تفسير سورة مريم

فتح البيان
تفسير سورة سورة مريم من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة مريم
هي مكية وآياتها ثمان أو تسع وتسعون آية
قال ابن عباس : أنزلت بمكة. وعن الزبير وعائشة مثله، وفي البيضاوي، إلا آية السجدة، وفي الجلالين : إلا سجدتها فمدنية، أو وإلا ﴿ فخلف من بعدهم خلف ﴾ الآيتان وأخرج أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن أم سلمة أن النجاشي قال لجعفر ابن أبي طالب : هل معك مما جاء به_يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم_ عن الله شيء ؟ قال : نعم ؛ فقرأ صدرا من ( كهيعص ) فبكى النجاشي١ حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها.
وقد تقدم في الجزء الأول من هذا التفسير أن أسماء السور وترتيبها، وترتيب الآيات توقيفي، ولم تذكر امرأة باسمها صريحا في القرآن إلا مريم فذكرت فيه في ثلاثين موضعا.
١ أخضل الشيء اخضلالا واخضوضل أي ابتل إ هـ صحاح، والأسقف رئيس من رؤساء النصارى في الدين والجمع أساقفة إ هـ..

(كهيعص) قال ابن عباس: كبير هاد أمين عزيز صادق. وعن ابن مسعود وناس من الصحابة: هو الهجاء القطع الكاف من الملك والهاء من الله والياء والعين من العزيز والصاد من المصور.
وعن أم هانئ عن رسول الله ﷺ قال: " كاف هاد عالم صادق "، وعن علي كان يقول يا كهيعص اغفر لي، وعن السدي قال: كان ابن عباس يقول: في كهيعص، وحم، ويس، وأشباه هذا هو بسم الله الأعظم وعن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله وقال قتادة: هو اسم من اسماء القرآن، وقيل هو اسم السورة. وعن الكلبي: هو ثناء أثنى الله به على نفسه.
وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة، وقع بين من بعدهم، ولم يصح مرفوعاً في ذلك شيء. ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روي عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة المتناقضة في هذه الفواتح، فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف، ورَدُّ لعلم في مثلها إلى الله سبحانه، ولذا قال في الجلالين: الله أعلم بمراده
133
بذلك. وفي الخطيب أنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. وقد قدمنا تحقيق هذا في فاتحة سورة البقرة.
134
(ذكر) أي هذا ذكر، أو المتلو ذكر، وقيل إنه خبر الحروف المقطعة، وهو قول يحيى بن زياد. قال أبو البقاء: وفيه بعد، وقيل هو مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليك ذكر.
قال الزجاج: المعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر (رحمة ربك) مضاف لفاعله ومفعوله (عبده زكريا) يعني إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد. قيل عبده مفعول لذكر، ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها. كما يقال ذكرني معروف فلان أي بلغني.
عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " كان زكريا نجاراً " (١)، أخرجه أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه، وعن ابن مسعود قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا بن آزر بن مسلم من ذرية يعقوب
_________
(١) المستدرك كتاب التاريخ ٢/ ٥٩٠.
(إذ نادى ربه) ظرف زمان للرحمة أي رحمة الله إياه وقت أن ناداه (نداء) مشتملاً على دعاء (خفياً) سراً جوف الليل لأنه أسرع إلى الإجابة.
واختلف في وجه كون ندائه هذا خفياً، فقيل لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء، وقيل أخفاه لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته، ولكونه من أمور الدنيا. وقيل أخفاه مخافة من قومه، وقيل كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفاً هرماً لا يقدر على الجهر، لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة وكان النداء في المحراب.
(قال رب إني وهن العظم مني) هذه الجملة مفسرة لقوله نادى ربه. فالنداء أوله قوله هذا وآخره قوله الأتي (واجعله رب رضياً) فجملة النداء ثمان جمل والدعاء منه هو قوله (فهب لي من لدنك ولياً) كما سيأتي،
134
والوهن الضعف، يقال وهن يهن وهناً، من باب وعد إذا ضعف فهو واهن في الأمر والعمل والبدن، ووهنته أضعفته، يتعدى؛ ولا يتعدى في لغة فهو موهون البدن والعظم، والأجود أنه يتعدى بالهمزة، فيقال أوهنته، والوهن بفتحتين لغة في المصدر، ووهن يهن بالكسر فيهما لغة، وقرئ بالحركات الثلاث، أراد أن عظامه فترت ورقت، وضعفت قوته من الكبر.
وذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما في الإنسان وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحد العظم قصداً إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام، وقيل اشتكى سقوط الأضراس.
(واشتعل الرأس شيباً) الاشتعال في الأصل انتشار شعاع النار، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية بأن حذف المشبه به، وأداة التشبيه، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جداً. قد اشتعل رأس فلان.
(ولم أكن بدعائك) أي بدعائي إياك (رب شقياً) يقال شقي بكذا أي تعب فيه، ولم يحصل مقصوده منه، فالمعنى لم أكن خائفاً في وقت من الأوقات، بل كلما دعوتك استجبت لي، وهذا توسل بما سلف له من الاستجابة، وتنبيه على أن المطلوب -وإن لم يكن معتاداً- فإجابته لدعائه معتادة، وقد عوده سبحانه بالإجابة وأطعمه، ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطعمه.
قال العلماء: يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع. وذكر نعم الله عليه. كما فعل زكريا هاهنا. فإن قوله الماضي غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن سرد مطالبه وبلوغ مآربه، وفي هذا ذكر ما
135
عوده الله. والإنعام عليه بإجابة أدعيته، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع.
136
(وإني خفت) بكسر الخاء (الموالي من ورائي) وقرئ خفت بكسر التاء وفاعله الموالي، أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي أو انقطعوا بالموت، مأخوذ من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شاذة وبعيدة عن الصواب. والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العم، ونحوهم، والعرب تسمي هؤلاء موالي. وقيل هم الناصرون له، وقيل الكلالة، وقيل جميع الورثة.
واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده، فقيل خاف أن يرثوا ماله وأراد أن يرثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولداً.
وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين فخاف أن يضيع الدين بموته، فطلب ولياً يقوم به بعد موته، وهذا القول أرجح من الأول، لأن الأنبياء لا يورثون، وهم أجل من أن يعتذوا بأمور الدنيا، فليس المراد هنا وراثة المال، بل المراد وراثة العلم والنبوة والقيام بأمر الدين، وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " (١).
(وكانت امرأتي عاقرأً) هي التي لا تلد لكبر سنها والتي لا تلد أيضاً لغير كبر، وهي المرادة هنا؛ ويقال للرجل الذي لا يلد عاقر أيضاً. قال ابن جرير: وكان اسم امرأته أشاع بنت فاقود بن ميل، وهي أخت حنة، وهي أم مريم، فولد لأشاع يحيى ولحنة مريم. وقال القتيبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول الأول يكون يحيى بن زكريا ابن خالة أم عيسى. وعلى
_________
(١) مسلم ١٧٥٧ - البخاري ١٣٩٠.
136
الثاني يكونان ابني خالة، كما ورد في الحديث الصحيح.
(فهب لي من لدنك) أي أعطني من فضلك (ولياً) مرضياً لأن مثله لا يرجى إلا من فضلك وكمال قدرتك. ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوز فيها حدوث الولد بينهما، وحصوله منهما، وقد قيل: إنه كان ابن بضع وتسعين سنة، وقيل: بل أراد بالولي الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كان مثله لما هو خارق للعادة. فإن الله سبحانه قد يكرم رسله ما يكون كذلك، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم
137
(يرثني ويرث من آل يعقوب) قرئ بالرفع في الفعلين جميعاً على أنهما صفتان للولي، ولمسا بجواب الدعاء، وقرئ بالجزم فيهما على أنهما جواب للدعاء، ورجح الأول أبو عبيد، وقال: هي أصوب في المعنى لأنه طلب ولياً هذه صفته، فقال: هب لي الذي يكون وارثي. ورجح ذلك النحاس، والوراثة هنا هي وراثة العلم والنبوة على ما هو الراجح كما سلف.
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن يعقوب المذكور هنا هو يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم. وزعم بعضهم أنه يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان، وبه قال الكلبي ومقاتل: وآل يعقوب هم خاصته الذين يؤول أمرهم إليه للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وقد كان فيهم أنبياء وملوك، وقرئ يرثني وارث ال يعقوب، وقرئ وأرث آل يعقوب، أي أنا، وقرئ " أُوَ يَرِثُ آل يعقوب " على أن هذا المصغر فاعل يرثني، وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظاً ومعنى.
(واجعله رب رضياً) أي مرضياً في أخلاقه وأفعاله؛ وقيل راضياً بقضائك، وقدرك، وقيل رجلاً صالحاً ترضى عنه، وقيل نبياً كما جعلت آباءه أنبياء.
(يا زكريا) بالهمز، وحذفه سبعيتان. قال جمهور المفسرين: إن هذا النداء من الله سبحانه، وقيل من جهة الملائكة، لقوله في آل عمران (فنادته الملائكة) ويمكن أن يكن وقع له الخطاب مرتين، مرة بواسطة الملائكة وأخرى من غير واسطة، وفي الكلام حذف، أي فاستجاب له دعاءه فقال: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام) وبين هذه البشارة ووجود الغلام في الخارج بالفعل ثلاث عشرة سنة لأن طلب زكريا للولد والبشارة به كان في صغر مريم وهي في كفالته، وأن الحمل بيحيى كان مقارناً للحمل بعيسى، وكانت مريم إذ ذاك بنت ثلاث عشرة سنة، وأن أشاع حملت به قبل حمل مريم بعيسى بستة أشهر.
(اسمه يحيى) قد تقدم في آل عمران وجه التسمية بيحيى وزكريا. قال الزجاج: سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، وهو الممنوع من الصرف للعلمية والعجمية، وتقول في تثنيته يحييان رفعاً ويحيين نصباً وجراً، وفي جمع سلامته يحييون رفعاً، ويحيين نصباً وجراً.
(لم نجعل له من قبل سمياً) فعيل بمعنى مفعول، أي مسمى يحيى قال أكثر المفسرين: معناه لم نسم أحداً قبله يحيى.
وقال مجاهد وابن عباس وجماعة: معناه أنه لم يجعل له مثلاً ولا نظيراً، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة أو السموّ، ورد هذا بأنه يقتضى تفضيله على إبراهيم وموسى. وقيل: معناه لم تلد عاقر مثله، والأول أولى.
وفي إخباره سبحانه بأنه لم يُسَمً بهذا الاسم قبله أحداً فضيلة له من جهتين. الأولى أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به ولم يكملها إلى الأبوين، وسماه بخصوص يحيى لأنه به حيي رحم أمه بعد موته بالعقم، والجهة الثانية أن تسميته باسم لم يوضع لغيره تفيد تشريفه وتعظيمه.
138
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣)
139
(قال رب أنّي) أي كيف ومن أين (يكون لي غلام) وليس معنى هذا الاستفهام الاستبعاد والإنكار، بل التعجب والاستكشاف من قدرة الله وبديع صنعه حيث يخرج ولداً من امرأة عاقر وشيخ كبير (وكانت امرأتي عاقراً) أي لا تلد؛ والجملة حال من الياء في لي، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في آل عمران.
(وقد بلغت من الكبر عتياً) أي يأساً، يريد بذلك نحول الجسم والجلد ودقة العظم أو يبساً جساوة (١) في المفاصل والعظام من أجل الكبر والطعن في السن العالية يقال عتا الشيخ يعتو عتياً إذا انتهت سنه وكبر، وشيخ عات إذا صار إلى حال اليبس والجفاف والأصل عتواً لأنه من ذوات الواو فأبدلوها ياء لكونها أخف قال السمين: فيه أربعة أوجه أظهرها أنه مفعول به، أو مصدر مؤكد لمعنى الفعل أو مصدر وقع موقع الحال، أي عاتياً أو ذا عتو، الرابع أنه تمييز، وعلى هذه الأوجه الثلاثة (من) مزيدة ذكره أبو البقاء، والأول هو الأوجه، انتهى، وقرئ عِتياً بكسر العين وبضمها وهما لغتان، وكلتا الجملتين لتأكيد الاستبعاد.
_________
(١) جسا ضد لطف وجست اليد وغيرها جسوا وجساء يبست وجسا الشيخ جسوا بلغ غاية السن والماء جمد، أهـ صحاح.
139
والتعجب المستفاد من قوله: (أنى يكون لي غلام) قال ابن عباس: لا أدري كيف كان رسول الله ﷺ يقرأ هذا الحرف عتيًّا أو عتياً. وعن عطاء في قوله عتياً قال: لبث زماناً في الكبر وقال السدي: هرماً، والمعنى كيف يحصل بيننا ولد الآن وقد كانت امرأتي عاقراً لم تلد في شبابها وشبابي: وهي الآن عجوز وأنا شيخ هرم.
ثم أجاب الله سبحانه عن هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله:
140
(قال) أي الملك المبلغ للبشارة، وهو كما قال الكواشي: جبريل عليه السلام، والأكثر على أنه الله تعالى لسلامته عن فك النظم.
(كذلك) أي الأمر كذلك تصديق له والإشارة إلى ما سبق من قول زكريا: ثم ابتدأ بقوله: (قال ربك) أو قال قولاً مثل ذلك، والإشارة إلى مبهم يفسره قوله (هو عليَّ هين) وعلى الأول هذه الجملة مستأنفة مسوقة لإزالة استبعاد زكريا بعد تقريره، وإنما أعيد: قال ربك، اهتماماً أي قال هو مع بعده عندك، عليّ هين، وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع من المراد. قال الفراء: أي خلقه عليّ هين بأن أرد عليك قوة الجماع وأفتق رحم امرأتك للعلوق.
(وقد خلقتك من قبل) أي من قبل يحيى، والجملة حال وقرأ سائر الكوفيين وقد خلقناك (ولم تك شيئاً) لأن المعدوم ليس بشيء، هذه الجملة مقررة لما قبلها قال الزجاج: أي فخلق الولد لك كخلقك، والمعنى أن الله سبحانه خلقه ابتداء وأوجده من العدم المحض، فإيجاد الولد له بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه، وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه السلام لأنه المخلوق من العدم حقيقة بأن يقول: وقد خلقت أباك آدم من قبل ولم يك شيئاً، للدلالة على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشاء آدم من العدم.
