تفسير سورة غافر

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة غافر من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة غافر مكية وهي ثمانون وخمس آيات.

سورة غافر
وهي ثمانون وخمس آية مكية
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
قوله تبارك وتعالى: حم روي عن ابن عباس أنه قال الحواميم كلها مكية. وهكذا روي عن محمد بن الحنفية. وقال ابن مسعود: إِنَّ حم دِيْبَاجُ القُرْآنِ. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ فَلْيَقْرَأْ الحَوَامِيم». وقال قتادة: حم اسم من أسماء الله الأعظم. ويقال: اسم من أسماء القرآن. ويقال: قسم أقسم الله بحم. ويقال: معناه قضى بما هو كائن. ويقال: حم الأمر أي: قدر، وقضى، وتم. وقرأ ابن كثير، وحفص، عن عاصم: حم بفتح الحاء. وقرأ أبو عمرو، ونافع: بين الفتح والكسر، والباقون بالكسر.
وكل ذلك جائز في اللغة.
ثم قال: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يعني: إنّ هذا القرآن الذي يقرأه عليكم محمد، هو من عند الله، العَزِيز في سلطانه، وملكه، الْعَلِيمِ بخلقه، وبأعمالهم، غافِرِ الذَّنْبِ لمن يقول: لا إله إلا الله، مخلصاً، يستر عليه ذنوبه، وَقابِلِ التَّوْبِ لمن تاب، ورجع، شَدِيدِ الْعِقابِ لمن مات على الشرك، ولم يقل لا إله إلا الله، ذِي الطَّوْلِ يعني:
ذي الفضل على عباده، والمن والطول في اللغة: التفضل. يقال: طل علي برحمتك أي:
تفضل. وقال مقاتل: ذي الطَّوْلِ يعني: ذي الغنى عمى لم يوحده.
ثم وحّد نفسه فقال: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني: إليه مصير العباد، ومرجعهم في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤ الى ٦]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
قوله: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ يعني: ما يخاصم في آيات الله بالتكذيب، إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ يعني: ذهابهم، ومجيئهم في أسفارهم، وتجاراتهم، فإنهم ليسوا على شَىْء من الدين. وقال مقاتل: تَقَلُّبُهُمْ يعني: ما هم فيه من السعة في الرزق.
ثم خوّفهم ليحذروا فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: الأمم مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ يعني: أرادوا أن يقتلوه، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أي: بالشرك، لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ يعني: ليبطلوا به دين الحق، وهو الإسلام، والذي جاء به الرسل. فَأَخَذْتُهُمْ أي: عاقبتهم، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ يعني: كيف رأيت عذابي لهم. أليس قد وجدوه حقاً.
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ يعني: سبقت، ووجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ، عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بالعذاب، أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ يعني: يصيرون إليها. قرأ نافع، وابن عامر: كلمات رَبَّكَ بلفظ الجماعة. والباقون: كلمة ربك بلفظ الواحد. وهي عبارة عن الجنس. والجنس يقع على الواحد، وعلى الجماعة، وقرئ في الشاذ: إِنَّهم بالكسر على معنى الابتداء، وقراءة العامة بالنصب على معنى البناء.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧ الى ٩]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
ثم قال الله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم الملائكة، وَمَنْ حَوْلَهُ من المقربين، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يعني: يسبحون الله تعالى، ويحمدونه، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أي: يصدقون بالله، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني: المؤمنين. وفي الآية: دليل فضل المؤمنين، وبيانه، أن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم.
ثم وصف دعاءهم للمؤمنين وهو قولهم: رَبَّنا يعني: يقولون: يا ربنا، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً يعني: يا ربنا رحمتك واسعة، وعلمك محيط بكل شيء. ويقال: معناه ملأت كل شيء نعمة، وعلماً، علم ما فيها من الخلق. روى قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن
الشخير قال: وجدنا أنصح عباد الله، لعباد الله، الملائكة. ووجدنا أغش عباد الله، لعباد الله، الشياطين. وروى الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله بن مسعود يقولون:
الملائكة خير للمسلمين من ابن الكواء، الملائكة يستغفرون لمن في الأرض، وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر، وكان ابن الكواء رجلاً خارجياً.
