تفسير سورة إبراهيم

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وقيل : مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة. ويتزاحم في هذه السورة فيض من المعاني الجليلة المؤثرة، وذلك في ألوان شتى من العبر والمواعظ والمشاهد، وفي طليعة ذلك : التخويف من يوم القيامة حيث الفظائع والأهوال والبلايا، وما يتجرعه المشركون والظالمون في النار من سوء الشراب وبشاعة التحريق. ولعل أبرز أخبار السورة وما حوته من مضامين، الحديث عن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؛ إذ دعا ربه وهو في مكة أن يجعل هذا البلد ( مكة ) آمنا، وأن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ثم تضرعه إلى ربه أن يجعل قلوبا من عباده المؤمنين تحن إلى هذا البلد الطاهر فترغب على الدوام في زيارته ومشاهدته بالرغم من جدبه وجفافه وشحة الزرع والثمار فيه. إلى غير ذلك من الأخبار والمواعظ.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ ألم كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ( ١ ) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ( ٢ ) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ﴾.
( الر ) في موضع رفع على أنه مبتدأ، وخبره ( كتاب ). وقد تقدم نظير ذلك من حيث الخلاف في تأويله. وقيل :( كتاب ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هذا كتاب. و ( أنزلناه )، جملة فعلية في موضع رفع صفة لكتاب١، والمراد بالكتاب، القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد ( ص ). وهو سبحانه يخاطبه فيه بقوله :( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) ( الظلمات ) جمع ظلمة وهي سواد الجو المانع من الرؤية. أو هي ذهاب الضياء بما يستره. و ( النور ) معناه الضياء، أو البياض الشعاعي الذي تصح معه الرؤية ويمنع معه الظلام. والمقصود بالظلمات هنا الكفر بكل صوره وضروبه ومسمياته، يستوي في ذلك كفر الوثنيين أو الملحدين أو الوجودين أو أهل الكتاب. ومن أجل ذلك حيث المسميات الكثيرة للكفر جيء بالظلمات على الجمع، وأفرد النور، والمراد به الإسلام ؛ فهو الحق الواحد الراسخ الذي لا حق غيره وليس من شيء بعده إلا الضلال. لا جرم أن الإسلام وحده دين الهداية والكمال والعدل المطلق. الدين الذي تستقيم عليه أوضاع البشرية ؛ لأنه دين معتدل ومنسجم ورحيم ووسيط، يراعي فطرة الإنسان وطبيعة البشر أكمل مراعاة بعيدا عن التخبط أو الإفراط أو التفريط، أو المغالاة التي اتسمت بها الملل والعقائد والشرائع الأخرى التي سيمت خلالها الإنسانية البلايا والفشل والأمراض وسوء العاقبة.
لقد بعث الله نبيه محمدا ( ص ) هاديا للناس ومرشدا ونذيرا. وفي ذلك ما يخرج الناس من كابوس الكفر الذي يترعرع فيه الشر والباطل، وتتجرع خلاله البشرية مرارة الظلم والفساد والضلال. يخرجهم من هذه الحمأة الآسنة المنكودة حيث العفن والضيم والمضاضة إلى نور الإسلام بضيائه الساطع المشعشع الذي تتندى خلاله وفي ظلاله نسائم الأمن والراحة والأخوة والرحمة.
قوله :( بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) ذلك الإخراج من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام إنما هو بإذن الله ؛ أي بتسهيله وتيسيره وتوفيقه ( إلى صراط ) بدل من قوله :( إلى النور ) والمراد بالصراط هنا : طريق الله المودي إلى الحق في هذه الدنيا والمفْضي إلى النجاة والفوز في الآخرة، وقد أضيف الصراط إلى العزيز الحميد ؛ لأن الله جل جلاله هو صاحبه، المبين له، وكفى بذلك دليلا قاطعا على أن هذا الطريق حق وصدق ومستقيم. و ( العزيز ) معناه القوي الغالب القادر على كل شيء و ( الحميد ) معناه المحمود في أفعاله وفيما أنعمه على مخلوقاته وعباده من النعم ومنها نعمة الإسلام. هذا الدين الذي تنجو به الإنسانية في هذه الدار ويوم تقوم الساعة.
١ - البيان للأنباري جـ٢ ص ٥٤..
وقوله :﴿ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ﴾. ( الله )، يقرأ بالجر والرفع. فالجر على أنه بدل من قوله :( العزيز الحميد ) والرفع على أنه مبتدأ وما بعده خبر. وقيل : خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هو الله الذي له ما في السماوات١. والمعنى : أن الله له ملكوت السماوات والأرض وما فيهن. ذلكم الله العظيم في جلاله وملكوته وسلطانه ؛ حقيق بالإقرار له بالألوهية مستوجب للعبادة والطاعة والامتثال له وحده دون أحد سواه ( وويل للكافرين من عذاب شديد ) ذلك وعيد من الله للمكذبين الذين يجحدون كتابه الحكيم، ويجانبون صراطه القويم، ويأبون إلا الضلال واتباع الشهوات والهوى، أولئك لهم الويل. وهو مصدر غير مشتق ومعناه الهلاك. وقد يستعمل للتحسّر. وقيل : واد في جهنم يهوي فيه الجاحدون والمكذبون المضلون. ويل لهؤلاء ( من عذاب شديد ) وهو عذاب الآخرة حيث النار وبئس القرار. وقيل : المراد عذاب الدنيا والآخرة ؛ فالله معذب الكافرين المضلين في الدنيا بمختلف أنواع العذاب من أهوال وأسقام ومخاوف وحروب، ثم يصيرون بعد ذلك إلى عذاب البرزخ ( القبر ) الذي يفضي فيما بعد إلى عذاب الآخرة بفظائعها وشدائدها العظام٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٤..
٢ - التبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٠ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢٠..
قوله :( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) الاستحباب هو طلب محبة الشيء. والمعنى : أن الكافرين يختارون الحياة الدنيا بزينتها ومتاعها وزخرفها على الآخرة. أو أنهم يستبدلون الدنيا من الآخرة. وهؤلاء هم الأخسرون الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة فباءوا بالعذاب والخزي.
قوله :( ويصدون عن سبيل الله ) الكافرون الظالمون مجانبون بأنفسهم عن دين الله. وهم لا يكتفون بمجانبتهم ونأيهم عن منهج الله ؛ بل يبادرون في هوس مريض، ونشاط ماكر، وخبث فظيع، وضغينة عاتية مركوزة ؛ لصد الناس عن دين الله والحيلولة بين البشرية وهذا الدين العظيم الحكيم. وأنكى من ذلك كله أنهم كما وصفهم الله بقوله :( ويبغونها عوجا ) ( عوجا )، منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل : مفعول ثان للفعل يبغون١ ؛ يعني يطلبون لسبيل الله وهو دينه، الزيغ والاعوجاج ؛ أي يبتغون أن يروا في دين الله الزيغ عن الاستقامة والتنكب عن الحق والصواب. وذلك هو شأن الكافرين الحاقدين المضلين وديدنهم في كل زمان ؛ فإنهم يريدون للإسلام التشويه والزيغ ؛ ليصير دينا مقلوبا آخر، دينا محرفا مبدلا وقد أتت عليه ظواهر التغيير والتشويه والتمسيخ ؛ كيلا يكون بعد ذلك الدين الحقيقي الذي أراده الله للعالمين.
هكذا يريد الظالمون في عصرنا الراهن من استعماريين ووثنيين وصليبيين وملحدين وصهيونيين وعملاء ! ! يريدون للإسلام التشويه والزيغ والاعوجاج ؛ لينقلب إلى دين يرضون هم عنه، دين غير دين الله، دين تغشاه ظواهر شتى من السلبية والانطوائية والانمياع والترقيع والضعف.
وذلكم هو العوج الفادح الوبيل الذي يندد الله به وبالذين يتنادون لإظهاره وتثبيته متذرعين بذرائع في غاية الزور والتهافت والافتراء والخداع.
قوله :( أولئك في ضلال بعيد ) ذلك إخبار من الله عن هؤلاء الذين اختاروا الحياة الدنيا ؛ إذ آثروها على الآخرة، والذين يصدون الناس عن دين الله الحق ويبتغون له الزيغ والاعوجاج وذلك بتغييره أو تبديله وتشويهه ؛ فإنهم بعيدون عن الحق بعدا عظيما وسادرون في الظلام والغي حتى يلاقوا مصيرهم الأليم٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٤..
٢ - روح المعاني جـ ٧ ص ١٨٤ والتبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٢ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢١..
قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيُضِلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ( ٤ ) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيّام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( ٥ ) ﴾.
لم يرسل الله من رسول في الأمم السابقة إلا بلغة الذين أرسل إليهم وهو منهم ومبعوث فيهم ( ليبين لهم ) أي دينهم الذي جاءهم به من عند الله ؛ فيتلقوه منه في سرعة ويسر من غير حاجة إلى ترجمان، وهذه حجة لله على العباد إذ بعث فيهم النبيين من أنفسهم، كل نبي بلغة قومه ؛ تسهيلا لهم وتيسيرا عليهم ؛ فيتسنى لهم بذلك فهم دينهم والوقوف على حقيقته ومعناه.
قوله :( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) ( فيضل )، مرفوع على الاستئناف١.
والمعنى : ليس على الرسول إلا القيام بتبليغ الناس، وما عليه هداية أحد ؛ فإنما الهادي هو الله وحده دون أحد من خلقه، وما على النبي كذلك إضلال أحد ؛ وإنما يضل الله الناس إن كانوا لا يستحقون الهداية ؛ لفساد فطرتهم وسوء اختيارهم، وذلك بخلاف المهتدين الذين يكتب الله لهم الهداية ؛ لاستقامة طبعهم وسلامة فطرتهم وحسن اختيارهم ؛ إذ سلكوا طريق الهداية حيث الفوز بالجنة والرضوان.
قوله :( وهو العزيز الحكيم ) ( العزيز ) يعني القوي القادر على كل شيء والذي لا يغلبه شيء. و ( الحكيم )، الواضع للأشياء على ما اقتضته حكمته المطلقة وتقديره الكامل من غير نقص في ذلك ولا عيب ولا خلل.
١ - روح المعاني جـ ٧ ص ١٨٤ والتبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٢ وتفسير الماوردي جـ٣ ص ١٢١..
قوله :( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ) أرسل الله نبيه الكليم موسى عليه السلام إلى القوم المجرمين وهم فرعون وقومه الذين طغوا في البلاد وأكثروا في الأرض الفساد. أرسله إليهم بآياته البينات وهي الحجج والبراهين.
وقيل : المراد بها الآيات التسع التي أجراها الله على يد موسى. وقيل : المراد آيات التوراة.
قوله ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) ( أنْ )، تحتمل وجهين : أحدهما : كونها مصدرية. وثانيهما : كونها تفسيرية ؛ أي مفسرة بمعنى أي١. والمراد بقومه ؛ بنو إسرائيل ؛ إذ أرسله الله إليهم ليخرجهم من ظلمات العبودية والذل والقهر إلى نور العزة والسلطان. وقيل : المراد بقومه القبط ؛ فيكون المعنى : أخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الهداية والإيمان وعبادة الله وحده.