(قال رب اجعل لي آية) أي علامة تدلني على وقوع المسؤول وتحققه وحصول الحبل. والمقصود من هذا السؤال تعريفه وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه قال ابن الأنباري: وجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما مَنَّ به عليه، وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى من الله سبحانه لا من الشياطين، لأن إبليس أوهمه بذلك، كذا قال الضحاك والسدي وهو بعيد جداً.
(قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) نصب على الحال أي آيتك أن لا تقدر على الكلام، والحال أنك سوي الخلق صحيح سليم من غير بأس ليس بك آفة تمنعك منه، والمراد ثلاث ليال بأيامها، كما في آل عمران ثلالة أيام وإنما عبر هنا بالليالي، وهناك بالأيام، لأن هذه السورة مكية، والمكي سابق على المدني، والليل سابق على النهار، فأعطى السابق للسابق، وأعطى المؤخر للمؤخر، وقيل: ثلاث ليال متتابعات، والأول أولى، قال ابن عباس: اعتقل لسانه من غير مرض، وفي لفظ من غير خرس.
(فخرج على قومه من المحراب) أي من مصلاه متغير اللون، عاجز الكلام فأنكروا ذلك عليه، في القاموس: الحراب الغرفة، وصدر البيت، وأكرم مواضعه، ومقام الإمام من المسجد، والوضع الذي يتفرد به الملك فيتباعد عن الناس، ومحاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها.
وفي الشهاب: وأما المحراب المعروف الآن، وهو طاق مجوّف في حائط المسجد يصلي فيه الإمام فهو محدث لا تعرفه العرب، فتسميته محراباً اصطلاح للفقهاء انتهى، وهو ممنوع، بل هو معنى لغوي إذ هو من أفراد المعنى اللغوي الذي ذكره في القاموس بقوله: ومقام الإمام بالسجد واشتقاقه من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان، وقيل من الحرب محركاً؛ كأن ملازمه يلقى حرباً وتعباً ونصباً.
141
(فأوحى إليهم) أي أومأ؛ وأشار، بدليل قوله في آل عمران: إلا رمزاً وقيل كتب لهم على الأرض، وبالأول قال الكلبي، والقرظي وقتادة وابن منبه وبالثاني، قال مجاهد: وقد يطلق الوحي على الكتابة. قال ابن عباس: كتب لهم كتاباً (أن سبحوا) مصدرية أو مفسرة، والمعنى فأوحى إليهم بأن صلوا؛ أو أي صلوا.
(بكرة وعشياً) أي نزهوا ربكم طرفي النهار؛ فهما ظرفا زمان للتسبيح. وانصرفت بكرة لأنه لم يقصد بها العلمية، فلو قصد بها العلمية امتنعت من الصرف، قال الفراء: العشي يؤنث، ويجوز تذكيره إذا أبهم، قال: وقد يقال: العشي جمع عشية قيل والمراد صلاة الصبح والعصر، وقيل المراد بالتسبيح هو قولهم سبحانه الله.
142
(يا يحيى) أي قال الله للمولود يا يحيى، أو ولد له مولود فبلغ المبلغ لذي يجوز أن يخاطب فيه. فقلنا له يا يحيى.
وقال الزجاج: المعنى فوهبنا له وقلنا له يا يحيى أي بعد ولادته بثلاث سنين على ما قاله قتادة، وقيل بسنتين يعني على لسان الملك كما قاله أبو حيان (خذ الكتاب) المراد به التوراة لأنه المعهود حينئذ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن.
والمراد بالأخذ إما الأخذ الحسي، أو الأخذ من حيث المعنى، وهو القيام بما فيه كما ينبغي، وذلك بتحصيل ملكة تقضي سهولة الإقدام على المأمور به، والإحجام على المنهي عنه، ثم أكده بقوله (بقوة) أي متلبساً بجد، وعزيمة، واجتهاد قاله مجاهد.
(وآتيناه الحكم صبياً) المراد بالحكم الحكمة، وهي الفهم للكتاب الذي أمر بأخذه، وفهم الأحكام الدينية، وقيل هي العلم وحفظه والعمل
142
به: وقيل النبوة، وقيل العقل، وقال مجاهد: الفهم، وقال مالك بن دينار: اللب، ولا مانع من حمل الحكم على جميع ما ذكر، والجملة مستأنفة.
قال ابن عباس: أعطي الفهم، والعبادة، وهو ابن سبع سنين، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الغلمان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب فقال يحيى ما للعب خُلقنا اذهبوا نصلي "، فهو قول الله (وآتيناه الحكم صبياً) أخرجه الحاكم في تاريخه، وعنه قال: قال رسول الله ﷺ " من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبياً "، أخرجه البيهقي، وأخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً عليه.
143
(وحناناً) معطوف على الحكم، قال جمهور المفسرين: الحنان الرحمة والرقة والشفقة، العطف والمحبة وأصله توقان النفس مأخوذ من حنين الناقة على ولدها قال: يقول حنانك يا رب وحنانيك يا رب معنى واحد يريد رحمتك، قال إن الأول الحنان مشدداً من صفات الله عز وجل، والحنان محققاً للعطف والرحمة والحنان التوق والبركة.
قال ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً، يعني بلالاً لما مر به وهو يعذب، وقيل أن القائل لذلك هو ورقة ابن نوفل، قال الأزهري: معنى ذلك لأترحمن عليه ولأعطفن عليه لأنه من أهل الجنة.
ومعنى (من لدنا) من عندنا ومن جنابنا، وقيل المعنى أعطيناه رحمة من
143
لدنا، كائنة في قلبه، يتحنن بها على الناس، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر، قال ابن عباس في (حناناً) لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف الله على عبده بالرحمة، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة كما مر، ومنه قول الشاعر:
وعسير بلاء حاق به... ويسير حنانك يدفعه
(وزكاة) معطوف على ما قبله، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبر أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم إلى الخير، وقيل ذكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود، وقيل صدقة تصدقنا بها على أبويه قاله ابن قتيبة، وقيل تصدقاً على الناس أي أعطيناه توفيقاً للتصدق عليهم وقيل يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقيل: هي العمل الصالح، فلم يعمد بذنب.
(وكان تقياً) قال ابن عباس: طهر فلم يأت بذنب أي متجنباً لمعاصي الله سبحانه مطيعاً له بطبعه، وقد روي أنه لم يعمل معصية ولم يهم بها قط، ومن جملة تقواه أنه كان يتقوت بالعشب، وكان كثير البكاء فكان لدمعه مجار على خده.
144
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
145
(وبراً) فعل بمعنى فاعل أي باراً (بوالديه) والمعنى لطيفاً بهما محسناً إليهما، لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله أعظم من برهما يدل عليه قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً).
(ولم يكن جباراً عصياً) أي لم يكن متكبراً يقتل، ويضرب على الغضب، ولا عاصياً لوالديه، أو لربه، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح، والمراد أصل الفعل، فالمنفي أصل الجبر، والعصيان، لا المبالغة فيهما
(وسلام) منا (عليه).
قال ابن جرير وغيره: معناه أمان عليه من الله، قال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته. وإنما الشرف في أن سلم الله عليه. وقال سلام هنا منكراً، وفي قصة عيسى (والسلام) معرفاً لأن الأول من الله، والقليل منه كثير، والثاني من عيسى.
ومعنى (يوم ولد) أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم، وسلم من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم، أو أن الله حياه في ذلك اليوم (ويوم يموت ويوم يبعث حياً) قيل أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد لأنه خرج مما كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوماً لم يكن قد عرفهم وأحكاماً ليس لديها عهد، ويوم يبعث لأنه يرى هول يوم القيامة، فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة.
(واذكر في الكتاب مريم) هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب هذه السورة: أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم وخبرها ونبأها؛ أو المراد به جنس القرآن وهذه السورة منه (إذ انتبذت) النبذ الطرح والرمي. قال تعالى: (فنبذوه وراء ظهورهم)، والمعنى أنها تنحت وتباعدت. وقال ابن قتيبة: اعتزلت وقيل انفردت.
(من أهلها) أي من قومها والمعاني متقاربة. واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل لأجل أن تعبد الله سبحانه، وقيل للتطهر من حيضها (مكاناً شرقياً) أي من جانب الشرق، والنصب على الظرفية أو مفعول به، على أن معنى انتبذت أتت مكاناً، كما في السمين، وفي المصباح ما يؤيده.
والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير، وقال ابن عباس: مكاناً أظلها من الشمس أن يراها أحد منهم، وقال: إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة. لأن مريم اتخذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذوا ميلاده قبلة، وإنما سجدت اليهود على خوف حين شق فوقهم الجبل، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه يتخوفون أن يقع عليهم، فسجدوا سجدة رضيها الله فاتخذوها عنه.
وقيل كان ذلك اليوم شاتياً شديد البرد فجلست في مشرقه تعلي رأسها.
(فاتخذت) أي ضربت (من دونهم) أي من دون أهلها (حجاباً) أي حاجزاً وستراً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة أو حال التطهر من الحيض. والحجاب الستر والحاجز (فأرسلنا إليها روحنا) هو جبريل عليه السلام ليبشرها بالغلام ولينفخ فيها فتحمل به.
وقد اختلف الناس في نبوة مريم، فقيل إنها نبية لمجرد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك، وقيل لم تكن نبية لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، والمتفق عليه أن المنفي وحي الرسالة لا مطلق الوحي، والوحي هنا إنما هو بشارة الولد لا بالرسالة، وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران،
146
وقيل هو روح عيسى لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد. والأول أولى لقوله (فتمثل) أي جبريل عليه السلام (لها) بعد لبسها ثيابها (بشراً سوياً) تاماً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً.
وقال البيضاوي: ولعله أي التمثل ليهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها، إهـ قال في الخميس في أحوال أنفس نفيس: فيه نظر، انتهى، ولم يبين أحد هذا النظر الصحيح لا هو ولا غيره من المفسرين فيما تصفحت إلا أبا السعود حيث قال: هو مع مخالفته لمقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة يكذبه قوله تعالى:
147
(قالت إني أعوذ بالرحمن منك) فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة مثل ما إليه فضلاً عما ذكر من الحالة المرتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة.
نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لابتلائها وسبر عفتها، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه، وذكره تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها إهـ.
وقد تكلموا في كيفية تمثله، فقال إمام الحرمين: يفني الله الزائد من خلقه أو يزيله عنه ثم يعيده إليه، يعني أن له أجزاء أصلية كما في الإنسان وأجزاء زائدة، وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء وقال ابن حجر: إن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفيه الله تعالى عن الرأي فقط قاله الكرخي.
وقيل إنما ظهر لها في سورة البشر لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فتفهم كلامه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه، وأنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته، فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء فاستعاذت بالله منه.
و (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً) أي ممن يتقي الله
147
ويخافه، ويعامل بمقتضى التقوى والإيمان، وخصت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه. وقيل أن تقياً اسم رجل صالح فتعوذت منه تعجباً. وقيل إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأول أولى.
وتعوذها من تلك الصورة الحسنة دل على كمال عفتها وغاية ورعها، وجواب الشرط محذوف، أي فلا تتعرض لي واتركني وانئه عني، أو فتنتهي عني لتعوذي، وهذه الجملة كقول القائل: أن كنت مؤمناً فلا تظلمني.
148
(قال) جبريل (إنما أنا رسول ربك) الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر على بالك من إرادة السوء؛ وإنما جئت (لأهب لك) جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها، من جهة كون الإعلام لها من جهته أو من جهة كون النفخ الذي قام به في الظاهر، ويقويه ما في بعض المصاحف أمرني أن أهب لك، وقرئ ليَهَبَ على معنى أرسلني الله، ليهب لك (غلاماً زكياً) هو الطاهر من الذنوب، الذي ينمو على النزاهة والعفة. وقيل المراد بالزكي النبي.
(قالت أنّى يكون لي غلام) والحال أنني (لم يمسسني) أي لم يقربني (بشر) زوج بنكاح (ولم أك بغياً) أي فاجرة، فجعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه، والزنا ليس كذلك، وإنما يقال فيه: فجر بها وحنث بها. وما أشبه ذلك.
والبغيّ هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد: أصله بغوي على فعول. وقال ابن جني: إنه فعيل. وقال ابن الأنباري: أن بغياً غالب في النساء إجراء له مجرى حائض وعاقر. وقلما تقول العرب رجل بغي، وزيادة ذكر ذلك يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهاً لجانبها من الفحشاء، يعني أن الولد لا يكون إلا من نكاح أو سفاح ولم يكن هنا واحد منهما. قيل وما استبعدت من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد، هل من قبل زوج نتزوجه في المستقبل؟ أم يخلقه الله سبحانه ابتداء.
148
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥)
149
(قال) جبريل (كذلك) أي الأمر هكذا من خلق غلام منك من غير أب (قال ربك هو) أي خلق ولدك بلا أب (عليّ هين) بأن ينفخ بأمري جبريل فيك فتحملي به، والجملة مستأنفة والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من قول زكريا (و) خلقناه (لنجعله) أي هذا الغلام أو خلقه بلا أب (آية للناس) يستدلون بها على كمال القدرة على أنواع الخلق فإنه خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى، قاله الكرخي.
(و) لنجعله (رحمة) عظيمة كائنة (منا) لمن آمن به لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبي رحمة لأمته (وكان) خلقه (أمراً مقضياً) به في علمي مقدراً محكوماً مفروغاً منه لا يرد ولا يبدل ولا يتغير مسطوراً في اللوح المحفوظ قد قدره الله سبحانه وجف به القلم.
