تفسير سورة المؤمنون

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المؤمنون
سمّيت بهم لاشتمالها على جلائل أوصافهم ونتائجها، وفي أولها وفي قوله [ المؤمنون ٥٧ ] ﴿ إن الذين هم من خشية ربّهم مُشفقون ﴾ إلى قوله ﴿ سابقون ﴾ أفاده المهايمي. وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية [ المؤمنون ٦٤ ] ﴿ حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب ﴾ إلى قوله ﴿ مبلسون ﴾ وآيها مائة وثماني عشرة. وقد روى الإمام أحمد ومسلم [ أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٤١١ من الجزء الثالث ( طبعة الحلبي ). وأخرجه البخاري تعليقا في ١٠- كتاب الأذان، ١٠٦- باب الجمع بين السورتين في الركعة وأخرجه مسلم في : ٤ كتاب الصلاة، حديث رقم ١٦٣ ( طبعتنا ) ] وغيرهما عن عبد الله بن السائب قال :«صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة الصبح. فاستفتح سورة المؤمنين. حتى إذا جاء ذكر موسى وهرون، أو ذكر عيسى، أخذته سعلة فركع ».

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي دخلوا في الفوز الأعظم الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي متذللون مع خوف وسكون للجوارح، لاستيلاء الخشية والهيبة على قلوبهم وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. أي عن الفضول وما لا يعني من الأقوال والأفعال، معرضون في عامة أوقاتهم، لاستغراقهم بالجد وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي للتجرد عن رذيلة البخل.
قيل: السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة؟ وجوابه: إن الذي فرض بالمدينة إنما هو النصب والمقادير الخاصة. وإلا فأصل التفضل بالعفو مشروع في أوائل البعثة، فلا حاجة إلى دعوى إرادة زكاة النفوس من الشرك والعصيان، لعدم التبادر إليه وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ لأنه الحق المأذون فيه فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي الكاملون في العدوان المرتكبونه على أنفسهم.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على تعليق فلاح العبد على حفظ فرجه، وأنه لا سبيل له إلى الفلاح بدونه، وتضمنت هذه الآية ثلاثة أمور: من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين. وأنه من الملومين. ومن العادين. ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم. فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها، أيسر من بعض ذلك. وقد أمر الله تعالى نبيا أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم. وأن يعلمهم أنه مشاهد
281
لأعمالهم، مطلع عليها، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر، جعل الأمر بغضّه مقدما على حفظ الفرج. فإن الحوادث مبدؤها من النظر. كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر. ثم تكون نظرة، ثم تكون خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة. ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه:
اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات. فينبغي للعبد أن يكون بوّاب نفسه على هذه الأبواب الأربعة. ويلازم الرباط على ثغورها. فمنها يدخل عليه العدوّ، فيجوس خلال الديار ويتبروا ما علوا تبيرا.
الثاني- روي عن الإمام أحمد أنه قال: لا أعلم بعد القتل ذنبا أعظم من الزنى.
واحتج
بحديث عبد الله «١» بن مسعود أنه قال: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال:
أن تجعل لله ندّا وهو خلقك قال قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك
. والنبيّ ﷺ ذكر من كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السائل. فإنه سئل عن أعظم الذنب فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعه وما هو أعظم كل نوع، فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندّا.
وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه. وأعظم أنواع الزنى أن يزني بحليلة جاره. فإن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق. فالزنى بالمرأة التي لها زوج، أعظم إثما وعقوبة من الزنى بالتي لا زوج لها إذا فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه، لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه. فهو أعظم إثما وجرما من الزنى بغير ذات الزوج فإذا كان زوجها جارا له، انضاف إلى ذلك سوء الجوار، وأذى جاره بأعلى أنواع الأذى. وذلك من أعظم البوائق.
وقد ثبت عن النبيّ «٢» ﷺ أنه قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأته
. فالزنى بمائة امرأة لا زوج لها أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار. فإن كان الجار أخا له، أو قريبا من أقاربه، انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم. فإن كان الجار غائبا في طاعة الله، كالصلاة وطلب العلم والجهاد، تضاعف الإثم. فإن اتفق أن تكون المرأة رحما منه، انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها.
(١) أخرجه البخاري في: تفسير القرآن، ٢- سورة البقرة، ٣- باب قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، حديث ١٩٦٢.
(٢) أخرجه البخاري في: الأدب، ٣٩- باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث قم ٢٣٢٦، عن أبي شريح. [.....]
282
فإن اتفق أن يكون الزاني محصنا، كان الإثم أعظم. فإن كان شيخا كان أعظم إثما وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام أو بلد حرام أو وقت معظم عند الله، كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة، تضاعف الإثم.
وعلى هذا، فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة والله المستعان.