قوله :( وذكرهم بأيام الله ) يعني ذكرهم بنعم الله وبلائه. فنعم الله عليهم كثيرة ؛ فقد أعطوا من النعم والخيرات والمنن الكبيرة والكثيرة ما لم يُعط مثله أحد في العالمين سواهم. وذلك كالمن والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وانبجاس الماء الثجاج من الصخر. وأما بلاؤه : فبقهر فرعون لهم واستعباده إياهم وتقتيل أبنائهم وإذلالهم.
قوله :( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) الإشارة عادة إلى أيام الله ؛ أي التذكير بأيام الله من النعماء، والبلاء فيه علامات كبيرة تكشف عن جلال الله وعظيم قدرته وحكمته ( لكل صبار شكور ) الصبار، الكثير الصبر على البلاء في سبيل الله. وكذلك الشكور، الكثير الشكر لأنعم الله. وذلك هو أمر المؤمن ؛ فإنه يصطبر على البلاء بكل صوره، يبتغي بذلك رضوان الله، ثم يشكره على ما منّ به عليه من خير ونعمة. لا جرم أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا تحصى. منها نعمة العقل والسمع والبصر والإرادة وكل ظواهر الحس، وغير ذلك من وجوه الخيرات المادية والمعنوية التي أسبغها الله على عباده٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٥ والتبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٤..
٢ - روح المعاني جـ ٧ ص ١٨٨ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٠٦ والتبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٤ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢..
قوله تعالى :﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾.
( إذ )، منصوب على المفعولية بمضمر ؛ أي اذكر لهم يا محمد وقت قول موسى لقومه ( اذكروا نعمة الله عليكم ) التي أنعمها عليكم وهي كبيرة وكثيرة. وذلك ( إذ أنجاكم من آل فرعون ) متعلق بقوله، ( اذكروا ). أي اذكروا حين أنجاكم الله من فرعون وقومه الظالمين، أو اذكروا إنعام الله عليكم وقت إنجائكم من فرعون وملإه الطغاة المجرمين الذين كانوا ( يسومونكم ) من السوم أو السوام، وهو الذهاب في طلب الشيء. سام الإنسان ذُلًّا أو خسفا أو هوانا ؛ أي أولاه إياه وأراده عليه١ ( سوء العذاب ) مفعول ثان ليسومونكم ؛ أي يذيقونكم شديد العذاب. والعذاب جنس العذاب المؤلم السيئ كاستعبادهم وإذلالهم وتسخيرهم للأعمال الشاقة في امتهان وتحقير ( ويذبحون أبناءكم ) معطوف على
( يسومونكم ). والمراد بالتذبيح هنا، قتل الأولاد الذكور ظلما وعدوانا، واستبقاء النساء. وهو قوله :( ويستحيون نسائكم ) أي يبقونهن في الحياة مع الذل. لا جرم أن ذلك بلاء فظيع ؛ لأن إبقاء النساء دون البنين مهانة وإذلال ومبعث اللوعات والأحزان في نفوسهن. وهو قوله :( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) أي فيما تبين من فظيع الأفعال البشعة المذكورة ابتلاء من الله تعالى لتصبروا فتؤجروا ثم يكشف الله عنكم بعد ذلك ما حاق بكم من البلاء والمحن، وقيل : البلاء هنا بمعنى النعمة ؛ أي في ذلكم نعم من ربكم عظيمة ؛ إذ أنجاكم من فرعون وقومه الطغاة الظالمين ؛ فالمشار إليه الإنجاء من ذلك. والبلاء يراد به الابتلاء بالنعمة ؛ فإنه يكون بها كما يكون بالمحنة، وفي مثل ذلك يقول سبحانه :( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) ٢.
١ - المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٦٥ والمصباح المنير جـ ١ ص ٣١٨ ومختار الصحاح ص ٣٢٣..
٢ - التبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٦ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢٣ وروح المعاني جـ ٧ ص ١٩٠ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٤٠٦..
قوله تعالى :﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( ٧ ) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ( ٨ ) ﴾. جملة ( تأذن ربكم ) معطوفة على ( نعمة الله عليكم )، والتقدير : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم، أي أعلمكم. ومنه الآذان لأنه إعلام ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) الشكر، معناه الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف. وشكره يشكره شكرا وشكرانا. والشكران ضد الكفران١. والمراد بشكر الله : الاعتراف بنعمته على الإنسان وعدم صرفها في معصيته. والمعنى : لئن ذكرتم نعمتي عليكم واعترفتم بما خولتكم من نعمة الإنجاء من الإهلاك وغير ذلك من وجوه البلاء والفتنة، فقابلتم ذلك بالإيمان والإخلاص والطاعة وصالح الأعمال ( لأزيدنكم ) أي لأزيدنكم من فضلي وإنعامي عليكم في الدنيا والآخرة.
قوله :( ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) اللام موطئة للقسم ؛ أي لئن جحدتم نعمتي عليكم وسترتموها فلم تظهروها ولم تشكروا الله عليها ( إن عذابي لشديد ) جواب الشرط والقسم ؛ أي أعذبكم العذاب الشديد بسلب النعم عنكم وبعقابكم على الجحود وكفران النعم. وفي الحديث : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ".
١ - مختار الصحاح ص ٣٤٤..
قوله :﴿ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾ ذلك إعلان ظاهر ومجلجل١ بأن كفران قوم موسى والناس جميعا لا يعبأ به الله ولا يدركه به أيما نقص ؛ فإن الله بكماله وعظيم سلطانه وجليل ملكوته وجبروته مستغن عن الخلائق كافة. ويستوي في ذلك ما إذا حمل الكفر في هذه الآية على مقابل الشكر وجحود النعمة، أو على مقابل الإيمان من الشرك والعصيان ؛ فالله جل جلاله في كل الأحوال غني عن العالمين، وهو سبحانه المحمود المتعالي في جلاله وكبريائه٢.
١ - المجلجل: الجريء الدفاع المنطيق. والجلجال: الشديد الصوت. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ١٢٨..
٢ - تفسير الرازي جـ ٩ ص ٨٩ وفتح القدير جـ ٣ ص ٩٦ والتبيان جـ ٦ ص ٢٧٦ وروح المعاني جـ ٧ ص ١٩٠..
قوله تعالى :﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ﴾. هذا خطاب مستأنف من الله لهذه الأمة. ويحتمل أنه من كلام الله سبحانه خطابا لقوم موسى وتذكيرا لهم بالأمم الماضية من قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم، وما حل بهم من التدمير عقب تكذيبهم وعصيانهم. وفي ذلك من التحذير لهم من عاقبة المكذبين ما لا يخفى.
قوله :( لا يعلمهم إلا الله ) أي أن الأمم السابقة من الكثرة بحيث لا يحصى عددهم ولا يعلم مبلغهم إلا الله. قال ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.
قوله :( جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ) يعني جاءت هؤلاء الأمم رسلهم الذين أرسلوا إليهم ليدعوهم إلى دين الله الحق- بالحجج والدلالات الظاهرة على صدق دعوتهم لكنهم جحدوهم وصدوهم ( فردوا أيديهم في أفواههم ) وثمة خلاف في تأويل ذلك. فقد قيل : لما سمعوا كلام الله عجبوا منه ووضعوا أيديهم على أفواههم. وقيل : ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء يشيرون إليهم بالسكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكنونهم ولا يذرونهم يتكلمون.
وقيل : وضعوا أيديهم في أفواههم ضحكا واستهزاء كمن يغلبه الضحك فيضع يده على فيه. وقيل : عضوا أصابعهم تغيظا عليهم من أجل دعوتهم التي جاءوهم بها. كقوله :( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) وهو تأويل قوي.
وقيل : ردوا عليهم قولهم وكذبوهم وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به وهو قولهم :( إنا كفرنا بما أرسلتم به ) وهو قوي كذلك ؛ أي كذبنا ما جئتم به وما تزعمون أنكم أرسلتم به ( وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) أي إننا في مِرْية مما جئتمونا به من توحيد الله وإفراده بالعبادة ( مريب ) أي موقع في الريبة والتهمة ؛ فهذا الشك الذي يقلقنا ويخالط أذهاننا أوجب لنا التهمة والارتياب وعدم الثقة بكم١.
١ - تفسير الطبري جـ ١٣ ص ١٢٦، ١٢٧، والكشاف جـ ٢ ص ٣٦٩..
قوله تعالى :﴿ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ﴾ أي يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات، ويؤخركم إلى وقت مسمى عنده وهو الموت فلا يعذبكم في العاجل.
قوله :( قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) قالت الأمم السابقة لأنبيائهم : ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة والصورة ؛ فها أنتم تأكلون كما يأكل البشر وتشربون كما يشرب البشر. فما تريدون مما جئتمونا به إلا أن تصرفونا عن عبادة ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام ( فأتونا بسلطان مبين ) فأتونا ببرهان يبين صحة قولكم وحقيقة ما تدعوننا إليه لنعلم أنكم محقون.
كذلك كان منطق الأمم الغابرة الضالة، المنطق الفاسد السقيم، منطق الجهالة والتقليد المضلل الأعمى واتباع ما كان يصنعه الآباء السابقون كيفما تكن حاله من السخف والسفه والضلالة. وذلك هو شأن الجاهلين المضللين في كل زمان، ممن يألفون صنع الآباء وإن كان باطلا، ويأنفون مما يدعوهم إليه المهتدون الصادقون وإن كان صوابا.
قوله تعالى :﴿ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( ١١ ) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ( ١٢ ) ﴾.
قالت الرسل لأممهم الجاحدين : ما نحن من حيث الصورة والهيئة إلا بشر مثلكم كما تقولون ( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) أي يتفضل الله على من يشاء من الناس بالرسالة والنبوة والحكمة والتوفيق. فما أوتي المرسلون من نبوة ورسالة فذلكم فضل من الله عظيم يمن به على المصطفين الأخيار من عباده.
قوله :( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ) المصدر من ( أن نأتيكم ) في موضع رفع اسم كان. وخبر كان ( إلا بإذن الله ) وقيل : خبرها ( لنا ) ١.
والمعنى : ليس في مستطاعنا أو قدرتنا أن نأتيكم بسلطان ؛ أي برهان أو حجة. وإنما يتم ذلك بمشيئة لله وإرادته ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) يأمر النبيون المؤمنين من الناس أن يركنوا إلى ربهم ويتوكلوا عليه حق التكلان في أحوالهم وأمور حياتهم، وعلى الخصوص إذا طوقتهم المخاطر أو حدقت بهم خطط الأعداء الظالمين.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٥..
قوله :( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) ( ما )، استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وخبره ( لنا ألا نتوكل على الله )، في موضع نصب على الحال١ وتقديره : وأي عذر لنا في عدم التوكل على الله ( وقد هدانا سبلنا ) أي وهو الذي هدانا سبل التوفيق والسداد، وأرشدنا إلى ملة الحق والصواب.
قوله :( ولنصبرن على ما آذيتمونا ) ذلك قسم من النبيين الكرام على أنهم سيصبرون على ما يمسهم من الأذية والمكاره من الكافرين الظالمين، الذين يصدونهم عن دعوة الحق بكل الأسباب من التنكيل والتكذيب والإهانة والقتل ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) هذا تكرار للأمر بالتوكل على الله على سبيل التأكيد لهذه القضية العظيمة المستندة إلى رسوخ الإيمان في قلوب المسلمين. لا جرم أن المسلمين الثابتين الواثقين من ربهم وأنه يهديهم سبل التوفيق والسداد بما يفضي بهم إلى النصر، متوكلون على الله وحده، واثقون من كلاءته لهم وتأييده إياهم. وليس على المؤمنين الداعين إلى الله في كل الأحوال إلا أن يمضوا على طريق الله ثابتين مطمئنين واثقين من نصر الله وأنهم على الحق، ومتوكلين على الله تمام التوكل ولن يضيعهم الله أو يترهم أعمالهم٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٥..