قوله: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا أي: تجاوز عنهم يعني: الذين رجعوا عن الشرك، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ يعني: دينك الإسلام، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ يعني: ادفع عنهم في الآخرة عذاب النار رَبَّنا يعني: ويقولون: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ على لسان رسلك، وَمَنْ صَلَحَ أي: من وحّد الله تعالى مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي: وأدخلهم معهم الجنة أيضاً، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ في ملكك، الْحَكِيمُ في أمرك، وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ يعني:
ادفع عنهم العذاب في الآخرة. وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ يعني: من دفعت العذاب عنه، فقد رحمته. قال مقاتل: السيئات يعني: الشرك في الدنيا، فَقَدْ رَحِمْتَهُ في الآخرة، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني: النجاة الوافرة.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ قال مقاتل والكلبي: لما عاين الكفار النار، ودخلوها، مقتوا أنفسهم أي: لاموا أنفسهم، وغضبوا عليها. فتقول لهم خزنة جهنم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ يعني: غضب الله عليكم، وسخطه، أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي: تجحدون، وتثبتون على الكفر، قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ يعني: كنا نطفاً أمواتاً، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ يعني: فأحييتنا، ثم أمتنا عند آجالنا، ثم أحييتنا اليوم. وذكر عن القتبي نحو هذا. وقال بعضهم: إحدى الإماتتين يوم الميثاق، حين صيروا إلى صلب آدم، والأخرى في الدنيا عند انقضاء الأجل، وإحدى الإحيائين في بطن الأمهات، والأخرى في القبر.
فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا يعني: أقررنا بشركنا، وظهر لنا أن البعث حق، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ يعني: فهل سبيل إلى الخروج من النار. ويقال: فهل من حيلة إلى الرجوع ذلِكُمْ
يعني: يقال لهم ذلك الخلود بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ يعني: إذا قيل لكم لا إله إلا الله جحدتم، وأقمتم على الكفر، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا يعني: إذا دعيتم إلى الشرك، وعبادة الأوثان، تصدقوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ يعني: القضاء فيكم لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ أي:
الرفيع فوق خلقه، القاهر لخلقه، الْكَبِيرِ بالقدرة، والمنزلة.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٣ الى ١٩]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لاَ يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
ثم قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ يعني: عجائبه، ودلائله، من خلق السموات والأرض، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، وذلك أنه لما ذكر ما يصيبهم يوم القيامة، عظم نفسه تعالى.
ثم ذكر لأهل مكة من الدلائل ليؤمنوا به، فقال: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً يعني: المطر. ويقال: الملائكة لتدبير الرزق. وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يعني: ما يتعظ بالقرآن، إلا من يقبل إليه بالطاعة. ويقال: وَما يَتَذَكَّرُ في هذا الصنيع، فيوحد الرب إلا من يرجع إليه، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني: اعبدوه بالإخلاص، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ يعني: وإن شق ذلك على المشركين، الكافرين. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يعني: رافع، وخالق السموات. أي: مطبقاً بعضها فوق بعض. ويقال: هو رافع الدرجات في الدنيا بالمنازل، وفي الآخرة الجنة ذو الدرجات، ذُو الْعَرْشِ يعني: رافع العرش. ويقال:
خالق العرش، هو رب العرش يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ يعني: ينزل جبريل بالوحي عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهو النبي صلّى الله عليه وسلم، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يعني: ليخوف بالقرآن. وقرأ الحسن:
لتنذر بالتاء على معنى المخاطبة. يعني: لتنذر يا محمد. وقراءة العامة بالياء يعني: لينذر الله. ويقال: لِيُنْذِرَ من أنزل عليه الوحي يَوْمَ التَّلاقِ قرأ ابن كثير: يَوْمَ التَّلاَقِي بالياء.
وهي إحدى الروايتين عن نافع، والباقون بغير ياء. فمن قرأ بالياء فهو الأصل. ومن قرأ بغير ياء، فلأن الكسر يدل عليه. وقال في رواية الكلبي: يَوْمَ التَّلاقِ يوم يلتقي أهل السموات، وأهل الأرض. ويقال: يوم يلتقي الخصم، والمخصوم، يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي: ظاهرين، خارجين من قبورهم، لاَ يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ يعني: من أعمال أهل السموات، وأهل الأرض.
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ قال بعضهم: هذا بين النفختين. يقول الرب تبارك وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا يجيبه أحد، فيقول لنفسه: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. قال بعضهم: إن ذلك لأهل الجمع يوم القيامة. يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فأقر الخلائق كلهم، وقالوا: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
يقول الله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني: مَّا عَمِلَتْ في الدنيا من خير أو شر، لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وقد ذكرناه، وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ يعني:
خوفهم بيوم القيامة. فسمي الأزفة لقربه. ويقال: أزف شخوص فلان يعني: قرب كما قال أَزِفَتِ الآزفة.
