ﰡ
مكية. وهى تسع وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ... «١» إلخ، مع قوله:
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، فإنه تتميم له.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: حم يا محمد، وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ أي: المبين لِما أنزل عليهم، لكونه بلغتهم، وعلى أساليبهم، أو: الموضّح لطريق الهدى من الضلالة، أو: المبيّن لكل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة. وجواب القسم: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه، وتُحيطوا بما فيه من النظم الرائق، والمعنى الفائق، وتقفوا على ما تضمّنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر، وتعرفوا حق النعمة في ذلك، فتنقطع أعذاركم بالكلية.
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا أي: وإن القرآن العظيم مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، دليله قوله تعالى:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «٢». وسُمِّي أمّ الكتاب لأنه أصل الكتب السماوية، منه تُنقل وتُنسخ. وقوله تعالى: لَعَلِيٌّ خبر" إن" أي: إنه رفيع القدر بين الكتب، شريف المنزلة لكونه معجزاً من بينها. أو: في أعلى طبقات البلاغة. حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة،. أو: محكم، لا ينسخه كتاب.
وبعد ما بيَّن علو شأنه، وبيَّن أنه أنزله بلغتهم ليعلموه، ويؤمنوا به، ويعملوا بما فيه، عقَّبَ ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه، فقال: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ أي: ننحيه ونُبعده. والضرب: مجاز، من قولهم: ضرب الغرائب
(٢) الآيتان: ٢١- ٢٢ من سورة البروج.
صفَح عنه: إذا أعرض، منصوب على أنه مفعول له، على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن، وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم. ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لما دلّ عليه «نضرب» لأنه في معنى الصفح، كأنه قيل: أفنفصح صفحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ، أي: لأن كنتم منهمكين في الإسراف، مصرّين عليه لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم، حتى تموتوا على الكفر والضلالة، فتبقوا في العذاب الخالد، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك، بل نهديكم إلى الحق، بإرسال الرسول الأمين، وإنزال الكتاب المبين.
ومَن قرأ بالكسر «٢» فشرط حُذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، وهو من الشرط الذي يصدرُ عن الجازم بصحة الأمر، كما يقول الأجير: إن كنتُ عملتُ لك فوفّني حقي، وهو عالم بذلك. وعبّر ب «أن» إخراجاً للمحقق مخرج المشكوك لاستهجالهم «٣»، كأن الإسراف من حقه ألا يقع.
الإشارة: (حم) أي: حببناك، ومجدناك، وملكناك، وحق الكتاب المبين. ثم استأنف فقال: (إنا جعلناه) أي:
ما شرفناك به أنت وقومك (قرآناً عربياً) يفهمه مَن يسمعه (لعلكم تعقلون) عن الله، فتشكروا نعمه. (وإنه في أُمّ الكتاب) أي: وإن الذي شرفناكم به في أمّ الكتاب. قال الورتجبي: أي: إنه صفتي، كان في ذاته «٤» منزهاً عن النقائص والافتراق- أي: منزهاً عن الحروف والأصوات، التي من شأنها التغيُّر، وعن التقديم والتأخير، وهو افتراق كلماته. إذ هما من صفات الحدث. وأُم الكتاب عبارة عن [ذاته القديم، لأنها] «٥» أصل جميع الصفات، (لَدَيْنَا) معناه: ما ذكرنا أنه في أُمّ الكتاب عندنا (لعلِيّ) علا عن أن يدركه أحدٌ بالحقيقة، ممتنع من انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، (حكيم) محكِم مبين. وقال جعفر: عَلِيّ عن درك العباد وتوهمهم، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر. هـ.
فانظره، فإنَّ هذه من صفات الحق، والكلام في أوصاف القرآن.
وقوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً... الآية، قال القشيري: وفي هذه إشارة لطيفة، وهو: ألا يُقطع الكلامُ عمّن تمادى في عصيانه، وأسرف في أكثر شأنه، [فأحرى] «٦» أن مَنْ لم يُقَصّرْ في إيمانه، أو تلطّخ
(٢) قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر «إن كنتم» بكسر الهمزة، على أنها شرطية. وقرأ الباقون بالفتح على العلة. انظر الإتحاف (٢/ ٤٥٣).
(٣) فى الأصول (لاستهجانهم) والمثبت من تفسير أبى السعود.
(٤) فى الورتجبي [ذاتى].
(٥) فى الورتجبي: [ذات القدم لأنه].
(٦) فى الأصول [أرجو].
ثم سلّى نبيه بمن قبله، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦ الى ٨]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَمْ أَرْسَلْنا أي: كثيراً أرسلنا قبلك مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ في الأمم الماضية فكذّبوهم واستهزءوا بهم. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، فاصبر كما صبروا. ويحتمل أن يكون تقريراً لِمَا قبله لبيان أن إسراف الأمم السابقة لم يمنعه تعالى من إرسال الرسل إليهم، وكونها تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم أظهر. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي: فأهلكنا مِن الأمم السالفة مَن كان أكثر منهم طغياناً وإسرافاً، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: سلف في القرآن غير مرة ذكر قصة الأولين، وهى عدة له صلى الله عليه وسلم، ووعيد لقومه، بطريق الأولوية. فمثل ما جرى على الأولين يجري على هؤلاء لاشتراكهم في الوصف. وظاهر الآية: أن النبي والرسول واحد، والمشهور: أن النبي أعم، ف كل رسول نبي، ولا عكس، فالنبي مقصور في الحُكم على نفسه، والرسول نبيّ مكلّف بالتبليغ.
الإشارة: ما سليت به الأنبياء والرّسل يُسلَى به الأولياء لأنهم خلفاؤهم، ف كل مَن أُوذي واستُهزئ به يتذكر ما جرى على مَن كان أفضل منه من الأنبياء وأكابر الأولياء، فيخف عليه الأذى. وبالله التوفيق.
ثم ذكر إقرارهم بوجود الصانع، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١٤]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماء بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
موضع قرار كالمهد المعلق في الهواء، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، أو: بالتدبُّر فيها إلى توحيد ربكم، الذي هو المقصد الأصلي.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماء بِقَدَرٍ بمقدار يسلم معه العباد، وتحتاج إليه البلاد، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، فَأَنْشَرْنا بِهِ أي: أحيينا بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً خالياً عنه الماء والنبات.
وقُرئ: «ميِّتاً» بالتشديد «٢». وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي: مثل ذلك الإحياء، الذي هو في الحقيقة: إخراج النبات من الأرض، تُخرجون من قبوركم أحياء. وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشاء، الذي هو إحياء الموتى، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث، لتقويم سَنَنِ الاستدلال، وتوضيح منهاج القياس.
وهذه الجُمل، من قوله الَّذِي جَعَلَ... : استئناف منه تعالى، وليست من مقول الكفار لأنهم يُنكرون الإخراج من القبور، بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث، وكذا قوله: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها، أي:
أصناف المخلوقات بحذافيرها، على اختلاف أنواعها وألوانها. وقيل: الأزواج: ما كان مزدوجاً، كالذكر والأنثى، والفوق والتحت، والأبيض والأسود، والحلو والحامض، وقيل: كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج. والفرد هو الله.
(٢) وبذلك قرأ أبو جعفر.. انظر الإتحاف (٢/ ٤٥٤).
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ: ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفُلك والأنعام، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ تذكروها بقلوبكم، معترفين بها بألسنتكم، مستعظمين لها، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم، وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي: ذلَّل لنا هذا المركوب، متعجبين من ذلك وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين. يقال: أقرن الشيء: إذا أطاقه، وأصله: وجده قرينه لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف إلا إذا ذلّله الله وسهّله، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: راجعون. وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا، آخر مركبه منها، وهو: الجنازة فيبني أموره في مسيره على تلك الملاحظة، حتى لا يخطر بباله شيء من زينة الدنيا، وملاهيها وأشغالها.
وعن النبي ﷺ «أنه كان إذا وضع رجله في الركاب، قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا... إلى: لَمُنْقَلِبُونَ، ثم كبّر «ثلاثاً، وهلّل ثلاثاً، ثم قال: «اللهم اغفر لي..» «٢»، وحُكي أن قوماً ركبوا، وقالوا: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا... الآية، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هُزالاً، فقال: إني مقرن لهذه- أي مطيق- فسقط منها لوثبتها، واندقّت عنقه «٣». وينبغي ألا يكون ركوبُ العاقل للشهرة والتلذُّذ، بل للاعتبار، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه، وسخَّر له من أنعامه.
الإشارة: قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع، إلا من لا عِبْرة به من الفلاسفة، وإنما كفر مَن كفر بالإشراك، أو: بوصف الحق على غير ما هو عليه، أو: بجحد الرسول. وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره، بظهور آثار قدرته، والصفة لا تُفارق الموصوف، فدلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه، على وجود أوصافه، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته. فأهل السلوك يكشف لهم أولاً عن وجود آثاره، ثم عن أسمائه، ثم عن صفاته، ثم عن شهود ذاته. وأهل الجذب يكشف لهم أولاً عن ذاته، ثم عن أوصافه، ثم عن أسمائه، ثم عن آثاره، فربما التقيا في الطريق، هذا في ترقيه، وهذا في تدليه، كما فى الحكم.
(٢) أخرجه، مطولا، أبو داود فى (الجهاد، باب ما يقول الرّجل إذا ركب ٣/ ٧٧، ح ٢٦٠٢) والترمذي فى (الدعوات، باب ما يقول إذا ركب دابة ٥/ ٤٦٧ ح ٣٤٤٦). وقال: [حديث حسن صحيح]. وابن حبان (الأذكار، باب ما يقول إذا ركب الدابة ح ٢٣٧٠- ٢٣٨١. ص ٥٩١ موارد) والحاكم (٢/ ٩١) وصحّحه على شرط مسلم. من حديث سيدنا على رضي الله عنه وكرم وجهه.
(٣) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٧١٧) لعبد بن حميد، وابن المنذر، عن سليمان بن يسار.
ثم قال في قوله: فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً: وكما يُحْيي الأرضَ بالمطَر يُحْيي القلوبَ بحُسن النَّظَر. والذي خلق من الأزواج أصنافَ الخَلْق، كذلك حبس عليكم الأحوالَ كلها، فمِنْ رغبةٍ في الخيرات، وخوفٍ يحملكم على تَرْكِ الزلاّت، ورجاءٍ يبعثكم على فعل الطاعات، طمعاً في المثوبات، وغير ذلك من فنون الصِّفات، وكما سَخَّرَ الأنعام، وأعظمَ المنَّة بذلك، سَخَّر للمؤمنين مركب التوفيق، يحملهم عليه إلى بساط الطاعة، وسهَّل للمريدين مركبّ الإرادة، وحَمَلَهم عليه إلى عَرَصَات الجود، وفضاء الشهود، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمّة، فأناخوا بالحضرة القدسية، وعند ذلك مَحَطُّ الكافة ثم لا تخرق سرادقاتِ العزةِ هِمَّةُ مخلوقٍ، سواء كان مَلَكاً مُقّرَّباً، أو نبيّاً مُرْسلاً، أو ولياً مُكَرَّماً.
