تفسير سورة الزخرف

اللباب
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الزخرف
مكية١ وهي تسع وتسعون٢ آية، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.
١ بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله: "واسأل من من أرسلنا من قبلك من رسلنا" وانظر القرطبي ١٦/٦١..
٢ كذا في النسختين والأصح: تسع وثمانون..

مكية وهي تسع وتسعون آية، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاث آلاف وأربعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿حم والكتاب المبين﴾ إن جعلت «حم» قسماً كانت الواو عاطفة، وإن لم تكن الواو للقسم.
وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ جواب القسم. وهذا عندهم من البلاغة، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحدٍ، كقول أبي تمام:
٤٣٨٨ -...................... وَثَنَايَاك إنَّها إغْريضُ
إن أريد بالكتاب القرآن، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك. والضمير في «جَعَلْنَاهُ» على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم
226
يصرح بذكره. والجَعْلُ في هذا تصيير، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقانه.

فصل


ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين:
الأول: أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم.
الثاني: أن يكون القسم واقعاً على قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾.
وفي المراد بالكتاب قولان:
أحدهما: أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً.
والثاني: المراد بالكتاب الكتابة والخط، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال، وأبان ما يحتاج إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده.
وقوله: «جَعَلْنَاهُ» أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب عربياً. بيّناه. وقيل سميناه وقيل وضعناه. يقال: جَعَلَ فُلاَنٌ زَيْداً عَالِماً، أي وصفه بهذا، كقوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩] و ﴿جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ﴾ [الحجر: ٩١] ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾ [التوبة: ١٩] كلها مدفوع من وجهين:
الأول: أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً، وإن كان بلغة العرب، وهذا باطل.
227
الثاني: (أنه) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة، والتسمية أيضاً كلام الله وذكل أنه جعل بعض كلامه، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل.
الثاني: أنه وصفه بكونه قرآناً، وهو إنما سمي قرآناً، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض، وما كان ذلك مصنوعاً.
الثالث: وصفه بكونه عربياً، وإنما يكون عربياً، لأن العرب اختصت بضوع ألفاضه واصطلاحهم، وذلك يدل على أنه مجعول. والتقدير: حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ.
ويؤكد هذا بقولهن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «يَا رَبَّ طَه وَيس، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم».
وأجاب ابن الخطيب: بأن هذا الذي ذكرتموه حق؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه.
قله: ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ كلمة «لَعَلَّ» للتمني والترجي، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور، وكان المراد ههنا: إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِطُوا بمَعْنَاه.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب﴾ متعلقان بما بعدهما، ولا تمنع اللام من ذلك. ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما؛ لأنهما كمانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف، ويجوز أن يكون «لدينا» متعلقاً بما تعلق به الجار قبله، إذا جعلناه حالاً من لَعَلِيّ، وأن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه. وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالاً من ضميره عند من يجوز (تقديمها) على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون الظرف بدلاً من الجار قبله، وأن يكونا حالين من «الكتاب» أو مِنْ «أُمِّ».
ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء، وقال: «ولا يجوز أن يكون واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لان الخبر لزم أن يكون» عَلِيًّا «من أجل اللام». قال شهاب الدين: وهذا يمنع
228
أن تقول: «إنَّْ زَيْداً كَاتِبٌ لَشَاعِرٌ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبراً».
وقرأ حمزةُ والكِسَائِيُّ إم الكتاب بكسر الألف والباقون بالضم. والضمير في قوله «وَإنَّهُ» عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره.

فصل


قيل: أم الكتاب هو اللوح المحفوظ. قال قتادة: أم الكتاب أصل الكتاب، وأُمُّ كُلِّ شيء أصْله.
قال ابن عباس: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أنْ يَخْلُقَ فالكتاب عنده ثم قرأ: وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا، فالكمتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢١٢٢].
وقوله: ﴿لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ قال قتادة: يخبر عن منزلته وشرفه، أي إن كَذَّبْتُمْ بالقرآن يا أهل مكة فَإنه عندنا «لَعَلِيٌّ» رفيع شريف «حَكِيمٌ» ِأي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة، أو ذو حكمة بالغةٍ. قيل: المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ [آل عمران: ٧] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
فإن قيل: ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان؟
فالجواب: أنه تعالى لما أثْبَتَ في ذلك أحكامَ حوادثِ المخلوقات، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافَقَى ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه.
قوله تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً﴾ في نصب «صفحاً» خمسةُ أوجه:
أحدهما: أنه مصدر في معنى يضرب؛ لأنه يقال: ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال:
229
٤٣٨٩ - اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ
والتقدير: أفنصفح عنكم الذكر، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك.
الثاني: أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين.
الثالث: أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة، فيكون عامله محذوفاً، نحو: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] قاله ابن عطية.
الرابع: أن يكون مفعولاً من أجله.
الخامس: أن يكون منصوباً على الظرف.
قال الزمخشري: و «صَفْحاً» على وجهين: إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه، منتصب على أنه مفعول له، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم: نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً؟ فينتصب على لاظرف، نحو: ضَعْهُ جانباً، وأمْش جنباً، وبعضده قراءة: صُفْحاً بالضم. يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ وسُمَيْطِ بن عُمَر وشُبَيْل بن عَزرَةَ قرأوا: صُفْحاً بضم الصاد وفيه احتمالات:
أحدهما: ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح، ويكون ظرفاً. وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ.
والثاني: أنه جمع صَفُوحٍ، نحو: صَبُورٍ، وصُبْر، فينتصب حالاً من فاعل «يَضْرِبُ» وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء، أي: أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ. وقد تقدم ما فيه.
230
قوله: ﴿أَن كُنتُمْ﴾ قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر، على أنها شرطيه. وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و «إنْ» إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان.
وأجاب الزمخشري: أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير: «إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي»، وهو عالم بذلك، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم.
وقيل: المعنى على المُجَازَاة، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم، أي إنكم غير متروكمين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقوله: وقرىء: إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب، والباقون بالفتح على العلة، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله:
٤٣٩٠ - أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ..............................
ومثله قوله:
٤٣٩١ - أَتَجْزَعُ أَن أُذْنَا قُتَيْبَةَ جُزَّتَا..............................
231
يروى بالكسر والفتح، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة. وقرأ زيدُ بنُ عليّ: إذا بذالٍ عوضِ النون وفيها معنى العلة، كقوله: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩].

فصل


قال الفارء والزجاج: يقال: ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ. أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ، وقوله: «صَفْحاً» أي إعراضاً، والأصل فيه: إنك تَوَلَّيْتَ بصَفْنحَةِ عُنُقِكَ. والمراد بالذكر عذابُ الله. وقيل: أفنرُدُّ عنكم النصائح والمراعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين، وقيل: أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أفنترك عنكم الوحي، ونمسك عن إنزال القرآن، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ، قال قتادة: والله لو كان هذا القول رف ع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكموا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله.
وقيل: معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ. قال الكسائي: أفنطوي عنك الذّكْرَ طَيًّا، فلا تدعون ولا توعظون، وقال الكلبي: أَفَنَتْركُكُم سُدًى، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ. وقال مجاهد والسدي: أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم.
232
وقوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ ﴾ جواب القسم. وهذا عندهم من البلاغة، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ١ واحدٍ، كقول أبي تمام :
٤٣٨٨. . . . . . . . . . . . . . وَثَنَايَاك إنَّها إغْريضُ٢
إن أريد بالكتاب القرآن، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك. والضمير في «جَعَلْنَاهُ » على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم يصرح بذكره٣. والجَعْلُ في هذا تصيير، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقناه٤.

فصل


ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين :
الأول : أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم.
الثاني : أن يكون القسم واقعاً على قوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾.
وفي المراد بالكتاب قولان :
أحدهما : أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً.
والثاني : المراد بالكتاب الكتابة والخط، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال، وأبان ما يحتاج٥ إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز ؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل٦ البيان عنده٧.
وقوله :«جَعَلْنَاهُ » أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب٨ عربياً. بيّناه٩. وقيل : سميناه وقيل : وضعناه. يقال : جَعَلَ فُلاَنٌ زَيْداً عَالِماً، أي وصفه بهذا، كقوله :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] و﴿ جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ ﴾ [ الحجر : ٩١ ] ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج ﴾ [ التوبة : ١٩ ] كلها بمعنى الوصف والتسمية.

فصل احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :


الأول : أنها تدل على أن القرآن مجعول، والمجعول هو المصنوع المخلوق. فإن قيل : المراد به أنه سماه عربيا، فهذا مدفوع من وجهين :
الأول : أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً، وإن كان بلغة العرب، وهذا باطل.
الثاني :( أنه ) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة، والتسمية أيضاً كلام الله وذلك أنه جعل بعض كلامه، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل.
الثاني : أنه وصفه بكونه قرآناً، وهو إنما سمي قرآناً، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض، وما كان ذلك مصنوعاً.
الثالث : وصفه بكونه عربياً، وإنما يكون عربياً، لأن العرب اختصت بوضع ألفاضه واصطلاحهم، وذلك يدل على أنه مجعول. والتقدير : حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ.
ويؤكد هذا بقولهن عليه الصلاة والسلام «يَا رَبَّ طَه وَيس، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم »١٠.
وأجاب ابن الخطيب : بأن هذا الذي ذكرتموه حق ؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً١١، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه.
قله :﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ كلمة «لَعَلَّ » للتمني والترجي، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور، وكان١٢ المراد ههنا : إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِطُوا بمَعْنَاه١٣.
١ بالمعنى من الكشاف ٣/٤٤٧ وباللفظ من الدر ٤/٧٧٠..
٢ من بحر الخفيف وعجزه:
ولآل توم وبزق وميض .............................
والثنايا: جمع ثنية مقدم الأسنان من تحت ومن فوق ثنتان متقابلتان، والإغريض: الطلع ثم أطلق على البرد وهو حبات البلح الصغيرة. والتوم جمع تومة اللؤلؤة العظيمة. والشاهد في قوله: إنها إغريض حيث وقعت هذه الجملة جوابا للقسم وهي تعني الأسنان فاتحد القسم وجوابه معنى..

٣ انظر المرجعين الأخيرين السابقين..
٤ فقد قال في شرح الكشاف ٣/٤٧٧ أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد..
٥ في ب تحتاج بالتاء..
٦ انظر الرازي ٢٧/١٩٢ و١٩٣ وفي ب جعل بدل حصل..
٧ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٤٤٧..
٨ وهو رأي الزجاج انظر معاني القرآن ٤/٤٠٥..
٩ وهو رأي الزجاج انظر معاني القرآن ٤/٤٠٥..
١٠ لم أعثر عليه إلا في تفسير الإمام الرازي ٢٧/١٩٣..
١١ في الرازي: محدثة مخلوقة..
١٢ وفيه: فكان المراد منها..
١٣ وانظر الرازي المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب ﴾ متعلقان بما بعدهما، ولا تمنع اللام١ من ذلك. ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما ؛ لأنهما كانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف، ويجوز أن يكون «لدينا » متعلقاً بما تعلق به الجار قبله، إذا جعلناه حالاً من لَعَلِيّ، وأن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه. وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالاً من ضميره عند من يجوز ( تقديمها )٢ على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون الظرف بدلاً من الجار قبله، وأن يكونا حالين من «الكتاب » أو مِنْ «أُمِّ »٣.
ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء٤، وقال :«ولا يجوز أن يكون واحدٌ من الظرفين خبراً ؛ لان الخبر لزم أن يكون » عَلِيًّا «من أجل اللام »٥. قال شهاب الدين : وهذا يمنع أن تقول :«إنَّْ زَيْداً كَاتِبٌ لَشَاعِرٌ ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبراً »٦.
وقرأ حمزةُ والكِسَائِيُّ إم الكتاب بكسر الألف٧ والباقون بالضم. والضمير في قوله «وَإنَّهُ » عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره.

فصل


قيل : أم الكتاب هو اللوح المحفوظ٨. قال قتادة : أم الكتاب أصل الكتاب، وأُمُّ كُلِّ شيء أصْله.
قال ابن عباس :( رضي الله عنه )٩ : أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أنْ يَخْلُقَ فالكتاب عنده ثم قرأ : وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا١٠، فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال :﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ [ البروج : ٢١-٢٢ ].
وقوله :﴿ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ قال قتادة : يخبر عن منزلته وشرفه، أي إن كَذَّبْتُمْ بالقرآن يا أهل مكة فَإنه عندنا «لَعَلِيٌّ » رفيع شريف «حَكِيمٌ » ِأي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة، أو ذو حكمة بالغةٍ. قيل : المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب ﴾ [ آل عمران : ٧ ] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
فإن قيل : ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان ؟
فالجواب : أنه تعالى لما أثْبَتَ١١ في ذلك أحكامَ حوادثِ المخلوقات، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافَقَة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه١٢.
١ في ب يمنع بالتذكير..
٢ سقط ذلك اللفظ من ب ففيها "بياض"..
٣ بتوضيح وتفصيل من كتاب الدر المصون للسمين ٤/٧٧١..
٤ التبيان ١١٣٧..
٥ قال: ولكن يجوز أن كل واحد منهما صفة للخبر، فصارت حالا بتقدمها، وانظر المرجع السابق..
٦ الدر المصون له ٤/٧٧١..
٧ لم أجدها في المتواتر عنهما، ويبدو أنها شاذة من الأربع فوق العشر. انظر الإتحاف ٣٨٤ والفخر الرازي ٢٧/١٩٤ والقرطبي ١٦/٦٢..
٨ القرطبي ١٦/٦٢..
٩ ساقط من ب وانظر رأي قتادة في معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٠٥..
١٠ القرطبي السابق والرازي ٢٧/١٩٤..
١١ كذا ما أثبته من الرازي وفي ب وفي أ "ثبت" بدون همزة التعدية..
١٢ قاله الإمام الرازي في مرجعه السابق..
قوله تعالى :﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً ﴾ في نصب «صفحاً » خمسةُ أوجه :
أحدهما : أنه مصدر في معنى يضرب١ ؛ لأنه يقال : ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال :
٤٣٨٩ اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ٢
والتقدير : أفنصفح عنكم الذكر، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك.
الثاني : أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين٣.
الثالث : أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة، فيكون عامله محذوفاً، نحو :﴿ صُنْعَ الله ﴾ [ النمل : ٨٨ ] قاله ابن عطية٤.
الرابع : أن يكون مفعولاً من أجله٥.
الخامس : أن يكون منصوباً على الظرف.
قال الزمخشري : و«صَفْحاً » على وجهين : إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه، منتصب على أنه مفعول له، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم ؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً ؟ فينتصب على الظرف، نحو : ضَعْهُ جانباً، وأمْش جنباً، وبعضده قراءة : صُفْحاً بالضم٦. يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ٧ وسُمَيْطِ بن عُمَر٨ وشُبَيْل بن عَزرَةَ٩ قرأوا : صُفْحاً بضم الصاد وفيه احتمالات :
أحدهما : ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح، ويكون ظرفاً١٠. وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح ؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ١١.
والثاني : أنه جمع صَفُوحٍ، نحو : صَبُورٍ، وصُبْر، فينتصب حالاً من فاعل «يَضْرِبُ »١٢ وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء، أي : أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ١٣. وقد تقدم ما فيه.
قوله :﴿ أَن كُنتُمْ ﴾ قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر، على أنها١٤ شرطيه. وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و«إنْ » إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان.
وأجاب الزمخشري : أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي١٥ بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير :«إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي »، وهو عالم بذلك، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي١٦ فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم١٧.
وقيل : المعنى على المُجَازَاة، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم، أي إنكم غير متروكين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين١٨. وهذا أراد أبو البقاء بقوله : وقرئ : إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب١٩، والباقون بالفتح على العلة، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله :
٤٣٩٠ أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ . . . . . . . . . . . . . . . . ٢٠
ومثله قوله :
٤٣٩١ أَتَجْزَعُ أَن أُذْنَا قُتَيْبَةَ جُزَّتَا . . . . . . . . . . . . . . . . . ٢١
يروى بالكسر والفتح، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة. وقرأ زيدُ بنُ عليّ : إذا بذالٍ عوضِ النون٢٢ وفيها معنى العلة، كقوله :﴿ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٩ ].

فصل


قال الفراء٢٣ والزجاج٢٤ : يقال : ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ. أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ، وقوله :«صَفْحاً » أي إعراضاً، والأصل فيه : إنك تَوَلَّيْتَ٢٥ بصَفْحَةِ عُنُقِكَ. والمراد بالذكر عذابُ الله. وقيل : أفنرُدُّ عنكم النصائح والمواعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين، وقيل : أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن٢٦، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى : أفنترك عنكم الوحي، ونمسك عن إنزال القرآن، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان ؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ، قال قتادة : والله لو كان هذا القول٢٧ رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله.
وقيل : معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ٢٨. وقال الكسائي : أفنطوي عنك الذّكْرَ طَيًّا، فلا تدعون ولا توعظون٢٩، وقال الكلبي : أَفَنَتْركُكُم سُدًى، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ٣٠. وقال مجاهد والسدي : أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم٣١.
١ في ب نضرب بالنون، وانظر البيان ٢/٣٥٢..
٢ من المنسرح لطرفة، وروي البيت: بالسوط بدل بالسيف وهي رواية قليلة بجانب الرواية الأولى. والشاهد: أن الضرب بمعنى الإعراض والنسيان أن انس ذلك وأعرض عنه ولا تتذكره فهو مجاز. وانظر النوادر لأبي زيد ١٦٥، والكشاف ٣/٣٧٨ والبحر المحيط ٨/٥ واللسان ٣٧٥٢، والخصائص ١/١٢٦، والممتع ١/٣٢٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٩/٤٤، والمغني ٦٤٢ والإنصاف ٥٦٨ وشرح شواهد المغني للسيوطي ٩٣٣ والهمع ٢/٧٩ والأشموني ٣/٢٢٨..
٣ التبيان ١١٣٨..
٤ البحر المحيط ٨/٦..
٥ الكشاف ٣/٤٧٨..
٦ السابق مع اختلاف بسيط في العبارة..
٧ روي عن النبي، وهم ابن عمر، انظر أسد الغابة ٢/٢٥٨..
٨ السدوسي أبو عبد الله البصري عن أبي موسى وعنه عاصم الأحول، الخلاصة ١٦٢..
٩ الضبعي أبو عمرو البصري أحد أئمة العربية، عن أنس، وشهر بن حوشب، وعنه الزبيدي وشعبة انظر خلاصة الكمال. المرجع السابق. وهذه القراءة شاذة غير متواترة انظر الشواذ لابن خالويه ١٣٤..
١٠ قاله السمين في الدر ٤/٧٧٢..
١١ قال: قرئ بضم الصاد، والأشبه أن يكون لغة. انظر التبيان له ١١٣٧..
١٢ ذكره الزمخشري في الكشاف ٣/٤٧٨..
١٣ المرجع السابق..
١٤ ذكره مكي في الكشف ٢/٢٥٥ وهي سبعية وانظر أيضا الكشاف ٣/٤٧٨..
١٥ في الكشاف: عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته..
١٦ وفيه: أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له. وانظر الكشاف ٣/٤٧٨..
١٧ واللفظ لشهاب الدين السمين في الدر ٤/٧٧٣ نقلا بالمعنى عن الزمخشري..
١٨ المرجع السابق..
١٩ التبيان ١١٣٧ وقد قرأ بالكسر أيضا مع نافع وحمزة الكسائي والأعمش، وانظر الكشف لمكي ٢/١٥٥. ومعاني القرآن للفراء ٣/٢٧ والإتحاف ٣٨٤، والسبعة ٥٨٤..
٢٠ صدر بيت من الطويل، ولم أعرف قائله وعجزه:
............................... وحبل الصفا من عزة المتقطع
والخليط: القوم الذين أمرهم واحد، والشاهد: ورود البيت بكسر الهمزة وفتحها فالفتح على تقدير حرف العلة، أي لأن، والكسر على شرط وتقدير الفتح: أتجزع لبين الخليط، وقد أوضح الزمخشري قبل كسر الهمزة على الشرطية وانظر معاني الفراء ٢/١٣٤ و٣/٢٨، والخزانة ٩/٨٠ والدر المصون ٤/٧٧٣..

٢١ من الطويل كسابقه وهو للفرزدق في هجاء جرير، ومدح سليمان بن عبد عبد الملك وعجزه:
................................ جهارا ولم تجزع لقتل ابن خازم
وقتيبة هو ابن مسلم الباهلي القائد المشهور، وابن خازم أمير خراسان، وحزتا: قطعتا. ويروى البيت أتغضب بدل: أتجزع، والمعنى واحد وشاهده كسابقه وورود البيت بالكسر والفتح، فالفتح على تقدير حرف الجر وهو لام العلة والكسر على الشرط كما أجاب عن ذلك الزمخشري والكسر فيه وفي البيت قبله وارد كورود الفتح، وهنا في البيت يقدر فعل دل عليه حز، كقوله: ﴿إذا السماء انشقت﴾وانظر الكتب ٣/١٦١ ومعاني الفراء ٣/٢٧، والخزانة ٩/٧٨، ٨٦ والهمع ٢/١٩ والمغني ٢٦ و٣٥ و٣٦ وشرح الشواهد ٨٦، والدر المصون ٣/٧٧٣ وديوانه ٢/٣١١..

٢٢ البحر المحيط ٨/٦..
٢٣ انظر معاني القرآن للفراء ٣/٢٨..
٢٤ معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٠٥..
٢٥ في الرازي والنسختين تولية..
٢٦ لرازي ٢٧/١٩٣، ١٩٤ والقرطبي ١٦/٦٢..
٢٧ الرازي ٢٧/١٩٣، ١٩٤ والقرطبي ١٦/٦٢..
٢٨ الكشاف ٣/٤٧٨..
٢٩ القرطبي ١٦/٦٢..
٣٠ ونسب الرأي للسدي انظر السابق..
٣١ السابق أيضا..
قوله: ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا﴾ «كم» خبرية مفعول قمدم، و ﴿مِن نَّبِيٍّ﴾ و ﴿فِي الأولين﴾ يتعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة «لِنَبِيٍّ» والمعنى: أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا ينبغي أن يُتَأَذَّى بسبب تكذيبهم، وأستهزائهم، لأن المصيبة إذا عمت خفت.
ثم قال: ﴿فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً﴾ أي إن أولئك المتقدمين الذين إرسل إليكم الرسل، كانوا أشدَّ بطشاً من قريب وأَكْثَرَ عَدداً وجلَداً.
قوله «بطشاً» فيه وجهان:
أحدهما: أ، هن تمييز «لأشد» والثاثن: أنه حال من الفاعل أي أهْلَكْنَاهُمْ بَاطِشينَ.
قوله: ﴿ومضى مَثَلُ الأولين﴾ والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فَلْيَحْذَرُوا أنْ يَنْزِلَ بهم الخِزْيُ مثْلَ أنزل بالأولين. أي صفتِهم وسنتهم وعقوبتهم، فعاقبة هؤلاء كذلك في الإهلاك.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض... ﴾ الآية والمعنى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ من خَلَقَ السموات والأرض؟ وقيل: الضمير في «سألتهم» يحتمل رجوعه إلى الأنبياء. والأقرب الأول، أي منهم مع كفرهم مقرين بعزته، وعلمه، ثم عبدوا غيره، وأنكروا قدرته في البعث، لفَرْطِ جَهْلِهِمْ.
قوله: ﴿خَلَقَهُنَّ العزيز العليم﴾ كرر الفعل للتوكيد؛ إذ لو جاء «العزيز» بغير «خلقهن» كلان كافياً، كقولك: مَنْ قَامَ؟ فيقال: زيدٌ. وفيها دليل على أن الجلالة الكريمة من قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧] مرفوعة بالفاعلية، لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتها.
وهذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى؛ إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال.
قوله: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾ اعلم أنه تقد تم الإخبارُ عنهم، ثم ابتدأ
233
دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾ ولو كان هذا من جملة كلام الكفار لقالوا: الذي جعل لنا الأرض مِهَادً، إلا أن قوله في أثناء الكلام: ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ لا يليق إلا بكلامه.
ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلاً يقول: الذي بنى هذا المسجدَ فلانٌ العَالِمُ فيقول السَّامع لهذا الكلام: الزاهدُ الكريمُ، كأن ذل السامع يقول: أنا أعرفه بصفات حميدةٍ فوق ما تعرفه فأَزِيدُ في وصفه، فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد.
ومعنى كون الأرض مهاداً واقعة ساكنة، فإنها لو كانت متحركة لما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية، وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهدَ موضعَ راحة الصبي. فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ وذلك أن انتفاع الناس بها إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض، فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليهاعلامات، ليصح بها الانتفاع.
ثم قال: ﴿لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى مَقَاصِدِكم في أسفاركم، أو لتهتدوا إلى الحق في الدِّينِ.
قوله تعالى: ﴿والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ﴾ أي بِقَدْرِ حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نُقْصَان، لا كما أنزل على قولم نوع بغير قدر حتى أَغْرَقَهُمْ.
قوله: ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ قرأ العامة مُخَفَّفاً، وعِيسَى وأبو جَعْفَرٍ مُثَقَّلاً، وتقدم الكلام فيه في آل عمران. وتقدم في الأعراف الخلاف في تَخْرُجُونَ وتُخْرَجُونَ أي كما أحيينا هذه البلدة بالمطر، ومعنى الميتة الخالية من النبات، كذلك تخرجون من قبوركم أحياء. والمعنى أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على المبعث والقيامة.
ووجه التشبيه أنه جعلهم أحياءَ بعد إماتةٍ كهذه الأرض لتي انْتَشَرَتْ بعدما كانت ميتةً.
234
قيل: بل وجه التشبيه أنه يُعيدهم ويُخْرجهم من الأرض بماءٍ كالمني مكا تَبْبُتُ الأرضُ بماء المطر، وهذا ضعيف؛ لأن ظاهر لفظ الإنشار الإعادة فقط دون هذه الزيادة.
قوله تعالى: ﴿والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا﴾، قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) الأزواج الضروب والأنواع كالحُلو والحَامِض والأبيض والأسود والذكر والأنثى.
وقال بعض المحققين: كل ما سوى الله فهو زَوْج، كالفَوْق، والتَحْتِ، واليَمِين، واليَسَار، والقُدَّام والخَلْفِ، والمَاضِي، والمُسْتَقْبَلش، والذَّواتِ والصِّفاتِ، والصيفِ، والشِّتاء، والربيعِ والخريفِ. وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثةً مسبوقةٌ بالعدم، فأما الحق تعالى فهو المفرد المنزه عن الضِّدِّ والنِّدِّ، والمقابل، والمعاضِد، فلهذا قال تعالى: ﴿والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا﴾ أي كل ما هو زوج فهو مخلوق، فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية.
قال ابن الخطيب: وأيضاً علماء الحساب بينوا أن المفرد أفضل من الزوج لوجوه:
الأول: أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وَحْدَتَيْنِ، فالزوج مُحْتَاجٌ إلى الفرد، والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج.
الثاني: أن الزوج يقبل القسمة بقسمين مُتَسَاوِيَيْنِ والفرد لا يقبل القسمة، وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة، فكان الفرد أفضل من الزوج.
(ثم ذكر وجوهاً أُخَرَ تدل على أن الفرد أفضل من الزوج) وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكناتٌ ومحدَثاتٌ ومَخْلُوقَاتٌ وأن الفردَ هو القائم بذاته المستقلّ بنفسه، الغني عَمَّا سِوَاهُ.
قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ﴾ ما موصولة وعائدها محذوف، أي ما تَرْكَبُونَهُ، وركب بالنسبة (إلى الفلك) يتعدى بحرف الجر: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك﴾ [العنكبوت: ٦٥] وفي غيره بنفسه، قال: ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ [النحل: ٨] فغلب هنا المتعدي بنفسه على المتعدي بواسطة، فلذلك حذف العائد.
235

فصل


السَّفَرُ إما أن يكون في البحر، وإما أن يكون في البرِّ، فأما سفر البحر فعلى السفينة، وأما سفر البر فعلى الأنعام.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل على ظهورها؟
فالجواب: من وجوه:
الأول: قال أبو عبيدة التذكير لقوله: «مَا تَرْكَبُوَ» والتقدير: ما تركبونه، فالضمير يعود على لفظ «ما» فلذلك أَفْرَدَهُ.
الثاني: قال الفراء: أضاف الظهر إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجنس، فلذلك ذَكَّرَهُ، وجمع الظهور باعتبار معناها.
الثالث: أن التأنيث فيها ليس حقيقاً، فجاز أن يختلف اللفظ فيه، كما يقال: عِنْدِي مِنَ النِّسَاء مَنْ يُوَافِقُكَ.
قوله: «لِتَسْتَوُوا» يجوز أن تكون هذه لام العلة، وهو الظاهر وأن تكون للصيرورة فتتعتلق في كليهما ب «جَعَل». وجوز ابن عطية: أن تكون للأمر، وفيه بعد، لقلة دخولها على أمر المخاطب.
وقُرىءَ شاذاً: فَلْتَفْرَحُوا وفي الحديث: «لِتَأْخُذُوا مَصَافَّكُمْ» وقال:
236
نص النحويون على قلتها عدا أَبَا القَاشِم الزَّجَّاجِيِّ، فإنه جعلها لغة جيدة.
قوله: ﴿ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ﴾ أي تذكرونها في قلوبكم، وذلك الذكر هو أن يَعْرِف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح، وخلق جُرْمَ السفينة على وجه يُمْكِنُ الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر، وخلق الرياح، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته، إنما هو من تدبير الحيكم العليم القدير، عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيَحْمِلُهُ ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى، وعلى الاشتغال بالشكر، لنعم الله التي نهاية لها.
قوله: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ مطيقين وقيل: ضابطين.
واعلم أنه تعالى عين ذكراً لركوب السفينة والدابة، وهو قوله: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا﴾ وذكر دخول المنازل: ﴿رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين﴾ [المؤمنون: ٢٩] وتحقيقه أن الدابة المركوبة لا بدّ أن تكون أكثرَ قوة من الإنسان بكثير، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان، ولكنه تعالى خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وخلقها الباطن، فحصل منها هذا لانتفاع. أما خَلْقُها الظاهر، فلأنها تَمْشِي على أربَعٍ، وكان ظهرها يحسن لاستقرار الإنسان وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد صيّرها الله تعالى مُنْقَادةً للإنسان، ومسخّرة له، فَإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب عَظُمَ تعجبه من تلك القدرة، والحكمة التي لا نِهاية لها، فلا بدّ وأن يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
قوله: « (لَهُ) مُقِرْنِينَ»، «له» متعلق «بمقرنين»، وقدم الفواصل. والمُقْرِنُ: المُطيقُ للشيء الضابط له من: أَقْرَنَهُ: أي أَطَاقَهُ. قال الواحدي: كأن اشتقاقه من قولك: صِرْتُ له قِرْناً، ومعنى قِرْن فُلاَنٍ، أي مثلُهُ في الشِّدة.
وقال أبو عبيدة: قِرْنٌ لفلانٍ أي ضابط له. والقَرْنُ الحَبْلُ، وقال ابن هَرْمَةَ:
237
٤٣٩٢ - لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ فَتَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِينَا
٤٣٩٣ - وَأقْرَنْتُ مَا حَمَّلِتْنِي وَلَقَلَّمَا يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ والهَجْرُ
وقال عمرو بن معد يكرب:
٤٣٩٤ - لَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا
وحقيقة أقْرَنَهُ: وجده قَرِينهُ؛ لأن القوي لا يكون قرينه الضعيف، قال (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
٤٣٩٥ - وابنُ اللَّبُون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ
وقرىء: مُقْتَرِنِينَ بالتاء قبل الراء.

فصل


ومعنى الآية ليس عندنا من القوة والطاعة أن نقرن هذه الدابة والفلك، وأن نضبطها فسُبْحانَ مَنْ سَخَّر لنا هذا بقدرته وحكمته، روى الزمخشريّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنه كان إذا وضع رِجْلَهُ في الركاب، قال: بِسْم اللهِ، فإذا استوى على الدَّابَّةِ قال: الحَمْدُ لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ».
وروى عن عليٍّ أيضاً مثله وزاد: ثم حمَّد ثلاثاً، وكبَّر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: مما تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال: «رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَعَلَ ما فعلتُ، فقلنا: ما يضحكك يا نبيَّ
238
الله؟ قال: العبدُ إذا قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يفغر الذنوب إلا أنت بعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هُوَ».

فصل


دلت هذه الآية على خلاف قول المُجَبِّرة من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: «لِتَسْتَوُوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتكم عليه» فذكره بلام «كَيْ» وهذا يدل على أنه أراد منا هذا الفعل وهذا يدل على بطلان قولهم: إنه تعالى أراد الكفر منه.
الثاني: قوله «لتستوو» يدل على أن فعله معلّل بالأغراض.
الثالث: أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر عن العبد ولو كان فعل العبد فعلاً لله لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات على هذه الطبائع لأجل أن أَخْلُقَ سُبْحَانَ الله في لسان العبد. وهذا باطل؛ لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوَسَائِطِ.
قال ابن الخطيب: «الكلام على هذه الوجوه معلوم مما تقدم فلا فائدة في الإعادة».
قوله: ﴿وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ أي لمُصَيَّرُونَّ في المعاد. ووجه اتصال الكلام بما قبله أن راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً؛ لأن الدابة قد حصل لها ما يوجب هلاك الراكب، وكذا السفينة قد تنكسر، ففي ركوبهما تعريض النفس للهَلاَك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت، ويقطع أنه هالك، وأنه منقلب إلى الله، وغير منقلب من قَضَائِهِ وقدره، فإذا اتفق له ذلك (المحذور) كان قد وطن نَفْسَهُ على الموت.
239
ثم قال :﴿ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ﴾ أي إن أولئك المتقدمين الذين أرسل إليهم الرسل، كانوا أشدَّ بطشاً من قريب وأَكْثَرَ عَدداً وجلَداً.
قوله «بطشاً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه تمييز «لأشد » والثاني : أنه حال من الفاعل أي أهْلَكْنَاهُمْ بَاطِشينَ١.
قوله :﴿ ومضى مَثَلُ الأولين ﴾ والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فَلْيَحْذَرُوا أنْ يَنْزِلَ بهم الخِزْيُ مثْلَ أنزل بالأولين٢. أي صفتِهم وسنتهم وعقوبتهم، فعاقبة هؤلاء كذلك في الإهلاك.
١ نقل هذه الإعرابات كلها أبو البقاء في التبيان ١١٣٧، والسمين في الدر المصون بتفصيل نقلا عنه ٤/٧٧٣..
٢ قال بهذه المعاني الرازي في تفسيره ٢٧/١٩٥..
قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض. . . ﴾ الآية والمعنى : وَلَئِنْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ من خَلَقَ السموات والأرض ؟ وقيل : الضمير في «سألتهم » يحتمل رجوعه إلى الأنبياء. والأقرب الأول، أي منهم مع كفرهم مقرين بعزته، وعلمه، ثم عبدوا غيره، وأنكروا قدرته في البعث، لفَرْطِ جَهْلِهِمْ١.
قوله :﴿ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم ﴾ كرر الفعل للتوكيد ؛ إذ لو جاء «العزيز » بغير «خلقهن » لكان كافياً، كقولك : مَنْ قَامَ ؟ فيقال : زيدٌ. وفيها دليل على أن الجلالة الكريمة من قوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾٢ [ الزخرف : ٨٧ ] مرفوعة بالفاعلية، لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتها.
وهذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى ؛ إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال.
١ انظر الرازي ٢٧/١٩٦ و١٩٥ بالمعنى منه..
٢ انظر هذا في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي ٢/٥٠، والدر المصون للإمام السمين الحلبي ٤/٧٧٣..
قوله :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً ﴾١ اعلم أنه تقد تم الإخبارُ عنهم، ثم ابتدأ دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهاداً ﴾ ولو كان هذا من جملة كلام الكفار لقالوا : الذي جعل لنا الأرض مِهَادًا، إلا أن قوله في أثناء الكلام :﴿ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ لا يليق إلا بكلامه.
ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلاً يقول : الذي بنى هذا المسجدَ فلانٌ العَالِمُ فيقول السَّامع لهذا الكلام : الزاهدُ الكريمُ، كأن ذل السامع يقول : أنا أعرفه بصفات حميدةٍ فوق ما تعرفه فأَزِيدُ في وصفه، فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد٢.
ومعنى كون الأرض مهاداً واقعة ساكنة، فإنها لو كانت متحركة لما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية، وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهدَ موضعَ راحة الصبي. فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ وذلك أن انتفاع الناس بها إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض، فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات، ليحصل بها الانتفاع٣.
ثم قال :﴿ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ إلى مَقَاصِدِكم في أسفاركم، أو لتهتدوا إلى الحق في الدِّينِ٤.
١ في النسختين مهادا وما ذكرته موافق للمصحف والمعهود منه..
٢ نقله الرازي في تفسيره ٢٧/١٩٦..
٣ الرازي في تفسيره ٢٧/١٩٦..
٤ الرازي في تفسيره ٢٧/١٩٦..
قوله تعالى :﴿ والذي نَزَّلَ مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ ﴾ أي بِقَدْرِ حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نُقْصَان، لا كما أنزل على قوم نوع بغير قدر حتى أَغْرَقَهُمْ١.
قوله :﴿ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ قرأ العامة مُخَفَّفاً، وعِيسَى٢ وأبو جَعْفَرٍ٣ مُثَقَّلاً، وتقدم الكلام فيه في آل عمران٤. وتقدم في الأعراف الخلاف في تَخْرُجُونَ وتُخْرَجُونَ٥ أي كما أحيينا هذه البلدة بالمطر، ومعنى الميتة الخالية من النبات، كذلك تخرجون من قبوركم أحياء. والمعنى أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على المبعث والقيامة.
ووجه التشبيه أنه جعلهم أحياءَ بعد إماتةٍ كهذه الأرض لتي انْتَشَرَتْ بعدما كانت ميتةً.
قيل : بل وجه التشبيه أنه يُعيدهم ويُخْرجهم من الأرض بماءٍ كالمني كما تَنْبُتُ الأرضُ بماء المطر، وهذا ضعيف ؛ لأن ظاهر لفظ الإنشار الإعادة فقط دون هذه الزيادة.
١ المرجع السابق..
٢ المراد به الثقفي ـ كما تقدم ـ عند الإطلاق..
٣ أحد العشرة..
٤ عند قوله: ﴿وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي﴾ ٢٧، وقد روي حفص عن عاصم التشديد في كل ما ورد في القرآن من هذا الحرف، وقرأ بالتخفيف ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو وابن عامر، وبالتثقيل قرأ نافع وحمزة والكسائي، انظر السبعة ٢٠٣، والإتحاف ١٧٢..
٥ يقصد الآية ٢٠ ومنها تخرجون فعلى البناء للفاعل قرأ حمزة وخلف والكسائي في الأعراف وفي الزخرف، وفي البناء للمجهول قرأ الباقون وانظر الإتحاف ٢٢٣، والسبعة ٥٨٤، والبحر ٨/٧..
قوله تعالى :﴿ والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا ﴾، قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) الأزواج الضروب والأنواع كالحُلو والحَامِض والأبيض والأسود والذكر والأنثى.
وقال بعض المحققين : كل ما سوى الله فهو زَوْج، كالفَوْق، والتَحْتِ، واليَمِين، واليَسَار، والقُدَّام والخَلْفِ، والمَاضِي، والمُسْتَقْبَل، والذَّواتِ والصِّفاتِ، والصيفِ، والشِّتاء، والربيعِ والخريفِ. وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثةً مسبوقةٌ بالعدم، فأما الحق تعالى فهو المفرد المنزه عن الضِّدِّ والنِّدِّ، والمقابل، والمعاضِد، فلهذا قال تعالى :﴿ والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا ﴾ أي كل ما هو زوج فهو مخلوق، فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية.
قال ابن الخطيب : وأيضاً علماء الحساب بينوا أن المفرد١ أفضل من الزوج لوجوه :
الأول : أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وَحْدَتَيْنِ، فالزوج مُحْتَاجٌ٢ إلى الفرد، والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج.
الثاني : أن الزوج يقبل القسمة بقسمين مُتَسَاوِيَيْنِ والفرد لا يقبل القسمة، وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة، فكان الفرد أفضل من الزوج.
( ثم ذكر وجوهاً٣ أُخَرَ٤ تدل على أن الفرد أفضل من الزوج ) وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكناتٌ ومحدَثاتٌ ومَخْلُوقَاتٌ وأن الفردَ هو القائم بذاته المستقلّ بنفسه، الغني عَمَّا سِوَاهُ.
قوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ ﴾ ما موصولة وعائدها محذوف، أي ما تَرْكَبُونَهُ، وركب بالنسبة ( إلى الفلك )٥ يتعدى بحرف الجر :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] وفي غيره بنفسه، قال :﴿ لِتَرْكَبُوهَا ﴾ [ النحل : ٨ ] فغلب هنا المتعدي بنفسه على المتعدي بواسطة، فلذلك حذف العائد٦.

