تفسير سورة مريم

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة مريم من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾، فمدحه بإخفاء الدعاء ؛ وفيه الدليل على أن إخفاءه أفضل من الجهر به، ونظيره قوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ]. وروى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم :" خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ وخَيْرُ الرِّزْقِ ما يَكْفِي ". وعن الحسن أنه كان يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمّن من خلفه، وكان لا يعجبه رفع الأصوات.
وروى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى قوماً قد رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال :" إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمّاً ولا غَائِباً إنّ الّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَيْكُمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ ".
قوله تعالى :﴿ وإني خِفْتُ المَوَالِي مِنْ وَرَائِي ﴾. رُوي عن مجاهد وقتادة وأبي صالح والسدي : أن الموالي العصبة، وهم بنو أعمامه، خافهم على الدين لأنهم كانوا شرار بني إسرائيل.
قوله تعالى :﴿ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ ؛ سأل الله عز وجل أن يرزقه ولداً ذكراً يلي أمور الدين والقيام به بعد موته لخوفه من بني أعمامه على تبديل دينه بعد وفاته. وروى قتادة عن الحسن في قوله تعالى :﴿ يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ قال :" نبوّته وعِلْمه ". ورَوَى خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال :" كان عقيماً لا يولَدُ له ولد فسأل ربه الولد فقال يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة " ؛ وعن أبي صالح مثله. فذكر ابن عباس أنه يرث المال ويرث من آل يعقوب النبوة، فقد أجاز إطلاق اسم الميراث على النبوة فكذلك يجوز أن يعني بقوله :﴿ يَرِثُني ﴾ يرث علمي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً وإنّما وَرَّثُوا العِلْمَ "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ يعني بعَرَفَات فإِنّكُمْ على إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ ". وروى الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر الصديق قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" لا نُوَرِّثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ". وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : سمعت عمر يَنْشُد نَفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير وطلحة : أنشدكم بالله الذي به تقوم السموات والأرض أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا نُوَرِّثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " ؟ قالوا : نعم. فقد ثبت برواية هذه الجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء لا يورثون المال، ويدل على أن زكريا لم يُرِدْ بقوله :" يرثني " المال، أن نبي الله لا يجوز أن يأسف على مصير ماله بعد موته إلى مستحقه، وأنه إنما خاف أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه فيحرّفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه.
قوله تعالى :﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ ﴾. قال أبو عبيدة : المحراب صَدْرُ المجلس، ومنه محراب المسجد. وقيل : إن المحراب الغرفة، ومنه قوله تعالى :﴿ إِذْ تَسَوّروا المِحْرَابَ ﴾ [ ص : ٢١ ]. وقيل : المحراب المصلَّى.
وقوله تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ﴾، قيل فيه : إنه أشار إليهم وأومأ بيده، فقامت الإشارة في هذا الموضع مقام القول ؛ لأنها أفادت ما يفيده القول ؛ وهذا يدل على أن إشارة الأخرس معمول عليها قائمة فيها يلزمه مقام القول. ولم يختلف الفقهاء أن إشارة الصحيح لا تقوم مقام قوله، وإنما كان في الأخرس كذلك لأنه بالعادة والمِرَانِ والضرورة الداعية إليها قد عُلم بها ما يعلم بالقول، وليس للصحيح في ذلك عادة معروفة فيعمل عليها ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن اعتقل لسانه فأومأ وأشار بوصية أو غيرها أنه لا يُعمل على ذلك لأنه ليس له عادة جارية بذلك حتى يكون في معنى الأخرس.
قوله تعالى :﴿ قَالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً ﴾. قال قائلون : إنما تمنّت الموت للحال التي دُفعت إليها من الولادة من غير ذَكَرٍ. وهذا خطأ ؛ لأن هذه حال كان الله تعالى قد ابتلاها بها وصيّرها إليها وقد كانت هي راضية بقضاء الله تعالى لها بذلك مطيعة لله، وتسخُّطُ فِعْلِ الله وقضائه معصيةٌ لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة، فعلمنا أنها لم تتمنَّ الموت لهذا المعنى وإنما تمنّته لعلمها بأن الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها، فتمنت أن تكون قد ماتت قبل أن يعصي الناسُ الله بسببها.