فعند سطواتِ العِزِّ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ، ويقف وراءها كل مُحْدَثٍ مسبوق. هـ. ببعض المعنى. وسرادقات العز:
حجاب الكبرياء، فلا تحصل الإحاطة بكُنه الربوبية لأحدٍ من الخلق. ولهذا يبقى الترقي أبداً للعارفين، في هذه الدار، وفي تلك الدار، ولا يحصل على غاية أسرار الربوبية أحد، ولو بقي يترقى أبداً سرمداً. والله تعالى أعلم.
ثم أبطل مذهب أهل الشرك، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَجَعَلُوا أي: المشركين لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءاً له، وبعضاً منه، كما يكون الولد لوالده جزءاً. وهذا متصل بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ... الخ، أي:
ثم ردّ عليهم بقوله: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، الهمزة للإنكار، تجهيلاً [وتعجيباً] «١» من شأنهم، حيث ادَعوا أنه اختار لنفسه أخس الأشياء، ولهم الأعلى، أي: بل اتخذ لنفسه أخس الصنفين، واختار لكم أفضلهما؟ على معنى: هَبُوا أنكم اجترأتم إضافة جنس الولد إليه سبحانه، مع استحالته وامتناعه، أمَا كان لكم شيء من العقل، ونبذة من الحياء، حتى اجترأتم على التفوُّه بهذه العظيمة، الخارقة للمعقول، من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما، وترك له شرهما وأدناهما؟. وتنكير «بنات»، وتعريف «البنين» لما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة.
وجملة: وَأَصْفاكُمْ: إما عطف على اتَّخَذَ، داخل في حكم [التعجيب] «٢» والإنكار، أو: حال من فاعله، بإضمار قد، أو: بدونه، على الخلاف. والالتفات إلى الخطاب لتأكيد الإجرام وتشديد التوبيخ.
ثم قرّره بقوله: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي: وإذا أُخبر أحدُهم بولاده ما جُعل مثلاً له سبحانه، وهي الأنثى، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله، وجزءاً منه إذ الولد لا بد أن يُجانس الوالِد ويشابهه. ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يعني: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس، ومِن حالهم: أن أحدهم إذا قيل له: قد وُلدت لك بنت، اغتمّ، واربدّ وجهه غيظاً وتأسُّفاً، وهو مملوءٌ من الكرب. والظلول: بمعنى الصيرورة، أي: صار أسود في الغاية من سوء ما بُشِّرَ به.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا «٣» فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي: أو يَجْعَلُ للرحمن من الولد مَن هذه الصفة المذمومة صفته، وهو أنه ينشأ في الحلية، أي: يتربّى في الزينة والتخنُّث، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم، ومجاراة الرجال، كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان لضعف عقولهن. قال مقاتل: لا تتكلم المرأة إلا وتأتي بالحجة عليها- أي: في الغالب- وفيه: أنه جعل النّشأ في الزينة من المعايب. فعلى الرجل أن يجتنبَ ذلك، له ولأولاده، ويتزين بلباس التقوى. و «مَنْ» منصوب المحل، أي: أوَ جعلوا مَن يربى في الحلية- يعني البنات- لله- عزّ وجل. وقرأ الأخَوان وحفص «يُنشَّأُ»، أي: يُربّى.
(٢) فى الأصول [التعجب].
(٣) قرأ حفص وحمزة والكسائي: «ينشأ» بضم الياء، وفتح النّون، وتشديد الشين، مضارع «نشّأ» معدّى بالتضعيف، مبنيا للمفعول.
وقرأ الباقون: بفتح الياء، وسكون النّون: وتخفيف الشين من «نشأ» لازم، مبنى للفاعل. انظر الإتحاف (٢/ ٤٥٤).
الإشارة: وجعلوا له من عباده جزءاً، أشركوا في المحبة معه غيره، والمطلوب: إفراد المحبة للمحبوب، فلا يُجب معه شيئاً. إن الإنسان لكفور مبين، حيث علم أن الحبيب الذي أنعم عليه واحد، وأنه غيور، لا يرضى لعبده أن يُحب معه غيره.
قال القشيري: جعلوا الملائكة جزءاً على التخصيص من جملة مخلوقاته. هـ. أي: جعلوا له جزءاً من عين الفرق، ولو نظروا بعين الجمع لرأوا الأشياء كلها متدفقة من بحر الجبروت. وفي الآية تحذير من كراهية البنات، حيث جعله من نعت أهل الكفر.
ثم أبطل شبهتهم، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي: لو شاء بنا أن نترك عبادة الأصنام لمَنَعَنَا عن عبادتها، لكنه لم يشأ ذلك. والله تعالى ردّ عليهم قولهم، واعتقادهم، بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ القول مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ:
يكذبون، ومعنى الآية عندنا: أنهم أرادوا بالمشيئة: الرضا، وقالوا: لو لم يرضَ بذلك لعجّل عقوبتنا، ولمَنعنا من عبادتها مع قهر واضطرار، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك، فردَّ الله عليهم بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ... الآية. أو: قالوا هذا القول استهزاء، لا جدّاً واعتقاداً، فأكذبهم وجهّلهم حيث لم يقولوه اعتقاداً، كما قالوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «١». وهذا كلام حق أرادوا به باطلاً. انظر النسفي.
قلت: ما تمسّكوا به من قوله: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ من الاحتجاج بالقدر، وهو لا ينفع فى هذه الدار، لأنه من التمسُّك بالحقيقة الخالية عن الشريعة، وهي بطالة وزندقة، ولذلك ردّهم الله تعالى إلى التمسُّك بالشريعة بقوله: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن، أو: من قبل ادعائهم ذلك، ينطق بصحة ما يدّعونه، فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ آخذون.
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ على دين وقلّدناهم. والأمّة في الأصل: الطريقة التي تؤمّ وتُقصد وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي: لم يأتوا بحجة نقلية ولا عقلية، ولا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم.
والظرف: صلة لمهتدون، أو: هما خبران.
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ من نبيّ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي: منعّموها، وهم الذين أترفتهم النعمة، أي: أبطرتهم، فلا يُحبون إلا الشهوات والملاهي، ويعافون مشاقَّ الدين وتكاليفه، قالوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ، وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم، وبيان أن التقليد فيهم ضلالٌ قديم.
وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعُّم بالشهوات، وحب البطالة، هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد.
" قُلْ" «٢»، هو حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم، عند تعللهم بتقليد آبائهم، أي: قيل لكل نذير وأوحي إليه: أن قُلْ، وليس خطاباً لنبينا- عليه الصلاة والسّلام- بدليل ما بعده من قوله: قالُوا.. الخ. وقيل:
(٢) قرأ ابن عامر، وحفص «قال» على الخبر، والباقون «قل» بغير ألف على الأمر. انظر الإتحاف (٢/ ٤٥٥).
وقرأ الشامي وحفص: قالَ أي: النذير: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ أي: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بِأَهْدى بدين أهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي: قالت كل أمة لنذيرها: إنا ثابتون على ديننا، وإن جئتمونا بما هو أهدى وأهدى. وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز، كقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «١».
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من الأمم المذكورين، فلا تكترث بتكذيب قومك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، تمسّكوا بالحقيقة الظلمانية، الخالية عن التشريع، وهو كفر وزندقة، ولذلك ردّ الله عليهم بقوله: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً... الخ، وترى كثيراً ممن خذله الله يقول: لو أراد الله هدايتي لهداني، ولا ينفع ذلك في هذه الدار، التي هي التكليف، بل يجب عليه النّهوض، والقصد إلى ما أمر الله به، من حقوق العبودية، فإن منعته الأقدار فلينظر إلى الواحد القهّار، وإلا فالشقاء لازم له. وقد قالوا: مَن تحقق ولم يتشرّع فقد تزندق، ومَن تشرَع ولم يتحقق فقد تفسّق، ومَن جمع بينهما فقد تحقّق. فالواجب: النظر إلى تصريف الحقيقة في الباطن، والتمسُّك بالشريعة في الظاهر. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ... الآية، فيه توبيخ لمَن تجمّد على تقليد أسلافه، وقد ظهر مَن هو أهدى منهم، ففيه نزعة جاهلية، وحمية من حميتهم.
ثم برهن على بطلان التقليد الرّديء، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَجَعَلَها أي: وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلّم بها، وهي قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي، كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: في ذريته، حيث وصَّاهم بها، كما نطق به قوله تعالى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ... «١»، فلا يزال فيهم مَن يُوحد الله تعالى، ويدعوهم إلى توحيده. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: جعلها باقية في ذريته رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم بدعاء الموحّد.
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ، إضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم، فلم يحصل ما رجاه، بل متعتُ هؤلاء المعاصرين من أهل مكة. وَآباءَهُمْ بالمد في العمر، والنعمة، والمهلة، فاغترُّوا بالمهلة، وانهمكوا في الشهوات، وشُغلوا بها عن كلمة التوحيد، حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة، واضحها بالمعجزات الباهرة، أو: مبين التوحيد بالآيات والحجج القاطعة.
وفي الآية توبيخ لهم فإن التمتع بزيادة النعم يُوجب أن يجعلوه سبباً لزيادة الشكر، والثبات على التوحيد والإيمان، فجعلوه سبباً لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال.
وحاصل معنى الآية: أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام ليدعو الموحّد المشرك، نسلاً بعد نسل، فيرجع المشرك عن شركه، فلم يرجعوا، بل اغترُّوا بما مُتّعوا به، فاستمرّوا على الشرك حتى جاءهم
الإشارة: كان إبراهيم عليه السلام إمام أهل التوحيد، لقوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «١»، وجعل الدعوة إليه في عقبه إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ، وهو على قسمين توحيد البرهان، وتوحيد العيان. وقد جاءت بعده الرسل بالأمرين معا، وقام بها خلفاؤهم بعدهم، فقام بالأول العلماء، وقام بالثاني خواص الأولياء، أهل التربية الحقيقية، ولا ينال من توحيد العيان شيئاً مَن علق قلبه بالشهوات الجسمانية، والحظوظ الفانية، كما قال الششترى رضي الله عنه:
ترَكْنا حُظوظاً من حضيض لُحُوظنا... مع المقصد الأقصى إلى المطلب الأسنى
وكل مَن تمتع بذلك، وانهمك فيه حَرِمَ بركة صحبة العارفين إذ يمنعه ذلك من حط رأسه، ودفع فلسه، فينخرط في سلك قوله تعالى: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ... الآية. وكل زمان له رسول، خليفةً عن الرّسول صلّى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ومعرفته. وبالله التوفيق.
