تفسير سورة الزخرف

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾ هذا هو القسم به، والمفسم عليه هو قوله: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ وهو من أنواع البلاغة، حيث جعل المقسم والمقسم عليه من واد واحد، كأن الله تعالى يقول: ليس عندي أعظم من كلامي حتى أقسم به. قوله: (أوجدنا الكتاب) أي صيرناه مقروءاً، أي مجموعاً سوراً، موصوفة بكونها عربية، رحمة منا وتنزلاً لعبادنا، لعجزهم عن شهود الوصف القائم بنا، فحدوثه من حيث قيامه بالمخلوقات، وقدمه من حيث وصف الله به، وقد تنزه وصفه عن الحروف والأصوات والجمع والتفرق فتدبر، ودفع بذلك ما قيل: إن ظاهر الآية يدل على حدوث القرآن من وجوه ثلاثة: الأول أنها تدل على أن القرآن مجعول. وأجاب الرازي أيضاً على ذلك: بأن هذا الذي ذكرتموه حق، لأنكم استدللتم بهذه الوجوه، على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة محدثة، وذلك معلوم بالضرورة، وليس لكم منازع.
قوله: ﴿ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ كرر الفعل للتوكيد، وإلا فيكفي أن يقال العزيز العليم، وهذا الجواب مطابق للسؤال من حيث عجزه، ولو روعي صدره لجيء بجملة ابتدائية بأن يقال: هو العزيز العليم مثلاً. قوله: (آخر جوابهم) أي أن ما ذكر آخر جواب الكفار، وأما قوله: ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ ﴾ إلى قوله: (المنقلبون) فهو من كلامه تعالى زيادة في توبيخهم على عدم التوحيد. قوله: (كالمهد للصبي) أي الفرش له، أي ولو شاء لجعلها متحركة، لا يثبت عليها شيء، ولا يمكن الانتفاع بها، فمن رحمته أن جعل الأرض قارة مسطحة ساكنة. قوله: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ أي بحيث تسلكون فيها إلى مقاصدكم، ولو شاء لجعلها سداً ليس فيها طرق، بحيث لا يمكنكم السير فيها كما في بعض الجبال. قوله: (أي بقادر حاجتكم) أي فليس بقليل فلا تنتفعون به، ولا كثير فيضركم. قوله: ﴿ فَأَنشَرْنَا ﴾ في الكلام التفات من الغيبة للتكلم. قوله: ﴿ تُخْرَجُونَ ﴾ أي فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها بالماء، قادر على إحياء الخلق بعد موتهم. قوله: (الأصناف) أي الأشكال والأنواع، كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى. قوله: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ ﴾ أي خلق لكم مواد السفن كالخشب وغيرهن وأهلمكم صنعتها، وسيرها لكم في البحر لتنتفعوا بها. قوله: (كالإبل) إن قلت: إنه لم يبق شيء من الأنعام يركب سوى الإبل، فالكاف استقصائية إلا أن يقال: المراد بالأنعام ما يركب من الحيوان، وهو الإبل والخيل والبغال والحمير، لأن المقام للامتنان بالركوب. قوله: ﴿ مَا تَرْكَبُونَ ﴾ مفعول لجعل، و ﴿ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ ﴾ بيان له. قوله: (حذف العائد اختصاراً) إلخ، أي والمعنى: جعل لكم من الفلك ما تركبون فيه، ومن الأنعام ما تركبونها، فهو مجرور في الأول بفي، منصوب في الثاني بالفعل.
قوله: ﴿ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ﴾ اللام للتعليل أو للعاقبة، والصيرورة متعلقة بجعل. قوله: (ذكر الضمير) أي المضاف إليه، وقوله: (وجمع الظهر) أي الذي هو المضاف، وقوله: (نظراً للفظ ما) إلخ، لف ونشر مرتب، والمناسب أن يقول: أفرد الضمير وجمع الظهر إلخ، ولو روعي معناها، فيهما لقيل على ظهورها، ولو روعي لفظها لقيل على ظهره. قوله: ﴿ ثُمَّ تَذْكُرُواْ ﴾ أي بقلوبكم. قوله: ﴿ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ أي على ما تركبون، ففيه مراعاة للفظ ﴿ مَا ﴾ وكذا في قوله: ﴿ سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا ﴾.
قوله: ﴿ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي ﴾ إلخ، أي تقولوا بألسنتكم لتجمعوا بين القلب واللسان. قوله: ﴿ هَـٰذَا ﴾ أي المركوب من سفينة ودابة، وظاهر الآية أنه يقول ذلك عند ركوب السفينة أو الدابة وهو الأولى، وقال بعضهم: إن هذا مخصوص بالدابة، وأما السفينة فيقول فيها﴿ بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[هود: ٤١]﴿ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾[الزمر: ٦٧] الآية، وفي الحديث:" كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال ".
﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا ﴾ إلى قوله: ﴿ وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ فإذا كان الإنسان يريد السفر زاد: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، والمال، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل والمال. ومعنى الحور بعد الكور: الفرقة بعد الاجتماع، وورد: أن الإنسان إذا قرأ هذه الآية عند ركوب الدابة تقول الدابة: بارك الله فيك من مؤمن، خففت عن ظهري، وأطعت ربك، أنجح الله حاجتك، فالذي ينبغي للإنسان، أن لا يدع ذكر الله خصوصاً في هذه الماطن، فإنه معرض فيها للتلف، فكم من راكب دابة، عثرت به أو طاح عن ظهرها فهلك، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق، وحينئذ فمنقلبه إلى الله، غير منفلت من قضائه، فيكون مستعداً لقضاء الله بإصلاح نفسه. قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ الجملة حالية وهو من الإقران أو المقارنة. قوله: (لمنصرفون) أي من الدنيا إلى دار البقاء، فتذكر بالحمل على السفينة والدابة الحمل على الجنازة، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي، ففيه إشارى للردّ على منكري البعث. قوله: ﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ ﴾ إلخ هذا مرتبط بقوله:﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ﴾[الزخرف: ٩] الخ، والمعنى: أنهم ينسبون الخلق لله تعالى، ومع ذلك يعتقدون أنه له شريكاً، فالمقصود التأمل في عقول هؤلاء الكفرة، حيث لم يضبطوا أحوالهم. قوله: (لأن الولد جزء الوالد) أي لأنه خارج عن مخه وعظامه، وهذا مناف لقولهم﴿ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴾[الزخرف: ٩] لأن من شأن الوالد أن يكون مركباً، والإله ليس بمركب، بل هو واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وشأن الخالق أن يكون مخالفاً لما خلقه، والولد لا بد وأن يكون مماثلاً لوالده لأنه جزء منه، فتبين أو الولد على الله محال، وتبين أن هؤلاء الكفرة حالهم متناقض غير مضبوط. قوله: (بين) أشار بهذا إلى أن ﴿ مُّبِينٌ ﴾ من أبان اللازم، ويصح أن يقدر من أبان المتعدي، بمعنى مظهر الكفر. قوله: (بمعنى همزة الإنكار) أي والتوبيخ والتقريع، وتقدر ببل أو بها والهمزة، ففيها ثلاثة أوجه كما تقدم غير مرة. قوله: (لنفسه) متعلق باتخذ. قوله: (أخلصكم) أي خصكم. قوله: (اللازم) بالنصب نعت لقوله: ﴿ وَأَصْفَاكُم ﴾ المعطوف على ﴿ ٱتَّخَذَ ﴾ الواقع مقولاً لقول محذوف، فالمعنى أنهم قالوا. (الملائكة بنات الله) مع كراهة نسبتها لأنفسهم، ومحبة نسبة البنين لهم، فلزم منه أنهم قالوا: والبنون لنا. قوله: (فهو من جملة المنكر) أي لعطفه على ﴿ ٱتَّخَذَ ﴾ الداخل عليه أم التي هي بمعنى همزة الإنكار.
قوله: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم ﴾ الخ كلام مستأنف تقرير لما قبله، وزيادة توبيخ لهم، وترقّ في الرد عليهم. قوله: ﴿ بِمَا ضَرَبَ ﴾ ما موصولة واقعة على الأنثى بدليل الآية الأخرى﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ﴾[النحل: ٥٨] و ﴿ ضَرَبَ ﴾ بمعنى جعل، والمفعول الأول محذوف هو العائد أي ضربه، و ﴿ مَثَلاً ﴾ هو المفعول الثاني. قوله: (شبهاً) أشار بذلك إلى أن المثل بمعنى الشبه أي المشابه، وليس بمعنى الصفة الغريبة. قوله: ﴿ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ ﴾ قرأ العام بفتح الياء وسكون النون من نشأ، وبضم الياء وفتح النون وتشديد الشين مبنياً للمفعول، أي يربى قراءتان سبعيتان، وقرئ شذوذاً ينشأ بضم الياء مخففاً، ويناشأ كيقاتل مبنياً للمفعول. قوله: (همزة الإنكار) إلخ، أي إنهما كلمتان لا كلمة واحدة هي أو التي للعطف، فتحل أن ﴿ مِنْ ﴾ معمولة لمحذوف معطوف بواو العطف على محذوف، والتقدير: أيجترئون، ويسيئون الأدب ويجعلون من ينشأ الخ؟ وقوله: (الزينة) أي إن الأنثى تتزين في الزينة لنقصها، إذ لو كملت في نفسها لما احتاجت للزينة. قوله: ﴿ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ الجملة حالية، والمعنى غير قادر على تقرير دعواه وإقامة الحجة، لنقصان عقله وضعف رأيه، فقلما تكلمت امرأة تريد أن تتكلم بحجة لها، إلا تكلمت بالحجة عليها. قوله: (مظهر الحجة) أشار بذلك إلى أنه من بان المتعدي، وسابقاً أفاد أنه من أبان اللازم، وهما استعمالان. قوله: ﴿ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ﴾ إلخ، المراد بالجعل القول والحكم، وهو بيان أنواع أخر من كفرياتهم لأن نسبة الملائكة الذين هم أكمل العباد وأكرمهم على الله للأنوثة التي هي وصف خسة كفر، ورد أنهم لما قالوا ذلك، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" ما يدريكم أنها إناث؟ "قالوا سمعنا من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فنزل ﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾.
قوله: ﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ إلخ، مفعول ﴿ شَآءَ ﴾ محذوف، أي عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم، وهذا استدلال منهم بنفي مشيئة عدم العبادة، على امتناع النهي عنها، لزعمهم أن المشيئة متحدة مع الرضا وهو فاسد، لأن الله تعالى قد يريد ما لا يرضاه، فهو بيان لنوع آخر من كفرياتهم، فتحصل أنهم كفروا بمقالات ثلاث: هذه، وقولهم: الملائكة إناث، وقولهم: الملائكة بنات الله. قوله: ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ قال هنا بلفظ ﴿ يَخْرُصُونَ ﴾ وفي الجاثية بلفظ (يذنون) لأن ما هنا متصل بقوله: ﴿ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ﴾ الآية، أي قالوا: الملائكة بنات الله وإن الله قد شاء عبادتنا إياهم وهذا كذب فناسبه ﴿ يَخْرُصُونَ ﴾ وما هناك متصل بخلطهم الصدق بالكذب، لأن قولهم﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾[الجاثية: ٢٤] صدق، وإنكارهم البعث وقولهم﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ ﴾[الجاثية: ٢٤] كذبه فناسبه يظنون.