الثالث- أجمع المسلمون على أن حكم التلوّط مع المملوك كحكمه مع غيره، ومن ظن أن تلوط الإنسان مع مملوكه جائز، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى:
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ وقاس ذلك على أمته المملوكة، فهو كافر يستتاب كما يستتاب المرتد. فإن تاب وإلا قتل وضربت عنقه.
وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره. في الإثم والحكم. أفاد هذا وما قبله بتمامه الإمام ابن القيم في (الجواب الكافي). وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨ الى ١١]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي قائمون عليها بحفظها وإصلاحها.
والآية تحتمل العموم في كل ما اؤتمنوا عليه وعوهدوا، من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم. ولذا عدت الخيانة في الأمانة من آيات النفاق في الحديث المشهور «١» وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يحافظون عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها ويؤدّوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها. وليس هذا تكريرا لما وصفهم به أولا. فإن الخشوع في الصلاة، غير المحافظة عليها. وتقديم الخشوع اهتماما به. حتى كأن الصلاة، لا يعتد بها بدونه، أو لعموم هذا له. وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة، تعظيم لشأنها أُولئِكَ أي الجامعون لهذه الأوصاف هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ أي الجنة هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها أبدا.
(١) أخرجه البخاري في: الإيمان، ٢٤- باب علامة المنافق، حديث رقم ٣١، عن أبي هريرة.
ثم أشار تعالى إلى مبدأ خلقه الإنسان وتقليبه في أطوار شتى، حتى نما كاملا، وإلى ما خلقه من عالم السماء والأرض، وسخره لمنافعه، ليشكر مولاه ويعبده، كما أمره وهداه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي ابتدأنا خلقه مِنْ سُلالَةٍ أي خلاصة مِنْ طِينٍ أي تراب خلط بماء فصار نباتا فأكله إنسان فصار دما ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً أي بأن خلقناه منها، أو ثم جعلنا السلالة نطفة بالتصفية فِي قَرارٍ أي مستقر، وهو رحم المرأة الذي نقل إليه مَكِينٍ أي متمكن لا يمجّ ما فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٤]
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي بالاستحالة من بياض إلى حمرة كالدم الجامد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن، على هيئات وأوضاع مخصوصة، تقتضيها الحكمة فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أي جعلناه محيطا بها ساترا لها كاللباس ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي بتمييز أعضائه وتصويره، وجعله في أحسن تقويم فَتَبارَكَ اللَّهُ أي تعاظم قدرة وحكمة وتصرفا أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المقدّرين. ف (الخلق) بمعنى التقدير كقوله:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
لا بمعنى الإيجاد. إذ لا خالق غيره، إلا أن يكون على الفرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٥ الى ١٧]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة وتحصيل هذه الكمالات لَمَيِّتُونَ أي لصائرون إلى الموت.
قال المهايميّ: والحكيم لا يتلف ما استكمله بأنواع التكميل، ولذلك سيبعثه كما قال ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي من قبوركم للحساب والمجازاة وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات هي طرق للملائكة والكواكب فيها مسيرها.
قال بعض علماء الفلك (في تفسير هذه الآية) : أي سبعة أفلاك، للسبع سموات، لكل سماء طريق تجري بما معها من الأقمار. قال: فبذلك دلنا الله سبحانه بأن العالم الشمسيّ ينقسم إلى سبع طرائق، خلاف طريق الأرض الذي يعيّنه قوله تعالى فَوْقَكُمْ فالمسافة ابتداء من منتصف البعد بين الشمس وعطارد تقريبا، إلى منتهى فلك نبتون، تنقسم إلى سبعة أقسام بحسب بعد كل سيار. كل قسم تجري فيه سماء بما معها. ويسمى هذا الطريق فلكا. وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ أي عن ذلك المخلوق، الذي هو السموات، أو جميع المخلوقات. فالتعريف على الأول، عهديّ. وعلى الثاني استغراقيّ. أي ما كنا مهملين أمر الخلق، بل نحفظه وندبر أمره حتى يبلغ منتهى ما قدر له من الكمال، حسبما اقتضته الحكمة، وتعلقت به المشيئة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٨]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨)
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بتقدير يصلون معه إلى منفعتهم. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه قارّا فيها، يتفجر من الأماكن التي أراد سبحانه إحياءها كقوله فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٢١]، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي إزالته بالتغوير وبغيره، كما قدرنا على إنزاله. ففي تنكير (ذهاب) إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإبعاد به.