(فحملته) أي الموهوب هاهنا كلام مطوي، والتقدير فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها وهو بعيد عنها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته وأحست في بطنها مصوراً؛ وكان سنها ثلاث عشرة سنة، أو عشراً، أو عشرين. أو ست عشرة سنة. وقيل كانت النفخة في ذيلها أو كمها، وقيل في فمها، وليس المراد أنه نفخ في فرجها مباشرة.
عن أبي بن كعب قال: تمثل روح عيسى في صورة بشر فحملته، قال:
149
حملت الذي خاطبها دخل في فيها، قيل أن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله.
(فانتبذت به مكاناً قصياً) أي تنحت بالحمل مصاحبة له واعتزلت إلى مكان بعيد من أهلها مخافة اللائمة؛ قيل كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل أبعد مكان في تلك الدار؛ وقيل أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم، وقيل إنها حملت به ستة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وذلك آية أخرى، لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر، وقيل سبعة أشهر وقيل تسعة أشهر كحمل النساء، وقيل كان الحمل والولادة في ساعة واحدة وقيل حملته في ساعة وَصُوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومه، وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.
قلت: وهذا التفصيل لا دليل عليه ولا مستند له إلا أخبار الأخبار أو آراء الرجال، ولو صح من نص صحيح لوجب المصير إليه وكان آية أخرى.
150
(فأجاءها) يقال جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد، أي ألجأها واضطرها وجاء بها. وقرأ شبل فَاجَأَهَا من المفاجأة، وفي مصحف أبيّ (فلما أجاءها). قال في الكشاف: أن أجاءها منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقل (المخاض) أو وجع الولادة وهو مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً، إذا دنا ولادها قرأ الجمهور بفتح الميم وقرئ بكسرها.
(إلى جذع النخلة) الجذع ساق النخلة اليابسة التي لا رأس لها، كأنها طلبت شيئاً تستند أليه وتعتمد عليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد، والمستفيض المشهور أن ولادة عيسى كانت ببيت لحم، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد، وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس.
150
ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فغمسته فيه، وهو اليوم الذي تتخذه النصارى عيداً ويسمونه يوم الغطاس، وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء. ومن زعم أنها ولدت بمصر، قال: بكورة أنهاس، ولم يثبت، انتهى من البحر لأبى حيان، وأنهاس بجانب البهنسا.
(قالت) جزعاً مما أصابها (يا) للتنبيه لأن المنادى غير عاقل (ليتني مت قبل هذا) الوقت أو الأمر تمنت الموت استحياء من الناس، أو خوفاً من الفضيحة لأنها خافت أن يظن بها السوء في دينها أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان.
(وكنت نسياً منسياً) أي شيئاً حقيراً متروكاً، والنَّسْيُ في كلام العرب الشيء الحقير الذي من شأنه أن يُنسى ولا يذكر ولا يعرف ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم: نسياً منسياً أي حيضة ملقاة، وقد قرئ بفتح النون وكسرها وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر، وقرأ القرظي: نِسأ بالهمز مع كسر النون، ونوف البكالي بالهمز مع فتح النون والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يعرف ولا يخطر ببال أحد من الناس، قال ابن عباس: نسياً منسياً أي لم أخلق ولم أك دشيئاً.
151
(فناداها) أي خاطبها لا سمع قولها (من) قرئ بكسر الميم وفتحها وهما سبعيتان (تحتها) الضمير إما لمريم وإما للنخلة والأول أولى لتوافق الضميرين وكانت على أكمة وكان جبريل أسفل منها تحت الأكمة، قال قتادة: الذي ناداها جبريل، وبه قال ابن عباس: وزاد. ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وقد اختلفت الروايات عن السلف، هل هذا المنادى هو جبريل؟ أو عيسى؟ فمن قرأ (من) بالفتح فهو عيسى، ومن قرأ بالكسر فهو جبريل (أن لا تحزني) تفسير للنداء أو المعنى بأن لا تحزني على أنها مصدرية ولا ناهية أو نافية (قد جعل ربك تحتك) أي قربك (سرياً).
151
قال جمهور المفسرين: السَّرِيُّ النهر الصغير لأن الماء يسري فيه، والسري. الجدول؛ والجمع سِرْيَان والسرِي الرئيس، والجمع سُرَاة وهو عزيز لا يكاد يوجد له نظير، لأنه لا يجمع فعيل على فعلة وجمع السراة سروات وسري مفعول، وجعل بمعنى صير أو خلق.
وقيل: السري من سريت الثوب أي نزعته، وسررت الحبل عن الفرس، والأول أولى، والمعنى قد جعل تحت قدمك نهراً قيل: كان هذا قد انقطع عنه الماء فأرسل الله فيه الماء لمريم وأحيى به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر.
وقيل: معنى تحتك تحت أمرك أي إن أَمَرْتِهِ أن يجري جرى، وإن أمرتِهِ بالإمساك أمسك؛ والأول أولى. وعن جماعة من التابعين أن المراد بالسري هنا عيسى، والسري العظيم من الرجال، ومنه قولهم فلان سري، أي عظيم ومن قوم سُرَاة أي عظام.
أخرج الطبراني وابن النجار وابن مردويه، عن ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إن السري الذي في الآية نهر أخرجه الله لها لتشرب منه "، وفي سنده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث، وقال الطبراني بعد إخراجه إنه غريب جداً.
152
(وهزي إليك بجذع النخلة) الْهَزُّ التحريك يقال هزه فاهتز والباء مزيدة للتأكيد، وقال الفراء؛ العرب تقول هزه وهز به، والجذع هو أسفل الشجرة، قال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع (تساقط عليك) أصله تتساقط؛ وقرئ تسقط ويسقط، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعله للجذع (رطباً جنياً) الجَنيّ المأخوذ طرياً، وقيل: هو ما طاب وصلح للجني، وهو فعيل يعني مفعول، أي رطباً طرياً طيباً، قاله ابن عباس أي استحق أن يجنى.
152
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)
153
(فكلي) من ذلك الرطب (واشربي) من ذلك الماء أو من عصير الرطب وقدم الأكل مع أن ذكر النهر مقدم على الرطب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء.
ثم قال: (وقري عيناً) قرأ الجمهور، بفتح القاف، وقرئ بكسرها، قال ابن جرير: هي لغة نجد، والمعنى طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن وهو مأخوذ من القَرِّ والقِرَّة وهما البرد، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح، وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها قاراً أي بارداً وإذا حزن كان دمعها حاراً، ولذلك قالوا في الدعاء عليه: أسخن الله عينه.
وقيل: المعنى وقري عيناً برؤية الولد الموهوب لك، وقال الشيباني: معناه نامي، قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره، وقيل مأخوذ من الاستقرار أي أعطاها الله ما يسكن عينها، فلا تطمح إلى غيره.
(فإما ترين) أصله تَرْأَيِين مثل تسمعين (من البشر أحداً فقولي) أي إن طلب منك الكلام أحد من الناس فقولي، وبهذا المقدر يتخلص من إشكال وهو أن قولها فلن أكلم اليوم إنسياً، كلام فيكون ذلك تناقضاً لأنها قد
153
كلمت إنسياً بهذا الكلام، وقيل قوله فقولي أي بالإشارة وليس بشيء، بل المعنى فلن أكلم اليوم إنسياً بعد هذا الكلام قاله السمين.
(إني نذرت للرحمن صوماً) قيل المراد به الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات (١) والأول أولى، وفي قراءة أبي صوماً صمتاً بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس وروي عنه الواو بينهما، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا الصمت، ويدل عليه فلن أكلم اليوم إنسياً كما سيأتي ومعنى الصوم في اللغة أوسع من المعنيين.
قال أبو عبيدة: كل ممسك من طعام أو كلام أو سير فهو صائم، وقراءة أبي تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم، وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما يفيده الواو، ومعنى (فلن أكلم اليوم إنسياً) أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها.
ولما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات
_________
(١) قوله (والأول أولى) لم يذكر الأول وأصل التركيب بعد قوله: (صوماً) أي امساكاً وسكوتاً، وقيل المراد الخ فتأمل إهـ مصححة.
154
(فأتت به) أي بعيسى (قومها تحمله) أي أتت مصاحبة له وكان إتيانها إليهم في المكان القصي الذي أنتبذت فيه للوضع قيل: في يوم الوضع، وقيل بعد أن طهرت، قال ابن عباس: بعد أربعين يوماً بعدما تعالت من نفاسها، فلما رأوا الولد معها حزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين.
(قالوا) منكرين لذلك (يا مريم لقد جئت) أي فعلت، وارتكبت (شيئاً فرياً) عجيباً نادراً قاله أبو عبيدة، وقال مجاهد: الْفَرِيُّ العظيم أي من الأمر يقال في الخير والشر.
وقال قطرب: الْفَريّ الجديد من الأسقية أي جئت بأمر بديع جديد لم
154
تُسبقي إليه وقيل الْفَرِيُّ القطع أي شيئاً قاطعاً وخارقاً للعادة التي هي الولادة بواسطة الأب وقال سعيد بن مسعدة: الْفَرِيُّ المختلق المفتعل، والاسم الفرية ويقال فريت الجلد وأفريت بمعنى واحد قطعته والولد من الزنا كالشيء المفتري قال تعالى: (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن).
155
(يا أخت هارون) هذا من كلامهم أيضاً، وقد وقع الخلاف في معنى هذه الأخوة وفي هارون المذكور، من هو؟ فقيل هو هارون أخو موسى، والمعنى أن من كانت نظنها مثل هارون في العبادة كيف تأتي بمثل هذا؟ وقيل كانت مريم من ولد هارون أخي موسى، فقيل لها يا أخت هارون كما يقال لمن كان من العرب يا أخا العرب، وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون، وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت شبهت به في عفتها وصلاحها، وقيل: بل كان في ذلك الوقت رجل فاسق اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ حكاه ابن جرير ولم يسم قائله، وهو ضعيف.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون يا أخت هارون؟ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " (١)، وهذا التفسير النبوي يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك.
(ما كان أبوك) أي عمران (امرأ سوء وما كانت أمك) أي حنة (بغياً) هذا فيه تقرير لما تقدم من التعيير والتوبيخ وتنبيه على أن الفاحشة من ذرية الصالحين، مما لا ينبغي أن تكون
_________
(١) مسلم ٢١٣٥ - الترمذي تفسير سورة ١٩ - الإمام أحمد ٤/ ٢٥٢.
(فأشارت) أي مريم (إليه) أي إلى عيسى أن كلموه، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق لأنها نذرت للرحمن
155
صوماً عن الكلام، كما تقدم هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها، وعلى تقدير أنها قد خرجت منها فيمكن أن يقال إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ويقدر على العبارة.
(قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً) هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم، قال أبو عبيدة: في الكلام حشو زائد والمعنى كيف نكلم صبياً في المهد.
وقال الزجاج: الأجود أن يكون (مَنْ) في معنى الشرط والجزاء والمعنى من يكون في المهد صبياً فكيف نكلمه، ورجحه ابن الأنباري، وقيل إن كان هنا التامة التي هي بمعني الحدوث والوجود، وَرُدَّ بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر، وقيل: أنها بمعنى صار.
وقيل: إنها الناقصة على بابها من دلالتها على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي من غير تعرض للانقطاع، ولذلك يعبر عنها بأنها ترادف لم يزل، والمهد هو شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي، ولفظ القاموس المهد الموضع يهيأ للصبي ويوطأ، والأرض كالمهاد، والجمع مهود انتهى، وقيل: هو هنا جحر الأم؛ وقيل سرير كالمهد.
والمعنى كيف نكلم من سبيله أن يُنَوَّم في المهد لصغره. فلما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم
156
(قال إني عبد الله) فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية لله، لئلا يتخذوه إلهاً وفيه إزالة التهمة عن الأم لأن الله لم يختص بهذه المرتبة العظيمة من ولد في الزنا، ووصف نفسه بصفات ثمانية، أولها العبودية وآخرها تأمين الله له في أخوف المقامات (آتاني الكتاب) أي الإنجيل (وجعلني نبياً) أي حكم لي بإيتاء الكتاب، والنبوة في الأزل وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً، وقيل إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال وهو بعيد جداً.
156
وعن أنس قال: كان عيسى قد درس الإنجيل وأحكامها في بطن أمه فذلك قوله آتاني الكتاب، وهو أبعد، وقال عكرمة: قضى أن أكون كذلك، ومثله قوله ﷺ " كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد " (١).
_________
(١) لم يرو هذا الحديث في كتاب من الكتب المعتبرة كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم والمستدركات وإنما رواه صاحب الحلية عن ميسرة الفحل وابن سعد من طريق ابن أبي الجدعاء.
157
(وجعلني مباركاً) البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتاً في دين الله (أينما كنت) وقيل البركة الزيادة والعلو فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء زائدا عالياً محجاً، وقيل معنى المبارك النفاع للعباد لأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويرشد ويهدي وقيل: المعلم للخير وقيل: الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر.
وعن أبي هريرة عنه ﷺ قال: جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت أخرجه الإسماعيلي في معجمه وأبو نعيم في الحلية.
وعن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: معلماً ومؤدباً، أخرجه ابن عدي وابن عساكر، وأينما شرطية لا استفهامية وجوابها إما محذوف وإما هو المتقدم عند من يرى ذلك.
(وأوصاني) أي أمرني (بالصلاة والزكاة) أي بزكاة المال إذا ملكته، أو تطهير النفس عن الرذائل في الوقت المعين لهما وهو البلوغ أو الآن، قولان للمفسرين والأول أولى (ما دمت حياً) أي مدة دوام حياتي، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم.
وقيل: المراد إن الله صيره حين انفصل عن أمه بالغاً عاقلاً. قال الخازن: وهذا القول أظهر (قلت) بل أبعد ويحتاج إلى مستند صحيح ثابت.
157
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩)
158
(وبراً بوالدتي) اقتصر على البر بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب وقرئ برأ بكسر الباء إما على حذف مضاف وإما على أنه مصدر وصف به مبالغة (ولم يجعلني جباراً شقياً) الجبار المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقاً والشقي العاصي لربه. وقيل الخائب وقيل العاق. وقال ابن عباس: شقياً عصياً، أي بل أنا خاضع متواضع، ومن تواضعه أنه كان يأكل ورق الشجر ويجلس على التراب ولم يتخذ له مسكناً. روي أنه قال قلبي لين وأنا صغير في نفسي.