ثم قال: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ من الخوف، لا تخرج، ولا تعود إلى مكانها، كاظِمِينَ أي: مغمومين يتردد خوفهم في أجوافهم مَا لِلظَّالِمِينَ يعني: المشركين مِنْ حَمِيمٍ أي قريب، وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي: له الشفاعة فيهم. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ هذا موصول بقوله: لاَ يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ وهو يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ. وقال أهل اللغة:
الخائنة والخيانة واحدة، كقوله: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ [المائدة: ١٣]. وقال مجاهد:
خائِنَةَ الْأَعْيُنِ يعني: نظر العين إلى ما نهى الله عنه. وقال مقاتل: الغمزة فيما لا يحل له، والنظرة إلى المعصية. ويقال: النظرة بعد النظرة. وقال قتادة: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ يعني:
يعلم غمزه بعينه، وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٠]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي: يحكم بالحق. ويقال: يأمر بما يجب به الثواب، وينهى عما يجب به العقاب. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني: يعبدون من الآلهة. قرأ نافع، وابن عامر:
تَدْعُونَ بالتاء على معنى المخاطبة. والباقون، بالياء على معنى الخبر عنهم.
لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ يعني: ليس لهم قدرة، ولا يحكمون بشيء، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يعني: السَّمِيعُ لمقالة الكفار الْبَصِيرُ بأعمالهم.

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢١ الى ٢٢]

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا يعني: فيعتبروا، كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ يعني: آخر أمر، الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً يعني: منعة. قرأ ابن عامر، ومن تابعه من أهل الشام أَشَدَّ مِنكُمْ بالكاف على معنى المخاطبة. والباقون أَشَدَّ مِنْهُمْ بالهاء على معنى الخبر عنهم.
وَآثاراً فِي الْأَرْضِ يعني: أكثر أعمالاً. ويقال: أشد لها طلباً، وأبعد لها ذهاباً.
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي: عاقبهم الله وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي: من مانع يمنعهم من عذاب الله. ذلِكَ أي: ذلك العذاب بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني:
بالأمر، والنهي. ويقال: بالدلائل الواضحات، فَكَفَرُوا بهم، وبدلائلهم، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أي: عاقبهم الله بذنوبهم، إنه قادر على أخذهم، شديد العقاب لمن عاقب.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا التسع، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: حجة بيّنة إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ يعني: لم يصدقوا موسى.
قوله عز وجل: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا يعني: بالرسالة، قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعني: أعيدوا القتل عليهم، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ فلا تقتلوهن، وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: في خطأ بيّن.
قوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ لقومه ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى يعني: خلوا عني، حتى أَقْتُلْ موسى. وَلْيَدْعُ رَبَّهُ يعني: ليدعوا ربه موسى، لكي يمنعه عني. وذلك أن قومه كانوا يقولون: أرجئه وأخاه، ولا تقتله حتى لا يفسدوا عليك الملك. فقال لهم فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى فإِني أعلم أن صلاح ملكي في قتله.
إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ يعني: عبادتكم إياي. أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ يعني: الدعاء إلى غير عبادتي. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو وأن يظهر على معنى العطف. والباقون: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ على معنى الشك، وكلاهما جائز. وأو لأحد الشيئين: إما لشك المتكلم أو أحدهما. والواو للجمع، وتقع على الأمرين جميعاً. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وعاصم يُظْهِرَ بضم الياء، وكسر الهاء، الْفَسادَ بالنصب. والباقون:
يُظْهِرَ بنصب الياء، والهاء، الْفَسادَ بالضم. فمن قرأ: يُظْهر بالضم. فالفعل لموسى، والفساد نصب لوقوع الفعل عليه. ومن قرأ يَظْهَر، فالفعل للفساد، فيصير الفسادُ رفعاً، لأنه فاعل. فلما سمع موسى ذلك التهديد، استعاذ بالله من شره، فذلك قوله: وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ يعني: أستعيذ بربي، وربكم، مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ عن الإيمان يعني: لاَ يُؤْمِنُ أي: لا يصدق بِيَوْمِ الْحِسابِ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
203
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وهو حزبيل بن ميخائيل، هو ابن عم قارون، وكان أبوه من آل فرعون، وأمه من بني إسرائيل. ويقال: كان ابن فرعون يَكْتُمُ إِيمانَهُ، وكان قد أسلم سراً من فرعون.
قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: اليد، والعصا. وروى الأوزاعي عن يحيى بن كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «أقبل عقبة بن أبي معيط، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه على عنقه، وخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبيه، ودفعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ يعني: فعليه وبال كذبه، فلا ينبغي أن تقتلوه بغير حجة، ولا برهان. وَإِنْ يَكُ صادِقاً في قوله، وكذبتموه، يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب. يعني: بعض ذلك العذاب يصبكم في الدنيا. ويقال: بعض الذي يعدكم فيه. أي: جميع الذي يعدكم، كقوله: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف: ٦٣] أي: جميع الذي تختلفون فيه، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي يعني: لا يرشد، ولا يوفق إلى دينه، مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في قوله: كَذَّابٌ يعني: الذي عادته الكذب.