فصل


السَّفَرُ إما أن يكون في البحر، وإما أن يكون في البرِّ، فأما سفر البحر فعلى السفينة، وأما سفر البر فعلى الأنعام.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل على ظهورها ؟
فالجواب من وجوه :
الأول : قال أبو عبيدة التذكير لقوله٧ :«مَا تَرْكَبُونَ »٨ و التقدير : ما تركبونه، فالضمير يعود على لفظ «ما » فلذلك أَفْرَدَهُ.
الثاني : قال الفراء : أضاف الظهر إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجنس، فلذلك ذَكَّرَهُ، وجمع الظهور باعتبار معناها٩.
الثالث : أن التأنيث فيها ليس حقيقاً، فجاز أن يختلف اللفظ فيه، كما يقال : عِنْدِي مِنَ النِّسَاء مَنْ يُوَافِقُكَ١٠.
١ كذا هي في أ وما في الرازي وب الفرد..
٢ في الرازي: يحتاج..
٣ ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر..
٤ انظرها في تفسيره ٢٧/١٩٧ و١٩٨ وانظر كل ما سبق في التفسير ٢٧/١٩٧ و١٩٨..
٥ سقط من ب..
٦ قاله في الكشاف معنى ٣/٤٧٩، وفي الدر المصون لفظا ٤/٤٧٤..
٧ في ب بقوله..
٨ نقله في مجاز القرآن ٢/٢٠٢..
٩ ينظر معاني القرآن له ٣/٢٨ و٢٩..
١٠ قاله الرازي في تفسيره الكبير ٢٧/١٩٨، ١٩٩..
قوله :«لِتَسْتَوُوا » يجوز أن تكون هذه لام العلة، وهو الظاهر١ وأن تكون للصيرورة فتتعلق في كليهما ب «جَعَل »٢. وجوز ابن عطية : أن تكون للأمر٣، وفيه بعد، لقلة دخولها على أمر المخاطب.
وقرئ شاذاً : فَلْتَفْرَحُوا٤ وفي الحديث :«لِتَأْخُذُوا مَصَافَّكُمْ »٥ وقال :
٤٣٩٢ لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ فَتَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِينَا٦
نص النحويون على قلتها عدا أَبَا القَاسم الزَّجَّاجِيِّ٧، فإنه جعلها لغة٨ جيدة٩.
قوله :﴿ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ ﴾ أي تذكرونها في قلوبكم، وذلك الذكر هو أن يَعْرِف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح، وخلق جُرْمَ السفينة على وجه يُمْكِنُ الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر، وخلق الرياح، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته، إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير، عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيَحْمِلُهُ ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى، وعلى الاشتغال بالشكر، لنعم الله التي نهاية لها.
قوله :﴿ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ مطيقين١٠ وقيل : ضابطين١١.
واعلم أنه تعالى عين ذكراً لركوب السفينة والدابة، وهو قوله :﴿ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا ﴾ وذكر دخول المنازل :﴿ رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين ﴾ [ المؤمنون : ٢٩ ] وتحقيقه أن الدابة المركوبة لا بدّ أن تكون أكثرَ قوة من الإنسان بكثير، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان، ولكنه تعالى خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وخلقها الباطن، فحصل منها هذا لانتفاع. أما خَلْقُها الظاهر، فلأنها تَمْشِي على أربَعٍ، وكان ظهرها يحسن لاستقرار الإنسان وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد صيّرها الله تعالى مُنْقَادةً للإنسان، ومسخّرة له، فَإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب عَظُمَ تعجبه من تلك القدرة، والحكمة التي لا نِهاية لها، فلا بدّ وأن يقول : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين١٢.
قوله :«( لَهُ )١٣ مُقِرْنِينَ »، «له » متعلق «بمقرنين »، وقدم الفواصل. والمُقْرِنُ : المُطيقُ للشيء الضابط له من : أَقْرَنَهُ : أي أَطَاقَهُ. قال الواحدي : كأن اشتقاقه من قولك : صِرْتُ له قِرْناً، ومعنى قِرْن فُلاَنٍ، أي مثلُهُ في الشِّدة١٤.
وقال أبو عبيدة : قِرْنٌ لفلانٍ أي ضابط له١٥. والقَرْنُ الحَبْلُ١٦، وقال ابن هَرْمَةَ :
٤٣٩٣ وَأقْرَنْتُ مَا حَمَّلِتْنِي وَلَقَلَّمَا يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ والهَجْرُ١٧
وقال عمرو بن معد يكرب :
٤٣٩٤ لَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا١٨
وحقيقة أقْرَنَهُ : وجده قَرِينهُ ؛ لأن القوي لا يكون قرينه الضعيف١٩، قال ( رحمه الله )٢٠ :
٤٣٩٥ وابنُ اللَّبُون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ٢١
وقرئ : مُقْتَرِنِينَ بالتاء قبل الراء٢٢.

فصل


ومعنى الآية ليس عندنا من القوة والطاعة أن نقرن هذه الدابة والفلك، وأن نضبطها فسُبْحانَ مَنْ سَخَّر لنا هذا بقدرته وحكمته٢٣، روى الزمخشريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا وضع رِجْلَهُ في الركاب، قال : بِسْم اللهِ، فإذا استوى على الدَّابَّةِ قال : الحَمْدُ لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ »٢٤.
وروى عن عليٍّ أيضاً مثله وزاد : ثم حمَّد ثلاثاً، وكبَّر ثلاثاً، ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل : مما تضحك يا أمير المؤمنين ؟ قال :«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ما فعلتُ، فقلنا : ما يضحكك يا نبيَّ الله ؟ قال : العبدُ إذا قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يفغر الذنوب إلا أنت بعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هُوَ »٢٥.

فصل


دلت هذه الآية على خلاف قول المُجَبِّرة من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال :«لِتَسْتَوُوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتكم عليه » فذكره بلام «كَيْ » وهذا يدل على أنه أراد منا هذا الفعل وهذا يدل على بطلان قولهم : إنه تعالى أراد الكفر منه.
الثاني : قوله «لتستوو » يدل على أن فعله معلّل بالأغراض.
الثالث : أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر عن العبد ولو كان فعل العبد فعلاً لله لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات على هذه الطبائع لأجل أن٢٦ أَخْلُقَ سُبْحَانَ الله في لسان العبد. وهذا باطل ؛ لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوَسَائِطِ٢٧.
قال ابن الخطيب :«الكلام على هذه الوجوه معلوم مما تقدم فلا فائدة في الإعادة »٢٨.
١ وهو رأي أبي حيان المفضل، البحر ٨/٧..
٢ نقله أبو حيان عن الحوفي في المرجع السابق..
٣ المرجع السابق..
٤ ذكر ابن خالويه في مختصره (٥٧) أنها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن الكسائي في رواية زكريا بن وردان..
٥ سيف هذا الحديث..
٦ من الخفيف ولم أعرف قائله من خلال ما قلبت من مراجع، ويروى: فتقضى ـ بالبناء للمفعول ـ كما يروى: فلتقضي ـ بلام الأمر ـ ويكون حينئذ فيه شاهدان فالشاهد: مجيء لام الأمر داخلة على المضارع المبدوء بالتاء وهو في الشعر أكثر منه في النثر. وقوله فلتقضي تكون الياء إشباعا عن حركة الكسرة، وانظر البيت في الخزانة ٩/١٤ والإنصاف المسألة رقم ٧٢/٥٢٤ إلى ٥٣٨. وقد احتج بت الكوفيون على أن فعل الأمر معرب لا مبني، وهو من الشواذ والقلة عند النحويين، لأن لام الأمر لا تدخل على أمر المخاطب والأكثر الاستغناء عنه هذا الفعل الأمر. وانظر كذلك شرح الكافية ٢/٢٥٢ وابن يعيش ٧/٦١ وشرح الأشموني ٤/٣ والتصريح ١/٥٥ و٢/٢٤٦..
٧ عبد الرحمن بن إسحاق، أخذ عن ابن السراج، ولازم الزجاج فنسب إليه وله من الكتب كتاب "الجمل" مات سنة ٣٣٧ وانظر نزهة الأولياء ٢٠٤ و٢٠٥..
٨ في (ب) آفة وهو تحريف..
٩ انظر الدر المصون ٤/٧٧٥..
١٠ وهو قول ابن عباس والكلبي انظر القرطبي ١٦/٦٦..
١١ وهو رأي الأخفش وأبي عبيدة، انظر تفسير القرطبي ١٦/٦٦ والمجاز ٢/٢٠٢..
١٢ انظر تفسير الإمام الرازي ٢٧/١٩٨ و١٩٩..
١٣ سقط من (ب)..
١٤ وهذا رأي ابن سيده في المخصص "قرن" وابن منظور في اللسان ٣٦١٣..
١٥ مجاز القرآن ٢/٢٠٢..
١٦ اللسان المرجع السابق ٣٦١١..
١٧ من الطويل ومعناه إنني أطقت احتمال هجرك وصدك عني يا دعد.
والشاهد: أقرنت بمعنى أطقت واستطعت، انظر الدر المصون ٤/٧٧٥، والبحر المحيط ٨/٧، والكشاف ٣/٤٨٠، وشرح شواهده ٤٢١، وليس في ديوانه..

١٨ من الوافر له وليس في ديوانه أيضا كسابقه.
وشاهده: "بمقرنينا" أي بمطيقين، وانظر القرطبي في الجامع ١٧/٦٦ والبحر ٨/٧، والدر المصون ٤/٧٧٥..

١٩ بالمعنى من الكشاف ٣/٤٨٠ فقد قال: "وحقيقة أقرنه وحده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف"..
٢٠ ساقط من ب..
٢١ من البسيط ولم أعرف قائله. وشاهده أن القرن هو الحبل، وأن "أقرنه" المتعدي بهمزة لا يكون إلا بين متساويين كما أوضح أعلى قبل ولزه شده من لزه يلزه لزا ولزازا أي شده وألصقه. والبزل جمع أبزل وبازل وه الشق وذلك أن نابه ـ أب البعير ـ إذا طلع يقال له بازل لشقه اللحم عن منبته شقا..
٢٢ قراءة شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في بحره ٨/٧ إلا أنه ذكرها باللام. وقرئ المقترنين اسم فاعل من اقترن وانظر كذلك الكشاف ٣/٤٨٠..
٢٣ الرازي ٢٧/١٩٩..
٢٤ الكشاف ٣/٤٧٩ و٤٨٠..
٢٥ رواه علي بن أبي ربيعة عن علي بن أبي طالب انظر القرطبي ١٦/٦٨..
٢٦ في ب أني وما ذكر أعلى كما قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير..
٢٧ انظر تفسير الرازي ٢٧/١٩٩ وقد نقله عن صاحب الكشاف ولم أعثر عليه فيه..
٢٨ المرجع السابق..
قوله :﴿ وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ أي لمُصَيَّرُونَّ في المعاد١. ووجه اتصال الكلام بما قبله أن راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً ؛ لأن الدابة قد حصل لها ما يوجب هلاك الراكب، وكذا السفينة قد تنكسر، ففي ركوبهما تعريض النفس للهَلاَك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت، ويقطع أنه هالك، وأنه منقلب إلى الله، وغير منقلب من قَضَائِهِ وقدره، فإذا اتفق له ذلك ( المحذور )٢ كان قد وطن نَفْسَهُ على الموت٣.
١ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٠٦..
٢ زيادة من الرازي لتوضيح السياق..
٣ الرازي ٢٧/٢٢٠..
قوله: «جُزْءاً» قرأ عاصم في رواية أبِي بَكْرٍ جزءاً بضم الجيم والزَّاي، في كل القرآن، والباقون بإسكان الزاي في كُلِّ القرآن. وهما لغتان.
وأما حمزة فإذا وقف قال: جُزَا بفتح الزاي بلا همزٍ. و «جزءاً» مفعول أول للجعل والجعل تَصْيِيرٌ قولي. ويجوز أن يكون بمعنى سَمَّوْا واعْتَقَدُوا.
وأغربُ ما قيل هنا: أن الجزء الأنثى، وأنشدوا:
٤٣٩٦ - إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَومْاً فَلاَ عَجَبٌ قَدْ تُجْزِىءُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَانَا
وقال الآخر:
٤٣٩٧ - زَوَّجْتُهُ مِنْ بَنَاتِ الأَوْسِ مُجْزِئَةً لِلْعَوْسجِ اللَّدْنِ في أَبْيَاتِهَا زَجَلُ
قال الزمخشري: أثر الصنعة فيهما ظاهر.
وقال الزَّجَّاجُ والأَزْهَرِيُّ: هذه اللغة فاسدة، وهذه الآبيات مصنوعة.
240

فصل


المشهور أن المراد من هذا الجعل أنهم أثبتوا لله وَلَداً بمعنى حكموا به، كما تقول: جَعَلْتُ زيداً أفضلَ الناس أي وصَفْتُهُ وحكمتم به، وذلك قولهم: المَلاَئكةُ بناتُ الله؛ لأن ولد الرجل جزء منه، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، «فَاطِمَةُ بضْعَةٌ منِّي».
والمعقول من الولد أن ينفصل من الوالد جزء من أجزائه ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثلك ذلك الأصل، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه.
وقيل: المراد بالجزء إثبات الشركاء لله، وذلك أنهم لما أثبتوا الشركاء فقد زعموا أن كل العباد ليست لله، بل بعضها لله، وبضعها لغير الله، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم، بل جعلوا له من بعضهم جزءاً منهم. قالوا: وهذا القول أولى، لأنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله وحملنا الآية التي بعدها على إنكار الولد لله كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين، ثم قال: «إنَّ الإنسْسَانَ لَكَفُور» يعني الكافر لكفور جحود لنعم الله «مُبين» ظاهر الكفر.
قوله: ﴿أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ﴾ هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول اتخذ رَبُّكُمْ لِنَفْسِهِ البَنَاتِ و «أصْفَاكُمْ» أخلَصكم بالبَنين يقال: أصْفَيْتُ فُلاَناً أي آثَرْتُهُ به إيثَاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون فيه مشارك، كقوله: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين﴾ [الإسراء: ٤٠] فقوله: «وأصْفَاكُمْ» يجوز أن يكون داخلاً في حيز الإنكار معطوفاً على «اتَّخَذَ»، ويجوز أن يكون حالاً، أي أَمِ اتَّخَذَ ف يهذه الحالة. و «قد» مقدرة عن الجُمْهُورِ.

فصل


واعلم أن الله تعالى رَتَّبَ هذه المناظر على أحسن الوجوه، وذلك لأنه بين أن إثبات
241
الولد لله محال، وبتقدير أن ثبت الولد فجعله بنْتاً محالٌ أيضاً.
أما بيان أن إثباتَ الولد لله محال؛ فلأن الوَلَدَ لا بدّ وأن يكون جُزْءاً من الوَالِدِ، ولَمَّا كان له جزء كان مركباً، وكل مركب ممكن وأيضاً ما كان كذلك، فإنه يقبل الاتِّصالَ والانْفِصَالَ والاجْتَمَاعَ والافْتِرَاقَ وما كان كذلك فهو مُحْدَث عبد، فلا يكون إلهاً قديماً أزليًّا.
وأما المقام الثاني وهو أن يكون لله ولد فإنه يمتنع أن يكون بنتاً، لأن الابن أفضلُ من البنت فلو اتخذ لنفسه النبات وأعطلى البنينَ لعباده لزم أن يكون حال العبد أفضل وأكمل من حال الله، وذلك مدفوع ببديهة العقل.
قوله: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم﴾ تقدم نظيره. قال الزمخشري: «وقرىء هنا: وزَجْهُهُ مُسْوَدٌّ مُسْوَادٌّ بالرفع على أنها جملة في موضع خبر» ظل «، واسم» ظل «ضمير الشأن».

فصل


والمعنى بما ضرب للرحمن مثلاً، أي جعل لله شبهاً؛ لأنَّ كُلّ يُشْبِهُهُ، «ظَلَّ وَجْهُهُ» أي صار وجهه «مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» من الحز والغيظ. والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته؟ روي أن بعض العرب هجر بيته حين وضعت امرأته بِنْتاً فقالت المرأة:
٤٣٩٨ - مَا لأَبِي حَمْزَةَ لاَ يَأتِينَا يَظَلُّ فِي الَبْيتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانَ أَن لا نَلِدَ البَنِينَا لَيْسَ لَنَا مِنْ القَضَاءِ مَا شِينَا
وَإِنَّمَا نَأخُذُ مَا أُعْطِينَا...
242
قوله تعالى: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية... ﴾ يجوز في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكمون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر، أي: أَوَ تَجْعَلُونَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ.
والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ جزءٌ أو وَلَدٌ، إذ جعلوا الله جُزْءاً.
وقال البغوي: يجوز مأن يكون في محل خفض ردًّا على قوله: مما يخلق، وقوله: «بِمَا ضَرَبَ». وقرأ العامة يَنْشَأُ بفتح الياء وسكون النون من نشأ في كذا يَنْشأُ فِيهِ. والأَخَوَانِ وَحَفْصٌ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين مبنياً للمفعول أي يُرَبَّى وقرأ الجَحْدَرِيُّ كذلك، إلا أنه خفف الشين أخذه من أَنْشَأَهُ. والحسن: يُنَاشَأُ كيقاتل، مبنياً للمفعول. والمفاعلة تأتي بمعنى الإفعال، كالمُعَالاَةِ بمعنى الإعْلاَءِ.

فصل


المراد من هذا الكلام التنبيه على نُقْصَانِهَا والمعنى: أن الذي يتربى في الحِلية والزينة يكون ناقصَ الذات؛ لأنه لولا نُقْصَانُهام في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحِلْية، ثم بين نُقْصَانَ حالها بطريق آخرٍ وهو قوله: ﴿وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ﴾ الجملة حال. و «في الخِصَامِ» يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل عليه من بعده تقديره وهو لا يُبينُ في الخِصَام أي الحجة ويجوز أن يتعلق «بمُبِينٍ» وجاز للمضاف إليه أن يَعْمَلَ
243
فيما قبل المضاف، لأنَّ غَيْر بمعنى «لا» كما تقدم تحقيقه آخر الفاتحة.

فصل


المعنى وهو في المخاصمة غير مبين الحجة من ضعفهن وسَقَمَهِنّ. قال قتادة في هذه الآية: كل ما تتكلم امرأة، فتريد أن تتكلم بحُجَّتِها إلا تكلمت بالحُجَّةِ عليها.
قوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ جعلوا أي حكموا به.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عام: «عِنْدَ الرَّحْمَن» ظرفاً ويؤيده قوله: ﴿إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦] والباقون «عباد» جمع عَبْد والرسم يحتملها. وقرأ الأعمش كذلك، إلا أنه نصب «عباد» على إضمار فِعْل، أي الذين هم خُلِقُوا عِبَاداً ونحوه وقرأ عبد الله وكذلك هي في مصحفه الملائكة عبادَ الرحمن وأبي عبد الرحمن بالإفراد، وإناثاً هو المفعول الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقاد أو التصيير القولي. وقرأ زَيْدُ بْنُ عِليّ: أُنُثاً جمعُ الجَمْعِ.
قوله: «أَشَهِدُوا» قرأ نافع بهمزة مفتوحة، ثم بأخرى مضمومة مُسَهَّلةٍ بينها وبين الواو وسكون الشين على ما لم يسمّ فاعله أي أحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حين خلقوا، كقوله: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ [الصافات: ١٥٠]. وهذا استفهام على سبيل الإنكار. وقرأ قالون ذلك بالمد يعني بإدخَتال ألِفٍ بين الهمزتين، والقصر يعني بعندم الألف. الباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة. فنافع أدخل همزة للتوبيخ على «أَشَهِدُوا» فعلاً رباعياً مَبْنيًّا
244
للمفعول فسهّل همزته الثانية وأدخل ألفاً بينهما كراهة لاجتماعهما، وتارة لم يدخلها اكتفاء بتسيهل الثانية وهي أَوْجَهُ. والباقون أدخلوا همزة الإنكار على «شَهِدُوا» ثلاثياً. ولم ينقل أبو حيان عن نافع تسهيلَ الثانية. بل نقله عن عليِّ بْنِ أبي ط البٍ.
وقرأ الزهري أُشْهِدُوا رباعياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حذف الهمزة لدلالة القراءة الأخرى عليها، كما تقدم في قراءة أَعْجَميٌّ.
والثاني: أن تكون الجملة خبرية، وقعت صفة لإناثاً، أي أجَعَلُوهُمْ إنَاثاً مَشْهُوداً خَلْقَهُمْ كذلك.
قوله: ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ﴾ قرأ العام ستُكْتَب بالتاء من فوق مبنياً للمفعول «شهادتهم» بالرفع لقيامه مقام الفاعل؟ وقرأ الحسن: شَهَادَاتُهُمْ بالجَمْع، والزُّهْريُّ: سَيَكْتُبُ بالياء من تحت وهو في الباقي كالعامة. وابن عباس وزيدُ بْنُ عليّ وأبو جعفر وأبو حَيْوَةَ سَنَكْتُبُ بنون العظمة شَهَادَتَهُمْ بالنصب مفعولاً به.

فصل


المعنى سنكتب شهادتهم على الملائكة أنهم بنات الله ويسألون عنها. قال الكلبي ومقاتل: لما قالوا هذا القول سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ما يُدْرِيكُمْ أنهم إناث؟ قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لَمْ يُكَذِّبُ افقال اله تعالى: ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ عنها في الآخرة وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم، والعقاب الشديد.
245
قال المحققون: هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه:
أولها: إثبات الولد.
ثانيها: أن ذلك الولد بنت.
وثالثها: الحكم على هؤلاء الملائكة بالأنوية.

فصل


احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه القراءات، أما قراءة «عِنْدَ» بالنون، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ولفظة «هُمْ» يوجب الحصر والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم، فوجب كونهم أفضل من غيرهم، رعاية للفظ الدال على الحَصْرِ.
وأما قراءة عِبَاد جمع «العَبْد» فقد تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوصٌ بالمؤمنين، فقوله «عِبَاد الرَّحْمَنِ» يفيد حَصْرَ العُبُودِيَّة فيهم، فَإذَا كَانَ اللَّفظُ الدّالُ على العُبُوديَّة دالاً على حصر الفضل والقرب والشرب لهم وجب كونهم أفضل؛ والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ... ﴾ الآية يعنى الملائكة قاله قتادة ومقاتل والكلبي. وقال مجاهد: يعني الأوثان. وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياهم، لرضاه منا بعبادتها وهذا نوع آخر من كفرهم وشبهاتهم.

فصل


قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على فساد القول بالجبر في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين:
الأول: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: لو شاء الرحمن ما عَبَدْنَاهُمْ وهذا تصريح بقول المجبرة. ثم إنه تعالى أبطله بقولهم: ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ فثبت بطلان هذا المذهب ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] إلى قوله: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٨].
الثاني: أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم، فِأولها: قوله (تعالى) :﴿وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ وثانيها: قوله: ﴿وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً﴾ : قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾.
246
فلما حكى هذه الأقاويل بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض، فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً وأجاب الواحدي في البسيط بوجهين:
الأول: ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى: ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ عائد إلى قولهم: الملائكةُ بناتُ الله.
والثاني: أنهم أرادوا بقولهم: لَوْ شَاءَ الرحمن ما عبدناهم أنه أمرنا بذلك ورضي بذلك فقررنا عليه فأنكر عليهم ذلك.
قال ابن الخطيب: وهذان الوجهان عندي ضعيفان، أما الأول، فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بُطْلاَنهما، ثم حكى بعده وجهاً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين، ثم حكى البطلان، والوعيد، فصرف هذا الإبطال الذي ذكره عنه إلى كلام متقدم وأجنبي عنه في غاية البعد. وأما الوجه الثاني: فهو أيضاً ضعيف؛ لأن قوله: ﴿لو شاء الرحمن ما عبدناهم﴾ ليس فيه بيان متعلق خلاف تلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل، فوجب أن يكون التقدير: لو شاء الله أن نعبدَهم ما عبدناهم. وكلمة «لو» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة لعدم معبادتهم، وهذا غير مذهب المجبرة. والإبطال والإفساد يرجع إلى فساد هذا المعنى.
ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال: إنهم لما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية، فلهذا السبب استوجبوا الظن والذم. وأجاب الزمخشري عنه من وجهين:
الأول: أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل.
الثاني: أنه تعالى حكى فيهم ثلاثة أشياء وهي أنهم جعلوا له من عباده جزءاً، وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً، وأنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم قالوه على ظريق الهُزْء لا على سبيل الجدّ وجب أن يكون الحال
247
في الحِكَاية للقولين كذلك فيلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ومعلوم أنه كفر.
وأما القول بأن الظن في القولين الأولين إنما يوجد على بعض ذلك القول وبعض القول الثالث لا على نفسه، بل على إيراده على سبيل الاستهزاء فهذا يوجب تشويش النظم، وأنهم لا يجوز في كلام الله تعالى.
قال ابن الخطيب: والجواب الحق عندي عن هذا الحكم هو ما ذكرنا في سورة الأنعام وهو أن القوم لما ذكروا هذا الكلام، استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان، فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما مُتَطَابِقيْنِ وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم لمجرد قولهم: إن الله يريد الكفر من الكافر، بل لأجل أنهم قالوا: لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان، فإذا صرفنا الذمَّ إلى هذا سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية. وتمام التقرير موجود في سورة الأنعام.
قوله: ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ فيما يقولون ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ ما هم إلا كاذبون في قولهم: إن الله رَضِيَ عَنَّا بعبادتنا. وقيل: إنْ هُمْ إلا يخرصون في قولهم: الملائكة إناث وهم بنات الله.
قوله: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ﴾ أي من قبل القرآن، أو الرسول بأن يعبد غير الله ﴿فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل؟ أما إثباته بالعقل فهو أيضاً باطل، لقوله تعالى: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ والمعنى أنهم وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن، حتى جاز لهم أن يتمسكوا به؟ فذكر هذا في مَعْرِض الإنكار.
قوله: ﴿بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ والمقصود أنه تعالى لما بين أنه لا دليل على صحة قولهم ألبتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه ليس لهم حاملٌ يحمِلُهُم عليه إلا التقليد المحض. ثم بين أن تمسك الجهال بالتقليد أمر كان حاصلاً من قديم الزمان فقال: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ
248
مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}، قوله: أمه العامة على ضم الهمزة بمعنى الطريقة والدين قال قَيْسُ بن الخَطيم:
٤٣٩٩ - كُنَّا عَلَى أُمَّةِ آبَائِنَا وَيَقْتَدِي بالأَوَّلِ الآخرُ
أي على طرقتهم، وقال آخر:
٤٤٠٠ - هل يَسْتَوِي ذُو أمَّةٍ وَكَفُور أي ذو دين. وقرأ مجاهدٌ وقتادةٌ وعمرُ بنُ العَزِيزِ بالسكر.
قال الجوهري: (هي الطريقة الحسنة لغة في أمُمَّةٍ بالضم قال الزمخشري) : كلتاهما من الأَمِّ وهو القصد، والأُمَّة الطريقة التي تؤم كالرحلة للمرحول إليه، والإمّة الحالة (التي) يكون عليها الآمّ وهو القاصد. وقرأ ابن عباص بالفتح وهي المرة من الأم، والمراد بها القصد والحال.

فصل


المراد بالمترفين الأغنياء والرؤساء. والمُتْرَفُ هو الذي آثر النعمة، فلا يحب إلا الشهوات والملاهي ويبغض المشاق في طلب الحق. وإذا عرف ذلك علمنا أن رأس جميع الآفات حب الدنيا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله تعالى، والدار الآخرة، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَة».
249
قوله :﴿ أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ﴾ هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول اتخذ رَبُّكُمْ لِنَفْسِهِ البَنَاتِ و«أصْفَاكُمْ » أخلَصكم بالبَنين يقال : أصْفَيْتُ فُلاَناً أي آثَرْتُهُ به إيثَاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون فيه مشارك، كقوله :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين ﴾١ [ الإسراء : ٤٠ ] فقوله :«وأصْفَاكُمْ » يجوز أن يكون داخلاً في حيز الإنكار معطوفاً على «اتَّخَذَ »، ويجوز أن يكون حالاً، أي أَمِ اتَّخَذَ في هذه الحالة٢. و«قد » مقدرة٣ عن الجُمْهُورِ.

فصل


واعلم أن الله تعالى رَتَّبَ هذه المناظر على أحسن الوجوه، وذلك لأنه بين أن إثبات الولد لله محال، وبتقدير أن ثبت الولد فجعله بنْتاً محالٌ أيضاً.
أما بيان أن إثباتَ الولد لله محال ؛ فلأن الوَلَدَ لا بدّ وأن يكون جُزْءاً من الوَالِدِ، ولَمَّا٤ كان له جزء كان مركباً، وكل مركب ممكن وأيضاً ما كان كذلك، فإنه يقبل الاتِّصالَ والانْفِصَالَ والاجْتَمَاعَ والافْتِرَاقَ وما كان كذلك فهو مُحْدَث عبد، فلا يكون إلهاً قديماً أزليًّا٥.
وأما المقام الثاني وهو أن يكون لله ولد فإنه يمتنع أن يكون بنتاً، لأن الابن أفضلُ من البنت فلو اتخذ لنفسه النبات وأعطى البنينَ لعباده لزم أن يكون حال العبد أفضل وأكمل من حال الله، وذلك مدفوع ببديهة العقل٦.
١ وهو بتوضيح وتفصيل من المؤلف لما في القرطبي ١٦/٧٠..
٢ نقله في الدر المصون ٤/٧٧٦..
٣ نقل الإمام السيوطي في الهمع أن الماضي المثبت المتصرف غير التالي إلا، والمتلو بأو العاري من الضمير إيجاب قد مع الواو كقوله: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها. فإن كان جامدا كليس، أو منفيا، فلا نحو: جاء زيد وما طلعت اللشمس ثم قال: هذا ما جزم به المتأخرون كابن عصفور، والأبذي، والجزولي، وهو قول الفارسي، والمبرد. قال أبو حيان: والصحيح وقوع الماضي حالا بدون "قد" ولا يحتاج إلى تقديرها لكثرة ورود ذلك وتأول الكثير ضعيف جدا، لأنا إنما نبني المقاييس العربية على وجود الكثرة. وهذا مذهب الأخفش أيضا فيما نقله صاحب اللباب عن الكوفيين، وابن الأصبغ عن الجمهور. انظر الهمع ١/٢٤٧ بتصرف..
٤ في ب والرازي: وما كان له جزء، بدون اللام..
٥ كذا في الرازي وفي ب فقط أوليا..
٦ وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٧/٢٠١..
قوله :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم ﴾ تقدم نظيره١. قال الزمخشري :«وقرئ هنا : وزَجْهُهُ مُسْوَدٌّ ومُسْوَادٌّ بالرفع على أنها جملة في موضع خبر «ظل »، واسم «ظل » ضمير الشأن »٢.

فصل


والمعنى بما ضرب للرحمن مثلاً، أي جعل لله شبهاً ؛ لأنَّ كُلّ يُشْبِهُهُ، «ظَلَّ وَجْهُهُ » أي صار وجهه «مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ » من الحزن والغيظ٣. والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته٤ ؟ روي أن بعض العرب هجر بيته حين وضعت امرأته بِنْتاً فقالت المرأة :
٤٣٩٨ مَا لأَبِي حَمْزَةَ لاَ يَأتِينَا يَظَلُّ فِي الَبْيتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانَ أَن لا نَلِدَ البَنِينَا لَيْسَ لَنَا مِنْ القَضَاءِ مَا شِينَا
وَإِنَّمَا نَأخُذُ مَا أُعْطِينَا٥. . .
١ وهو قوله تعالى في سورة النحل الآية (٥٨) ﴿وإذا بشر أحدكم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم﴾ أي بأن ودلت له بنت، ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له: قد ولدت له أنثى اغتم، واربد وجهه غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب..
٢ بالمعنى من الكشاف ٣/٤٨٢..
٣ المرجع السابق..
٤ قاله الرازي في تفسيره الكبير ٢٧/٢٠١..
٥ ذكر هذه الأبيات الزمخشري في الكشاف ٣/٤٨٢ وهي: أرجاز لامرأة حمزة الضبي، وانظر البيان والتبيين للجاحظ ١/١٦٣، وشرح شواهد الكشاف ٥٥٨، ٥٥٩ والفخر الرازي ٢٧/٢٠٢ وفي هذه المراجع: من أمرنا ما شينا. وفي النسختين: من القضاء..
قوله تعالى :﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية. . . ﴾ يجوز في «مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر، أي : أَوَ تَجْعَلُونَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ.
والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ جزءٌ أو وَلَدٌ، إذ جعلوا الله جُزْءاً١.
وقال البغوي : يجوز أن يكون في محل خفض ردًّا على قوله : مما يخلق، وقوله :«بِمَا ضَرَبَ »٢. وقرأ العامة يَنْشَأُ بفتح الياء وسكون النون من نشأ في كذا يَنْشأُ فِيهِ. والأَخَوَانِ٣ وَحَفْصٌ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين مبنياً للمفعول أي يُرَبَّى وقرأ الجَحْدَرِيُّ كذلك، إلا أنه خفف الشين أخذه من أَنْشَأَهُ٤. والحسن : يُنَاشَأُ كيقاتل، مبنياً للمفعول٥. والمفاعلة تأتي بمعنى الإفعال، كالمُعَالاَةِ بمعنى الإعْلاَءِ٦.

فصل


المراد من هذا الكلام التنبيه على نُقْصَانِهَا٧ والمعنى : أن الذي يتربى٨ في الحِلية والزينة يكون ناقصَ الذات ؛ لأنه لولا نُقْصَانُها في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحِلْية، ثم بين نُقْصَانَ حالها بطريق آخرٍ وهو قوله :﴿ وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ ﴾٩ الجملة حال. و«في الخِصَامِ » يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل عليه من بعده تقديره وهو لا يُبينُ في الخِصَام أي الحجة ويجوز أن يتعلق «بمُبِينٍ »١٠ وجاز للمضاف إليه أن يَعْمَلَ فيما قبل المضاف، لأنَّ غَيْر بمعنى «لا »١١ كما تقدم تحقيقه آخر الفاتحة١٢.

فصل


المعنى وهو في المخاصمة غير مبين الحجة من ضعفهن وسَقَمَهِنّ١٣. قال قتادة في هذه الآية : كل ما تتكلم امرأة، فتريد أن تتكلم بحُجَّتِها إلا تكلمت بالحُجَّةِ عليها١٤.
١ قال بهذين الوجهين أبو البقاء في التبيان ١٠٣٨ والسمين في الدر المصون نقلا عنه ٤/٧٧٦، وأبو حيان في البحر ٨/٨ كما قال به قبل الفراء في المعاني ٣/٢٩ كما قال بت ابن الأنباري في البيان ٢/٣٥٢..
٢ انظر معالم التنزيل للبغوي..
٣ معروف أنهما حمزة والكسائي وقد ذكر في الإتحاف هذه القراءات الأربع جميعا انظر الإتحاف ٣٨٥ وذكر القرائتين الأوليين وهما متواترتان ابن خالويه في الحجة ٣٢٠، وابن مجاهد في السبعة ٥٨٤ فضلا عن البناء في الإتحاف السابق..
٤ ذكرها مع صاحب الإتحاف ابن خالويه في المختصر ١٣٤ من الشواذ..
٥ السابقين وانظر أيضا الكشاف ٣/٤٨٢ والبحر ٨/٨..
٦ البحر المحيط ٨/٨ المرجع السابق..
٧ أي الحلية..
٨ كذا هو الأصح من ب والرازي وفي أ الجاهلية تحريف غير مقصود..
٩ قال الرازي: يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها. انظر الرازي ٢٧/٢٠٢..
١٠ ذكر هذين الوجهين العكبري في التبيان ١٠٣٨..
١١ ففيها معنى النفي فكأنه قال: وهو لا يبين في الخصام فلا مشكلة حينئذ. بتصرف من البيان للعكبري المرجع السابق..
١٢ اللباب ١/٢٧ ب ميكروفيلم..
١٣ كذا في ب وفي الأصل: وسفههن؛ والأول أقرب..
١٤ نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٦/٧٢ بالمعنى وكذلك الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٠٧..
قوله :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً ﴾ جعلوا أي حكموا به١.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر :«عِنْدَ الرَّحْمَن » ظرفاً٢ ويؤيده قوله :﴿ إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ] والباقون «عباد » جمع عَبْد والرسم يحتملها. وقرأ الأعمش كذلك، إلا أنه نصب «عباد » على إضمار فِعْل، أي الذين هم خُلِقُوا عِبَاداً ونحوه٣ وقرأ عبد الله وكذلك هي في مصحفه الملائكة عبادَ الرحمن٤ وأبي عبد الرحمن بالإفراد٥، وإناثاً هو المفعول الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقاد أو التصيير القولي. وقرأ زَيْدُ بْنُ عِليّ : أُنُثاً جمعُ الجَمْعِ٦.
قوله :«أَشَهِدُوا » قرأ نافع بهمزة مفتوحة، ثم بأخرى مضمومة مُسَهَّلةٍ بينها وبين الواو وسكون الشين على ما لم يسمّ فاعله أي أحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حين خلقوا، كقوله :﴿ أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾٧ [ الصافات : ١٥٠ ]. وهذا استفهام على سبيل الإنكار. وقرأ قالون ذلك بالمد يعني بإدخَال ألِفٍ بين الهمزتين، والقصر يعني بعدم الألف. الباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة٨. فنافع أدخل همزة للتوبيخ على «أَشَهِدُوا » فعلاً رباعياً مَبْنيًّا للمفعول فسهّل همزته الثانية وأدخل ألفاً بينهما كراهة لاجتماعهما، وتارة لم يدخلها اكتفاء بتسهيل الثانية وهي أَوْجَهُ٩. والباقون أدخلوا همزة الإنكار على «شَهِدُوا » ثلاثياً١٠. ولم ينقل أبو حيان عن نافع تسهيلَ الثانية. بل نقله عن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ١١.
وقرأ الزهري أُشْهِدُوا رباعياً مبنياً للمفعول١٢ وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون حذف الهمزة لدلالة القراءة الأخرى عليها، كما تقدم في قراءة أَعْجَميٌّ.
والثاني : أن تكون الجملة خبرية، وقعت صفة لإناثاً، أي أجَعَلُوهُمْ إنَاثاً مَشْهُوداً١٣ خَلْقَهُمْ كذلك.
قوله :﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ﴾ قرأ العام ستُكْتَب بالتاء من فوق مبنياً للمفعول «شهادتهم » بالرفع لقيامه مقام الفاعل ؟ وقرأ الحسن : شَهَادَاتُهُمْ بالجَمْع١٤، والزُّهْريُّ : سَيَكْتُبُ بالياء من تحت١٥ وهو١٦ في الباقي كالعامة. وابن عباس وزيدُ بْنُ عليّ وأبو جعفر وأبو حَيْوَةَ سَنَكْتُبُ بنون العظمة١٧ شَهَادَتَهُمْ بالنصب مفعولاً به.