(والسلام) قال المفسرون: هو هنا بمعنى السلامة أي الأمان من الله (عليّ) والألف واللام فيه للعهد لأنه قد تقدم لفظه في قوله وسلام عليه أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى موجه إليّ.
وقال الزمخشري: والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً باللعنة على متهمي مريم وأعدائها من اليهود وتحقيقه أن اللام للجنس، أي جنس السلام عليّ خاصة، فقد عَرض بأن ضده عليكم. ونظيره والسلام على من اتبع الهدى.
(يوم وُلدت) فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت بالطعن ولا أغواني
158
(ويوم أموت) أي ولا عند الموت (ويوم أبعث حياً) أي ولا عند البعث وإنما خص هذه المواضع لكونها أخوف من غيرها. وهذا آخر كلامه فعلموا به براءة أمه، ولم يتكلم بعد هذا الكلام، حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان في العادة.
159
(ذلك) أي المتصف بالأوصاف الثمانية السابقة. وقال الزجاج: ذلك الذي قال: إني عبد الله (عيسى بن مريم) لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله.
(قول الحق) قرئ بالنصب على المدح أو على أنه مصدر مؤكد لقال إني عبد الله، قاله الزجاج. وقرئ بالرفع على أنه نعت لعيسى. قاله الكسائي. وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله. والحق هو الله عز وجل قاله قتادة. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل التقدير هذا الكلام قول الحق، وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين. وقيل الإضافة للبيان. وقرئ قال الحق، وروي ذلك عن ابن مسعود،. وقرأ الحسن قول الحق بضم القاف، والقَوْل والقُول والقال والمقال بمعنى واحد.
(الذي فيه يمترون) أي ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون، ومعناه يختلفون على أنه من المماراة أو يشكون على أنه من المرية، وقد وقع الاختلاف في عيسى، فقالت اليهود: هو ساحر وأنه ابن يوسف النجار، وقالت النصارى: هو ابن الله أو إله.
وعن قتادة في الآية قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيى من أحيى وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء. وهم اليعقوبية فقالت الثلاثة كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث قل فيه، فقال هو
159
ابن الله، وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال هو ثالث ثلاثة: الله إله وعيسى إله وأمه إله. وهم الإسرائيلية وهم ملوك النصارى فقال. الرابع كذبت هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال، فاقتتلوا وظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس).
قال قتادة: وهم الذين قال الله فيهم: فاختلف الأحزاب من بينهم، فاختلفوا فيه فصاروا أحزاباً، فاختصم القوم فقال المرء المسلم أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم؟ قالوا اللهم نعم. قال فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا اللهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون، فأنزل الله (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم).
160
(ما كان لله أن يتخذ من ولد) أي ما صح ولا استقام ذلك. قال الزجاج: (من) مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة، والمعنى ما كان من صفته اتخاذ الولد أي ثبوت الولد له محال.
ثم نزه الله نفسه فقال (سبحانه) أي تنزه وتقدس عن مقالتهم هذه. ثم صرح سبحانه بما هو شأنه، تعالى سلطانه فقال: (إذا قضى أمراً) من الأمور وهذا بمنزلة التعليل لما قبله (فإنما يقول له كن فيكون) أي فيكون حينئذ بلا تأخير لا يتعذر عليه إيجاده على الوجه الذي أراده، وفي إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم وإلزام بالحجة للنصارى، أي من كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد، وقد سبق الكلام على هذا مستوفى في البقرة.
(وإن الله) بفتح أن بتقدير اذكر أو لأن، وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه، وبكسرها بتقدير قل، أو على الاستئناف، وقيل على الأول
160
أنها عطف على الصلاة، أي أوصاني بالصلاة وبأن الله، وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكي غيره، وقيل على الثاني عطف على قوله إني عبد الله، وهو من البعد بمكان (ربي وربكم فاعبدوه) هذا من تمام كلام عيسى بدليل ما قلت لهم إلا ما أمرتني الآية.
(هذا صراط مستقيم) أي الذي ذكرته لكم من أنه ربي وربكم، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضل سالكه
161
(فاختلف الأحزاب) أي اليهود والنصارى (من بينهم) أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، فأفرطت النصارى وغلت وفرطت اليهود وقصرت، ومن زائدة وقيل للتبعيض إذ بقي منهم فرقة أخرى مؤمنة يقولون إنه عبد الله كما تقدم.
(فويل للذين كفروا) وهم المختلفون في أمره، عبر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحكم (من مشهد يوم عظيم) أي من شهود يوم القيامة وما يجري فيه من الحساب والجزاء والعقاب، أو من مكان الشهود فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم. وقيل المعنى فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور.
(أسمع بهم وأبصر) قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب فيقولون أسمع بزيد وأبصر به، أي ما أسمعه وأبصره، فعجب الله سبحانه نبيه ﷺ منهم. وقال السمين: هذا لفظ أمر ومعناه التعجب، وقيل بل هو أمر حقيقة، والمأمور هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى أسمع الناس وأبصرهم بهم وبحالهم، ماذا تصنع بهم من العذاب، وهو منقول عن أبي العالية، وقال ابن عباس: يقول الكفار يومئذ: أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون.
(يوم يأتوننا) للحساب والجزاء (لكن الظالمون) الأصل لكنهم وهو من إقامة الظاهر مقام المضمر للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم
161
(اليوم) أي في الدنيا (في ضلال) أي خطأ (مبين) أي واضح ظاهر، ولكنهم أغفلوا التفكر والاعتبار والنظر في الآثار (وأنذرهم) أي خوّف يا محمد كفار مكة (يوم الحسرة) أي يوم يتحسرون جميعاً، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير.
وعن ابن عباس قال: يوم الحسرة هو من أسماء يوم القيامة، وقرأ (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وفي سنده علي ابن أبي طلحة وهو ضعيف، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.
(إذ قضي الأمر) من الحساب وطويت الصحف وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار (وهم في غفلة) أي غافلين عما يعمل بهم وتلك الحال متضمنة للتعليل، أي أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها إلى الإنذار، وهي الغفلة والكفر.
(وهم لا يؤمنون) به، أخرج البخاري ومسلم وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، وينظرون إليه، فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه فيؤمن به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت؛ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
162
(وأنذرهم يوم الحسرة) الآية وأشار بيده فقال أهل الدنيا في غفلة (١). وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه.
_________
(١) مسلم ٢٨٤٩ - البخاري ١٠٢٤.
162
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)
163
(إنّا نحن) تأكيد للضمير في إنا لأنه بمعناه (نرث الأرض) أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض (ومن عليها) حيث أماتهم جميعاً (وإلينا يرجعون) أي يردون إلينا يوم القيامة فنجازي كلاًّ بعمله، وقد تقدم مثل هذا في سورة الحجر.
(واذكر) لكفار مكة (في الكتاب إبراهيم) أي خبره والمراد بذكر
الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله: (واتل عليهم نبأ
إبراهيم) فالمراد ما ذكر، وإلا فالذاكر له هو الله في كتابه، وعاش إبراهيم
من العمر مائة وخمساً وسبعين سنة؛ وبينه وبين آدم ألفا سنة، وبينه وبين
نوح ألف سنة ذكره السيوطي (١) وفي التحبير (إنه كان صديقاً نبياً) تعليل لما
تقدم من الأمر لرسول الله ﷺ بأن يذكره، وهي معترضة ما
بين البدل والمبدل منه والصديق كثير الصدق بليغه أي اذكر إبراهيم الجامع
لهذين الوصفين، ولا ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقاً ولا يجب في كل
صديق أن يكون نبياً، ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي، فلهذا
انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً.
_________
(١) السيوطي يرجع في هذا إلى نقل عن التوراة في سفر التكوين مشوه، وليس له سند في الإسلام.
(إذ قال لأبيه) بدل اشتمال من إبراهيم وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدم تقريره (يا أبت) التاء عوض عن الياء ولهذا لا يجتمعان (لم تعبد) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي لأي شيء ولأي سبب تعبد (ما لا يسمع) ما تقوله من الثناء عليه، والدعاء له (ولا يبصر) ما تفعله من عبادته؛ ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب، ويجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعم من ذلك أي لا يسمع شيئاً من المسموعات ولا يبصر شيئاً من المبصرات.
(ولا يغني عنك شيئاً) من الأشياء فلا يجلب لك نفعاً؛ ولا يدفع عنك ضرراً، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر، أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه، وامتثالاً لأمر ربه، ووصف الأصنام بثلاثة أشياء كل واحد منها قادح في الإلهية، ورتب هذا الكلام على غاية الحسن، ثم كرر دعوته إلى الحق فقال:
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) أي بعض العلم وهو علم الوحي أو التوحيد أو الآخرة أقوال ثلاثة ذكرها أبو حيان فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه، وأنه قد تجدد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق ويقتدر به على إرشاد الضال، ولهذا أمره باتباعه فقال: (فاتبعني) في الإيمان، والتوحيد (أهدك صراطاً سوياً) مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال:
(يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان ثم علل ذلك بقوله: (إن الشيطان كان للرحمن عصياً) حين ترك ما أمره به من السجود لآدم. ومن أطاع من هو عاص لله سبحانه فهو عاصٍ لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحل به النقم، قال
164
الكسائي: العصي والعاصي واحد، ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال:
165
(يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) إن لم تتب.
قال الفراء: معنى أخاف هنا أعلم وبه فسر الأقلون الآية، وإليه أشار في التقرير وقال الأكثرون: أن الخوف هنا محمول على ظاهره لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه، فوجب إجراؤه على ظاهره، ومعنى الخوف على الغير، هو أن يظن وصول الضرر إلى ذلك الغير.
(فتكون للشيطان ولياً) أي أنك إن أطعت الشيطان كنت معه قريناً في النار واللعنة. فتكون بهذا السبب موالياً له أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو). وقيل الولي بمعنى التالي؛ وقيل بمعنى القريب.
قال الشهاب: الْوَليُّ من الوَلِيْ وهو القرب، وكل من المتقاربين قريب من صاحبه أي تكون للشيطان قريباً منه في النار، تليه ويليك، فلما مرت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة المفرطة، حيث:
(قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) ناداه باسمه ولم يقابل يا أبت بيا بني وأخره وقدم الخبر على المبتدأ. وصدره بهمزة الاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب، ولإنكار نفس الرغبة كأنها مما لا يرغب عنها عاقل. والمعنى أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره. ثم توعده وهدده فقال: (لئن لم تنته) عن مقالتك فيها أو الرغبة عنها، واللام للقسم (لأرجمنك) بالحجارة حتى تموت، وقيل باللسان فيكون معناه لأشتمنك. قاله ابن عباس، وقيل معناه لأضربنك وقيل لأبعدنك عني بالقول القبيح، وقيل لأظهرن أمرك فاحذرني (واهجرني ملياً) أي زماناً طويلاً. وقال ابن عباس حيناً. قال الكسائي: يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة، بمعنى الملاوة من
165
الزمان وهو الطويل.
وقيل معناه اعتزلني سالم العرض سوياً لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير وعن ابن عباس قال: اجتنبني سوياً واجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة وعن عكرمة: ملياً دهراً، وعن قتادة: سالماً، وعن الحسن مثله، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد
166
(قال سلام عليك) أي تحية توديع ومقاطعة ومتاركة، كقوله تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
وقيل معناه أمنة مني لك. قاله ابن جرير. وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله والأول أولى وبه قال الجمهور.
وقيل معناه الدعاء له بالسلامة استمالة له ورفقاً به، وهذا في مقابلة قوله: لئن لم تنته، وهذا مقابلة للسيئة بالحسنة. ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته.
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى... يوارى في ثرى رمسه
فقال: (سأستغفر لك ربي) وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على كفره وتحق عليه الكلمة. ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) بعد قوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أياه) وقيل المراد باستغفاره له طلب توفيقه للإيمان الموجب للمغفرة، أي سأسأل لك ربي توبة تنال بها المغفرة، يعني الإسلام، والاستغفار للكافر بهذا الوجه جائز، كأنه يقول اللهم وفقه للإسلام أو تب عليه واهده. قاله الكرخي والصحيح هو الأول.
(إنه كان بي حفياً) تعليل لما قبلها، والمعنى سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البر واللطف. يقال حفي به وتحفى إذا بره. قال الكسائي. يقال حفي بي حفاوة وحفوة أي اعتنى بي وبالغ في إكرامي والطافي. وقال الفراء: حفياً أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته. وبه قال ابن عباس. والحفي أيضاً المستقصي في السؤال، ومنه كأنك حفي عنها.
166
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥١) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال:
167
(وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي، وهذا في مقابلة قوله: واهجرني ملياً.
(وأدعو ربي) وحده (عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً) أي خائباً كما شقيتم بعبادة الأوثان. وقيل عاصياً قيل: أراد بهذا الدعاء هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمئن إليهم عند وحشته، وفي تصدير الكلام بعسى التواضع وهضم النفس والتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل منه تعالى غير واجبين وأن ملاك الأمر خاتمته وهو عيب.
وقيل: أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه كان لا يدري
أيستجاب له فيه أم لا، والأول أولى لقوله:
(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) أي بأن ذهب مهاجراً من

بابل أو كوئي إلى الأرض المقدسة (وهبنا له إسحاق ويعقوب) أي جعلنا


هذين الموهوبين له أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم يأنس بهما. وهذا
يقتضي أنه عاش حتى رأى يعقوب وهو كذلك، كما مرت الإشارة إليه في
قوله: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وخصهما لأنه سيذكر إسماعيل بفضله منفرداً قال ابن عباس: وهبنا له إسحاق ابناً ويعقوب ابن ابنه (وكُلّا) مفعول لجعلنا قدم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم، أي كل واحد منهم (جعلنا نبياً) لا
167
بعضهم دون بعض.