قوله تعالى :﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ﴾. قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي :" جبريل عليه السلام ". وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ووهب بن منبّه :" الذي ناداها عيسى عليه السلام ". وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ ﴾، قال مجاهد :" معلماً للخير ". وقال غيره :" جعلني نفّاعاً ". وقوله تعالى :﴿ وَأَوْصَانِي بالصَّلاةِ والزَّكَاةِ ما دُمْتُ حَيّاً ﴾، قيل : إنه عَنَى زكاة المال، وقيل : أراد التطهير من الذنوب.
قوله تعالى :﴿ إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيّاً ﴾ ؛ فيه الدلالة على أن تَرْكَ الكلام واستعمال الصمت قد كان قُرْبَةً، لولا ذلك لما نذرته مريم عليها السلام ولما فعلته بعد النذر. وقد رَوَى معمر عن قتادة في قوله :﴿ إِنّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْماً ﴾ قال : في بعض الحروف :" صمتاً "، ويدل على أن مرادها الصمت. قولها :﴿ فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيّاً ﴾ وهذا منسوخٌ بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه نَهَى عن صمت يوم إلى الليل ". وقال السدي : كان من صام في ذلك الزمان لا يكلم الناس فأذن لها في هذا المقدار من الكلام، وقد كان الله تعالى حبس زكريا عن الكلام ثلاثاً وجعل ذلك آية له على الوقت الذي يخلق له فيه الولد، فكان ممنوعاً من الكلام من غير آفة ولا خرس.
قوله تعالى :﴿ وَبَرّاً بوَالِدَتِي ﴾ إلى قوله :﴿ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾ يدل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بصفات الحمد والخير إذا أراد تعريفها إلى غيره لا على جهة الافتخار، وهو أيضاً مثل قول يوسف عليه السلام :﴿ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ﴾ [ يوسف : ٥٥ ] فوصف نفسه بذلك تعريفاً للملك بحاله.
قوله تعالى :﴿ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ﴾. رُوي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي قالوا :" دهراً طويلاً ". وعن ابن عباس وقتادة والضحاك :" مليّاً : سويّاً سليماً من عقوبتي ". قال أبو بكر : هذا من قولهم فلان مليٌّ بهذا الأمر إذا كان كامل الأمر فيه مضطلعاً به.
قوله تعالى :﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وبُكِيّاً ﴾ ؛ فيه الدلالة على أن سامع السجدة وتاليها سواء في حكمها وأنهم جميعاً يسجدون ؛ لأنه مدح السامعين لها إذا سجدوا. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه تلا سجدةً يوم الجمعة على المنبر فنزل وسجدها وسجد المسلمون معه ". وروى عطية عن ابن عمر وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب قالوا :" السجدة على من سمعها ". وروى أبو إسحاق عن سليمان بن حنظلة الشيباني قال : قرأت عند ابن مسعود سجدة فقال :" إنما السجدة على من جلس لها " ؛ وروى سعيد بن المسيب عن عثمان مثله. قال أبو بكر : قد أوجبا السجدة على من جلس لها، ولا فرق بين أن يجلس للسجدة بعد أن يكون قد سمعها، إذْ كان السبب الموجب لها هو السماع، ثم لا يختلف حكمها في الوجوب بالنية ؛ وفي هذه الآية دلالة أيضاً على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يفسدها.
قوله تعالى :﴿ أَضَاعُوا الصَّلاة ﴾. قال عمر بن عبدالعزيز :" أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها " ؛ ويدل على هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ التَّفْرِيطُ في النَّوْمِ إِنَّما التَّفْرِيطُ أَنْ يَدَعَهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتَ الأُخْرَى ". وقال محمد بن كعب :" أضاعوها بتركها ".