فصل


المعنى سنكتب شهادتهم على الملائكة أنهم بنات الله ويسألون عنها. قال الكلبي ومقاتل : لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما يُدْرِيكُمْ أنهم إناث ؟ قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لَمْ يُكَذِّبُوا فقال الله تعالى :﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ عنها في الآخرة وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم، والعقاب الشديد.
قال المحققون : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه :
أولها : إثبات الولد.
ثانيها : أن ذلك الولد بنت.
وثالثها : الحكم على هؤلاء الملائكة بالأنوثة١٨.

فصل


احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه القراءات، أما قراءة «عِنْدَ » بالنون، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ولفظة «هُمْ » يوجب الحصر والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم، فوجب كونهم أفضل من غيرهم، رعاية للفظ الدال على الحَصْرِ١٩.
وأما قراءة عِبَاد جمع «العَبْد » فقد تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوصٌ بالمؤمنين، فقوله «عِبَاد الرَّحْمَنِ » يفيد حَصْرَ العُبُودِيَّة فيهم، فَإذَا كَانَ اللَّفظُ الدّالُ على العُبُوديَّة دالاً على حصر الفضل والقرب والشرف لهم وجب كونهم أفضل ؛ والله أعلم٢٠.
١ قاله الزجاج في مرجعه السابق..
٢ قراءة سبعية متواترة ذكرها مكي في الكشف ٢/٢٥٦، وابن خالويه في الحجة ٣٢٠، كما ذكرها صاحبها الإتحاف والبحر ٦٨٥ و٨/١٠..
٣ شاذة ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٣٥ قال: "هي في مصحف ابن مسعود كذلك"..
٤ المرجع السابق..
٥ ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ٨/١٠، قال: "ومعناه الجمع لأنه اسم جنس"..
٦ المرجع السابق وجمع الجمع هو أنث جمعا للجمع إناث جمع لأنثى المفرد..
٧ ١٥٠ من الصافات وانظر الإتحاف ٣٨٥ والسبعة ٥٨٥ أقول وقد ورد عن نافع: أو شهدوا، والباقون عن نافع لا يمدون، وانظر السبعة المرجع السابق..
٨ انظر إتحاف فضلاء البشر ٣٨٥ والدر المصون ٤/٧٧٧..
٩ انظر الكشف في القراءات السبع ٢/٣٥٧ وحجة ابن خالويه ٣٢١..
١٠ المراجع السابقة وانظر في هذا كله الدر المصون ٤/٧٧٧..
١١ قال: "وعلي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد في رواية أبي عمرو ونافع بتسهيل الثانية بلا مد"..
١٢ نقلها أبو الفتح بن جني في المحتسب ٢/٣٥٤ وهي شاذة وكذا نقلها الإمام القرطبي ١٦/٧٣..
١٣ الأفصح ـ كما في المحتسب ـ مشهدا. وهذان التوجيهان نقلهما ابن جني في المحتسب المرجع السابق بالمعنى. وانظر القراءة المشار إليها في سورة فصلت..
١٤ نقلها صاحب الإتحاف ٣٨٥، وصاحب المختصر وهي من الأربع فوق العشر المتواتر..
١٥ ولم ينسبها أبو حيان في البحر ٨/١٠، بل نسبها صاحب الدر المصون ٤/٧٧٧ وهي من الشواذ غير المتواترة..
١٦ أي الزهري في باقي الآية..
١٧ نسبها القرطبي إلى السلمي وابن السميقع، وهبيرة عن حفص وابن خالويه في المختصر ٣٢١ نسبها للأعرج وما هو أعلى موافق لما في البحر المحيط لأبي حيان ٨/١٠ والدر المصون للسمين ٤/٧٧٧..
١٨ الرازي ٢٧/٢٠٢ و٢٠٣..
١٩ السابق أيضا..
٢٠ الرازي المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ. . . ﴾ الآية يعنى الملائكة قاله قتادة ومقاتل والكلبي. وقال مجاهد : يعني الأوثان. وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياهم، لرضاه منا بعبادتها١ وهذا نوع آخر من كفرهم وشبهاتهم.

فصل


قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على فساد القول بالجبر في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين :
الأول : أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : لو شاء الرحمن ما عَبَدْنَاهُمْ وهذا تصريح بقول المجبرة. ثم إنه تعالى أبطله بقولهم :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ فثبت بطلان هذا المذهب ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] إلى قوله :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].
الثاني : أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم، فِأولها : قوله ( تعالى ) :﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ﴾ وثانيها : قوله :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ﴾ : قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾.
فلما حكى هذه الأقاويل بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض، فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً وأجاب الواحدي في البسيط بوجهين :
الأول : ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ عائد إلى قولهم : الملائكةُ بناتُ الله٢.
والثاني : أنهم أرادوا بقولهم : لَوْ شَاءَ الرحمن ما عبدناهم أنه أمرنا بذلك ورضي بذلك فقررنا عليه فأنكر عليهم ذلك.
قال ابن الخطيب : وهذان الوجهان عندي ضعيفان، أما الأول، فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بُطْلاَنهما، ثم حكى بعده وجهاً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين٣، ثم حكى البطلان، والوعيد، فصرف هذا الإبطال الذي ذكره عنه إلى كلام متقدم وأجنبي عنه في غاية البعد. وأما الوجه الثاني : فهو أيضاً ضعيف ؛ لأن قوله :﴿ لو شاء الرحمن ما عبدناهم ﴾ ليس فيه بيان متعلق خلاف تلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل، فوجب أن يكون التقدير : لو شاء الله أن نعبدَهم ما عبدناهم. وكلمة «لو » تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة لعدم عبادتهم، وهذا غير مذهب المجبرة. والإبطال والإفساد يرجع إلى فساد هذا المعنى.
ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال : إنهم لما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية، فلهذا السبب استوجبوا الظن والذم٤. و أجاب الزمخشري عنه من وجهين :
الأول : أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل.
الثاني : أنه تعالى حكى فيهم ثلاثة أشياء وهي أنهم جعلوا له من عباده جزءاً، وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً، وأنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم قالوه على طريق الهُزْء لا على سبيل الجدّ وجب أن يكون الحال في الحِكَاية للقولين كذلك فيلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ومعلوم أنه٥ كفر٦.
وأما القول بأن الظن٧ في القولين الأولين إنما يوجد٨ على بعض٩ ذلك القول وبعض١٠ القول الثالث لا على نفسه، بل على إيراده على سبيل الاستهزاء فهذا يوجب تشويش النظم، وأنهم لا يجوز في كلام الله تعالى.
قال ابن الخطيب : والجواب الحق عندي عن هذا الحكم هو ما ذكرنا في سورة الأنعام وهو أن القوم لما ذكروا هذا الكلام، استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان، فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما مُتَطَابِقيْنِ وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم لمجرد قولهم : إن الله يريد الكفر من الكافر، بل لأجل أنهم قالوا : لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان، فإذا صرفنا الذمَّ إلى هذا سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية. وتمام التقرير موجود في سورة الأنعام١١.
قوله :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ فيما يقولون ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ ما هم إلا كاذبون في قولهم : إن الله رَضِيَ عَنَّا بعبادتنا. وقيل : إنْ هُمْ إلا يخرصون في قولهم : الملائكة إناث وهم بنات الله.
١ القرطبي ١٦/٧٣ و٧٤..
٢ قال: المعنى ما لهم بقولهم: إن الملائكة بنات الله من علم، ولا بجميع ما تخرصوا بت. معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٠٨..
٣ في ب الأولتين تحريف وتصحيف..
٤ بتوضيح وشرح لكلام الزمخشري من الرازي ٢٧/٢٠٤ و٢٠٥ وانظر الكشاف ٣/٤٨٣ و٤٨٤ بالمعنى..
٥ في ب بأنه..
٦ بالمعنى من الكشاف المرجع السابق، وباللفظ من الفخر الرازي ٢٧/٢٠٤ و٢٠٥..
٧ كذا في النسختين وفي الرازي: الطعن بدل الظن..
٨ وفيه: "توجه" بدل يوجد..
٩ وفيه: نفس بدل بعض..
١٠ وفيه: وفي القول بدل: وبعض القول..
١١ وانظر تفسير الرازي ٢٧/٢٠٥..
قوله :﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ ﴾ أي من قبل القرآن١، أو الرسول٢ بأن يعبد غير الله ﴿ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾ يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل ؟ أما إثباته بالعقل فهو أيضاً باطل، لقوله تعالى :﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾ والمعنى أنهم وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن، حتى جاز لهم أن يتمسكوا به ؟ فذكر هذا في مَعْرِض الإنكار.
١ قاله القرطبي ١٦/٧٤..
٢ قاله به وسبقه الرازي في المرجع السابق..
قوله :﴿ بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾ والمقصود أنه تعالى لما بين أنه لا دليل على صحة قولهم ألبتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه ليس لهم حاملٌ يحمِلُهُم عليه إلا التقليد المحض.
ثم بين أن تمسك الجهال بالتقليد أمر كان حاصلاً من قديم الزمان فقال :﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾١، قوله : أمه العامة على ضم الهمزة بمعنى الطريقة والدين قال قَيْسُ بن الخَطيم :
٤٣٩٩ كُنَّا عَلَى أُمَّةِ آبَائِنَا *** وَيَقْتَدِي بالأَوَّلِ الآخرُ٢
أي على طرقتهم، وقال آخر :
٤٤٠٠ هل يَسْتَوِي ذُو أمَّةٍ وَكَفُور٣ ***. . .
أي ذو دين. وقرأ مجاهدٌ وقتادةٌ وعمرُ بنُ العَزِيزِ بالسكر٤.
قال الجوهري :( هي٥ الطريقة الحسنة لغة في أمَّةٍ٦ بالضم قال الزمخشري ) : كلتاهما من الأَمِّ وهو القصد، والأُمَّة الطريقة التي تؤم كالرحلة للمرحول إليه، والإمّة الحالة ( التي٧ ) يكون عليها الآمّ وهو القاصد٨. وقرأ ابن عباس بالفتح وهي المرة من الأم٩، والمراد بها القصد والحال.

فصل


المراد بالمترفين الأغنياء والرؤساء. والمُتْرَفُ هو الذي آثر النعمة، فلا يحب إلا الشهوات والملاهي ويبغض المشاق في طلب الحق. وإذا عرف ذلك علمنا أن رأس جميع الآفات حب الدنيا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله تعالى، والدار الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَة ».
١ وانظر ما سبق في تفسير الرازي بالمعنى ٢٧/٢٠٥ و٢٠٦..
٢ من السريع وهو لقيس كما أخبر أعلى، وليس في ديوانه. وشاهده: أن أمة ـ بضم الأول وفتح الثاني مشددا ـ بمعنى الطريقة والدين وانظر الدر المصون ٤/٧٧٧، والبحر المحيط ٨/١١ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٦/٧٤..
٣ ذكر هكذا في اللسان والقرطبي، والدر والبحر المرجع السابق هو نصف بيت لم أعثر على تتمة له، ويبدو أنه من الطويل، والشاهد: أمة بمعنى الدين فلا يتساوى ذو دين بكافر والعياذ بالله. وانظر البيت في الدر المصون ٤/٧٧٨ والقرطبي ١٦/٧٥ ولسان العرب أمم ١٣٢ والبحر المحيط ٨/١١..
٤ ذكرت في مختصر ابن خالويه ١٣٥، كما ذكرها الفراء في المعاني ٣/٣٠..
٥ ما بين القوسين سقط من ب كلية بسبب انتقال النظر..
٦ الصحاح أم م ٥/١٨٤٦..
٧ سقط من ب..
٨ انظر الكشاف ٣/٤٨٤ وانظر أيضا اللسان أمم..
٩ قراءة شاذة هي وسابقتها ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣٥ قال: فتحتمل هذه القراءة على وجهين الطريقة الحسنة والنعمة، وانظر أيضا البحر المحيط ٨/١١..
قوله:
﴿قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ ﴾ الآية. قرأ ابنُ عام وحفصٌ قَالَ ماضياً مكان «قُلْ» أمراً، أي قال النذير أو الرسول وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والإمر في «قل» يجوز أن يكون للنذير، أو الرسول وهو الظاهر. وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ: جِئْنَاكُمء بنون المتكلمين «بأَهْدَى» أي بدين أصْوَبَ ﴿مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ﴾ وإن جئتكم بأهدى منه فعند هذا حكى الله عنهم أنهم قالوا: إنا لا ننفك عن دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ وإن كان أهدى مما كنا عليه فعند هذا لم يبق لهم عذر، لهذا قال تعالى: ﴿فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾ ةوهذا تهديد للكفار
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:قوله :﴿ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ... ﴾ الآية. قرأ ابنُ عام وحفصٌ قَالَ ماضياً مكان «قُلْ » أمراً، أي قال النذير أو الرسول وهو النبي صلى الله عليه وسلم١.
والأمر في «قل » يجوز أن يكون للنذير، أو الرسول وهو الظاهر. وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ : جِئْنَاكُم بنون المتكلمين٢ «بأَهْدَى » أي بدين أصْوَبَ ﴿ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ﴾ وإن جئتكم بأهدى منه فعند هذا حكى الله عنهم أنهم قالوا : إنا لا ننفك عن دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى ﴿ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ وإن كان أهدى مما كنا عليه فعند هذا لم يبق لهم عذر، لهذا قال تعالى :﴿ فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين ﴾ وهذا تهديد للكفار٣
١ قراءة سبعية متواترة، ذكرها ابن مجاهد في السبعة ٥٨٥. ومكي في الكشاف ٢/٢٥٨ وانظر أيضا الإتحاف ٣٨٥، وإبراز المعاني ٦٧٩ والنشر ٢/٣٦٩..
٢ قراءة عشرية انظر الإتحاف والنشر المرجعين السابقين..
٣ الرازي ٢٧/٢٠٦ و٢٠٧..

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾ لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار حجة إلا تقليد الآباء، ثم بين أنه طريق باطل، وإن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد أردفه بهذه الآية، وهو وجه آخر يدل على فساد التقليد من وجهين:
الأول: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه تبرأ من دين آبائه بناء على الدليل وذلك أن تقليد الآباء في الأديان إما أن يكون محرماً أو جائزاً. فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنهم لا يشرفو (ن) ولا يتخفرو (ن) إلا بكونهم من أولاده. وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء. وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول: إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، فوجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد.
الوجه الثاني: أنه تعالى بين أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما عدل عن طريقة
250
أبيه إلى متابعة الدليل لا جَرَم جعل الله دينَ ومذهَبه باقياً في عَقِبِهِ إلى يوم القيامة، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبَطُلَتْ. فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن التقليدَ ينقطع أثره.
قوله: «بَرَاءُ: العامة على فتح الباء، وألف وهمزة بعد الراء وهو مصدر في الأصل وقع موقع الصفة وهي بَريءٌ، وبها قرأ الأعمش. ولا يثنى» بَرَاءٌ «ولا يجمعُ، ولا يؤنثُ، كالمصادر في الغالب. قال الزمخشري والفراء والمبرد: لا يقولون البَرَاءَانِ، ولا البَرَاءُونَ؛ لأن المعنى ذَوَا البَرَاءَ (ةِ) وذَوُو البراءة. فإن قلت: منك ثنيت وجمعت.
وقرأ الزعفرانيُّ وابنُ المبارك عن نافع بضم الباء، بزنة طُوال وكُرام، يقال: طَوِيلٌ وطُوالٌ، وبَرِيءٌ، وبُرَاء. وقرأ الأعمش بنون واحدة.
قوله: ﴿إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾ فيه أربعةُ أوجهِ:
أحدها: أنه استثناء منقطع، لأنهم كانوا عَبَدَةَ أصنامٍ فقط.
الثاني: أنه متصل؛ لأنه روي أنهم كانوا يشركون مع الباري غيره.
251
الثالث: أن يكون مجروراً بدلاً من» ما «الموصولة في قوله: ﴿مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾ قاله الزمخشري. ورده أبو حيان: بأنه لا يجوز إلا في نفي أو شبهه. قال:» وغَرَّهُ كونُ «بَرَاء» في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك، لأنه موجب «. قال شهاب الدين: قد تأول النحاة ذلك في مواضع من القرآن كقوله: ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: ٣٢]، ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥]. والاستثناء المفرغ لا يكون في إيجاب، ولكن لما كان» يَأْبى «بمعنى لا يفعل،» وَإنَّها لكَبِيرَةٌ «بمعنى لا تَسْهلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك فهذا مثله.
الرابع: أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون «ما»
نكرةة موصوفة. قاله الزمخشري. قال أبو حيان: وإنما أخْرَجَهَا في هذا الوجه عن كونها موصولة، لأنه يرى أن «إلاَّ» بمعنىغير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف. فعلى هذا يجوز أن تكون «ما» موصولة «و» إلا «بمعنى غير صفة لها.

فصل


﴿إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾ أي خلقني ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
قوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾ الضمير المرفوع لإبراهيم وهو الظاهر، أو الله والضمير المنصوب لكلمة التوحيد المفهومة من قوله:»
إنَّنِي بَرَاءٌ «إلى آخره، أو لأنها بمنزلة الكلمة، فعاد الضمير على ذلك اللفظ لأجل المعنى به. وقر حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: كِلْمَةً بكسر الكاف وسكون اللام. وقرىء: فِي عَقْبِهِ بسكون القاف. وقرىء: فِي عَاقِبِهِ أي وَرَائِهِ، والمعنى أن هذه الكلمة كلمة باقيةٌ في عقبة أي في ذريته. قال قتادة: لا يزال في ذريته مَن يَعْبُدُ اللهَ ويُوَحِّدُهُ. قال القُرَظِيُّ: يعني وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه باقية في ذريته. وهو قوله تعالى عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة: ١٣٢]. قال ابن زيد: يعني قوله:» أَسْلَمْتُ لِرَبِ العَالَمِينَ «وقرأ: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ﴾ [الحج: ٧٨] ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم قال السدي: لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ.
252
قوله :﴿ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي ﴾ فيه أربعةُ أوجهِ :
أحدها : أنه استثناء منقطع، لأنهم١ كانوا عَبَدَةَ أصنامٍ٢ فقط٣.
الثاني : أنه متصل ؛ لأنه روي أنهم كانوا يشركون مع الباري غيره٤.
الثالث : أن يكون مجروراً بدلاً من » ما «الموصولة في قوله :﴿ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ﴾ قاله الزمخشري٥. ورده أبو حيان : بأنه لا يجوز إلا في نفي أو شبهه. قال :«وغَرَّهُ كونُ «بَرَاء » في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك، لأنه موجب »٦. قال شهاب الدين : قد تأول النحاة ذلك في مواضع من القرآن كقوله :﴿ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾ [ التوبة : ٣٢ ]، ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين ﴾ [ البقرة : ٤٥ ]. والاستثناء المفرغ لا يكون في إيجاب، ولكن لما كان «يَأْبى » بمعنى لا يفعل، «وَإنَّها لكَبِيرَةٌ » بمعنى لا تَسْهلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك فهذا مثله٧.
الرابع : أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون «ما » نكرةة موصوفة. قاله الزمخشري٨. قال أبو حيان : وإنما أخْرَجَهَا في هذا الوجه عن كونها موصولة، لأنه يرى أن «إلاَّ » بمعنى غير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف. فعلى هذا يجوز أن تكون «ما » موصولة «و » إلا «بمعنى غير صفة لها٩.

فصل


﴿ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي ﴾ أي خلقني ﴿ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾ يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
١ في ب وأنهم..
٢ في ب الأصنام..
٣ وقد ذكره أبو إسحاق الزجاج في المعاني ٤/٤٠٩..
٤ ذكره هو وما قبله أبو حيان في البحر ٨/١١، ١٢..
٥ الكشاف ٣/٤٨٤..
٦ بالمعنى من البحر ٨/١٢..
٧ الدر المصون ٤/٧٧٩..
٨ الكشاف له ٣/٤٨٤..
٩ بالمعنى من البحر المحيط ٨/١٢..
قوله :﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً ﴾ الضمير المرفوع لإبراهيم وهو الظاهر، أو الله والضمير المنصوب لكلمة التوحيد المفهومة من قوله :«إنَّنِي بَرَاءٌ » إلى آخره، أو لأنها بمنزلة الكلمة، فعاد الضمير على ذلك اللفظ لأجل المعنى به. وقر حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ : كِلْمَةً بكسر الكاف وسكون اللام١. وقرئ : فِي عَقْبِهِ بسكون القاف٢. وقرئ : فِي عَاقِبِهِ٣ أي وَرَائِهِ، والمعنى أن هذه الكلمة كلمة باقيةٌ في عقبة أي في ذريته. قال قتادة : لا يزال في ذريته مَن يَعْبُدُ اللهَ ويُوَحِّدُهُ. قال القُرَظِيُّ٤ : يعني وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه باقية في ذريته. وهو قوله تعالى عز وجل :﴿ ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ﴾ [ البقرة : ١٣٢ ]. قال ابن زيد : يعني قوله :«أَسْلَمْتُ لِرَبِ العَالَمِينَ » وقرأ :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ ﴾٥ [ الحج : ٧٨ ] ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم قال السدي : لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عز وجل.
١ شاذة غير متواترة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٥..
٢ انظر البحر ٨/١٢ والكشاف ٣/٤٨٥ ونسبها صاحب الشواذ إلى إسحاق ٢١٧..
٣ نسبها المرجع السابق إلى قتادة..
٤ تصحيح عن النسختين ففيهما القرطبي وليس هو..
٥ انظر هذه المعاني في القرطبي ١٦/٧٧..
قوله: «بَلْ مَتَّعتُ» قرأ الجمهور مَتَّعْتُ بتاء المتكلم وقتادة، والأعمش بفتحها للمخاطب خاطب إبراهيم أو محمد ربه بذلك. وبها قرأ نافع في رواية يَعْقُوبَ.
والأعمش أيضاً: بل مَتَّعْنَا بنون العظمة هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ يعني أهل مكة وهم عَقِبُ إبراهيمَ يريد مشركي مكة، ولم أعاجلهم بالعقوبة على الكفر ﴿حتى جَآءَهُمُ الحق﴾ وهو القرآن. وقال الضحاك: يعني الإسلام «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» برسالة واضحة يبين لهم الأحكام، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يُطيقوه وعصوا، وكذبوا به، وسموه ساحراً ووجه النظم أنه لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال، وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا، فأعرضوا عن الحق. وقال الزمخشري:
فإن قيل: ما وَجْهُ من قرأ: مَتَّعْتَ، بفتح التاءِ؟.
قُلْنَا: كأن الله سبحانه وتعالى اعترض على ذاته في قوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٨] فقال: بل مَتَّعْتُهُمْ بما متعتهم به من طُول العمر والسِّعة في الرزق حتى مَنَعَهُمْ ذلك عن كلمة التوحيد وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك شيئاً في زيادة الشكر، والثبات على التوحيد، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً، فمثاله أن يشكو الرجل إساءةَ من أحْسٍَنَ إِليه، ثم يقبل على نفسه، فيقول: أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه ويريد بهذا الكلام توبيخَ المسيء لا تقبيح فعل نفسه.
253
قوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق﴾ وهو القرآن ﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ هذا نوع آخر من كفر آبائهم، وهو أنهم قالوا: منصب الرسالة منصبٌ شريفٌ فلا يليق إلا برجل شريفٍ، وصدقوا في ذلك، إلا أنهم ضموا إليه مقدَّمة فاسدة، وهو أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثيرَ المال والجاه، ومحمد ليس كذلك، فلا تليق رسالة الله به، وإنما يليق هذا المنصب برجلٍ عظيم الجاه، كثيرِ المال، يعنون الوليدَ بنَ المغيرة بمكة، وعُروَةَ بنَ مسعود الثَّقَفِيّ بالطائف. قاله قتادة. وقال مجاهد: عُتبْبَةُ بن ربيعة من مكة وعبدُ يَالِيل الثقفيّ من الطائف. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) هو الوليدُ بن المُغيرة من مكة، ومن الطائف حَبيبُ بنُ عَمْرو بنُ عُمَيْر الثقفي وقيل: من إحدى القريتين. وقيل: المراد عروةٌ بن مسعود الثَّفَفِي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما.
وقرىء: رَجْلٍ بسكون العين، وهي تَمِيميَّةٌ.
قوله: ﴿يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ يعنى النبوة. والهمزة للإنكار. وهذا إبطال لشبهتهم وتقريره من وجوه:
الأول: أنا إذا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا، ولم يقدِرْ أحد من الخلق على التفسير، فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوة بأن لا يَقْدِرُوا على التَّصرف أولى.
الثاني: إن اختصاص ذلك المعنى ذلك الرجل إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا فيكف يليق بالعقل أن يجعل إحْسَاناً إليه بكثرة المال حجة علينا في أن يحسن إليه بالنبوة؟.
الثالث: أنا إنما أوقعنا التفاوت في الإحسان بمنافع الدنيا لا بسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن يوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوة لا لسبب سابق؟!.
ثم قال: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا﴾ فجلعنا هذا غَنِيًّا وهذا فقيراً،
254
وهذا مالكاً، وهذا مملوكاً، كما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شِئْنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شِئْنَا ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ في القوة والضعف، والعلم، والجهل، والغِنَى، والفقر لأن لو سويناهم في كل هذه الأحوال، لم يخدم أحدٌ أحداً، ولم يصِرْ أحدٌ منهم مُسَخَّراً لغيره. وحينئذ يخرب العَالَمُ ويَفْسَدُ نظام الدنيا.
وقوله: ﴿لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ أي ليستخدم بعضهم بعضاً، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأُجَرَاءَ الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم. وقد مضى الكلام في سخرياً في المؤمنين. وقرأ بالكسر هنا عَمْرُو بنُ مَيْمُون، وابن مُحَيصِن، وأبوُ رَجاء وابنُ أبي ليلى، والوليدُ بنُ مُسْلِم، وخلائقُ بمعنى المشهورة وهو الاستخدام. وَيَبْعُدُ قولُ بعضهم: إنه استهزاء الغنيّ بالفقير. ثم قال: «وَرَحْمَةُ ربِّكَ» يعني الجنة «خَيْرٌ لِلْمُؤمِنِينَ» مما يجمع الكفار من الأموال.
255
قوله :﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق ﴾ وهو القرآن ﴿ قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴾
﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ هذا نوع آخر من كفر آبائهم، وهو أنهم قالوا : منصب الرسالة منصبٌ شريفٌ فلا يليق إلا برجل شريفٍ، وصدقوا في ذلك، إلا أنهم ضموا إليه مقدَّمة فاسدة، وهو أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثيرَ المال والجاه، ومحمد ليس كذلك، فلا تليق رسالة الله به، وإنما يليق هذا المنصب برجلٍ عظيم الجاه، كثيرِ المال، يعنون الوليدَ بنَ المغيرة بمكة، وعُروَةَ بنَ مسعود الثَّقَفِيّ بالطائف. قاله قتادة. وقال مجاهد : عُتبْبَةُ بن ربيعة من مكة وعبدُ يَالِيل الثقفيّ من الطائف. وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) هو الوليدُ بن المُغيرة من مكة، ومن الطائف حَبيبُ بنُ عَمْرو بنُ عُمَيْر الثقفي١ وقيل : من إحدى القريتين. وقيل : المراد عروةٌ بن مسعود الثَّفَفِي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما٢.
وقرئ : رَجْلٍ بسكون العين، وهي تَمِيميَّةٌ٣.
قوله :﴿ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ يعنى النبوة. والهمزة للإنكار. وهذا إبطال لشبهتهم وتقريره من وجوه :
الأول : أنا إذا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا، ولم يقدِرْ أحد من الخلق على التفسير، فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوة بأن لا يَقْدِرُوا على التَّصرف أولى.
الثاني : إن اختصاص ذلك المعنى ذلك١ الرجل إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا فيكف يليق بالعقل أن يجعل٢ إحْسَاناً إليه بكثرة المال حجة علينا في أن يحسن إليه بالنبوة ؟.
الثالث : أنا إنما٣ أوقعنا التفاوت في الإحسان بمنافع الدنيا لا بسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن يوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوة لا لسبب سابق ؟ !.
ثم قال :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا ﴾ فجعلنا هذا غَنِيًّا وهذا فقيراً، وهذا مالكاً، وهذا مملوكاً، كما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شِئْنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شِئْنَا ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ في القوة والضعف، والعلم، والجهل، والغِنَى، والفقر لأن لو سويناهم في كل هذه الأحوال، لم يخدم أحدٌ أحداً، ولم يصِرْ أحدٌ منهم مُسَخَّراً لغيره. وحينئذ يخرب العَالَمُ ويَفْسَدُ نظام الدنيا.
وقوله :﴿ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ أي ليستخدم بعضهم بعضاً، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأُجَرَاءَ الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم٤. وقد مضى الكلام في سخرياً في المؤمنين٥. وقرأ بالكسر هنا عَمْرُو بنُ مَيْمُون، وابن مُحَيصِن، وأبوُ رَجاء وابنُ أبي ليلى، والوليدُ بنُ مُسْلِم٦، وخلائقُ بمعنى المشهورة وهو الاستخدام. وَيَبْعُدُ قولُ بعضهم : إنه استهزاء الغنيّ بالفقير٧. ثم قال :«وَرَحْمَةُ ربِّكَ » يعني الجنة «خَيْرٌ لِلْمُؤمِنِينَ » مما يجمع الكفار من الأموال.
١ في ب بذلك وعبارة الرازي: أن اختصاص ذلك الغني بذلك المال الكثير... الخ..
٢ كذا في ب وفي الرازي: نجعل بالنون..
٣ في الرازي: لما..
٤ انظر القرطبي ١٦/٨٣..
٥ عند قوله: ﴿فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون﴾ الآية ١١٠ من المؤمنين وكل الناس ضموا سخريا عدا ابن محيص ومجاهد كما قال القرطبي ١٦/٨٣ وأخبر المؤلف أعلى أن ممن كسرها أبو رجاء وابن أبي ليلى والوليد بن مسلم وأبو رجاء، وعمرو بن ميمون وابن عامر، وهذا نقلا عن البحر المحيط ٨/١٣ والدر المصون ٤/٧٨٠ وقراءة الكسر قراءة شاذة غير متواترة..
٦ أبو العباس، وقيل: أبو بشر الدمشقي عالم أهل الشام روى عن نافع بن أبي نعيم وغيره، وروى عنه إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره مات سنة ١٩ هـ. انظر غاية النهاية ٢/٣٦٠..
٧ نقله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٤١٠ وكذلك القرطبي ١٦/٨٣..
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ اعلم أنه تعالى أجاب هَهُنَا بوجْهٍ ثالث عن شُبْهَتِهِمْ بتفضيل الغني على الفقير، وهو أنه تعالى بين أن منافع الدنيا وطيباتها حقير خسيسة عند الله تعالى وبين حقارتها بقوله: ﴿ولولا أن يكون الناس أمة واحدة﴾ والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للنعم فأحدها: أني كون سقْفُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ. وثانيها: مَع: َارجَ عَلَيْهَا يَظْهِرُونَ أي يَعْلُون ويَرْتَقُونَ، يقال: ظَهَرْتُ عَلَى السَّطْحِ إذَا عَلَوْته.
255
وثالثها: «أن يجعل لبيوتهم أبواباً وسرراً أيضاً من فضة عليها يتَّكِئُونَ».
قوله: لِبُيُوتِهِمْ «بدل اشتمال، بأعادة العاملة، واللامان للاخْتِصَاص.
وقال ابن عطية: الأولى للمِلْكِ، والثانية للاختصاص. ورده أبو حيان: بأن الثاني بدل فيشترط أ، يكون (الحرف) متحد المعنى لا مختلفة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك: وَهَبْتُ لَهُ ثَوْباً لِقَمِيصِهِ. قال أبو حيان: ولا أدري ما أراد بقوله. قال شهاب الدين: أراد بذلك أن اللامين للعلة، أي كانت الهبة لأجل لأجل قميصك، فلقميصك بدل اشتمال، بإعادة العامل بِعَيْنِهِ وقد نقل أن قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ [الأنعام: ٨٤] و [الأنبياء: ٧٢] و [العنكبوت: ٢٧] أنها للعلة.
قوله:»
سُقُناً «قرأ ابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرو بفتح السين، وسكون القاف بالإفراد، على إرادة الجنس والباقون بضمتين على الجمع (كرُهُن) في جمع رَهْنٍ. وفي رهن تأويل لا يمكن هنا، وهو أن يكون جمع رِهَان جمع رَهْن، لأنه لم يسمع سِقَاف جمع سَقْف.
وعن الفراء أنه جمع سَقِيفَةٍ فيكون كصَحِيفَةٍ، وصُحُفٍ. وقرىء: سَقَفاً بفتحتين لغة في سَقْفٍ، وسُقُوفاً بزنة فَلسٍ وفُلُوساً. وأبو رجاء بضمة وسكون.
256
و» مِنْ فِضَّةٍ «يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف صفة» لسُقفٍ «.
قوله:»
ومعارج «قرأ العامة مَعَارجَ جمع» مِعْرَج «وهو السلم وطلحة مَعَارِيح جمع مِعْرَاج وهو كمِفْتَاح لمِفْتَح، وَمَفَاتِيح لمِفْتَاحٍ.
قوله:»
وَسُرُراً «جمع» سرير «والعامة على ضم الراء؟ وقرىء بفتحها، وهي لغة بعض تميم وكَلْبٍ وقد تقدم أن» فعيلاً «المضعف يفتح عينه، إذا كان اسماً، أو صفة نحو: ثَوْبٌ جَدِيدٌ، وثِيَابٌ جُدَدٌ. وفيه كلام للنحاة. وهل قوله:» مِنْ فِضّةٍ «شالم للمعارج والأثواب والسُّرُر؟.
فقال الزمخشري: نعم، كأنه يرى تشريك المعطوف مع المعطوف عليه في قيوده. وَ:»
عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ «و» عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ «صفتان لما قبلهما.
قوله:»
وزُخْرُفاً «يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي وجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفاً، وجوز الزمخشري أن ينصب عطفاً على محل» من فضة «، كأنه قيل: سُقُفاً من فضةٍ وذهب، فلما حذف الخافض انتصب أي بعضها كذا وبعضها كذا.
الزخرف قيل: هو الذَّهَبُ، لقوله: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ﴾ [الإسراء: ٩٣].
وقيل: الزخرف الزينة، لقوله تعالى: ﴿حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت﴾ [
257
يونس: ٢٤] فيكون المعنى نُعْطِيهم زينةً في كل بابٍ.
قوله: ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ قرأ حمزة وعاصم لَمَّا بالتشديد على معنى: وما كُل ذلك إلاّ متاع الحياة الدنيا. فكان لما بمعنى إلا. حكى سيبويه: «أَنْشَدْتُكَ بِالله لَمَّا فَعَلْتَ» بمعنى إلا. ويؤيد هذه القراءة قراءةٌ مَنْ قرأ: وَمَا ذَلِكَ إلاَّ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وخففه الآخرون على معنى: وكل ذلك متاع الحياة الدنيا. فتكون اللام للابتداء، وما صلة يريد: أن هذا كله متاع الحياة الدنيا وسماع متاعاً، لأن الإنسان يستمتع به قليلاً، ثم يزول ويذهب. وتقدم الخلاف في لما تخفيفاً وتشديداً في سورة هُودٍ.
قال أبو الحسن: الوجه التخفيف، لأن لما بمعنى إلا لا يُعْرَفُ. وحكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل. وقرأ أبو رَجَاءٍ وأبو حَيْوَةَ: لِمَا بكسر اللام على أنها لام العلة ودخلت على ما الموصولة، وحذف عائدها، وإن لم تَطُّلِ الصّلة، والأصل: الذي هو متاع، كقوله: ﴿تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] برفع النون.
و «إنْ» هي المخففة من الثقيلة، و «كل» مبتدأ، والجار بعده خبره، أي وإنَّ كُلَّ ما تقدم ذكره كائنٌ لِلَّذِي هُوَ متاع الحياة. وكان الوجه أن تدخل اللام الفارقة، لعدم إعمالها، إلا إنها لما دَلَّ الدليلُ على الإثبات جاز حَذْفها، كما حذفها الآخر في قوله (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
258
قوله: ﴿والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ خاصة، يعني الجنة للمتقين عن حب الدنيا.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَزِثُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوَضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِراً قَطْرَةَ مَاءٍ».
وروى المُسْتَوْردُ بنُ شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على السحلة الميتة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتُرى هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا: مِنْ هَوانِها أَلقَوْهات، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أهْلِهَا «.
فإن قيل: لما بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام؟!.
فالجواب: لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام، لطلب الدنيا، وهذا الإيمان إيمان المنافقين، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل الإسلام فإنما يدخل لمتابعة الدليل، ولِطَلَبِ رضوان الله تعالى، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب.
259
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:قوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ اعلم أنه تعالى أجاب هَهُنَا بوجْهٍ ثالث عن شُبْهَتِهِمْ بتفضيل الغني على الفقير، وهو أنه تعالى بين أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله تعالى وبين حقارتها بقوله :﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ﴾ والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للنعم فأحدها : أن يكون سقْفُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ. وثانيها : مَعارجَ عَلَيْهَا يَظْهِرُونَ أي يَعْلُون ويَرْتَقُونَ، يقال : ظَهَرْتُ عَلَى السَّطْحِ إذَا عَلَوْته١.
وثالثها :«أن يجعل لبيوتهم أبواباً وسرراً أيضاً من فضة عليها يتَّكِئُونَ »٢.
قوله :﴿ لِبُيُوتِهِمْ ﴾ بدل اشتمال١، بإعادة العامل٢، واللامان للاخْتِصَاص٣.
وقال ابن عطية : الأولى للمِلْكِ٤، والثانية للاختصاص٥. ورده أبو حيان : بأن الثاني بدل فيشترط أن يكون ( الحرف )٦ متحد المعنى لا مختلفه٧. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك : وَهَبْتُ لَهُ ثَوْباً لِقَمِيصِهِ٨. قال أبو حيان : ولا أدري ما أراد بقوله٩. قال شهاب الدين : أراد بذلك أن اللامين للعلة، أي كانت الهبة لأجلك لأجل قميصك، فلقميصك بدل اشتمال، بإعادة العامل بِعَيْنِهِ وقد نقل أن قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ] و [ الأنبياء : ٧٢ ] و [ العنكبوت : ٢٧ ] أنها١٠ للعلة.
قوله :﴿ سَقْفاً ﴾ قرأ ابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرو بفتح السين، وسكون القاف بالإفراد، على إرادة الجنس والباقون بضمتين على الجمع ( كرُهُن )١١ في جمع رَهْنٍ١٢. وفي رهن تأويل لا يمكن هنا، وهو أن يكون جمع رِهَان جمع رَهْن، لأنه لم يسمع سِقَاف جمع سَقْف١٣.
وعن الفراء أنه جمع سَقِيفَةٍ١٤ فيكون كصَحِيفَةٍ، وصُحُفٍ. وقرئ : سَقَفاً بفتحتين لغة في سَقْفٍ١٥، وسُقُوفاً١٦ بزنة فَلسٍ وفُلُوساً. وأبو رجاء بضمة وسكون١٧.
و«مِنْ فِضَّةٍ » يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف صفة «لسُقفٍ ».
قوله :﴿ ومعارج ﴾ قرأ العامة مَعَارجَ جمع «مِعْرَج » وهو السلم وطلحة١٨ مَعَارِيج١٩ جمع مِعْرَاج وهو كمِفْتَاح لمِفْتَح، وَمَفَاتِيح لمِفْتَاحٍ.
قوله :﴿ وَسُرُراً ﴾ جمع «سرير » والعامة على ضم الراء. وقرئ بفتحها، وهي لغة بعض تميم وكَلْبٍ٢٠ وقد تقدم أن «فعيلاً » المضعف يفتح عينه، إذا كان اسماً، أو صفة نحو : ثَوْبٌ جَدِيدٌ، وثِيَابٌ جُدَدٌ. وفيه كلام للنحاة٢١. وهل قوله :«مِنْ فِضّةٍ » شامل للمعارج والأثواب والسُّرُر ؟.
فقال الزمخشري : نعم٢٢، كأنه يرى تشريك المعطوف مع المعطوف عليه في قيوده. وَ «عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ » و«عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ » صفتان لما قبلهما.
١ القرطبي السابق وانظر غريب القرآن ٣٩٧..
٢ الرازي ٢٧/٢١١..