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ أي: ملك مصر، ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي: غالبين على أرض مصر، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ يعني: من يعصمنا من عذاب الله، إِنْ جاءَنا يعني: أرأيتم إن قتلتم موسى، وهو الصادق، فمن يمنعنا من عذاب الله. فلما سمع فرعون قول المؤمن، قالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى يعني: ما أريكم من الهدى، إلا ما أرى لنفسي. ويقال: ما آمركم إلا ما رأيت لنفسي أنه حق وصواب، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ يعني: ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى وقرئ في الشاذ الرَّشادِ بتشديد الشين.
يعني: سبيل الرشاد الذي يرشد الناس. ويقال: رشاد اسم من أسماء أصنامه.
204
قوله: وَقالَ الَّذِي آمَنَ وهو حزبيل يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ يعني: أخاف عليكم من تكذيبكم مثل عذاب الأمم الخالية، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ أي مثل عذاب قوم نوح، وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني: لا يعذبهم بغير ذنب، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ وهو من نَدَّ يَند، وهو من تنادى، يتنادى، تنادياً. وروى أبو صالح، عن ابن عباس أنه قرأ: يَوْمَ التَّنادِ بتشديد الدال.
وقال: تندون كما تند الإبل، وهذا موافق لما بعده، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ وكقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) [عبس: ٣٤، ٣٥].
وقرأ الحسن يَوْمَ التَّنَادِي بالياء، وهو من النداء. يوم ينادى كل قوم بأعمالهم. وينادي المنادي من مكان بعيد. وينادي أهل النار أهل الجنة. وينادي أهل الجنة أهل النار أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا [الأعراف: ٤٤] وقراءة العامة. التناد بالتخفيف بغير ياء، وأصله الياء، فحذف الياء، لأن الكسرة تدل عليه، وقوله: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي: هاربين. قال الكلبي:
هاربين، إذا انطلق بهم إلى النار، فعاينوها، هربوا. فيقال لهم: مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي: ليس لكم من عذاب الله من مانع. وقال مقاتل: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي: ذاهبين بعد الحساب إلى النار، كقوله: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي: ذاهبين مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعني: من مانع من عذابه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى، فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: من مرشد، وموفق.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ هذا قول حزبيل أيضاً لقوم فرعون قال: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ ويقال: يعني: به أهل مصر، وهم الذين قبل فرعون، لأن القرون الذين كانوا في زمن فرعون، لم يروا يوسف، وهذا كما قال تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة: ٩١] وإنما أراد به آباءهم بِالْبَيِّناتِ أي: بتعبير الرؤيا. وروي عن وهب بن منبه: قال فرعون: موسى هو الذي كان في زمن يوسف، وعاش إلى وقت موسى. وهذا خلاف قول جميع المفسرين. فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من تصديق الرؤيا، وبما أخبركم، حَتَّى إِذا هَلَكَ يعني: مات، قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا.
يقول الله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ يعني: من هو مشرك، شاك في توحيد الله.
ثم وصفهم فقال: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي: بغير حجة أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي: عظم بغضاً لهم من الله، وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: عند المؤمنين كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
أي: يختم الله بالكفر، عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يعني: متكبر عن عبادة الله تعالى. قرأ أبو عمرو: قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بالتنوين. جعل قوله متكبر نعتاً للقلب.
205
ومعناه: أن صاحبه متكبر. والباقون: قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بغير تنوين على معنى الإضافة، لأن المتكبر هو الرجل، وأضاف القلب إليه.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٦]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أي: قصراً مشيداً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ يعني:
أصعد طرق السموات، فَأَطَّلِعَ أي: انظر إِلى إِلهِ مُوسى الذي يزعم أنه أرسله. وقال مقاتل، والقتبي: أَسْبابَ السَّماواتِ أبوابها. قرأ عاصم في رواية حفص: فَأَطَّلِعَ بنصب العين. والباقون: بالضم. فمن قرأ: بالنصب. جعله جواباً للفعل. ومن قرأ بالضم رده إلى قوله: أبلغ الأسباب، فأطلع. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي: لأحسب موسى كاذباً في قوله.
قال الله تعالى: وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ أي: قبح عمله، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي: الدين، والتوحيد. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: وَصُدَّ بضم الصاد.