٢ - تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٣٤٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٥٧..
قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( ١٣ ) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( ١٤ ) ﴾ قال الكافرون الظالمون للنبيين الذين أرسلوا إليهم حين دعوهم إلى توحيد الله وإفراده بالألوهية والعبادة ومجانبة الشرك والأصنام :( لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) اللام لام القسم ؛ أي والله لنطردنكم من بلادنا إلا أن تعودوا في ديننا وملتنا، ملة الوثنية والشرك وعبادة الأصنام.
قوله :( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) قال الله للرسل :( لنهلكن الظالمين ) الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب والصد عن دين الله، فاستحقوا من الله العقاب والتدمير.
( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) هذا وعد من الله لعباده المؤمنين الثابتين على الطريق، الصابرين على الحق- بنصرهم على الظالمين المجرمين وإسكانهم آمنين مطمئنين ظافرين أرض الظالمين وديارهم عقب هلكتهم وزوال شوكتهم. ذلك وعد من الله غير مكذوب ولا مريب. ووعد الله يقين وحق بأنه ناصر المؤمنين المخلصين في الدنيا والآخرة.
قوله :( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) الإشارة إلى إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم وديارهم. وذلك كله حق ( لمن خاف مقامي ) أي خاف جلالي وسلطاني يوم القيامة ( وخاف وعيد ) أي خاف عذابي الذي يُسامُهُ الظالمون المجرمون جزاء تكذيبهم وظلمهم وعدوانهم على المؤمنين بالإيذاء والصد عن دين الله. ١
١ - تفسير السنفي جـ ٢ ص ٢٥٧ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٠٠..
قوله تعالى :﴿ واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ( ١٥ ) من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ( ١٦ ) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ( ١٧ ) ﴾ استفتح المرسلون على قومهم الظالمين ؛ أي استنصروا الله عليهم ؛ فقد أذن الله لرسله أن يستفتحوا على قومهم والدعاء عليهم بالإهلاك كما استنصر نوح على قومه الظالمين المجرمين بعد أن استيأس منهم فدعا الله أن يهلكهم ويستأصلهم ( وخاب كل جبار عنيد ) أي خسر كل متكبر على طاعة الله وعبادته. والعنيد، هو المجانب للحق من العنود ومعناه الانحراف عن الحق والصدق.
قوله :( من ورائه جهنم ) ( ورائه )، بمعنى أمام ؛ أي من أمام كل جبار جنهم يهوي فيها. وقيل : وراء بمعنى بعد ؛ أي من بعد هلاكه جهنم. وقيل : الوراء من الأضداد. فهو يقع على الخلف والقدام. والمقصود : أن ثمة جهنم من أمام الطغاة الجبابرة المعاندين، الناكبين عن منهج الله والذين طغوا في الأرض وصدوا الناس عن دين الله وساموا المؤمنين البلاء والتنكيل والقهر. لا جرم أن هؤلاء جبارون مستكبرون معاندون سيصيرون إلى جهنم وبئس المصير.
قوله :( ويسقى من ماء صديد ) ( صديد )، عطف بيان. والتقدير : أنه لما قال ( ويسقى من ماء ) بين ذلك الماء فقال :( صديد ) والصديد : الدم المختلط بالقيح، أو هو القيح والدم مما يسيل من جلود أهل النار١.
١ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٥٨ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٠٥..
قوله :( يتجرعه ولا يكاد يسيغه ) ( يتجرعه )، يعني يتحسَّاه تغصصا أو يشربه قهرا وقسرا جرعة جرعة وليس مرة واحدة وذلك لشدة حرارته ومرارته ( ولا يكاد يسيغه ) ولا يكاد يزدرده من شدة كراهته. وهو يسيغه بعد إبطاء وذلك من شدة العطش. والعرب تقول : ما كدت أقوم ؛ أي قمت بعد إبطاء.
قوله :( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) يعني تأتيه أسباب الموت من كل مكان أو جهة ؛ إذ تأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن كل موضع في جسده وهو ليس بميت ؛ لأنه لا تزهق نفسه فيستريح، ولا هو بحي ؛ لأن نفسه تتحشرج وتضطرب في الحناجر فلا ترجع إلى مكانها. وذلك تفظيع لما يصيبه من الآلام الشديدة التي يكفي الواحد منها لإزهاق نفسه.
قوله :( ومن ورائه عذاب غليظ ) الضمير في ( ورائه ) يحتمل عودة وجهين. أحدهما : أنه عائد على الكافر. ثانيهما : أنه عائد على العذاب ؛ فيكون المعنى : إن رواء هذا العذاب عذاب غليظ١، وذلك تفظيع لحال الأشقياء المعذبين في جهنم ؛ فإن العذاب الشديد يحيط بهم من أمامهم ومن خلفهم ليذوقوا الهوان البالغ والإيلام الفظيع٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٦..
٢ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٠٣-١٠٥ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٥٢٦..
قوله تعالى :﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ﴾ في إعراب ( مثل ) عدة وجوه، أهمها اثنان هما : الأول : أن ( مثل ) مبتدأ أول. و ( أعمالهم ) مبتدأ ثان. ( كرماد )، خبر المبتدأ الثاني. والمبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول.
الثاني : أن ( مثل ) مبتدأ. ( أعمالهم ) بدل منه. و ( كرماد ) خبره١. هذا مثل لأعمال الكافرين في الدنيا ؛ فإنها يمحقها الله في الآخرة ؛ إذ يأتي عليها الحبوط فلا تجديهم أيما نفع. مثل ضربه الله لأعمال الكافرين الجاحدين الذين يحادون الله ورسله ويستنكفون عن دعوة الله ومنهجه الحكيم. فبين الله في هذا المثل أن أعمال هؤلاء الجاحدين الخاسرين التي كانوا يعملونها في حياتهم كصلة الأرحام وإنفاق المال في الخير والإعمار وغير ذلك من وجوه الإصلاح والبر. كل ذلك مآله الحبوط لصدوره عن كافرين بالله ورسوله وكتابه أو لابتغائهم بذلك غير وجه الله ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ).
قوله :( أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) ( يوم عاصف )، أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية. والعصف معناه شدة الريح. عصفت الريح عصفا وعصوفا : اشتد هبوبها فهي عاصف وعاصفة٢ ؛ أي أن أعمال الكافرين باطلة كلها ؛ فهي مثل رماد عصفت ( اشتدت ) الريح عليه في يوم ريح عاصف فنسفته وذهبت به. فكذلك أعمال الكافرين يوم القيامة، لا تنفعهم عند الله ولا تنجيهم.
قوله :( لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) أي لا يقدرون على الانتفاع بشيء من الثواب يوم القيامة على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، كعدم قدرتهم على الإمساك بالرماد إذا عصفت به الريح عصفا في يوم شديد الهبوب. قوله :( ذلك هو الضلال البعيد ) أي الخسران الكبير. أو الإشارة إلى التيه البعيد عن الحق والصواب والجزاء الحسن٣.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٦..
٢ - المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٠٥..
٣ - تفسير الطبري جـ ١٣ ص ١٣٢، وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٥٨..
قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ( ١٩ ) وما ذلك على الله بعزيز ( ٢٠ ) ﴾ الخطاب لرسول الله ( ص )، والمقصود كل أحد من الناس. والرؤية هنا يراد بها رؤية القلب. والمعنى : ألم ير الإنسان بعين قلبه فيعلم أن الله أنشأ السماوات والأرض بالحق ؛ أي بالحكمة والوجه الصحيح ؛ فقد خلق ذلك كله منفردا، من غير ظهير له في ذلك ولا معين، ليجد الناس فيما خلقه الله من الدلالات والبراهين الظاهرة المستفيضة ما يشهد في يقين قاطع بأنه المنشئ الموجد، وأنه الخالق الغالب، القادر على إفناء هؤلاء الناس وإذهابهم، ثم يأتي بدلا منهم بآخرين جدد أفضل منهم ؛ بل إن ذلك على الله هين ويسير ؛ فخلق السماوات والأرض لا جرم أصعب وأعظم من خلق الناس. وما الناس في الكون والكائنات إلا جنسا واحدا من أجناس وأصناف وخلائق لا يعلم عدَّها وكثرة أنواعها وأجناسها إلا الله.
وللمرء أن يتصور فداحة البون الهائل المذهل بين خلق الإنسان من جهة، وخلق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن من جهة ثانية ؛ إذ تصور بساطة الكوكب الأرضي الذي يحمل الإنسان، إذا ما قورن بجرم الشمس الحارق المستعر الذي هو أكبر من حجم الأرض بمليون ضعف ونيف. وما الشمس كلها في مقابلة الكون بأجرامه الهائلة المديدة المذهلة إلا كحجم الخردلة الملقاة في فلاة.
قوله :﴿ وما ذلك على الله بعزيز ﴾ ليس مثل هذا الخلق بممتنع ولا متعذر على الله، فالله جلت قدرته يفعل ما يريد.
قوله تعالى :﴿ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كان لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ( ٢١ ) وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ( ٢٢ ) ﴾ ( وبرزوا )، من البروز وهو الخروج والظهور١ ؛ أي برزت الخلائق كلها يوم القيامة ظاهرة مكشوفة لا يسترها شيء لتلاقي الحساب والجزاء. وإذ ذاك تقع المناظرة الكلامية بين التابعين الغاوين، والمتبوعين المغوين المضلين وهم سادتهم وكبراؤهم الذين أضلوهم في الدنيا.
الأتباع الذين كانوا في الدنيا خائرين مستضعفين للسادة المجرمين يحدثون سادتهم يوم القيامة في توبيخ وعتاب لا يفضي إلا إلى التحسر والندامة والالتياع. ثم يرد عليهم المستكبرون المضلون في استيئاس مطبق وإحساس مفرط بالهوان والخسران. وفي ذلك يقول الله سبحانه :( فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ) التبع جمع تابع. فقد قال التابعون المستضعفون للمتبوعين المستكبرين : إنا كنا أتباعكم في الدنيا نأتمر بأمركم ونسير على خطاكم فنعبد الأوثان وننثني عن عبادة الله وحده وعن تصديق المرسلين ( فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ) أي فهل أنتم دافعون عنا بعض عذاب الله في هذا اليوم ؟ ( قالوا لو هدانا الله لهديناكم ) قال المتبوعون المستكبرون للتابعين الضعفاء : لو كنا مهديين في الدنيا لجعلناكم مثلنا في الهداية.
قوله :( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) الهمزة وأم، للتسوية. ونظير ذلك قوله :( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) والجزع، ضد الصبر٢ والمحيص، بمعنى المنجى والمهرب. والمعنى : أن أهل النار بعد أن يجزعوا جزعا بالغا فيفنى صبرهم ويستيئسوا أشد استيئاس يقول بعضهم لبعض في يأس مطبق وحسرة غامرة مريرة : مستو علينا الجزع والصبر ؛ فنحن في كل الأحوال لابثون ماكثون في النار ليس لنا منها مفر ولا ملاذ.