قوله: ﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ ﴾ تنويع في الإنكار عليهم مرتبط بقوله: ﴿ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾.
قوله: (أي لم يقع ذلك) أشار به إلى أن الهمزة للإنكار. قوله: ﴿ بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ﴾ إلخ، أي لم يأتوا بحجة عقلية ولا نقلية، بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم. قوله: ﴿ أُمَّةٍ ﴾ قرأ العام بضم الهمزة بمعنى الطريقة والملة، وقرئ شذوذاً بكسرها بمعنى الطريقة أيضاً، وبالفتح المرة من الأم وهو القصد. قوله: (ماشون) أشار بتقدير هذا، إلى أن الجار والمجرور خبر إن، وعليه فيكون ﴿ مُّهْتَدُونَ ﴾ خبراً ثانياً. قوله: ﴿ مُّهْتَدُونَ ﴾ قاله هنا بلفظ ﴿ مُّهْتَدُونَ ﴾ وفيما يأتي بلفظ ﴿ مُّقْتَدُونَ ﴾ تفنناً. قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد، وقوله: ﴿ مَآ أَرْسَلْنَا ﴾ استئناف مبين لذلك، دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم، ليس لأسلافهم أيضاً مستند غيره، وفيه تسلية لرسول الله. قوله: ﴿ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ جمع مترف اسم مفعول، وتفسير المفسر له باسم الفاعل تفسير باللازم. قوله: (مثل قول قومك) مفعول مطلق نعت مصدر محذوف، أي قولاً مثل قول قومك وقوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ ﴾ مقول القول. قوله: (قُلْ) (لهم) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلن أي قل لقومك يا محمد إلخ. قوله: ﴿ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ ﴾ إلخ، أي بدين أهدى وأصوب مما وجدتم إلخ، أي من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، والتعبير بالتفصيل لأجل التنزل معهم وإرخاء العذاب. قوله: ﴿ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي فلا تكترث بتكذيب قومك لك، فإن عاقبتهم كغيرهم من المكذبين. قوله: (واذكره) قدره إشارة إى أن الظرف معمول لمحذوف، وسيأتي أن قوله:﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾[الزخرف: ٢٨] متعلق بذلك المحذوف. قوله: ﴿ لأَبِيهِ ﴾ تقدم الخلاف في كونه أباه حقيقة أو عمه، وتوجيه كل من القولين مفصلاً. قوله: ﴿ بَرَآءٌ ﴾ العام على فتح الباء والراء، بعدها ألف فهمزة، مصدر وقع موقع الصفة وهي بريء، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وقرئ شذوذاً بضم الباء وكسرها، بوزن طوال وكرام. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي ﴾ يحتمل أن الاستثناء منقطع، بناء على أنهم كانوا يشركون مع الله غيره، وذلك أنهم كانوا يعبدون النمروذ، ويحتمل أن إلا صفة بمعنى غير. قوله: (يرشدني لدينه) أي يدلني على أحكامه من صلاة وغيرها، ودفع بذلك ما يقال: إن الهداية حاصلة، لكونه مجبولاً على التوحيد من﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾[الأعراف: ١٧٢] فكيف يعبر بالمضارع فضلاً عن اقترابه بالسين، فأجاب بما ذكر، نظير ما أجاب به عن قوله:﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ ﴾[الشورى: ٥٢] وأجيب أيضاً: بأن السين زائدة، والمضارع للدلالة على الاستمرار، والمعنى يديمني على الهدى، وأجيب أيضاً: بأن المعنى سيثبتني على الهداية. قوله: (أي كلمة التوحيد) إلخ، تفسير للضمير البارز، والضمير المستتر يعود على إبراهيم، والمعنى: أن إبراهيم وصى بهذه الكلمة عقبه، قال تعالى:﴿ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾[البقؤة: ١٣٢] الآية. قوله: (أي أهل مكة) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾ إلخ، متعلق باذكر الذي قدره، والمعنى: اذكر يا محمد لقومك ما ذكر، ليحصل عندهم رجوع إلى دين إبراهيم.
قوله: ﴿ بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ ﴾ إضراب انتقالي للتوبيخ والتقريع على ما حصل منهم من عدم الاتباع، واسم الإشارة عائد على المشركين الكائنين في زمنه صلى الله عليه وسلم. قوله: (ولم أعاجلهم بالعقوبة) أي بل أعطيتهم نعماً عظيمة وحرماً آمناً، يجبى إيه ثمرات كل شيء، فلم يشكروا بل ازدادوا طغياناً، فأمهلتهم ولم أعجل لهم الانتقام. قوله: ﴿ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ ﴾ غاية لمحذوف، والتقدير بل متعت هؤلاء، فاشتغلوا بذلك التمتع حتى جاءهم. قوله: ﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ ﴾ إلخ هذا من جملة شبههم الفاسدة التي بنوا عليها إنكار نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم قالوا: أن الرسالة منصب شريف، لا يليق إلا برجل شريف، وهذا صدق، غير أنهم غلطوا في دعواهم أن الرجل الشريف هو الذي يكون كثير المال والجاه، ومحمد ليس كذلك، فلا تليق به رسالة الله، وليس كذلك، بل العبرة بتعظيم الله، لا بالمال والجاه، فليس كل عظيم المال والجاه معظماً عند الله تعالى. قوله: (من أية منهما) أي من أحدى القريتين. قوله: (أي الوليد بن المغيرة) أي وقد استمر كافراً حتى هلك. قوله: (وعروة بن مسعود) أي وقد هداه الله للإسلام، فأسلم وحسن إسلامه، وكان النبي عليه الصلاة والسلام، يشبه عيسى ابن مريم عليه السلام، به رضى الله تعالى عنه.