قال الزمخشري: فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء، ويقيّدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها، إذا لم تشكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ
كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً
بالنصب عطف على (جنات) وقرئت مرفوعة على الابتداء. أي ومما أنشئ لكم شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل بفلسطين، أو بين مصر وأيلة (بفتح الهمزة) محل معروف يسمى اليوم (العقبة) وهو على مراحل من مصر. قاله الشهاب و (الشجرة) شجرة الزيتون، نسبت إلى الطور لأنه مبدؤها. أو لكثرتها فيه تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي ملتبسة بالدهن المستصبح به وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي وبإدام يغمس فيه الخبز ف (الصبغ) كالصباغ ما يصطبغ به من الإدام. ويختص بكل إدام مائع، يقال (صبغ اللقمة: دهنها وغمسها) وكل ما غمس فقد صبغ. كذا في (المصباح) و (التاج).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي تعتبرون بحالها وتستدلون بها نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي من الألبان وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ أي في ظهورها وأصوافها وشعورها ونتاجها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي بخلقه وتسخيره وإلهامه. فله الحمد.
قال الزمخشري: والقصد بالأنعام أي الإبل، لأنها هي المحمول عليها في العادة. وقرنها بالفلك التي هي السفائن، لأنها سفائن البر.
قال ذو الرمة:
سفينة برّ تحت خدّي زمامها قال الشهاب: وجعل الإبل سفائن البر معروف مشهور. وهي استعارة لطيفة وقد تصرفوا فيها تصرفات بديعة. كقول بعض المتأخرين:
لمن شحر قد أثقلتها ثمارها سفائن برّ والسّراب بحارها
ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، تأثره بقصص بعثة الرسل لعلوّ كلمته، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا أي الداعي إلى عبادة الله وحده. بدعوى الرسالة منه إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يونس: ٧٨]، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي إرسال رسول لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي من السماء ما سَمِعْنا بِهذا أي بمثل ما يدعو إليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي لعله يرجع أو يفيق من جنته أو يتمادى فنكيد له. قال الرازيّ: واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عن شبههم هذه الخمسة، لركاكتها ووضوح فسادها. وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولا إلا لأنه من جنس الملك. وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات. فسواء كان من جنس الملك أو جنس البشر، فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا. بل جعل الرسول من جملة البشر أولى. لما مرّ بيانه في السور المتقدمة. وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله، حتى يلزمهم الانقياد لطاعته، فهذا واجب على الرسول. وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد، فالأنبياء منزّهون عن ذلك. وأما قولهم ما سَمِعْنا بِهذا فهو استدلال بعدم التقليد، على عدم وجود الشيء. وهو في غاية السقوط. لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء. فعدمه من أن يدل على عدمه؟ وأما قولهم بِهِ جِنَّةٌ فقد كذبوا. لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم فَتَرَبَّصُوا بِهِ فضعيف. لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوّته وهي المعجزة، وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته. لأن الدولة لا تدل على الحقيقة. وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر. ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور، لا جرم تركها الله سبحانه، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
قالَ أي بعد ما أيس من إيمانهم رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أي ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا، لا تلحقها آفة ولا يعترضها نقص.
عبر بكثرة آلة الحس التي بها يحفظ الشيء، ويراعى من الاختلال والزيغ، عن المبالغة في الحفظ والرعاية، على طريق التمثيل، وقيل: المعنى بمرأى منا ومشهد في حفظنا وكلاءتنا. بناء على أن المراد بالعين البصر، وأنه يسمى البصر عينا لأجل أنه مما يتعلق به ويقوم به. من باب تسمية الشيء باسم محله. وباسم ما هو قائم به.
قال الإمام ابن فورك في (متشابه الحديث) - بعد حكاية نحو ما تقدم-: وقد اختلف أصحابنا فيما يثبت لله عزّ وجلّ من الوصف له بالعين. فمنهم من قال: إن المراد به البصر والرؤية. ومنهم من قال: إن طريق إثباتها صفة لله تعالى بالسمع.
وسبيل القول فيها كسبيل القول في اليد والوجه. انتهى.