١ - مختار الصحاح ص ٤٨..
٢ - مختار الصحاح ص ٤٨..
قوله :( وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) هذه مناظرة أخرى بين الشيطان الرجيم وأتباعه من الغاوين عقب المناظرة بين التابعين والمتبوعين. ويستفاد من هذه الآية أنه ( لما قضى الأمر ) أي استقر قرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، يقوم الشيطان خطيبا في جهنم ليقول للخاسرين من الفريقين، التابعين والمتبوعين كما قال الله عنه :( إن الله وعدكم وعد الحق ) أي إن الله وعدكم بالبعث والحساب والجزاء فصدقكم وعده
وهاهي النار جزاء الجاحدين والمسيئين والعصاة. أما أنا فقد وعدتكم أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ( فأخلفتكم ) أي كذبتكم.
قوله :( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) أي ما كان لي أيما حجة أو برهان على صدق ما وعدتكم به كذبا، إلا أنني أغويتكم فاتبعتموني أنتم طائعين مريدين من غي قسر في ذلك ولا إكراه إلا الوسوسة منا والتزيين، والاستجابة منكم مختارين.
قوله :( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) أي لا تلوموني على استجابتكم لي بل لوموا أنفسكم على استجابتكم مختارين غير مكرهين. يقال لهم هذا القول من اللعين الخبيث إبليس زيادة لهم في التيئيس والإحساس بالحسرة وعظيم الندم ولات حين مندم.
قوله :( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) المصرخ، معناه المغيث، والمستصرخ : المستغيث١ ؛ أي ما أنا بمغيثكم ولا منقذكم مما أنتم فيه من عذاب النار. وما أنتم بقادرين على إغاثتي أو إنقاذي مما أنا فيه كذلك. فكل الكافرين والطاغين والمجرمين مكبكبون في النار، سواء فيهم إبليس وجنوده من الجن أو البشر.
قوله :( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) أشركتموني تقرأ بالياء، على القراءة البصرية. وما، مصدرية. يعني : إني جحدت اليوم بإشراككم إياي مع الله في الدنيا. وبذلك يتبرأ إبليس من إشراكهم له في العبادة والطاعة، ويستنكر كل ذلك منهم يوم القيامة.
قوله :( إن الظالمين لهم عذاب أليم ) وهذا من كلام الله في الأظهر وقيل : إنه من بقية كلام إبليس. ومعناه : أن المشركين الجاحدين من التابعين الخاسرين والمتبوعين الأشقياء قد باءوا الآن جميعا بالعذاب الوجيع٢.
١ - مختار الصحاح ص ٣٦٠..
٢ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١١٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٦٠ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٠٤..
قوله تعالى :﴿ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ﴾ ( تجري )، جملة فعلية في موضع نصب صفة ( جنات ). ( خالدين )، منصوب على الحال من ( الذين ). و ( تحيتهم فيها سلام )، جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الذين. وقيل : في موضع نصب على الوصف لجنات١. المصدقون بالله ورسوله، المقرون لله بالوحدانية الكاملة، الطائعون لله ورسوله، والمنتهون عما نهى الله عنه ورسوله، أولئك يدخلهم الله ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) فإنه من خير نعيم يوم القيامة، الجنات، بما حوته من خيرات وثمرات، وما يتفجر خلالها ومن حولها من الأنهار الجارية المنساحة.
قوله :( خالدين فيها بإذن ربهم ) أي لابثين في الجنة دائمين، غير مبارحين ولا متحولين ( بإذن ربهم ) أي بأمر ربهم. وقيل : بمشيئته وتيسيره.
قوله :( تحيتهم فيما سلام ) تحية أهل الجنة في الجنة السلام ؛ إذ يحيي بعضهم بعضا. وكذلك تحييهم الملائكة بهذه التحية المباركة الكريمة الفضلى. وتلكم هي تحية السلام ؛ ويعني الأمان والصلح والمودة والبراءة من العيوب وهو اسم من أسماء الله تعالى.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٨..
قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( ٢٤ ) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ( ٢٥ ) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ﴾.
( مثلا ) منصوب ؛ لأنه مفعول ( ضرب ). ( كلمة )، بدل منه. وقيل : عطف بيان له. والمثل في هذه الآية بيان بوصف الإيمان والمؤمنين وما ينبثق عنهما من حياة بشرية مثلى، حافلة بالخير والرحمة وكريم الخلال والخصال.
لقد ضرب الله لذلك مثلا ( كلمة طيبة ) والكلمة الطيبة، شهادة أن لا إله إلا الله. وهو قول ابن عباس. وقيل : الإيمان بالله جل ثناؤه ؛ فإن الإيمان به ( كشجرة طيبة ) وهي النخلة الدائمة الإثمار، ذات الأصول الراسخة الضاربة في أغوار الأرض ( وفرعها في السماء ) أي أعلى الشجرة شامخ مرتفع في الفضاء. والمراد : أن إيمان المؤمنين كالشجرة التي لا ينقطع ثمرها ؛ فهي مثمرة خير الثمار في كل الأوقات فيستطيب ثمارها الآكلون. وإيمان المؤمنين إنما ينبثق عنه حميد الخصال وعظيم الصفات والطاعات لله رب العالمين. إنه لا ينبثق عن إيمان المؤمنين إلا الصالحات والحسنات، تتقاطر على الأفراد والأسر والمجتمعات وسائر أوساط البشر ليشيع فيهم الأمن والخير والبركة والود والسعادة. لا جرم أن الإسلام دين الله القويم، ومنهجه الحكيم المكين الراسخ في أعماق الكينونة البشرية والذي تتجلى ملامحه وخصائصه ومزاياه وأحكامه وتصوراته على الدنيا ؛ لتفيض فيها إشعاعات غامرة شتى من ظواهر الأخوة الرصينة الصادقة، والتعاون الحقيقي الوثيق والمودة الصاخبة الكريمة، فتغيب بذلك عن وجه المجتمع علائم السوء والباطل من نفاق ورياء وأثرة وجشع وإيذاء وظلم وخسة ولؤم. ذلك هو شأن الإيمان في نفوس المؤمنين، أو شأن الإسلام كله ؛ فإنه إذا استقر في واقع البشر صنع منه المجتمع المتماسك المترابط المنسج. المجتمع الذي يستظل بظل الخير والأمان والمودة والتعاون ؛ ليفيض بعد ذلك على الدنيا خير السمات والقيم والمزايا الكريمة.
وهو في ذلك كالشجرة الطيبة التي ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) أي أن ثمار هذه الشجرة دائمة لا تنقطع ؛ فهي حاضرة في كل وقت، ويأكل منها الآكلون في كل الفصول والأحايين. وذلك هو شأن المؤمن الصادق ؛ فإنه يشيع من خصاله الطيبة وسلوكه الحميد ظواهر سامية في الخير والبر للفرد والجماعة. وهو كذلك شأن الإسلام الذي يفيض على الحياة بجليل القيم ورفيع المعاني، ويفجر في النفس الإنسانية كوامن الخير وحسن العطاء فتزدان الدنيا بكل مزايا الخير والإحسان والجمال ؛ ليعيش الناس كراما آمنين سعداء.
قوله :( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) يضرب الله هذه الأمثال إفهاما للناس وتذكيرا لهم. وضرب الأمثال لون من ألوان التصوير الحامل للمعاني الذي ينشر الإثارة والاهتمام في الأذهان والنفوس.
قوله :( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) الكلمة الخبيثة يراد بها الكفر. وقيل : المراد الكافر نفسه، والشجرة الخبيثة هي شجرة الحنظل. وهو قول أكثر المفسرين.
والأظهر تأويل الكلمة الخبيثة بالكفر ؛ لما يفهم من السياق بعد ذلك، وهو قوله تعالى :( كشجرة خبيثة ) ذلك أن الكفر جُماع الشر والفساد والضلال والزلل ؛ لأن الإعراض عن منهج الله، والاستكبار على الحق وعلى رسالات النبيين، ليس ذلك كله إلا غاية العتو والتمرد والخطيئة، وإنه لا يعصي أمر ربه إلا ضال تائه فاجر، أو ظلوم مغرور خاسر، وهو في السوء والخطيئة والظلام سادر.
إن الكفر بكل صوره ومعانيه وضروبه وأبعاده، ومن حيث الإدبار عن شريعة الله والنكول عن منهجه الحكيم، لا جرم يفضي بالضرورة إلى الهوان والخسران وفساد الأفراد والمجتمعات في هذه الدنيا. وهذه حقيقة مكشوفة ومشهودة نجدها ونحسها في المستنكفين عن منهج الله في كل زمان ومكان.
ذلك هو الكفر بفساده وظلامه وشروره أشبه بالشجرة الخبيثة، شجرة الحنظل مما هو كريه وممجوج لشدة سوءه ومرارته.
قوله :( اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) أي أن الشجرة الخبيثة الكريهة الممجوجة ليس لها أصل مكين في الأرض فيسهل استئصالها واجتثاثها حتى لا يبقى منها باقية. وهي في مرارتها وضعفها وسوء مذاقها كالكفر ليس له أصل يضرب في عميق الإنسان بل إنه ما له من قرار مكين ثابت.
ذلكم هو الكفر بكل صوره وأشكاله ومسمياته مضطرب وهزيل وخائر فما يلبث أن يفنى ويتبدد حتى لا يبقى منه إلا الأثر أو الخبر١.
١ تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١١٩، ١٢٠ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٦١ وتفسير الطبري جـ ١٣ ص ١٤٠..
قوله تعالى :﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ﴾ ( يثبت )، بالتشديد يعني التمكين عند الشدة١.
والمعنى : أن المؤمنين العاملين المخلصين يثبت الله قلوبهم بتمكينها عند الأهوال وفي ساعات الشدة سواء في الدنيا أو الآخرة.
والإنسان من جهته، لا مناص له من مواجهة الأهوال والبلايا في كلتا الدارين ؛ فالذين كفروا من الضالين والمضلين الذين زاغوا عن ملة الحق وتنكبوا عن منهج الله ؛ لا جرم أنهم الأخسرون في هذه الدنيا، حيث الفتن والمفاسد والأسقام النفسية والشخصية والاجتماعية وغير ذلك من الأمراض التي تسري في الجاحدين الشاردين عن سبيل الله. وفي الآخرة هم الأذلون التعساء الذين يواجهون الخزي والويل والنار. أما عباد الله الطائعون الثابتون على الحق الماضون على دين الله ومنهجه، لا جرم أنهم الثابتون الذين يمكنهم الله في الدارين تمكينا، فلا تثنيهم الشدائد والفتن عن الاستمساك بالحق، ولا يزيغون عن منهج الله مهما كانت الظروف، أو عصفت بهم رياح الظالمين والمتآمرين والخائنين الذين يتمالأون على الإسلام والمسلمين في كل حين.
قوله :( بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) قيل : القول الثابت في الحياة الدنيا يراد به شهادة أن لا إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل : ما كان راسخا في قلوب المؤمنين وعقولهم من صدق العقيدة والإيمان بالله ورسوله، ومن المعاني والقناعات التي كانت تغذو أذهانهم وقلوبهم في الحياة الدنيا. وذلك هو القول الثابت الذي يثبت الله به عباده المؤمنين المخلصين في الدنيا.