ثم ذكر تحكمهم على الله، واستحقارهم لرسوله صلّى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أي: من إحدى القريتين مكة والطائف، على نهج قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «٢» وعنوا بعظيم مكة: الوليد بن المغيرة، وبعظيم الطائف: عروة بن مسعود الثقفي. وعن مجاهد: عظيم مكة: [عتبة] «٣» بن ربيعة، وعظيم الطائف: ابن عبد ياليل «٤». ولم يتفوّهوا بهذه العظيمة حسداً، بل استدلالاً على عدم نزوله، بمعنى: لو كان قرآنا
(٢) الآية ٢٢ من سورة الرّحمن.
(٣) فى الأصول [عقبة].
(٤) انظر تفسير الطبري (٢٥/ ٦٥). والدر المنثور للسيوطى (٥/ ٧٢١).
قال ابن عطية: وإنما قصدوا إلى مَن عظم ذكره بالسن، وإلا فرسول الله ﷺ كان أعظم هؤلاء إذ كان المسمى عندهم الأمين. هـ. ومرادهم: الشرف الدنيوي، بحيث يتعرض للأمور ليُذكَر ويشار إليه، ورسول الله ﷺ كان منزَّهاً عن ذلك من أول النشأة، كما هو حال أهل الآخرة، والنفوس في مهماتها إليهم أميلُ، وعليهم تعول، ولذلك كان أميناً عندهم، ولا ترضى جل النفوس أهل الفضول لأماناتها، ولا تسكن إليها وتطمئن بها، وإنما تعظمها ظاهراً، لا حقيقة. وهذا كافٍ في الرد عليهم في أنهم لا يرضونهم لأماناتهم، فكيف يرضون لأمانات الوحى.
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «١». قاله في الحاشية.
وقوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، إنكار عليهم، وفيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمِهم في اختيار مَن يصلح للنبوة. والمراد بالرحمة: النبوة.
نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ما يعيشون به، وهو أرزاقهم الحسية فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: لم نجعل قسمة الأدون إليهم، وهو رزق الأشباح، فكيف بالنبوة، والعلم، الذي هو رزق الأرواح؟ وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي: جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي، والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي: ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم، ويستخدموهم في مهماتهم، ويُسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويصلوا إلى أعمالهم، هذا بماله، وهذا ببدنه، ولو استووا في الغنى والفقر لبطل جُل المصالح، فسبحان المدبّر الحكيم.
قال القشيري: لو كانت المقاديرُ متساويةٌ لَتَعَطلَت المعايشُ، ولَبَقي كلٌّ عند حاله، فجعل بعضَهُم مخصوصاً بالترفُّه والمال، وآخرين بالفقر ورقّة الحال، حتى احتاج الفقيرُ في حين حاجته أن يعمل للغنيِّ، ليترفّق من جهته بأجرته، فيصلُح بذلك أمر الفقير والغنيّ معاً. هـ. ولو فوّضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا. وإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية، في غاية العجز، فما ظنهم في تدبير أمر الدين والنّبوة؟!.
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ أي: النبوة، أو: الدين وما يتبعه من الفوز في المآب، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي: مما يجمعُ هؤلاء من حُطام الدنيا الدنية الفانية.
الإشارة: مما جرى في طبع الناس أنهم لا يُقرون الولاية إلا فيمن عَظُمَ جاهُه، وكثر طعامه، أو كثرت صلاته، أو كان مجذوباً مصطلماً، أو: سبقت في أسلافه، وهذا خطأ، فإن الولاية سر من أسرار الله، أودعها قلوب أصفيائه، لا تظهر على جوارحهم، ولا تكون في الغالب إلا في أهل التجريد، وأهل الخمول، أخفاها الله فى عباده، فمَن ادعاها من غير تجريد ولا تخريب، فهو مدّعٍ، ولذلك قال أبو المواهب رضي الله عنه: من ادّعى شهود الجمال، قبل تأدُّبه بالجلال، فارفضه فإنه دجال.
ويقال لمَن أنكر على أهلها من أهل التجريد:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ | الآية، ورحمة ربك- هي سر الخصوصية- خير مما يجمعون. |
اقنعْ بما قسم الرزّاق من قِسَم | وسلّم الأمرَ فالرزاق مختارُ |
لا تجزعن ولا تبطَر على مِحَنٍ | أو مِنَح، فإنما هي أحكام وأقدارُ |
واقنع بكل الذي يجري الزمانُ به | ولا يكن منك للمغرور انكسار. |
(٢) أخرجه مسلم فى (الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم... ، ٢/ ٧٣٤، ح ١٠٥٩) وبنحوه البخاري فى (مناقب الأنصار باب مناقب الأنصار ح ٣٧٧٨) من حديث أنس رضي الله عنه. [.....]
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي: ولولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر، ويُطبقوا عليه، لَجَعَلْنا لأجل حقارة الدنيا عندنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ: بدل «مَن» سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ أي: متخذة منها، وَمَعارِجَ أي: ولجعلنا لهم مصاعد، أي: سلالم من فضة أيضاً، يصعدون عليها إلى السطوح، عَلَيْها يَظْهَرُونَ أي: يَعلون السطوح والعلالي عليها. وَلِبُيُوتِهِمْ أي: وجعلنا لبيوتهم أَبْواباً وَسُرُراً من فضة أيضاً، عَلَيْها أي: السرر يَتَّكِؤُنَ، ولعل تكرير «بيوتهم» لزيادة التقرير. وَزُخْرُفاً أي: وجعلنا لهم زخرفاً، أي: زينةً من كل شيء. والزخرف: الذهب والزينة. ويجوز أن يكونَ الأصلُ: سقفاً من فضة وزخرف، أي: بعضها من فضة، وبعضها مِن ذهب، فنُصب عطفاً على محل «مِن فضة».
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بما ذكر من الزخارف الغرارة، إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا، ثم يفنى وتبقى تبعته. وَالْآخِرَةُ أي: ونعيم الآخرة الذي يقصر عنه البيان، خير عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ الكفر والمعاصي. وبهذا يتبين أن العظيم إنما هو العظيم في الآخرة، لا في الدنيا، ولذلك لم يجعل للمؤمنين فيها حظاً وافراً لأنه تمتع قليل بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة، ولأنه ربما يشغلهم عن ذكر الرحمن، كما أشار إليه بقوله: وَمَنْ يَعْشُ... الخ.
الإشارة: في الآية ذم للدنيا ولمَن اشتغل بها. وفي الحديث: «لوْ كَانَتِ الدنيا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ ما سقي كافراً منها شربة ماء» «١». وعن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: اضطجع رسول الله ﷺ على حصيرٍ، فأثَّرَ الحصيرُ في جَنْبِه، فلما استيقظ، جعلتُ أمسح عنه، وأقول: يا رسول الله ألا آذنتني قبل أن تنام على هذه الحصير، فأبسط لك عليه شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالى وللدنيا، وما للدنيا ومالى، ما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ في فيء، أو ظل
رضيتُ من الدنيا بقُوتٍ وخرقةٍ... وأشربُ من كوز حوافيه تُكْسَرُ
فقل لبني الدنيا: اعزلوا مَن أردتُم... وولُّوا، وخلوني على البعد أنظرُ
وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا خراب، وأخرب منها قلب مشتغل بها» «٢». ومَن اشتغل بها غَفَلَ عن ذكر الرحمن، وسُلط عليه الشيطان، كما قال تعالى:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٢]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)
قلت: «مَن يعش» : شرط وجواب. وحكي أن أبا عبد الله بن مرزوق دخل على ابن عرفة، فحضر مجلسه، ولم يعرفه أحد، فوجده يُفسر هذه الآية: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ، فكان أول ما افتتح به- يعني ابن مرزوق- أن قال: وهل يصح أن تكون «مَن» هنا موصولة؟ فقال ابن عرفة: وكيف، وقد جزمت؟ فقال ابن مرزوق: جزمت تشبيهاً بالشرطية، فقال ابن عرفة: إنما يقدم على هذا بنص من إمام، أو شاهد من كلام العرب، فقال: أما النص فقال ابن مالك في التسهيل: وقد يحزم مسبب عن صلة الذي، تشبيهاً بجواب الشرط، وأما الشاهد فقوله:
فلا تَحْفِرَنْ بِئراً تُريدُ أخاً بها... فإنك فيها أنتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ
كذاك الذي يَبْغي عَلَى النَّاسِِ ظَالِماً... تُصْبه عَلَى رغمِ عواقب ماصنع
(٢) لم أقف عليه.
وقرأ ابن عباس: «يعشَ» - بفتح الشين، أي: يَعْم، من: عشى يعشى «١». وقُرئ: «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وإلا جزمت كما تقدم. قلتُ: والذي يظهر من كلام التسهيل أن الموصول المضمَن معنى الشرط إنما يجزم الجواب لا الشرط، فتأمله، مع كلام ابن مرزوق. والشاهد الذي أتى به إنما فيه جزم الجواب لا الشرط، فلا يصح ما قاله ابن مرزوق باعتبار جزم لفظ الشرط. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: وَمَنْ يَعْشُ أي: يتعَامَ، أو: يعْم. والفرق بين القراءتين «٢» أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عشى يعشَى، وإذا ضعف بصره بلا آفة قيل: عشَى يعشو. والمعنى: ومَن يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ وهو القرآن، لفرط اشتغاله بزهرة الدنيا، وانهماكه في الحظوظ الفانية، فلم يلتفت إليه، ولم يعرف أنه حق- على قراءة الفتح- أو: عرف أنه حق وتعامى عنه، تجاهلاً، على قراءة الضم، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، قال ابن عباس: نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة، لا يفارقه، ولا يزال يوسوسه ويغويه. وفيه إشارة إلى أنَّ مَن دام عليه لم يغوه الشيطان. وإضافته إلى «الرحمن» للإيذان بأن نزوله رحمة للعالمين، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي: ما ذكره الرحمن وأوحى به في كتابه. وقال ابن عطية: ما ذكّر الله به عباده من المواعظ. ويحتمل أن يريد مطلق الذكر، أي: ومَن يغفل عن ذكر الله نُسلط عليه شيطاناً، عقوبة على الغفلة، فإذا ذكر الله تباعد عنه.