206
والباقون: بالنصب. فمن قرأ: بالضم. فمعناه: إن فرعون صرف عن طريق الهدى. يعني: إن الشيطان زين له سوء عمله، وصرفه عن طريق الهدى. ومن قرأ: بالنصب. فمعناه: صرف فرعون الناس عن الدين.
وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي: ما صنع فرعون إلا في خسارة يوم القيامة، كقوله:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] يعني: إن فرعون اختار متاعاً قليلاً، وترك الجنة الباقية، فكان عمله في الخسارة.
وَقالَ الَّذِي آمَنَ وهو حزبيل يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يعني:
أطيعوني حتى أرشدكم، وأبيّن لكم دين الصواب.
قوله تعالى: يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي: قليل، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لا زوال لها. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها يعني: من عمل الشرك فلا يجزى إلا النار في الآخرة. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ يعني: من رجل، أو امرأة، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ أي: بغير مقدار. وقال بعض الحكماء: إن الله تعالى قال: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً ولم يقل من ذَكَرٍ أَوْ أنثى. وقال: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى لأن العمل الصالح يَحْسُن من الرجل، والمرأة. والسيئة من المرأة أقبح من الرجل. فلم يذكر من ذَكَرٍ أَوْ أنثى. وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ يعني: أن حزبيل قال لقومه: ما لي أدعوكم إلى التوحيد، والطاعة، وذلك سبب النجاة، والمغفرة، فلم تطيعوني، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ يعني: إلى عمل أهل النار.
ثم بيّن عمل أهل النار فقال: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ يعني: لأجحد بوحدانية الله، وَأُشْرِكَ بِهِ أي: أشرك بالله، مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ يعني: مَا لَيْسَ لِى بِهِ حجة بأن مع الله شريكاً، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ يعني: إلى دين العزيز الغفار الْعَزِيزِ في ملكه الْغَفَّارِ لمن تاب. لاَ جَرَمَ أي: حقاً يقال لاَ جَرَمَ يعني: لا بد. أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا أي: ليس له قدرة. ويقال: ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا.
وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: مصيرنا، ومرجعنا إلى الله يوم القيامة، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ يعني: المشركين، هُمْ أَصْحابُ النَّارِ يعني: هم في النار أبداً.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ يعني: ستعرفون إذا نزل بكم العذاب، وتعلمون أن ما أقول لكم من النصيحة أنه حق. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ يعني: أمر نفسي إلى الله، وأدع تدبيري إليه، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني: عالم بأعمالهم، وبثوابهم. فأرادوا قتله، فهرب منهم، فبعث فرعون في طلبه، فلم يقدروا عليه، فذلك قوله: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا يعني:
207
دفع الله عنه شر ما أرادوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ يعني: نزل بهم سُوءُ الْعَذابِ يعني: شدة العذاب، وهو الغرق.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها قال ابن عباس: يعني: تعرض أرواحهم على النار، غُدُوًّا وَعَشِيًّا هكذا قال قتادة، ومجاهد، وقال مقاتل: تعرض روح كل كافر على منازلهم من النار كل يوم مرتين. وقال ابن مسعود: «أَرْوَاحُهُم في جوْف طَيْر سُودٍ يَرَوْنَ مَنَازِلهم غُدوة وَعَشِيَّةً».
وقال هذيل بن شرحبيل: «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش». وإن أرواح آل فرعون في جوف طير سود تغدو، وتروح، على النار فذلك عرضها.
والآية تدل على إثبات عذاب القبر، لأنه ذكر دخولهم النار يوم القيامة. وذكر أنه تعرض عليهم النار قبل ذلك غدواً وعشياً.
ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعني: يقال لهم يوم القيامة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو: أَدْخِلُوا بضم الألف، والخاء. وهكذا قرأ عاصم في رواية أبي بكر. والباقون: بنصب الألف، وكسر الخاء. فمن قرأ أَدْخِلُواْ بالضم. فمعناه:
ادخلوا يا آل فرعون أَشَدَّ الْعَذابِ، فصار الآل نصباً بالنداء. ومن قرأ أَدْخِلُوا بالنصب.
معناه: يقال للخزنة: أدخلوا آل فرعون. يعني: قوم فرعون أَشَدَّ الْعَذابِ يعني: أسفل العذاب. فصار الآل نصباً لوقوع الفعل عليه.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٧ الى ٥٢]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)
يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ أي: يتخاصمون في النار الضعفاء، والرؤساء، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني: لرؤسائهم إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ
عَنَّا
أي: حاملون عنا، نَصِيباً مِنَ النَّارِ يعني: بعض الذي علينا من العذاب، باتباعنا إياكم، كما كنا ندفع عنكم المؤونة في دار الدنيا.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني: الرؤساء يقولون للضعفاء: إِنَّا كُلٌّ فِيها يعني: نعذب نحن، وأنتم على قدر حصصكم في الذنوب، فلا يغني واحد واحداً، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي: قضى بين العباد، بين التابع والمتبوع. ويقال: حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ يعني: أنزلنا منازلنا، وأنزلكم منازلكم.