قوله :﴿ وزُخْرُفا ﴾ يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي وجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفاً١، وجوز الزمخشري أن ينصب عطفاً على محل «من فضة »، كأنه قيل : سُقُفاً من فضةٍ وذهب٢، فلما حذف الخافض انتصب أي بعضها كذا وبعضها كذا.
الزخرف قيل : هو الذَّهَبُ، لقوله :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ].
وقيل : الزخرف الزينة، لقوله تعالى :﴿ حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت ﴾٣ [ يونس : ٢٤ ] فيكون المعنى نُعْطِيهم زينةً في كل بابٍ.
قوله :﴿ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ قرأ حمزة وعاصم لَمَّا بالتشديد على معنى : وما كُل ذلك إلاّ متاع الحياة الدنيا. فكان لما بمعنى إلا٤. حكى سيبويه :«أَنْشَدْتُكَ بِالله لَمَّا فَعَلْتَ » بمعنى إلا٥. ويؤيد هذه القراءة قراءةٌ مَنْ قرأ : وَمَا ذَلِكَ إلاَّ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا٦ وخففه الآخرون على معنى : وكل ذلك متاع الحياة الدنيا. فتكون اللام للابتداء، وما صلة٧ يريد : أن هذا كله متاع الحياة الدنيا وسماه متاعاً، لأن الإنسان يستمتع به قليلاً، ثم يزول ويذهب. وتقدم الخلاف في لما تخفيفاً وتشديداً في سورة هُودٍ٨.
قال أبو الحسن٩ : الوجه التخفيف، لأن لما بمعنى إلا لا يُعْرَفُ١٠. وحكي عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل١١. وقرأ أبو رَجَاءٍ وأبو حَيْوَةَ : لِمَا بكسر١٢ اللام على أنها لام العلة ودخلت على ما الموصولة، وحذف عائدها، وإن لم تَطُّلِ الصّلة، والأصل : الذي هو متاع، كقوله :﴿ تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٤ ] برفع النون.
و«إنْ » هي المخففة من الثقيلة، و«كل » مبتدأ، والجار بعده خبره، أي وإنَّ كُلَّ ما تقدم ذكره كائنٌ لِلَّذِي هُوَ متاع الحياة. وكان الوجه أن تدخل اللام الفارقة، لعدم إعمالها، إلا إنها لما دَلَّ الدليلُ على الإثبات جاز حَذْفها١٣، كما حذفها الآخر في قوله ( رحمه الله )١٤ :
٤٤٠١ - أَنَا ابْنُ أُبَامةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مَالِكٍ وَإنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَ المَعَادِنِ
٤٤٠١ أَنَا ابْنُ أُبَاةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مَالِكٍ وَإنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَ المَعَادِنِ١٥
قوله :﴿ والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ خاصة، يعني الجنة للمتقين عن حب الدنيا.
قال عليه الصلاة والسلام :«لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوَضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِراً قَطْرَةَ مَاءٍ »١٦.
وروى المُسْتَوْردُ١٧ بنُ شداد قال :«كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السحلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أتُرى هذه هانت على أهلها حين ألقوها ؟ قالوا : مِنْ هَوانِها أَلقَوْها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«فالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أهْلِهَا ».
فإن قيل : لما بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر١٨، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام ؟ !.
فالجواب : لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام، لطلب الدنيا، وهذا الإيمان إيمان المنافقين، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل الإسلام فإنما يدخل لمتابعة الدليل، ولِطَلَبِ رضوان الله تعالى، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب١٩.
١ قاله الفراء في معانيه ٢/٣٢ قال: "إن نصبته على الفعل توقعه أي وزخرفا تجعل ذلك لهم منه"..
٢ الكشاف ٣/٤٨٧، وذكره أيضا ابن الأنباري في البيان ٢/٢٥٣..
٣ ٢٤ من يونس، وانظر غريب القرآن ٣٩٧ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤١١. وفسره الفراء في معاني القرآن بالذهب انظر معاني الفراء ٣/٣٢..
٤ الإتحاف ٣٨٥ والسبعة ٥٨٦ وهي قراءة متواترة..
٥ سبق هذا..
٦ ذكرها الكشاف بدون عزو في ٣/٤٨٧. ونسبها الرازي إلى أبي بن كعب. انظر الرازي ٢٧/٢١١..
٧ ولفظة "ما" لغو، قاله الرازي نقلا عن الواحدي، انظر المرجع السابق..
٨ من قوله تعالى: ﴿وإن كلا لما ليوفينهم ربك﴾ من الآية ١١١..
٩ تصحيح عن النسختين ففيها أبو الحسين، والأصح ما أثبت أعلى فهو أبو الحسن الأخفش الأوسط..
١٠ قال في معاني القرآن: "خفيفة منصوبة اللام. وقال بعضهم لما فثقل ونصب اللام وضعف الميم وزعم أنها في التفسير الأول إلا، وأنها كلام العرب". معاني القرآن له ٦٨٨ و٦٨٩، وانظر عنه أيضا القرطبي ١٦/٨٨ والرازي ٢٧/٢١١..
١١ المرجع السابق..
١٢ المرجعين السابقين، وانظر أيضا المحتسب ٢/٢٥٥..
١٣ وانظر البحر المحيط ٨/١٥ والدر المصون ٤/٧٨٢..
١٤ زيادة من أ..
١٥ من الطويل وهو للطرماح بن حكيم، والأباة جمع آب، وهو الممتنع، والضيم الذل. والشاهد: حذف اللام الفارقة التي تفرق بين إن المخففة من الثقيلة من غيرها، والأصل: "لكانت" حيث دل دليل على الإثبات كما ذكر أعلى وانظر الهمع ١/١٤ وابن الناظم ٦٨، والتصريح ١/٢٤١ والبحر المحيط ٨/١٥ والدر المصون ٤/٧٨٢، وشرح الشواهد للعيني على الأشموني ١/٢٨٩..
١٦ هو لسهل بن سعد عن رسول الله، انظر ابن ماجه ٢/١٣٧٧..
١٧ ابن عمرو بن حبيب بن شيبان القرشي الفهري صحابي، له سبعة أحاديث مات سنة ٤٥ انظر خلاصة الكمال ٢٧٤..
١٨ في ب على الإسلام..
١٩ انظر الرازي ٢٧/٢١٢..
قوله: ﴿وَمَن يَعْشُ﴾ العامة على ضم الشين من عَشَا يَعْشُو، أي يَتَعَامَى، ويَتَجَاهَلُ.
وعن ابن عباس وقتادة ويَحْيَى بْنِ سَلاَّم بفتح الشين بمعنى يَعْمَ، يقال: عَشِيَ يَعْشَى
259
عَشاً إذَا عَمِيَ، فَهُوَ أَعْشَى، وامرأَةٌ عَشْوَاء. وزيد
بن علي يَعْشُو بإثبات الواو. وقال الزمخشري: على أن من موصولة، وحق هذا أن يقرأ نُقَّيِّضُ بالرفع. قال أبو حيان: ولا يتعين موصوليتُها، بل يخرج على وجهين، إما تقدير حذف حركة حرف العلة، وقد حكاها الأخفش لغةً، وتقدم منه في سورة يُوسُفَ شواهدُ.
وإما على أنه جُزِمَ بمَنْ المَوْصُولَة تشبيهاً لها بمَنْ الشَّرْطيَّة.
قال: وإذا كانوا قد جزموا بالذي وليس بشرط قَط فأولى بما استعمل شرطاً وغير شرط، وأنشد:
٤٤٠٢ - وَلاَ تَحْفِرَنْ بئْراً تُريدُ أَخاً بِهَا فَإنَّكَ فِيهَا أَنْتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ
كَذَلِكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَواقِبُ مَا صَنَعْ
قال: وهو مذهب الكوفيين، وله وجه من القياس، وهو أنَّ «الذي» أشْبَهَتْ اسم الشرط في دخول الفاء في خبرها، واسم الشرط في الجزم أيضاً، إلا أن دخخول الفاء منقاسٌ بشرطه وهذا لا يَنْقَاسُ.
260
ويقال: عَشَا يَعْشُوا، وَعشِيَ يَعْشَى، فبعضهم جعلهما بمعنًى. وبعضهم فرق بأن عَشِيَ يَعْشَى، إذا جعلت الآفة في بصره، وأصله الواو. وإنما قبلت ياء، لانكسار ما قبلها، كَرَضِيَ يَرْضَى. وعَشَا يَعْشُو أي تفاعل ذلك، ونَظَرَ نَظَرَ العُشْي، ولا آفة ببصره.
كما قال: عَرِجَ لمن به آفة العرج. وعَرَجَ لمن تعارج ومشى مِشْيَة العرْجَانِ. قال (رحمةُ اللهِ عليه) :
٤٤٠٣ - أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ حَتَّى يُوارِي جَارَتِي الخِدْرُ
أي أنظر نظر العُشْي، وقال آخر:
٤٤٠٤ - مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نَارِهِ تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
أي ينظر نظر العُشي لضعف بصره من كثرة الوقُود. وفرّق بعضهم: بأن عشوت إلى النار إذَا استدللت عليها بنظر ضعيف. وقال الفَرَّاء عَشَا يَعْشُوا: يُعْرِضُ، وعَشِيَ يَعْشَى عَمِيَ، إلا أن ابن قتيبةَ قال: لم نَرَ أحداً حكى: عَشَوْتُ عَنِ الشيء، أعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تَعَاشَيْتُ عن كَذَا، إذا تَغَافَلْت عنه وتَعَامَيْت.
قوله: «نُقَيِّضْ» قراءة العامة بنون العظمة وعَلِيّ بن أبي طالب، والأعمش ويعقوبُ، والسُّلَمِيّ، وأبو عَمْرو، وعاصمٌ في روايةٍ عنهما: يُقَيِّضْ بالياء من تحت. أي يُقَيِّض الرحمنُ. و «الشيطان» نصب في القراءتين وابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما)
261
يُقيِّضَّ مبنياً للمفعول شَيْطَانٌ بالرفع قائم مقام الفاعل.

فصل


﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن﴾ أي يُعْرِض عن القرآن، وقيل: يُعرض عن الله، فلم يخفْ عقابه ولم يرجُ ثَوَابَه، يقال: عَشَوْت إلى النار، أَعْشُو عَشْواً، إذا قصدتها مُبْتَدِياً، وعَشَوْتُ عَنْهَا إذا أعرضت عنها، كما يقال: عدلت إلى فُلاَن، وعدلت عنه أي مِلْتُ إلَيْهِ، ومِلْتُ عَنْهُ.
قال القرطبي: تولية ظهره، كقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨، ١٧١] وقال الخليل: أصل العَشْوِ النظر ببصرٍ ضعيف. وأما القراءة بالضم فمعناه: يَتَعَامَ عن ذكره أي يعرف أنه الحق ويتجاهل ويَتَعَامى، كقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل: ١٤].
﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً﴾ أي نضمه إليه، وتسلطه عليه ﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ لا يفارقه، يزين له العَمَى ويخيل إليه أنه الهدى.
قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾.
«وإنهم» يعني الشياطين ﴿ليصدونهم عن السبيل﴾ أي يمنعونهم عن الهدى. وذكر الشياطين والإنسان بلفظ الجمع، لأن قوله ﴿ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً﴾ يفيد الجمع وإن كان اللفظ على الواحد.
قال أبو حيان: الظاهر أن ضَمِيري النصب في ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ عائدان على «مَنْ» من حيث معناها راعى لفظها أولاً، فأفرد (في) «له» ثم راعى معناها فجمع في قوله: ﴿وإنهم ليصدونهم﴾ والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به الجنس ولأن كل كافر معه قرين.
وقال ابن عطية: إن الضمير الأول للشياطين، والثاني للكفار والتقدير: وإن
262
الشياطينَ ليصدون الكفار العاتين، ويحسبون أنهم مهتدون أي ويحسب كفارُ بني آدم أ، هنم على الهُدَى.
قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا جَآءَنَا﴾ قرأ أبو عمرو والأخوان وحفص «جاءنا» بإسناد الفعل إلى ضمير مفرد يعود على لفظ «من» وهو العاتِي، وحينئذ يكون هذا مما حمل فيه على اللفظ، ثم على المعنى ثم على اللفظ، فإنه حمل أولاً على لفظها في قوله: «نُقَيِّضْ لَهُ.. فَهُوَ لَهُ» ثم جمع على معناها في قوله: ﴿وإنهم ليصونهم﴾... ويحسبون أنهم ثم رجع إلى لفظها في قوله: «جَاءَنَا» والباقون: «جاءانا» مسنداً إلى ضمير تثنية، وهما العاتِي وقرينه جُعلا في سلسلة واحدة فحينئذ يقول الكافر لقرينه ﴿ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين﴾ أي بعد مابين المشرق والمغرب، فغُلِّبت إحدَاهُما على الآخر، كالقمرين والعمرين قال الفرزدق:
٤٤٠٥ -..................... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَلِعُ
ويقولن للكوفة والبصرة: البَصْرَتَان، والغَدَاةِ والعَصْر: العصران، ولأبي بكر، وعمر: العُمرَان وللماء والثمر: الأسْوَدَان وقيل: أرادن بالمشرقين: مَشْرِق الصيف ومشرق الشتاء والأول أصلح. وقيل: بُعْدُ المشْرِقَيْنِ مِن المَغْرِبَيْنِ. وقال ابن الخطيب: إن أهل النجوم يقولون: إن الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب هي حركة الفَلَك الأعظم، والحركة التي من المغرب إلى المشرق هي حركة الكواكب الثابتة والأفلاك المميلة والسيارات سوى القمر، وإذا كان كذلك المشرق والمغرب كل واجد منهما مشرِق بالنسبة إلى شيء ومغرب بالنسبة إلى شيء آخر. فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة ثم ذكر وجهاً آخرَ، وهو أن الحِسَّ يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب، وأما من المغرب فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب، ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق وذلك يدل على أن حركة القمر من المغرب.
وإذا ثبت هذا بالجانب المسمى بالمَشْرِق، فإنه
263
مشرق الشمس ولكنه مغرب القمر. وأما الجانب المسمَّى بالمغرب فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس، وبهذا التدقير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين. قال: «ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ من سائر الوجوه». وهذا ليس بشيء، فإن ظهور القمر من المغرب ما كان لكونه أشرق من الغرب إنما كان ظهورها لغيبوبة شُعَاع الشَّمْسِ عنه، وإنما كان إشراقه وظهوره من المشرق الحقيقي ولكنه كان مختفياً بشعاع الشمس.
قوه: ﴿فَبِئْسَ القرين﴾ والمخصوص بالذم محذوف أي أنت. قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعض الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير بِهِ إلى النار».
قوله: ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ﴾ في فاعله قولان:
أحدهما: أنه ملفوظ به وهو «أنَّكُمْ» وما في خبرها التقدير: ولن ينفعكم اشتراكُكُمْ في العذاب بالتأسِّي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصَاب بمِثْلِهِ.
ومنه قول الخنساء:
٤٤٠٦ - وَلَوْلا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي عَلَى مَوْتَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلكِنْ أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتأَسِّي
والثاني: أنه مضمر، فقدره بعضهم ضمير التمني، المدلول عليه بقوله: «يَا لَيْتَ بَيْنِي» أي لن ينفعكم تمنيكم البُعْد.
وبعضهم: لن ينفعكم اجتماعكم. وبعضهم: ظلمكم، وجحدكم. وعبارة من عبّر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف؛ إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع، ليس هذا منها وعلى هذا الوجهه يكمون قوله: «أنكم» تعليل، أي لأنَّكُمْ،
264
فحذف الخافض، فجرى في محلها الخلاف، أهو نصب أم جر؟ ويؤيد إضمار الفاعل لا أنه هو إنكم قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناق مفيد للتعليل.
قوله: «إذْ ظَلَمْتُمْ» قد استشكل المعربون هذه الآية، ووجهه هو أن قوله (اليوم) ظرف حالي و «إذْ» ظرف ماض، و «ينفعكم» مستقبل، لاقترانه بلن، التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظَّرْفَيْنِ، وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع بعد في ظرف حاضر أو ماض؟! هذا ما لا يجوز. وأجيب: عن إعماله في الظرف على سبيل قربه منه، لأنَّ الحال قريب من الاستقبال، فيجوز في ذلك، قال تعالى: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآن﴾ [الجن: ٩]، وقال الشاعر:
٤٤٠٧ -........................ سَأسْعَى الآنَ إِذْ بَلَغَتْ إنَاهَا
وهو إقناعي، وإلا فالمستقبل يستحيل وقوعه في الحال عقلاً. وأما قوله: «إذْ» ففيها للناس أوجه كثيرة: قال ابن جني: راجعت أبا علي فيها مراراً، وآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان، وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه.
«فَإِذْ» بدل من «اليوم» حتى كأنه مستقبل، أو كأن اليوم ماض.
265
وإلى هذا نحا الزمخشري، قال: «وإذْ بدل من اليوم» وحمله الزمخشري على معنى إذ تَبَيَّنَ وصح ظلمكم ولم يبق لأحدٍ لكم شُبْهَة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره:
٤٤٠٨ - إِذَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لئيمةٌ........................
أي شتبين أني ولد كريمة.
قال أبو حيان: ولا يجوز البدل ما دامت إذ على موضوعها من المُغَيَّا فإن جعلت لمطلق الزمان جاز.
قال شهاب الدين: «لم يُعْهد في إذ أنها تكون لمطلق الزمان بل هي موضوعة لزمان خاص بالمضي كَأَمْسِ.
الثاني: أن في الكلام حذفل مضاف تقديره:»
بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ «.
الثالث: أنها للتعليل، وحينئذ تكون حرفاً للتعليل كاللاّم.
الرابع: أن الفاعل في»
إذ «هو ذلك الفاعل المقدر، لا ضميره، والتقدير: ولن يَنْفَعَكُمْ ظلمُكُم أو جُحُودكم إذْ ظَلَمْتُمْ.
الخامس: أن العامل في إذْ ما دل عليه المعنى كأنه قال: ولكن لن ينفعكم اجتماعُكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ. قاله الحَوْفيُّ. ثم قال: وفاعل ينفعكم الاشتراك انتهى.
وظاهر هذا متناقض، لأنه جعل الفاعل أولاً اجتماعكم ثم جعله أخِراً الاشتراك. ومنع أن يكون»
إذْ «بدلاً من» اليوم «لِتَغَايُرِهما في الدَّلالة.
وفي كتاب أبي البقاء: وقيل: إذْ بمعنى»
إنْ «أي إن ظلمتم. ولم يقيدها بكونها
266
أَن بالفتح أو الكسر. ولكن قال أبو حيان:» وقيل: إذ للتعليل حرف بمعنى أَنْ، يعني بالفتح. وكأنه أراد ما ذكره أبو البقاء إلا أن تسميته «أَنْ» للتعليل مجازاً، فَإِنَّها على حذف حرف العلة أي لأَنْ، فلمصاحبتها لها والاستغناء بها عنها سمَّاها باسمها. ولا ينبغي أن يعتقد أنها في كتاب أبي البقاء بالكسر على الشرطية، لأن معناه بعيدٌ.
وفي كتاب مجاهِدٍ: أن ابن عامر قرأ: إنكم بالكسر، على الاستئناف المفيد للعلة وحينئذ يكون الفاعل مضمراً على أحد التقادير المذكورة.

فصل


المعنى: ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم﴾ في الآخرة «إذْ ظَلَمْتُمْ» أشركتم في الدنيا ﴿أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ أي لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحَظَّ الأوفر من العذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليومَ، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب، كما كنتم في الدنيا تشتركون. واعلم أنه تعالى بين أن الشركة في العذاب لا تفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، والسبب فيه وجوه:
الأول: أن ذلك العذاب الشديد عظيم، واشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر، فلا جَرَمَ لم تفد الشركة خفةً.
الثاني: إذا اشترك الأقوام في العذاب، أعان كل واحد منهم صاحبه بما مقدر عليه ليحصل بسببه بعض التخفيف. وهذا المعنى متبدّد في القيامة.
الثالث: أن جلوس الإنسان مع قرينه يُفيده أنواعاً كثيرة من السلوة. فبين تعالى أن الشيطان وإنْ كَانَ قريناً له، إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقوبة؟
قوله (تعالى) :﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي... ﴾ لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمَمِ والعَمَى. وما أحسن هذا الترتيب، وذلك أن الإنسان في أول اشتغاله يطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رَمدٌ ضعيف، ثم لما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثر كان مَيْلُهُ إلى الجُسمانيَّات أشد، وإعراضه عن الروحانيات أكمل؛
267
لأن كثرة المواظبة على الشيء توجب حصول الملكة اللاَزمة لينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى، فإذا واظب على تلك الحال انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى.
روى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، كان يجتهد في دعاء قومه، وهم لايزيدون إلا تصميماً على الكفر وعِناداً في الغي فقال الله تعالى: ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي﴾ بمعنى أنهم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصُّمِّ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي.
268
قوله :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾.
«وإنهم » يعني الشياطين ﴿ ليصدونهم عن السبيل ﴾ أي يمنعونهم عن الهدى. وذكر الشياطين والإنسان بلفظ الجمع، لأن قوله ﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً ﴾ يفيد الجمع وإن كان اللفظ على الواحد١.
قال أبو حيان : الظاهر أن ضَمِيري النصب في ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ ﴾ عائدان على «مَنْ » من حيث معناها راعى لفظها أولاً، فأفرد ( في )٢ «له » ثم راعى معناها فجمع في قوله :﴿ وإنهم ليصدونهم ﴾ والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به الجنس ولأن كل كافر معه قرين.
وقال ابن عطية : إن الضمير الأول للشياطين٣، والثاني للكفار٤ والتقدير : وإن الشياطينَ ليصدون الكفار العاتين، ويحسبون أنهم مهتدون أي ويحسب كفارُ بني آدم أنهم على الهُدَى٥.
١ الرازي ٢٧/٢١٢..
٢ سقط من ب..
٣ في ب للشيطان بالإفراد..
٤ البحر المحيط بالمعنى ٨/١٦ والدر المصون ٤/٧٨٥. وقد سبق إلى ذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٤٨٨..
٥ البحر المحيط ٨/١٦..
قوله تعالى :﴿ حتى إِذَا جَاءَنَا ﴾ قرأ أبو عمرو والأخوان وحفص «جاءنا » بإسناد الفعل إلى ضمير مفرد يعود على لفظ «من » وهو العاتِي، وحينئذ يكون هذا مما حمل فيه على اللفظ، ثم على المعنى ثم على اللفظ، فإنه حمل أولاً على لفظها في قوله :«نُقَيِّضْ لَهُ. . فَهُوَ لَهُ » ثم جمع على معناها في قوله :﴿ وإنهم ليصونهم ﴾. . . ويحسبون أنهم ثم رجع إلى لفظها في قوله :«جَاءَنَا » والباقون :«جاءانا » مسنداً إلى ضمير تثنية١، وهما العاتِي وقرينه جُعلا في سلسلة واحدة فحينئذ يقول الكافر لقرينه ﴿ يا ليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين ﴾ أي بعد مابين المشرق والمغرب، فغُلِّبت إحدَاهُما على الآخر، كالقمرين والعمرين قال الفرزدق :
٤٤٠٥. . . . . . . . . . . . . لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَلِعُ٢
ويقولن للكوفة والبصرة : البَصْرَتَان، والغَدَاةِ والعَصْر : العصران، ولأبي بكر، وعمر : العُمرَان وللماء والثمر : الأسْوَدَان٣ وقيل : أراد بالمشرقين : مَشْرِق الصيف ومشرق الشتاء والأول أصلح٤. وقيل : بُعْدُ المشْرِقَيْنِ مِن المَغْرِبَيْنِ٥. وقال ابن الخطيب : إن أهل النجوم يقولون : إن الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب هي حركة الفَلَك الأعظم، والحركة التي من المغرب إلى المشرق هي حركة الكواكب الثابتة والأفلاك المميلة٦ والسيارات سوى القمر، وإذا كان كذلك المشرق والمغرب كل واجد منهما مشرِق بالنسبة إلى شيء ومغرب بالنسبة إلى شيء آخر. فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة ثم ذكر وجهاً آخرَ، وهو أن الحِسَّ يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب، وأما من المغرب فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب، ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق وذلك يدل على أن حركة القمر من المغرب.
وإذا ثبت هذا بالجانب المسمى بالمَشْرِق، فإنه مشرق الشمس ولكنه مغرب القمر. وأما الجانب المسمَّى بالمغرب فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس، وبهذا التقدير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين. قال :«ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ من سائر الوجوه »٧. وهذا ليس بشيء، فإن ظهور القمر من المغرب ما كان لكونه أشرق من المغرب إنما كان ظهورها لغيبوبة شُعَاع الشَّمْسِ عنه، وإنما كان إشراقه وظهوره من المشرق الحقيقي ولكنه كان مختفياً بشعاع الشمس.
قوه :﴿ فَبِئْسَ القرين ﴾ والمخصوص بالذم محذوف أي أنت. قال أبو سعيد الخدري :«إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير بِهِ إلى النار »٨.
١ من القراءات المتواترة انظر السبعة ٥٨٦، والإتحاف ٣٨٦ ومعاني الفراء ٣/٣٣ والبحر المحيط ٨/١٦، والدر المصون ٤/٧٨٥، والكشاف ٣/٤٨٨..
٢ عجز بيت من الطويل له، صدره:
أخذنا بأفاق السماء عليكم ...................................
والبيت شاهد على تغليب القمر على الشمس والقمر في قوله: قمراها. وانظر معاني الزجاج ٤/١٤٢ والمقتضب ٤/٣٢٦، والمغني ٦٨٧ شرح شواهده للسيوطي ١٣/ و٩٦٤ والطبري ٢٥/٤٤، ومجمع البيان ٩/٧٤ وتفسير الفخر الرازي ٢٧/٢١٣ والقرطبي ١٦/٩١ والفراء ٣/٣٣..

٣ انظر القرطبي ١٦/٩١..
٤ السابق ومعاني الفراء ٣/٣٣..
٥ قاله الزجاج في معاني القرآن ٤/٤١٢..
٦ في الرازي: الممثلة التي للسيارات سوى القمر..
٧ قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧/٢١٣..
٨ القرطبي ١٦/٩١..
قوله :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ ﴾ في فاعله قولان :
أحدهما : أنه ملفوظ به وهو «أنَّكُمْ » وما في خبرها التقدير : ولن ينفعكم اشتراكُكُمْ في العذاب بالتأسِّي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصَاب بمِثْلِهِ١.
ومنه قول الخنساء :
٤٤٠٦ وَلَوْلا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي عَلَى مَوْتَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلكِنْ أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتأَسِّي٢
والثاني : أنه مضمر، فقدره بعضهم ضمير التمني، المدلول عليه بقوله :«يَا لَيْتَ بَيْنِي » أي لن ينفعكم تمنيكم البُعْد٣.
وبعضهم : لن ينفعكم اجتماعكم. وبعضهم : ظلمكم، وجحدكم٤. وعبارة من عبّر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف ؛ إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع، ليس هذا منها٥ وعلى هذا الوجه يكون قوله :«أنكم » تعليل، أي لأنَّكُمْ، فحذف الخافض، فجرى في محلها الخلاف، أهو نصب أم جر ؟ ويؤيد إضمار الفاعل لا أنه هو إنكم قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناف مفيد للتعليل.
قوله :﴿ إذْ ظَلَمْتُمْ ﴾ قد استشكل المعربون هذه الآية، ووجهه هو أن قوله ( اليوم ) ظرف حالي و«إذْ » ظرف ماض، و«ينفعكم » مستقبل، لاقترانه بلن، التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظَّرْفَيْنِ، وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع بعد في ظرف حاضر أو ماض ؟ ! هذا ما لا يجوز. وأجيب : عن إعماله في الظرف على سبيل قربه منه، لأنَّ الحال قريب من الاستقبال، فيجوز في ذلك، قال تعالى :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن ﴾ [ الجن : ٩ ]، وقال الشاعر :
٤٤٠٧. . . . . . . . . . . . . . . . . . سَأسْعَى الآنَ إِذْ بَلَغَتْ إنَاهَا٦
وهو إقناعي، وإلا فالمستقبل يستحيل وقوعه في الحال عقلاً. وأما قوله :«إذْ » ففيها للناس أوجه كثيرة : قال ابن جني : راجعت أبا علي فيها مراراً، وآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان، وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه.
«فَإِذْ » بدل من «اليوم » حتى كأنه مستقبل، أو كأن اليوم ماض٧.
وإلى هذا نحا الزمخشري، قال :«وإذْ بدل من اليوم » وحمله الزمخشري على معنى إذ تَبَيَّنَ وصح ظلمكم ولم يبق لأحدٍ لكم شُبْهَة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره :
٤٤٠٨ إِذَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لئيمةٌ . . . . . . . . . . . . . . . . . ٨
أي تبين أني ولد كريمة٩.
قال أبو حيان : ولا يجوز البدل ما دامت إذ على موضوعها من المُغَيَّا فإن جعلت لمطلق الزمان جاز١٠.
قال شهاب الدين :«لم يُعْهد في إذ أنها تكون لمطلق الزمان بل هي موضوعة لزمان خاص بالمضي كَأَمْسِ١١.
الثاني : أن في الكلام حذف مضاف تقديره :«بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ »١٢.
الثالث : أنها للتعليل، وحينئذ تكون حرفاً للتعليل كاللاّم١٣.
الرابع : أن الفاعل في «إذ » هو ذلك الفاعل المقدر، لا ضميره، والتقدير : ولن يَنْفَعَكُمْ ظلمُكُم أو جُحُودكم إذْ ظَلَمْتُمْ١٤.
الخامس : أن العامل في إذْ ما دل عليه المعنى كأنه قال : ولكن لن ينفعكم اجتماعُكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ. قاله الحَوْفيُّ١٥. ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك١٦ انتهى.
وظاهر هذا متناقض، لأنه جعل الفاعل أولاً اجتماعكم ثم جعله أخِراً الاشتراك. ومنع أن يكون «إذْ » بدلاً من «اليوم » لِتَغَايُرِهما في الدَّلالة١٧.
وفي كتاب أبي البقاء : وقيل : إذْ بمعنى «إنْ » أي إن ظلمتم١٨. ولم يقيدها بكونها أَن بالفتح أو الكسر١٩. ولكن قال أبو حيان :«وقيل : إذ للتعليل حرف بمعنى أَنْ، يعني بالفتح٢٠. وكأنه أراد ما ذكره أبو البقاء إلا أن تسميته «أَنْ » للتعليل مجازاً، فَإِنَّها على حذف حرف العلة أي لأَنْ، فلمصاحبتها لها والاستغناء بها عنها سمَّاها باسمها. ولا ينبغي أن يعتقد أنها في كتاب أبي البقاء بالكسر على الشرطية، لأن معناه بعيدٌ٢١.
وفي كتاب مجاهِدٍ : أن ابن عامر قرأ : إنكم بالكسر، على الاستئناف المفيد للعلة وحينئذ يكون الفاعل مضمراً على أحد التقادير المذكورة٢٢.

فصل


المعنى :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم ﴾ في الآخرة «إذْ ظَلَمْتُمْ » أشركتم في الدنيا ﴿ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ ﴾ أي لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم ؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحَظَّ الأوفر من العذاب. وقال مقاتل : لن ينفعكم الاعتذار والندم اليومَ، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب، كما كنتم في الدنيا تشتركون٢٣. واعلم أنه تعالى بين أن الشركة في العذاب لا تفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، والسبب فيه وجوه :
الأول : أن ذلك العذاب الشديد عظيم، واشتغال٢٤ كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر، فلا جَرَمَ لم تفد الشركة خفةً.
الثاني : إذا اشترك الأقوام في العذاب، أعان كل واحد منهم صاحبه بما مقدر عليه ليحصل بسببه بعض التخفيف. وهذا المعنى متبدّد في القيامة.
الثالث : أن جلوس الإنسان مع قرينه يُفيده أنواعاً كثيرة من السلوة. فبين تعالى أن الشيطان وإنْ كَانَ قريناً له، إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقوبة٢٥ ؟
١ قاله أبو حيان معنى في بحره ٨/١٧ والسمين في الدر لفظا ٤/٧٨٥..
٢ من تمام الوافر لها وهي تماضر بنت عمرو بن الشريد، ترثي أخاها صخرا. والشاهد: في كلمة التأسي فإن معنى التأسي إتباع صاحب المصيبة بمثله من الناس أصحاب المصائب الأخرى. وانظر ديوانها (٨٥) والبحر المحيط ٨/١٧، والدر المصون ٤/٧٨٥، والخصائص ٢/١٧٥، والكشاف ٣/٤٨٩، وشرح شواهده ٤٣١، والقرطبي ١٦/٩١، والسراج المنير ٣/٥٦٤..
٣ ذكره العكبري في التبيان ١١٣٩؛ فعلى هذا يكون أنكم بمعنى لأنكم..
٤ وانظر هذه الأقوال جميعا في الكشاف ٣/٤٨٩، والبحر المحيط ٨/١٧..
٥ الأليق والأدق عند النحاة إضمار الفاعل لا حذفه، فلم يقل بحذفه إلا القليل منهم الإمام الكسائي ومن المواضع التي يجب تقدير الفاعل فيها:
الأول: أن يكون مقدرا مع عامله مثل محمدا في جواب من أحببت؟
الثاني: فاعل المصدر إذا لم يكن ملفوظا به نحو: أو إطعام في يوم.
الثالث: فعل المفردة المؤنثة وجماعة الذكور إذا أكد بالنون، نحو: لتضربن فإن الضمير قد حذف لالتقاء الساكنين ياء المخاطبة وواو الجماعة والنون الأولى الساكنة وهذا الحذف عارض فهو واجب التقدير.
الرابع: أن يكون مدلولا عليه بالفحوى أو اللفظ مثل "ثم بدا لهم" ومثل: "ولا يشرب الخمر حين يشربها"
الخامس: الفاعل المضمر وجوبا مع أفعل، ونفعل، وتفعل.
السادس: الفاعل المضمر في نحو: نعم رجلا زيد.
في كل هذه المواضع ينبغي أن القول: إن الفاعل مضمر؛ لأن الكلام لا يستقيم إلا به، فهو النية وإن لم يكن متلفظا به. أما إذا حذف الفاعل لغرض من الأغراض كتعينه أو الخوف عليه أو منه وأقيم المفعول مقامه نائبا في الأحكام اللفظية وصار بهذا التقديم عمدة في اللفظ بعد أن كان فضلة فلا شك في أن الفاعل في مثل هذه المواضع محذوف، لأنه لم يتعلق بذكره في غرض ما، ولم يكن معتمد الفائدة والحال هذه. وانظر الهمع للإمام السيوطي ١/١٦٠ وشرح الأشموني على الألفية ٢/٤٤ بتصرف..

٦ عجز بيت من تمام الوافر، لعنترة العبسي، وصدره:
فإني لست خاذلكم ولكن
وشاهده: إعمال الفعل وهو "أسعى" في الظرف وهو الآن لقربه منه فإن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك حينئذ. وانظر البحر المحيط ٨/١٧ والدر المصون ٤/٧٨٦ والديوان ٧٧..

٧ باللفظ من الدر المصون ٤/٧٨٦ وانظر هذا كله فيه وفي البحر المحيط المرجع السابق. وقد ألمح ابن جني إلى ذلك في خصائصه حيث قال: صار الوقتان على تباينهما وتنائيهما كالموقتين المقترنين الدانيين المتلاصقين، نحو: أحسنت إليه إذ شكرني، وأعطيته حين سألني وهذا أمر استقر بيني وبين أبي علي رحمه الله مع المباحثة. وانظر الخصائص ٣/٢٢٤ و٢٥٥ و٢/١٧٢..
٨ هذا صدر بيت من الطويل لزائد بن صعصعة الفقعسي وعجزه:
ولم تجدي من أن تقري بها بدا
وهو يبين لامرأته أنه من أصل كريم، وأنها بنت لئيمة.
والشاهد: أن إذا بمعنى الماضي رغم أنه لما يستقبل من الزمان؛ لأن المعنى تبين بالانتساب أني ولد كريمة. قاله الزمخشري. وانظر البيت في الكشاف ٣/٤٨٩ ومعاني الفراء ١/٦١ و١٧٨ والمغني ٢٦ والدر المصون ٤/٧٨٧..