وَإِنَّهُمْ أي: الشياطين، الذي قيّض كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو، لَيَصُدُّونَهُمْ ليمنعون العاشين عَنِ السَّبِيلِ عن سبيل الهدى الذي جاء به القرآن، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي: أنفسهم مهتدون، أو: ويحسب العاشُون أن الشياطين مهتدون، فلذلك قلَّدوهم، فمدار جمع الضمير اعتبار معنى «مَن» كما أن مدار إفراده فيما سبق اعتبار لفظها. وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجديدي، لقوله: حَتَّى إِذا جاءَنا فإن «حتى» تقتضي أن تكون غاية لأمر ممتد، أي: يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصد والحسبان الباطل، حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة. ومَن قرأ بالتثنية «٣»، فالمراد العاشي وقرينه. قال مخاطباً لقرينه: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ في الدنيا بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
(٢) أي: قراءة «يعش» بضم الشين و «يعش» بفتحها.
(٣) قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، وأبو جعفر (جاءانا) بألف بعد الهمزة على التثنية وهما العاشى وقرينه. وقرأ الباقون بغير ألف بعد الهمزة. والضمير يعود على العاشى. انظر شرح الهداية (٢/ ٥٠٨) والإتحاف (٢/ ٤٥٦).
قال تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي: يوم القيامة إِذْ ظَلَمْتُمْ أي: حين صحّ وتبيّن ظلمكم وكفركم، ولم تبقَ لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين. و «إذ» : بدل من اليوم. وقوله: أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ:
فاعل ينفع، أي: لن ينفعكم يوم القيامة اشتراككم في العذاب، كما كان في الدنيا يُهون عليكم المصيبة اشتراككم فيها، لتعاونكم في تحمُّل أعبائها وتقسيمكم لعنائها، ولذلك قيل: المصيبة إذا عمّت هانت، وإذا خصت هالت، وفي ذلك تقول الخنساء:
ولولا كثرةُ الباكين حَوْلي | على إخوانهم لقتلتُ نفسي |
ولا يبكون مثلَ أخي ولكنْ | أُعزّي النفسَ عنه بالتأسِّي «١» |
وكان صلّى الله عليه وسلم يُبالغ في المجاهدة في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غيّاً وتعامياً عما يشهدونه من شواهد النبوة، وتصامماً عما يسمعونه من القرآن، فأنزل الله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ، وهو إنكار وتعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وقد تمرّنوا في الكفر، واستغرقوا في الضلال، حيث صار ما بهم من العشي عَماً مقروناً بالصمم، أي: أفأنت تقدر أن تسمع من فقد سمع القبول، أو تهدي مَن فقد بصر الاستبصار. وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: ومَن كان في علم الله أنه يموت على الضلال. ومدار الإنكار هو التمكُّن والاستقرار في الضلال المفرط، بحيث لا ارعواء له منه، لا توهم القصور من قبل الهَادي، ففيه رمز في أنه لا يقدر على ذلك إلا الله.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي: فإن قبضناك قبل أن ننصرك على أعدائك، ونشفى صدور لمؤمنين منهم، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أشد الانتقام في الآخرة. أَوْ نُرِيَنَّكَ العذاب الَّذِي وَعَدْناهُمْ بل أن نتوفينك، كما وقع بهم يوم بدر، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا ناصر لهم من حلول نقمتنا وقهرنا. و «إما» : شرط دخلت «ما» على «إن» توكيداً للشرط، وزاد التوكيد نون الثقيلة.
إن قلب ابن آدم بين ملك وشيطان، فإذا ذكر الله قرب الملك منه وانخنس الشيطان «١»، وإذا غفل عن ذكر الشيطان قرب منه، فلا يزال يوسوسه ويمنيه حتى يغفله عن الله. ولا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني، فكم من ذاكر بلسانه وقلبه مشغول بهواه، فذكر اللسان نتائجة الأجور، وذكر القلوب نتائجة الحضور ورفع الستور، وشتان بين مَن همّه الحور والقصور، ومَن همه الحضور ورفع الستور، هذا من عامة أهل اليمين، وهذا من خاصة المقربين، فإن أردت يا أخي ذكر القلوب، ولمعان أسرار الغيوب، فاصحب الرجالَ، حتى ينقلوك من عالم الطبيعة إلى عالم الروحانية، وإلا بقيت في عالم الأشباح.
قال القشيري: مَن لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللهِ، فحادَ عن ذكره، وأخلدَ إلى الخواطر الرديَّة، قيَّض اللهُ له مَن يشغله عن الله- وهذا جزاء مَن تَرك الأدب في الخلوة. وإذا اشتغل العبدُ في خلوته مع ربَّه، وتعرَّض له مَن يشغله عن ربه، صَرَفه الحق عنه بأي وجْهٍ كان.. ويقال: أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ، والعبدُ إذا لم يَعرفْ قدر فراغ قلبه، واتَّبَعَ شهوته، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه، بقي في يد هواه أسيراً، لا يكاد يتخلصُ منه إلا بعد مُدة. هـ.
[وقال في الإحياء: للشيطان جندان جند يطير، وجند يسير، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار. ثم قال: فتحقق أن الشيطان من المنظَرين، فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد، وهو الله، فيشتغل قلبك بالله وحده، فلا يجد الملعون مجالاً فيك، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلّصين، الداخلين في الاستثناء من سلطنته. ولا تظن أن يفرغ منه قلب فارغ من ذكر الله، بل هو سيّال يجري من ابن آدم مجرى الدم، وسيلانه مثل الهواء في القدح، إن أردت أن يخلو عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو غيره، فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه من الهواء لا محالة، فكذلك القلب المشغول بتفكُّر مهم في الدين، يخلو عن جولان الشيطان، وإلا فمَن غفل عن الله، ولو لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، ولذلك سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. هـ. المرا منه] «٢».
(٢) ما بين المعكوفتين من هامش النسخة الأم، وليس فى غيرها.
يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين، فيقول الحق جلّ جلاله: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ حيث حرمتموها من الوصول إلىّ أنكم فى عذاب الحجاب مشتركون. ويُقال لمَن وعظ ودعا إلى الله، فلم يُقبل منه:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ... الآية. فإما نذهبنَّ بك بالموت، فيقع الندم عليك، أو نُرينك الذي وعدناهم من العز لك والنصر، والانتقام ممن آذى أولياء الله، فإنا عليهم مقتدرون.
ثم أمر بالثبوت فى طريق الحق، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
يقول الحق جلّ جلاله: فَاسْتَمْسِكْ أي: تمسّك بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من الآيات والشرائع، واعمل بذلك، سواء عجلنا لك الموعود أو أخرناه، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على دين قَيم لا عوجَ فيه، وهو تعليل للأمر بالاستمساك. وَإِنَّهُ أي: ما أُوحي إليك لَذِكْرٌ لشرف عظيم لَكَ وَلِقَوْمِكَ ولأمتك، أو: لقومك من قريش، فمازال العز فيهم، والشرف لهم، من زمانه صلّى الله عليه وسلم إلى قرب الساعة. قال صلّى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الشأن في قريش ما بقيّ منهم اثنان» «١». وفي رواية: «لا يزال هذا الأمر في قريش، لا يُعاديهم أحد إلا كُبّ على وجهه ما أقاموا الدّين» «٢». قال ابن عباس: كان صلّى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة، ويعدهم الظهور، فإذا قالوا:
لِمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم، حتى نزلت: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ فكان بعد تلك إذا سئل قال: «لقريش» فلا يُجيبونه، فقبلته الأنصار على ذلك «٣».
(٢) جزء من حديث أخرجه البخاري، فى الموضع السابق (ح ٣٥٠٠)، من حديث معاوية رضي الله عنه.
(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥/ ٧٢٥) لابن عدى وابن مردويه، عن علىّ وابن عباس- رضي الله عنهما- قلت: على هامش النّسخة الأم مايلى: هذا غريب جدا، والمعروف أنه كان يقول: «الملك لله يضعه حيث يشاء». هـ.
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ، فليس المراد سؤال الرسل حقيقة، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مِللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز، المصدق لما بين يديه. وإخبارُ الله فيه بأنهم إنما يعبدون من دون الله ما لم يُنزل به سلطاناً. وهذه الآيةُ في نفسها كافية، لا حاجة إلى غيرها.
وقيل إنه صلّى الله عليه وسلم جُمع له الأنبياء- عليهم السلام- وقيل له: سلهم «١»، وهو ضعيف. وقيل معناه: سل أمم مَن أرسلنا، وهم أهل الكتابين التوراة والإنجيل، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنما سأل الأنبياء، ومعنى هذا السؤال: التنبيه على بطلان عبادة الأوثان، والاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، وأنه ليس ببدع ابتدعه حتى ينكر ويعادي. وقيل: الخطاب له، والمراد غيره ممن يرتاب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاستمساك بالوحي كان حاصلا له صلى الله عليه وسلم، وإنما المراد الثبوت على ما هو حاصل، والاسترشاد إلى ما ليس بحاصل، فالمراد الترقي في زيادة العلم، والكشف إلى غير نهاية، كقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، فالترقي لا ينقطع لمَن تمسك بالوحي التمسُّك الحقيقي، بحيث كُشِف له عن غوامض أسرار القرآن، وزال الحجاب بينه وبين الله تعالى، فهو دائماً في زيادة العلم والكشف، إلى ما لا نهاية له. وهذا هو الشرف العظيم في الدارين. فمَن لم يشكره سُئل عنه، أو سُلب منه في الدنيا. ثم إن التوحيد في الذات والصفات والأفعال مما أجمعت عليه الملل، وكل داعٍ إنما يدعو إليه، وكل شيخ مربي إنما يُوصل إليه، ومَن لم يُوصل إليه أصحابه فهو دجّال. وبالله التوفيق.
ثم سلّى رسوله بقوله:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
استهزؤوا بها أول ما رأوها، ولم يتأملوا فيها.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها قرينتها، وصاحبتها التي كانت قبلها، أي:
ما ظهر لهم آية إلا وهي بالغة أقصى مراتب الإعجاز، بحيث يجزم كل مَن ينظر إليها أنها أكبر من كل ما يُقاس بها من الآيات. والمراد: وصف الكل بغاية الكِبرَ من غير ملاحظة قصور في شيء منها، قال النسفي: وظاهر النظم يدلّ على أن اللاحقة أعظم من السابقة، وليس كذلك، بل المراد بهذا الكلام: أنهن موصوفات بالكبر، كما يقال: هما أخوان، كلّ منهما أكبر من الآخر. هـ. وقال في الانتصاف: الظاهر: أن كل آية إذا أُفردت استغرقت عظمتها الفكر وبهرته، حتى يجزم أنها النهاية، وأنَّ كل آية دونها، فإذا نقل الفكر إلى الأخرى كانت كذلك.
وحاصله: أنه لا يقدر الفكر أن يجمع بين آيتين، لتتميز الفاضلة من المفضولة. هـ.
وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ وهو ما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ «٢»، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ... الآية «٣». لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يرجعوا عما هم عليه من الضلال.