قوله تعالى :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾. قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج :" مثلاً وشبيهاً " وقوله تعالى :﴿ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً ﴾ قال ابن عباس :" لم تلد مثله العواقرُ ". وقال مجاهد :" لم نجعل له من قبل مثلاً ". وقال قتادة وغيره :" لم يسمَّ أحدٌ قبله باسمه ". وقيل في معنى قوله :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ أن أحداً لا يستحق أن يسمَّى إلهاً غيره.
قوله تعالى :﴿ وما يَنْبَغِي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَن عَبْداً ﴾. فيه الدلالة على أن ملك الوالد لا يبقى على ولده فيكون عبداً له يتصرف فيه كيف شاء وأنه يعتق عليه إذا ملكه ؛ وذلك لأنه تعالى فرق بين الولد والعبد، فنفى بإثباته العبودية النبوّه. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يَجْزِي وَلَدٌ والِدَهُ إلاّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ بالشِّرَى "، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم :" النّاسُ غَادِيَانِ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فمُوبِقُها ومُشْتَرٍ نَفْسَهُ فمُعْتِقُها "، ولم يرد بذلك أن يبتدىء لنفسه عتقاً بعد الشرى، وإنما معناه : معتقها بالشرى، فكذلك قوله :" فيشتريه فيعتقه "، وهو كقوله :" فيشتريه فيملكه " وليس المراد منه استيناف ملك آخر بعد الشرى بل يملكه بالشرى. ويدل على أنه يعتق عليه بنفس الشرى أن ولد الحر من أَمَتِهِ حرّ الأصل ولا يحتاج إلى استيناف عتق، وكذلك المشتري لابنه ؛ لأنه لو احتاج المشتري لابنه إلى استيناف عِتْقٍ لاحتاج إليه أيضاً الابن المولود من أَمَتِهِ إِذْ كَانت الأمة مملوكة.
فإن قيل : إن ولد أمته منه حرّ الأصل فلم يحتج من أجل ذلك إلى استيناف عتق، والولد المشترى مملوك فلا يعتق بالشرى حتى يستأنف له عتقاً. قيل له : اختلافهما من هذا الوجه لا يمنع وجه الاستدلال منه على ما وصفنا في أن الإنسان لا يبقى له ملك على ولده وأنه واجب أن يعتق عليه إذا ملكه ؛ وذلك لأنه لو جاز له أن يبقى له ملك على ولده لوجب أن يكون ولده من أَمَتِهِ رقيقاً إلى أن يعتقه. وإنما اختلف الولد المولود من أمته والولد المشترى في كون الأول حرَّ الأصل وكون الآخر معتقاً عليه ثابت الولاء منه، مِنْ قِبَلِ أن الولد المشترى قد كان ملكاً لغيره فلا بد إذا اشتراه من وقوع العتاق عليه حتى يستقرّ ملكه، إذ غير جائز إيقاع العتق في ملك بائعه لأنه لو وقع العتاق في ملكه لبطل البيع لأنه بعد العتق، ولا يصح أيضاً وقوعه في حال البيع لأن حصول العتق ينفي صحة البيع في الحال التي يقع فيها فوجب أن يعتق في الثاني من ملكه، ولا يصح أيضاً وقوع العتاق في حال الملك لأنه يكون إيقاع عتق لا في ملك فلذلك وجب أن يعتق في الثاني من ملكه، وأما الولد المولود في ملكه من جاريته فإنا لو أثبتنا له ملكاً فيه كان هو المستحق للعتق في حال الملك، فلا جائز أن يثبت ملكه مع وجود ما ينافيه وهو استحقاق العتاق في تلك الحال فكان حرَّ الأصل ولم يثبت له ملك فيه، ولو ثبت ملكه ابتداءً فيه لكان مستحقّاً بالعتق في حال ما يريد إثباته لوجود سببه الموجب له وهو ملكه للأم، وغير جائز إثبات ملك ينتفي في حال وجوده، واختلافهما من هذا الوجه لا ينفي أن يكون ملكه لولده في الحالين موجباً لعتقه وحريته.