168
(ووهبنا لهم من رحمتنا) أي للثلاثة بأن جعلناهم أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوة هي من باب الرحمة. وقيل المراد بالرحمة هنا المال وسعة الرزق، وقيل كثرة الأولاد، وقيل الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور. ومن للتبعيض.
(وجعلنا لهم لسان صدق علياً) أي الثناء الحسن قاله ابن عباس، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به، كما عبر باليد عن العطية، وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد، ففي اللسان مجاز مرسل من إطلاق اسم الآلة وإرادة ما ينشأ منها. والمعنى وجعلنا لهم ثناء صادقاً يذكرهم الأمم كلها إلى يوم القيامة، بما لهم من الخصال المرضية، ويصلون على إبراهيم وعلى آله إلى قيام الساعة، وهذا توبيخ لكفار مكة إذ كان مقتضى ترضيهم وثنائهم على المذكورين أن يتبعوهم في الدين مع أنهم لم يفعلوا.
ثم قفى الله سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلوه في الشرف، وقدمه على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب فقال:
(واذكر في الكتاب) أي واقرأ عليهم من القرآن قصة (موسى إنه كان مخلصاً) بفتح اللام أي جعلناه مختاراً وأخلصناه، وقرئ بكسرها أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد (و) أنه (كان رسولاً نبياً) أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبي بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم.
وقال النيسابوري: الرسول النبي الذي معه كتاب والنبي الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفواصل اقتضت عكس ذلك؛ كقوله في طه: (رب هارون وموسى). قال مجاهد: النبي هو الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل،
168
وفي لفظ الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد، والرسل الأنبياء الذي يوحى إليهم ويرسلون.
169
(وناديناه) أي كلمناه كما في سورة القصص في قوله: (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) (من جانب الطور الأيمن) أي من ناحيته اليمنى، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير.
ومعنى الأيمن أنه كان ذلك الجانب عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجهاً إلى مصر فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها، وليس المراد يمين الجبل نفسه، فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال، وقيل معنى الأيمن الميمون. ومعنى النداء أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب.
قال قتادة: جانب الجبل الأيمن. وهذا صريح في أن المراد بالطور هو الذي عند بيت المقدس، لا الطور الذي عند السويس، لأنه يكون على يسار المتوجه من مدين إلى مصر كما هو محسوس (وقربناه نجياً) أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه، والنبي بمعنى المناجي كالجليس والنديم؛ فالتقريب هنا هو تقريب التشريف والإكرام، مثلت حاله بحال من قربه الملك لمناجاته.
قال الزجاج: قرّبه منه في المنزلة حتى سمع مناجاته. وقيل: إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم، روي هذا عن بعض السلف، وبه قال أبو العالية، وروي نحوه عن جماعة من التابعين قال ابن عباس حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح المحفوظ وأخرجه الديلمي عنه مرفوعاً قال قتادة: في نجيا نجي بصدقه.
(ووهبنا له من رحمتنا) أي من نعمتنا، وفي (من) هذه وجهان.
أحدهما أنها تعليلية أي من أجل رحمتنا، والثاني أنها تبعيضية، أي بعض رحمتنا (أخاه هارون نبياً) وذلك حين سأل ربه وقال: واجعل لي وزيراً من أهلي. هارون أخي قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى، أي بأربع سنين، ولكن إنما وهب له نبوته.
169
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)
170
(واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) وصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كون جميع الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهوراً بذلك مبالغاً فيه، وناهيك أنه وعد الصبر من نفسه على الذبح، فوفى بذلك وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل: إنه انتظر لبعض من وعده حولاً؛ والمراد بإسماعيل هنا هو إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به، فقال هو إسماعيل بن حزقيل بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، وثوابه فاستعفاه ورضي بثوابه.
(وكان رسولاً نبياً) قد استدل بهذا إلى أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته، وقيل أنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم، وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا على هاجر أم إسماعيل بوادي مكة
(وكان يأمر أهله) المراد به هنا أمته وقيل جرهم وقيل عشيرته، كما في قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين).
والمراد (بالصلاة والزكاة) هنا هما العبادتان الشرعيتان، ويجوز أن يراد معناهما اللغوي (وكان عند ربه مرضياً) أي رضياً زاكياً صالحاً، والمعنى قائماً
170
لله بطاعته. وقيل رضيه لنبوته ورسالته، وهذا نهاية في المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات قال الفراء والكسائي: من قال مرضي بني على رضيت، قال وأهل الحجاز يقولون مرضوي.
171
(واذكر في الكتاب إدريس) هو ابن شيث بن آدم لصلبه، أفاده السيوطي في التحبير واسمه أخنوخ. قيل هو جد نوح، فإن نوحاً هو ابن لمك ابن متوشلخ ابن أخنوخ، وعلى هذا فيكون جد أبي نوح، ذكره الثعلبي وغيره، وقد قيل أن هذا خطأ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية.
وقولهم سمي به لكثرة دراسته الكتب لا يصح، لأنه لو كان إفعيلاً من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفاً، وهو أول مرسل بعد آدم عليه السلام وأول من أعطى النبوة من بني آدم وأول من خط بالقلم، ونظر في النجوم والحساب وأول من خاط الثياب وأول من اتخذ السلاح. وقاتل الكفار.
(إنه كان صديقاً نبياً) وذلك إن الله شرفه بالنبوة، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة. وقد اختلف في معنى قوله:
(ورفعناه مكاناً علياً) فقيل إن الله رفعه إلى السماء الرابعة. وقيل إلى السادسة وقيل إلى الثانية. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء، وفيه: " ومنهم إدريس في الثانية " (١) وهو غلط من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر، والصحيح: " أنه في السماء الرابعة " كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبي ﷺ (٢).
_________
(١) البخاري ١٦٨٤.
(٢) مسلم ١٦٢.
171
وقيل إن المراد برفعه ما أعطيه من شرف النبوة والزلفى عند الله، وقيل إنه رفع إلى الجنة. وقيل هو الرفعة بعلو المرتبة في الدنيا والأول أصح؛ عن ابن عباس قال: كان إدريس خياطاً، وكان لا يغرز غرزة إلا قال سبحان الله؛ وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملاً منه، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال يا رب ائذن لي فأهبط إلى إدريس، فأذن له، فأتى إدريس فقال: إني جئتك لأخدمك، قال كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان، ثم قال إدريس هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك: ذاك أخي من الملائكة، قال هل تستطيع أن تنفعني؟ قال أما نؤخر شيئاً أو نقدمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت، فقال اركب بين جناحي، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه، فقال له الملك: إن لي إليك حاجة قال علمت حاجتك، تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي ملك أخرجه ابن أبي حاتم، وعنه سألت كعباً فذكر نحوه فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب. وعنه قال رفع إدريس إلى السماء السادسة.
وأخرج الترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه قال: حدثنا أنس بن مالك عن النبي (- ﷺ -) قال: لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة (١). وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه، وعن مجاهد قال: رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت. وعن ابن مسعود قال: إدريس هو إلياس، وحسنه السيوطي
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ١٩ - الإمام أحمد ٣/ ٢٦٠.
172
(أولئك) خطاب لمحمد ﷺ والإشارة إلى الأنبياء المذكورين من أول السورة إلى هنا، وهم عشرة أولهم في الذكر زكريا وآخرهم فيه إدريس، وهو مبتدأ وقوله: (الذين أنعم الله عليهم) صفته و (من النبيين) بيان للموصول من بيان العام بالخاص
172
و (من ذرية آدم) بدل منه بإعادة الخافض، وقيل (من) فيه للتبعيض، يعني إدريس ونوحاً.
(وممن حملنا مع نوح) أي من ذرية من حملنا معه في السفينة، وهم من عدا إدريس، فإن إدريس من ذرية آدم لقربه منه، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ذرية سام بن نوح، فإن إبراهيم بن آزر وبينه وبين نوح عشرة قرون كما في التحبير.
(ومن ذرية إبراهيم) وهم الباقون (و) من ذرية (إسرائيل) وهو يعقوب؛ وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. وقيل إنه أراد بقوله من ذرية آدم إدريس وحده، وبقوله ممن حملنا مع نوح إبراهيم وحده، وبقوله ومن ذرية إبراهيم، إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وبقوله إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، قال السدي: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم، أما من ذرية آدم فإدريس ونوح وأما من ذرية من حمل مع نوح فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم فإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأما ذرية إسرائيل فموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، لأن مريم من ذريته.
(وممن هدينا) أي من جملة من هدينا إلى الإسلام (واجتبينا) بالإيمان وقيل على الأنام وهذا آخر الصفات، والتقدير والكائنين ممن هدينا الخ، واعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء، ثم جمعهم آخراً فقال أولئك الخ، فرتب تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبهاً بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم منزلة في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء، ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبهاً بذلك على أنهم خصوا بهذه المنازل لهداية الله لهم، ولأنه اختارهم للرسالة.
(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً) وهذا خير
173
لأولئك، ويجوز أن يكون الخبر هو الذين أنعم الله عليهم، وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه، والسجد والبُكِيّ جمع ساجد قياساً وباك على غير قياس، وقياسه بكاة، كقاض وقضاة، وقد تقدم في سبحان بيان معنى خروا سجداً، يقال بكى يبكي بكاء وبكياً؛ قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت، ومنه قول الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
قال الزجاج: قد بين الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا خضوعاً وخشوعاً وخوفاً وحذراً، والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم، وقيل المراد بها ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد؛ وفيه استحباب البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن.
قال صالح المري: قرأت القرآن على رسول الله ﷺ في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وفي الحديث: " اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " (١). وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه، وقد استدل بهذه على مشروعية سجود التلاوة، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه الآية، وقال بعضهم: إنه الصلاة.
وقال الرازي: يحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلوا ذلك لأجل ذكر السجود في الآية.
ولما مدح الله سبحانه هؤلاء الأنبياء بهذه الصفات ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم، ذكر أضدادهم تنفيراً للناس على طريقتهم فقال:
_________
(١) ابن ماجة كتاب الإقامة باب ١٧٦ - كتاب الزهد باب ٦٩.
174
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (٦٣) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
175
(فخلف) أي وجد وحدث (من بعدهم) أي من بعد النبيين المذكورين (خلف) أي عقب سوء. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير والصدق خلف بفتح اللام، ولعقب الشر والسوء خلف بسكون اللام، وقد قدمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف.
(أضاعوا الصلاة) أي أخروها عن وقتها، قاله الأكثر، وهو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى يأتي المغرب، وقيل أضاعوا الوقت، وقيل كفروا بها وجحدوا وجوبها، وقيل لم يأتوا بها على الوجه المشروع. وقيل تركوها كاليهود والنصارى، والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرة أو جحدها دخولاً أولياً.
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل في اليهود وقيل في النصارى وقيل في قوم من أمة محمد ﷺ يأتون في آخر الزمان. وقال بالأولين السدي. وقال بالثالث مجاهد، ولفظه هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس ولا يخافون من الله في السماء، وعن ابن مسعود قال: ليس إضاعتها تركها، قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه. ولكن إضاعتها إذا لم يصلها لوقتها.
175
(واتبعوا الشهوات) أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا (فسوف يلقون غياً) هو الشر عند أهل اللغة كما أن الخير هو الرشاد. والمعنى أنهم سيلقون شراً لا خيراً.
وقيل الغي الضلال. وقيل الخيبة وقيل الخسران وقيل الهلاك وقيل العذاب وقيل هو اسم واد في جهنم تستعيذ من حره أوديتها أعد للزناة وشربة الخمر وشهاد الزور وأكلة الربا والعاقين لوالديهم.
وقيل في الكلام حذف. والتقدير سيلقون جزاء الغي. قاله الزجاج. ومثله قوله سبحانه: يلق أثاماً. أي جزاء أثام.
أخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ وتلا هذه الآية قال: " يكون خلف من بعد ستين سنة؛ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غياً، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة؛ مؤمن ومنافق وفاجر " (١).
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ " سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن " قلت: يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال " قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا "، قلت: ما أهل اللبن؟ قال " قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات " (٢).
وعن عائشة أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول: لا تعطوا منها بربرياً، ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول:
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧٤.
(٢) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧٤.
176
" هم الخلف الذين قال الله فخلف من بعدهم خلف " (١)، أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه.
وعن ابن مسعود قال: الغي نهر أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات، وقد قال بأنه واد في جهنم، البراء بن عازب، وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم ينتهي إلى غي، وأثام "؛ قلت: وما غي؟ وأثام؟ قال " نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه فسوف يلقون غياً "، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً.
وأخرج ابن مردويه؛ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الغي واد في جهنم ".
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٢٤٤.
177
(إلا من تاب) مما فرط منه من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله (وآمن) به (وعمل) عملاً (صالحاً) الاستثناء منقطع قاله الزجاج وجرى أبو حيان وغيره على أنه متصل، وهو ظاهر الآية، لما روي عن قتادة أنها في حق هذه الأمة، ويجوز أن يحمل على التغليظ، كما قال تعالى: (من استطاع إليه سبيلاً) وبهذا التأويل يحسن قول قتادة. إن هذا الكلام نازل في شأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل في هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين.
(فأولئك يدخلون الجنة) بفتح الياء وضم الخاء، وقرئ بضم الياء
177
وفتح الخاء (ولا يظلمون شيئاً) أي لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان قليلاً، فإن الله سبحانه يوفي أجورهم إليهم
178
(جنات عدن) قرئ بالرفع على الابتداء وقرئ بالنصب على البدل من الجنة بدل البعض، لكون جنات عدن، بعضاً من الجنة، وعلى المدح أيضاً.
قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان جنة عدن، يعني بالإفراد مكان الجمع وليس هذا بشيء، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس، وقرئ بصرف عدن؛ ومنعها عن الصرف، على أنها علم بمعنى العدن؛ وهو الإقامة أي بساتين إقامة وصفها بالدوام بخلاف جنات الدنيا فإنها لا تدوم، أو علم لأرض الجنة لكونها مقام إقامة.