٩ الكشاف ٣/٤٨٩ له..
١٠ بالمعنى من البحر ٨/١٧..
١١ الدر المصون له ٤/٧٨٧..
١٢ التبيان ١١٤٠ والبحر ٨/١٧..
١٣ البحر المرجع السابق..
١٤ التبيان المرجع السابق..
١٥ نقله أبو البقاء في تبيانه السابق وأبو حيان في بحره السابق أيضا..
١٦ الدر المصون ٤/٧٨٧..
١٧ فاليوم ظرف للحال، وإذ ظرف للمعنى فلهذا يتغايران مدلولا وانظر البحر المحيط ٨/١٧ والدر المصون ٤/٧٧٨..
١٨ في التبيان له أي لأن ظلمتم باللام..
١٩ ضبطها محقق الكتاب بالفتح..
٢٠ البحر المحيط ٨/١٧..
٢١ وانظر الدر المصون ٤/٧٧٨..
٢٢ التبيان ١١٤٠ والكشاف ٣/٤٨٩ والبحر المحيط ٨/٧ ولم تنسب في الكتب الثلاثة ونسبها القرطبي في الجامع إلى ابن عامر باختلاف عنه انظر القرطبي ١٦/٩١..
٢٣ انظر القرطبي ١٦/٩١، ٩٢..
٢٤ في ب فالاشتغال بالفاء..
٢٥ الرازي بالمعنى ٢٧/٢١٤..
قوله ( تعالى )١ :﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي. . . ﴾ لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمَمِ والعَمَى. وما أحسن هذا الترتيب، وذلك أن الإنسان في أول اشتغاله يطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رَمدٌ ضعيف، ثم لما٢ كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثر كان مَيْلُهُ إلى الجُسمانيَّات أشد، وإعراضه عن الروحانيات أكمل ؛ لأن كثرة المواظبة على الشيء توجب حصول الملكة اللاَزمة لينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى، فإذا واظب على تلك الحال انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى.
روى أنه عليه الصلاة والسلام، كان يجتهد في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وعِناداً في الغي فقال الله تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي ﴾ بمعنى أنهم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصُّمِّ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي٣.
١ زيادة من أ..
٢ في ب كلما بدل لما..
٣ انظر الرازي ٢٧/٢١٥..
قوله: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ قد تقدم الكلام عليه قريباً، والمعنى فَإِمَّا تَذْهَبَنَّ بك بأَنْ نُمِتَكَ قبل أن تعذبهم ﴿فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ﴾ بالقتل بعدك، ﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ﴾ في حياتك ﴿الذي وَعَدْنَاهُمْ﴾ من العذاب، ﴿فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ﴾ قادرون متى نشاء عذبناهم وأراد به مشركي مكة، انتقم منهم يوم بدر هذا قول أكبر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: عَنَى به أهل الإسلام من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد كان بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نقمة شديدة في أمته فأكرم الله تعالى نبيه وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تَقَرُّ عينه، وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُرِيَ ما يصب أمَّتَهُ بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله تعالى. وقرىء «نُرَِنْكَ» بالنون الخفيفة.
قوله تعالى: ﴿فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ العامة على أوحي منبياً للمفعول مفتوح الياء وبعض قراء الشام سكنها تخفيفا، والضحاك: مبنياً للفاعل وهو الله تعالى.

فصل


لما بين له ما يوجب التسلية أمره أن يتمسك بما أمره الله تعالى به فاستمسك بالذي أوحي إليك بأن تعتقد أنه حق، وبأن تعمل بموجبه، فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضالّ في الدين. ولما بين تأثير التمسك بهذا الدين في منافع الآخرة بين
268
أيضاً تأثيره في منافع الدنيا فقال: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ أي أنه يعني القرآن «لذكر لك» لشرف لك «ولقومك» من قريش نظيره: «لقد أنزلنا إليكم كِتَابَ فِيه ذِكْرُكُمْ» شرفكم وأنه يوجب الشرف العظيم لك ولقومك، حيث يقال: إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ لقوم من هؤلاء.
وهذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن الذكر الجميل أمراً مرغوباً فيه لما مَنَّ اللهُ تعالى به على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ﴿إنه لذكر لك ولقومك﴾ وَلَم طلبه إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حيث قال: ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٤] ولأن الذكر الجميل قائمٌ مقامَ الحياة الشريفة، بل الذكر أفضل من الحياة؛ لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي، وأما أثر الذكر الجميل فإن يحصل في كل زمان وكل مكان ثم قال تعالى: ﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ قال الكلبي: تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل. وقال مقاتل: يقال لمن كذب به: لِمَ كَذَّبْتَ؟ فيسأل سؤال توبيخ.
وقيل: تسألون هل علمتم بما دل عليه القرآن من التكاليف. وروى الضحاك عن أبي عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم)، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا سئل لمن هذا الأمر؟ لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك؟ قال لقُرَيْشٍ.
وروى ابن عُمَر (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يَزَالُ هذَا الأَمْرُ في قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ اثْنَانِ» وروى معاوية قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن هذا الأمر في قرَيْش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ» وقال مجاهد: القوم هم العرب، فالقرآن لهم شرف، إذْ نَزَل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب ثم يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم.
وقيل: ذكر لك بما أعطاك من الحكمة، ولقومك من المؤمنين، بما هداهم الله به، وسوف تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه.
269
﴿ أَوْ نُرِيَنَّكَ ﴾ في حياتك ﴿ الذي وَعَدْنَاهُمْ ﴾ من العذاب، ﴿ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾ قادرون متى نشاء عذبناهم وأراد به مشركي مكة، انتقم منهم يوم بدر هذا قول أكبر المفسرين. وقال الحسن وقتادة : عَنَى به أهل الإسلام١ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة في أمته فأكرم الله تعالى نبيه وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تَقَرُّ عينه، وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ ما يصيب أمَّتَهُ بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله تعالى٢. وقرئ «نُرِيَنْكَ » بالنون الخفيفة٣.
١ في ب السلام..
٢ انظر تفسير القرطبي ١٦/٩٢..
٣ وهي قراءة رويس وهي من العشرة المتواترة انظر الإتحاف ٣٨٦ والنشر ٢/٣٦٩..
قوله تعالى :﴿ فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ ﴾ العامة على أوحي مبنياً للمفعول مفتوح الياء وبعض قراء الشام سكنها تخفيفا١، والضحاك : مبنياً للفاعل٢ وهو الله تعالى.

فصل


لما بين له ما يوجب التسلية أمره أن يتمسك بما أمره الله تعالى به فاستمسك بالذي أوحي إليك بأن تعتقد أنه حق، وبأن تعمل بموجبه، فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضالّ في الدين
١ ذكرها البحر المحيط ٨/١٨، والدر المصون ٤/٧٨٨..
٢ المرجعين السابقين والكشاف ٣/٤٩٠..
ولما بين تأثير التمسك بهذا الدين في منافع الآخرة بين أيضاً تأثيره في منافع الدنيا فقال :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ أي أنه يعني القرآن «لذكر لك » لشرف لك١ «ولقومك » من قريش نظيره :«لقد أنزلنا إليكم كِتَابَ فِيه ذِكْرُكُمْ » شرفكم وأنه يوجب الشرف العظيم لك ولقومك، حيث يقال : إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله عز وجل لقوم من هؤلاء.
وهذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن الذكر الجميل أمراً مرغوباً فيه لما مَنَّ اللهُ تعالى به على محمد صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ إنه لذكر لك ولقومك ﴾ وَلَما طلبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال :﴿ واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين ﴾ [ الشعراء : ٨٤ ] ولأن الذكر الجميل قائمٌ مقامَ الحياة الشريفة، بل الذكر أفضل من الحياة ؛ لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي، وأما أثر الذكر الجميل فإن يحصل في كل زمان وكل مكان ثم قال تعالى :﴿ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ قال الكلبي : تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل. وقال مقاتل : يقال لمن كذب به : لِمَ كَذَّبْتَ ؟ فيسأل سؤال توبيخ.
وقيل : تسألون هل علمتم بما دل عليه القرآن من التكاليف٢. وروى الضحاك عن أبي عباس ( رضي الله عنهم٣ )، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك ؟ لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك ؟ قال لقُرَيْشٍ٤.
وروى ابن عُمَر ( رضي الله عنهما٥ ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاَ يَزَالُ هذَا الأَمْرُ في قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ اثْنَانِ »٦ وروى معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن هذا الأمر في قرَيْش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ »٧ وقال مجاهد : القوم هم العرب، فالقرآن لهم شرف، إذْ نَزَل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب ثم يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم٨.
وقيل : ذكر لك بما أعطاك من الحكمة، ولقومك من المؤمنين، بما هداهم الله به، وسوف تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه.
١ في ب لذلك بدل لك تحريف..
٢ انظر الرازي ٢٧/٢١٥..
٣ زيادة من أ..
٤ انظر القرطبي ١٦/٩٤..
٥ زيادة من أ..
٦ ذكره البخاري في صحيحه ٤/٢٣٣ و٢٣٤..
٧ رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ ٤/٢٣٣..
٨ ذكره القرطبي ١٦/٩٤..
قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أن من موصولة، وهي مفعولة للسؤال، كأنه قيل: وأسْأَل الذي أرسلناهُ من قبلك عَمَّا اُرْسِلُوابه، فإنهم لم يرسلوا إلا بالتوحيد.
الثاني: أنه على حذف حرف الجر على أنه المسؤول عنه والمسؤول الذي هو المفعول الأول محذوف تقديره واسْأَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَاهُ.
الثالث: أن من استفهامية، مرفوعة بالابتداء، و «أرسلنا» خبره والجملة معلقة للسؤال فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض.
وهذا ليس بظاهر بل الظاهر أن المعلق للسؤال إنما هو الجملة الاستفهامية من قوله: «أَجَعَلْنَا».

فصل


اختلف في هؤلاء المسؤولين، فروى عطاء عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) قال: «لما أُسْرِيَ بالنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المسجد الأقصى بعث له آدم وولده من المرسلين فَأّذَّنَ جبْريلُ ثم أقام وقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل: سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا... الآية. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا أسأل قد اكتفيت، وليست شَاكاً فيه» وهذا قول الزهري، وسعيد بن جبير، وابن زيد؛ قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم، فلم يسأل ولم يشك.
270
وقال أكثر المفسرين: سَلْ مُؤْمِني أهْلِ الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، وهو قول ابن عباس في سائر الروايات ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن، ويدل عليه قراءة عبد الله وأبي: واسأل الذين أرسلنا إليهم قَبْلَك مِنْ رُسُلِنَا ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسوله بعبادة غير الله عَزَّ وَجَلَّ.
وقال عطاء سؤال الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع، فكأن المراد منه: انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبرها بفهمك.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى﴾ لما طعن كفار قريش في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكونه فقيراً، عديم المال والجاه بين الله تعالى أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد أن أورد المعجزاتِ القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل، أورد عليه فرعونُ هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إنه غَنِيٌّ كثيرُ المالِ والجاهِ، ألا ترون أني حصل لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، وأما موسى فإنه فقير مهين، وليس له بيانٌ ولسان، والرجل الفقير كيف يكون رسولاً من عند الله الملك الكبير؟!.
فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش بمكة، وهي قولهم: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] قد أوْرَدَهَا بعينها فرعون على موسى «ثم انتقمنا منهم فأغرقناهم» : فيكو الأمر ف يحق أعدائك هكذا.
فثبت أنَّه (ليس) المقصود من أعادة هذه القصة عينها، بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ قال الزمخشري: فَإِن قلت: كيف جاز أن يجاب لَمَّا بإذا المفجأة؟!.
قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فأجَأُوا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ. قال أبو حيان: ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه من أن «إذا» الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر، تقديره: فاجأ، بل المذاهب ثلاثة:
271
إما حرف فلا يحتاج إلى عامل، أو ظرف مكان، أو ظرف زمان. فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر، كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر. نحنو: خَرَجْتُ فَإذَا زَيْدٌ قَائِمٌ تقديره: خَرَجْتُ ففي المكان الذي خرجت فيه زيدٌ قائمٌ، أو ففي الوقت الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ.
وإن لم يذكر بعد الاسم خبر، أو ذكر اسم منصوب على الحال، فإن كان الاسم جُثَّة، وقلنا: إنها ظرف مكان، كان الأمر واضحاً، نحو: خَرَجْتُ فَإِذَا الأَسَدُ، أي فَبالحَضرَةِ الأَسَدُ، أوة فَإِذَا الأَسَدُ رابضاً. وإن قلنا: إنها زمان كان على حذف مضاف، لئلا يخبر بالزمان عن الجثة، نحو: خَرَجْتُ فَإذَا الأَسَدُ، أي ففي الزمان حُضُور الأَسَدِ، وإنْ كَان الاسم حَدَثاً جاز أن يكون مكاناً أو زماناً. ولا حاجة إلى تقدير مضاف نحو: خَرجْتُ فَإذَا القِتَالُ. إن شئت قدرت: فبالحَضْرَة القتالُ، أو ففي الزمانِ القتالُ.
قوله: ﴿إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ﴾ جملة واقعة صفة لقوله: «مِنْ آيَةٍ» فنحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ، وبالنصب اعتباراً بالمحلِّ. وفي معنى قوله: «أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا» أوجه:
أحدها: قال ابن عطية: هم أنهم يستعظمون الآية التي تأتي لجدَّة أمرها وحدوثه، لأنهم أَنِسُوا بتلك الآية السابقة فيعظُم أمرُ الثانية ويكبرُ وهذا كقول الشاعر:
٤٤٠٩ - عَلَى أَنَّها تَعْفُو الكُلُومَ وَإِنَّمَا تُوَكَّلُ بالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا بَمْضِي
الثاني: قيل: إن المعنى إلا هي أكبر من أختها السابقة، فحذف الصفة للعلم بها.
272
الثالث: قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: هو كلام مناقض؛ لأن معناه ما من آية من التِّسْع إلا وَهِيَ أكبر من كل واحدة، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة.
قلْتُ: الغرض بهذا الكلام وصفين بالكِبَر، لا يَكَدنَ يَتَفَاوَتْنَ فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتقارب في الفضل التقارب اليسير تختلف آراء الناس في تفصيلها، فبعضهم يفضل هذا وبعضهم يُفَضِّل هذا، وربما اختلف آراء الواحد فيها، كقول الحماسي:
٤٤١٠ - مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لآقَيْتَ سَيِّدَهُمْ مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي
وقالت الأنبارية في الجملة من أبنائها: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أعْلَمُ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لَ يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا.
انتهى كلامه.
وأوله فظيع جداً، كأن العبارات ضاقت عليه حتى قال ما قال، وإن كان جوابُهُ حسناً فسُؤاله فظيع.

فصل


ذكر أنه تعالى أرسل موسى بآياته، وهي المعجزات التي كانت من موسى إلى فرعون وملئه أي قومه فقال موسى: « ﴿إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾. فَلَمَّا جَاءَهُ بتلك الآيات ﴿إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ استهزاء قيل: إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً، ثم أخذه فصار عصاً كمما كان فضحكوا. ولما عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا.
273
ثم قال: ﴿وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ أي قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها وَأَخَذْنَاهُمْ بالعَذَابِ أي بالسنين والطوفان، والجراد والقمل والضفادع والدم والطَّمس، فكانت هذه دَلالات لموسى وعذاباً، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن الكفر إلى الإيمان.
قالت المعتزلة: هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فإنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.
قوله: ﴿وَقَالُواْ يا أيها الساحر﴾ تقدم الكلام فيه في النور، والمعنى أنهم لما عاينوا العذاب قالوا لموسى أيها السَّاحرُ، أي يا أيها الكامل الحاذق، وإنما قالوا هذا توقيارً وتعظيماً؛ لأن السحر عندهم كان علماً عظيماً، وصفةً محمودةً.
وقيل: معناه» يا أيها الذين عَلَبَنَا بسحره «. وقال الزجاج: خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر.
فإن قيل: كيف سَمَّوهُ بالساحر مع قولهم: إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ؟!.
فالجواب من وجوه:
الاول: أنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً، لأنهم يستعظمون السحر وكما يقال في زماننا في العمل العجيب الكامل: إنه أتى بالسحر.
والثاني: أيُّهَا السَّاحِر في زعم الناس، ومتعارف قوم فرعون، كقوله: ﴿وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه.
الثالث: أن قولهم: ﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ وقد كانتوا عازمين على خلافه، ألا ترى إلى قوله ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ فتسميتهم إياه بالساحر لا ينافي قوله: ﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾.
قوله: ﴿ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ أي بما أخبرنا عن عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا إننا لمهتدون مؤمنون فدعا موسى فكشف عنهم، فلم يؤمنوا فلذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ أي نكثوا ذلك العهد، يعني يَنْقُضُونَ عَهدَهُمْ ويُصرون على كفرهم.
قوله تعالى: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ لما ذكر معاملة قوم فرعون مع موسى ذلك أيضاً معاملة فرعون معه. فقال ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ أي أظهر هذا القول. {قَالَ يا
274
قوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} أي أنهار النيل ومعظمها نهر الملك، ونهر طُولون، ونهر دِمياط، ونهر تنيس. قيل: كانت تجري تحت قصره وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله، وقوة جاهه على فضيلة نفسه.
ثم قال: ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ من تحت قصري. وقال قتادة: تجري من بين يدي في جناني وبستايني، وقال الحسن: بأمري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي. وقيل من ملك القِبْطَ يسمى فرعون، ومن ملك اليهود يسمى قبْطون والمعروف مالخ، ومن ملك الصابئة يسمى نُمرود، ومن ملك البربر يسمى جالوت، ومن ملك الهند يسمى بهمن، وقيل يعفور، ومن ملك فرغانة يسمى الإخشيد، ومن ملك العرب من قبل العجم يسمى النعمان.
قوله: ﴿وهذه الأنهار تَجْرِي﴾ يجوز في «وهذه» وجهان:
أحدهما: أن تكون مُبْتَدَأَةً، والواو للحال، و «الأنهار» صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان و «تَجْرِي» الخبر والجملة حال من ياء «لِي».
والثاني: أن هذه معطوفة على «مُلْكِ مِصْرَ» و «تجري» على هذا حال أي أليس ملك مصر وهذه الأنهار جارية؟! أي الشيئان.
قوله: «تبصرون» العامة على الخطاب لمن ناداهم، وقرأ عيسى بكسر النون أي تُبًصِرُونِي وفي قراءة العامة المفعول محذوف أي تبصرون مُلْكِي وعَظَمَتِي.
وقرأ فَهْدُ بْنُ الصَّقْر: يُبْصِرُونَ بياء الغيبة، إما على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وإما رداً على قوم موسى.
قوله: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ﴾ في أم هذه أقوال:
أحدها: أنها منقطعة، فتقدر ب «بَلْ» التي لإضراب الانتقال، وبالهمزة التي للإنكار.
والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله:
275
٤٤١١ - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رُوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتُهَا أَمْ أَنْتِ فِي العَيْنِ أَمْلَحُ
أي بل أنت.
الثالث: أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى. قال أبو البقاء: «أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ، وهي في المعنى متصلة معادلة؛ إذ المعنى أنا خير منه أم لا؟ وأينا خير؟» وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما مَعْنيَانِ مختلفان، فَإِنَّ الانقطاع يقتضي إضْراباً إما إبْطالاً، وإِما انتقالا.
الرابع: أنها متصلة، والمعادل محذوف، تقديره: أَمْ تُبْصِرُونَ؟ وهذا لا يجوز إلا إذا كانت «لا» بعد «أم»، نحو: أتقوم أم لا؟ أي أم لا تقوم، وأزيد عندك أم لا؟ أي أم لا هو عندك أما حذفه دون معادل فلا يجوز. وقد جاء حذف «أم» مع المعادل، وهو قليل جداً، قال الشاعر:
٤٤١٢ - دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِني لأَمْرِهَا سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا؟
أي أم غيّ.
ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذه هي أم المعادلة، أي أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يُبْصَر عنده وهو أنه خير من موسى.
قال: وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: أم هذه متصلة؛ لأن المعنى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أمْ تُبْصِرُونَ؟ إلا أنه وضع قوله: «أنا خير» موضع «تبصرون» لأنهم إذا قالوا: أنت خير
276
فَهُمْ عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المُسَبَّب.
قال أبو حيان: وهذا متكلف جداً، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق فإن كان المعادل جملة فعلية، كان السابق جملة فعلية، أو جملة إسمية يتقدر منها جملة فعلية، كقوله: ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣] ؛ لأن معناه أو صمتُّم وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية لأن قَوْلَهُ: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ﴾ ليسي مقابلاً لقوله: أفَلا تُبْصِرُونَ، وإن كان السابق اسماً كان المعادل اسماً أو جملة فعلية يتقدر منها اسم نحو قوله:
٤٤١٣ - اَمُخْدَجُ اليَدَيْنِ أَمْ أَتَمَّتِ؟... «فأتمت» معادل للاسم والتقدير: أم مُتِمًّا؟.
قال شهاب الدين: وهذا الذي رده على الزمخشري رده على سيبويه، لأنه هو السابق به وكذا قوله أيضاً: إنه لا يحذف المعادل بعد «أم» وبعدها «لا» فيه نظر في تجويز سيبويه حذف المعادل دون لا فهو رد على سيبويه أيضاً.
قوله: «ولا يكاد يبين» هذه الجملة يجووز أن تكون معطوفة على الصلة وأن تكمون مستأنفة وأن تكون حالاً. والعامة على يُبِينُ من أَبَانَ، والباقون: يَبِينشُ بفتح الياء من بَانَ أي ظَهَرَ.

فصل


قال أكثر المفسرين: «أم» هنا بمعنى «بل» وليس بحرف عطف. قال الفراء: الوقف على قوله أم وفيه إضمار مجارز (هـ) أفلا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ؟ لكنه اكتفى بلفظ «أم»
277
كما تقول لغيرك: «أَتَأْكُلُ أَمْ» أي أَتَأْكُلُ أَمْ لاَ تَأْكُلُ؟ لكنك تقتصر على كلمة أم اقتصاراً.
قال أبو عُبَيْدَة: معناها بل أنا خير، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله: أفلا تبصرون. ثم ابتدأ فقال: أم أنا خير، يعنى بل أنا خير. وقال الباقون أم هذه متصلة، لأن المعنى أفلا تُبْصرُونَ أَمْ تُبْصُرونَ؟ إلا أنه وضع قوله: «أنا خير» موضع: «تبصرون»، لأنهم إذا قالوا له: أََنْتَ خَيْرٌ فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَراءُ.
قوله: ﴿مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ﴾ أي ضعيف حقير يعني موسى ﴿وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ أَيْ يُفْصِحُ لسانُهُ لرُتّةٍ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ.
فإن قيل: أليس أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سئأل الله أن يُزيل الرُّتةَ عن لسانه بقوله: ﴿واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي﴾ [طه: ٢٧، ٢٨] فأعطاه الله ذلك بقوله تعالى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى﴾ [طه: ٣٦] فكيف عابه فرعون بتلك الرُّتةِ؟!.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن فرعون أراد بقوله: «ولا يكاد يبين» حجته التي تدل على صدقه، ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام.
والثاني: أنه عابه بما كان عليه أولاً، وذلك أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مكث عند فرعون زماناً طويلاً، وكان في لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهد عليه من الرُّتةِ؛ لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عَنْهُ.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ﴾ قرأ حفص أَسْوِرَةٌ كأَحْمِرةٍ. والباقون أَسَاوِرَة، فأسورة جمع «سِوَارٍ» كحِمَارٍ، وأَحْمِرَةٍ، وهو جمع قلة. وأَسَاوِرَةٌ جمع إِسْوَار بمعنى سُوار، يقال: سوارُ المرأةِ، وأَسْوَارُهَا. والأصل أَسَاوِير بالياء، فعوض من حرف المد تاء التأنيث، كبطريقِ وبَطَارِقَةٍ، وزِنْدِيقٍ وزَنَادِقَةٍ.
278
وقيل: بل هي جمع أَسْوِرَة فهي جمع الجمع. وقر أبي والأعمش وتروى عن أبي عمرو أَسَاوِرُ دون تاء. وروي عن أبي أيضاً وعبد الله: أَسَاوِير. وقرأ الضحاك: أَلْقَى مبنياً للفاعل، أي الله تعالى وَأَسَاوِرَةً نصباً على المفعولية و «مِنْ ذَهَبٍ» صفة لأساورة. ويجوز أن تكون «من» الداخلة على التمييز.

فصل


ومعنى الكلام أن عادتهم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوّره بسوار من ذهب وطَوَّقُوه بطَوْق من ذهب، فطلب فرعون من موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مثل عادتهم، وحاصل الكلام أن فرعون كان يقول: أنا أكثر منه مالاً وجاهاً فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من عند الله لأن منصب النوبة يقتضي المَخْدُوميَّةَ، والأخسَ لا يكون مخدوماً للأشرف ثم قال: ﴿أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ﴾ متتابعين يعاون بعضهم بعضاً يشهدون له بصدقه ويُعِينُونَهُ على أمره ويجوز أن يكون المراد مقترنين به من قولك: قَرَنْتُهُ بِِهِ.
قوله تعالى: ﴿فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ أي وجدهم جُهَّالاً فحملهم على الخفة والجهل، يقال: استخفه عن رأيه، إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصوةاب «فَأَطَاعُوهُ» على تكذيب موسى، ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ حين أطاعوا ذلك الفاسق الجاهل.
قول: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا﴾ أغضبونا حُكي أن ابن جُرَيْج غضب في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد؟ فقال فقد غضب الذين خلق الأحلام إن الله تعالى يقول: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا﴾ أي أغضبونا ﴿انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين﴾ واعلم أن ذرك لفظ الأسف في حق الله تعالى، وذكر لفظ الانتقام كل واجد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى إرادة الغضب ومعنى الانتقام أرادة العقاب بجُرم سابق.
279
وآسَفُونَا منقول بهمزةِ التعديةِ من أَسِفَ بمعنى غضب، والمعنى: أغضبونا بمخالفتهم أمْرَنَا. وقال بعض المفسرين معناه: «أَحْزَنُوا أَوْلِيَاءَنَا».
قوله: «فجعلناهم سلفاً» قرأ الأخوان سُلُفاً بضمتين، والباقون بفتحتين، فأما الأولى فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه جمع سَليفٍ، كرَغِيفٍ، ورُغُفٍ، وسمع القاسم بن معن من العرب معنى سَليف من الناس والسيلفُ من الناس كالغَرِيقِ منهم.
والثاني: أنها جمع ساَلِف، كَصَابرٍ، وصُبُرٍ.
الثالث: أنها جمع سَلَفٍ كَأَسَدٍ وأُسُدٍ.
والثانية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون جمعاً لسَالفٍ، كحَارِسٍ وحَرَسٍ، وخَادِمٍ وخَدَمٍ، وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير، إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فَعَلٍ.
والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة، تقول: سَلُفُ الرَّجُلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي تقدم، والسلف: كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ من عمل صالحٍ، أو قرضٍ فهو سَلَفٌ، وسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ المتقدمون، والجمع أَسْلاَفٌ وسُلاَّفٌ قال طفيل:
٤٤١٤ - مَضَوْا سَلَفاً قَصَدَ السَّبِيلُ عَلَيْهِم صُرُوفُ المَنَايَا بِالرِّجَالِ تَقَلَّبُ
وقرأ عليٌّ مُجَاهِدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما سُلَفاً بضم السين. وفيه وجهان:
280
أشهرهما: أنه جمع سُلْفَةٍ كغُرْفَةٍ وغُرَفٍ. والسُّلْفَة الأُمَّةُ.
وقيل: الأصل سُلُفاً بضمتين، وإنَّما أبدل من الضمة فتحة.
وقوله: «مَثَلاً» إما مفعول ثان إن كانت بمعنى صير، وإلاَّ حالاً. قاق الفراءُ والزجاجُ: جعلناهم متفرقين ليتعظ بهم الآخرون، وهم كفار أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى ومثلاً للآخرِينَ أي عِظة لمن بقي بعدهم وعبرة.
قال أبو علي الفارسي: المَثَلُ واحد يراد به الجمع، ومن ثم عطف على سلف والدليل على وقوعه (على) أكثر من واحد قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ [النحل: ٧٥]. فأدخل تحت المَثَل شَيْئَيْن وقيل: المعنى سلفاً لفكار هذه الأمة إلى النار، ومثلاً لمن يجيء بعدهم.
281
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى ﴾ لما طعن كفار قريش في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بكونه فقيراً، عديم المال والجاه بين الله تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام بعد أن أورد المعجزاتِ القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل، أورد عليه فرعونُ هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال : إنه١ غَنِيٌّ كثيرُ المالِ والجاهِ، ألا ترون أني حصل لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، وأما موسى فإنه فقير مهين، وليس له بيانٌ ولسان، والرجل الفقير كيف يكون رسولاً من عند الله الملك الكبير ؟ !.
فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش بمكة، وهي قولهم :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] قد أوْرَدَهَا بعينها فرعون على موسى «ثم انتقمنا منهم فأغرقناهم » : فيكون الأمر في حق أعدائك هكذا.
فثبت أنَّه ( ليس )٢ المقصود من أعادة هذه القصة عينها، بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة٣.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
ذكر أنه تعالى أرسل موسى بآياته، وهي المعجزات التي كانت من موسى إلى فرعون وملئه أي قومه فقال موسى :«﴿ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾. فَلَمَّا جَاءَهُ بتلك الآيات ﴿ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ استهزاء قيل : إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً، ثم أخذه فصار عصاً كما كان فضحكوا. ولما عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت١٣ ضحكوا.


١ في ب إني دون ضمير..
٢ ما بين القوسين ساقط من أ..
٣ ينظر الرازي السابق ٢٧/٢١٦..
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ قال الزمخشري : فَإِن قلت : كيف جاز أن يجاب لَمَّا بإذا المفاجأة ؟ !.
قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فأجَأُوا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ. قال أبو حيان : ولا نعلم نحوياً١ ذهب إلى ما ذهب إليه من أن «إذا » الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر، تقديره : فاجأ، بل المذاهب ثلاثة :
إما حرف٢ فلا يحتاج إلى عامل، أو ظرف مكان٣، أو ظرف زمان. فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر، كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر. نحو : خَرَجْتُ فَإذَا زَيْدٌ قَائِمٌ تقديره : خَرَجْتُ ففي المكان الذي خرجت فيه زيدٌ قائمٌ، أو ففي الوقت الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ.
وإن لم يذكر بعد الاسم خبر، أو ذكر اسم منصوب على الحال، فإن كان الاسم جُثَّة، وقلنا : إنها ظرف مكان، كان الأمر واضحاً، نحو : خَرَجْتُ فَإِذَا الأَسَدُ، أي فَبالحَضرَةِ الأَسَدُ، أو فَإِذَا الأَسَدُ رابضاً. وإن قلنا : إنها زمان كان على حذف مضاف، لئلا يخبر بالزمان عن الجثة، نحو : خَرَجْتُ فَإذَا الأَسَدُ، أي ففي الزمان حُضُور الأَسَدِ، وإنْ كَان الاسم حَدَثاً جاز أن يكون مكاناً أو زماناً. ولا حاجة إلى تقدير مضاف نحو : خَرجْتُ فَإذَا القِتَالُ. إن شئت قدرت : فبالحَضْرَة القتالُ، أو ففي الزمانِ القتالُ٤ ٥.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
ذكر أنه تعالى أرسل موسى بآياته، وهي المعجزات التي كانت من موسى إلى فرعون وملئه أي قومه فقال موسى :«﴿ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾. فَلَمَّا جَاءَهُ بتلك الآيات ﴿ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ استهزاء قيل : إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً، ثم أخذه فصار عصاً كما كان فضحكوا. ولما عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت١٣ ضحكوا.


١ وافق ابن الحاجب الزمخشري في مذهبه هذا ورد الإمام الرضي عليه فقال: "ويجوز أن يكون ظرف الزمان مضافا إلى الجملة الاسمية، وعامله محذوف على ما قال المصنف أي ففاجأت وقت وجود السمع بالباب إلا أنه إخراج لإذا عن الظرفية، إذ هو إذن مفعول به لفاجأت، ولا حاجة إلى هذه الكلفة، فإن إذا الظرفية غير متصرفة على الصحيح". شرح الكافية للرضي ١/١٠٣، ١٠٤..
٢ وقال بحرفيتها الأخفش وابن مالك انظر الهمع ١/٢٠٧ والمغني ٨٧..
٣ ويعزى هذا للمبرد والفارسي وابن جني، وأبي بكر بن الخياط، وابن عصفور. انظر المرجعين السابقين..
٤ وهو رأي الزمخشري كما هنا واختاره الرياشي والزجاج وابن طاهر، وابن خروف، انظر المرجعين السابقين..
٥ بتصرف من البحر المحيط ٨/٢٠ و٢١ والدر المصون ٤/٧٨٩..
قوله :﴿ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ ﴾ جملة واقعة صفة لقوله :«مِنْ آيَةٍ » فنحكم١ على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ، وبالنصب اعتباراً بالمحلِّ٢. وفي معنى قوله :«أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا » أوجه :
أحدها : قال ابن عطية : هم أنهم يستعظمون الآية التي تأتي لجدَّة أمرها وحدوثه، لأنهم أَنِسُوا بتلك الآية السابقة فيعظُم أمرُ الثانية ويكبرُ٣ وهذا كقول الشاعر :
٤٤٠٩ عَلَى أَنَّها تَعْفُو الكُلُومَ وَإِنَّمَا تُوَكَّلُ بالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا بَمْضِي٤
الثاني : قيل : إن المعنى إلا هي أكبر من أختها السابقة، فحذف الصفة للعلم بها٥.
الثالث : قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : هو كلام مناقض ؛ لأن معناه ما من آية من التِّسْع إلا وَهِيَ أكبر من كل واحدة، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة.
قلْتُ : الغرض بهذا الكلام وصفين٦ بالكِبَر، لا يَكَدنَ يَتَفَاوَتْنَ فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتقارب٧ في الفضل التقارب اليسير تختلف آراء الناس في تفصيلها، فبعضهم يفضل هذا وبعضهم يُفَضِّل هذا، وربما اختلف آراء الواحد فيها، كقول الحماسي :
٤٤١٠ مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقَيْتَ سَيِّدَهُمْ مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي٨
وقالت الأنبارية في الجملة من أبنائها٩ : ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أعْلَمُ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا١٠.
انتهى كلامه١١.
وأوله فظيع جداً، كأن العبارات ضاقت عليه حتى قال ما قال، وإن كان جوابُهُ حسناً فسُؤاله فظيع١٢.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
ذكر أنه تعالى أرسل موسى بآياته، وهي المعجزات التي كانت من موسى إلى فرعون وملئه أي قومه فقال موسى :«﴿ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾. فَلَمَّا جَاءَهُ بتلك الآيات ﴿ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ استهزاء قيل : إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً، ثم أخذه فصار عصاً كما كان فضحكوا. ولما عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت١٣ ضحكوا.


ثم قال :﴿ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ﴾ أي قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها وَأَخَذْنَاهُمْ بالعَذَابِ أي بالسنين والطوفان، والجراد والقمل والضفادع والدم والطَّمس، فكانت هذه دَلالات لموسى وعذاباً، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عن الكفر إلى الإيمان.
قالت المعتزلة : هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فإنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان١٤.
١ في ب فحكم..
٢ الدر المصون ٤/٧٩٠..
٣ البحر المحيط ٨/٢١..
٤ من الطويل، لأبي خراش، خويلد بن مرة الهذلي من أبيات في رثاء أخيه عروة. ورواية البيت مثل رواية صاحب الدر المصون تبعا لأبي حيان والراوية الأصح: بلى إنها.. البيت كما في المراجع الآتية والكلوم جمع كلم ـ بفتح وسكون ـ وهو الجرح ومعنى البيت ـ ومنه نأخذ الشاهد ـ أن الإنسان يشغل بما هو فيه من مشاغل الحياة وإن كل ما سبق أعظم وأشد؛ وانظر البيت في الخصائص لأبي الفتح ٢/١٧٠ وأمالي القالي ١/٢٧١، والدر المصون ٤/٧٩٠، والبحر المحيط ٨/٢١ وابن يعيش ٣/١٧٧، والخزانة للبغدادي ٥/٤٠٥..
٥ قاله السمين في الدر المصون ٤/٧٩٠..
٦ في الكشاف: أنهن موصوفات..
٧ وفيه: التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها في التفاوت اليسير أن..
٨ من البسيط لعبيد بن العرندس وفي الكشاف: يسري بدل يهدى والمعنى: أن هؤلاء الناس قد بلغوا غاية عظيمة في المجد والشرف والسمعة حتى أن الرائي لواحد منهم يحسبه سيدا وما هو به، وكذا جاء التنظير بالبيت في الكلام عن الآية فهؤلاء الناس عندما رأوا هذه الآيات وجدوها معجزة متناهية في العظم لا فرق بين واحدة وأخرى. وانظر الكشاف ٣/٤٩١ وشرح شواهده ٤٢٢ والدر المصون ٤/٧٩٠ وفتح القدير للشوكاني ٤/٥٥٩، وكامل المبرد ١/٧٨ و٧٩ والحماسة البصرية ١/٤٧٨ وأمالي القالي ١/٢٣٩..
٩ الكشاف: وقد فاضلت الأنبارية بين الكلمة من بنيتها..
١٠ أي فرق بين واحد وآخر، ولم أستطع أن أميز واحدا بالحب على الآخر. وانظر شرح المفصل لابن يعيش ٧/١٠٠..
١١ باللفظ من الدر المصون ٤/٧٩٠ وبالمعنى من الكشاف ٢/٤٩١..
١٢ هذا انتقاض من الدر المصون للكشاف ولصاحبه..
١٤ السابق..
قوله :﴿ وَقَالُواْ يا أيها الساحر ﴾ تقدم الكلام فيه في النور، والمعنى أنهم لما عاينوا العذاب قالوا لموسى يا أيها السَّاحرُ، أي يا أيها الكامل الحاذق، وإنما قالوا هذا توقيراً وتعظيماً ؛ لأن السحر عندهم كان علماً عظيماً، وصفةً محمودةً.
وقيل : معناه «يا أيها الذين غلَبَنَا بسحره »١. وقال الزجاج : خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية٢ بالساحر.
فإن قيل : كيف سَمَّوهُ بالساحر٣ مع قولهم : إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ؟ !.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً، لأنهم يستعظمون السحر وكما يقال في زماننا في العمل العجيب الكامل : إنه أتى بالسحر.
والثاني : أيُّهَا السَّاحِر في زعم الناس، ومتعارف قوم فرعون، كقوله :﴿ وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الحجر : ٦ ] أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه.
الثالث : أن قولهم :﴿ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ﴾ وقد كانوا عازمين على خلافه،
ألا ترى إلى قوله ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ فتسميتهم إياه بالساحر لا ينافي قوله :﴿ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ﴾١.
قوله :﴿ ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾ أي بما أخبرنا عن عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا إننا لمهتدون مؤمنون.
١ انظر القرطبي ١٦/٩٧ و٩٨..
٢ معاني القرآن وإعرابه ٤/٤١٤..
٣ سقط من ب..
فدعا موسى فكشف عنهم، فلم يؤمنوا فلذلك قوله عز وجل :﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ أي نكثوا ذلك العهد، يعني يَنْقُضُونَ عَهدَهُمْ ويُصرون على كفرهم.
قوله تعالى :﴿ ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ﴾ لما ذكر معاملة قوم فرعون مع موسى ذكر أيضاً معاملة فرعون معه. فقال ﴿ ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ﴾ أي أظهر هذا القول. ﴿ قَالَ يا قوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي ﴾ أي أنهار النيل ومعظمها نهر الملك، ونهر طُولون، ونهر دِمياط، ونهر تنيس. قيل : كانت تجري تحت قصره وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله، وقوة جاهه على فضيلة نفسه.
ثم قال :﴿ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ من تحت قصري. وقال قتادة : تجري من بين يدي في جناني وبساتيني، وقال الحسن : بأمري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي١. وقيل من ملك القِبْطَ يسمى فرعون، ومن ملك اليهود يسمى قبْطون والمعروف مالخ، ومن ملك الصابئة يسمى نُمرود، ومن ملك البربر يسمى جالوت، ومن ملك الهند يسمى بهمن، وقيل يعفور، ومن ملك فرغانة يسمى الإخشيد، ومن ملك العرب من قبل العجم يسمى النعمان٢.
قوله :﴿ وهذه الأنهار تَجْرِي ﴾ يجوز في «وهذه » وجهان :
أحدهما : أن تكون مُبْتَدَأَةً، والواو للحال، و«الأنهار » صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان و«تَجْرِي » الخبر والجملة حال من ياء «لِي »٣.
والثاني : أن هذه معطوفة على «مُلْكِ مِصْرَ » و«تجري » على هذا حال أي أليس ملك مصر وهذه الأنهار جارية ؟ ! أي الشيئان٤.
قوله :«تبصرون » العامة على الخطاب لمن ناداهم، وقرأ عيسى بكسر النون أي تُبًصِرُونِي٥ وفي قراءة العامة المفعول محذوف أي تبصرون مُلْكِي وعَظَمَتِي.
وقرأ فَهْدُ بْنُ الصَّقْر٦ : يُبْصِرُونَ٧ بياء الغيبة، إما على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وإما رداً على قوم موسى.
١ القرطبي المرجع السابق..
٢ قاله البغوي في معالم التنزيل..
٣ قال بهذا الإعراب الزمخشري في الكشاف ٣/٤٩٢ ونقله عنه السمين في الدر المصون ٤/٧٩١..
٤ السابقين والبحر المحيط ٨/٢٢..
٥ جائزة لغة وإن كانت شاذة غير متواترة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٥..
٦ هو فهد بن صقر، روى القراءة عرضا عن يعقوب الحضرمي، وهو من جلة أصحابه وعن أيوب بن المتوكل وروى عنه ابن أخته إبراهيم بن خالد (انظر غاية النهاية ٢/١٣)..
٧ من القراءات الشاذة انظر البحر المحيط ٨/٢٢ وابن خالويه السابق..
قوله :﴿ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ ﴾ في أم هذه أقوال :
أحدها : أنها منقطعة١، فتقدر ب «بَلْ » التي لإضراب الانتقال، وبالهمزة التي للإنكار.
والثاني : أنها بمعنى بل فقط٢، كقوله :
٤٤١١ بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رُوْنَقِ الضُّحَى *** وَصُورَتُهَا أَمْ أَنْتِ فِي العَيْنِ أَمْلَحُ٣
أي بل أنت.
الثالث : أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى٤. قال أبو البقاء :«أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ، وهي في المعنى متصلة معادلة ؛ إذ المعنى أنا خير منه أم لا ؟ وأينا خير٥ ؟ » وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما مَعْنيَانِ مختلفان، فَإِنَّ الانقطاع يقتضي إضْراباً إما إبْطالاً، وإِما انتقالا٦.
الرابع : أنها متصلة، والمعادل محذوف، تقديره : أَمْ تُبْصِرُونَ ؟ وهذا لا يجوز إلا إذا كانت «لا » بعد «أم »، نحو : أتقوم أم لا ؟ أي أم لا تقوم، وأزيد عندك أم لا ؟ أي أم لا هو عندك أما حذفه دون معادل فلا يجوز. وقد جاء حذف «أم » مع المعادل، وهو قليل جداً، قال الشاعر٧ :
٤٤١٢ دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِني لأَمْرِهَا *** سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا٨ ؟
أي أم غيّ.
ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذه هي أم المعادلة، أي أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يُبْصَر عنده وهو أنه خير من موسى٩.
قال : وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ؛ لأن المعنى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أمْ تُبْصِرُونَ ؟ إلا أنه وضع قوله :«أنا خير » موضع «تبصرون » لأنهم إذا قالوا : أنت خير فَهُمْ عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المُسَبَّب١٠.
قال أبو حيان : وهذا متكلف جداً، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق فإن كان المعادل جملة فعلية، كان السابق جملة فعلية، أو جملة إسمية يتقدر منها جملة فعلية، كقوله :﴿ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٣ ] ؛ لأن معناه أو صمتُّم وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية لأن قَوْلَهُ :﴿ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ ﴾ ليس مقابلاً لقوله : أفَلا تُبْصِرُونَ، وإن كان السابق اسماً كان المعادل اسماً أو جملة فعلية يتقدر منها اسم نحو قوله :
٤٤١٣ اَمُخْدَجُ١١ اليَدَيْنِ أَمْ أَتَمَّتِ ؟ ***. . .
«فأتمت » معادل للاسم والتقدير : أم مُتِمًّا ؟١٢.
قال شهاب الدين : وهذا الذي رده على الزمخشري رده على سيبويه، لأنه هو السابق به وكذا قوله أيضاً : إنه لا يحذف المعادل بعد «أم » وبعدها «لا » فيه نظر في تجويز سيبويه حذف المعادل دون لا فهو رد على سيبويه أيضاً١٣.
قوله :«ولا يكاد يبين » هذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على الصلة وأن تكون مستأنفة وأن تكون حالاً١٤. والعامة على يُبِينُ من أَبَانَ، والباقون : يَبِينُ بفتح الياء من بَانَ أي ظَهَرَ١٥.