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ، كانوا يقولون للعالِم: إنما هو ساحر لتعظيمهم علم السحر، أو: نادوه بذلك في مثل تلك الحالة لغاية عتوهم ونهاية حماقتهم. وقرأ الشامي بضم الهاء «٤»، لاتباع حركة ما قبلها حين سقطت الألف، ادْعُ لَنا رَبَّكَ يكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي: لعهده عندك بأن دعوتك مستجابة، أو: بما عهد عندك من النبوة والجاه، أو: بما عهد من كشف العذاب عمن اهتدى، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ مؤمنون أن كشف عنا بدعوتك، كقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ «٥»، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعوته إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ينقضون العهد، أي: فاجؤوا وقت نكث عهدهم بالاهتداء. وقد مرَّ تمامه في الأعراف «٦».
(٢) الآية ١٣٠ من سورة الأعراف.
(٣) الآية ١٣٣ من سورة الأعراف.
(٤) أي «يا أيّه» وبهذا قرأ ابن عامر.
(٥) من الآية ١٣٤ من سورة الأعراف.
(٦) راجع تفسير الآيات ١٣٣- ١٣٦ من سورة الأعراف.
ثم ذكر عتو فرعون وطغيانه، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَنادى فِرْعَوْنُ، إما بنفسه، أو: أمر مَن ينادي، كقولك: قطع الأميرُ اللصّ.
والظاهر أنه نادى بنفسه، فِي قَوْمِهِ في مجمعهم وفيما بينهم، بعد أن كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمنوا، قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ أنهار النيل، ومعظمها أربعة نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تييس، تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت سريري لارتفاعه، أو: بين يدي في جناتي وبساتيني.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: نيل مصر سيد الأنهار، سخّر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها، وفجّر له الأرض عيوناً، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. قاله في الاكتفاء. ومهبطه من جبل القمر. وقيل: أصله من الجنة، والله تعالى أعلم. وحدُّ مصر: من بحر الإسكندرية إلى أسوان، بطول النيل. والأنهار المذكورة هي الخلجان الكبار، الخارجة من النيل.
وَهذِهِ الْأَنْهارُ: إما عطف على «ملك مصر»، ف «تجري» : حال منها، أو: واو الحال، ف «هذه» مبتدأ، و «الأنهار» : صفتها و «تجري» : خبر، أَفَلا تُبْصِرُونَ قوتي وسلطاني، مع ضعف موسى وقلة أتباعه. أراد بذلك استعظام ملكه وترغيب الناس في اتباعه.
ثم قال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه المملكة والبسْطة مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي: ضعيف حقير، من:
المهانة، وهي القلة. وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام لما به من اللثة. قاله افتراء عليه عليه السلام، وتنقيصاً له في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه عليه السلام. وقد كانت ذهبت عنه، لقوله تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «٢». والهمزة للتقرير، كأنه قال إثر ما عدّد من أسباب فضله، ومبادئ خيريته: أثبت عندكم واستقر لديكم أني أنا خير، وهذه حالى، مِن هذا. وإما متصلة، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؟ فوضع قوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ موضع «تُبصرون» لأنهم إذا قالوا: أنت خير فهم عنده بُصَراء. وهذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب. انظر أبا السعود.
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ «٣» مِنْ ذَهَبٍ أي: فهلاَّ أُلقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقاً، لأنهم كانوا إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار، وطوّقوه بطوق من ذهب. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مقرونين يمشون معه، مقترن بعضهم ببعض، ليكونوا أعضاده وأنصاره، أو: ليشهدوا له بالنبوة؟ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي: فاستفزهم، وطلب منهم الخفة والسرعة في مطاوعته. أو: فاستخف أحلامهم واستزلهم، فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ، خارجين عن الدين، فلذلك سارعوا إلى طاعته.
فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا أشد الغضب، منقول من: أَسف: إذ اشتد غضبه، انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ، والمعنى: أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن نُعجِّل لهم العذاب، وألا نحلُم عليهم. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمَن بعدهم من الكفار، يسلكون مسلكهم في استيجاب مثل ما حلّ بهم من العذاب، ف كل من تفرعن
(٢) الآية ٣٦ من سورة طه.
(٣) قرأ حفص ويعقوب «أسورة» بسكون السين بلا ألف، جمع «سوار» كأخمرة وخمار، وقرأ الباقون «أساورة» بفتح السين، وألف، جمع «أسورة»، كأسقية وأساقى، أو جمع «أساور» بمعنى «سوار». وقد أثبت المفسر- رحمه الله- قراءة «أساورة». انظر: شرح الهداية (٢/ ٥٠٨) والإتحاف (٢/ ٤٥٧).
والسلف: جمع سالف، وهو الفارط المتقدم، وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي: عظةً لهم، أو: قصة عجيبة، تسير مسير الأمثال، فيقال: مثلكم كقوم فرعون، كما قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ «١». وهاهنا قراءات، قد وجَهناها في كتاب مستقل.
الإشارة: عاقبة التكبُّر والافتخار الذُّل والهوان والدمار، وعاقبة التواضع والانكسار العزُّ والنصرة، انظر إلى فرعون لما تعزّز واستكبر هلك مع قومه في لُجة البحار. قال القشيري: ليعلم أن مَن تعزّز بشيء دون الله فهلاكه وحتْفه فيه، وفرعون لمَّا استصغر موسى وحديثه، وعابَه بالفقر، سلَّطه الله عليه، فكان هلاكه بيده، وما استصغر أحدٌ أحداً إلا سُلط عليه. ثم قال في قوله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ: طاعةٌ الرهبة لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرَتْ عن الرغبة، فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا، وإنما أراد: أغضبوا أولياءنا، وهذا أصل في باب الجمع، أضاف إغضابهم أولياءه إلى نفسه. وفي الخبر أنه تعالى يقول: «مرضت فلم تعدني» «٢» وقال لإبراهيم عليه السّلام: يَأْتُوكَ رِجالًا «٣» وقال لنبينا صلّى الله عليه وسلم: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «٤» هـ.
ثم ذكر شأن عيسى، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٢]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)
(٢) حديث قدسى صحيح، أوله: «يا ابن آدم... »، أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، ٤/ ١٩٩٠، ح ٥٦) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٢٧ من سورة الحج.
(٤) من الآية ٨٠ من سورة النّساء.
وفي رواية: فقال لهم صلّى الله عليه وسلم: «إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك». وقال ابن الزبعرى: «ما أجهلك بلغة قومك، أَمَا فهمت أن «ما» لِما لا يعقل، فهي خاصة بالأصنام» «٢»، فأنزل الله:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى | «٣» الآية. ونزلت هذه الآية. |
يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض، أو يزدادون.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعني أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً. أو: فإذا كان عيسى في النار، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها. قال تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي: ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام، لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: لُدّاً، شِدَاد الخصومة، مجبولون على اللجاج، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام، بدليل التعبير ب «ما»، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام الله تعالى محتملاً لفظُه للعموم، مع علمه بأن المراد به أصنامهم، وجد للحيلة مساغاً، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة، وتوقَّح في ذلك، فصمت عنه صلّى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه.
(٢) قال الحافظ ابن حجر فى الكافر الشاف (ص ١١١- ١١٢) :«استقر فى ألسنة كثير من علماء العجم، وفى كتبهم أن النبي ﷺ قال «ما أجهلك بلغة قومك..» إلخ. وهو شىء لا أصل ولا يوجد لا مسندا ولا غير مسنده. هـ. ووجدت على هامش النّسخة الأم ما يلى:
«هذه الرّواية لا أصل لها، بل الخبر من أصله لم يورده المؤلف كما هو، ولبيان ذلك لا يسعه هذا المحل» هـ. [.....]
(٣) الآية ١٠١ من سورة الأنبياء.
ثم قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ بدلاً منكم، كذا قال الزجاج، ف «مِن» بمعنى البدل يَخْلُفُونَ أي: يخلفونكم في الأرض، أي: لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، فيكونون أطوع منكم لله تعالى، وقيل: (ولو نشاء) لقدرتنا على عجائب الأمور (لجعلنا منكم) بطريق التوالد، وأنتم رجال، من شأنكم الولادة- (ملائكة) كما خلقناهم بطريق الإبداع (في الأرض) مستقرين فيها، كما جعلناهم مستقرين في السماء، يخلفونكم مثل أولادكم، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام، متولدون عن أجسام، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك؟! وَإِنَّهُ أي: عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي: مما يعلم به مجيء الساعة عند نزوله. وقرأ ابن عباس «لَعَلَمٌ» بفتح اللام «٢»، أي: وإن نزوله لَعَلَم للساعة، أو: وإن وجوده بغير أب، وإحياءه للموتى، دليل على صحة البعث، الذي هو معظم ما ينكرة الكفرة.
(٢) اللام الثانية مع فتح العين (لعلم) وهو الأمارة والعلامة.
وقيل: الضمير للقرآن لأن فيه الإعلام بالساعة، فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكنَّ فيها، من المرْية، وهو الشك، وَاتَّبِعُونِ أي: اتبعوا هداي وشرائعي، أو: رسولي، وقيل: هو قول نبينا صلّى الله عليه وسلم مأموراً به من جهته تعالى:
هذا أي: الذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل إلى الحق. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن اتباعي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بيِّن العداوة، حيث أخرج آباءكم من الجنة، وعرضكم للبلية.
الإشارة: الوعظ والتذكير لا تسري أنواره في القلوب إلا مع التسليم والتصديق، والسكوت والاستماع، كما كان الصحابة- رضي الله عنهم- مع الرّسول صلّى الله عليه وسلم كأنَّ على رؤوسهم الطير، وأما إن دخل معه الجدال واللجاج ذهبت بركته، ولم تسْر أنواره، ولذلك قيل: مذهب الصوفية مبني على التسليم والتصديق، ومذهب الفقهاء مبني على البحث والتفتيش، لكن مع الإنصاف، وخفض الصوت، وحسن السؤال من غير ملاججة ولا غضب.
ثم ذكر بعثة عيسى ودعوته إلى الله، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦)
(٢) ذكره بلفظه القرطبي فى تفسيره (٧/ ٦١٠٩) وعزاه للثعلبى، وأخرجه بلفظ مقارب أبو داود فى (الملاحم، باب خروج الرّجال، ٤/ ٤٩٨ ح ٤٣٢٤). عن أبى هريرة. وأصل الحديث فى الصحيحين. انظر البخاري (كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم عليهما السّلام ح ٣٤٤٨) ومسلم (الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حكما بشريعة نبينا محمد ﷺ ١/ ١٣٥ ح ١٥٥).