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ إذا اشتد عليهم العذاب ادْعُوا رَبَّكُمْ يعني: سلوا ربكم. يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ يعني: يوماً من أيام الدنيا، حتى نستريح، فترد الخزنة عليهم فتقول: قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني: ألم تخبركم الرسل أن عذاب جهنم إلى الأبد. ويقال: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني: ألم تخبركم الرسل بالدلائل، والحجج، والبراهين، فكذبتموهم. قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا يعني: تقول لهم الخزنة، فادعوا ما شئتم، فإنه لا يستجاب لكم. وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: في خطأ بيّن.
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا بالغلبة، والحجة، وَالَّذِينَ آمَنُوا بهم يعني: الذين صدقوهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: بالحجة، والغلبة على جميع الخلق. يعني: على جميع أهل الأديان وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ قال مقاتل: يعني: الحفظة من الملائكة، يشهدون عند رب العالمين للرسل بالبلاغ، وعلى الكافرين بتكذيبهم. وقال الكلبي: يعني: يوم القيامة يقوم الرسل عند رب العالمين، يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ يعني: لا ينفع الكافرون اعتذارهم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو يَوْمٌ لاَّ تَنفَعُ بالتاء بلفظ التأنيث، لأن المعذرة مؤنثة. والباقون: بالياء. وانصرف إلى المعنى، يعني: لا ينفع لهم اعتذارهم وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: السخطة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي: عذاب جهنم.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٣ الى ٦٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
209
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى يعني: التوراة فيها هدى، ونور من الضلالة، وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني: أعطيناهم على لسان الرسل التوراة، والإنجيل، والزبور هُدىً أي: بياناً من الضلالة. ويقال: فيه نعت محمد صلّى الله عليه وسلم وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني: عظة لذوي العقول.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني: اصبر يا محمد على أذى المشركين. فإن وعد الله حق، وهو ظهور الإسلام على الأديان كلها، وفتح مكة. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. وهذا قبل نزول قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ٢]. ويقال: اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي: لذنب أمتك وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صل بأمر ربك بِالْعَشِيِّ أي: صلاة العصر، وَالْإِبْكارِ يعني: صلاة الغداة. ويقال: سبح الله تعالى، واحمده بلسانك في أول النهار، وآخره.
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ قال الكلبي ومقاتل: يعني: اليهود، والنصارى، كانوا يجادلون في الدجال. وذلك أنهم كانوا يقولون: إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان، وله سلطان، فيخوض البحر، وتجري معه الأنهار، ويرد علينا الملك. فنزل: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعني: في الدجال. لأن الدجال آية من آيات الله، بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي: بغير
210
حجة أَتاهُمْ من الله. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُمْ بِبالِغِيهِ أي: ما في قلوبهم إلا عظمة مَّا هُمْ بِبالِغِيهِ يعني: ما هم ببالغي ذلك الكبر الذي في قلوبهم، بأن الدجال منهم. وقال القتبي: إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلاَّ تكبراً على محمد صلّى الله عليه وسلم، وطمعاً أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك.
وقال الزجاج: معناه وما هم ببالغي إرادتهم، وإرادتهم دفع آيات الله. وروى أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية قال: إن اليهود ذكروا الدجال، وعظموا أمره، فنزل: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعني: إن الدجال من آيات الله فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من فتنة الدجال، فإنه ليس ثم فتنة أعظم من فتنة الدجال. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لقول اليهود، الْبَصِيرُ يعني:
العليم بأمر الدجال. ويقال: السَّمِيعُ لدعائك، الْبَصِيرُ برد فتنة الدجال عنك.
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قال الكلبي ومقاتل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أعظم من خلق الدجال. ويقال: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أعظم من خلق الناس بعد موتهم. يعني: أنهم يبعثون يوم القيامة، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أن الدجال خلق من خلق الله. ويقال: لا يعلمون أن الله يبعثهم، ولا يصدقون.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني: الكافر، والمؤمن في الثواب، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ يعني: لا يستوي الصالح، مع الطالح، قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ أي: يتعظون، ويعتبرون. قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: تَتَذَكَّرُونَ بالتاء على وجه المخاطبة. والباقون: بالياء يَتَذَكَّرُونَ على معنى الخبر عنهم. وفي كلا القراءتين مَا للصلة، والزينة.