قوله: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ ﴾ الاستفهام انكاري وتعجب من حالهم وتحكمهم. قوله: ﴿ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ ترسم بالتاء المجرورة هنا، وفي قوله تعالى فيما يأتي و ﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ ﴾ اتباعاً لرسم المصحف وهذا موضعان ترسم فيهما بالتاء المجرورة. ثالثها في البقرة ﴿ أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ ﴾ رابعها في الأعراف ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ خامسها في هود ﴿ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ ﴾ سادسها في مريم ﴿ رَحْمَتِ رَبِّكَ ﴾ سابعها في الروم ﴿ فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ ﴾ وما عداها يرسم بالهاء، وللقراء في تلك المواضع السبعة في الوقف طريقان: فمنهم من يقف بالهاء، كسائر الهاءات الداخلة على الأسماء، كفاطمة وقائمة، ومنهم من يقف بالتاء تغليباً لجانب الرسم. قوله: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي فجعلنا هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا مالكاً، وهذا مملوكاً، وهذا قوياً، وهذا ضعيفاً، لاستقامة نظام العالم، لا للدلالة على سعادة وشقاوة. قوله: ﴿ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ اللام للتعليل، أي إن القصد من جعل الناس متفاوتين في العالم وفساد نظامه. قوله: (والياء للنسب) أي نسبته للسخرة وهي العمل بلا أجرة. إذا علمت ذلك، فقول المفسر (بالأجرة) تقييد بالنظر لصحة التعليل، ويصح أن يكون من السخرية التي هي بمعنى الاستهزاء، والمعنى ليستهزئ الغني بالفقير، وعليه فتكون اللام للعاقبة والصيرورة. قوله: (وقرئ بكسر السين) أي قراءة شاذة هنا، جرياً على عادته في التعبير عن الشاذ بقرئ، وعن السبعي بوفي قراءة، وأما من المؤمنين وص فكسر السين فيهما قراءة سبعية، ففرق بين ما هنا وما في السورتين المتقدمتين. قوله: ﴿ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ أي والعظيم من حازها وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، لا من حاز الكثير من المال. قوله: ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ ﴾ إلخ، الكلام على حذف مضاف، أي لولا خوف أن يكون الناس إلخ، كما أشار له المفسر فيما يأتي، والأوضح أن يقول: لولا رغبة الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لجعلنا إلخ، لأنه تعالى لا يوصف بالخوف، ففرق الله الدنيا بين المؤمنين والكافر، على حسب ما قدره لهم في الأزل. إن قلت: لن لم يوسع الدنيا على المسلمين، حيث يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام، فالجواب: لأن الناس حينئذ يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا، وهو إيمان المنافقين، فما قدره الله تعالى خير، لأن كل من دخل الإيمان، فإنما يقصد رضا الله فقط. قوله: (بدل من لمن) أي بدل اشتمال. قوله: (وبضمهما جمعاً) أي على وزن رهن جمع رهن، فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَمَعَارِجَ ﴾ جمع معرج بفتح الميم وكسرها وهو السلم. قوله: ﴿ وَ ﴾ (وجعلنا لهم) ﴿ سُرُراً ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ سُرُراً ﴾ معمول لمحذوف معطوف على قوله: ﴿ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ ﴾ عطف جمل.
قوله: ﴿ وَزُخْرُفاً ﴾ ذهباً، وقيل الزخرف الزينة. قوله: (مخففة من الثقيلة) أي مهملة لوجود اللام في خبرها. قوله: ﴿ وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أي إن الجنة تكون لكل موحد، قال كعب: وجدت في بعض كتب الله المنزلة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن، لكللت رأس عبدي الكافر بالإكليل، ولا يتصدع ولا ينبض منه عرق لوجع، أي لا يتحرك، وفي الحديث:" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "وورد:" لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء "قال البقاعي: ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة والجبابرة، من زخرفة الأبنية، وتذهيب السقوف وغيرها. من مبادئ الفتنة، بأن يكون الناس أمة واحدة في الكفر قرب الساعة، حتى لا تقوم الساعة على من يقول الله أو في زمن الدجال، لأن من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة، بحيث إنه لا عداد له في جانب الكفرة، لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة، وإن خرج مخرج الشرط، فكيف يملك الملوك سبحانه ا. هـ. قوله: ﴿ وَمَن يَعْشُ ﴾ من العشاء وهو الإعراض والتغافل، ويطلق على ضعف البصر، وفعله عشا يعشو، كدعا يدعو. قوله: (يعرض) أي يتعامل ويتغافل، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾[طه: ١٢٤].
قوله: ﴿ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ﴾ أضاف الذكر إلى هذا الاسم إشارة إلى أن الكافر بإعراضه عن القرآن، سد على نفسه باب الرحمة، ولو اتبعه لعمته الرحمة. قوله: ﴿ نُقَيِّضْ ﴾ جواب الشرط، وفعله قوله: ﴿ يَعْشُ ﴾ مجزوم بحذف الواو، والضمة دليل عليها. قوله: ﴿ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ أي في الدنيا، بأن يمنعه من الحلال، ويحمله على فعل الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية، أو في الآخرة إذا قام من قبره، لما ورد: إذا مقام من قبره، شفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخله النار، وإن المؤمن ليشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه، والأولى العموم. قوله: ﴿ وَإِنَّهُمْ ﴾ جمع الضمير مراعاة لمعنى شيطان، كما أفرد أولاً في قوله: ﴿ فَهُوَ ﴾ مراعاة للفظه. قوله: ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ الجملة حالية، أي يعتقدون أنهم على هدى، وهو بمعنى قوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ ﴾[المجادلة: ١٨].