فصل


قال أكثر المفسرين :«أم » هنا بمعنى «بل » وليس بحرف عطف١٦. قال الفراء : الوقف على قوله أم وفيه إضمار مجاز( ه ) أفلا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ ؟ لكنه اكتفى بلفظ «أم » كما تقول لغيرك :«أَتَأْكُلُ أَمْ » أي أَتَأْكُلُ أَمْ لاَ تَأْكُلُ ؟ لكنك تقتصر على كلمة أم اقتصاراً١٧.
قال أبو عُبَيْدَة : معناها بل أنا خير١٨، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله : أفلا تبصرون. ثم ابتدأ فقال : أم أنا خير، يعنى بل أنا خير. وقال الباقون أم هذه متصلة، لأن المعنى أفلا تُبْصرُونَ أَمْ تُبْصُرونَ ؟ إلا أنه وضع قوله :«أنا خير » موضع :«تبصرون »، لأنهم إذا قالوا له : أََنْتَ خَيْرٌ فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَراءُ١٩.
قوله :﴿ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ ﴾ أي ضعيف حقير يعني موسى ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾ أَيْ يُفْصِحُ لسانُهُ لرُتّةٍ٢٠ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ.
فإن قيل : أليس أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يُزيل الرُّتةَ عن لسانه بقوله :﴿ واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي ﴾ [ طه : ٢٧، ٢٨ ] فأعطاه الله ذلك بقوله تعالى :﴿ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى ﴾ [ طه : ٣٦ ] فكيف عابه فرعون بتلك الرُّتةِ ؟ !.
فالجواب من وجهين :
الأول : أن فرعون أراد بقوله :«ولا يكاد يبين » حجته التي تدل على صدقه، ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام.
والثاني : أنه عابه بما كان عليه أولاً، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام مكث عند فرعون زماناً طويلاً، وكان في لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهد عليه من الرُّتةِ ؛ لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عَنْهُ٢١.
١ وهو قول أول للزمخشري في الكشاف ٣/٤٩٢ وانظر البيان ٢/٣٥٤..
٢ وهو قول أبي حيان في البحر ٨/٢٢ ناقلا أياه عن السدي وأبي عبيدة في المجاز ٢/٣٠٤..
٣ لم ينسب في البحر ولا في الدر، ونسب في الخصائص والمحتسب لابن جني إلى ذي الرمة وهو من الطويل وهو في ملحقات ديوانه ٦٤٤ بلفظ "أو" بدل "لا" وعليه فلا شاهد، وقرن الشمس أعلاها وأولها عند طلوعها، ورونق الضحى أوله والشاهد: أن أم. على تلك الرواية ـ بمعنى بل فقط وهي رواية أبي حيان في البحر المحيط والسمين في الدر المصون ومشى المؤلف وراءهما.
انظر البحر ٨/٢٢ والدر ٤/٧٩١ على أن الرواية المشهورة "أو" وعليه ـ كما قلت ـ فلا شاهد. انظر الخصائص ٢/٤٥٨ ومعاني الفراء ١/٧٢، والمحتسب ١/٩٩ والإنصاف ٤٧٨ وفتح القدير ٤/٥٥٩، والسراج المنير ٣/٥٦٧..

٤ وهو رأي أبي البقاء انظر التبيان ١١٤٠..
٥ المرجع السابق..
٦ قاله السمين في الدر المصون ٤/٧٩٢..
٧ انظر السابق وأيضا البحر المحيط ٨/٢٣..
٨ من الطويل لأبي ذؤيب. وهو من الأبيات المشهورة، ويروى: فلا أدري بدل فما أدري ولا اختلاف في المعنى. انظر ديوان الهذليين ١/٧١. والشاهد: حذف أم مع معادلها أو معطوفها وذلك لدلالة المقام عليه ولأنها متصلة. وانظر البحر المحيط ٨/٢٣ والدر المصون ٤/٧٩٢، ومغني اللبيب ١٣ و٢٣ و٦٢٨ والأشموني ٣/١٦ والهمع ٢/١٣٢. في الديوان "عصاني" بدل ّدعاني" وهو بعيد عن الشاهد. وانظر البيت أيضا في تأويل مشكل القرآن ١٦٦..
٩ انظر البحر ٨/٢٣..
١٠ الكشاف ٣/٤٩٢ مع أن الزمخشري كما سبق قد جوز فيها وجه الانقطاع أيضا..
١١ المخدج: الناقص الخلق، ومخدج اليدين ناقص نمو اليدين. ويقال: إن هذه صفة رجل كان من الخوارج يؤلب أتباع الإمام علي كرم الله وجهه عليه سرا. والشاهد في تلك العبارة: أن أتمت وهي جملة فعلية في تقدير اسم كما قال أبو حيان وكما قدره أعلى. وفي هذا رد من أبي حيان على تقدير الزمخشري وانظر البحر ٨/٢٣، ولسان العرب "خدج" وكامل المبرد ٣/٢٦٣ وغريب الحديث ٣/٤٤٤ و٤٤٥ والفائق في غريب الحديث للزمخشري ١/١٤٥..
١٢ البحر المحيط ٨/٢٣..
١٣ هذا بناء على صحة نقل كلام أبي حيان عن سيبويه في كون أم متصلة ومعادلة. وانظر الدر المصون ٤/٧٩٣..
١٤ قال بهذا الإعراب السمين في الدر المصون ٣/٧٩٣..
١٥ ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر ٨/٢٣ والسمين في المرجع السابق..
١٦ ممن قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٤٩٢ وأبو عبيدة في مجاز القرآن كما سيأتي قوله والسدي كما نقله عنه الإمام القرطبي في الجامع ١٦/٩٩ وأبو حيان في البحر ٨/٢٢. وانظر غريب القرآن ٣٣٩ والفخر الرازي ٢٧/٢١٨..
١٧ الذي في معاني القرآن له ٣/٣٥: من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت رددته على قوله "أليس لي ملك مصر"؟.
١٨ مجاز القرآن ٢/٢٠٤..
١٩ بتوضيح وتفصيل من الإمام الرازي ٢٧/١١٨..
٢٠ هي العجلة في الكلام وقلة الأناة وقيل غير ذلك. انظر اللسان (رتت) ١٥٧٥..
٢١ انظر الرازي ٢٧/٢١٩..
قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَساوِرَةٌ ﴾ قرأ حفص١ أَسْوِرَةٌ كأَحْمِرةٍ٢. والباقون أَسَاوِرَة، فأسورة جمع «سِوَارٍ » كحِمَارٍ، وأَحْمِرَةٍ، وهو جمع قلة. وأَسَاوِرَةٌ جمع إِسْوَار بمعنى سُوار، يقال : سوارُ المرأةِ، وأَسْوَارُهَا. والأصل أَسَاوِير بالياء، فعوض من حرف المد تاء التأنيث، كبطريقِ وبَطَارِقَةٍ، وزِنْدِيقٍ وزَنَادِقَةٍ٣.
وقيل : بل هي جمع أَسْوِرَة فهي جمع الجمع٤. وقر أبي والأعمش وتروى عن أبي عمرو أَسَاوِرُ دون تاء٥. وروي عن أبي أيضاً وعبد الله : أَسَاوِير٦. وقرأ الضحاك : أَلْقَى مبنياً للفاعل٧، أي الله تعالى وَأَسَاوِرَةً نصباً على المفعولية و«مِنْ ذَهَبٍ » صفة لأساورة. ويجوز أن تكون «من » الداخلة على التمييز٨.

فصل


ومعنى الكلام أن عادتهم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوّره بسوار من ذهب وطَوَّقُوه بطَوْق من ذهب، فطلب فرعون من موسى عليه الصلاة والسلام مثل عادتهم، وحاصل الكلام أن فرعون كان يقول : أنا أكثر منه مالاً وجاهاً فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من عند الله لأن منصب النوبة يقتضي المَخْدُوميَّةَ، والأخسَ لا يكون مخدوماً للأشرف ثم قال :﴿ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ ﴾ متتابعين يعاون بعضهم بعضاً يشهدون له بصدقه ويُعِينُونَهُ على أمره ويجوز أن يكون المراد مقترنين به من قولك : قَرَنْتُهُ بِِهِ٩.
١ عن عاصم وتروى عن أهل المدينة أيضا وعن يعقوب وهي من القراءات المتواترة انظر السبعة ٥٨٧ ومعاني الفراء ٣/٣٥ والإتحاف ٣٨٦..
٢ كذا في النسختين وفي الدر المصون كأخمرة بالخاء وخمار أيضا بالخاء المعجمة..
٣ الدر المصون ٣/٧٩٣ ومعاني القرآن ٦٩٠، والكشاف ٣/٤٩٣..
٤ قال الفراء: وقد تكون الأساور جمع أسورة، كما يقال في جمع الأسقية أساقي وفي جمع الأكرع أكارع معاني الفراء ٣/٣٥..
٥ لم أجدها في المتواتر عن أبي عمرو انظر مختصر ابن خالويه ١٣٥ عن الأعمش فقط وعن المطوعي في الإتحاف ٣٨٦..
٦ السابق وأيضا شواذ القرآن ٢١٨ والكشاف ٣/٩٤٣..
٧ السابق بدون نسبة ونسبها صاحب البحر ٨/٢٣..
٨ أي من البيانية وحينئذ يجوز في غير القرآن: أسورة ذهبا..
٩ انظر كل هذا في الرازي المرجع السابق ٢٧/٢١٩..
قوله تعالى :﴿ فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ أي وجدهم جُهَّالاً فحملهم على الخفة والجهل، يقال : استخفه عن رأيه، إذا حمله على الجهل١ وأزاله عن الصواب «فَأَطَاعُوهُ » على تكذيب موسى، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ حين أطاعوا ذلك الفاسق الجاهل.
١ ويقال: استخفه الفرح أي أزعجه، واستخفه أي حمله على الجهل، ومنه "ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" انظر اللسان خفف..
قول :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا ﴾ أغضبونا حُكي أن ابن جُرَيْج غضب في شيء فقيل له : أتغضب يا أبا خالد ؟ فقال فقد غضب الذين خلق الأحلام إن الله تعالى يقول :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا ﴾ أي أغضبونا ﴿ انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ﴾١ واعلم أن ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى، وذكر لفظ الانتقام كل واجد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى إرادة الغضب ومعنى الانتقام أرادة العقاب بجُرم سابق٢.
وآسَفُونَا منقول بهمزةِ التعديةِ من أَسِفَ بمعنى غضب، والمعنى : أغضبونا بمخالفتهم أمْرَنَا. وقال بعض المفسرين معناه٣ :«أَحْزَنُوا أَوْلِيَاءَنَا ».
١ القرطبي ١٦/١٠١..
٢ السابق..
٣ نقل هذين الوجهين أبو حيان في البحر المحيط ٨/٢٣ والسمين في الدر المصون ٤/٧٩٤..
قوله :«فجعلناهم سلفاً » قرأ الأخوان سُلُفاً بضمتين١، والباقون بفتحتين، فأما الأولى فتحتمل ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه جمع سَليفٍ، كرَغِيفٍ، ورُغُفٍ، وسمع القاسم٢ بن معن من العرب معنى سَليف من الناس والسيلفُ من الناس كالغَرِيقِ منهم٣.
والثاني : أنها جمع ساَلِف، كَصَابرٍ، وصُبُرٍ٤.
الثالث : أنها جمع سَلَفٍ كَأَسَدٍ وأُسُدٍ٥.
والثانية تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون جمعاً لسَالفٍ، كحَارِسٍ وحَرَسٍ، وخَادِمٍ وخَدَمٍ، وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير، إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فَعَلٍ.
والثاني : أنه مصدر يطلق على الجماعة، تقول : سَلُفُ الرَّجُلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي تقدم، والسلف : كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ من عمل صالحٍ، أو قرضٍ فهو سَلَفٌ، وسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ المتقدمون، والجمع أَسْلاَفٌ وسُلاَّفٌ٦ قال طفيل :
٤٤١٤ مَضَوْا سَلَفاً قَصَدَ السَّبِيلُ عَلَيْهِم صُرُوفُ المَنَايَا بِالرِّجَالِ تَقَلَّبُ٧
وقرأ عليٌّ مُجَاهِدٌ رضي الله عنهما٨ سُلَفاً٩ بضم السين. وفيه وجهان :
أشهرهما : أنه جمع سُلْفَةٍ كغُرْفَةٍ وغُرَفٍ١٠. والسُّلْفَة الأُمَّةُ.
وقيل : الأصل سُلُفاً بضمتين، وإنَّما أبدل من الضمة فتحة١١.
وقوله :«مَثَلاً » إما مفعول ثان إن كانت بمعنى صير، وإلاَّ حالاً١٢. قال الفراءُ١٣ والزجاجُ١٤ : جعلناهم متفرقين ليتعظ بهم الآخرون، وهم كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى ومثلاً للآخرِينَ أي عِظة لمن بقي بعدهم وعبرة.
قال أبو علي الفارسي : المَثَلُ واحد يراد به الجمع، ومن ثم عطف على سلف والدليل على وقوعه ( على ) أكثر من واحد قوله تعالى :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً ﴾ [ النحل : ٧٥ ]. فأدخل تحت المَثَل شَيْئَيْن١٥ وقيل : المعنى سلفاً لكفار هذه الأمة إلى النار، ومثلاً لمن يجيء بعدهم.
١ هي قراءة متواترة انظر السبعة ٥٨٧ ومعاني الفراء ٢/٣٦..
٢ هو القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الصحابي أبو الإمام أبي عبد الله المسعودي الهذلي كان من علماء الكوفة باللغة العربية والفقه والحديث والشعر والأخبار حدث عن عاصم الأحول وعنه أبو نعيم مات سنة ١٧٥ أو ١٧٦ هـ. انظر بغية الوعاة ٢/٢٦٣..
٣ نقله الفراء في معانيه ٣/٣٦..
٤ ذكره صاحب التبيان ١١٤١..
٥ انظر الدر المصون ٤/٧٩٤..
٦ وانظر كل هذا في الدر المصون لفظا ٤/٧٩٤، والبحر معنى ٨/٢٣، وانظر اللغة في اللسان (سلف) ٢٠٦٨..
٧ من الطويل في رثاء من تقدم من قومه وهو لطفيل الغنوي وشاهده: أن السلف هم الآباء المتقدمون عليه، ويجمع على ما أوضح أعلى على أفعال وفعال وانظر ديوان طفيل ٤٠ والبحر المحيط ٨/٢٣ والدر المصون ٤/٧٩٤ ولسان العرب سلف (٢٠٦٩)..
٨ في ب وقرأ علي رضي الله عنه ومجاهد..
٩ ذكرها الزجاج في معانيه ٤/٣١٦ وابن خالويه في المختصر ١٣٥..
١٠ ذكره الزجاج في المرجع السابق وأبو البقاء في التبيان ١١٤١..
١١ للتخفيف انظر هذين الوجهين كليهما في المرجع السابق والدر المصون ٤/٧٩٥..
١٢ المرجعين السابقين..
١٣ قال الفراء كأن واحدته سلفة من الناس أي قطعة من الناس مثل أمة فهو قد فسر السلف بضم السين واللام انظر معاني الفراء ٣/٣٦..
١٤ فسرها بفتح اللام والسين قال: جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون معاني الزجاج ٤/٤١٦..
١٥ انظر في هذا الرازي ٢٧/٢٢٠..
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا﴾ اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفراناتهم، فأولها: قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ [الزخرف: ١٥].
وثانيها: قوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩].
وثالثها: قوله: ﴿وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠].
ورابعها: قوله: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١].
281
وخامسها: هذه الآية: وليس في لفظها ما يدل على أن ذلك المثللا أي شيء كان والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً:
أشهرها: قال ابن عباس وأكثر المفسرين: نزلت الآية في مجادلة عبد الله بن الزِّبَعْرى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما نزل قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] كما تقدم في سورة الأنبياء.
والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً، وجادل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعبادة النصارى إياه «إِذَا قَوْمُكَ» من قريش «مِنْهُ» أي من هذا المثل «يَصِدُّونَ» أي يرتفع لهم ضجيج فرحاً بسبب مارأوا من سكوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصْمَيْن إذا انقطع، أظهر الخصْمُ الثاني الفرحَ والضَّجيجَ.
وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إِلَهاً لأنفسهم قالت كفار قريش: إن محمداً يريد أن يجعل نفسه لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إِلَهاً لأنفسهم فعند هذا قالوا: ﴿أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾ فعند ذلك قالوا: إن محمداً يدعونا لعبادة نفسه وآباؤنا زعموا أنه يجبُ عبادة هذه الأصنام وإذا كان لا بد من عبادة أحد هذين فعبادة الأصنام أولى؛ لأن آبائنا وآسلافنا أجمعوا على ذلك، وأما محمد فإنه متهمٌ في أمرنا بعبادته. ثم إنه تعالى لم يقل: إن عبادة المسيح طريق حسن، بل هو كلام باطل، وأن عيسى ليس إلا عبداً أنْعَمْنَا عَلَيِْ فزالت شبهتهم في قولهم: إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه.
وقيل: إن الكفار لما رأوا النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبد النصارى عيسى فآلهتنا خير من عيسى فعبدوال الملائكة.
قوله: «يَصُدُّونَ» قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويصدون بضم الصاد والباقون بكسرها، فقيل: هما بمعنى واحد. وهو الصحيح واللفظ، يقال: صَدَّ يَصُدذُ ويَصِدُّ كَعَكَفَ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ وعَرَشَ يَعْرُشُ وَيَعْرِشُ.
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يضْجَرون. وقال سعيد بن المسيب:
282
يصيحون. وقال الضحاك: يعِجُّون. وقال قتادة: يجْزَعون، وقال القُرَظِيُّ: يضجرون. وقيل: الضَّم من الصّدود وهو الإعراض وقد أنكر ابن عَبَّاس الضم، وقد روي له عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وهذا واللهُ أَعْلَمُ قبل بلوغه تواتره.
قوله تعالى: ﴿وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ﴾ قرأ أهل الكوفة بتحقيق الهمزة الثانية والباقون بتسهيلها بين بين. ولم يدخل أحدٌ من القراء الذين من قاعدتهم الفصل بين الهمزتين بألفٍ أَلِفاً كراهة لتوالي أربع مُتَشَابِهَاتٍ. وأبدل الجميع الهمزة الثانية ألفاً، ولا بد من زيادة بيان، وذلك أن آلهة جمع إله كعِمَادٍ، وأَعْمِدَةٍ، فالأصْل أَأْلهةٌ، بهمزتين الأولى زائدة، والثانية فاء الكلمة، وقعت الثانية ساكنةً بعد مفتوحة فوجب قلبُها ألفاً «كَآمَنَ وبابِهِ»، ثم دخلت همزة الاستفهام على الكل فالتقى همزتان في اللفظ، الأول للاستفهام، والثانية همزة «أَفْعِلَةٍ» فالكوفيون لم يعتدوا باجتماعهما، فأبقوهما على ما لَهُما، وغيرهم استثقل فخفف الثانية بالتسهيل بين بين، والثالثة ألف محضة لم تغير البتَّةَ. وأكثر أهل العصر يقرأون هذا الحرف بهمزة واحدة بعدها ألف على لفظ الخبر ولم يقرأ به أحدٌ من السبعة فيما علمنا إلا أنه قد روي أن وَرْشاً قرأ كذلك في رواية أبي الأَزهَر وهي تحتمل الاستفهام كالعامة. وإنما حذف أداة الاستفهام لدلالة أم عليها، وهو كثير. ويحتمل أنه قرأة خبراً محضاً وحينئذ تكون أم منقطعة تقدر ببل والهمزة وأما الجماعة فهي عندهم متصلة. فقوله:: «اَمْ هُوَ» على قراءة العامة عطف على «آلهتنا خير» وهو من عطف المفردات، والتقدير: أَاَلهتنا أَمْ هُوَ خَيْرٌ؟ أي أيهما خير؟ وعلى قراءة ورش يكون هو
283
مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: بل أهُوَ خَيْرٌ. وليست «أمْ» حنيئذ عاطفةً.

فصل


قال قتادة معنى قوله: «أمْ هُو» يعنون محمداً فنعبده ونترك آلهتنا. وقال السدي وابن زيد: أم هو يعني عيسى قالوا يزعم محد أن كل ما عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير، والملائكة في النار، قال الله تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ﴾ يعني هذا المثل: «لَكَ إلاَّ جَدَلاً» أي خصومة بالباطل، فقد علموا أن المراد من قوله: ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] هؤلاء الأصنام ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ مبالغون في الخُصُومَة. روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «مَا ضَلَّ قوم بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْه إلاَّ أُوتُوا الجَدَل» ثم قرأ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾.
قوله: «جَدَلاً» مفعول من أجله، أي لأجل الجدل والمِرَاء، لا لإظهار الحق، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي إلا مُجَادِلين. وقرأ ابن مقسِم: جِدَالاً والوجهان جاريان فيه. والظاهر أن الضمير في «هو» لعيسى كغيره من الضمائر. وقيل: هو للنبيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وبكُلِّ قال به المفسرون كما تقدم.

فصل


تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية، والآيات الكثيرة دالة على مدح الجدل فالتوفيق بينهما أن تًصْرَفَ الآيات الدالة على مدح الجدل إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وتصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
قوله (تعالى) :﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ﴾ أي ما هو يعني عيسى «إلاَّ عَبْدٌ» كسائر العبيد «اَنْعَمْنَا عَلَيْه» حيث جعلناه آية، بأن خلقناه من غير ذكَرٍ كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوّة «وَجَعَلْنَاه مَثَلاً» أي آية وغيره «لِبَنِي إسْرَائِيلَ» يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خقله من غير أبٍ ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ أي لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم
284
ملائكة ﴿فِي الأرض يَخْلُفُونَ﴾ أي يكونون خلفاً منكم يَعْمُرونَ الأرض، ويعبدونني ويطيعوني. وقيل: يخلف بعضُهم بعضاً.
قوله: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ في مِن هذه أقوال:
أحدها: أنها بمعنى بدل أي لجعلنا بَدَلَكُمْ كما تقدم في التفسير، ومنه أيضاً ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨] أي بدلها. وأنشد (رَحْمَةُ اللهِ عليه) :
٤٤١٥ - أَخَذُوا المَخَاضَ مِنَ الفَصِيلِ غُلُبَّةً ظُلْماً وَيُكْتَبُ للأَمِيرِ إفَالاً
وقال آخر:
٤٤١٦ - جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُل المُرَقَّقَا وَلَمْ تّذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا
والثاني: هو المشهور: أنها تبعيضية. وتأويل الآية لولدنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفُونَكُمْ كما تخلفُكُمْ أولادكم، كما ولدْنا عيسى من أنثى دونَ ذكر. ذكره الزمخشري.
والثالث: أنها تبعيضية قال أبو البقاء وقيل: المعنى لَحَوَّلْنَا بعضَكُمْ ملآئكة.
قوله: «وَإِنَّه لعِلْمٌ» المشهور أن الضمير «لِعِسى يعني نزوله آخر الزمان، وقيل الضمير للقرآن، أي فيه علم الساعة وأهوالها، أو هوعلامة على قربها ومنه ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١] ومنه:» بُعثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ «والعامة على» عِلْم «مصدراً جعل علْماً مبالغة، لمَّا كان به يحصل العلم، أو
285
لما كان شرطاً يعلم به ذلك أطلق عليه علم. وابنُ م عباس وأبُو هيريرة وأبو مَالِكٍ الغفاريّّ وزيد بن علي لَعَلَمٌ، بفتح العين والفاء أي لشرطٌ وعلامةٌ. وقرا أبو نَضْرَةَ وعِكْرمةُ كذلك إلا أنَّهما عرَّفا باللام فقرآ لَلْعِلْمُ أي للعَلاَمةُ المَعْرُوفَةُ.

فصل


معنى الآية أن نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم بها قربها، قال عليه الصلاة ولاسلام:» لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَادِلاً يَكْسرُ الصَّلِيبَ ويَقْتُلُ الْخِنزِير، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، وتَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلاَّ الإسْلاَمَ «ويروى: أنه ينزل على ثنيّة بالأرض المقدسة يقال لها أَفِيق، وبيده حَرْبَةٌ، وعليه مُمَصَّرتَانِ، وشعر رَأسِهِ دَهِينٌ يقتل الدَّجَّالَ، ويأتي بيتَ المقدس والناس في صلاة العصر روري في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيتقدمه عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ويصلي خَلْفه على شريعة محمد صلى لله عليه وسلم ثم يقتُل الخَنَازِيرَ، ويكسرُ الصليبَ، ويخَرب البيعَ والكنائسَ ويقتل النَّصَارَى إلا من آمن به.
قوله: «فَلاَ تَمْتَرُونَّ»
من المِرية وهي الشك أي لا تَشُكُّنَّ فيها. قال ابن عباس (رض يالله عنهما) لا تكذبوا بها «واتَّبِعُونِي» على التوحيد «هَذَا» الذي أنا عليه «صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ».
«وَلاَ يَصُدُّنَّكُمْ» لا يصرفنكم «الشَّيْطَانُ» عن دين الله ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ قد بانت عداوته لكم لأجل أنه أخرج أبويكم من الجنة، ونزع عنهما لباس النور.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات﴾ أي بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات ﴿قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة﴾ وهي النبوة. وقيلأ: معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله
286
﴿وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ من أحكام التوراة.
قال قتادة: يعني اختلاف الفرق الذين تحزّبوا في أمر عيسى. قال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقيل: كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف، واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحقَّ في تلك المسائل الخلافية.
قال ابن الخطيب: وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين، وبعض الذي يختلفون فيه معناه فروع الدين.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ كُلَّ الذي يختلفون فيه؟
فالجواب: لأن الناس قد اختلفوا في أشياء لا حاجة لهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانُهَا. ولما بين لهم الأصول والفروع قال: «فَاتَّقُ االلهَ» من الكفر والإعراض عني دينه «وَأطِيعُوهُ» فيما أبلغه إليكم من التكاليف، ﴿إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، فاختلف الأحزاب﴾ أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانيّة واليعقوبية والنسطورية، وقيل: اليهود والنصارى ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ وهو وعيد يوم الأحزاب.
فإن قيل: الضمير في قوله «بَيْنَهُمْ» إلى من يرجع؟
فالجواب: إلى الذي خاطبهم عيسى في قوله: ﴿قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة﴾ وهم قومه.
287
قوله تعالى :﴿ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ ﴾ قرأ أهل الكوفة بتحقيق الهمزة الثانية والباقون١ بتسهيلها بين بين. ولم يدخل أحدٌ من القراء الذين من قاعدتهم الفصل بين الهمزتين بألفٍ أَلِفاً كراهة لتوالي أربع مُتَشَابِهَاتٍ. وأبدل الجميع الهمزة الثانية ألفاً، ولا بد من زيادة بيان، وذلك أن آلهة جمع إله كعِمَادٍ، وأَعْمِدَةٍ، فالأصْل أَأْلهةٌ، بهمزتين الأولى زائدة، والثانية فاء الكلمة، وقعت الثانية ساكنةً بعد مفتوحة فوجب قلبُها ألفاً «كَآمَنَ٢ وبابِهِ٣ »، ثم دخلت همزة الاستفهام على الكل فالتقى همزتان في اللفظ، الأول للاستفهام، والثانية همزة «أَفْعِلَةٍ » فالكوفيون لم يعتدوا باجتماعهما، فأبقوهما على ما لَهُما، وغيرهم استثقل فخفف الثانية بالتسهيل بين بين، والثالثة ألف محضة لم تغير البتَّةَ٤. وأكثر أهل العصر يقرأون هذا الحرف بهمزة واحدة بعدها ألف على لفظ الخبر ولم يقرأ به أحدٌ من السبعة فيما علمنا إلا أنه قد روي أن وَرْشاً قرأ كذلك في رواية أبي الأَزهَر٥ وهي تحتمل الاستفهام كالعامة. وإنما حذف أداة الاستفهام لدلالة أم عليها، وهو كثير٦. ويحتمل أنه قرأه خبراً محضاً وحينئذ تكون أم منقطعة تقدر ببل٧ والهمزة وأما الجماعة فهي عندهم متصلة٨. فقوله :«أَمْ هُوَ » على قراءة العامة عطف على «آلهتنا خير » وهو من عطف المفردات، والتقدير : أَاَلهتنا أَمْ هُوَ خَيْرٌ ؟ أي أيهما خير ؟ وعلى قراءة ورش يكون هو مبتدأ، وخبره محذوف تقديره : بل أهُوَ خَيْرٌ. وليست «أمْ » حينئذ عاطفةً٩.

فصل


قال قتادة معنى قوله :«أمْ هُو » يعنون محمداً فنعبده ونترك آلهتنا. وقال السدي وابن زيد : أم هو يعني عيسى قالوا يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير، والملائكة في النار١٠، قال الله تعالى :﴿ مَا ضَرَبُوهُ ﴾ يعني هذا المثل :«لَكَ إلاَّ جَدَلاً » أي خصومة بالباطل، فقد علموا أن المراد من قوله :﴿ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] هؤلاء الأصنام ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ مبالغون في الخُصُومَة. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :«مَا ضَلَّ قوم بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْه إلاَّ أُوتُوا الجَدَل » ثم قرأ :﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾١١.
قوله :«جَدَلاً » مفعول من أجله، أي لأجل الجدل والمِرَاء، لا لإظهار الحق، وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي إلا مُجَادِلين١٢. وقرأ ابن مقسِم : جِدَالاً١٣ والوجهان جاريان فيه. والظاهر أن الضمير في «هو » لعيسى كغيره من الضمائر. وقيل : هو للنبيّ عليه الصلاة والسلام، وبكُلِّ قال به المفسرون كما تقدم١٤.

فصل


تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية، والآيات الكثيرة دالة على مدح الجدل فالتوفيق بينهما أن تًصْرَفَ الآيات الدالة على مدح الجدل إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وتصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
١ وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ورويس. وانظر الإتحاف ٣٨٦، والسبعة ٥٨٧ وإبراز المعاني ٦٨٠..
٢ فأصله أأمن..
٣ إيمان وأوثر ونحوهما..
٤ انظر هذا في الكشف ٢/٢٦٠ و٢٦١ وشرح الشافية للإمام الرضي ٣/٥٣ و٥٤..
٥ هو عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة أبو الأزهر العتقي المصري صاحب الإمام مالك راو مشهور بالقراءة متصدر ثقة، أخذ القراءة عرضا عن ورش مات في رجب ٢٣١ انظر غاية النهاية لابن الجزري ١/٣٨٩ وقد ذكر هذه القراءة ابن مجاهد في السبعة عن أحمد بن صالح عن قالون عن نافع كما نقل: وقال أحمد بن صالح: بلغني عن ورش أنه كان يقرأها بغير استفهام. انظر السبعة ٥٨٨..
٦ الكشاف ٣/٤٩٣..
٧ البحر المحيط ٨/٢٥ والدر المصون ٤/٧٩٦..
٨ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٣٥٤ والمرجع السابق..
٩ السابق..
١٠ القرطبي ١٦/١٠٤..
١١ رواه الترمذي في صحيحه عن أبي أمامة. وانظر أيضا القرطبي ١٦/١٠٤..
١٢ ذكر هذين الوجهين في الكشاف ٣/٤٩٣ و٤٩٤..
١٣ من القراءة الشاذة. البحر المحيط ٨/٢٥ والقرطبي السابق وأيضا شواذ القرآن ٢١٨..
١٤ كما سبق منذ قليل والدر المصون ٤/٧٩٧..
قوله ( تعالى )١ :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ ﴾ أي ما هو يعني عيسى «إلاَّ عَبْدٌ » كسائر العبيد «أَنْعَمْنَا عَلَيْه » حيث جعلناه آية، بأن خلقناه من غير ذكَرٍ كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوّة٢ «وَجَعَلْنَاه مَثَلاً » أي آية وغيره «لِبَنِي إسْرَائِيلَ » يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خقله من غير أبٍ
١ زيادة من أ..
٢ انظر كل هذا في تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧/٢٢٢..
﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً ﴾ أي لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة ﴿ فِي الأرض يَخْلُفُونَ ﴾ أي يكونون خلفاً منكم١ يَعْمُرونَ الأرض، ويعبدونني ويطيعوني٢. وقيل : يخلف بعضُهم بعضاً٣.
قوله :﴿ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً ﴾ في مِن هذه أقوال :
أحدها : أنها بمعنى بدل أي لجعلنا بَدَلَكُمْ كما تقدم٤ في التفسير، ومنه أيضاً ﴿ أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة ﴾ [ التوبة : ٣٨ ] أي بدلها. وأنشد ( رَحْمَةُ٥ اللهِ عليه ) :
٤٤١٥ أَخَذُوا المَخَاضَ مِنَ الفَصِيلِ غُلُبَّةً ظُلْماً وَيُكْتَبُ للأَمِيرِ إفَالاً٦
وقال آخر :
٤٤١٦ جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُل المُرَقَّقَا وَلَمْ تّذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا٧
والثاني : هو المشهور : أنها تبعيضية. وتأويل الآية لولدنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفُونَكُمْ كما تخلفُكُمْ أولادكم، كما ولدْنا عيسى من أنثى دونَ ذكر. ذكره الزمخشري٨.
والثالث : أنها تبعيضية قال أبو البقاء وقيل : المعنى لَحَوَّلْنَا بعضَكُمْ ملائكة٩.
١ وهو رأي السدي..
٢ وهو رأي مجاهد رضي الله عن الجميع..
٣ انظر هذا في القرطبي ١٦/١٠٥، وبالأخير قال الإمام الزجاج في معانيه ٤/٤١٧..
٤ ذكره السمين في الدر المصون ٤/٧٩٧ والزجاج في معاني القرآن ٤/٤١٧ ونقله القرطبي عن الأزهري في الجامع ١٦/١٠٥..
٥ زيادة من أ..
٦ أوردت النسختان إفالا، وليس كذلك البيت في ديوان الراعي والبيت له من تام الكامل من قصيدة طويلة يخاطب بها عبد الملك بن مروان. والمخاض: الحوامل من النوق واحدها خلفة من غير لفظها، والفصيل ولد الناقة عند فطامه. والغلبة مصدر بمعنى الغلبة، والأفيل الصغير من الإبل، وسمي بذلك لأفوله أي لغيبته بينهما. ومعناه أن عمال الزكاة يأخذون النوق ويحرمون صغارها ومع ذلك يخبرون الأمير بأنهم لم يأخذوا من أصحاب الأموال إلا الإفال من الإبل. وقد تقدم..
٧ من الرجز وينسب لأبي نخيلة وشاهده كسابقه في مجيء من بمعنى البدل وقد تقدم..
٨ الكشاف ٣/٤٩٤..
٩ انظر التبيان ١١٤١ ولم ينسبه..
قوله :«وَإِنَّه لعِلْمٌ » المشهور أن الضمير «لِعِيسى يعني نزوله آخر الزمان، وقيل الضمير للقرآن، أي فيه علم الساعة وأهوالها، أو هو علامة على قربها ومنه ﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ١ ] ﴿ اقتربت الساعة ﴾ [ القمر : ١ ] ومنه :«بُعثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ١ » والعامة على «عِلْم » مصدراً جعل علْماً مبالغة، لمَّا كان به يحصل العلم، أو لما كان شرطاً يعلم به ذلك أطلق عليه علم. وابنُ م عباس وأبُو هريرة وأبو مَالِكٍ الغفاريّّ٢ وزيد بن علي لَعَلَمٌ، بفتح العين والفاء أي لشرطٌ وعلامةٌ. وقرا أبو نَضْرَةَ٣ وعِكْرمةُ كذلك إلا أنَّهما عرَّفا باللام فقرآ لَلْعِلْمُ أي للعَلاَمةُ المَعْرُوفَةُ٤.