(التي وعد) ها (الرحمن عباده) متلبسة أو متلبسين (بالغيب) والمعنى أنهم لا يرونها فهي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها (إنه) أي الرحمن، وقيل إنه ضمير الشأن والأمر لأنه مقام تعظيم وتفخيم (كان وعده) أي موعوده على العموم فيدخل فيه الجنات دخولاً أولياً، وقيل الوعد مصدر على بابه (مأتياً) أي هم يأتونها، قال الفراء: لم يقل آتياً لأن كل ما أتاك فقد أتيته، وكذا قال الزجاج، وقال الزمخشري: كان وعده مفعولاً لا منجزاً.
(لا يسمعون فيها لغواً) هو الهذر، والفضول من الكلام الذي يلغي ولا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم، وقيل اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله (إلا سلاماً) هو استثناء منقطع أي سلام بعضهم على بعض أو سلام الله أو سلام الملائكة عليهم، وقال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه يتضمن السلامة، والمعنى أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم؛ وإنما يسمعون ما يسلمهم؛ وأبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه ذكرها سليمان الجمل.
178
(ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) قال المفسرون: ليس في الجنة بكرة ولا عشية ولا نهار ولا ليل بل ضوء ونور أبداً، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء في الدنيا، وبه قال ابن عباس وإنما يعرفون الليل بإرخاء الحجب، وغلق الأبواب، والنهار بفتحها ورفع الحجب، كما روي، والرزق في البكرة والعشي، أفضل العيش عند العرب، وقيل أراد دوام الرزق.
أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال " وما هيجك على هذا؟ " قال سمعت الله يذكر في الكتاب: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) فقلت الليل من البكرة والعشي، فقال رسول الله ﷺ " ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله بمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة ".
179
(تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً) أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها ونعطيها وننزل بها من كان من أهل التقوى، كما يتقي على الوارث مال مورثه، ولا يرد كالميراث الذي يأخذه الوارث فلا يرجع فيه المورث، أي نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم، قرئ نورث بفتح الواو وتشديد الراء من ورّث مضعفاً وبالتخفيف، وقرأ الأعمش نورثها بإبراز عائد الموصول.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير، أي نورث من كان تقياً من عبادنا والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التمليك، والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا تبطل بردّ ولا إسقاط، وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار، لو أطاعوا زيادة في كرامتهم.
179
والآية تدل على أن المتقي يدخلها، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها، وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر
180
(وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي قال الله سبحانه قل يا جبريل، وما نتنزل وقتاً غب وقت، إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وذلك أن رسول الله ﷺ استبطأ نزول جبريل عليه حين سألوه في أمر الروح، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل إلا بأمر الله، قيل احتبس جبريل عن رسول الله ﷺ أربعين يوماً، وقيل خمسة عشر، وقيل اثني عشر، وقيل ثلاثة أيام، وقيل إن هذا حكاية عن أهل الجنة، وإنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك، والأول أولى بدلالة ما قبله، ومعناه يحتمل وجهين:
الأول: وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل.
والثاني: وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك. والتنزل: النزول على مهل فإنه مطاوع نزل بالتشديد وقد يطلق على مطلق النزول كما يطلق نزل المشدد بمعنى أنزل.
وقد أخرج البخاري وغيره، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لجبريل " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ " (١) فنزلت هذه الآية إلى آخرها وكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي الباب روايات تدل على أنه السبب في النزول، ثم أكد جبريل ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال.
(له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) أي من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة، ومن مكان إلى مكان أو من زمان
_________
(١) البخاري كتاب التوحيد باب ٢٨ - الإمام أحمد ١/ ٢٣١.
180
إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته، وقيل المعنى له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة. قاله سعيد بن جبير.
وقيل ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا من أمور الدنيا وما بين ذلك أي ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة، وقيل هو ما بين النفختين قاله قتادة، وقبل الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها؛ والحالة التي نحن فيها وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى: أن الله سبحانه هو الحيط بكل شيء: لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه، وقال ما بين ذلك ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه عوان بين ذلك.
(وما كان ربك نسياً) ناسياً أي لم يَنْسَكَ ولم يتركك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئاً، وقيل المعنى وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله.
أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه والطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رفع الحديث، قال: " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا: (وما كان ربك نسياً) " (١) ومن حديث جابر عند ابن مردويه مثله.
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧٥.
181
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١)
182
(رب السماوات والأرض) أي خالقهما (و) خالق (ما بينهما) ومالكهما ومالك ما بينهما ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه. وكيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة؟ وفيه دليل على أن فعل العبد خلق الله لأنه حاصل بين السماوات والأرض، ثم أمر الله نبيه ﷺ بعبادته، والصبر عليها فقال:
(فاعبده واصطبر لعبادته) الفاء للسببية لأن كونه لا ينساك، وكونه رب العالمين، سبب موجب لأن يعبد، وعدى فعل الصبر باللام دون على التي يتعدى بها لتضمنه معنى الثبات (هل تعلم له سمياً؟) الاستفهام للإنكار، والمعنى أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له هذا مبني على أن المراد بالسَّمِيِّ، هو الشريك في المسمى.
وقيل المراد به الشريك في الاسم، كما هو الظاهر من لغة العرب فقيل المعنى أنه لم يسم شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط يعني بعد دخول الألف واللام التي عوضت عن الهمزة ولزمت أو برب السماوات والأرض. وإليه نحا
182
أبو السعود. والجملة تأكيد لما أفادته الفاء من علية ربوبيته العامة لوجوب تخصيص العبادة به تعالى.
قال الزجاج: تأويله والله أعلم هل تعلم له سمياً يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون؟ وعلى هذا لا سَمِيّ لله في جميع أسمائه لأن غيره وأن سمي بشيء من أسمائه فلله سبحانه حقيقة ذاك الوصف. والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله. وقال ابن عباس: هل تعلم؟ أي تعرف للرب شبهاً أو مثلاً، ليس أحد يسمي الرحمن غيره، وعنه قال: يا محمد هل تعلم لإلهك من ولد؟.
183
(ويقول الإنسان) المراد به ها هنا الكافر لأن الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث. قال ابن جريج: الإنسان هو العاص بن وائل. وقيل أبي بن خلف أو الوليد بن المغيرة والنازل فيه الآية، وهذا من قبيل العام الذي أريد به الخاص، وقيل اللام في الإنسان للجنس بأسره، وإن لم يقل هذه المقالة إلا بعضهم، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم، وعلى كل فلفظ الإنسان لا يشمل المؤمنين.
(أئذا ما مت) قرئ على الاستفهام وعلى الخبر (لسوف أخرج حياً) من القبر كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم؟ والاستفهام بمعنى النفي أي لا أحيى بعد الموت، و (حياً) حال مؤكدة لأن من لازم خروجه من القبر أن يكون حياً وهو كقوله: (ويوم أبعث حياً).
(أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه) الهمزة للإنكار التوبيخي والواو لعطف الجملة على أخرى مقدرة، أي أيقول ذلك ولا يذكر. وقرئ يذكر بالتخفيف وبالتشديد وأصله يتذكر، وفي قراءة أبي أو لا يتذكر، والمراد بالذكر هنا إعمال الفكر أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه فيستدل بالإبتداء على الإعادة؟. والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه
183
المخلوقات من العدم إلى الوجوب ابتداعاً واختراعاً لم يتقدم عليه ما يكون
كالمثال له، وأما النشأة الآخرة فقد تقدم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال
لها.
ومعنى (من قبل) من قبل بعثه، وقدره الزمخشري من قبل الحالة التي هو عليها الآن وهي حالة بقائه (ولم يك شيئاً) أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئاً من الأشياء أصلاً، فالإعادة بعد أن كان شيئاً موجوداً أسهل وأيسر وأهون. ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم تكن في حجج البعث حجة أقوى منها أكد بالقسم باسمه سبحانه. مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتعظيماً، أو لأن العادة جارية بتأكيد الخبر بالتمييز فقال:
184
(فوربك لنحشرنهم) أي لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا (والشياطين) والواو للعطف أو بمعنى مع. والمعنى أن هؤلاء الجاحدين للبعث يحشرهم الله مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم في سلسلة، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد وهو الإنسان الكافر، وأما على جعلها للجنس فلكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه.
(ثم لنحضرنهم حول جهنم) من خارجها قبل دخولها، وقيل في داخلها (جثياً) جمع جاث من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثواً أي جاثين على ركبهم لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، أو يكون الجثي على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه: وترى كل أمة جاثية.
وقيل المراد بقوله جثياً جماعات وأصله جمع جَثْوة، والجثوة هي المجموع من التراب والحجارة. قال ابن عباس: جثياً قعوداً.
(ثم لننزعن من كل شيعة) أي من كل أمة وفرقة وأهل دين وملة من الكفار. والشيعة الفرقة التي تبعث ديناً من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري
184
فقال هي الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة، قال الله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم (١) وكانوا شيعاً) (أيهم أشد (٢) على الرحمن عتياً) أي أعصى لله وأعتى وقال ابن عباس: عتياً معصية وعصياً، فإنه ينزع من كل طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم، والعتي هنا مصدر كالعتو وهو التمرد في العصيان، أي عصياناً وجرأة.
وقيل: المعنى لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر، قاله قتادة وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو عن كثير من أهل العصيان، ولو خص ذلك بالكفرة، فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ويطرحهم في النار على الترتيب، أو يدخل كُلاًّ طبقته التي تليق به، وللنحويين في إعراب أيهم كلام طويل وأقوال كثيرة أظهرها عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه أن أيهم موصولة بمعنى الذي وأن حركتها حركة بناء، وأشد خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأي، وأيهم وصلتها في محل نصب مفعولاً به لننزعن، وعتياً تمييز محول عن المبتدأ المحذوف الذي هو أشد. أي عتوة أشد من عتو غيره.
وعن ابن مسعود قال: يحشر الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر والأكابر جرماً، ثم قرأ: فوربك لنحشرنهم إلى قوله عتياً
_________
(١) هذا جزء من الآية رقم ١٥٩ من سورة الأنعام.
(٢) بقية آية مريم رقم ٦٩.
185
(ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً) بكسر الصاد وضمها سبعيتان. قال ابن جريج: يعني أيهم أحق وأولى بالخلود في جهنم، يقال صلى يصلي صلياً، مثل مضى الشيء يمضي مضياً.
قال الجوهري: يقال صليت الرجل ناراً إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته إلقاء كأنك تريد الإحراق، قلت أصليته بالنار بالألف، وصلَّيته تصلية، ومنه ويصلى سعيراً، ومن خفف فهو من قولهم: صلى فلان
185
للنار بالكسر يصلى صلياً احترق. قال الله تعالى: (بالذين هم أولى بها صلياً)، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين هم أشد على الرحمن عتياً، هم أولى بصليهما أو صليهم، أولى بالنار.
186
(وإن منكم إلا واردها) الخطاب للناس من غير التفات أو للإنسان المذكور فيكون التفاتاً، وقيل للكفار، وقرئ وإن منهم لمناسبة الآيات التي قبل هذه فإنها في الكفار، وهي قوله: فوربك لنحشرنهم، الآيات وكذلك قرأ عكرمة وجماعة، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم، والمعنى ما منكم من أحد مسلماً كان أو كافراً إلا واردها أي واصلها وداخلها، والضمير يرجع إلى النار؛ وقيل إلى يوم القيامة والأول أولى.
وقد اختلف الناس في هذا الورود، فقيل الورود الدخول لقوله: لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها، لكنه يختص بالكفار لقراءة وإن منهم، وتحمل القراءة المشهورة على الالتفات ويستثنى الأنبياء والمرسلون، وتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم.
وقالت فرقة: الورود هو المرور على الصراط، لأن الصراط ممدود عليها، فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار، وعلى هذا لا يستثنى الأنبياء والمرسلون، بل يمر عليه جميع الخلق. روي ذلك عن ابن عباس وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وسلم) والحسن. وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الحمى حظ كل مؤمن من النار " (١)، وفيه بعد. وقيل ليس الورود الدخول إنما هو كما تقول وردت البصرة ولم أدخلها، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى: (إن
_________
(١) وتتمته: " وحمى ليلة تكفر خطايا سنة مجرمة " ضعيف الجامع الصغير ٢٧٩٥ سلسلة الأحاديث الضعيفة ٣٥٣٢.
186
الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) قالوا فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها، وأجابوا عنه بأن معناه أنهم مبعدون عن العذاب فيها والاحتراق بها، فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعاً ولا ألماً فهو مبعد عنها.
وقالت فرقة: الورود هو الإشراف والاطلاع والقرب، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة كما سيأتي، ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين) فإن المراد أنه أشرف عليه لا أنه دخل فيه، ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة فينبغي حمل هذه الآية على ذلك لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعداً من عذابها، أو بحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها، وهو الصراط.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضنا يدخلونها جميعاً ثم ننجي الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له فقال -وأهوى بأصبعه إلى أذنيه- صممنا إن لم أكن سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها
187
(ثم ننجي الذين اتقوا) " الآية (١). وأسنده أبو عمرو في كتاب التمهيد. وعلى هذا فالورود الدخول؛ وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم.
_________
(١) المستدرك كتاب الأحوال ٤/ ٥٨٧.
187
وفي الحديث فتقول النار للمؤمنين: جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي وعن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال: الورود الدخول وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) وقال أورود أم لا؟ وقرأ (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار)، ورود أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وقرأ ابن مسعود " وإن منكم إلا داخلها " مكان " واردها " وعنه قال ورودها الصراط وقال رجل من الصحابة لآخر: أيقنت بالورود. قال نعم، قال وأيقنت بالصدور قال لا، قال ففيم الضحك وفيم التثاقل.