قوله :( وفي الآخرة ) أي عذاب القبر، وذلك حين يسألون عما كانوا عليه من التوحيد والإيمان بالله وبرسوله ( ص ) فالمؤمنون المخلصون يثبتهم الله ؛ إذ يمكنهم تمكينا فيجيبون الملائكة ثابتين مطمئنين. لكن المجرمون الجاحدون ؛ يسقطون في ظلمة التخسير والهوان واليأس وحينئذ تقرع المجرمين في قبورهم غاشية فظيعة من الرعب والوجل، فيستحوذ عليهم التلعثم والدهش، ويتملكهم الاضطراب والانغلاق والزعزعة، فلا يستطيعون الإجابة أو الحديث إلا في تأتأة وتلعثم وعسر بالغ. نجانا الله من كل هاتيك الكروب والأهوال وكتب لنا في الدارين السلامة والأمن والنجاة.
قوله :( ويضل الله الظالمين ) أي هؤلاء الجاحدون الخاسرون لا يوفقهم الله في حياتهم الدنيا، ولا يثبتهم على القول الثابت في مواطن الفتن والشدائد، لاختيارهم الكفر والباطل. وكذلك يضلهم عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري. فيقول : لا دريت ولا تليت، وعند ذلك يضرب بالمقامع٢ وقد ثبت مثل ذلك في الأخبار.
قوله :( ويفعل الله ما يشاء ) وذلك في تثبيت الذين آمنوا وإضلال الظالمين الذين خسروا أنفسهم. فلا اعتراض على الله في ذلك ولا تعقيب٣.
١ - المعجم الوسيط جـ ١ ص ٩٣..
٢ - امقامع: جمع مقمعة. وهي خشبة أو حديدة معوجة كالمحجن يضرب بها رأس الفيل ونحوه ليذل ويهان انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٧٦٠ ومختار الصحاح ص ٥٥١..
٣ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٢٤ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٦٢ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٣٦٣..
قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ( ٢٨ ) جهنم يصلونها وبئس القرار ( ٢٩ ) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ( ٣٠ ) ﴾ نزلت الآية في مشركي قريش. وقيل : نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي ( ص ) يوم بدر.
والصحيح أنها عامة في جميع المشركين ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) أي أتتهم نعمة الله وهي الإيمان والإسلام بما تضمنه ذلك من توحيد الله وطاعته وفعل الخيرات والصالحات، والسير على طريق الله اللاحب المستقيم، لكنهم بدلوا ذلك كفرا ؛ أي كفروا نعمة الله عليهم وهي الإيمان بالله ورسوله وما أنزل إليهم من دين كريم. لقد جحدوا ذلك كله واستعاضوا عنه بالإشراك واختاروا الضلال والباطل بكل صوره ومسمياته الفاسدة.
قوله :( وأحلوا قومهم دار البوار ) ( قومهم ) مفعول أول. و ( دار البوار )، مفعول ثان. ( البوار )، معناه الهلاك. والبور، الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. وامرأة بور كذلك. وقوم بور ؛ أي هلكى وهو جمع بائر. بار بوارا ؛ أي هلك. وأباره الله : أهلكه. والأرض البور، قبل أن تصلح للزرع١. والمراد بدار البوار في الآية، جهنم.
إذ تبين ذلك بقوله في الآية التالية ( جهنم يصلونها وبئس القرار ) ( جهنم )، منصوب على البدل من ( دار البوار ) وهو غير منصرف للتعريف والتأنيث. ( يصلونها )، جملة فعلية في موضع نصب على الحال١.
والمعنى : أن المشركون المضلين قد أنزلوا أتباعهم من قومهم الضالين السفهاء ( دار البوار ) وهي جهنم التي يدخلونها جميعا فتصطلي بلظاها الحارق جسومهم وجلودهم ( وبئس القرار ) أي بئس المستقر جهنم.
١ - مختار الصحاح ص ٦٨ والقاموس المحيط جـ ١ ص ٣٩٠ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٢٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨:قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ( ٢٨ ) جهنم يصلونها وبئس القرار ( ٢٩ ) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ( ٣٠ ) ﴾ نزلت الآية في مشركي قريش. وقيل : نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي ( ص ) يوم بدر.
والصحيح أنها عامة في جميع المشركين ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) أي أتتهم نعمة الله وهي الإيمان والإسلام بما تضمنه ذلك من توحيد الله وطاعته وفعل الخيرات والصالحات، والسير على طريق الله اللاحب المستقيم، لكنهم بدلوا ذلك كفرا ؛ أي كفروا نعمة الله عليهم وهي الإيمان بالله ورسوله وما أنزل إليهم من دين كريم. لقد جحدوا ذلك كله واستعاضوا عنه بالإشراك واختاروا الضلال والباطل بكل صوره ومسمياته الفاسدة.
قوله :( وأحلوا قومهم دار البوار ) ( قومهم ) مفعول أول. و ( دار البوار )، مفعول ثان. ( البوار )، معناه الهلاك. والبور، الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. وامرأة بور كذلك. وقوم بور ؛ أي هلكى وهو جمع بائر. بار بوارا ؛ أي هلك. وأباره الله : أهلكه. والأرض البور، قبل أن تصلح للزرع١. والمراد بدار البوار في الآية، جهنم.
إذ تبين ذلك بقوله في الآية التالية ( جهنم يصلونها وبئس القرار ) ( جهنم )، منصوب على البدل من ( دار البوار ) وهو غير منصرف للتعريف والتأنيث. ( يصلونها )، جملة فعلية في موضع نصب على الحال١.
والمعنى : أن المشركون المضلين قد أنزلوا أتباعهم من قومهم الضالين السفهاء ( دار البوار ) وهي جهنم التي يدخلونها جميعا فتصطلي بلظاها الحارق جسومهم وجلودهم ( وبئس القرار ) أي بئس المستقر جهنم.
١ - مختار الصحاح ص ٦٨ والقاموس المحيط جـ ١ ص ٣٩٠ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٢٥..

قوله :( وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله ) ( أندادا ) يعني شركاء. ومفرده نديد. وهو النظير. ونقول : ندّ البعير يند، ندادا وندودا ؛ إذ نفر وذهب على وجهه شاردا. ومنه قوله :( يوم التناد ) ١ أي اتخذوا مع الله آلهة شركاء في العبادة والخضوع والتوجه ليضلوا الناس بذلك عن دين الله الحق، دين التوحيد الخالص والتوجه الكامل صوب إله أحد خالق قادر.
قوله :( قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ) الأمر بالتمتع إشارة إلى الاستخفاف بملاذ الحياة الدنيا والتقليل من شأنها ؛ فإنها متاع. فضلا عما تتضمنه الآية من التوبيخ والتهديد والوعيد للمشركين. يبين ذلك قوله :( فإن مصيركم إلى النار ) إنكم مردودون وصائرون إلى عذاب النار. ٢
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢٦٥ ومختار الصحاح ص ٦٥٢..
٢ - تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٥٣٨ وتفسير القرطبي جـ٩ ص ٣٦٥..
قوله تعالى :﴿ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ﴾ بعد أن ذكر الكافرين وتلبسهم بالشرك والجحود يأمر الله عقب ذلك عباده المؤمنين بالتزام الطاعة خالصة لوجهه. ويأتي في طليعة الطاعات لله جميعا هذان العمودان الأساسيان لدين الإسلام وهما : إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وكذلك بذل المال في وجوه الخير والبر على سبيل الوجوب كإنفاقه على الأولاد والزوجات وأولي القربى من المعوزين والمحاويج. وعلى المؤمنين أن يحرصوا على ذلك من غير تفريط ولا تقصير من قبل أن تقوم الساعة. وحينئذ لا مكان للعمل وفعل الطاعات، بل إن الوقت حينئذ وقت مساءلات وحساب وعقاب.
قوله :( يقيموا الصلاة ) ( يقيموا ) مجزوم ؛ لأنه جواب الطلب ( قل ) وقيل : جواب للأمر وهو ( أقيموا ) وتقديره : قل لهم أقيموا يقيموا. وقيل : مجزوم بلام مقدرة وتقديره : ليقيموا، ثم حذف لام الأمر لتقدم لفظ الأمر١. وكذلك قوله :( وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) المراد بالسر ما خفي. وبالعلانية ما ظهر.
وقيل : السر يراد به التطوع والعلانية يراد بها الفرض. والأظهر الأمر بإنفاق المال سرا في صدقة التطوع، وإنفاقه جهرا في الزكاة المفروضة والنفقات مما لا يحتمل غير الإظهار والإعلان. فما كان من نفقة واجبة أو زكاة مفروضة لا سبيل إلى كتمها أو إخفائها. يضاف إلى ذلك قصد التحضيض للآخرين على أداء زكواتهم والإنفاق على من يعولون.
قوله :( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) أي أدركوا أنفسكم بفعل الطاعات، وبادروا لعمل الحسنات والصالحات قبل أن تدهمكم قارعة الفزع الأكبر حين تقوم القيامة. وحينئذ لا بيع ولا شراء ولا غير ذلك مما اعتاد الناس فعله في دنياهم ؛ بل إن الساعة إذ ذاك ساعة مندم وأهوال وحسرات. وقيل : بيع بمعنى فدية ؛ أي لا لأحد أن يفتدي نفسه بالمال يوم القيامة لينجو بنفسه مما يواجهه من سوء الحساب. قوله :( ولا خلال ) أي مخالَّة. وهو مصدر خاللته. وقيل : جمع خليل، كأخلاء وأخلة والمقصود هنا نفي أن يكون ثمة خليل ينتفع به فيشفع له أو يدفع عنه البلاء المنتظر٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٩..
٢ - التبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٩٦ وروح المعاني جـ ٧ ص ٢٢ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٣٧..
قوله تعالى :﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ( ٣٢ ) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ( ٣٣ ) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ( ٣٤ ) ﴾ شرع جل وعلا في الكلام عن عزيز ملكوته وسلطانه وعظيم شأنه وجلاله وأنه الخالق البارئ المنعم المتفضل ؛ ليستيقن العباد وجوب الشكر عليهم لله الواحد المدبر المنعم فيبادروا إلى الطاعة والإذعان والامتثال. فقال سبحانه :( الله الذي خلق السماوات والأرض ) خلق السماوات طباقا وما فيهن وما بينهن من كائنات ومخلوقات وأجرام غاية في الانتظار والكثرة والدقة والاتساع والامتداد. وكذلك الأرض وما فيها من مركبات مختلطة متماسكة متكاملة، ما بين تراب ورمل وملح وصخر وماء ومعدن، وغير ذلك مما حوته الأرض من أصناف الأتربة والسوائل والمعادن.
قوله :( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) أنزل الله المطر من السماء غيثا نافعا مغيثا. والسماء يراد به كل ما علا، فكل ما علاك فهو سماء. والمطر يتنزل من طبقات الجو العالية ليخرج الله به ( من الثمرات رزقا لكم ) ( من )، للتبعيض. و ( رزقا ) مفعول أخرج. و ( الثمرات ) تعم كل ما تنبته الأرض. وبعض ذلك ينتفع به الآدميون وهو ما جعله الله رزقا لهم لكي يأكلوه ويقتاتوا منه ويعيشوا به.
