﴿ أنما هو إله واحد ﴾، هذا قصر، والضمير ﴿ هو ﴾ يعود إلى الله تعالى، أي أنه لا إله إلا الله، فالمعبود بحق واحد، وما عداه باطل في باطل.
والأمر الثالث قبل الرابع، وإن كنا ذكرناه أولا لاتصاله بالبلاغ في كلامنا وكلام الله أعلى وأحكم وأوثق.
والأمر الرابع : أن هذا الإنذار للكافرين ليعتبروا والعبرة قد تفيدهم.
والأمر الخامس : أن فيه تذكيرا لأولى الألباب، أي أولى العقول المدركين وهم المؤمنين فيزدادوا بهذا البلاغ إيمانا، والله أعلم بشرعه.
وكان ذلك جزاء، والإخبار به تبليغا ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ( ٥٠ ) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ( ٥٢ ) ﴾.
هذا البيان من قوله تعالى :﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ﴾ إلى بيان ذلك العذاب الذي تعم فيه النيران أجسامهم، إنما هو :
أولا : لبيان العدالة الإلهية.
وثانيا : ليبلغوا بالفعل وجزائه، والخير والشر، وما يجب عليهم.
وثالثا : للإنذار لكي يعلم أهل الشر مآلهم.
ورابعا : ليعلموا أن الله هو الواحد القهار، وأن لاشيء له صفة الألوهية إلا الله تعالى.
وخامسا : ليتذكر أهل الألباب المدركين المؤمنين، فهو ذكر لهم وإنذار لغيرهم.
أما أولها : فقد ذكره سبحانه بقوله تعالى :﴿ ليجزي الله كل نفس ما كسبت ﴾ وعبر بأن الجزاء هو ما كسبوا من عمل، فليس في ظاهر اللفظ أنه جزاء العمل، بل هو العمل ذاته ؛ وذلك للإشارة إلى المساواة التامة بين الجزاء والعمل، فكأنه هو هو، وقد أكد الله وقوعه فقال :﴿ إن الله سريع الحساب ﴾ فإن السرعة هنا تأكيد للوقوع، وأن المقاربة الزمنية بالنسبة لله تعالى مؤكدة، فهو سبحانه لا تستطال على أفعاله الأزمان.
أما الأمر الثاني : وهو التبليغ، فقد عبر سبحانه عنه بقوله :﴿ هذا بلاغ للناس ﴾ تبليغ من الله تعالى لكي يكون حسابهم على بينة من أمورهم، كما قال تعالى :﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ [ فاطر ].
ومن التبليغ ما جاء في الأمر الرابع وهو أن يعلموا ﴿ أنما هو إله واحد ﴾، هذا قصر، والضمير ﴿ هو ﴾ يعود إلى الله تعالى، أي أنه لا إله إلا الله، فالمعبود بحق واحد، وما عداه باطل في باطل.
والأمر الثالث قبل الرابع، وإن كنا ذكرناه أولا لاتصاله بالبلاغ في كلامنا وكلام الله أعلى وأحكم وأوثق.
والأمر الرابع : أن هذا الإنذار للكافرين ليعتبروا والعبرة قد تفيدهم.
والأمر الخامس : أن فيه تذكيرا لأولى الألباب، أي أولى العقول المدركين وهم المؤمنين فيزدادوا بهذا البلاغ إيمانا، والله أعلم بشرعه.
Icon