ومذهب السلف أن الصفات يحتذي فيها حذو الذات، فكما أنها منزهة عن التشبيه والتمثيل والتكييف، فكذلك الصفات إثباتها منزه عن ذلك وعن التحريف والتأويل. وقوله تعالى وَوَحْيِنا أي أمرنا وتعليمنا كيف تصنع فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ كناية عن الشدة. كقولهم (حمي الوطيس). و (التنور) كانون الخبز حقيقة. وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء، للآية مجازا فَاسْلُكْ فِيها أي فأدخل في الفلك مِنْ كُلٍّ أي من كل أمة زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي في الدعاء لهم بالنجاة، عند مشاهدة هلاكهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي في بحر الهلاك، كما غرقوا في بحر الضلال وظلمهم أنفسهم، بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي أي في السفينة أو منها مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي لمن أنزلته منزل قربك إِنَّ
فِي ذلِكَ
أي فيما فعل بنوح وقومه لَآياتٍ أي يستدل بها ويعتبر أولو الأبصار وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد. أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويدّكر. كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: ١٥]، و (إن) مخففة على الأصح- وقيل نافية. واللام بمعنى (إلا) والجملة حالية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٣١]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١)
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ هم عاد أو ثمود. قال الشهاب: ليس في الآية تعيين لهؤلاء. لكن الأول مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأيده في (الكشف) بمجيء قصتهم بعد قصة نوح في سورة الأعراف وهود وغيرهما. وعليه أكثر المفسرين. ومن ذهب إلى أنهم ثمود قوم صالح عليه السلام، استدل بذكر الصيحة لأنهم المهلكون بها. كما صرح به في هذه السورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣٢ الى ٤١]
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦)
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ أي نعّمناهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي لعزة أنفسكم، بالتذلل لمثلكم أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ
تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ
أي من الأجداث أحياء كما كنتم هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ تكرير لتأكيد البعد. أي بعد الوقوع أو الصحة لما توعدون من البعث إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعض ويولد بعض. لينقرض قرن ويأتي قرن آخر. ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي العقوبة الهائلة، أو صيحة ملك بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي كغثاء السيل فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكا لهم. إخبار أو دعاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥)
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي وقتها الذي عين لهلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أي متواترين، واحدا بعد واحد كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي في الإهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. يعني أنهم فنوا ولم يبق إلا خبرهم، إن خيرا وإن شرّا.
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة ملزمة للخصم. والمراد به الآيات نفسها. عبر عنها بذلك على طريقة العطف، تنبيها على جمعها لعنوانين جليلين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا أي عن الانقياد وإرسال بني إسرائيل مع موسى لأرض كنعان، وتحريرهم من تلك العبودية لهم وَكانُوا قَوْماً عالِينَ أي متمردين
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ أي المغرقين في البحر.
فائدة:
قال الزمخشريّ البشر يكون واحدا وجمعا بَشَراً سَوِيًّا
[مريم: ١٧]، لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون: ٤٧]، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ [مريم: ٢٦]، و (مثل) و (غير) يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:
١٤٠]، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: ١٢]، ويقال أيضا: هما مثلاه وهم أمثاله إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الأعراف: ١٩٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة لَعَلَّهُمْ أي قومه يَهْتَدُونَ أي إلى طريق الحق، بما فيها من الشرائع والأحكام وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أي دلالة على قدرتنا الباهرة. لأنها ولدته من دون مسيس. فالآية أمر واحد نسب إليهما. أو المعنى: وجعلنا ابن مريم آية بما ظهر منه من الخوارق، وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها وَآوَيْناهُما أي جعلنا مأواهما أي منزلهما إِلى رَبْوَةٍ أي أرض مرتفعة، ذاتِ قَرارٍ أي مستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة: ذات ثمار وماء. يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها وَمَعِينٍ أي وماء معين ظاهر جار. من (معن الماء إذا جرى) أو مدرك بالعين (من عانه) إذا أدركه بعينه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥١]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ نداء وخطاب لجميع الأنبياء باعتبار زمان كلّ وعهده. فدخل فيه عيسى دخولا أوليّا. أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة. وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم. واحتجاجا على الرهابنة في رفض الطيبات. وقوله
وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا. فإنه الذي به سعادة الدارين. وقوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي ذو علم لا يخفى عليّ منها شيء. فأنا مجازيكم بجميعها، وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٢]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أُمَّةً واحِدَةً أي ملة واحدة، وهي شريعة الإسلام. إسلام الوجه لله تعالى بعبادته وحده.
كقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩]، (فالأمة) هنا بمعنى الملة والدين وَأَنَا رَبُّكُمْ أي من غير شريك فَاتَّقُونِ أي فخافوا عقابي، في مفارقة الدين والجماعة. قيل: إنه اختير على قوله: (فاعبدون) الواقع في سورة الأنبياء، لأنه أبلغ في التخويف، لذكره بعد إهلاك الأمم، بخلاف ما ثمة وهذا بناء على أنه تذييل للقصص السابقة، أو لقصة عيسى عليه الصلاة والسلام، لا ابتداء كلام. فإنه حينئذ لا يفيده. إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة. كذا في (العناية).