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب المجد في رحله، ثم كشد الرجل في مشية " (١) وقد روى نحوه عنه من طريق، وهو في مسند الدارمي أيضاً. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " (وإن منكم إلا واردها) يقول مجتاز فيها ".
وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت: قال رسول الله ﷺ " لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية ". قالت حفصة أليس الله يقول: (وإن منكم إلا واردها) قال " ألم تسمعيه يقول (ثم ننجي الذين اتقوا) ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال: قال رسول الله ﷺ " لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم؛ ثم قرأ سفيان (وإن منكم إلا واردها) " (٢).
_________
(١) المستدرك كتاب الأهوال ٤/ ٥٨٦.
(٢) مسلم ٢٦٣٢ - البخاري ٦٧١.
188
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والطبراني عن معاذ بن أنس عن رسول الله ﷺ قال: " من جهس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعاً لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول: (وإن منكم إلا واردها) " والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جداً.
وأما فائدة دخول المؤمنين النار، إذا لم يكن عذاب فَبوُجُوه. أحدها أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه؛ وثانيها أنَّ فيه مزيد همّ على أهل النار حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها، وثالثها أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب على الكفار صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة، ولا نقول صريحاً إن الأنبياء يدخلون النار أدباً معهم، ولكن نقول إن الخلق جميعاً يردونها كما دلت عليه أحاديث الباب، فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء يدخلونها لشفاعتهم، فبين الداخلين بَوْنٌ.
(كان على ربك حتماً مقضياً) أي كان ورودهم المذكور أمراً محتوماً لازماً قد قضى سبحانه أنه لا بد من وقوعه لا محالة بمقتضى حكمته لا بإيجاب غيره عليه قال مجاهد: مقضياً قضاء من الله. وقال عكرمة: قسماً واجباً. قالت الأشاعرة: إن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرق الخلف إليه. وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله، وأن صاحب الكبيرة مخلد، والفاسق مخلد في النار، بدليل أن الله بين أن الكل يردونها، ثم لين صفة من ينجو، وهم المتقون، والفاسق لا يكون متقياً فبقي في النار أبداً.
وأجيب عن ذلك بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك، فصاحب الكبيرة متق، فوجب أن يخرج من النار بعموم قوله: (ثم ننجي الذين اتقوا) فالآية التي توهموها دليلا لهم هي من أقوى الدلائل على فساد قولهم، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار وهي معروفة.
189
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
(ثم ننجي) أي نخرج (الذين اتقوا) ما يوجب النار وهو الكفر بالله ومعاصيه وترك ما شرعه؛ وما أوجب العمل به من النار فلا يخلدون بعد أن أدخلوها قرئ ننجي بالتخفيف من أنجى؛ وقرئ بالتشديد وهما سبعيتان (ونذر) أي نترك (الظالمين) الذين ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض (فيها) أي في النار (جثياً) على الركب جمع جاث، وقد تقدم قريباً. قال ابن عباس جثياً باقين فيها.
190
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) واضحات لا يلتبس معانيها. وقيل ظاهرات الإعجاز، وقيل إنها حجج وبراهين والأول أولى، وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلاَّ واضحة، والضمير في عليهم راجع إلى الكفار الذي سبق ذكرهم في قوله (أئذا ما مت لسوف أخرج حياً)، أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا وقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ولم يكن بالعكس: لأن الحكيم لا يليق به
190
أن يهين أولياءه ويعز أعداءه، وقيل: عليهم أي على المؤمنين والأول أظهر، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (قال الذين كفروا) للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم، وقيل المراد بهم هنا هم المتمردون المصرون منهم، والأغنياء المتجملون بالثياب وغيرها.
ومعنى (للذين آمنوا) قالوا لأجلهم، وقيل هي لام التبليغ كما في قوله: (وقال لهم نبيهم) أي خاطبوهم وشافهوهم بذلك، وبلغوا القول إليهم، يعني فقراء أصحاب رسول الله ﷺ وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وفي منزلهم ضيق، وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون أفخر ثيابهم.
(أي الفريقين) المراد بهما المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا فريقنا (خير مقاماً) أم فريقكم؟ وقرئ بضم الميم، وهو موضع الإقامة أو مصدر بمعناها، وبالفتح منزلاً ومسكناً فهو غير النادي إذ هو متحدث القوم، وقيل هو الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، والمعنى أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أعوانا وأنصاراً.
وعن مجاهد في الآية قال: قريش تقوله لها ولأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس: مقاماً المنازل (وأحسن ندياً) قال ابن عباس: ندياً المجالس. والنَّدِيُّ والنادي مجلس القوم ومتحدثهم ومجتمعهم. ومنه قوله تعالى: (وتأتون في ناديكم المنكر) وقوله: (فليدع ناديه) أي أهل ناديه. وناداه جالسه في النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم. وقيل هو مشتق من الندى وهو الكرم لأن الكرماء يجتمعون فيه.
191
(وكم) أي كثيراً (أهلكنا قبلهم من قرن) هي الجماعة والأمة الماضية وهو مفرد لفظاً متعدد معنى (هم أحسن أثاثاً) هو المال أجمع الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع.
وقيل هو متاع البيت خاصة، وقيل هو الجديد من الفرش، وقيل اللباس خاصة (رئياً) بمعنى المرئي، وهو كالذِّبحْ والطًحْن بمعنى المذبوح والمطحون قرئ بالهمزة، وقرئ بالياء المشددة من رأيت أي هم أحسن منظراً، وبه قال جمهور المفسرين: وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس وحسن الأبدان وتنعمها أو مجموع الأمرين.
ومعنى القراءة الأولى معنى الثانية، قال الجوهري: من همز جعله من المنظر من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، ومن لم يهمز إما أن يكون من تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم رياً أي امتلأت وحسنت، وقد ذكر الزجاج معنى هذا، وقرئ زياً وهو الهيئة والحسن والصورة، ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت والزي محاسن مجموعة.
(قل) أمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية والكفار القائلين للمؤمنين أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً بقوله: (من كان) مستقراً (في الضلالة) أي الكفر والجهل والغفلة عن عواقب الأمور، وهذا شرط وجوابه (فليمدد له الرحمن مدّا) في الدنيا يستدرجه، وهذا وإن كان على صيغة الأمر فالمراد به الخبر، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة، لينقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة (أو لم
192
نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) أو للاستدراج كقوله سبحانه: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية، وذكر لفظ الرحمن في هذه السورة في ستة عشر موضعاً، وقيل المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس.
قال الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فيها لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول أفعل ذلك وآمر به نفسي، وقال مجاهد: معناه فليدعه الله في طغيانه، وفي حرف أبي من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة وطغياناً واستدراجاً بأن يطيل عمره، ويكثر ماله ويمكنه من التصرف فيه.
(حتى) حرف ابتداء وليست جارة ولا عاطفة، قاله الكازروني والشهاب وفي زكريا أنها جارة أي فيستمرون في الطغيان إلى أن يشاهدوا الموعود (إذا رأوا) يعني الذين مد لهم في الضلالة (ما يوعدون) جاء بضمير الجماعة اعتباراً لمعنى (من) كما أن قوله: (من كان في الضلالة فليمدد له) اعتباراً بلفظها، وقيل هذه غاية للمد لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد والغاية في الحقيقة هي قوله: (فسيعلمون) الآن.
(إما العذاب وإما الساعة) هذا تفصيل لقوله: (ما يوعدون) أي هذا الذي يوعدون هو أحد الأمرين إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر كما وقع لهم يوم بدر وإما يوم القيامة وما يحل بهم حينئذ من العذاب الأخروي، فإما حرف تفصيل وهي مانعة خلو تجوز الجمع، والعذاب والساعة بدلان من ما.
(فسيعلمون) جواب إذا أي هؤلاء القائلون أي الفريقين خير مقاماً إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين أو الأخروي
193
(من هو شر مكاناً) من الفريقين (وأضعف جنداً) قابل به أحسن ندياً من حيث إن حسن النادي يكون باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم والمعنى فسيعلمون أهم خير؟ وهم وجندهم الشياطين في النار أم المؤمنون وهم في الجنة وعندهم ملائكة الرحمن؟ (ومن) على هذا استفهامية وهو أحد وجهين، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي، وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء بل لا جند لهم أصلاً، كما في قوله سبحانه: (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً) ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال:
194
(ويزيد الله الذين اهتدوا) بالإيمان (هدى) بما ينزل عليهم من الآيات، وذلك أن بعض الهدى يجر إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير، وقيل: المراد بالزيادة العبادة من المؤمنين، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين، وقيل الواو للعطف على جملة الشرط المحكية بالقول.
قال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم.
(والباقيات الصالحات) أي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية التي تبقى لصاحبها (خير عند ربك ثواباً) مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية التي افتخروا بها (وخير مرداً) هو هنا مصدر كالرد، والمعنى وخير رداً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها، والمراد المرجع والعاقبة أي ما يرد إليه ويرجع وهو الجنة وأفعل التفضيل للتهكم بهم على سبيل المشاكلة للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً، ثم أردف سبحانه مقالة هؤلاء المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال:
194
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥)
195
(أفرأيت الذي كفر بآياتنا) استفهام تعجيب أي أخبرني بقصة هذا الكافر يعني " عاص بن وائل " واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا: أرأيت بمعنى أخبر لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعم كل آية، ومن جملتها آية البعث والفاء للعطف على مقدر أي أنظرت فرأيت واللام في (وقال لأوتين) هي الموطئة للقسم كأنه قال: والله لأوتين في الآخرة (مالاً وولداً) وهذا من شدة تعنته بكفره أي انظر إلى حال هذا الكافر، وتعجب من كلامه وَتَأَلِّيه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما في الآية من حديث خباب بن الأَرَتّ قال: كنت رجلاً قيناً وكان لي علي العاص بن وائل (١) دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ﷺ فقلت والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثَمَّ مال وولد فأعطيك فأنزل الله فيه هذه الآية.
وقرئ وُلْداً بضم الواو وبفتحها قيل هما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال: عدم وعدم، وقيل بالضم للجمع وبالفتح للواحد، وقد ذهب
_________
(١) هو أبو سيدنا عمرو فهو جد عبد الله بن عمرو أحد العبادلة إهـ منه.
195
الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله: (لأوتين مالاً وولداً) أنه يؤتى ذلك في الدنيا، وقال جماعة في الجنة، قيل والمعنى أن أقمت على دين آبائي لأوتين، وقيل المعنى لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً، ثم أجاب الله سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله فقال:
196
(أطلع الغيب) بفتح الهمزة الاستفهامية وأطلع متعد بنفسه؛ كقوله: اطلع الجبل، قال المغرب: وليس متعدياً بعلى كما توهمه بعضهم، حتى يكون من الحذف والإيصال لكن في القاموس اطلع عليه فكأنه يتعدى ولا يتعدى، يقال اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه، والمعنى أعلِمَ ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة.
(أم اتخذ عند الرحمن عهداً) بذلك أي بأن يؤتى ما قاله فإنه لا يتوصل إلى هذا العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين؛ وقيل المعنى أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الله عهداً؟ وقيل المعنى أم قال لا إله إلا الله فأرحمه بها ويرجو بها؟ قاله ابن عباس، وقيل المعنى أم قدم عملاً صالحاً فهو يرجوه؟.
(كلا) حرف ردع وزجر أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد ولفظة: (كَلَّا) فيها للنحاة ستة مذاهب:
أحدها: وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن والأخفش وأبي العباس المبرد أنها حرف ردع وزجر وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن وما أحسن ما جاءت في هذه الآية زجرت وردعت ذلك القائل.
والثاني: وهو مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم فتكون جواباً ولا بد حينئذ من أن يتقدمها شيء لفظاً أو تقديراً وقد تستعمل في القسم.
والثالث: وهو مذهب الكسائي وأبى بكر بن الأنباري ونصر بن يوسف وابن واصل أنها بمعنى حقاً.
196
والرابع: وهو مذهب أبي عبد الله الباهلي أنها رد لما قبلها، وهذا قريب من معنى الردع.
الخامس: أنها صلة في الكلام بمعنى أي كذا، قيل وفيه نظر فإن أي حرف جواب، ولكنه مختص بالقسم.
السادس: أنها حرف استفتاح، وهو قول أبي حاتم، قال السمين: ولتقرير هذه المذاهب موضع هو أليق بها قد حققتها بحمد الله فيه. انتهى..
وذكرت
197
(كلا) في القرآن في النصف الثاني فقط، وذكرت في خمس عشرة سورة منه كلها مكية، وجملة ما ذكرت ثلاثة وثلاثون مرة، ترجع إلى أقسام ثلاثة، قسم يجوز الوقف عليها، وعلى ما قبلها فيبتدأ بها وهذا باتفاق.
وقسم اختلف فيه هل يجوز الوقف عليها أو يتعين على ما قبلها.
وقسم لا يجوز الوقف عليها باتفاق.
فالقسم الأول: خمسة مواضع اللتان في هذه السورة، واللتان في سورة الشعراء وواحدة في سورة سبأ.
والقسم الثاني: تسعة، واحدة في سورة المؤمنين واثنتان في سورة سأل سائل واثنتان في سورة المدثر. الأولى والثالثة والأولى في سورة القيامة؛ والثانية في سورة ويل للمطففين، والأولى في سورة الفجر والتي في سورة ويل لكل.
والقسم الثالث: هو التسع عشرة الباقية ذكره عز بن جماعة.
(سنكتب) أي سنحفظ عليه (ما يقول) فنجازيه به في الآخرة أو سنظهر له ما يقول ونعلمه أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته (ونمد له من العذاب مداً) أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطول له من العذاب ما يستحقه، وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء
(ونرثه ما يقول) أي نميته فنرثه المال والولد الذي
197
يقول إنه يؤتاه والمعنى مسمى ما يقول ومصداقه، قاله أبو السعود، وقيل المعنى نحرمه ما تمناه في الآخرة ونعطيه غيره من المسلمين قاله القرطبي.