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم به من الطاعة، وهو اعتقاد التوحيد، والتعبُّد بالشرائع، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه فهذا تمام كلام عيسى عليه السلام، وقيل: قوله: هذا.... الخ من كلام الله تعالى، مُقرر لمقالة عيسى عليه السلام.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي: الفرق المتحزِّبة بعد عيسى، وهم: اليعقوبية والنسطورية، والملكانية، والشمعونية، مِنْ بَيْنِهِمْ أي: من بين النصارى، أو: من بين مَن بُعِثَ إليهم من اليهود والنصارى، أي: اختلافاً ناشئاً من بينهم، من غير حجة ولا برهان، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المختلفين، حيث قالوا في عيسى ما كفروا به، مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ وهو يوم القيامة هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظر أولئك الكفرة، أو قوم عيسى إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بدل من «الساعة» أي: هل ينتظرون إلا إتيان الساعةُ بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ غافلون عن الاستعداد لها، لاشتغالهم بأمر دنياهم، أو: منكرون لها، غير مترقبين وقوعها.
الإشارة: كانت الرسل- عليهم السلام- يُبينون لأممهم ما يقع فيه الاختلاف من أمر الدين، سواء تعلّق ذلك بالظاهر أو بالباطن، بما يوحى إليهم من إلهام، أو بملَك مرسل، فلما ماتوا بقي خلفاؤهم من العلماء والأولياء، فالعلماء يُبينون ما اختُلِف فيه من الشرائع والعقائد، بما عندهم من القواعد والبراهين، والأولياء يُبينون الحقائق، وما يتعلق بالقلوب من الشكوك والخواطر، وسائر الأمراض، بما عندهم من الأذواق والكشوفات. فالعلماء يرجعون إلى كتبهم وعلومهم، والأولياء يرجعون إلى قلوبهم وأذواقهم، حتى كان فيما سلف من العلماء إذا توقفوا في مسألة عقلية أو قلبية أخذوا صوفيّاً أُميّاً فيسألونه، ويجبرونه على الجواب، فيجيبهم عن كل ما يسألونه، كقصة أبي الحسن النوري مع القاضي، وغيره، وقد كان الشعراني يسأل شيخه الخواص- وهو أُمي- عن أمور معضلة، فيجيب عنها، حتى إن كتبه كلها مطرزة بكلامه- رضي الله عنهم أجمعين.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
يقول الحق جلّ جلاله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: المتحابون في الدنيا على الأمور الذميمة متعادون يوم القيامة، يبغض بعضهم بعضاً، فتنقطع في ذلك اليوم كل خُلة كانت لغير الله، وتنقلب عداوة ومقتاً لانقطاع سببها، وهو الاجتماع على الهوى، إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي: الأخلّة المصادقين في الله، فإنها الخُلة الباقية لأن خُلتهم في الدنيا لمَّا كانت لله، وفي الله، بقيت على حالها لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، بل تزداد خُلتهم بمشاهدة كل واحد منهم بركة خُلتهم من الثواب، ورفع الدرجات. وسئل صلّى الله عليه وسلم:
مَن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال: «المتحابون في الله»، وخرَّج البزار عن ابن عباس رضي الله عنه: قيل: يا رسول الله! أَيُّ جُلَسَائِنا خيرٌ؟ قال: «مَن ذكَّرَكُم بالله رؤيتُه، وزاد في عَمَلِكم مَنطِقُه وذكَّركُمْ بالله عِلمُه» «١».
ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه: دليل تخليطك صحبتك للمخلطين، ودليل انقطاعك إلى الله صحبتك للمنقطعين. هـ. وفى سماع العتبية: قال مالك: لا تصحبْ فاجراً لئلا تتعلّم من فجوره، قال ابن رُشد: لا ينبغي أن يُصحب إلا مَن يُقتدى به في دينه وخيره لأن قرين السوء يُردي، قال الحكيم:
عَن المرءِ لا تَسْأَلْ وسل عن قرينه | ف كل قرين بالمقارن مقتد «٢». |
(٢) البيت منسوب إلى عدى بن زيد: انظر: نهاية الأرب (٣/ ٦٥) والعقد الفريد (٢/ ٣١١).
ويقال لهم حينئذ، تشريفاً لهم، وتطييبا لقلوبهم: يا عِبادِ «١» لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، ثم وصفهم أو مدحهم بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صدّقوا بآياتنا التنزيلية، وَكانُوا مُسْلِمِينَ منقادين لأحكامنا، مخلصين وجوههم لنا، وعن مقاتل: «إذا بعث الله الناس، فزع كل أحد، فينادي منادٍ: يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، فيرجوها النّاس كلهم، فيتبعها الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فيُنكِّس أهل الأديان الباطلة رؤوسَهم» «٢»، ثم يقول لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات تُحْبَرُونَ تُسرّون سروراً يظهر حُباره- أي: أثره- على وجوهكم أو: تُزَينون، من: الحبرة وهو حسن الهيئة، أو: تُكرَمون إكراماً بليغاً، وتتنعمون بأنواع النعيم. والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل وتقدّم في قوله: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ «٣» أنه السماع.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ أي: بعد دخولهم الجنة حسبما أمروا به وَأَكْوابٍ من ذهب حذف لدلالة ما قبله. والصِحَاف: جمع صحفة، قيل: هي كالقصعة، وقيل: أعظم القصاع، فهي ثلاث: الجفنة، ثم القصعة، ثم الصحفة، والأكواب: جمع كوب، وهو كوز مستدير لا عروة له.
وفي حديث أبي هريرة، عنه صلّى الله عليه وسلم: قال: «أدنى أهْلُ الجنةِ مَن له سَبْعُ درجاتٍ، هو على السادسة، وفوقه السابعة، وإنّ له ثَلاَثَمائةِ خادمٍ، ويُغدى عليه ويُراح بثلاثمائة صَحفةٍ من ذَهبٍ، في كلِّ صَحْفَةٍ لونٌ ليس في الأخرى مثله، وإنه ليلذ آخره كما يلذّ أَوله، ويقول: لَوْ أَذِنْتَ لي يا رب لأطْعَمْتُ أهلَ الجنةِ، وأسقيتهم، ولا ينقص مما عندي شيء، وإنَّ لَه من الحور العِين لاثنين وسبعين زوجة، سوى أزواجه في الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذَ مِقعدُها قَدرَ ميل» «٤». وفي حديث عكرمة: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من يُفسح له في بصره مسيرة مائة عام، في قصور من ذهب، وخيام من لؤلؤٍ، وليس منها موضع شبر إلا معمور، يُغدى عليه ويُراح بسبعين ألف صحفة
(٢) أخرجه الطبري (٢٥/ ٩٥) عن سليمان التيمي.
(٣) الآية ١٥ من سورة الرّوم.
(٤) أخرجه أحمد (٢/ ٥٣٧) وقال ابن القيم فى حادى الأرواح (٢٢٣) :«سكين بن عبد العزيز، ضعّفه النّسائى. وشهر بن حوشب، ضعفه مشهور. والحديث منكر، يخالف الأحاديث الصحيحة».
وَفِيها أي: في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من فنون الملاذ. ومَن قرأ بحذف الهاء فلطول الموصول بالفعل والفاعل. وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أي: تستلذه، وتقر بمشاهدته، وهذا حصر لأنواع النعيم لأنها إما مشتهيات في القلوب، أو: مستلذات في العيون، ففي الجنة كل ما يشتهي العبد من الملابس والمناكح والمراكب.
رُوي أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أُحبُّ الخيلَ، فهل في الجنة خيلٌ؟ فقال: «إنْ يُدْخلك اللهُ الجنةَ فلا تشاء أن تركبَ فرساً من ياقُوتَةٍ حمراء، يَطيرُ بكَ في الجنة حيث شئت، إلا فعلت، قال أعرابي: يا رسول الله، إني أحبُّ الإبلَ، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يا أعرابي، إن يُدْخلك الله الجنة ففيها ما اشتهت نفسك ولذَت عيناك» «٢». هـ. وقال أبو طيبة السلمي: إن الشرذمة من أهل الجنة لتظلهم سحابة، فتقول: ما أُمْطِرْكُم؟ فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أَمطرَتْه، حتى إن الرجل منهم يقول: أمطر علينا كواعب أتراباً. وقال أبو أُمامة: إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع نضيجاً في كفه كما أراد، فيأ كل منه حتى تشهى نفسه، ثم يطير كما كان أول مرة، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده، فيشرب منه ما يريد، ثم يُرفع الإبريق إلى مكانه. هـ. من الثعلبي.
قال القشيري: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس للعُبَّاد لأنهم [قاسوا] «٣» في الدنيا- بحكم المجاهدات- الجوعَ والعطشَ، وتحمّلوا وجوهَ المشاقِّ، فيجزون في الجنة وجوهاً من الثواب، وأما أهل المعرفة والمحبُّون فلهم ما تلذّ أعينهم من النظر إلى الله، لطول ما قاسوه من فَرْطِ الاشتياق بقلوبهم، وما عالجوه من احتراقهم فيه لشدة غليلهم. هـ.
والحاصل: أن ما تشتهي الأنفس يرجع لنعيم الأشباح، وتلذ الأعين لنعيم الأرواح من النظر، والقُرب، والمناجاة والمكالمة، والرضوان الأكبر، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر.
وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ إتمام للنعمة، وكمال للسرور فإن كل نعيم له زواله مكدر بخوف زواله لا محالة.
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر، والَّتِي أُورِثْتُمُوها: صفة الجنة، أو: «الجنة» صفة المبتدأ، الذي هو الإشارة، و «التي أورثتموها» : خبره. أو: «التي أورثتموها» صفة المبتدأ، وبِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: خبر، أي: حاصلة، أو كائنة
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ٣٥٢) والترمذي فى (صفة الجنة، باب ما جاء فى صفة خيل الجنة ٤/ ٨٨٥/ ح ٢٥٤٣) والبغوي فى التفسير (٧/ ٢٢٢) عن عبد الرّحمن بن سابط مرسلا. وقال الهيثمي (١٠/ ٤١٣) : رواه الطبراني ورجاله ثقات. [.....]
(٣) فى الأصول: [قاموا] وما أثبته هو الذي فى القشيري.
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع والأصناف، لا بحسب الأفراد فقط، مِنْها تَأْكُلُونَ أي: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في أشجارها على الدوام، لا ترى فيها شجراً خلت عن ثمرها لحظة، فهي مزيّنة بالثمار أبداً، موقورة بها، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت في مكانها مثلاها» «٢».
الإشارة: كل خُلة وصحبة تنقطع يوم القيامة، إلاَّ خُلة المتحابين في الله، وهم الذين ورد في الحديث: أنهم يكونون في ظل العرش، والناس في حر الشمس، يغشى نورُهم الناسَ في المحشر، يغبطهم النبيون والشهداء لمنزلتهم عند الله. قيل: يا رسول الله، مَن هؤلاءِ؟ صفهم لنا لنعرفهم، قال: «رجالٌ من قبائلَ شتى، يجتمعون على ذكر الله» «٣».