ثم قص ما وقع من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً أي جعلوا دينهم بينهم قطعا وفرقا منوعة كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئن النفس، معتقد أنه على الحق فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ أي في جهالتهم، ومشيهم مع هواهم، ونبذهم كتاب الله حَتَّى حِينٍ أي إلى وقت يستفيقون فيه من سباتهم، بظهور دين الله وعلو كلمته وهزم عدوه. وشبه جهالتهم بالماء الذي يغمر القامة، لأنهم مغمورون فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أي نعطيهم إياه، ونجعله مددا لهم مِنْ مالٍ وَبَنِينَ
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ
أي كلّا. لا نفعل ذلك. بل هم لا يشعرون أصلا. كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور، ليتأمّلوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم. وهم يحسبونه معاجلة فيما لهم فيه إكرام. ثم بين سبحانه من له المسارعة في الخيرات من أوليائه وعباده، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٦١]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي من خوف عذابه حذرون وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ أي شركا جليّا، ولا خفيّا وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوه من الصدقات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي من رجوعهم إليه تعالى، فتخشى أن تحاسب على ما قصرت من الحقوق، أو غفلت عنه من الآداب أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة. كما في قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران:
١٤٨]، وقوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: ٢٧]، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم، خلا أنه غيّر الأسلوب، حيث لم يقل أولئك نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بل أسند المسارعة إليهم، إيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم. وإيثار كلمة (في) على كلمة (إلى) للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات. لا أنهم خارجون عنها، متوجهون إليها، بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: ١٣٣] الآية أفاده أبو السعود.
وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي إياها سابقون. أي ينالونها قبل الآخرة، حيث عجلت لهم في الدنيا، فتكون اللام لتقوية العمل. كما في قوله تعالى هُمْ لَها عامِلُونَ [المؤمنون: ٦٣]، وقيل: المراد بِالْخَيْراتِ الطاعات. والمعنى: يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة. وهم لأجلها فاعلون السبق، أو لأجلها سابقون الناس، والله أعلم، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة، سيقت للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات، ببيان سهولته، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة. أي سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها. أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك الصالحين، ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم. فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين، فلا عليهم، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم، أفاده أبو السعود، وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وهو كتاب الأعمال. كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٩]، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين وَلَهُمْ أَعْمالٌ أي سيئة كثيرة مِنْ دُونِ ذلِكَ أي الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم هُمْ لَها عامِلُونَ أي معتادون لا يزايلونها.
تنبيه:
أغرب الإمام أبو مسلم الأصفهانيّ فيما نقله عنه الرازيّ، فذهب إلى أن قوله تعالى بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا... إلى آخر الآية، من تتمة صفات المؤمنين المشفقين. كأنه سبحانه قال بعد وصفهم وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون، ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق وهم لا يظلمون.
بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة، وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ. أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه. إما أعمالا قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل. ثم إنه تعالى رجع.
قال الرازيّ: وقول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن ردّ الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين، كان أولى من ردّه إلى ما بعد منه، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته، بأن قلبه في غمرة، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أو ردّه، وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر. انتهى.
وبعد فإن نظم الآية الكريمة يحتمل لذلك. ولكن لم يرد وصف الغمرة في حق المؤمنين أصلا بل لم يوصف بها إلا قلوب المجرمين، كما تراه في الآيات أولا.
فالذوق الصحيح ورعاية نظائر الآيات، يأبى ما أغرب به أبو مسلم أشد الإباء. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٤]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي متنعميهم بِالْعَذابِ أي بالانتقام، مثل أخذهم يوم بدر إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يصرخون باستغاثة أو الآية. كقوله تعالى:
ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً [المزمل: ١١- ١٣]. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي يقال لهم تبكيتا لهم: لا تجأروا، فإن الجؤار غير نافع لكم إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي تعرضون عن سماعها أشد الإعراض مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي بالبيت الحرام والذي سوغ الإضمار، شهرتهم بالاستكبار به، وأن لا مفخر لهم إلا أنهم قوّامه. وجوز تضمين (مستكبرين) معنى (مكذبين) والضمير للتنزيل الكريم. أي مكذبين تكذيب استكبار. ولم يذكروا احتمال إرجاع الضمير (للنكوص) إشارة إلى زيادة عتوهم، وأنهم يفتخرون بهذا الإعراض ولا يرهبون مما ينذرون به، كقوله: وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان: ٧]، وليس ببعيد. فتأمل. سامِراً تَهْجُرُونَ يعني أنهم يسمرون ليلا بذكر القرآن وبالطعن فيه، وتسميته سحرا وشعرا ونحو ذلك. وهو معنى (تهجرون) من (الهجر) بالضم، وهو الفحش في القول. أو معناه تعرضون. من (الهجر) بالفتح.
تنبيه:
قال أبو البقاء: (سامرا) حال أيضا وهو مصدر. كقولهم (قم قائما) وقد جاء من المصادر على لفظ اسم الفاعل نحو العاقبة والعافية. وقيل: هو واحد في موضع الجميع. انتهى.
فيكون واحدا أقيم مقام الجمع. وقيل هو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب. قال الشهاب: وعلى كونه مصدرا فيشمل القليل والكثير أيضا، باعتبار أصله. ولكن مجيء المصدر على وزن (فاعل) نادر. وقرئ (سمّرا) بضم وتشديد.