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:قوله تعالى :﴿ وما يَنْبَغِي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَن عَبْداً ﴾. فيه الدلالة على أن ملك الوالد لا يبقى على ولده فيكون عبداً له يتصرف فيه كيف شاء وأنه يعتق عليه إذا ملكه ؛ وذلك لأنه تعالى فرق بين الولد والعبد، فنفى بإثباته العبودية النبوّه. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يَجْزِي وَلَدٌ والِدَهُ إلاّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ بالشِّرَى "، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم :" النّاسُ غَادِيَانِ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فمُوبِقُها ومُشْتَرٍ نَفْسَهُ فمُعْتِقُها "، ولم يرد بذلك أن يبتدىء لنفسه عتقاً بعد الشرى، وإنما معناه : معتقها بالشرى، فكذلك قوله :" فيشتريه فيعتقه "، وهو كقوله :" فيشتريه فيملكه " وليس المراد منه استيناف ملك آخر بعد الشرى بل يملكه بالشرى. ويدل على أنه يعتق عليه بنفس الشرى أن ولد الحر من أَمَتِهِ حرّ الأصل ولا يحتاج إلى استيناف عتق، وكذلك المشتري لابنه ؛ لأنه لو احتاج المشتري لابنه إلى استيناف عِتْقٍ لاحتاج إليه أيضاً الابن المولود من أَمَتِهِ إِذْ كَانت الأمة مملوكة.
فإن قيل : إن ولد أمته منه حرّ الأصل فلم يحتج من أجل ذلك إلى استيناف عتق، والولد المشترى مملوك فلا يعتق بالشرى حتى يستأنف له عتقاً. قيل له : اختلافهما من هذا الوجه لا يمنع وجه الاستدلال منه على ما وصفنا في أن الإنسان لا يبقى له ملك على ولده وأنه واجب أن يعتق عليه إذا ملكه ؛ وذلك لأنه لو جاز له أن يبقى له ملك على ولده لوجب أن يكون ولده من أَمَتِهِ رقيقاً إلى أن يعتقه. وإنما اختلف الولد المولود من أمته والولد المشترى في كون الأول حرَّ الأصل وكون الآخر معتقاً عليه ثابت الولاء منه، مِنْ قِبَلِ أن الولد المشترى قد كان ملكاً لغيره فلا بد إذا اشتراه من وقوع العتاق عليه حتى يستقرّ ملكه، إذ غير جائز إيقاع العتق في ملك بائعه لأنه لو وقع العتاق في ملكه لبطل البيع لأنه بعد العتق، ولا يصح أيضاً وقوعه في حال البيع لأن حصول العتق ينفي صحة البيع في الحال التي يقع فيها فوجب أن يعتق في الثاني من ملكه، ولا يصح أيضاً وقوع العتاق في حال الملك لأنه يكون إيقاع عتق لا في ملك فلذلك وجب أن يعتق في الثاني من ملكه، وأما الولد المولود في ملكه من جاريته فإنا لو أثبتنا له ملكاً فيه كان هو المستحق للعتق في حال الملك، فلا جائز أن يثبت ملكه مع وجود ما ينافيه وهو استحقاق العتاق في تلك الحال فكان حرَّ الأصل ولم يثبت له ملك فيه، ولو ثبت ملكه ابتداءً فيه لكان مستحقّاً بالعتق في حال ما يريد إثباته لوجود سببه الموجب له وهو ملكه للأم، وغير جائز إثبات ملك ينتفي في حال وجوده، واختلافهما من هذا الوجه لا ينفي أن يكون ملكه لولده في الحالين موجباً لعتقه وحريته.

قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدّاً ﴾ ؛ قيل فيه وجهان، أحدهما : في الآخرة يحب بعضهم بعضاً كمحبة الوالد للولد ؛ وقال ابن عباس ومجاهد :" وُدّاً في الدنيا ".
Icon