وقد ورد فيهم أحاديث، منها: حديث الموطأ، عن معاذ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى:
وَجَبَتْ محَبتِّي للمُتَحَابِّين فِيَّ، والمُتَجالِسينَ فيّ، والمُتبَاذِلينَ فِيّ، والمُتَزَاوِرينَ فِيّ» «٤»، وفي رواية أبي مُسلم الخولاني: قال صلّى الله عليه وسلم: «المتحابُّون في الله عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ، في ظِلِّ العرشِ، يوم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّه» «٥»، وفي حديث آخر: «ما تحابّ اثنان في الله إلا وُضِعَ لهما كُرسِيّاً، فيجلِسَانِ عليه حتى يفرع من الحساب» «٦» وقال: صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُتَحَابِّين في الله لَتَرى غُرفَهُم في الجنة كالكوكب الطَّالِعِ الشَّرقِي أو الغربي، فيقال: مَن هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المُتَحَابُّونَ في الله عز وجل».
(٢) أخرجه الطبري (٢٥/ ٩٧) والبزار (كشف الأستار ح ٣٥٣٠) وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (١٠/ ٤١٤) : رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني وأحد إسنادى البزار ثقات.
(٣) قال الهيثمي فى المجمع (١٠/ ٧٧) : رواه الطبراني، وإسناده حسن.
(٤) رواه مالك فى الموطأ (٢/ ٩٥٣) وأحمد (٥/ ٢٣٣) والحاكم (٤/ ١٦٩) وصحّحه ووافقه الذهبي.
(٥) رواه ابن حبان (٥٧٧) وعبد الله بن الإمام أحمد فى زوائد المسند (٥/ ٣٢٩).
(٦) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٧٨٦٨) للطبرانى، عن أبى عبيدة ومعاذ، وضعّفه.
وذكر في الإحياء شروط المتحابين في الله، فقال رضي الله عنه: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين، كعقد النكاح بين الزوجين، ثم قال: فَلأخيك عليك حق في المال، وفي النفس، وفي اللسان، وفي القلب. وبالعفو، وبالدعاء، وذلك تجمعه ثمانية حقوق:
الحق الأول: في المال بالمواساة، وذلك على ثلاثة مراتب أدناها: أن تُنزله منزلة عبدك وخادمك، فتقوم بحاجاته بفضله مالك، فإذا سنحت له حاجة، وعندك فضلة أعطيته ابتداءً، فإذا أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير. الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك، فتسمح له في مشاركته. الثالثة- وهي العليا-: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهي رتبة الصدّيقين، ومنتهى درجات المتحابين.
الحق الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات، والقيام بها قبل السؤال، وهذا أيضاً لها درجات كالمواساة، فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال، ولكن مع البشاشة والاستبشار، وإظهار الفرح. وأوسطها: أن تجعل حاجته كحاجتك، فتكون متفقداً لحاجته، غير غافل عن أحواله، كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال.
وأعلاها: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وتؤثره على نفسك، وأقاربك، وأولادك. كان الحسن يقول: إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا وأولادنا لأن أهلينا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا الآخرة.
(٢) رواه البزار (كشف الأستار، ح ٣٥٩٢) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
الحق الرابع: على اللسان بالنطق، فيتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله، كالسؤال عن عارض عرض له، وأظهر شغل القلب بسببه، فينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها. والأحوال التي يُسِرُّ بها، ينبغي أن يظهر له بلسانه مشاركته في السرور بها. فمعنى الأخوة: المساهمة في السراء والضراء، ويدعوه بأحب أسمائه في حضوره ومغيبه، ويُثني عليه بما يعرف من محاسن أحواله، عند مَن يريد هو الثناء عنده، وكذا على أولاده وأهله، حتى على عقله، وخُلُقه، وهيئته، وخطه، وشعره، وتصنيفه، وجميع ما يفرح به، من غير كذب ولا إفراط، ويذب عنه في غيبته مهما قُصد بسوء، ويُعلمه مما علّمه الله وينصحه.
الحق الخامس: العفو عن الزلاّت والهفوات، فإن كانت زلته في الدين بارتكاب معصية، فليتلطّف في نصحه، فإن بقي مُصرّاً، فقد اختلف الصحابة في ذلك، فذهب أبو ذر إلى مقاطعته، وقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه فَأَبْغِضْهُ من حيث أحببته. وذهب أبو الدرداء، وجماعة، إلى خلاف ذلك، وقال أبو الدرداء: إذا تغيّر أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يُعوجُّ مرة ويستقيم أخرى. وهذا ألطف وأفقه، وذلك لما في هذه الطريق من الرفق، والاستمالة، والتعطُّف، المفضي إلى الرجوع والتوبة. وأيضاً: للأخوة عقد، ينزل منزلة القرابة، فإذا انعقدت وجب الوفاء بها، ومن الوفاء: ألا يهمله أيام حاجته وفقره، وفقر الدين أشد من فقر المال. ثم قال: والفاجر إذا صَحِبَ تقيّاً وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب، ويتخلّى من الإصرار، بل الكسلان يصحب الحريص في العمل، فيحرص حياءً منه، وإن كانت زلته في حقك فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب. هـ. قلت: ولعل حق القلب يندرج هنا مع المحبة وشهود الصفاء منه.
الحق السادس: الدعاء له في حياته ومماته بكل ما يُحب لنفسه وأهله. قلت: ومن ذلك زيارة قبره، وإيصال النفع له في ذلك الوقت.
الحق السابع: الوفاء والإخلاص. ومعنى الوفاء: الثبات على الحب، وإدامته إلى الممات، معه ومع أولاده وأصدقائه.
وفي وصية القطب ابن مشيش، لأبي الحسن- رضي الله عنهما-: لا تصحب مَن يُؤثر نفسه عليك، فإنه لئيم ولا مَن يُؤثرك على نفسه، فإنه قلما يدوم واصحب مَن إذا ذكر ذكر الله، فالله يغني به إذا شهد، وينوب عنه إذا فُقِدْ، ذكره نور القلوب، ومشاهدته مفاتح الغيوب. ومعنى كلام الشيخ: لا تصحب مَن يبخل عنك بما عنده من العلوم، ولا مَن يتكلّف لك، فإنه لا يدوم، وهذه صحبة الشيخوخة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الأَخَوَيْنِ كَمَثَلِ اليَدَيْنِ، يَغْسِلُ إِحداهُما الأُخرى، وكَمَثَلِ البُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُه بعضاً» «٢». وفي معناه قيل:
إِنَّ أخَاكَ الحقَّ مَن كَانَ مَعَك | وَمَن يَضُرُّ نَفْسَه لِيَنْفَعَك |
وَمَنْ إِذا رَأَى زَمَاناً صَدَّعَكَ | شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك |
ثم ذكر تعالى أضداد هؤلاء، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٨٠]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
قلت: (خالدون) : خبر «إن»، و (في عذاب) : معمول الخبر، أو: خبر، و «خالدون» خبر بعد خبر.
(٢) قال العراقي فى المغني (٢/ ١٧٢) :«رواه السلمى فى آداب الصحبة، وأبو المنصور الديلمي في مسند الفردوس، من حديث أنس.
وفيه أحمد بن محمد بن غالب الباهلي، كذاب. وهو من قول سلمان الفارسي فى الأول من الحزبيات».
سكتت. قال القشيري: هم الكفار والمشركون، أهل الخلود، لا يُخفف عنهم، وأما أهل التوحيد فقد يكون قومٌ منهم في النار، ولكن لا يخلدون فيها فيقتضي دليل الخطاب أنه يُفتَّرُ عنهم العذاب، أي: يخفف، وورد في الخبر الصحيح:
«أن الحق يُميتهم إماتة إلى أن يخرجوا منها» والميت لا يحس ولا يألم، وذكر في الآية أنهم مُبْلِسُونَ فيدلّ أن المؤمنين لا إبلاس لهم، وإن كانوا في بلائهم فهُمْ عَلَى وصف رجائهم، ويُعدون أيامهم. هـ.
وحمل ابن عطية الموت على المقاربة، لا الموت حقيقة لأن الآخرة لا موت فيها قال: والحديث أراه على التشبيه، لأنه كالسُبات والركود والهمود، فجعله موتاً. انظره في ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى، «١». وقال عياض في الإكمال:
عن بعض المتكلمين: يحتمل الحقيقة، ويحتمل الغيبة عن الإحساس، كالنوم، وقد سمي النّوم وفاتا لإعدامه الحس. هـ.
وَهُمْ فِيهِ أي: في العذاب مُبْلِسُونَ آيسون من الفرج، متحيّرون، وَما ظَلَمْناهُمْ بذلك، حيث أرسلنا الرسل وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ بتعريض أنفسهم للعذاب الخالد، بمخالفة الرسل، وإيثارهم التقليد على النظر.
وَنادَوْا وهم في النار لمَّا أيسوا من الفتور «٢» يا مالِكُ، وهو خازن النار. قيل لابن عباس: إن ابن مسعود يقرأ «يا مَالِ» - ورُويت عن النبي ﷺ «٣» - فقال «٤» :«ما أشغلَ أهلَ النَّار عن الترخيم «٥»، قيل: هو رمز إلى ضعفهم وعجزهم عن تمام اللفظ. لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: ليُمِتْنا حتى نستريح، مِن: قضى عليه إذا أماته، والمعنى: سل ربك أن يقضي علينا بالموت، وهذا لا ينافى ما ذكر من إبلاسهم لأنه جُؤار، وتمني الموت لفرط الشدة. قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لابثون في العذاب، لا تتخلصون منه بموت ولا فتور، قال الأعمش: أُنبئت أن بين دعائهم وبين إجابتهم ألف عام «٦»، وفي الحديث: «لو قِيلَ لأهل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا ولو قيل لأهل الجنة ذلك لحزنوا، ولكن جعل الله لهم الأبد».
(٢) أي: فتور العذاب عنهم.
(٣) نقل القرطبي (٧/ ٦١٢٠) عن أبى بكر الأنبارى قوله فى رفع هذه القراءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يعمل على هذا الحديث، لأنه مقطوع، لا يقبل مثله فى الرّواية عن الرّسول صلّى الله عليه وسلم. وكتاب الله أحق أن يحتاط له، وينفى عنه الباطل».
قلت: الذي فى الصحيح أن النبي ﷺ كان يقرأ: «ونادوا يا ملك». فقد أخرج البخاري فى (التفسير- سورة الزخرف، باب وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ الآية ح ٤٨١٩) عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال: «سمعت النبي ﷺ يقرأ على المنبر: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ..» الحديث. [.....]