قوله: (في الجمع) أي في المواضع الثلاثة الأول، أي ليصدونهم ويحسبون أنهم، وقوله: (رعاية معنى من) أي بعد أن روعي لفظها في ثلاثة أيضاً: الضمير المستتر في ﴿ يَعْشُ ﴾ والضميران المجروران باللام في نقيض له ﴿ فَهُوَ لَهُ ﴾ وسيأتي مراعاة لفظها في موضعين المستتر في ﴿ جَاءَ ﴾ و ﴿ قَالَ ﴾ ثم مراعاة معناها في ثلاث مواضع﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ ﴾[الزخرف: ٣٩].
قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا ﴾ بالإفراد والتثنية قراءتان سبعيتان، فعلى الأولى فاعل جاء ضمير مستتر يعود على العاشي، وعلى الثانية ضمير التثنية. قوله: (بقرينه) أي مع قرينه. قوله: ﴿ يَا ﴾ (للتنبيه) ويصح أن تكون للنداء، والمنادى محذوف تقديره قريني. قوله: ﴿ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ ﴾ اسم ﴿ لَيْتَ ﴾ مؤخر، وفيخ تغليب (المشرق والمغرب). قوله: (أي مثل ما بين المشرق والمغرب) أي في أنهما لا يجتمعان ولا يقربان منه، لأنهما ضدان. قوله: (أنت) هو المخصوص بالذم. قوله: (قال تعالى) الماضي بمعنى المضارع، لأن هذا القول يحصل في الآخرة. (أي العاشقين) تفسير للكاف، وقوله: (وتمنيكم وندمكم) للضمير المستتر، فهو إشارة إلى أنه فاعل ينفع، وهو معلوم من السياق دل عليه قوله: ﴿ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ إلخ، وبعضهم قال: إن الفاعل هو ﴿ أَنَّكُمْ ﴾ وما في حيزها، والتقدير: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، وأتى بها دفعاً لما قد يتوهم من أن عموم المصيبة يهونها، كمصائب الدنيا، فإنها إذا عمت هانت، بل في الآخرة عمومها موجب لعظمها وهولها. قوله: (أي تبين لكم) أي الآن في الآخرة، ودفع بذلك ما يقال: إن الظلم وقع في الدنيا، و ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ عبارة عن يوم القيامة. قوله: و ﴿ إِذ ﴾ بدل من ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ أي بدل كل، إن قلت: لن ينفعكم عامل في اليوم، وإذ مع أنه مستقبل، واليوم ظرف حالي، وإذ ظرف ماض، فكيف يعمل المستقبل في الحال والماضي؟ أجيب: بأن عمله في الحال، من حيث إنه فريق من الاستقبال، وتقدم أن الماضي مؤول بالحال. قوله: ﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ﴾ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي أنت لا تسمعهم، كما أشار له المفسر، وهذه الآية نزلت لما كان يجتهد في دعائهم، وهو لا يزدادون إلا تصميماً على الكفر. قوله: ﴿ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ عطف على ﴿ ٱلْعُمْيَ ﴾ ويكفي في العطف تغاير العنوان، وإلا فالأوصاف الثلاثة مجتمعة في كل كافر. قوله: (بأن نميتك قبل تعذيبهم) أي نقبضك الينا قبل انتقامنا منهم. قوله: ﴿ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾ أي فلا يعجزوننا، وقد وقع بهم العذاب على يده في الدنيا، وعلى أيدي أتباعه بعد موته إلى يوم القيامة، ولعذاب الآخرة أشد. قوله: ﴿ فَٱسْتَمْسِكْ ﴾ أي دم على الاستمساك. قوله: ﴿ إِنَّكَ ﴾ إلخ تعليل للأمر بالاستمساك. قوله: ﴿ وَلِقَوْمِكَ ﴾ أي قريش خصوصاً ولغيرهم عموماً، فهو شرف لكل من تبعه، وهذه الآية نظير قوله تعالى:﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾[الأنبياء: ١٠].
قوله: ﴿ مِن رُّسُلِنَآ ﴾ بيان لمن. قوله: ﴿ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ﴾ إلخ، أي حكمنا بعبادة الأوثان، وأنزلنا ذلك في كتبنا. قوله: (قيل هو على ظاهره) أي من غير تقدير، فهو مأمور بسؤال المرسلين أنفسهم، وهذا على أن الآية مكية. قوله: (بأن جمع له الرسل) إلخ، جواب عما يقال: إنه متأخر في البعث عن الرسل، فكيف يؤمر بسؤال لم يلقه؟ قوله: (وقيل المراد أمم) إلخ، أي فالكلام على حذف مضاف، والمعنى: اسأل أمم من أرسلنا، وقوله: (أي أهل الكتابين) تفسير لأمم، وهذا على أن الآية مدنية، لأن أهل الكتابين إنما كانوا في المدينة. قوله: (ولم يسأل على واحد من القولين) هذا أحد قولين، قال ابن عباس وابن زيد: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو مسجد ببيت المقدس، بعث الله له آدم ومن دونه من المرسلين، وجبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن جبريل عليه الصلاة والسلام وأقام الصلاة ثم قال يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جبريل: سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا، أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قد اكتفيت: والقول الآخر لغير ابن عباس: أنهم صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم سبعة صفوف: المرسلون ثلاثة صفوف، والنبيون أربعة صفوف، وكان يلي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل، وعلى يمينه إسماعيل، وعلى يساره إسحاق، ثم موسى، ثم سائر المرسلين، فصلى بهم ركعتين، فلما انتقل قام فقال: إن ربي أوحى إلي أن أسألكم: هل أرسل أحداً منكم بدعوة إلى عبادة غير الله تعالى؟ فقالوا: يا محمد إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة، أن لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل، وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين، وقد استبان ذلك بإمامتك إيانا، وأنه لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى ابن مريم، فإنه مأمور أن يتبع أثرك. قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ ﴾ إلخ، الحكمة في ذكر تلك القصة والتي بعدها، عقب ما تقدم من مقالات الكفار تسليته صلى الله عليه وسلم، فإن موسى وعيسى وقع لهما من قومهما ما وقع لمحمد صلى الله عليه وسلم من قومه، من التعيير بقلة المال والجاه. قوله: ﴿ بِآيَـٰتِنَآ ﴾ أي معجزاتنا التسع، والباء للملابسة. قوله: ﴿ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾ في القصة اختصار قد بين في سورة طه والقصص، والمعنى: فقال إني رسول رب العالمين، لنؤمن به وترسل معه بني إسرائيل. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ ﴾ مرتب على مقدر، أي فطلبوا منه آية تدل على صدقه، يدل عليه ما تقدم في الأعراف﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ ﴾[الأعراف: ١٠٦] إلخ، قوله: ﴿ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ فجائية، والمعنى: حيث جاءهم بالآيات فاجؤوا المجيء بها بالضحك والسخرية، من غير تأمل ولا تفكر. قوله: (والجراد) أي والقمل والضفادع والدم، كل واحدة تمكث سبعة أيام عليهم، فيستجيروا بموسى، فيدعو الله تعالى فيكشفه عنهم، فيمكثون بين كل واحدة والأخرى شهراً ويعودون لما كانوا عليه من الطغيان، ثم أرسل الله عليهم السنين المجدبة، فاستجاروا ثم عادوا للطغيان، ثم دعا الله فكشفت عنهم، ثم دعا عليهم بالطمس فطمست أموالهم، فعزموا على قتل موسى وقومه. فانتقم الله منهم بالغرق.
قوله: ﴿ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ﴾ الجملة صفة لآية، والمعنى إلا هي مبالغة الغاية في الإعجاز بحيث يظن الناظر فيها أنا أكبر من غيرها. قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي عما هم عليه من الكفر. قوله: (لأن السحر عندهم علم عظيم) أي فقصدوا بذلك تعظيمه لا نقصه. إن قلت: إن الله تعالى قال في سورة الأعراف حكاية عنهم﴿ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾[الأعراف: ١٣٤] إلخ، فهذا يقتضي أنهم نادوه باسمه، وذها صريح في أنهم نادوه بيا أيها الساحر، فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: بأن الخطاب تعدد، وإنما لم يلمهم على ذلك، رجاء أن يؤمنوا واستقصاراً لعقولهم. قوله: (من كشف العذاب) بيان لما. قوله: ﴿ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ﴾ أي إن كشف العذاب عنا. قوله: ﴿ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ أي في كل مرة من مرات العذاب. قوله: ﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ ﴾ أي بنفسه وبمناديه. قوله: ﴿ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ ﴾ إلخ، معطوف على ﴿ مُلْكُ مِصْرَ ﴾ وجملة ﴿ تَجْرِي ﴾ حال من اسم الإشارة. قوله: ﴿ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ مفعوله محذوف قدره المفسر بقوله: (عظمتي). قوله: ﴿ أَمْ ﴾ (تبصرون) أشار بذلك إلى أن ﴿ أَمْ ﴾ متصلة معادلة للهمزة مطلوب بها التعيين، والمعادل محذوف، واعترض بأن المعادل لا يحذف بعد ﴿ أَمْ ﴾ إلا إن كان بعدها لا، نحو: أتقوم أم لا؟ أي أم لا تقوم. وأجيب: بأن هذا غالب لا مطرد. قوله: (وحينئذ) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ أَنَآ خَيْرٌ ﴾ إلخ، مسبب عن المعادل المحذوف. قوله: (حقير) أي لأنه يخدم نفسه، وليس له ملك ولا نفاذ أمر. قوله: ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾ الجملة إما عطف على جملة ﴿ هُوَ مَهِينٌ ﴾ أو حال مستأنفة. قوله: (للثغته) بضم اللام وهي تصيير الراء غيناً أو لاماً، أو السين تار. قوله: (التي تناولها في صغره) أي حين لطم فرعون على وجهه، فاغتم لذلك وأراد قتله، فمنعته زوجته وقالت له: إنه صغير لا يعرف التمرة من الجمرة، فأتى له بتمر وجمر، فأراد أخذ التمرة، فحول جبريل يده فأخذ الجمرة، فأثرت في لسانه، وقد حلها الله حين أرسله، وإنما وصفه فرعون بها الآن، استصحاباً لما كان يعرف منه.