قوله :( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ) ( الفلك ) يعني السفينة. وهو واحد وجمع يذكر ويؤنث١. على أن السفن من الجواري التي تسير فوق سطح الماء بإرادة الله وتقديره وأمره. وذلك بأن بث الله في كل من الماء والمواد الصلبة من الصفات والميزات الذاتية ما تتم به عملية الطفو على وجه الماء دون غرق. وأيما كائن تتحقق فيه خاصية الطفو على سطح الماء سواء كان الماء بحرا أو نهرا أو غيرهما من الماء العميق المركوم لسوف يحصل الطفو. وفي النظرية العلمية الحديثة أن يكون معدل كثافة الجسم دون معدل كثافة الماء، سبب لحصول الطفو كيلا يغرق الجسم.
والمهم في ذلك أن مثل هذه الخاصية في الأجسام والمياه التي يحصل بسببها الطفو لهو من الله. فالله هو الذي بث في الأشياء والأجسام والمخلوقات ميزاتها وصفاتها. وهو الذي جعل فيها قوانينها ونواميسها التي تتم بموجبها الظواهر المشهودة في الطبيعة. وكل ذلك من فضل الله على الإنسان ؛ إذ يسر له سبل الحياة والعيش في البر أو البحر ليعيش سالما مرتاحا فلا يعتريه عسر ولا حرج.
قوله :( وسخر لكم الأنهار ) ( سخر ) من التسخير وهو التذليل٢ ؛ أي ذلل الله للناس الأنهار لتجري على ظهرها المراكب فتقل الناس من مكان إلى مكان. وليأخذوا منها ما حوته من خيرات مطعومة كالأسماك بأجناسها الكثيرة العجيبة. إلى غير ذلك من وجوه الاستفادة من مياه الأنهار العذبة في الشرب وسقي الزروع والنباتات والمواشي.
١ - مختار الصحاح ص ٥١١..
٢ - مختار الصحاح ص ٢٩٠..
قوله :( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) ( دائبين )، منصوب على الحال من الشمس والقمر. وذلك تغليبا للقمر على الشمس ؛ لأن القمر مذكر، والشمس مؤنثة، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلِّب جانب المذكر على جانب المؤنث١. وقوله :( دائبين ) يعني دائمين في الحركة والجريان لا يفتران، من الدؤوب، بضم الدال، والدأب معناه العادة والشأن٢ ؛ أي ذلل الله هذين الجرمين الهائلين لمنافع الناس وتحقيق معاشهم وجعلها دائمين في الحركة لا يفتران حتى نزول هذه الدنيا.
قوله :( وسخر لكم الليل والنهار ) أي جعلهما يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم. في الليل يهجع الناس ويرقدون ؛ فتستريح أبدانهم وأعصابهم وأذهانهم بعد عناء النهار وما فيه من مكابدة ونصب.
وفي النهار يفيقون من هجعتهم ؛ ليبادروا الكد والكدح والبذل والسعي وهم يبتغون من فضل الله، وليؤدوا ما عليهم من واجبات كعبادة الله وطاعته وأداء حقوق الناس التي في ذممهم كالإنفاق والزكاة وبر الوالدين وصلة الأرحام وإيتاء ذي القربى، والاضطلاع بوجائب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة البشرية إلى دين الله وترغبيهم في منهج الله الحق وهو الإسلام.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٩..
٢ - المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٦٧..
قوله :( وآتاكم من كل ما سألتموه ) ( من )، للتبعيض. فيكون المعنى : أن الله أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئة الله وحكمته البالغة. وعلى هذا فإن الإنسان قد يسأل الله العافية فيعافيه، ويسأله النجاة فينجيه، ويسأله الغنى فيغنيه، ويسأله الولد فيعطيه، ويسأله أن ييسر أمره ويشرح صدره ويدرأ الأذى والشر والضرّ عنه فيجيبه لما سأله إياه. لا جرم أن نعم الله لا يحصرها العد. والله سبحانه العاطي المنان المتفضل على عباده، يجزل من العطاء للناس ليسبغ عليهم من نعمه الكاثرة ما يستوجب من العباد دوام الثناء والشكران لله.
قوله :( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) نعمة الله اسم جنس بمعنى المنعم به. وهو لا يراد به الواحد من النعم بل يراد به الجمع. كأنه قيل : وإن تعدوا نعم الله ( لا تحصوها ) أصل الإحصاء العد بالحصى ؛ فقد كان العرب يعتمدونه في العد. ثم استعمل لمطلق العد من كثرة الاستعمال. والمعنى : أن نعم الله بالغة الكثرة فلا تطيقون حصرها أو عدها. ونعم الله عديدة ومتنوعة ومختلفة. وهي مبثوثة في السماء وفي الأرض وفي سائر أنحاء الطبيعة والحياة مما ينتفع به الإنسان من المطعوم أو المشروب أو الملبوس أو ما فيه رخاء وجمال وسعادة مما تبتهج به النفوس والقلوب والأذهان، أو تنتشي به وتزهو زهوا يثير في جوها البسطة والحبور.
قوله :( إن الإنسان لظلوم كفار ) المراد بالإنسان هنا من تقدم وصفه بالكفر وكثرة الظلم والعصيان. وذلك إخبار من الله أن الإنسان الذي توجد فيه خلال الظلم والكفر ( لظلوم ) أي شديد الظلم، فيظلم النعمة بإغفال شكرها، وقيل : كثير الظلم لنفسه ولغيره. وهو أيضا ( كفار ) أي شديد الكفران للنعمة بجحدها وعدم شكرانها.
وربما قيل : إن الإنسان في الغالب ظلوم، من الظلم وهو الشرك، فيجنح الإنسان للشرك على اختلاف صوره وألوانه. وهو في ذلك ينشد إرضاء من يروم رضاه من الآلهة المصطنعة المفتراة كالآلهة من الجن، أو الأرواح الموهومة، أو الأصنام الجامدة البلهاء، أو من السادة الكبراء من مجرمي البشر. وهو كذلك في الغالب يجنح للكفر بإغفال الشكر لله على أنعمه الكبيرة والكثيرة التي لا تحصيها الأقلام أو الألسن أو القراطيس ؛ ذلكم هو الإنسان في الغالب جانح للظلم والكفران والعصيان إلا من رحم الله من عباده المؤمنين الأبرار المخبتين إليه، الذين يحذرون السقوط في الشرك وظلم الآخرين أو كفران النعم وجحودها. لا جرم أن الزمان طيلة دورانه وجريانه لم يخل من عباد لله صالحين كرام يؤمنون إيمانا صادقا راسخا ويطيعونه مخلصين منيبين إليه، لا يصدهم عن ذلك إغراء ولا فتنة، ولا يحول بينهم وبين الاعتصام بحبل الإسلام إغواء ولا ابتلاء. ١
١ - البحر المحيط جـ ٥ ص ٤٢٧-٤٢٩ وروح المعاني جـ ٧ ص ٢٢٦ – ٢٢٩ والتبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٩٧..
قوله تعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ( ٣٥ ) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( ٣٦ ) ﴾ يخاطب الله رسوله محمدا ( ص ) أن اذكر حين قال إبراهيم ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) فقد دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه جل وعلا أن يجعل هذا البلد، أي مكة ( آمنا ) أي ذا أمن، وهو أن يأمن فيه الناس على نفوسهم وأموالهم. والمراد بالأمن السكون، وهو نقيض الخوف. ومثله الطمأنينة إلى الأمر. وهذه بركة من بركات الدعاء المفضال الذي تضرع به إبراهيم عليه السلام وهو يخاطب ربه سبحانه ليكتب لمكة الأمن والطمأنينة والسلام والرخاء بما يليق بالمكانة السامقة المرموقة التي نيطت بمكة ذات الشرف القدسي الرفيع.
قوله :( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) ( واجنبني ) من التجنب ؛ أي أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل بمعنى البعد. وجانبه وتجانبه واجتنبه كله بمعنى. وجنبه الشيء تجنيبا أي نحّاه عنه١.
والمقصود من الدعاء مجانبة الأصنام والبعد عن عبادتها ؛ أي ثبتنا يا ربنا على التوحيد الخالص لك والتزام ملة الإسلام، واصرفني وبني عن عبادة الأصنام.
وربما قيل : ما الفائدة من دعاء إبراهيم أن يجنّبه الله وبنيه- وهم أولاده من صلبه- عبادة الأصنام مع أن النبيين معصومون عن الكفر وعن عبادة غير الله ؟ ولعل الجواب الصحيح عن ذلك : أن إبراهيم دعا بمثل هذا الدعاء على سبيل التورع والتخشع وزيادة الخوف من الله، ومبالغة في إظهار الحاجة والفاقة إلى فضل الله وعونه ورحمته في كل آن.
١ - مختار الصحاح ص ١١٢ والمصباح المنير جـ ١ ص ١٢٠..
قوله :( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) أي تسببت الأصنام في إضلال كثير من الناس. والمعنى : المراد أن الناس ضلوا بعبادة الأصنام. على أن إسناد الإضلال إلى الأصنام مجازي ؛ لأن الأصنام جوامد لا تعقل.
قوله :( فمن تبعني فإنه مني ) أي من سار على منهجي، منهج التوحيد الخالص لله وما أنا عليه من ملة صادقة كريمة ( فإنه مني ) من، اتصالية ؛ أي فإنه متصل بي غير منفك عني في ملتي، ملة الإيمان بالله وحده لا شريك له.
قوله :( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) أي من لم يتبع ملتي وما أنا عليه من منهج الحق والتوحيد ؛ فإنك يا ربنا تستر الذنوب والمعاصي على عبادك وترحمهم بفيض رحمتك الواسعة. وقيل : إن الله يغفر لهم ويرحمهم إن آمنوا وتابوا وأقلعوا عن الكفر والعصيان١.
١ - التبيان الطوسي جـ ٦ ص ٢٩٩ وروح المعاني جـ ٧ ص ٢٣٤، وروح المعاني جـ ٧ ص ٢٣٤، ٢٣٥، والبحر المحيط جـ ٥ ص ٤٣١..
قوله تعالى :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك الحرام ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( ٣٧ ) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( ٣٨ ) ﴾ مفعول ( أسكنت ) محذوف وتقديره : أسكنت ناسا من ذريتي بواد١. كرر إبراهيم النداء الخاشع المتذلل إلى ربه رغبة في الاستجابة وميلا للالتجاء إلى جناب الله العظيم فقال :( إني أسكنت من ذريتي ) من السكنى، ويعنى اتخاذ المأوى للإقامة فيه ( من ذريتي ) أي بعض ذريتي. والمراد بهم هنا إسماعيل وأمه هاجر ؛ فقد أسكنهم إبراهيم ( بواد غير ذي زرع ) وهو وادي مكة ؛ إذ لم يكن فيه عندئذ زرع ولا نبات لانعدام الماء ( عند بيتك المحرم ) أضاف البيت إلى نفسه سبحانه ؛ لأنه مالكه وليس من مالك له غيره. ووصفه بالمحرم ؛ لأنه مُنع منه الطوفان إذ حرم عليه، وقيل : لأنه لم يزل عزيزا منيعا تهابه الجبابرة فلا يمسونه بسوء. وقيل : لأنه حُرم فيه ما لم يحرم في غيره من البيوت كالجماع والصيد والقتل. وسماه بيتا باعتبار ما كان ؛ فإنه كان مبنيا من قبل. وقيل : باعتبار ما سيكون ؛ لأنه كان من المعلوم أنه سوف يبنيه.