(ويأتينا) يوم القيامة (فرداً) لا مال له ولا ولد ولا عشيرة، بل نسلبه ذلك فكيف يطمع في أن نعطيه، وقيل المراد بما يقول نفس القول لا مسماه والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حياً، فإذا أَمَتْنَاه حُلْنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضاً له، منفرداً عنه، والأول أولى.
198
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً) حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنوا ما لا يستحقون وَتَأَلَّوْا على الله سبحانه من اتخاذهم الآلهة من دون الله لأجل أن يتعززوا بذلك.
وقال أبو السعود: حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها. وقال الهروي: معناه ليكونوا لهم أعواناً. وقال الفراء؛ ليكونوا لهم شفعاء عند الله في الآخرة، وقيل معناه ليتعززوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها.
(كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً) أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا؛ والضمير في الفعل إما للآلهة، أي ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم ينطقها الله سبحانه لأنها عند أن عبدوها جمادات لا تعقل ذلك، وإما للمشركين، أي سيجحد المشركون أنهم عبدوا الأصنام. ويدل على الوجه الأول قوله تعالى: (ما كانوا إيانا يعبدون) وقوله: (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) ويدل على الوجه الثاني قوله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين).
قرئ كُلاًّ بضم الكاف والتنوين، وهي بمعنى جميعاً، وبالفتح مصدر أي كل هذا الرأي كلا والأصوب أنها حرف ردع وزجر والمعنى تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزاً لهم ضداً عليهم، أي ضداً للعز، وضد العز الذل، هذا على الوجه الأول. وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضداً وأعداء
198
يكفرون بها بعد أن كانوا يعبدونها ويحبونها ويؤمنون بها.
قال ابن عباس: عليهم ضداً أعواناً وحسرة، وإنما وحد الضد وإن كان خبراً عن جمع لأحد وجهين إما لأنه مصدر في الأصل، والمصادر موحدة مذكرة، وإما لأنه مفرد في معنى الجمع.
199
(ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) ذكر الزجاج في معنى هذا وجهين: أحدهما أن معناه خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) الوجه الثاني: أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم كما قال: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً) فمعنى الإرسال هنا التسليط، ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك).
ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية وهو قوله: (تؤزهم أزاً) فإن الأز والأزيز والهز والهزيز والاستفزاز أخوات معناها التحريك والتهييج وشدة الإزعاج فأخبر الله سبحانه أن الشياطين تحرك الكافرين وتهيجهم وتغريهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات وتحبيب الشهوات، وذلك هو التسليط لها عليهم.
وقيل معنى الأز الاستعجال وهو مقارب لما ذكرنا لأن الاستعجال تحريك وتهييج واستفزاز وإزعاج، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله ﷺ من حالهم وللتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، والجملة حالية من الشياطين، أو من الكافرين أو منهما أو مستأنفة، كأنه قيل ماذا تفعل الشياطين بهم؟.
قال ابن عباس: تؤزهم أزاً تغويهم إغواء، وتحرض المشركين على محمد وأصحابه وقال: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله، وفي الآية دليل على أن الله مدبر لجميع الكائنات
(فلا تعجل عليهم) بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب تصميمهم على الكفر وعنادهم للحق وتمردهم عن داعي الله سبحانه حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم وتطهر الأرض من فسادهم.
199
ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: (إنما نعد لهم عداً) يعني نعد الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم فلا نهمل ما بقع منهم بل نضبطه عليهم حتى نؤاخذهم به، وقيل نعد أنفاسهم وقيل خطواتهم وقيل لحظاتهم وقيل الساعات.
وقال قطرب: نعد أعمالهم، وقيل المعنى لا تعجل عليهم إنما نؤخرهم ليزدادوا إثماً. قال الشهاب: أن العد كناية عن القلة، ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند العد. ثم لما قرر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذ فقال:
200
(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) أي اذكر يا محمد ﷺ يوم إلخ. ومعنى الحشر إلى الرحمن حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله: إني ذاهب إلى ربي، والوفد جمع وافد كالركب جمع راكب والصحب جمع صاحب يقال وفد يفد وفداً إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير. كذا قال الجوهري. وعن ابن عباس قال: وفداً ركباناً.
وعن أبي هريرة قال: على الإبل. وعن علي قال: على نوق. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق، راغبين وراهبين، اثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا " والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً (١).
وقيل يركبون من أول خروجهم من القبور. وهو ظاهر الآية. وقيل من منصرفهم من الموقف، وعلى كلا القولين فيستمرون راكبين، حتى يقرعون باب الجنة.
_________
(١) مسلم ٢٨٦١ - البخاري ٢٤٥٠.
200
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢)
201
(ونسوق المجرمين) أي الكافرين بكفرهم كما تساق البهائم (إلى جهنم ورداً) مشاة عطاشاً، والسوق الحث على السير، والورد العطاش، قاله الأخفش وغيره وبه قال ابن عباس وأبو هريرة. وقال الفراء وابن الأعرابي: هم المشاة. وقال الأزهري: هم المشاة العطاش كالإبل ترد الماء. وقيل ورداً أي للورد، كقولك جئتك إكراماً أي للإكرام. وقيل أفراداً. قيل ولا تناقض بين هذه الأقوال فهم يساقون مشاة عطاشاً أفراداً. وأصل الورد الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك، والورد الماء الذي يورد، وقيل يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نَعَمٌ عطاش تساق إلى الماء.
(لا يملكون الشفاعة) جملة مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور؛ والضمير راجع إلى الفريقين. وقيل للمتقين خاصة وقيل للمجرمين خاصة والأول أولى، والمعنى أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم. وقيل لا يملك غيرهم أن يشفع لهم. والأول أولى.
(إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً) هذا الاستثناء متصل على الوجه الأول، أي لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من تحلى واستأهل واستعد لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم، بأن يكون مؤمناً متقياً، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله.
وقيل معناه أن الله أمره بذلك، كقولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا
201
أمره به وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله ويبرأ من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله. وعنه قال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " وقيل غير ذلك.
وأما على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع لأن التقدير لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهم المسلمون والأول أوجه، وبه جزم البيضاوي كالكشاف. وقيل متصل على هذا الوجه أيضاً، والتقدير لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلماً، ودلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرني، ومن سرني فقد اتخذ عند الرحمن عهداً فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد ".
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال، قال رسول الله (- ﷺ -) " من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئاً، جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منها شيئاً فليس له عند الله عهد إن شاء رحمه وإن شاء عذبه ".
202
(وقالوا اتخذ الرحمن ولداً) قرئ بفتح الواو وضمها كما تقدم، والجملة مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى. ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله
(لقد جئتم شيئاً إدًّا) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفيه رد لهذه المقالة الشنعاء، والإد كما قال الجوهري: الداهية والأمر الفظيع، وكذلك الإدة، وجمع الإِدةَّ إدَد؛ يقال أدت فلاناً الداهية تَؤُدُّه بالضم وتئده بالكسرِ وَتأده بالفتح إذا دهته وقرئ بالفتح، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرئ آداً مثل ماداً، وهي مأخوذة من الثقل، يقال آده الحمل يؤوده إذا أثقله.
202
قال الواحدي: إدّاً أي عظيماً في قول الجميع، وبه قال ابن عباس. والمعنى قلتم قولاً منكراً عظيماً، وقيل الِأدُّ العجب والِأدَّة الشدة والمعنى متقارب. والتركيب يدور على الشدة والثقل.
203
(تكاد السماوات يتفطرن منه) قرئ بالتحتية وبالفوقية، وقرئ يتفطرون من الانفطار، واختاره أبو عبيد لقوله: (إذا السماء انفطرت) وقوله: (السماء منفطر به) وقرأ ابن مسعود يتصدعن؛ والانفطار والتفطر التشقق.
(وتنشق الأرض) كرر الفعل للتأكيد لأن يتفطرن وتنشق معناهما واحد أي تخسف بهم.
(وتخر) أي تسقط وتنهدم (الجبال هداً) قال ابن عباس: هداً هدماً. لأن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين. وانتصاب (هداً) على أنه مصدر مؤكد لأن الخُرُور في معناه، أو هو مصدر لفعل مقدر، أي وَتنهدّ هداً أو على الحال أي مهدودة أو على أنه مفعول له أي لأنها تنهد.
قال الهروي: هدني الأمر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني، قال الجوهري: هد البناء يهده هداً كسره وضعضعه؛ وَهَدَّته المصيبة أوهنت ركنه، وانْهَدَّ الجبل أي انكسر، والْهَدُ صوت وَقْعِ الحائط كما قال ابن الأعرابي.
(أن) أي لأن (دعوا) أو من أجل أن جعلوا (للرحمن ولداً) وقال الكسائي: هو بتقدير الخافض، وقيل في محل رفع على أنه فاعل هداً، أي هدها دعاء الولد، والدعاء بمعنى التسمية، أي سموا للرحمن ولداً، أو بمعنى النسبة، أي نسبوا له ولداً
(و) الحال أنه (ما ينبغي) أو لا يصلح (للرحمن) ولا يليق به (أن يتخذ ولداً) لاستحالة ذلك عليه لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث.
203
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨)
204
(إن كل من في السماوات والأرض) أي ما كل من فيهما (إلا) وهو (آتي الرحمن) وَجَّد آتي وآتيه الأتي حملاً على لفظ (كل) وهو اسم فاعل مَن أتى وهو مستقبل، أي يأتيه يوم القيامة (عبداً) مقراً بالعبودية خاضعاً ذليلاً منهم عزير وعيسى، كما قال (وكل أتوه داخرين) أي صاغرين، والمعنى أن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولداً له؟ وقرئ آت على الأصل
(لقد أحصاهم) أي حصرهم بعلمه، وَعَلِمَ عَدَدَهم وأحاط بهم (وعدهم عداً) أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأيامهم وآثارهم بعد أن حضرهم، فلا يخفى عليه أحد منهم ولا شيء من أمورهم.
(وكلهم) أي كل واحد منهم تحت قهره وقدرته وتدبيره (آتيه يوم القيامة فرداً) أي وحيداً ولا ناصراً له ولا مال معه، كما قال سبحانه (يوم لا ينفع مال ولا بنون). ثم ذكر الله سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين فقال:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً) الجمهور من السبعة وغيرهم على ضم الواو، وقرئ بكسرها وفتحها، أي حباً في قلوب عباده يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك، كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، وهذا الجعل في الدنيا، والسين للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية، لأن المؤمنين كانوا
204
بمكة حال نزول هذه الآية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم الله تعالى بذلك إذا ظهر الإسلام فألف الله تعالى بين قلوب المؤمنين، ووضع فيها المحبة، أو في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل.
وعن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب، والمعنى محبة في قلوب المؤمنين. وعن البراء قال: قال رسول الله ﷺ لعليّ: " قل اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي عندك وداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة " فأنزل الله الآية في عليّ. أخرجه ابن مردويه والديلمي.
وعن ابن عباس قال: محبة في الناس في الدنيا، وعن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية ما هو؟ قال: " المحبة الصادقة في صدور المؤمنين ".
وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " إذا أحب الله عبداً نادى جبريل أني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادى في السماء، ثم ينزل المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً) وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل أني قد أبغضت فلاناً، فينادي في أهل السماء ثم ينزل البغضاء في الأرض " والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة (١).
ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن، خصوصاً هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوة وبيان حال المعاندين فقال:
_________
(١) مسلم ٢٦٣٧ - البخاري ١٥١٥.
205
(فإنما يسرناه) أي القرآن بإنزالنا له (بلسانك) أي على لغتك
205
العربية؛ وفصلناه وسهلناه والباء بمعنى على والفاء لتعليل كلام يساق فإليه النظم الكريم كأنه قيل بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر به فإنما يسرناه، الآية، ثم علل ما ذكره من التيسير فقال: (لتبشر به المتقين) أي المتلبسين بالتقوى المتصفين بها (وتنذر به قوماً لدّاً) ولو أنزلناه بغيرها لم يتيسر التبشير ولا الإنذار لعدم فهم المخاطبين لغير العربية، واللُّدّ جمع الألد وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى (ألد الخصام) وقال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق، ويدعي الباطل، وقيل اللُّدُّ الصُّمُّ وقيل الظَّلَمَة، وقال ابن عباس: لُدَّاً فجاراً، وعن الحسن قال: صماً يعني عن الحق.
206
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن) أي أمة وجماعة من الناس؛ وفي هذا وعد لرسول الله (- ﷺ -) بهلاك الكافرين ووعيد لهم وتخويف وإنذار.
(هل تحس منهم من أحد) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي هل تشعر بأحد من القرون أو تراه أو تجد أو تعلم، والإحساس الإدراك بالحاسة والحواس خمس والحس والحسيس الصوت الخفي (أو تسمع لهم ركزاً) الركز: الخفاء والصوت الخفي ومنه ركز الرمح، إذا غيب طرفه في الأرض وقال اليزيدي وأبو عبيدة: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة، وقال سعيد ابن جبير: هل ترى منهم من أحد ركزاً صوتاً، وبه قال ابن عباس.
والمعنى لما أتاهم عذابنا لم يبق شخص يُرى ولا صوت يسمع، يعني هلكوا كلهم، قال الحسن: بادواء جميعاً فلم يبق منهم عين ولا أثر، يعني هكذا هؤلاء إن أعرضوا عن تدبر ما أنزل عليك فعاقبتهم الهلاك، فَلْيَهُنْ عليك أمرهم، والله أعلم بالصواب.
206

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة طه
(آياتها مائة وخمس وثلاثون آية أو أربعون واثنتان)
قال القرطبي: مكية في قول الجميع، وبه قال ابن عباس وابن الزبير. وقال السيوطي في الاتقان: استثني منها (فاصبر على ما يقولون).
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: " كل القرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرأون منه شيئا إلا سورة طه ويس فإنهم يقرأون بهما في الجنة " وعن أنس بن مالك فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب. وقراءتهما طه وكان ذلك سبب إسلام عمر والقصة مشهورة في كتب السير.
207

بسم الله الرحمن الرحيم

طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠)
209
Icon