قوله: ﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ ﴾ أي من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك حقيقة. قوله: (استفز فرعون) ﴿ قَوْمَهُ ﴾ المعنى: استخف فرعون عقول قومه، فألقي عليهم تلك الشبه الواهية اتي أثبت بها ألوهية نفسه وكذب موسى فأطاعوه. قوله: ﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا ﴾ أصله أأسفونا بهمزتين، أبدلت الثانية ألفاً. قوله: (أغضبونا) أي حيث بالغوا في العناد والعصيان. قوله: ﴿ ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ أي عاقبناهم. قوله: ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ تفسير للانتقام، وقد أهلكوا بجنس ما تكبروا به، ففيه إشارة إلى أن من افتخر بشيء وتعزز به غير الله أهلكه به. قوله: ﴿ وَمَثَلاً ﴾ معطوف على ﴿ سَلَفاً ﴾ والمراد بالآخرين المتأخرون في الزمان، وهي الأمة المحمدية. قوله: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ﴾ سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾[الأنبياء: ٩٨] الآية، قال عبد الله بن الزعبري وكان قبل أن يسلم: أهذا لنا ولآلهتنا، أم لجميع الأمم؟ فقال رسول الله: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال: قد خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح؟ واليهود يعبدون عزيراً؟ وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، فسكن انتظاراً للوحي، فظنوا أنه ألزم الحجة، فضحكوا وارتفعت أصواتهم، إذ علمت ذلك تعلم الاقتصار الواقع من المفسر في القصة. قوله: ﴿ إِذَا قَوْمُكَ ﴾ فجائية، والمعنى: فاجأ ضرب المثل صدودهم وفرحهم. قوله: ﴿ يَصِدُّونَ ﴾ بضم الصاد وكسرها من باب ضرب ورد قراءتان سبعيتان. قوله: (فرحوا بما سمعوا) أي إن محمداً صار مغلوباً بهذا الجدال. قوله: ﴿ وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ ﴾ إلخ، تفصيل لجدالهم، والمعنى أنهم قالوا: أآلهتنا خير عندك أن عيسى؟ فإن كان في النار فلتكن آلهتنا معه. وقوله: ﴿ ءَأَ ٰلِهَتُنَا ﴾ بتحقيق الهمزتين أو تسهيل الثانية، بغير إدخال ألف بينهما، فهما قراءتان سبعيتان فقط، وقرئ شذوذاً بهمزة واحدة بعدها ألف على لفظ الخبر. قوله: (فَتَرْضَى أَنْ تَكُونْ) إلخ، هذا تفريغ على الشق الثاني. قوله: ﴿ إِلاَّ جَدَلاً ﴾ مفعول من أجله، أي لأجل الجدل والمراء. قوله: (لعلهم أن ما) أي الوقعة في قوله تعالى:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾[الأنبياء: ٩٨] وعلمهم ذلك لكون القرآن نزل بلغتهم ولغة العرب، أن ما تكون لغير العاقل، ومن للعاقل.
قوله: ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ ﴾ رد عليهم، والمعنى: ما عيسى إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة، لا إله ولا ابن إله. قوله: (بوجوده من غير أب) أي فهو نظير آدم في خلقه من غير أبوين. قوله: ﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ﴾ خطاب لقريش، والمعنى: أننا أغنياء عنكم وعن عبادتكم، فلو نشاء لأهلكناكم، وجعلنا بدلكم ملائكة يعبدوني في الأرض. قوله: (بدلكم) أي فهو قوله تعالى:﴿ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ ﴾[التوبة: ٣٨] وقول الشاعر: جارية لم تأكل المرققا   ولم تذق من البقول الفستقاويصح أن تكون من تبعيضية، والمعنى: لو نشاء لجعلنا بعضكم ملائكة يخلفونكم فيها، بأن يحول بعضكم إلى صورة الملائكة، أو يلد بعضكم ملائكة. قوله: ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ ﴾ أي نزوله علامة على قرب الساعة، فالكلام على حذف مضاف، واللام بمعنى على. قوله: ﴿ وَٱتَّبِعُونِ ﴾ أي امتثلوا ما آمركم به. قوله: ﴿ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ معطوف على ﴿ ٱتَّبِعُونِ ﴾ فهو مقول القول، وقيل: من كلام الله تعالى: والمعنى: اتبعوا يا عبادي هديي أو رسولي ﴿ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ ﴾ أي أرسل لبني إسرائيل. قوله: ﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم ﴾ معطوف على قوله: ﴿ بِٱلْحِكْمَةِ ﴾ أي وجئتكم لأبين، ولم يترك العاطف، اشارة إلى أنه متعلق بما قبله، اشعاراً بالاهتمام بالقلة، حتى جعل كأنه كلام برأسه. قوله: ﴿ بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ أي فبين لهم أمر الدين، لا لصنائع الدنيا، فإنها تؤخذ عن أهلها، وفي الحديث:" أنتم أعلم بأمر دنياكم "﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ أي فيما أبلغه عنه.
قوله: ﴿ فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ﴾ أي تفرقوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى. قوله: (أهو الله) هذه مقالة فرقة من النصارى تسمى اليعقوبية. قوله: (أو ابن الله) هذا قول فرقة منهم أيضاً تسمى المرقوسية. قوله: (أو ثالث ثلاثة) هذا قول فرقة منهم أيضاً تسمى الملكانية، وقالت فرقة: إنه عبد الله ورسوله، وإنما كفرت ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وقالت اليهود: إنه ليس بنبي فإنه ابن زنا؛ لعنهم الله. قوله: (كلمة عذاب) أي كلمة معناها الذعاب وهو مبتدأ، وقوله: ﴿ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ خبره. قوله: (أي كفار مكة) هذا توعد لهم بالعذاب، إثر بيان فرحهم بجعل المسيح مثلاً. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ الجملة حالية. قوله: (على المعصية) أي وعليه فيكون الاستثناء منقطعاً، ويصح أن المراد بالإخلاء الأحباب مطلقاً، فيكون الاستثناء متصلاً. قوله: (متعلق بقوله) ﴿ بَعْضُهُمْ ﴾ أي والفصل بالمبتدأ لا يضر. قوله: (فإنهم أصدقاء) أي ويشفعون لبعضهم ويتوددون، كما كانوا في الدنيا. قوله: (ويقال لهم) أي تشريفاً وتطييباً لقلوبهم، ورد أنه ينادي مناد في العرصات ﴿ يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ ﴾، فيرفع أهل العرصة رؤوسهم، فيقول المنادي: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾، فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين. قوله: ﴿ يٰعِبَادِ ﴾ الإضافة للتشريف والتكريم، والياء إما ساكنة أو مفتوحة أو محذوفة، ثلاث قراءات سبعيات، وقد ناداهم الله تعالى بأربعة أمور: الأول نفي الخوف، والثاني نفي الحزن، والثالث الأمر بدخول الجنة، والرابع البشارة بالسرور في قوله: ﴿ تُحْبَرُونَ ﴾.