قوله :( ربنا ليقيموا الصلاة ) أي أسكنتهم بهذا الوادي البلقع القفر الذي يخلوا من أسباب الرزق والمعاش ( ليقيموا الصلاة ) وذلك عند بيتك المحرم البيت المبارك الذي شرفه الله تشريفا وفضله على سائر البيوت في الأرض. وقد ذكر جنس الصلاة من بين العبادات والطاعات تعظيما لشأن الصلاة خاصة، وإظهارا لأهميتها المميزة البالغة التي تعلو على كل الشعائر والطاعات، وتفوق سائر العبادات جلالة وأهمية. وفي قوله :( ليقيموا ) بضمير الجمع، ما يدل على أن الله قد أعلم إبراهيم بأن ولده إسماعيل سيكون له هنالك عقب ونسل يقيمون الصلاة في هذا المكان المبارك المقدس.
قوله :( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) الأفئدة القلوب، جمع فؤاد. وهو من التفؤّد بوزن التفعل ؛ أي التوقد والتحرق. فأدتُ اللحم أي شويته. وافتأدوا أي أوقدوا نارا. ولحم مفتئد أي مشوي٢ وقوله :( من ) للتبعيض ؛ أي اجعل أفئدة من أفئدة الناس تحنّ وتهفو إليهم وتسرع شوقا وودادا إليهم.
كذلك كان تقدير الله، وهو أن يدعو إبراهيم ربه أن يجعل فريقا من الناس- وليس كل الناس- تهفو قلوبهم وتميل شوقا لمكة. وقيل : لو قال عليه السلام : أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم والناس جميعا سواء فيهم اليهود والنصارى. قوله :( وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) وهذه مسألة أخرى من إبراهيم يتضرع بها إلى ربه أن يرزق ذريته في مكة من خيرات البلاد، وأرزاق يسوقها الناس والعباد، كأن تستجلب إليهم هذه الثمرات من أقطار الأرض الواسعة المترامية. وقد تحقق ذلك بعون الله وتقديره ؛ إذ استجاب دعوة خليله إبراهيم عليه السلام فأسبغ على مكة، البد البلقع القفر من صنوف الطعام والثمرات والخيرات ما لم يكن في الحسبان لولا فضل العاطي الموافق المنان.
قوله :( لعلهم يشكرون ) أي لعلهم يشكرونك على ما أسبغت عليهم من جزيل النعم.
١ - البيان للأنباري جـ ٢ ص ٦٠.
٢ - القانوس المحيط ص ٣٨٩..
قوله :﴿ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ ذلك تضرع وخشوع من خليل الله إبراهيم وهو يدعو ربه ذاكرا شاكرا، سائلا لولده الهداية والسلام والتوفيق، ولمكة الخير والرخاء والبركة. ويعلن في دعائه هذا أننا يا ربنا ما قصدنا بدعائنا ومسألتنا إلا رضوانك والإخلاص لك في كل ما أردناه وابتغيناه ؛ فأنت عليم بسرنا وجهرنا، وليس من شيء خفي أو مخبوء أو مستور في السماوات أو الأرض إلا هو ظاهر بين يديك١.
١ - التبيان جـ ٦ ص ٢٢٩ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٣٨ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٤٣٢ وتفسير البيضاوي ص ٣٤٢..
قوله تعالى :﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ( ٣٩ ) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ( ٤٠ ) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ( ٤١ ) ﴾ ذلك إقرار خاشع يهتف به قلب إبراهيم عليه السلام. القلب النقي الزكي النابض بالإيمان والحب لله والخشية منه- وهو أن الله يستجيب الدعاء لعبده المؤمن المخبت الخاشع.
قوله :( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) يعني يا رب اجعلني مؤديا ما كلفتني به من فريضة الصلاة التي فرضتها علي، وكذلك اجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ؛ فقد خص بعض ذريته بالدعاء لهم أن يكونوا مقيمي الصلاة دون بعضهم الآخر ؛ لأن الله أعلمه أن من ذريته كفارا.
قوله :( ربنا وتقبل دعاء ) أي استجب دعائي. وقال ابن عباس : يريد عبادتي. وهو نظير الخبر أن رسول الله ( ص ) قال : " الدعاء هو العبادة ".
قوله :( ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) هذا دعاء من خليل الله إبراهيم يتضرع فيه إلى ربه أن يغفر له ولوالديه، وذلك من قبل أن يتبرأ إبراهيم من أبيه لما تبين له أن أباه عدو لله، وكذلك دعا إبراهيم لجميع المؤمنين أن يستر الله ذنوبهم يوم الجزاء ؛ إذ يحاسب الناس بأعمالهم١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٣٤٢ وفتح القدير جـ٣ ص ١١٣ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص٥٤١..
قوله تعالى :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( ٤٢ ) مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( ٤٣ ) ﴾ ذلك خطاب من الله لرسوله ( ص ) في الظاهر، وهو في الحقيقة خطاب للمسلمين في كل زمان. خطاب فيه تهديد رعيب للظالمين المجرمين، وفيه وعيد مجلجل من الله يتوعد به الجاحدين المجرمين الذين عتوا عن أمر الله وتنكبوا عن منهجه العظيم وجنحوا للشرك والمعاصي وفعل المنكرات والمفاسد وإضلال العباد.
أولئك يتوعدهم الله الوعيد المخوف المرجف، الوعيد الذي يثير في القلوب الرعب والوجل، وينشر في الأذهان الذهول والهول. وذلك من خلال هذه الكلمات الربانية المعدودة المزلزلة. بضع كلمات تحمل من الترويع والنذر ما يُرجف المشاعر والأبدان. وذلك في قوله :( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) أي تظنن أن الله ساه عما يعمله الجاحدون المشركون من المعاصي والآثام، بل إنه عالم بهم وبأعمالهم التي يحصيها عليهم ليجزيهم الجزاء الذي يستحقونه في يوم الجزاء.
قوله :( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) من الشخوص، وهو الارتفاع. وشخص البصر إذا ارتفع. وشخص بصره فهو شاخص ؛ إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف١.
والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين الظالمين ليس الله بغافل عنهم ولكن الله يؤخر لهم العذاب الأليم الواصب إلى اليوم القارع القاصم. اليوم الذي تغشاهم فيه غاشية القيامة بأهوالها العظام ودواهيها الرعيبة الجسام. وحينئذ تشخص أبصار هؤلاء الخاسرين الهلكى وهي مفتوحة لا تطرف لفرط ما أصابهم من الخوف الفظيع الداهم ولشدة ما ينتابهم حينئذ من الدهش والانهيار.
١ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٢٨ ومختار الصحاح ص ٣٣١..
قوله :( معطعين مقنعي رؤوسهم ) مهطعين مقنعي رؤوسهم، منصوبان على الحال من الضمير في ( يؤخرهم ) والتقدير : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار في هاتين الحالتين١ و ( مهطعين ) أي مسرعين. من الإهطاع والهطع والهطوع وهو الإسراع. يقال : أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع. وأهطع الرجل إذا مد عنقه وصوّب رأسه وأسرع مقبلا خائفا. أو أقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه٢. ومقنعين ؛ أي رافعين رؤوسهم وناظرين في ذل وخوف٣.
وهذه هي حال الظالمين المجرمين الذين يأتون يوم القيامة وقد أثقلتهم الخطايا والمعاصي وأهلكهم الكفران والشرك والإفساد في الأرض. يأتون مسرعين رافعين رؤوسهم، مادين أعناقهم، شاخصة أبصارهم فلا تطرف. وذلك كله لهول الموقف العصيب، ولشدة ما يغشاهم من الهوان والوجل. نسأل الله العفو والستر والنجاة والأمان.
قوله :( لا يرتد إليهم طرفهم ) الطرف، معناه تحريك الجفن، والمراد : أن الظالمين لا تطرف أبصارهم ؛ فهم دائمو الشخوص في ذل ووجل.
قوله :( وأفئدتهم هواء ) الهواء معناه الخلاء أو الأجوف الذي لم يشغله شيء، ثم جعل ذلك وصفا للقلب المضطرب الخاوي الذي لا خير فيه ولا قوة. وهذه حال الكافرين الخاسرين يوم القيامة ؛ إذ تكون قلوبهم خالية من كل أمل أو رجاء أو خاطر لانشغالها بما تجده حينئذ من الهم والاضطراب والوجل.
هذه حال الظالمين الخاسرين يوم القيامة من التعس والخسران والذل واشتداد الوجل لهول ما يواجههم من الدواهي العظام والويلات المريعة الجسام. نجانا الله من كل ذلك برحمته نجاة تفضي بنا إلى السلامة والأمان.
وما ينبغي الظن أن عقاب الظالمين محصور في الآخرة دون الدنيا ؛ فإن الله المنتقم الجبار لا يخفى عليه ما يصنعه الطغاة المجرمون في هذه الدنيا من وجوه الظلم والباطل، وما يكيده هؤلاء التعساء المجرمون لدينه وقرآنه والمسلمين من بالغ الكيد والعدوان والاضطهاد. والله جل جلاله يستمهل هؤلاء المضلين العصاة استمهالا، حتى إذا جاء وعده بالانتقام دمّر عليهم أفظع تدمير وأخذهم أخذ عزيز مقتدر في هذه الدنيا قبل الآخرة٤.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٦١..
٢ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٠٢ ومختار الصحاح ص ٦٩٦..
٣ - مختار الصحاح ص ٥٥٢..
٤ -تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٤٤ وفتح القدير جـ ٣ ص ١١٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٦٥..
قوله تعالى :﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ( ٤٤ ) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ( ٤٥ ) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( ٤٦ ) ﴾.
يخاطب الله رسوله محمدا ( ص ) أن ( أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) ( يوم ) مفعول ثان للفعل ( أنذر )، وليس ظرفا ؛ لأن جعله ظرفا يؤدي إلى أن يكون الإنذار يوم القيامة، وليس من إنذار في يوم القيامة، بل إن يوم القيامة دار حساب وجزاء١. والمعنى : خوّفهم هذا اليوم العصيب وما ينزل بهم فيه من شديد العذاب وما تكون عليه حالهم من خواء القلوب وهم مهطعون رافعون رؤوسهم، وأبصارهم شاخصة باهتة لا تطرف. خوفهم ذلك وغيره من ألوان العذاب في جهنم.
قوله :( فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ) يقول هؤلاء الخاسرون الذين ظلموا أنفسهم : يا ربنا أخرنا إلى أجل قريب كيما نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع دينك ومنهجك وتصديق النبيين الذين أرسلتهم إلينا معلمين مبلغين هداة ؛ أي طلبوا الرجوع إلى الدنيا فترة صغيرة من الزمن كيما يتلافوا ما فرطوا فيه وما تلبسوا به من بشاعة الجحود والتكذيب في الدنيا. لكن طلبهم لا يغني عنهم من عذاب الله المحقق شيئا. فما يطلبون ولا يرجون إلا وهم تحيط بهم من كل جانب أسباب اليأس والهوان والذلة والتخسير ليفضوا بعد ذلك لا محالة إلى النار وبئس القرار.