(سمّار) بزيادة ألف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٨]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي القرآن، ليعلموا أنه الحق المبين، فيصدقوا به وبمن جاء به أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أي من الهدى والحق، فاستبدعوه واستبعدوه، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال. مع أن المجيء بما لم يعهد، لا يوجب النفرة. لأن المألوف قد يكون باطلا، فتقتضي به الحكمة التحذير منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي جاحدون بما أرسل به. وهذا توبيخ آخر يشير إلى عظيم جهالتهم، بأنهم ما عرفوا شأنه ولا دروا سر ما بعث به مما يؤسف له. كما قال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: ٣٠]، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، أو جن يخبلونه. وهذا توبيخ آخر، فيه تعجيب من تلونهم في الجحود، وتفننهم في العناد، ثم أشار إلى أنه لم يحملهم على ذلك إلا أنفتهم للحق كبرا وعتوّا بقوله بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي لما فيهم من الزيغ والانحراف.
قال القاشانيّ: ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفأوا نورها بالرين والطبع، على مقتضى قوى النفس والطبع، واشتد احتجابهم بالغواشي الظلمانية عن نور الهدى والعقل، لم يمكنهم تدبر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد، والعدل فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه، للتقابل بين النور والظلمة، والتضادّ بين الباطل والحق، وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي ولو كان ما كرهوه من الحق الذي هو التوحيد والعدل المبعوث بهما الرسول صلوات الله عليه، موافقا لأهوائهم المتفرقة في الباطل، الناشئة من نفوسهم الظالمة المظلمة، لفسد نظام الكون لانعدام العدل الذي قامت به السماوات والأرض، والتوحيد الذي به قوامهما فلزم فساد الكون لأن مناط النظام ليس إلا ذلك، وفيه من تنويه شأن الحق، والتنبيه على سموّ مكانه، ما لا يخفى بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ إضراب عن توبيخهم بكراهته، وانتقال إلى لومهم بالنفور عما ترغب فيه كل نفس من خيرها. أي ليس هو مكروها بل هو عظة لهم لو اتعظوا. أو فخرهم أو متمناهم لأنهم كانوا يقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: ١٦٨- ١٦٩]، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي بالنكوص عنه. وأعاد الذكر تفخيما. وأضافه لهم لسبقه. وفي سورة الأنبياء ذِكْرِ رَبِّهِمْ [الأنبياء: ٤٢]، لاقتضاء ما قبله له أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أي جعلا على أداء الرسالة، فلأجل ذلك لا يؤمنون فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي عطاؤه وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ أي منحرفون. قال القاشانيّ: الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه، هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس، ووجود المحبة في القلب. وشهود الوحدة. والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات، وعن القدس بالرجس، إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة، والركون إلى الكثرة. فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده. فهو في واد وهم في واد. وقال الزمخشريّ: قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم، بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم، واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم. مع إبراز المكنون من
أدوائهم، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون، بعد ظهور الحق، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٥]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
قال ابن جرير: أي ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب، وضر الجوع والهزال لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يعني في عتوهم وجرأتهم على ربهم يَعْمَهُونَ يعني يترددون. وأشار ابن كثير إلى معنى آخر فقال:
يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم، بأنه لو أزاح عنهم الضر، وأفهمهم القرآن، لما انقادوا له، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: ٢٣]، وقال:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:
٢٧- ٢٨] الآية. فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون، لو كان كيف يكون.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٦]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.
قال ابن جرير: أي ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا، وأنزلنا بهم بأسنا وسخطنا، وضيقنا عليهم معايشهم، وأجدبنا بلادهم، وقتلنا سراتهم بالسيف فما استكانوا لربهم. أي فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه، وينيبوا إلى طاعته.
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ حين أخذ الله قريشا بسني الجدب، إذ دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن قال: إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلاء، فإنما هي نقمة. فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية. ولكن استقبلوها بالاستغفار، وتضرعوا إلى الله. وقرأ هذه الآية وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٧]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ يعني ما نزل بهم من القتال والقتل يوم بدر، أو باب المجاعة والضر، وهو ما روي عن مجاهد واختاره ابن جرير إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي حزنى نادمون على ما سلف منهم، في تكذيبهم بآيات الله، في حين لا ينفعهم الندم والحزن. ثم أشار تعالى إلى قدرته على البعث بآياته المبصرة في الأنفس والآفاق، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي نعمة الله في ذلك، بصرفها لما خلقت له. وهو أن يدرك.
وفي كل شيء له آية... تدلّ على أنّه الواحد
والقلة في الآية هذه ونظائرها، بمعنى النفي، في أسلوب التنزيل الكريم. لأن الخطاب للمشركين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وبثكم بالتناسل فيها وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة، بعد تفرقكم إلى موقف الحساب وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي أي خلقه، أي يجعلهم أحياء، بعد أن كانوا نطفا أمواتا، ينفخ الروح فيها، بعد الأطوار التي تأتي عليها وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي بالطول والقصر.