(٤) أي: سيدنا ابن عباس رضي الله عنه.
(٥) الترخيم: التليين وقيل: هو للحذف: ومنه: ترخيم الاسم فى النّداء، وهو أن يحذف من آخره حرف أو أكثر، فتقول فى: «مالك» يا مال، وفى «حارث» يا حا.. وهكذا. وسمى ترخيما لتليين المنادى صوته بحذف الحرف. انظر اللسان (رخم ٣/ ١٦١٧).
وانظر قول ابن عباس رضي الله عنه فى فتح الباري (٨/ ٤٣١) وتفسير النّسفى (٣/ ٢٨٣).
(٦) قول الأعمش، ذكره الترمذي فى (صفة جهنم، باب ما جاء فى صفة طعام أهل النّار).
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً: مبتدأ، ناعٍ على المشركين ما فعلوا من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و «أم» منقطعة، وما فيها من معنى «بل» للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء، أي: أم أحكم مشركو مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا حقيقة، كما أبرموا كيدهم صورة، كقوله تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «١» الآية. وكانوا يتناجون في أنديتهم، ويتشاورون في أمره صلّى الله عليه وسلم.
أَمْ يَحْسَبُونَ بل يحسبون أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وهو ما حدَّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال، وَنَجْواهُمْ أي: ما تكلّموا به فيما بينهم بطريق التناجي، بَلى نحن نسمعها ونطَّلع عليها وَرُسُلُنا الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم، ويلازمونهم أينما كانوا لَدَيْهِمْ أي: عندهم يَكْتُبُونَ كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال، ومن جملتها: ما ذكر من سرهم ونجواهم، والجملة: إما عطف على ما يترجم عنه «بلى»، أي: نكتبها ورسلنا كذلك، أو حال، أي: نسمعها والحال أن رسلنا يكتبونه.
الإشارة: قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ... الخ.. أما أهل الشرك فقد اتفق المسلمون على خلودهم، إلا ما انفرد به ابن العربي الحاتمي والجيلي، فقد نقلاً خبراً مأثوراً: أن النار تخرب، وينبت موضعها الجرجير، وينتقل زبانيتها إلى خزنة الجنان، فهذا من جهة الكرم وشمول الرحمة لا يمنع، ومن جهة ظواهر النصوص معارض، وباطن المشيئة مما اختص الله تعالى به. ونقل الجيلي أيضاً في كتابه (الإنسان الكامل) : أن بعض أهل النار أفضل عند الله من بعض أهل الجنة يتجلّى لهم الحق تعالى في دار الشقاء. ونقل أيضاً: أن بعض أهل النار تعرض عليهم الجنة فيأنفون منها، وان بعض أهل النار يتلذّذون بها كصاحب الجرب. وذكر بعضهم أن أهل النار يتطبعون بها، كالسمندل، فهذه مقالات غريبة، الله أعلم بصحتها. وعلى تقدير وقوعها في غيب مشيئته تعالى، فلعلها في قوم مخصوصين من المسلمين ختم لهم بالشقاء بعد مقاسات شدائد الطاعة، أو: في قوم من أهل الفترة لم يكن فيهم
قال القشيري: ولقد قال الشيوخ، إن حالَ المؤمنين في النار- من وجه- أرْوَحُ لقلوبهم من حالهم اليوم في الدنيا لأن اليوم خوف الهلاك وغداً يقين النجاة، وأنشدوا:
عَيبُ السلامة أَنَّ صاحبَها | مُتَوَقِّعٌ لِقَوَاصِمِ الظَّهْرِ |
وفَضِيلَةُ البَلْوَى تَرَقُّبُ أهلِها | عُقْبَى الرَّجَاءِ ودَوْرَةُ الدَّهْرِ «١» |
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨١ الى ٨٦]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)
(٢) فى القشيري [خافوهم].
متى ما يشا ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خَليلَهُ | ويَعْبَدْ عليه لا محالةَ ظالما «١» |
قال ما يجب على عابد الحقّ | قال يحلف بالإله الخلق «٢». |
رُوي: أن النضر قال: إن الملائكة بنات الله، فنزلت الآية، فقال النضر: ألا ترون أنه صدّقني فقال الوليد: ما صدّقك، ولكن قال: ما كان للرحمن ولداً، فأنا أوّل الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له «٣». وسيأتي في الإشارة قول آخر.
قال القشيري: وفي الآية وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة فيما أخطأوا فيه في الاعتقاد، على وجه الردّ عليهم. هـ. قلت: ولا تجوز مطالعة أقوالهم إلا لمَن رسختْ قدمه في المعرفة، والإعراض عنها أسلم.
ثم نزَّه ذاته عن اتخاذ الولد، فقال: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي: تنزّه رب هذه العوالم العظام عن اتخاذ الولد لأن اتخاذ الولد من صفة الأجسام، ولو كان جسماً ما قدر على خلو هذه
(٢) هكذا فى الأصول، وأظنه [الحق]، ولم أقف على البيت فى غير هذا المكان.
(٣) ذكره النّسفى (٣/ ٢٨٣).
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا في [دنياهم] «١» أي: حيث لم يُذعنوا لك، ولم يرجعوا عن غيهم، أعرض عنهم واتركهم في لهوهم ولعبهم، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، وهو القيامة، فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا، وما يفعل بهم، أو: يوم بدر، قاله عكرمة وغيره. وهذا دليل على أن ما يقولونه إنما هو خوض ولعب لا حقيقة له.
ثم ذكر انفراده بالألوهية في العالم العلوي والسفلي، فقال: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي:
وهو الذي هو معبود في السماء وفي الأرض، فضمَّن «إله» معنى مألوه، أي: وهو الذي يستحق ان يُعبد فيهما. وقرأ عُمر، وأُبَي، وابن مسعود: «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» كقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ «٢»، وقد مرّ تحقيقه عبارةً وإشارةً. والراجع إلى الموصول: محذوف لطول الصلة، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك سوءاً، والتقدير: وهو الذي هو في السماء إله، و «إله» : خبر عن مضمر، ولا يصح أن يكون «إله» مبتدأ، و «في السماء» خبره لخلو الصلة حينئذ عن العائد وَهُوَ الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله الْعَلِيمُ بما كان وما يكون، أو: الحكيم في إمهال العصاة، العليم بما يؤول أمرهم إليه، وهو كالدليل على ما قبله من التنزيه، وانفراده بالربوبية.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: تقدّس وتعاظم الذي مَلَكَ ما استقر في السموات والأرض وَما بَيْنَهُما إما على الدوام، كالهواء، أو في بعض الأوقات، كالطير، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: العلم بالساعة التي فيها تقوم، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، والالتفات للتهديد، فيمن قرأ بالخطاب. وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: لا تملك آلهتهم التي يدعونها مِنْ دُونِهِ أي: من دون الله الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الذي هو التوحيد، وَهُمْ يَعْلَمُونَ بما يشهدون به عن بصيرة وإيقان وإخلاص، وهم خواص المسلمين، والملائكة. وجمع الضميرين باعتبار معنى (مَن) كما أن الإفراد أولاً باعتبار لفظها. والاستثناء: إما متصل، والموصل عام لكل ما يُعبد من دون الله، أو: منقطع، على أنه خاص بالأصنام.
(٢) من الآية ٣ من سورة الأنعام.
قوله تعالى فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا... الخ، كل مَن خاض في بحار التوحيد بغير برهان العيان، تصدق عليه الآية، وكذا كل مَن اشتغل بغير الله، وبغير ما يُقرب إليه فهو ممن يخوض ويلعب، وفي الحديث: «الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذِكْرَ الله، وما والاَه، أو عالماً أو متعلماً» «١».
وقوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ... الخ. قال القشيري: وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين تكون شفاعتهم غداً مقبولة. هـ. أي: لأنهم في الدنيا شَهِدوا بالحق، وهو التوحيد عن علم وبصيرة، لكن في تعميمه نظر لأن الاستثناء، الأصل فيه الاتصال، ولأن مَن شهد بالحق مستثنى من «الذين يدعون من دونه» - وهم الملائكة، وعيسى، وعزير، فهم الذين شَهِدُوا بالحق ممن دعوا من دون الله، وشفاعة مَن عداهم مأخوذة من أدلة أخرى.
ثم ذكر إقرار المشركين بالربوبية، فقال:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
قالت: (قِيلهِ) : مصدر مضاف لفاعله، يقال: قال قولاً وقالاً وقيلاً ومقالاً. واختلف في نصبه «٢». فقيل: عطف على «سرهم» «٣»، أي: يعلم سرهم ونجواهم وقيلَه، وقيل: عطف على محل «الساعة»، أي: يعلم الساعة ويعلم قيله،
(٢) قرأ الجمهور «قيله» بنصب اللام، وضم الهاء. وقرأ عاصم وحمزة بخفض اللام وكسر الهاء.
(٣) من الآية ٨٠، وانظر الهداية للمهدوى (٢/ ٥١٠). [.....]
إِنَّ هؤُلاءِ... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: المشركين، أو: العابدين والمعبودين مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لا الأصنام والملائكة فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يُصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، مع كون الكل مخلوقاً له تعالى.
ولما شق عليه صلّى الله عليه وسلم صرفهم عن الإيمان جعل يستغيث ربه في شأنهم، حرصاً على إيمانهم، ويقول: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ أي: قد عالجتهم فلم ينفع فيهم شيء، فلم يبقَ إلا الرجوع إليك، إما أن تهديهم، أو تُهلكهم، فأخبر تعالى أنه يسمع سرهم ونجواهم، وقوله عليه السلام في شأنهم، قال له تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: أعرض عنهم وأمهلهم، وَقُلْ سَلامٌ أي: أمري تسلّم منكم ومتاركة، حتى نأمرك بجهادهم، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: أعرض عنهم وأمهلهم، وَقُلْ سَلامٌ أي: أمري تسلّم منكم ومتاركة، حتى نأمرك بجهادهم، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حالهم قطعاً، وإن تأخر ذلك. وهو وعيد من الله تعالى، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: فسوف يعلمون حقيقة ما أنكروا من رسالتك. ومَن قرأ بالخطاب «٢»، فهو داخل في حيز «قل»، من جملة ما يقال لهم.
الإشارة: العجب كل العجب أن يعلم العبد أنه لا خالق له سوى ربه، ولا محسن له غيره، وهو يميل بالمحبة أو الركون إلى غيره، وفي الحِكَم: «والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه، ويطلب ما لا بقاء له معه، فإنها لا تعمى الأبصارُ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.» ويقال لمَن دعا إلى الله فلم ينجح دعاؤه: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ... الآية.
وبالله التوفيق.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
(٢) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر، بالخطاب على الالتفات، والباقون بالغيب. انظر: الاتحاف/ ٤٦١.