قوله :( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) يقال لهم هذا الجواب على سبيل التوبيخ والتقريع ؛ أي أو لم تحلفوا من قبل –في الدنيا- أنكم لا زوال لكم عن هذه الحياة إلى حياة أخرى ؛ فقد كانوا ينكرون أن يزولوا عن هذه الدنيا ليتحولوا عنها إلى الدار الآخرة ؛ فإنهم كانوا مكذبين بالبعث.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٦١..
قوله :( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) أي تبوأتم منازل المشركين المكذبين الذين كانوا مستقرين مطمئنين من قبلكم. أولئك الجاحدين الخاسرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك والجحود، كقوم عاد وثمود وأصحاب مدين وغيرهم من المكذبين الذين عتوا عن أمر ربهم وتمادوا في الضلال والطغيان ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) تبين فعل، وفاعله مقدر، وتقديره : تبين لكم فعلنا بهم. ولا يجوز أن تكون ( كيف ) فاعلا للفعل تبين ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وكيف هنا منصوبة بقوله : فعلنا١ ؛ أي ظهر لكم بالحس ومشاهدة الآثار ما فعلنا بهم من العذاب الشديد في الدنيا عقوبة بما فعلوه من المعاصي والذنوب ( وضربنا لكم الأمثال ) أي مثلنا لكم ما كان عليه الكافرون من قبلكم من الظلم والمعاصي وما فعلنا بهم من البلاء والعقاب لنبين لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب فتعتبروا وتزدجروا، وليس من معتبر ولا مزدجر.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٦١..
قوله :( وقد مكروا مكرهم ) لقد مكر هؤلاء الظالمون الجاحدون مكرهم الفظيع الذي استفرغوا فيه كل ما لديهم من جهود وطاقات وقدرات مالية وثقافية وفنية وإعلامية وسياسية ونفسية وعسكرية وغير ذلك من أساليب الخداع والشر والافتراء والكذب والترويع والإغراء والتضليل- كل ذلك للصد عن سبيل الله وهو دينه وشرعه، ولإشاعة الكفر والضلال والفساد في الأرض ولتدمير الإسلام والمسلمين في العالم كيلا يبقى لمنهج الإسلام سلطان ولا عزة ولا شوكة. ولكي يتبدد المسلمون فينقلبوا إلى أشتات من الجماعات المبعثرة الممزقة المستضعفة ؛ وذلك أقصى ما يبتغيه الظالمون والطغاة والمجرمون من غايات في هذا العالم.
قوله :( وعند الله مكرهم ) أي مكتوب عند الله مكرهم ؛ فهو مجازيهم عليه بمكر أعظم من مكرهم. أو عند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم من حيث لا يحتسبون. قوله :( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) يقرأ ( لتزول ) على قراءتين الأولى : فتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى، فتكون اللام للتأكيد، دخلت للفرق بين إن المخففة وبين إن النافية بمعنى ما، فيكون المعنى : وإنه كان مكرهم لتزولُ منه الجبال. وذلك على سبيل التعظيم والتهويل.
الثانية : كسر اللام الأولى وفتح الأخرى. فتكون اللام لام الجحود، وإن، في الآية بمعنى ما، النافية. فيكون المعنى : وما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال. وذلك على سبيل التصغير والتحقير لمكرهم١. و ( كان )، ههنا تامة بمعنى وقع. والمراد بالجبال، آيات الله البينات ودينه القويم الحكيم ؛ فإنه في رسوخه واستقراره وعظيم شأنه كالجبال الرواسي الشم التي لا تميد ولا تتزعزع٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٦١..
٢ - الكشاف جـ٢ ص ٣٨٣ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٤٧ والبيضاوي ص ٣٤٣..
قوله تعالى :﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ( ٤٧ ) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ( ٤٨ ) ﴾ ( مخلف )، مفعول ثان للفعل ( تحسبن )، و ( رسله ) مفعول للمصدر ( وعده ) والتقدير : مخلف رسله وعده. والمراد بالوعد هنا ما وعد رسله بالنصر والظهور وهو قوله :( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) وقوله :( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ).
والله جل وعلا أوفى الأوفياء، فلا يخلف ما وعد، فكيف لا يفي رسله المصطفين ما وعدهم به من النصر وتحقيق الغلبة لهم على الظالمين.
قوله :( إن الله عزيز ذو انتقام ) الله قوي غالب، لا يغلبه شيء. وهو منتقم من الظالمين الذين يصدون عن دينه ويعتدون على أوليائه المقربين من نبيين وصالحين مخلصين يدعون إلى الله على بصيرة.
قوله :( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) ( يوم )، منصوب على الظرف بالمصدر قبله وهو قوله :( ذو انتقام ) أو منصوب على البدل من قوله :( يوم يأتيهم العذاب ) ١ وقيل : منصوب بفعل مقدر. أي واذكر يوم تبدل الأرض.
والمراد بالتبديل الذي يأتي على الأرض والسماوات يحتمل وجهين :
الوجه الأول : أن يكون ذلك في الذات ؛ أي تبدل الأرض التي عليها الناس في هذه الدنيا، فتصير أرضا بيضاء نقية كالفضة، وكذلك السماوات الحالية المعروفة تبدل سموات أخرى مختلفة اختلافا ذاتيا.
الوجه الثاني : المراد بالتبديل ما كان في الصفة وليس في الذات. قال ابن عباس في هذا المعنى : هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى، فلا يُرى فيه عوج ولا أمت٢.
قوله :( والسماوات ) أي تبدل السموات غير السموات. وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يقتل مؤمن كافر ولا ذو عهد في عهده " والمعنى : ولا ذو عهد في عهده بكافر. أما تبديل السماوات، فهو بانفطارها وانتثار كواكبها وانكدار نجومها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وتسجير بحارها. فلا جرم أن ذلك انقلاب كوني هائل مزلزل، انقلاب يأتي على الكون كله وما حواه من خلائق وأشياء سواء في ذلك الأحياء على اختلاف أنواعها وأجناسها، أو الكواكب والنجوم ومختلف الأجرام السابحة في أجواز الفضاء الرحيب، أو ما حوته الأرض من بحار وأنهار ومعادن وبشر. كل أولئك سيأتي عليهم التبديل الكوني المذهل الذي تتغير فيه الصورة والصفات للأشياء جميعا ليصير الوجود إلى عوالم أخرى مختلفة وقد تبدل فيها الحال غير الحال ؛ بل تبدل فيها كل شيء تبديلا.
تلك هي القيامة بفظائعها وقواصمها ودواهيها الجسام. وحينئذ يؤتى بالبشرية جميعها لتناقش الحساب. وهو قوله :( وبرزوا لله الواحد القهار ) أي في ذلك الزمان العصيب من أهوال القيامة حيث القوارع والشدائد والبلايا يظهر بنو آدم فردا فردا بين يدي الله ( الواحد القهار ) أي الغلاب الذي لا يغالب، القهار الذي لا يقهر ؛ بل إنه هو الذي يقهر الخلق بما شاء وكيف شاء.
وإنهم يظهرون جميعا أمام الله مكشوفين صاغرين عرايا وقد غشيهم من اليأس والرعب ما تخوى منه القلوب، وتنهار به الأبدان والأعصاب٣، يظهرون جميعا ليناقشوا الحساب فلا استتار حينئذ ولا مناص ولا غياب، إلا الوقوف بين يدي القاهر الدّيّان.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٦٢ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٤٩..
٢ - الأمت: الانخفاض والارتفاع. انظر مختار الصحاح ص ٢٤..
٣ - تفسير الطبري جـ ١٣ ص ١٦٤- ١٦٧ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٤٩ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٦٦ والبيان للأنباري جـ ٢ ص ٦٢..
قوله تعالى :﴿ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ( ٤٩ ) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ( ٥٠ ) ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ( ٥١ ) ﴾ ( مقرنين )، أي قرن بعضهم مع بعض من قرن الشيء بالشيء أي وصله به، والأصفاد تعني القيود، واحدها صفد، بالتحريك. وصَفَده ؛ أي شده واوثقه. والصِّفاد ما يوثق به الأسير من قيل وغل١.
وذلك كائن في يوم القيامة حيث الحساب والجزاء واشتداد الهول والجزع، وحيث التبدل المذهل الذي يغشى الأرض والسماوات ؛ فإنه يؤتى بالمجرمين وهم الطغاة والخاسرون الذين عتوا عن أمر الله عتوا كبيرا وصدوا الناس عن دين الله، وأشاعوا في الدنيا الكفر والضلال والفساد بكل صوره وألوانه. يؤتى بهم يوم القيامة ( مقرنين في الأصفاد ) أي يوثق بعضهم ببعض ؛ فهم لكونهم متجانسين متشابهين في الكفر والعصيان ؛ فإنهم يُضم بعضهم إلى بعض مقرنين في القيود والأغلال. وقيل : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد وهي الأغلال والقيود أو الوثاق والسلاسل.
١ - مختار الصحاح ص ٥٣٢..
قوله :( سرابيلهم من قطران ) السرابيل، جمع سربال، وهو القميص. والقطران، ما يتحلب من شجر الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل وغيرها من الجرب فيحرق الجرب بحرارته، وهو شديد الاشتعال، أسود اللون، منتن الريح، يطلى به جلود أهل النار. وقيل : القطران، معناه النحاس المذاب يطلى به جلود الظالمين في النار١.
هذه حال من أحوال أهل النار ووصف من أوصاف العذاب الذي يجزونه وهم يتقاحمون في جهنم ؛ فإن لباسهم ؛ إذ ذاك من نحاس مذاب بالغ الحرارة أو ما يشبهه من الحميم الآن الذين تكتوي به جلود هؤلاء الخاسرين الهلكى.
قوله :( وتغشى وجوههم النار ) أي تلفح وجوههم النار المستعرة فتحرقها بضرامها الملتهب.
١ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٥١، ١٥٢ والمصباح المنير جـ٢ ص ١٦٧..
قوله :( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) أي فعل الله بهم ذلك العذاب الأليم الحارق جزاء لهم بما صنعوا في الدنيا من المعاصي والآثام والكفر ؛ فقد كانوا في حياتهم الدنيا ضالين مضلين يثيرون في الأرض الشر والفساد والكفر، ويصدون الناس عن الحق وهو الإسلام. أولئك جزاؤهم التحريق والاصطلاء في النار اللاهبة الحامية.
قوله :( إن الله سريع الحساب ) لقد أحاط الله علما بأعمال العباد جميعا فلا يعزب عنه منها شيء. وهو يحاسب الناس كافة في أسرع وقت بل فيما دون لمح البصر وذلك على الله يسير. وما الخلق بالنسبة إلى سلطانه العظيم وقدرته المطلقة إلا كالفرد الواحد.
قوله تعالى :﴿ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ﴾ أي هذا القرآن بلاغ لجميع الخلق كيما يتعظوا به ويستدلوا بما فيه من الدلالات والحجج على أنه ليس من إله غير الله ؛ فهو الله الفرد الأحد له كامل الألوهية ومطلق الربوبية، وهو المدبر للكون والعالمين، ليس له في ذلك معين ولا مجير ولا نديد ( وليذكر أولوا الألباب ) أي وليذكر ويتعظ أهل الاعتبار والازدجار من أولي العقول المستنيرة، والفطانة الكبيرة دون غيرهم من الصّم العمي الذين لا يستوقفهم منطق سليم، ولا يستجيبون لحق أو يقين١.
١ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٥١، ١٥٢ وتفسير البيضاوي ص ٣٤٣ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٤٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٦٧..
Icon