فهو متوليه ولا يقدر على تصريفهما غيره أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: إن من أنشأ ذلك ابتداء من غير أصل، لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم. ثم بين تعالى أنهم لم يعتبروا بآياته، ولا تدبروا ما احتج عليهم من الحجج الدالة على قدرته على فعل كل ما يشاء، بقوله: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي من الأمم المكذبة رسلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي أحياء، كهيئتنا قبل الممات لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطروه في كتبهم، مما لا حقيقة له:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي فتعلمون أن من ابتدأ ذلك، قدر على إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي عقابه على شرككم به، وتكذيبكم خبره وخبر رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ أي يغيث من أراد، ممن قصد بسوء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء، فيدفع عنه عذابه وعقابه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي تخدعون عن توحيده وطاعته، مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة ف (السحر) مستعار للخديعة. وتكرير إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لاستهانتهم، وتجهيلهم، لكمال ظهور الأمر.
قال في (الإكليل) : قال مكيّ: في هذه الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين، وإقامة الحجة وإظهار الباطل من قولهم ومذهبهم، ووجوب النظر في الحجج على من خالف في دين الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٠ الى ٩٤]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي في دعواهم أن له ولدا ومعه شريكا مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لأنه يجب أن يتخالفا بالذات، وإلا لما تصوّر العدد- والمتخالفان بالذات يجب أن يتخالفا في الأفعال فيذهب كل بما خلقه، ويستبد به، ويظهر بينهم التحارب والتغالب، فيفسد نظام الكون، كما تقدم بيانه في آية لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢]، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ أي من العذاب. أي إن كان لا بد من أن تريني. لأن (ما) و (النون) للتأكيد رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي نجني من عذابهم. وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب، وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يمكن أن يحيق به. وردّ لإنكارهم إياه واستعجالهم به، استهزاء. وتكرير النداء، لإظهار زيادة الابتهال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٥ الى ١٠٠]
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ أي من العذاب لَقادِرُونَ أي: وإنما نؤخره لحكمة بلوغ الكتاب أجله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالخلة التي هي أحسن
الخلال. وهو العفو الصفح السَّيِّئَةَ يعنى أذى المشركين نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي فسيرون جزاءه وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي وساوسهم المغرية على الباطل والشرور والفساد، والصدّ عن الحق وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي يحضروني في حال من الأحوال حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب، وعاين وحشة هيئات السيئات، تمنى الرجوع، وأظهر الندامة، ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك. وقوله تعالى كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ يعني قوله (ربّ ارجعون) إلخ هُوَ قائِلُها أي لا يجاب إليها ولا تسمع منه، يعني أنه لم يحصل إلا على الحسرة والندامة، والتلفظ بألفاظ التحسر والندم، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة. والآية نظيرها قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: ١٠]، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي حائل يحول بينهم وبين الرجعة، يلبثون فيه إلى يوم القيامة.
لطيفة:
الواو في (ارجعون) قيل لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى، وردّه ابن مالك بأنه لا يعرف أحدا يقول (رب ارحموني، ونحوه) لما فيه من إيهام التعدد. مدفوع بأنه لا يلزم من عدم صدوره عنا كذلك، ألا يطلقه الله تعالى على نفسه. كما في ضمير المتكلم. وقيل إنه لتكرير قوله (ارجعني) كما قيل في (قفا) و (أطرقا) إن أصله (قف قف) على التأكيد، وبه فسر قوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: ٢٤]، قال الشهاب: فيكون من باب استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة، بقطع النظر عن معناه، وهو كثير في الضمائر. كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في (كفى به) حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى، ومن لفظ إلى آخر. وما نحن فيه من هذا القبيل. فإنه غيّر الضميران المستتران إلى ضمير مثنى ظاهر. فلزم الاكتفاء بأحد لفظي الفعل، وجعل دلالة الضمير على المثنى على تكرير الفعل، قائما مقامه في التأكيد، من غير تجوز فيه ولابن جني في (الخصائص) كلام يدل على ما ذكرناه.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٠١]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي لشدة الهول من هجوم ما شغل
البال حتى زال به التعاطف والتآلف، إذ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٤- ٣٧]، ونفي نفع النسب، إذا دهم مثل ذلك معروف.