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيها يعني: قيام الساعة آتية لا شك فيها عند المؤمنين، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ أي: لا يصدقون الله تعالى.
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قال الكلبي معناه: وحدوني، أغفر لكم. وقال مقاتل: معناه: وقال ربكم لأهل الإيمان، ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي أي: عن توحيدي، فلا يؤمنون بي، ولا يطيعونني. سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي:
صاغرين. ويقال: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي يعني: الدعاء بعينه: أَسْتَجِبْ لَكُمْ يعني:
أستجب دعاءكم. وقال بعض المتأخرين: معناه ادعوني بلا غفلة، أستجب لكم بلا مهلة.
وقيل أيضاً: ادعوني بلا جفاء، أستجب لكم بالوفاء. وقيل أيضاً: ادعوني بلا خطأ، أستجب لكم مع العطاء. وروى النعمان بن بشير، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ، ثُمَّ قرأ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» قرأ ابن كثير، وعاصم، في رواية أبي بكر، وإحدى الروايتين، عن أبي عمرو:
211
سَيَدْخُلُونَ بضم الياء، ونصب الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله، وتكون جهنم مفعولاً ثانياً. والباقون: يدخلون بنصب الياء، وضم الخاء، على الإخبار عنهم بالفعل المستقبل، على معنى سوف يدخلون.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ أي: خلق لكم الليل، لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي: لتستقروا فيه، وتستريحوا فيه، وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي: مضيئاً لابتغاء الرزق، والمعيشة. ويقال: مُبْصِراً معناه: يبصر فيه، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني: على أهل مكة بتأخير العذاب عنهم.
ويقال لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي: على جميع الناس، بخلق الليل والنهار، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ لربهم في النعمة فيوحدونه، ويطيعونه. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني: الذي خلق هذا هو ربكم، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: تصرفون، وتحولون.
ويقال: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: من أين تكذبون، كَذلِكَ يُؤْفَكُ أي: هكذا يكذب. ويقال:
هكذا يحول، والَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ويقال: هكذا يؤفك الذين كانوا من قبلهم.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي: بسط لكم الأرض، وجعلها موضع قراركم، وَالسَّماءَ بِناءً أي: خلق السماء فوقكم مرتفعاً، وَصَوَّرَكُمْ أي: خلقكم فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ولم يخلقكم على صورة الدَّواب، فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي: أحكم خلقكم، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي: الحلالات. يقال: اللذيذات، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني: الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم، فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: فتعالى الله رب العالمين.
ويقال: هو من البركة يعني: البركة منه. هُوَ الْحَيُّ يعني: هو الحي الذي لا يموت، ويميت الخلائق، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني: بالتوحيد، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني: قولوا الحمد لله رب العالمين الذي صنع لنا هذا.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ يعني: قل يا محمد لأهل مكة: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: نهاني ربي أن أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دون الله من الأصنام، لَمَّا جاءَنِي
الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي
يعني: حين جاءني الواضحات، وهو القرآن، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ يعني: أستقيم على التوحيد، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وقد ذكرناه من قبل، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً يعني: يعيش الإنسان إلى أن يصير شيخاً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى يعني: الشباب، والشيخ، يبلغ أَجَلًا مُسَمًّى وقتاً معلوماً. ويقال: في الآية تقديم، ومعناه: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً أي: لتبلغوا أَجَلًا مُسَمًّى يعني: وقت انقضاء أجله وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي: من قبل أن يبلغ أشده. ويقال: من قبل أن يصير شيخاً، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: لكي تعقلوا أمر ربكم، ولتستدلوا به، وتتفكروا في خلقه.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: يحيي للبعث، ويميت في الدنيا، على معنى التقديم، ويقال: معناه هو الذي يحيي في الأرحام، ويميت عند انقضاء الآجال، فَإِذا قَضى أَمْراً يعني: أراد أن يخلق شيئاً، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي: يجادلون في القرآن، أنه ليس منه، أَنَّى يُصْرَفُونَ يعني: من أين يصرفون عن القرآن، والإيمان من أين تعدلون عنه إلى غيره؟ ويقال:
عن الحق، والتوحيد.
ثم وصفهم فقال: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي: بالقرآن، وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا يعني: بالتوحيد. ويقال: بالأمر، والنهي، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ماذا ينزل بهم في الآخرة.