فصل


معنى الآية أن نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم بها قربها، قال عليه الصلاة والسلام :«لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَادِلاً يَكْسرُ الصَّلِيبَ ويَقْتُلُ الْخِنزِير، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، وتَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلاَّ الإسْلاَمَ٥ » ويروى : أنه ينزل على ثنيّة بالأرض المقدسة يقال لها أَفِيق٦، وبيده حَرْبَةٌ، وعليه مُمَصَّرتَانِ٧، وشعر رَأسِهِ دَهِينٌ يقتل الدَّجَّالَ، ويأتي بيتَ المقدس والناس في صلاة العصر وروي في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيتقدمه عيسى عليه الصلاة والسلام ويصلي خَلْفه على شريعة محمد صلى لله عليه وسلم ثم يقتُل الخَنَازِيرَ، ويكسرُ الصليبَ، ويخَرب البيعَ والكنائسَ ويقتل النَّصَارَى إلا من آمن به٨.
قوله :«فَلاَ تَمْتَرُونَّ » من المِرية وهي الشك أي لا تَشُكُّنَّ فيها. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما٩ ) لا تكذبوا بها «واتَّبِعُونِي » على التوحيد «هَذَا » الذي أنا عليه «صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ».
١ ذكره البخاري ٣/٢١٢ عن سهل بن سعد..
٢ هو غزوان الغفاري أبو مالك الكوفي عن البراء بن عازب وابن عباس وعنه سلمة بن كهيل والسدي وانظر خلاصة الكمال ٣٠٦، وانظر القراءة في الإتحاف ٣٨٦ ومختصر ابن خالويه ١٣٥ والكشاف ٣/٤٩٤ ومعاني الفراء ٣/٣٧..
٣ هو المنذر بن مالك بن العوقة وهم بطن من عبد قيس وتوفي في ولاية عمر بن هبيرة، وصلى عليه الحسن البصري انظر المعارف لابن قتيبة ٤٤٩..
٤ انظر مختصر ابن خالويه والكشاف السابقين وهي شاذة غير متواترة..
٥ هو في صحيح البخاري ٢/٢٧ عن ابن المسيب عن أبي هريرة..
٦ هو في مكان بالقدس الشريف نفسه..
٧ الممصر من الثياب التي فيها صفرة خفيفة..
٨ ذكره الثعلبي والزمخشري من حديث أبي هريرة ولم أجده في الصحيح انظر الكشاف ٣/٤٩٤ والقرطبي ١٦/١٠٦ والرازي ٢٧/٢٢..
٩ سقط من (ب)..
«وَلاَ يَصُدُّنَّكُمْ » لا يصرفنكم «الشَّيْطَانُ » عن دين الله ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ قد بانت عداوته لكم لأجل أنه أخرج أبويكم من الجنة، ونزع عنهما لباس النور.
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَاءَ عيسى بالبينات ﴾ أي بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات ﴿ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة ﴾ وهي النبوة. وقيل : معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله ﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ من أحكام التوراة١.
قال قتادة : يعني اختلاف الفرق الذين تحزّبوا في أمر عيسى. قال الزجاج : الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه٢.
وقيل : كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف، واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحقَّ في تلك المسائل الخلافية٣.
قال ابن الخطيب : وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين، وبعض الذي يختلفون فيه معناه فروع الدين٤.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ كُلَّ الذي يختلفون فيه ؟
فالجواب : لأن الناس قد اختلفوا في أشياء لا حاجة لهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانُهَا. ولما بين لهم الأصول والفروع قال :«فَاتَّقُوا اللهَ » من الكفر والإعراض عني دينه «وَأطِيعُوهُ » فيما أبلغه إليكم من التكاليف،
١ القرطبي المرجع السابق..
٢ معاني القرآن وإعرابه ٤/٤١٨..
٣ وهو رأي الإمام الرازي ٢٧/٢٢٣..
٤ قاله في مرجعه السابق..
﴿ فاختلف الأحزاب ﴾ أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانيّة١ واليعقوبية٢ والنسطورية٣، وقيل : اليهود والنصارى٤ ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ وهو وعيد يوم الأحزاب.
فإن قيل : الضمير في قوله «بَيْنَهُمْ » إلى من يرجع ؟
فالجواب : إلى الذي خاطبهم عيسى في قوله :﴿ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة ﴾ وهم قومه.
قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ﴾ أين أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم
287
ينظرونها. فقوله: «أنْ تَأتِيَهُمْ» بدل من الساعة. والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. قوله: «بَغْتَة» فجأة.
فإن قيل: قوله بغتة يفيد ما يفيد قوله: «وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» فما فائدته؟
فالجواب: يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب انَّهم يشاهدونه «.
قوله تعالى:»
الأَخِلاّاءُ يَوْمَئِذٍ «مبتدأ وخبره» عَدُوٌّ «والتنوين في» يومئذ «عوض عن جملة، تقديره:» يَوْمَئِذ تأتِيهُمْ السَّاعَةُ. والعامل في يَوْمَئذٍ: تَأتِيهُمُ السَّاعَةُ والعامل في «يومئذ» لفظ «عدو» أي عَدَاوتهم في ذلك اليوم.

فصل


معنى الآية الأخلاء على المعصية في الدنيا يومَئِذٍ أي يوم القيامة ﴿لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ يعني المتحابين في الله على طاعة الله وهم الموحدون الذين يخالٌّ بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.
رويى أبو ثَوْرٍ عن مَعْمَر عن قتادة عن أبي إسحاقَ أنَّ عَلِياً (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: في الآية خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخَيْر، وينهاني عن الشر، ويخبرني أني مُلاَقِيكَ يا رب، فلا تُضِلَّهُ بعدي، واهْدِهِ كما هديتني وأَكْرِمْهُ كما أكْرَمتنِي، فإذا مات خليله المؤمن جمع (الله) بينهما فيقول (الله تعالى) : ليُثْنِ أَحَدُكُمَا على صاحبه فيقول: (يا رب) نعم الأخ، ونعم الخليلُ، ونعم الصاحبُ. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن ذاتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر، وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول: بئس الأخُ وبئس الخليلُ وبئس الصاحُب.
288
قوله: يَا عِبَادي «قرأ أبو بكر عن عاصم:» يا عباديَ لاَ خَوْف «بفتح الياء. والأخوان وابن كثير وحفص بحذفها وصلاً ووقفاً. والباقون بإثباتها ساكنة. وقرأ العامة: لاَ خَوْفٌ بالرفع والتنوين إما مبتدأ وإما اسماً لها وهو قليل. وابن محَيْصِن دون تنوين على حذف مضاف وانتظاره أي لا خَوْفلَ شيءٍ. والحسنُ وابنُ أبِي إسْحَاقَ بالفتح على لا التبرئة، وهي عندهم أبلغ.

فصل


قد تقدم أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقن. وفيه أنواع كثيرة توجب الفرح:
أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطةٍ.
وثانيها: أنه تعالى وصفهم بالعبودية من غير واسطة، وهذا تشريف عظيم، بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة المعراج قال: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ [الإسراء: ١] ٍ.
وثالثها: قوله: ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية.
قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا»
يجوز أن يكون نعتاً لِعبَادِي، أو بدلاً منه، أو عطف بيان الله، أو مقطوعاً منصوباً بفعل أي أعْنِي الذين آمنوا.
أو مرفوعاً بالابتداء وخبره مضمر، تقديره يقال لهم: ادْخُلُوا.

فصل


قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نداى مُنَادٍ: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم. فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رُؤوسم فيقال: ﴿الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم:
289
﴿ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ تُسَرُّونَ وتُنعمُونَ والحبرةُ المبالغةُ في الإكرام على أحسن الوجوه وتقدم تفسيره في سورة الروم.
قوله تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
قوله: «يُطَافُ عَلَيْهِمْ» قبله محذوف أي يَدْخُلُونَ (و) يُطَافُ. الصِّحَافُ جمع صَحْفَةٍ كجَفْنَةٍ وجِفَانٍ؛ قال الجوهريُّ: الصحْفَةُ كالقَصْعَةِ. وقال الكسائي: أعظلم القِصَا الجَفْنة، ثم القَصْعَة تشبعُ العشرة، ثم الصفحة تشبع الخمسة، ثم المَكِيلةَ تشبع الرجلين والثلاثة (ثم الصحيفة تشبع الرجل). والصحيفة الكتاب والجمع صُحُفٌ وصَحَائِفُ. وأمال الكسائي في رواية بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ؟
«وأكواب» جمع كُوب، وهو إناء مستدير مدوَّر الرأس لا عُرى له. وقيل: هو كالإبريق إلا أنه عروة له. وقيل: إنه ما لا خرطوم له. وقيل: إنه لا خرطوم له ولا عروة معاً. قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء، فِإن العُرْوَةَ تمنع من ذلك، وقال عديّ:
٤٤١٧ - مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أَبْوَابُه يَطُوفُ عَلَيْهِ العَبْدُ بالكُوبِ
والتقدير: وأكواب من ذهب. فقوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ﴾ إشارة إلى المطعوم، وقوله: «وَأَكْوَابٍ» إشارة إلى المشروب. ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيه الأنفس وَتَلَذُّ الأعين﴾ أي في الجنة.
290
قوله: ﴿مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص تَشْتَهِيهِ بإثبات العائد على الموصول، كقوله: ك ﴿الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان﴾ [البقرة: ٢٧٥]. والباقون بحذفه كقوله: ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١]. وهذه القراءة شبيهة بقوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ [يس: ٣٥]. وقد تقدم يسَ. وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها.
وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وَهَم فسبق قلمه فكتب والهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام ثابتة في غيرهما أراد أن يكتب ثابتة في مصاحف المدينة والشام محذوفة من غيرهما فعكس. وفي مصحف عبد الله: تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّهُ الأعيُنُ بالهاء فيِهِمَا.

فصل


روي أن رجلاً قال يا رسول الله (هل) في الجنَّة خَيْلٌ؟ فإني أُحب الخيل فقال: إن يُدْخِلْكَ الله الجنة فلا تشاء أن يركبك فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فَعَلْتَ. فقال أعرابي يا رسول الله: أفي الجنة إبل؟ فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي: إنْ أَدْخَلَك الله الجنَّة أَصَبْتَ فيها ما اشتهيت نفسك ولَذَّتْ عَيْنُك.
قوله (تعالى) ﴿وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ قد تقدم الكلام في معنى وراثة الجنة عند قوله: ﴿أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس﴾ [المؤمنون: ١٠١١] ولما ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال: ﴿لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ جاء في الحديث: «لاَ يَنْزعُ رَجُلٌ من الجَنَّةِ من ثَمَرةٍ إلاَّ نَبَتَتْ مكانَها مِثْلاَها».
واعلم أنه تعالى لما بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولاً إلى العرب ثم إلى العالمين، كانت العرب في ضيق شديد بسبب المأكول، والمشروب والفاكهة، فَلِهذا ذكر الله تعالى هذه المعاني
291
مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم، وتقوية لدواعيهم. و «مِنْ» في قوله: «مِنْهَا تَأْكُلُونَ» تبعيضية، أو اتبدائية. وقدم الجار لأجل الفاصِلَة.
292
قوله تعالى :﴿ الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ ﴾ مبتدأ وخبره «عَدُوٌّ » والتنوين في «يومئذ » عوض عن جملة، تقديره : يَوْمَئِذ تأتِيهُمْ السَّاعَةُ. والعامل في يَوْمَئذٍ : تَأتِيهُمُ السَّاعَةُ١ والعامل في «يومئذ » لفظ «عدو »٢ أي عَدَاوتهم في ذلك اليوم.

فصل


معنى الآية الأخلاء على المعصية في الدنيا يومَئِذٍ أي يوم القيامة ﴿ بعضهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين ﴾ يعني المتحابين في الله على طاعة الله وهم الموحدون الذين يخالٌّ بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.
روي أبو ثَوْرٍ٣ عن مَعْمَر٤ عن قتادة عن أبي إسحاقَ٥ أنَّ عَلِياً ( رضي الله عنه )٦ قال : في الآية خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال : يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخَيْر، وينهاني عن الشر، ويخبرني أني مُلاَقِيكَ يا رب، فلا تُضِلَّهُ بعدي، واهْدِهِ كما هديتني وأَكْرِمْهُ كما أكْرَمتنِي، فإذا مات خليله المؤمن جمع ( الله ) بينهما فيقول ( الله تعالى ) : ليُثْنِ أَحَدُكُمَا على صاحبه فيقول :( يا رب )٧ نعم الأخ، ونعم الخليلُ، ونعم الصاحبُ. قال : ويموت أحد الكافرين فيقول : يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن ذاتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر، وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول : بئس الأخُ وبئس الخليلُ وبئس الصاحُب٨.
١ قال بهذا كله السمين في الدر المصون ٤/٧٧٩..
٢ السابق وبه قال صاحب الكشاف قبل ٣/٤٩٥..
٣ الأودي الحداني حبيب بن أبي مليكة، روى عن ابن مسعود، وعنه: الشعبي وثقه ابن حبان، وانظر الخلاصة ٤٤٦..
٤ معمر بن راشد الأزدي مولى مولاهم عبد السلام بن عبد القدوس أبو عروة البصري ثم اليماني أحد الإعلام عن الزهري وهمام بن منبه وعنه أيوب والثوري مات سنة ١٥٣ انظر خلاصة الكمال ٣٨٤..
٥ هو الثعلبي وقد ترجم له..
٦ زيادة من أ..
٧ ما بين الأقواس زيادة لتوضيح السياق كما في القرطبي..
٨ انظر القرطبي ١٦/١٠٩ و١١٠..
قوله :﴿ يَا عِبَادي ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم :«يا عباديَ لاَ خَوْف » بفتح الياء. والأخوان وابن كثير وحفص بحذفها وصلاً ووقفاً١. والباقون بإثباتها ساكنة. وقرأ العامة : لاَ خَوْفٌ بالرفع والتنوين إما مبتدأ وإما اسماً لها وهو قليل. وابن محَيْصِن دون تنوين على حذف مضاف وانتظاره أي لا خَوْف شيءٍ٢. والحسنُ وابنُ أبِي إسْحَاقَ بالفتح على لا التبرئة٣، وهي عندهم أبلغ.

فصل


قد تقدم أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين. وفيه أنواع كثيرة توجب الفرح :
أولها : أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطةٍ.
وثانيها : أنه تعالى وصفهم بالعبودية من غير واسطة، وهذا تشريف عظيم، بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج قال :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [ الإسراء : ١ ].
وثالثها : قوله :﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية٤.
١ انظر معاني الفراء ٣/٣٧ والسبعة ٥٨٨ والإتحاف ٣٨٦ وهي قراءة متواترة..
٢ ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ٨/٢٦..
٣ انظر المرجع السابق، والإتحاف ٣٨٦..
٤ انظر تفسير الرازي ٢٧/٢٢٥..
قوله :﴿ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ يجوز أن يكون نعتاً لِعبَادِي، أو بدلاً منه، أو عطف بيان الله، أو مقطوعاً منصوباً بفعل أي أعْنِي الذين آمنوا.
أو مرفوعاً بالابتداء وخبره مضمر، تقديره يقال لهم : ادْخُلُوا١.

فصل


قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مُنَادٍ : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم. فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رُؤوسهم فيقال :﴿ الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه
١ قال بهذه الأوجه كلها السمين في الدر المصون ٤/٧٧٩، وبالأول الزمخشري في الكشاف ٣/٤٩٥ وأبو حيان في البحر ٨/٢٥ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٤١٩ ونقله القرطبي ١٦/١١١ كما نقل الأخير وزاد قال: وقيل: "الذين آمنوا" خبر لمبتدأ محذوف أو ابتداء وخبره محذوف تقديره: هم الذين آمنوا أو الذين آمنوا يقال لهم: ادخلوا الجنة. انظر الجامع ١٦/١١١..
ثم يقال لهم :﴿ ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴾ تُسَرُّونَ وتُنعمُونَ والحبرةُ المبالغةُ في الإكرام على أحسن الوجوه١ وتقدم تفسيره في سورة الروم.
١ قاله الرازي ٢٧/٢٢٥..
قوله تعالى :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
قوله :«يُطَافُ عَلَيْهِمْ » قبله محذوف أي يَدْخُلُونَ ( و ) يُطَافُ١. والصِّحَافُ جمع صَحْفَةٍ كجَفْنَةٍ وجِفَانٍ ؛ قال الجوهريُّ : الصحْفَةُ كالقَصْعَةِ٢. وقال الكسائي : أعظم القِصَا الجَفْنة، ثم القَصْعَة تشبعُ العشرة، ثم الصفحة تشبع الخمسة، ثم المَكِيلةَ تشبع الرجلين والثلاثة ( ثم الصحيفة تشبع الرجل )٣. والصحيفة الكتاب والجمع صُحُفٌ وصَحَائِفُ. وأمال الكسائي في رواية٤ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ.
«وأكواب » جمع كُوب، وهو إناء مستدير مدوَّر الرأس لا عُرى له٥. وقيل : هو كالإبريق إلا أنه عروة له٦. وقيل : إنه ما لا خرطوم٧ له. وقيل : إنه لا خرطوم له ولا عروة٨ معاً. قال الجواليقي : ليتمكن الشارب من أين شاء، فِإن العُرْوَةَ تمنع من ذلك٩، وقال عديّ :
٤٤١٧ مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أَبْوَابُه يَطُوفُ عَلَيْهِ العَبْدُ بالكُوبِ١٠
والتقدير : وأكواب من ذهب. فقوله :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ ﴾ إشارة إلى المطعوم، وقوله :«وَأَكْوَابٍ » إشارة إلى المشروب. ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال :﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين ﴾ أي في الجنة.
قوله :﴿ مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس ﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص تَشْتَهِيهِ١١ بإثبات العائد على الموصول، كقوله : ك ﴿ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ]. والباقون بحذفه كقوله :﴿ أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً ﴾ [ الفرقان : ٤١ ]. وهذه القراءة شبيهة بقوله :﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ يس : ٣٥ ]. وقد تقدم يسَ. وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها١٢.
وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي١٣ شارح القصيدة١٤ وَهَم فسبق قلمه فكتب والهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام ثابتة في غيرهما١٥ أراد أن يكتب ثابتة في مصاحف المدينة والشام محذوفة من غيرهما فعكس. وفي مصحف عبد الله : تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّهُ الأعيُنُ بالهاء فيِهِمَا١٦.

فصل


روي أن رجلاً قال يا رسول الله ( هل ) في الجنَّة خَيْلٌ ؟ فإني أُحب الخيل فقال : إن يُدْخِلْكَ الله الجنة فلا تشاء أن يركبك فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فَعَلْتَ. فقال أعرابي يا رسول الله : أفي الجنة إبل ؟ فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي : إنْ أَدْخَلَك الله الجنَّة أَصَبْتَ فيها ما اشتهت نفسك ولَذَّتْ عَيْنُك١٧.
١ انظر التبيان ١١٤١ قال: "تقدير الكلام: يدخلون فيطاف فحذف لفهم المعنى"..
٢ انظر صحاح الجوهري ٤/١٣٨٤ صحف..
٣ زيادة من القرطبي على نص الكسائي. وانظر اللسان صحف (١٤٠٥) والقرطبي ١٦/١١٣ بتصحيح لفظ مئكلة وليس مكيلة..
٤ وهي رواية أبي الحارث عنه انظر مختصر ابن خالويه ١٣٧..
٥ قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٤١٩ والمعاني ٣/٣٧..
٦ نقله السمين في الدر المصون ٤/٧٩٩..
٧ هو رأي أبي عبيدة في مجاز القرآن ٢/٢٠٦..
٨ نقله القرطبي في تفسيره ١٦/١١٤..
٩ نقله تلميذه ابن الجوزي، زاد المسير ٧/٣٢٨..
١٠ من بحر السريع وورد في الفراء: يسقى ورواية اللسان يسعى، وصفق وأصفق من الأضداد بمعنى الغلق والفتح والمراد في البيت الفتح. وانظر القرطبي ١٦/١١٤ ومعاني الفراء ٣/٣٧ ومجاز القرآن ٣/٢٠٦ واللسان صفق ٢٤٦٥ وكوب ٣٩٥١ والدر المصون ٤/٨٠٠..
١١ السبعة ٥٨٨..
١٢ قاله أبو زكريا الفراء في معاني القرآن ٣/٣٧..
١٣ محمد بن عبد السلام العربي ابن يوسف فقيه مقرئ، عارف بالعربية، شرح لامية الأفعال لابن مالك مات سنة ١٢١٤ هـ، الأعلام ٧/٧٧ و١٠/٢٠٦..
١٤ هي قصيدة الشاطبية وتسمى حرز الأماني للإمام أبي القاسم بن فيرة بن خلف الرعيني الأندلسي الشافعي الضرير وانظر لطائف الإشارات ١/٨٩..
١٥ انظر الدر المصون ٤/٨٠٠ واللآلئ الفريدة في شرح القصيدة: ٣٧٣..
١٦ معاني القرآن للفراء ٣/٣٧..
١٧ بالمعنى من الدر المنثور ٧/٣٩٢ فقد أخرجه ابن أبي شيبة وابن مردويه عن بريدة وانظر القرطبي ١٦/١١٤..
قوله ( تعالى )١ ﴿ وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قد تقدم الكلام في معنى وراثة الجنة عند قوله :﴿ أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس ﴾ [ المؤمنون : ١٠-١١ ].
١ مزيد من أ..
ولما ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال :﴿ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ جاء في الحديث :«لاَ يَنْزعُ رَجُلٌ من الجَنَّةِ من ثَمَرةٍ إلاَّ نَبَتَتْ مكانَها مِثْلاَها »١.
واعلم أنه تعالى لما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم أولاً إلى العرب ثم إلى العالمين، كانت العرب في ضيق شديد بسبب المأكول، والمشروب والفاكهة، فَلِهذا ذكر الله تعالى هذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم، وتقوية لدواعيهم. و«مِنْ » في قوله :«مِنْهَا تَأْكُلُونَ » تبعيضية٢، أو اتبدائية٣. وقدم الجار لأجل الفاصِلَة.
١ بالمعنى من الدر المنثور للسيوطي ٧/٣٩٢ بإخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن قيس..
٢ ذكره الزمخشري في الكشاف ٣/٤٩٦..
٣ قاله السمين في الدر المصون ٤/٨٠٠..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ المجرمين﴾ أي المشركين ﴿فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ لما ذكر الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن. واحتج القاضي على القطع بوعيد الفساق بهذه الآية فقال: لفظ المجرم بتناول الكافر والفاسق، فوجب كون الكل في عذاب جهنم.
وقوله: ﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ و «خالدون» بدل على الخلود.
والجواب: إن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من لفظ المجرم ههنا الكافر.
فأما قبل الآية فقوله: يَا عِبَادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. وهذا يدل على أن كل من آمن بآياتِ الله وكان مسلماً، فإنه يدخل تحت قَوله: «يَا عِبَادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم» والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله وآياته وأسلم فوجب أن يدخل تحت ذلك الوعد، وأن يخرج من هذا الوعيد. لكن وأما بعد الآية فقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ والمراد بالحقّ ههنا إما الإسلام وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن. فثبت أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين الكفار. والله أعلم.
قوله: ﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ جلمة حالية وكذلك ﴿وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ وقرأ عبد الله: «وَهُمْ فِيهَا» أي في النار لدلالة العذاب عليها. واعلم أنه قد تقدم أن الخلود عبارة عن طول المُكْث، ولا يفيد الدوام.
وقوله: ﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ أي لا يخفف فلا ينقص من قولهم: فَتَرَتْ عَنْهُ الحُمَّى إذا سكَنَتْ ونقص حَرُّهَا.
292
وقوله: ﴿وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ والمُبْلِسُ هو اليائس الساكت سكوت يائس من فَرَجٍ.
عن الضحاك: يُعقل المجرم في تابوت من نار، ثم يُقْفَلُ عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.
قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين﴾ العامة على الياء خبراً لكان، و «هم» إما فصل، وإمَّا توكيد، وقرأ عبد الله وأبو زَيْدٍ النحويات: الظَّالِمُونَ على أنه مبتدأ و «الظالمون» خبره والجملة خبر كان. وهي لغة تميم.
قال أبو زيد: سمعتهم يَقْرَأُونَ: ﴿تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً﴾ [المزمل: ٢٠] بالرفع. وقال قيس بن ذُرَيْح (الشاعر)
٤٤١٨ - تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا وَكُنْتَ عَلَيْهَا بالمَلاَ أَنْتَ أَقْدَرُ
برفع «أقدر» و «أنت» فصل أو توكيد.
قال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول: أَظُنُّ زَيْداً هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ يعني بالرفع.

فصل


احتج القاضي بقوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين﴾ فقال: إن كان خلق
293
فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفاهُ بقوله: ﴿وَمَا ظَلمناهم (ولكن كانواهم الظالمين) «؟ وما الذي نسبه إلبيهم مما نفاه عنه نفسه؟ أو ليس لو أثبتناه لهم كان لا يزيد عما قوله القوم؟ فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجلّ بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً فلم يكن ذلك ظلماً من الله تعالى: قلنا: عندكم القدرةُ على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، وكأنه تعالى لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج من أن يكون ظلماً لهم، وذلك محال، لأن من يكون ظالماً في فعله إذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون ذلك أحق فيقال للقاضي: قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعيِّنة لأحد الطرفين؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إنْ وقع لا لمرجّح، لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجَّح عاد التقسيمُ الأول، وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله تعالى في العبد، وحينئذ يلزمك ما ألزمته علينا.
وأن كانت تلك القدرة متعينة لأحد الطرفين فحينئذ يلزمك أوردجته علينا. قال ابن الخطيب: وليس الرجل من يرى (وجه) الاستدلال فيذكره إنما الرجل مَنْ ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يَذْكره.
قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك﴾
العامة من غير ترخيم. وعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وعبدُ الله بن وثَّاب والأعمشُ يَا مَالِ «مرخَّماً» على لغة ينتظر المحذوف. قيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ «وَنَادَوْا يَا مَالِ» فقال: ما أشغلَ أهل النار بالترخيم، وأجيب عنه: بأنه إما حَسُنَ الترخيم لأنهم بلغوا من الضعف والنحافةِ إلى حيث لا يمكن أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها. وقرأ أبو السَّرار الغَنَوِيُّ: يَا مَالُ مَبْنِيًّا على الضم على لغة من لا ينوي.

فصل


روي ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون: ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ لِيُمِتْنَا ربك فنستريح فيجيئهم مالك بعد ألف سنة «إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ» مقيمون في العذاب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يجيئهم بعد أربعين سنة وعن غيره مائة سنة.
294

فصل


اختلفوا في أن قولهم: يا مالك ليقضي علينا ربك على أي الوجوه طلبوه؟ فقال بعضهم: على التمني. وقال آخرون: على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العقاب. وقيل: لا يبعد أن يقال: إنهم لشدة ما هم فيه نَسُوا تلك المسألة تذكرة على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بين أن مالكاً يقول لهم: «إنكم ماكثون» وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بعد ذلك بمدة؟ ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ماهو كالعلة لذلك الجواب فقال: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ والمراد نُفْرَتُهُمْ عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن القرآن، وشدّة بغضهم لقبول الدين الحق.
فإن قيل: كيف قال: «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ» بَعْدَ مَا وَصَفُهمْ بالإبْلاَسِ؟
فالجواب: أنها أزمنةٌ متطاولة، وأحقابٌ ممتدة فتختلف بهم الأحوال فَيْسكُنُونَ أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم. روي أنه يُلْقَى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكاً فيَدْعُونَ يا مالكُ لِيَقْضِي عَلَيْنَا رَبُّكَ.
ولما ذكر الله تعالى كيفيةَ عذابهم في الآخرة، ذكر بعده كيفية مكرهم، وفساد باطنهم في الدنيا فقال: ﴿أَمْ أبرموا أَمْراً﴾ أي أحكموا أمراً في المكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعني مشركي مكة «فإنَّا مُبْرِمُونَ» محكمون أمراً في مجازاتهم أي مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون﴾ [الطور: ٤٢]. قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر في دار الندوة وقد تقدم في قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ... ﴾ [الأنفال: ٣٠] الآية. قوله: «أمْ أَبْرَمُوا» أم منقطعة. والإبرام الإتقان وأصله في الفتل يقال: أَبْرَمَ الحَيْلَ، أي أتْقَنَ فَتْلَهُ وهو الفَتْلُ الثاني، والأول يقال له: سَجِيلٌ قال زهير:
٤٤١٩ - لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجِدتُّمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبْرَمِ
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم﴾ السر ما حدث الرجل به
295
نفسه أو غيره في مكان والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم «بَلى نسمع ذلك» و «نَعْلَمُ» رُسُلُنَا «أي الحفظة» لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ «أي يكتبون عليهم جميع أحوالهم.
296
قوله :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ جملة حالية وكذلك ﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾١ وقرأ عبد الله :«وَهُمْ فِيهَا »٢ أي في النار لدلالة العذاب عليها. واعلم أنه قد تقدم أن الخلود عبارة عن طول المُكْث، ولا يفيد الدوام.
وقوله :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ أي لا يخفف فلا ينقص من قولهم : فَتَرَتْ عَنْهُ الحُمَّى إذا سكَنَتْ ونقص حَرُّهَا٣.
وقوله :﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ والمُبْلِسُ هو اليائس الساكت سكوت يائس من فَرَجٍ٤.
عن الضحاك : يُعقل المجرم في تابوت من نار، ثم يُقْفَلُ عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.
١ الدر المصون السابق..
٢ قراءة شاذة غير متواترة ذكرها الفراء في معاني القرآن ٣/٣٧..
٣ اللسان فتر (٣٣٤٠ و٣٣٤١)..
٤ قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣١٩..
قوله :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ﴾ العامة على الياء خبراً لكان، و«هم » إما فصل١، وإمَّا توكيد٢، وقرأ عبد الله٣ وأبو زَيْدٍ٤ النحويان : الظَّالِمُونَ٥ على أنه مبتدأ و«الظالمون » خبره والجملة خبر كان. وهي لغة تميم٦.
قال أبو زيد : سمعتهم يَقْرَأُونَ :﴿ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] بالرفع٧. وقال قيس بن ذُرَيْح ( الشاعر )٨
٤٤١٨ تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا وَكُنْتَ عَلَيْهَا بالمَلاَ أَنْتَ أَقْدَرُ٩
برفع «أقدر » و«أنت » فصل أو توكيد.
قال سيبويه : بلغنا أن رؤبة كان يقول : أَظُنُّ زَيْداً هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ١٠ يعني بالرفع.

فصل


احتج القاضي بقوله :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ﴾ فقال : إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفاهُ بقوله :{ وَمَا ظَلمناهم ( ولكن كانا هم الظالمين ) » ؟ وما الذي نسبه إليهم مما نفاه عنه نفسه ؟ أو ليس لو أثبتناه لهم كان لا يزيد عما يقوله القوم ؟ فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجلّ بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً فلم يكن ذلك ظلماً من الله تعالى : قلنا١١ : عندكم القدرةُ على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، وكأنه تعالى لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج من أن يكون ظلماً لهم، وذلك محال، لأن من يكون ظالماً في فعله إذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون ذلك أحق فيقال للقاضي : قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعيِّنة لأحد الطرفين ؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إنْ وقع لا لمرجّح، لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجَّح عاد التقسيمُ الأول، وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله تعالى في العبد، وحينئذ يلزمك ما ألزمته علينا.
وأن كانت تلك القدرة متعينة لأحد الطرفين فحينئذ يلزمك ما أوردته علينا. قال ابن الخطيب : وليس الرجل من يرى ( وجه )١٢ الاستدلال فيذكره إنما الرجل مَنْ١٣ ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يَذْكره١٤.
١ وكونه فصلا أو عمادا صحيح، فالأول تسمية للبصرة والثاني للكوفة وسمي فصلا، لأنه فصل بين التابع والخبر وعمادا لأنه يعتمد عليه معنى الكلام وفائدته التوكيد، ولهذا قال بعضهم: إنه لا يجامع التوكيد فلا يقال زيد نفسه هو الفاضل. وفيه كلام ذكره ابن هشام في مغنيه ٤٩٣ ـ ٤٩٨..
٢ وقال بهذا السمين ٤/٨٠١..
٣ هو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق الخضرمي البصري كان أول من علل النحو انظر غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري ١/٤١٠ وقد مات هذا الرجل سنة ١١٧ هـ. وانظر أيضا إنباه الرواة ٢/١٠٤..
٤ هو سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير بن أبي زيد، روى القراءة عن المفضل عن عاصم، وكان من جلة أصحاب أبي عمرو من أعيان أهل النحو واللغة مات سنة ٢١٥ هـ. وانظر غاية النهاية ١/٣٠٥..
٥ ذكرها ابن خالويه في مختصره (١٣٦) وذكرها القرطبي إجارة نحوية ولم يذكره قراءة..
٦ أخبر بذلك أبو عمرو الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر انظر البحر المحيط ٨/٢٢..
٧ انظر المرجع السابق، والكتاب ٢/٣٩٢..
٨ زيادة من أ الأصل..
٩ من الطويل له وقد روي ـ كما في الكتاب تبكي بدل تحن، والملا ـ مقصورا ـ الصحراء وهو يتحسر على طلاقه لليلى وكان مفتونا ومشغوفا بها. والشاهد: أنت أقدر بفصل الضمير ورفعه وما بعده على الخبر على لغة تميم. وانظر الديوان ٣٣ والكتاب ٣/٢٩٢، وابن يعيش ٣/١١٢، والبحر المحيط ٨/٢٧ والدر المصون ٤/٨٠٢ واللسان (ملا) ٤٢٧٣..
١٠ الكتاب ٢/٣٩٢..
١١ هذا رد من الرازي على القاضي..
١٢ سقط من ب..
١٣ في ب ممن..
١٤ انظر هذا كله في تفسير الرازي ٢٧/٢٢٧..
قوله تعالى :﴿ وَنَادَوْاْ يا مالك ﴾ العامة من غير ترخيم. وعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وعبدُ الله بن وثَّاب والأعمشُ يَا مَالِ «مرخَّماً »١ على لغة ينتظر المحذوف. قيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ «وَنَادَوْا يَا مَالِ » فقال : ما أشغلَ أهل النار بالترخيم، وأجيب عنه : بأنه إما حَسُنَ الترخيم لأنهم بلغوا من الضعف والنحافةِ إلى حيث لا يمكن أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها٢. وقرأ أبو السَّرار الغَنَوِيُّ : يَا مَالُ مَبْنِيًّا على الضم على لغة من لا ينوي٣.

فصل


روي ابن عباس ( رضي الله عنهما )٤ أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون :﴿ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ لِيُمِتْنَا ربك فنستريح فيجيئهم مالك بعد ألف سنة «إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ » مقيمون في العذاب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يجيئهم بعد أربعين سنة وعن غيره مائة سنة٥.