كما قال:
لا نسب اليوم ولا خلّة اتّسع الخرق على الراقع
وَلا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا، لعظم الفزع وشدة مآبهم من الأهوال، وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال، فتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم، وجليّ أن نفي التساؤل إنما هو وقت النفخ، كما دل عليه قوله فَإِذا أي فوقت القيام من القبور وهو المطلع يشتغل كل بنفسه. وأما ما بعده فقد يقع التساؤل، كما قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: ٢٧] و [الطور: ٢٥]، لأن يوم القيامة يوم ممتد. ففيه مشاهد ومواقف. فيقع في بعضها تساؤل وفي بعضها دهشة تمنع منه.
تنبيه:
روى هنا بعض المفسرين أخبارا في نفع النسب النبويّ. وحبذا لو روي شيء منها في الصحيحين، أو في مسانيد من التزم الصحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي رجحت حسناته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي بتضييع ما منحت من الاستعداد لأن تربح في تجارة الكمال، بفطرة الإيمان وصالح الأعمال، ولله در القائل:
إذا كان رأس المال عمرك، فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب
فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحرقها. وتخصيص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء. فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وَهُمْ فِيها كالِحُونَ أي مشوهون، قبيحو المنظر. ويقال لهم تعنيفا وتوبيخا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦)
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا أي ملكتنا شِقْوَتُنا أي التي اقترفناها بسوء اختيارنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي عن الحق، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب، قال أبو السعود: وهذا، كما ترى، اعتراف منهم، بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم، وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية، فمع أنه باطل في نفسه، لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم الله تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم، ضرورة أن العلم تابع للمعلوم- يردّه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي أخرجنا من النار، وارجعنا إلى الدنيا. فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي، فإنا متجاوزون الحدّ في الظلم. ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم، لما سألوا الرجعة إلى الدنيا، ولما وعدوا الإيمان والطاعة قالَ اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا فيها كخسء الكلاب وَلا تُكَلِّمُونِ أي في رفع العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف. ثم أشار إلى علة ذلك بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ أي بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ.
ثم أشار تعالى لبيان حسن حالهم، وأنهم انتفعوا بما آذوهم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١١ الى ١١٤]
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قالَ أي الله أو الملك المأمور بسؤالهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا، لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي شيئا ما. أو لو كنتم من أهل العلم.
والجواب محذوف، ثقة بدلالة ما سبق عليه. أي لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها، كما علمتم اليوم ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها.
قال الرازيّ: الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلا، ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا. ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء، ولا إعادة. فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون، سألهم: كم لبثتم في الأرض؟ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا، فهو يسير، بالإضافة إلى ما أنكروه. فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا. من حيث أيقنوا خلافه. فليس الغرض مجرد السؤال، بل ما ذكر.
قال الزمخشريّ: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا، بالإضافة إلى خلودهم، ولما هم فيه من عذابها. لأن الممتحن يستطيل أيام محنته، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور. وأيام السرور قصار، أو لأن المنقضي في حكم ما لم يكن، وصدّقهم الله في تقالّهم لسني لبثهم في الدنيا، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ (فسل العادين) والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين، إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدها، فسل من فيه أن يعدّ، ويقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٥ الى ١١٨]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي بغير حكمة، حتى أنكرتم البعث وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي للجزاء فَتَعالَى اللَّهُ أي تعاظم عما تصفون، لأنه الْمَلِكُ الْحَقُّ أي المتصرف وحده، الذي قصد بالخلق معرفته وعبادته. والذي لا يترك الجزاء بل يحق الحق لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي العظيم المجيد. وقرئ
305
بالرفع وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قال ابن جرير: أي: ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودا آخر لا حجة لما بما يقول ولا بينة. فإنما حساب عمله السيّئ عند ربه. وهو موفيه جزاءه إذا قدم عليه. فإنه لا ينجح أهل الكفر بالله، عنده، ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم، قال الزمخشريّ: وقوله لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ كقوله: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: ١٥١]، وهي صفة لازمة، نحو قوله يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨]، جيء بها للتوكيد، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء. كقولك (من أحسن إلى زيد- لا أحق بالإحسان منه- فالله مثيبه).
قال في (الانتصاف) : إن كان صفة، فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله، كقوله بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: ١٥١]، فنفى إنزال السلطان به، وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان، لا منزل ولا غير منزل.
وقال الرازيّ: نبه تعالى بالآية، على أن كل ما لا برهان فيه، لا يجوز إثباته، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد. انتهى.
ثم أمر تعالى نبيّه بالابتهال إليه واستغفاره والثناء عليه، بقوله وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته.
306

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النور
سميت به لاشتمالها على ما أمكن من بيان النور الإلهيّ، بالتمثيل المفيد كمال المعرفة الممكنة لنوع الإنسان، مع مقدماتها، وهي أعظم مقاصد القرآن- قاله المهايميّ، وهي مدنية. وقال القرطبيّ: إن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ [النور: ٥٨]، إلخ مكية وهي أربع وستون آية.
307
Icon