ثم وصف ما ينزل بهم، فقال عز وجل: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يعني: ترد أيمانهم إلى أعناقهم وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ يعني: تجعل السلاسل في أعناقهم، يُسْحَبُونَ، ويجرون، فِي الْحَمِيمِ يعني: في ماء حار، قد انتهى حره. قال مقاتل يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ يعني:
في حر النار. وقال الكلبي: يعني: في الماء الحار.
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي: يوقدون، فصاروا وقوداً. وروي عن ابن عباس أنه قرأ:
وَالسَّلاسِلُ بنصب اللام، يُسْحَبُونَ بنصب الياء، يعني: أنهم يسحبون السلاسل. وقال:
هو أشد عليهم. وقراءة العامة وَالسَّلاسِلُ بضم اللام يُسْحَبُونَ بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله. والمعنى: أن الملائكة يسحبونهم في السلاسل.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أي: تقول لهم الخزنة: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ أي: تعبدون، مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان، قالُوا ضَلُّوا عَنَّا يعني: اشتغلوا بأنفسهم عنا، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً وذلك أنهم يندمون على إقرارهم، وينكرون، ويقولون: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً في الدنيا. ويقال: معناه بل لم نكن نعبد شيئاً ينفعنا.
يقول الله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ عن الحجة، ذلِكُمْ أي: ذلكم العذاب، بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ أي: تبطرون، وتتكبرون فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي: تعصون، وتستهزءون بالمسلمين، ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: فبئس مقام المتكبرين عن الإيمان.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٥]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
214
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني: اصبر يا محمد على أذى الكفار، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: كائن، فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب يعني: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نعدهم من العذاب في الدنيا، وهو القتل، والهزيمة. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ من قبل أن نرينك عذابهم في الدنيا، فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يعني: يرجعون إلينا في الآخرة، فنجزيهم بأعمالهم.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يعني: إلى قومهم، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ يعني:
سميناهم لك، فأنت تعرفهم، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ يعني: لم نسمهم لك ولم نخبرك بهم يعني: أنهم صبروا على أذاهم، فاصبر أنت يا محمد على أذى قومك كما صبروا.
وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ أي: ما كان لرسول، من القدرة أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ أي بدلائل، وبراهين، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: بأمره. فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني: العذاب، قُضِيَ بِالْحَقِّ أي: عذبوا، ولم يظلموا حين عذبوا، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ. أي: خسر عند ذلك المبطلون. يعني: المشركون. ويقال: يعني: الظالمون. ويقال: الخاسرون.
ثم ذكر صنعه ليعتبروا فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ يعني: خلق لكم البقر، والغنم، والإبل، لِتَرْكَبُوا مِنْها أي بعضها وهو الإبل، وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني: من الأنعام منافع في ظهورها، وشعورها، وشرب ألبانها، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي ما في قلوبكم، من بلد إلى بلد وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ يعني: على الأنعام، وعلى السفن، يُرِيكُمْ آياتِهِ
يعني: دلائله، وعجائبه، أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
بأنها ليست من الله، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: يسافروا فِي الأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا أي: فيعتبروا، كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: آخر أمر من كان قبلهم، كيف فعلنا بهم حين كذبوا رسلهم، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ يعني: أكثر من قومك في العدد، وَأَشَدَّ قُوَّةً من قومك، وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، يعني: مصانعهم أعظم آثاراً في الأرض، وأطول أعماراً، وأكثر ملكاً في الأرض، فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ يعني: لم ينفعهم ما عملوا في الدنيا، حين نزل بهم العذاب.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالأمر، والنهي، وبخبر العذاب، فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يعني: من قلة علمهم، رضوا بما عندهم من العلم، ولم ينظروا إلى دلائل الرسل.
ويقال: رضوا بما عندهم. فقالوا: لن نعذب، ولن نبعث. ويقال: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي: علم التجارة، كقوله يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: ٧].
وَحاقَ بِهِمْ أي نزل بهم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: يسخرون به، ويقولون: إنه غير نازل بهم. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي: عذابنا في الدنيا، قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا أي:
تبرأنا، بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعني: بما كنا به مشركين من الأوثان، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
215
إِيمانُهُمْ
يعني: تصديقهم، لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي: حين رأوا عذابنا. قال القتبي: البأس الشدة. والبأس العذاب كقوله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا وكقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بأسنا، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ قال مقاتل: يعني: كذلك كانت سنة الله فِي عِبادِهِ. يعني: العذاب في الأمم الخالية إذا عاينوا العذاب، لم ينفعهم الإيمان. وقال القتبي: هكذا سنة الله أنه من كفر عذبه، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي: خسر عند ذلك الكافرون بتوحيد الله عز وجل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
216
Icon