فصل


اختلفوا في أن قولهم : يا مالك ليقضي علينا ربك على أي الوجوه طلبوه ؟ فقال بعضهم : على التمني. وقال آخرون : على وجه الاستغاثة، وإلا فهم٦ عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العقاب. وقيل : لا يبعد أن يقال : إنهم لشدة ما هم فيه نَسُوا تلك المسألة تذكرة٧ على وجه الطلب.
ثم إنه تعالى بين أن مالكاً يقول لهم :«إنكم ماكثون » وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بعد ذلك بمدة ؟
١ ذكرها أبو الفتح بن جني في المحتسب ٢/٢٥٧ قال: هذا المذهب المألوف في الترخيم إلا أن فيه في هذا الموضع سرا جديدا، وذلك أنهم لعظم ما هم عليه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم وصغر كلامهم فكان من مواضع الاختصار ضرورة عليه ووقوفا دون تجاوزه..
٢ الرازي ٢٧/٢٢..
٣ الكشاف ٣/٤٤٩ وابن خالويه ١٣٦..
٤ زيادة من أ..
٥ القرطبي ١٦/١١٧..
٦ كذا في الرازي وفي ب فإنهم..
٧ في ب والرازي: فذكروه..
ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ماهو كالعلة لذلك الجواب فقال :﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ والمراد نُفْرَتُهُمْ عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن القرآن، وشدّة بغضهم لقبول الدين الحق.
فإن قيل : كيف قال :«وَنَادَوْا يَا مَالِكُ » بَعْدَ مَا وَصَفُهمْ بالإبْلاَسِ ؟
فالجواب : أنها أزمنةٌ متطاولة، وأحقابٌ ممتدة فتختلف بهم الأحوال فَيْسكُنُونَ أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم. روي أنه يُلْقَى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون : ادعوا مالكاً فيَدْعُونَ يا مالكُ لِيَقْضِي عَلَيْنَا رَبُّكَ.
ولما ذكر الله تعالى كيفيةَ عذابهم في الآخرة، ذكر بعده كيفية مكرهم، وفساد باطنهم في الدنيا فقال :﴿ أَمْ أبرموا أَمْراً ﴾ أي أحكموا١ أمراً في المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم يعني مشركي مكة «فإنَّا مُبْرِمُونَ » محكمون أمراً في مجازاتهم أي مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى :﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون ﴾ [ الطور : ٤٢ ]. قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم في المكر في دار الندوة وقد تقدم في قوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ. . . ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية٢. قوله :«أمْ أَبْرَمُوا » أم منقطعة. والإبرام الإتقان وأصله في الفتل يقال : أَبْرَمَ الحَيْلَ، أي أتْقَنَ فَتْلَهُ وهو الفَتْلُ الثاني، والأول يقال له : سَجِيلٌ٣ قال زهير :
٤٤١٩ لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجِدتُّمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبْرَمِ٤
١ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٤٤٠ وأبو عبيدة في مجازه ٢/٢٠٦..
٢ انظر في هذا الماضي تفسير الإمام الرازي ٢٧/٢٢٧ و٢٢٨..
٣ انظر مادتي برم وسحل من اللسان ٢٦٩ و١٩٥٧ وانظر أيضا معاني القرآن الزجاج ٤/٤٢٠..
٤ من الطويل من معلقته المشهورة وهو يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف والمعنى فيه على الاستعارة. والشاهد: من سحيل ومبرم فإن الشاعر يقصد معنى آخر واستعار هذين اللفظين المحسوسين وانظر السبع الطوال ٢٦٠ والهمع ٢/٤٢ والخزانة ٣/٣ و٢٠ و٩/٣٨٧ وشرح المعلقات السبع للزوزني والسراج المنير ٣/٧٥ والقرطبي ١٦/١١٨ والدر المصون ٤/٨٠٢ والديوان ١٤..
قوله تعالى :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ﴾ السر ما حدث الرجل به نفسه أو غيره في مكان والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم «بَلى » نسمع ذلك «و » نَعْلَمُ «رُسُلُنَا » أي الحفظة «لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ » أي يكتبون عليهم جميع أحوالهم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾. قوله ﴿إِن كَانَ للرحمن﴾ قيل شرطية على بابها، واختلف في تأويله، فقيل: إن ذلك فأنا أول من يعيده، لكنه لم يصح ألبتة بالدليل القاطع، وذلك أنه علق العبادة بكَيْنُونَة الولد، وهي محالٌ في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ذكره الزمخشري.
وقيل: إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحِّدِين لله، المكذبين لهذا القول.
واعلم أن هذا التأويل فيه نظر، سواء أثبتوا لله ولداً، أو لم يُثْبِتُوا له، فالرسول منكر لذلك الولد، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراص لذلك الولد، فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد. وهذا التأويل قاله الواحدي.
وقيل: العابدين بمعنى الأَنِفِين، من عَبِدَ يَعْبَدُ إذَا اشْتَدَّ أنفه فهو عَبدٌ وعَابِدٌ، ويؤيده قراءة السُّلَمِيَّ واليَمَانِيِّ: العَبِدِينَ دون ألف. وحكى الخليل قراءة غريبة وهي
296
العَبْدين بسكون الباء وهي تخفيف قارءة السلمي، فأصلها بالكسر.
قال ابن عرفة: يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَدُ بالفتح فهو عَبِدٌ. وقلَّ ما يقال: عابد والقرآن لا يجيء على القليل أو الشاذ يعني تخريج من قال: إن العابدين بمعنى الأَنِفِينَ لا يصح، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق:
٤٤٢٠ - أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهمْ وَأَعْبَدُ أَنْ أَهْجُو كُلَيْباً بِدَارِم
وقال آخر:
٤٤٢١ - مَتَ مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ وَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لاَ مَحَالَةَ ظَالِمَا
قال ابن الخطيب: وهذا التعليق أيضاً فاسد؛ لأن هذه الأنفة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل.
وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، يقال: عَبَدَنِي حَقِّي، أي جَحَدَنِيهِ. وقال أبو حاتم: العَبِدُ يكسر الباء الشديدُ الغَضَب، وهو معنى حسن، أي إن كان له ولد على زعمكم فأنا أول من يغضب لذلك.
وقيل: «إنْ» نافية؛ أي ما كان ثم أخبر بقولهن: ﴿فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ أي الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له وتكون الفاء سببية. ومنع مكي أن تكون نافية. قال: «لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت، وهذا محال». ورد عليه بأن «
297
كَانَ» قد تدل على الدوام. كقوله: «وَكَانَ اللهُ غَفَوراً رَحِيماً» إلى ما لا يحصى.
والصحيح من مذاهب النحاة أنها لا تدل على الانقطاع والقائل بذلك يقول ما لم تكن قرينة كالآيات المذكورة.
وروي عن عبد الله بن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن المعنى ما كان للرحمن ولدّ فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك، جعل «إنْ» بمعنى الجَحْد، وقال السدي معناه: ولو كان للرحمن ولد فأنا أو من عبده بذلك ولكن لا ولد له.
وتقدم الخلاف في قراءتي «وَلَد» و «ولد» في مَرْيَمَ. ثم إن تعالى نزه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي عما يقولون من الكذب وذلك أ، إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكلّ ما كان كذلك فهو لا يقبل التَّجْزِيءَ بوجه من الوجوه، والولد عبارة أن ينفصل عن الشيء جزءٌ فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله، وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتَّجْزِيء والتبعيض، وإذا كان ذلك مُحَالاً في حق إله العالم امتنع إثباتُ الولد.
ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ﴾ أي يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم ﴿حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ﴾ يعنى يوم القيامة. والمقصود منه التهديد، يعني قد ذكرت الحجة على فساد ما ذكروا، فلم يلتفتوا إليها، لأجل استغراقهم في طلب المال والجاة، والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل، واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود.
قوله: «يُلاَقُوا» قراءة العامة من المُلاَقَاةِ. وابنُ مُحَيْصِن ويروى عن ابن عمرو «يَلْقُوا» من «لَقِِيَ». قوله (تعالى) :﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله﴾ «في السماء» متعلق
298
ب «إله» لأنه بمعنى معبود في السماء معبود في الأرض، وحينئذ فيقال: (إنَّ) الصلة لا تكون إلا جملة، أو ما في تقديرها وهو الظرف وعديله. ولا شيء منها هُنَا.
والجواب: أن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه، ولأن المحذوف هو العائد، تقديره: وَهُوَ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلهُ، وَهُوَ فِي الأَرْضِ إلَهُ، وإنما حذف لطول الصلة بالمعممول، فإن الجار متعلق «بإلَهٍ» ومثله: مَا أَنَا بالَّذِي قَائِلٌ لَكَ سُوءاً وقال أبو حيان: وحسنه طوله بالعطف عليه كما حسن في قولهم: «قَائِلٌ لَكَ شَيْئاً» طولُه بالمعمول.
قال شهاب الدين: حصوله في الآية، وفيما حكاه سواء، فإن الصلة طالت بالمعمول في كليهما والعطف أمر زائدٌ على ذلك، فهو زيادة في تحسين الحذف. ولا يجوز أن يكون الجارُّ خبراً مقدماً و «إله» مبتدأ مؤخراً، لئلا تَعْرَى الجملةُ من رابطٍ؛ إذ يصير نظير «جَاءَ الَّذِي فِي الدَّارِ زَيْدٌ» فإن جعلت الجار صِلةً، وفيه ضمير عائد على الموصول وجلعت «إله» بدلاً منه، فقال أبو البقاء: «جاء على ضعفه؛ لأن الغرض الكلي إثبات الإلهية، لا كونه في السموات والأرض فكان يفسد أيضاً من وجه آخر، وهو قوله: ﴿وَفِي الأرض إله﴾ ؛ لأنه معطوف على ما قبله، وإذا لم يقدر ما ذكرنا صار منقطعاً عنه، وكان المعنى أنه في الإرض إله».
انتهى.
وقال أبو علي: نظرت فيما يرتفع به «إله» فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هُوَ الَّذِي في السماء هُو إله. وقال أبو حيان: ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور، والمعنى أنه فيهما بإلهيَّته، ورُبُوبِيَّته؛ إذ يستحيل حمله على الاستقرار، وقرأ عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وعبدُ الله في جماعةٍ وهو الذي في السماء اللهُ ضمَّن العلم أيضاً معنى المشتق فيتعلق به الجار ومثله: هُوَ حَاتِمٌ فِي طَيّىءٍ. أي الجواد فيهم. ومثله: فرعونُ العَذَابُ.
299

فصل


قال ابن الخطيب: وهذه ألآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في السماء لأنه تعالى بين في هذه الآية أن نسبته بإلهيته السماء كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك وجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها.
فإن قيل: أيُّ تعلق لهذا الكلام ينفي الولد عن الله عزّ وجلّ؟
فالجواب: تَعَلُّقُه به أنه تعالى خالق عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بمحض كُنْ فَيَكُون من غير واسطة النطفة والأب فكأنه قيل: إن كان هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولداً للهِ عزّ وجلّ؛ لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض مع انتفاء حصول الولد به هناك. ثم قال: ﴿وَهُوَ الحكيم العليم﴾ الحيكم في تدبير خلقه العليم بِمَصَالِحِهِمْ. وقد تقدم في سورة الأنعام أن كونه حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له.
قوله: «تَبَاركَ» إما أن يكون مشتقاً من وجوب البقاء، وإما من كثرة الخير، وعلى التقديرين فكل واحد من الوجهين ينافي كون عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ واجبَ البقاء والدوام؛ لأنه حدث بعد أن لَمْ يَكُنْ ثم عند النصارى أنه قُتل ومَاتَ ومن كان كذلك لم يكن بنيه وبين الباقي الأزلي الدائم مجانسة ومشابهة فامتنع كونه ولداً له، وإن كانَ المرادُ بالبركة كثرةَ الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فَعِيسى لم يكن خالقاً لهما مع أن اليهود عندهم أخذوه وقتلوه وصلبوه، والذي هذا صفته كيفل يكون ولداً لمن كان خالقاً للسَّمَوات وةالأرض وما بينهما؟ ثم قال: ﴿وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ والمقصود منه التنبيه على أن كل من كان كاملاً في الذات، والعلم، والقدرة على الوصف المشروح فإنه يمتنع أن يكون ولده في العجز وعد القدرة عن أحوال العالم بالحد الذي وصفته النصارى به.
قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ قرا الأَخَوانِ، وأبنُ كثير بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق وهو في كلاهما مبني للمفعول. وقرىء بالخطاب مبنياً للفاعل.
300
قوله: ﴿وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ﴾ قرأ العامة يدعون بياء الغيبة، والضمير للموصول.
والسُّلَمِيٌّ وابنُ وَثَّاب بتاء الخطاب. والأَسْودُ بنُ يَزِيدَ بتشديد الدال، ونقل عنه القراءة مع ذلك بالياء والتاء.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه متصل، والمعنى إلا من شَهِدَ بالحَقِّ، كعُزَيْزٍ، والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة بتمليك الله إياهم لها وقيل: هو منقطع بمعنى أن هؤلاء لا يشفعون إلا فيمن شهد بالحق أي لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء كذا قدروه. وهذا التقدير يجوز فيه أن يكون الاستثناءُ متصلاً على حذف المفعول تقديره: ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ إلاَّ فِيمَنْ شَهِدَ.

فصل


ذكر المفسرون قولين في الآية:
أحدهما: أن الذي يدعون من دون الملائكة وعيسى، وعزير، لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق.
الثاني: رُوِيَ أن النضْرَ بْنَ الحَارِثِ ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقوله محمدٌ حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من مُحَمَّدٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى لا يقدر هؤلاء أنْ يَشفعوا لأحد.
ثم استثنى فقال: إلاَّ من شهد بالحق أي الملائكة وعِيسَى وعُزير، فإنهم يشفعون. فعلى الأول: تكون «من» في محل جر، وعلى الثاني تكون «من» في محل رفع. والمراد بشهادة الحق قول: لا إله إلا الله كلمة التوحيد «وهم يَعْلَمُونَ» بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم.
قوله تعالى:
301
وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرونَ إلى الاعتراف بوجود الإله قال الجبائي: وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا: لا إله (لهم) غيره. وقوم إبراهيم قالوا: إنَّ لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ (مُرِيبٍ).
وأجيب: بأنا لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، بدليل قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل: ١٤] وقال موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ﴾ [الإسراء: ١٠٢] على قراءة من فتح التاء من «عَلمتَ» وهذا يدل على أن فرعون كان عارفاً بالله. وأم اقول وقم إبْراهيم (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) :«وَإِنَّا لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونا إلَيْهِ» فيهو مصورف إلى إثبات القيامة، وإثبات التكليف، وإثبات النبوة.
قوله: ﴿فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ أي لم يكذبون على الله فيقولون: إنَّ الله أمرنا بعبادة الأصنام؟
قوله تعالى: ﴿وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ قراءة حمزة وعاصم بالجر، والبَاقُونَ بالنصب فأما الجر فعلى وجهين:
أحدهما: أنه عطف على «الساعة» أي عنده علم قِيلهِ، أي قول محمد، أو عِيسى والقَوْلُ والقَالُ والقِيلُ بمعنًى واحد. جاءت المصادر على هذه الأوزان.
والثاني: أن الواو للقسم، والجواب إما محذوف، تقديره: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد وإما مذكور، وهو قوله: إنَّ هَؤلاَءِ لاَ يؤْمِنُونَ. ذكره الزمخشري. وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه:
أحدها: أنه منصوب على محل «الساعة» كأنه قيل: إنه يعلم الساعةَ ويعلم قِيلهُ كذا.
302
الثاني: أنه معطوف على «سرهم ونَجْوَاهم» (أي لا يعلم سِرَّهُمْ) ولا يعلم قيله.
الثالث: عطف على مفعول «يَكْتُبُونَ» المحذوف، أي يكتبون ذلك، ويكتبون قِيلَهُ كذا أيضاً.
الرابع: أنه معطوف على معفول يعلمون المحذوف، أي يعلمون ذَلك (ويعلمون) قيله.
الخامس: أنه مصدر أي قَالَ قِيلهُ.
السادس: أن ينتصب بإضمار فعل، أي اللهُ يعلَمُ قيلَ رَسُولهِ. وهو محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
السابع: أن ينتصب على محلّ «بالحَقِّ»، أي شَهِندَ بالحقِّ وبِقيلِه.
الثامن: أن ينتصب على حذف القسم، كقوله: «فَذَاكَ أَمَانَةَ الهِ والثَّرِيدُ».
وقرأ الأعرج وأبو قِلابة، ومجاهد والحسن، بالرفع، وفيه أوجه: الرفع، عطفاً على «علم الساعة»، بتقدير مضاف، أي وعنده علم قِيلِهِ، ثم حذف، وأقيم هذا مُقَامه.
الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والجملة من قوله:: يَا رَبِّ «إلى آخره هو الخبر.
الثالث: أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: وقيلهُ كَيْتَ وكَيْتَ مسموعٌ أو متقبلٌ.
الرابع: أنه مبتدأ أو صلة القسم، كقولهم: أيمُنُ اللهِ، ولَعَمْرُ اللهِ، فيكون خبره
303
محذوفاً، والجواب كما تقدم. ذكره الزمخشري أيضاً. واختاره القراءة بالنصب جماعة. قال النحاس: القراءة البينة بالنصب من جهتين:
أحدهما: أن التفرقة بين المنصوب، وما عطف عليه مُغْتَفَرةٌ، بخلافها بين المخفوض وما عطف عليه.
والثانية: تفسير أهل التأويل بمعنى النصب. كأنه يريد ما قال أبو عبيدة قال: إنما هي في التفسير أم يحسبون أنا لا نسمع وسرهم ونجواهم ولا نسمع قيله يا رب.
ولم يرتض الزمخشري من الأوجه المتقدمة شيئاً. وإنما اختار أن يكون قَسَماً في القراءات الثلاث. وتقدم تحقيقها.
وقرأ أبو قِلاَبَةَ: يا ربِّ بفتح الباء، على قلب الياء ألفاً، ثم حذفهنا مجتزئاً عنها بالفتحة كقوله:
٤٤٣٣ -.......................... بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ.................
والأخفش يَطْردُها.
قال ابن الخطيب بعد أن حكى قول الزمخشري: وأقول: الذي ذكره الزمخشري متكلفٌ أيضاً وها هنا إضمار، امتلاأ القرآن منه، وهو إضمار اذكر، والتقدير في قراءة النصب: واذكر قيله يا رب، وفي قراءة الجر: واذكر وَقْتَ قِيلِهِ يا رب، وإذا وَجَبَ التزامُ إضمار ما جرت العادة في القرآن بالتزامه، فالتزام إضماره أولى من غيره. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أ، هـ قال في تفسير قوله:» وَقِيلِهِ يَا رَبِّ «المراد: وقيل يا ربِّ. الهاء زائدة.
304

فصل


القيلُ مَصْدَرٌ، كالقَوْلِ، ومنه الحديث:» أنه نَهَى عن قِيلَ وقَالَ «وحكى اللَّيْثُ عن العرب تقولُ: كَثُر فيه القِيلُ والقَالُ. وروى شَمِرٌ عن أب زيد ياقل: ما أحسْنَ قِيلُكَ، وقَوْلُكَ، ومَقَالتُكَ، ومَقَالُكَ. والضمير في» وَقِيلِهِ «لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى يعلم قَوْلَ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاكياً إلى ربه، يا ربِّ إن هؤلاء قومٌ لا يؤمنون لما عرف إصرارهم، وهذا قريب مما حكى الله عن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه قال:
﴿رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً﴾ [نوح: ٢١] ثم قال: «فَاصْفَحُ عَنْهُمْ»
أي أعْرِضْ عنهم، «وَقُلْ سَلاَمٌ» قال سيبويه: معناه المتاركة كقوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾ [القصص: ٥٥] ثم قال: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» والمراد به التهديد.
قوله: «فَسَوْفَ يَعْلَمُون» قرأ نافعٌ وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لِمَا تَقَدَّم.

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قوله: ﴿فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ﴾ منسوخ (بآية) السَّيْفِ.
قال ابن الخطيب: وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل؛ لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ، فَأَيُّ حاجة إلى التزا النسخ، وأيضاَ فاللفظ المطلق قد يقيَّد بحسب العُرْف، وإذا كان كذلك، فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ.
والله أعلم بالصواب.
روى أبو أمامةَ عن أُبَيِّ بنِ كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورة الزُّخْرُفِ كَانض مِمَّن كَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ:» يَا عِبَادِي لاَ خَوفٌ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ ولا أَنَتُمْ تحزنونَ «ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِغَيْر حِسَابٍ» (انتهى).
305
سورة الدخان
306
ثم إن تعالى نزه نفسه فقال :﴿ سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ أي عما يقولون من الكذب وذلك أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكلّ ما كان كذلك فهو لا يقبل التَّجْزِيءَ بوجه من الوجوه، والولد عبارة أن ينفصل عن الشيء جزءٌ فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله، وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتَّجْزِيء والتبعيض، وإذا كان ذلك مُحَالاً في حق إله العالم امتنع إثباتُ الولد.
ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال :﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ ﴾ أي يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم ﴿ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ ﴾ يعنى يوم القيامة. والمقصود منه التهديد، يعني قد ذكرت الحجة على فساد ما ذكروا، فلم يلتفتوا إليها، لأجل استغراقهم في طلب المال والجاه، والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل، واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود١.
قوله :«يُلاَقُوا » قراءة العامة من المُلاَقَاةِ. وابنُ مُحَيْصِن ويروى عن ابن عمرو «يَلْقُوا » من «لَقِِيَ »٢.
١ انظر تفسير الرازي ٢٧/٢٣١..
٢ ذكرها أبو حيان وابن خالويه عن أبي جعفر وابن محيصن فقط انظر البحر المحيط ٨/٢٩ ومختصر ابن خالويه ١٣٦ ويبدو أن هذه القراءة من الشواذ فلم أجدها في المتواتر عن أبي عمرو قراءة ونسبة إلا في الدر المصون ٤/٨٠٤ بضبط من أعلى بالتاء، بينما قال أبو حيان في البحر: "وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو يلقوا"..
قوله ( تعالى )١ :﴿ وَهُوَ الذي فِي السماء إله ﴾ «في السماء » متعلق ب «إله » لأنه بمعنى معبود في السماء معبود في الأرض، وحينئذ فيقال :( إنَّ )٢ الصلة لا تكون إلا جملة، أو ما٣ في تقديرها وهو٤ الظرف وعديله٥. ولا شيء منها هُنَا.
والجواب : أن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه، ولأن المحذوف هو العائد، تقديره : وَهُوَ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلهُ، وَهُوَ فِي الأَرْضِ إلَهُ، وإنما حذف لطول الصلة بالمعمول، فإن الجار متعلق «بإلَهٍ » ومثله : مَا أَنَا بالَّذِي قَائِلٌ لَكَ سُوءاً٦ وقال أبو حيان : وحسنه طوله بالعطف عليه كما حسن في قولهم :«قَائِلٌ لَكَ شَيْئاً » طولُه بالمعمول٧.
قال شهاب الدين : حصوله في الآية، وفيما حكاه سواء، فإن الصلة طالت بالمعمول في كليهما والعطف أمر زائدٌ على ذلك، فهو زيادة في تحسين الحذف٨. ولا يجوز أن يكون الجارُّ خبراً مقدماً و«إله » مبتدأ مؤخراً، لئلا تَعْرَى الجملةُ من رابطٍ ؛ إذ يصير نظير «جَاءَ الَّذِي فِي الدَّارِ زَيْدٌ » فإن جعلت الجار صِلةً، وفيه ضمير عائد على الموصول وجعلت «إله » بدلاً منه، فقال أبو البقاء :«جاء على ضعفه ؛ لأن الغرض الكلي إثبات الإلهية، لا كونه في السموات والأرض فكان يفسد أيضاً من وجه آخر، وهو قوله :﴿ وَفِي الأرض إله ﴾ ؛ لأنه معطوف على ما قبله، وإذا لم يقدر ما ذكرنا صار منقطعاً عنه، وكان المعنى أنه في الأرض إله ».
انتهى٩.
وقال أبو علي : نظرت فيما يرتفع به «إله » فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هُوَ الَّذِي في السماء هُو إله١٠. وقال أبو حيان : ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور، والمعنى أنه فيهما بإلهيَّته، ورُبُوبِيَّته ؛ إذ يستحيل حمله على الاستقرار١١، وقرأ عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وعبدُ الله في جماعةٍ وهو الذي في١٢ السماء اللهُ ضمَّن العلم أيضاً معنى المشتق فيتعلق به الجار ومثله : هُوَ حَاتِمٌ فِي طَيّىءٍ. أي الجواد فيهم. ومثله : فرعونُ العَذَابُ١٣.

فصل


قال ابن الخطيب : وهذه الآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في السماء لأنه تعالى بين في هذه الآية أن نسبته بإلهية السماء كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك وجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها.
فإن قيل : أيُّ تعلق لهذا الكلام ينفي الولد عن الله عزّ وجلّ ؟
فالجواب : تَعَلُّقُه به أنه تعالى خلق عيسى عليه الصلاة والسلام بمحض كُنْ فَيَكُون من غير واسطة النطفة والأب١٤ فكأنه قيل : إن كان هذا القدر١٥ لا يوجب كون عيسى ولداً للهِ عزّ وجلّ ؛ لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض مع انتفاء حصول الولد به هناك. ثم قال :﴿ وَهُوَ الحكيم العليم ﴾ الحكيم في تدبير خلقه العليم بِمَصَالِحِهِمْ. وقد تقدم في سورة الأنعام أن كونه حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له.
١ زيادة من ب..
٢ لفظ "إن" أيضا زيادة من نسخة ب..
٣ في ب وما في..
٤ وفيها: وهي..
٥ مساويه وهو الجار والمجرور..
٦ أخذ المؤلف هذا الكلام عن الدر المصون ٤/٨٠٤، ٨٠٥، الذي أخذه هو الآخر عن الكشاف للزمخشري ٣/٤٩٨ مجملا، فقد قال: "والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام كقولهم ما أنا بالذي قائل شيئا، وزاده طولا أن المعطوف داخل في حيز الصلة"..
٧ البحر المحيط ٨/٢٩..
٨ الدر المصون ٤/٨٠٥..
٩ التبيان لأبي البقاء العكبري ١١٤٢ وانظر الدر المصون السابق والكشاف ٣/٣٩٨، والبحر المحيط ٨/٢٩..
١٠ تفسير الرازي ٢٧/٢٣٢ والقرطبي ١٦/١٢١..
١١ البحر المحيط ٨/٢٩..
١٢ ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣/٤٩٧ و٤٩٨ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٢١ ومختصر ابن خالويه ١٣٦ وهي شاذة غير متواترة..
١٣ نقله الزمخشري بتصرف فقال: "ضمن اسمه تعالى معنى وصف فلذلك غلف به الظرف في قوله: في السماء وفي الأرض، كما تقول حاتم في طيئ، حاتم في تغلب". الكشاف ٣/٤٩٧..
١٤ في النسختين والآن والتصويب من الرازي..
١٥ كذا في الرازي وفي ب القيد..
قوله :«تَبَاركَ » إما أن يكون مشتقاً من وجوب البقاء، وإما من كثرة الخير، وعلى التقديرين فكل واحد من الوجهين ينافي كون عيسى عليه الصلاة والسلام واجبَ البقاء والدوام ؛ لأنه حدث بعد أن لَمْ يَكُنْ ثم عند النصارى أنه قُتل ومَاتَ ومن كان كذلك لم يكن بنيه وبين الباقي الأزلي الدائم مجانسة ومشابهة فامتنع كونه ولداً له، وإن كانَ المرادُ بالبركة كثرةَ الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فَعِيسى لم يكن خالقاً لهما مع أن اليهود عندهم أخذوه وقتلوه وصلبوه، والذي هذا صفته كيف يكون ولداً لمن كان خالقاً للسَّمَوات والأرض وما بينهما ؟ ثم قال :﴿ وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ والمقصود منه التنبيه على أن كل من كان كاملاً في الذات، والعلم، والقدرة على الوصف المشروح فإنه يمتنع١ أن يكون ولده في العجز وعدم القدرة عن أحوال العالم٢ بالحد الذي وصفته النصارى به٣.
قوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ قرأ الأَخَوانِ، وأبنُ كثير بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق٤ وهو في كلاهما مبني للمفعول. وقرئ بالخطاب مبنياً للفاعل٥.
١ في ب ممتنع بلفظ الاسمية..
٢ كذا في النسختين وفي الرازي: وعدم الوقوف على أحوال العالم على الحد الذي وصفه....
٣ انظر تفسير الرازي ٢٧/٢٣٢..
٤ من متواتر القراءات ذكرها ابن مجاهد في السبعة ٥٨٩ والبناء في الإتحاف ٣٨٧، والكشاف ٢/٢٦٢..
٥ لم ينسبها صاحب البحر ٨/٢٩ ونسبها صاحب الإتحاف إلى يعقوب ٣٨٧ وكذلك نسبها ابن الجزري في النشر إليه. انظر النشر ٢/٣٧٠ فهي إذن من المتواتر..
قوله :﴿ وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ ﴾ قرأ العامة يدعون بياء الغيبة، والضمير للموصول.
والسُّلَمِيٌّ وابنُ وَثَّاب بتاء الخطاب١. والأَسْودُ بنُ يَزِيدَ٢ بتشديد الدال، ونقل عنه القراءة مع ذلك بالياء والتاء٣.
وقوله :﴿ إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه متصل، والمعنى إلا من شَهِدَ بالحَقِّ، كعُزَيْزٍ، والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة بتمليك الله إياهم لها٤ وقيل : هو منقطع بمعنى أن هؤلاء لا يشفعون إلا فيمن شهد بالحق أي لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء كذا قدروه٥. وهذا التقدير يجوز فيه أن يكون الاستثناءُ متصلاً على حذف المفعول تقديره : ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ إلاَّ فِيمَنْ شَهِدَ٦.

فصل


ذكر المفسرون قولين في الآية :
أحدهما : أن الذي يدعون من دون الملائكة وعيسى، وعزير، لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق.
الثاني : رُوِيَ أن النضْرَ بْنَ الحَارِثِ ونفراً معه قالوا : إن كان ما يقوله محمدٌ حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من مُحَمَّدٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى لا يقدر هؤلاء أنْ يَشفعوا لأحد.
ثم استثنى فقال : إلاَّ من شهد بالحق أي الملائكة وعِيسَى وعُزير، فإنهم يشفعون. فعلى الأول : تكون «من » في محل جر، وعلى الثاني تكون «من » في محل رفع. والمراد بشهادة الحق قول : لا إله إلا الله كلمة التوحيد «وهم يَعْلَمُونَ » بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم٧.
١ شاذة غير متواترة ابن خالويه ١٣٦..
٢ ابن قيس ين يزيد أبو عمرو النخعي الكوفي الإمام الجليل. قرأ على عبد الله بن مسعود، وروى عن الخلفاء الأربعة وقرأ عليه النخعي مات سنة ٧٥ هـ. انظر غاية النهاية ١/١٧١..
٣ البحر ٨/٢٩ وابن خالويه ١٣٦..
٤ ذكره الزمخشري في الكشاف ٣/٤٩٨ ونقله عنه أبو حيان في البحر ٨/٢٩..
٥ هذا التقدير نقله أبو حيان عن مجاهد وغيره انظر البحر المحيط المرجع السابق، والكشاف ٣/٤٩٨ والقرطبي ١٦/١٢٢..
٦ قاله أيضا أبو حيان في بحره المرجع السابق، وانظر في هذا كله الدر المصون للسمين ٤/٨٠٦..
٧ وانظر تفسير الرازي ٢٢/٢٣٢ و٢٣٣ والقرطبي ١٦/١٢٢..
قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله. . . ﴾ الآية ظن قوم أن هذه الآية وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرونَ إلى الاعتراف بوجود الإله قال الجبائي : وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا : لا إله ( لهم )١ غيره. وقوم إبراهيم قالوا : إنَّ لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ ( مُرِيبٍ )٢.
وأجيب : بأنا لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، بدليل قوله تعالى :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ] وقال موسى عليه الصلاة والسلام :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ] على قراءة من فتح التاء من «عَلمتَ »٣ وهذا يدل على أن فرعون كان عارفاً بالله. وأما قول قوم إبْراهيم ( عليه الصلاة٤ والسلام ) :«وَإِنَّا لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونا إلَيْهِ » فهو مصروف إلى إثبات القيامة، وإثبات التكليف، وإثبات النبوة٥.
قوله :﴿ فأنى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي لم يكذبون على الله فيقولون : إنَّ الله أمرنا بعبادة الأصنام٦ ؟
١ سقط من ب..
٢ زيادة من ب..
٣ حفص عن عاصم وهي متواترة..
٤ زيادة من أ..
٥ انظر الرازي ٢٧/٣٣٣..
٦ الرازي السابق..
قوله تعالى :﴿ وَقِيلِهِ يا رب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ قراءة حمزة وعاصم بالجر١، والبَاقُونَ بالنصب فأما الجر فعلى وجهين :
أحدهما : أنه عطف على «الساعة » أي عنده علم قِيلهِ، أي قول محمد، أو عِيسى٢ والقَوْلُ والقَالُ والقِيلُ بمعنًى واحد. جاءت المصادر على هذه الأوزان.
والثاني : أن الواو للقسم، والجواب إما محذوف، تقديره : لتُنْصَرُنَّ أولأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد وإما مذكور، وهو قوله : إنَّ هَؤلاَءِ لاَ يؤْمِنُونَ. ذكره الزمخشري٣. وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه :
أحدها : أنه منصوب على محل «الساعة » كأنه قيل : إنه يعلم الساعةَ ويعلم قِيلهُ كذا٤.
الثاني : أنه معطوف على «سرهم ونَجْوَاهم » ( أي لا يعلم٥ سِرَّهُمْ ) ولا يعلم٦ قيله.
الثالث : عطف على مفعول «يَكْتُبُونَ » المحذوف، أي يكتبون ذلك، ويكتبون قِيلَهُ كذا أيضاً٧.
الرابع : أنه معطوف على مفعول يعلمون المحذوف، أي يعلمون٨ ذَلك ( ويعلمون )٩ قيله١٠.
الخامس : أنه مصدر أي قَالَ قِيلهُ١١.
السادس : أن ينتصب بإضمار فعل، أي اللهُ يعلَمُ قيلَ رَسُولهِ١٢. وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
السابع : أن ينتصب على محلّ «بالحَقِّ »، أي شَهِندَ بالحقِّ وبِقيلِه١٣.
الثامن : أن ينتصب على حذف القسم١٤، كقوله :«فَذَاكَ أَمَانَةَ الهِ والثَّرِيدُ »١٥.
وقرأ الأعرج وأبو قِلابة١٦، ومجاهد والحسن، بالرفع١٧، وفيه أوجه : الرفع، عطفاً على «علم الساعة »، بتقدير مضاف، أي وعنده علم قِيلِهِ، ثم حذف، وأقيم هذا مُقَامه١٨.
الثاني : أنه مرفوع بالابتداء، والجملة من قوله :«يَا رَبِّ » إلى آخره١٩ هو الخبر.
الثالث : أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره : وقيلهُ كَيْتَ وكَيْتَ مسموعٌ أو متقبلٌ٢٠.
الرابع : أنه مبتدأ أو صلة القسم، كقولهم : أيمُنُ اللهِ، ولَعَمْرُ اللهِ، فيكون خبره محذوفاً، والجواب كما تقدم. ذكره الزمخشري٢١ أيضاً. واختار القراءة بالنصب٢٢ جماعة. قال النحاس : القراءة البينة بالنصب من جهتين :
أحدهما : أن التفرقة بين المنصوب، وما عطف عليه مُغْتَفَرةٌ، بخلافها بين المخفوض وما عطف عليه.
والثانية : تفسير أهل التأويل بمعنى النصب٢٣. كأنه يريد ما قال أبو عبيدة قال : إنما هي في التفسير أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ولا نسمع قيله يا رب٢٤.
ولم يرتض الزمخشري من الأوجه المتقدمة شيئاً. وإنما اختار أن يكون قَسَماً في القراءات الثلاث٢٥. وتقدم تحقيقها.
وقرأ أبو قِلاَبَةَ : يا ربِّ٢٦ بفتح الباء، على قلب الياء ألفاً، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة كقوله :
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾ الآية ظن قوم أن هذه الآية
٤٤٣٣. . . . . . . . . . . . . . بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ. . . . . . . . . . ٢٧
والأخفش يَطْردُها٢٨.
قال ابن الخطيب بعد أن حكى قول الزمخشري : وأقول : الذي ذكره الزمخشري متكلفٌ أيضاً وهاهنا إضمار، امتلأ القرآن منه، وهو إضمار اذكر، والتقدير في قراءة النصب : واذكر قيله يا رب، وفي قراءة الجر : واذكر وَقْتَ قِيلِهِ يا رب، وإذا وَجَبَ التزامُ إضمار ما جرت العادة في القرآن بالتزامه، فالتزام إضماره أولى من غيره٢٩. وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما )٣٠ أنه قال في تفسير قوله :«وَقِيلِهِ يَا رَبِّ » المراد : وقيل يا ربِّ. الهاء زائدة٣١.

فصل٣٢


القيلُ مَصْدَرٌ، كالقَوْلِ، ومنه الحديث :«أنه نَهَى عن قِيلَ وقَالَ » وحكى اللَّيْثُ عن العرب تقولُ : كَثُر فيه القِيلُ والقَالُ. وروى شَمِرٌ عن أب زيد يقال : ما أحسْنَ قِيلُكَ، وقَوْلُكَ، ومَقَالتُكَ، ومَقَالُكَ٣٣. والضمير في «وَقِيلِهِ » لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى يعلم قَوْلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم شاكياً إلى ربه، يا ربِّ إن هؤلاء قومٌ لا يؤمنون لما عرف إصرارهم، وهذا قريب مما حكى الله عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال :﴿ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ﴾ [ نوح : ٢١ ]
١ من متواتر القراءات انظر الكشف لمكي ٢/٢٦١ والحجة في القراءات السبع لابن خالويه ٣٢٣ والسبعة ٥٨٩ ومعاني الفراء ٣/٣٨..
٢ الكشف المرجع السابق وانظر معاني الفراء ٣/٣٨ والمحتسب ٢/٢٥٨ والبيان ٢/٢٥٦ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٢١..
٣ الدر المصون ٤/٨٠٨ ولم أجد هذا بلفظه للزمخشري في الكشاف على ما سيأتي بعد، بل جعله الزمخشري على لفظ الساعة أو على تقدير حرف الجر كما سيأتي وانظر هذا الوجه وما قبله في التبيان ١١٤٣..
٤ التبيان المرجع السابق والبيان ٢/٣٥٥ ومعاني القرآن للزجاج ٤/٤٢١ والبحر المحيط ٨/٣٣، والكشاف ٣/٤٩٨..
٥ سقط من ب..
٦ قاله في التبيان السابق، ومعاني القرآن للفراء ٣/٣٨..
٧ البيان ٢/٣٥٥ وأبو حيان في البحر ٨/٣٠..
٨ في ب يعلم..
٩ سقط من ب..
١٠ نقله أبو حيان في بحره وقال وهو قول لا يكاد يعقل..
١١ التبيان ١١٤٣ والكشاف ٣/٤٩٨ والفراء ٣/٣٨ ونسب إلى الأخفش ولم أجده في المعاني له..
١٢ نقله أبو حيان في البحر ٨/٣٠ ولم ينسبه إلى أحد..
١٣ قاله في الدر المصون ٤/٨٠٧ وهو ضعيف للفصل بين المتعاطفين ولتقدير تكلف حرف الجر..
١٤ وهو اختيار الزمخشري كما سيجيء الآن، وانظر المرجع السابق..
١٥ سبق ما فيه..
١٦ محمد بن أحمد بن أبي دارة، أبو قلاية، مقرئ معروف، روى القراءة عن الحسن بن داود وجعفر ابن حميد، وعنه منصور بن أحمد العراقي انظر غاية النهاية ٢/٦٢، ٦٣..
١٧ قراءة شاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣٦ وابن جني في المحتسب ٢/٢٥٨ والفراء في معاني القرآن ٣/٣٠..
١٨ البيان ٢/٣٥٥ و٣٥٦ والمحتسب ٢/٢٥٨..
١٩ ذكره في التبيان ١١٤٣..
٢٠ البيان ٢/٣٥٦..
٢١ الكشاف ٣/٣٩٨..
٢٢ كالزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٢١ ونقله عنه موافقا النحاس كما سيأتي الآن..
٢٣ إعراب القرآن ٤/١٢٣..
٢٤ قال في المجاز ٢/٢٠٧ نصبه في قول أبي عمرو علي "نسمع سرهم ونجواهم وقيله ونسمع قيله"..
٢٥ قال: "وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه". الكشاف ٣/٤٩٩..
٢٦ البحر المحيط ٨/٣٠..
٢٧ جزء من بيت الوافر، مجهول قائله وهو بتمامه:
فلست بمدرك ما فات مني ...............................
ويروى: ولست بالواو. والمعنى أن الحسرة والندامة لا يجدي على ما فات والشاهد: بلهف وبليت والأصل يا لهفي ويا ليتني فحذف حرف النداء ثم قلب الياء "ياء المتكلم" ألفا ثم حذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها. وانظر الأشموني ٣/١٥٥ والخصائص ٣/١٣٥ والمحتسب ١/٢٧٧ و٣٢٣ والدر المصون ٤/٨٠٨..

٢٨ انظر معاني الأخفش ٧٢/٧٣..
٢٩ بالمعنى قليلا من الفخر الرازي ٢٧/٢٣٤..
٣٠ سقط من ب..
٣١ المرجع السابق..
٣٢ هذا الفصل كله ساقط من نسخة ب..
٣٣ انظر اللسان قول ٣٧٧٩..
ثم قال :﴿ فَاصْفَحُ عَنْهُمْ ﴾ أي أعْرِضْ عنهم١، ﴿ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ قال سيبويه : معناه المتاركة كقوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾ [ القصص : ٥٥ ] ثم قال :﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ والمراد به التهديد٢.
قوله :«فَسَوْفَ يَعْلَمُون » قرأ نافعٌ وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لِمَا تَقَدَّم٣.

فصل


قال ابن عباس ( رضي الله عنهما٤ ) قوله :﴿ فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ منسوخ ( بآية )٥ السَّيْفِ٦.
قال ابن الخطيب : وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل ؛ لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ، فَأَيُّ حاجة إلى التزام النسخ، وأيضاَ فاللفظ المطلق قد يقيَّد بحسب العُرْف، وإذا كان كذلك، فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ.
والله أعلم بالصواب٧.
١ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٤٠١..
٢ نقله الرازي عن سيبويه في تفسيره ٢٧/٢٣٤ ولم أستطع العثور عليه في الكتاب لسيبويه..
٣ من القراءة المتواترة انظر السبعة لابن مجاهد ٥٨٩، والإتحاف ٣٨٧..
٤ زيادة من أ..
٥ زيادة من ب..
٦ وهو نفس قول قتادة فيما نقله القرطبي ١٦/١٢٤..
٧ بالمعنى من تفسيره التفسير الكبير ٢٧/٢٣٥..
Icon