قوله: ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ﴾ بالرفع والتنوين في قراءة العامة، وهو مبتدأ، و ﴿ عَلَيْكُمُ ﴾ خبره، وقرئ شذوذاً بالضم والفتح دون تنوين. قوله: ﴿ وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ أي مخلصين في أمر الدين. قوله: (زوجاتكم) أي المؤمنات. قوله: (تسرون) أي يظهر أثره على وجوهكم. قوله: (بقصاع) جمع قصعة وهي الإناء الذي يشبع العشرة، وأكبر منها الجفنة، والصحفة ما يشبع الخمسة، والمأكلة ما يشبع الرجلين أو الثلاثة، ورد أنه يطوف على أدنى أهل الجنة، منزلة سبعون ألف غلام، بسبعين ألف صحفة من ذهب، يغدى عليه بها في كل واحدة منها لون ليس له في صاحبتها، يأكل من آخرها كما ياكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضاً. قوله: (جمع كوب) أي كعود وأعواد. قوله: (لا عروة له) أي ليس له محل يمسك منه. قوله: (ليشرب الشارب من حيث شاء) أي لأن العروة تمنع من بعض الجهات، وروي أنهم يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك، أتوا بالشراب الطهور، فتنضمر لذلك بطونهم، وتفيض عرقاً من جلودهم أطيب من ريح المسك، قال تعالى:﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾[الإنسان: ٢١].
قوله: ﴿ وَفِيهَا ﴾ أي الجنة. قوله: ﴿ مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ ﴾ أي من الأشياء المعقولة والمسموعة والمنظورة والملموسة والمذوقة والمشمومة، روي" أن رجلاً قال: يا رسول الله أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل. فقال: إن يدخلك الله الجنة، فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء، فتعير لك في أي الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي: يا رسول الله في الجنة إبل؟ فإني أحب الإبل. فقال: يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة، أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك "وتشتهي: بهاء واحدة اثنتين بينهما الياء، قراءتان سبعيتان. قوله: (تلذذاً) أي بطعامها وشرابها، لا عن عطش. قوله: (نظراً) أي وأعظمه النظر إلى وجه الله الكريم.
قوله: ﴿ وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب تشريفاً لها وتعظيماً لقدرها، ولم يقل: وتلكمو الجنة، ليكون مناسباً لقوله: ﴿ أُورِثْتُمُوهَا ﴾ إشارة إلى أن كل واحد من أهل الجنة مخاكب بالاستقلال. قوله: ﴿ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي أعطيتموها بسبب عملكم، وهذا زيادة في الإكرام لأهل الجنة، وحيث لم يقل أورثتموها من فضلي، وإن كانت في الحقيقة من فضله تعالى، قال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة وناراً، فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر. قوله: (يخلف بدله) أي لأنها على صفة الماء النابع، لا يؤخذ منها شيء، إلا خلف مكانه في الحال مثله. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ إلخ، لما ذكر وعد المؤمنين الحسن بالجنة وما فيها، شرع في ذكر وعيد الكافرين السيئ بالنار وما فيها، على حكم عادته سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، والمراد بالمجرمين الكفار لذكرهم في مقابلة المؤمنين. قوله: ﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ الجملة حالية، وكذا ما بعدها والفتور السكون، يقال من فتر الماء سكن حره. قوله: (ساكتون) أي فالإبلاس السكوت، ويطلق على السكون، يقال أبلس سكت وسكن. قوله: (سكوت يأس) أي من رحمة الله تعالى. إن قلت: إن مقتضى ما هنا أنهم يسكتون في النار، ومقتضى ما يأتي في قوله: ﴿ وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ ﴾ الآية، أنهم يستغيثون ويتكلمون، فحصل التنافي بين الموضعين. أجيب: بأنهم يسكتون تارة ويستغيثون أخرى. فأحوالهم مختلفة. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ العامة على نصب ﴿ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ خبراً لكان، و ﴿ هُمُ ﴾ ضمير فصل، وقرئ شذوذاً الظالمون بالرفع، على أن ﴿ هُمُ ﴾ ضمير منفصل مبتدأ، والظالمون خبره، والجملة خبر كان. قوله: ﴿ وَنَادَوْاْ ﴾ التعبير بالماضي لتحقق الحصول. قوله: (هو خازن النار) أي كير خزنتها، ومجلسه وسط النار، وفيها جسور تمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها. قوله: ﴿ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ اللام للدعاء، ويقض مجزوم بحذف الياء، والمعنى: سل ربك أن يميتنا، فهو من قضى عليه إذا أماته. قوله: (ليمتنا) أي لنستريح مما نحن فيه. قوله: (بعد ألف سنة) هذا أحد أقوال، وقيل بعد مائة سنة، وقيل بعد أربعين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة مما تعدون. قوله: (مقيمون في العذاب دائماً) أي لا مفر لكم منه بموت ولا غيره.
قوله: ﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم ﴾ إلخ، يحتمل أنه من كلان الله تعالى، خطاب لأهل مكة عموماً، مبين لسبب مكث الكفار في النار، وهو ما مشى عليه المفسر، وقوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ وأما قلتكم فهو مؤمن يحب الحق، ويحتمل أنه من كلام مالك لأهل النار، جار مجرى العلة كأنه قال: إنكم ماكثون لأنا جئناكم إلخ، ويكون معنى أكثركم كلكم. قوله: ﴿ كَارِهُونَ ﴾ أي لما فيه من منع الشهوات، فكراهتكم له من أجل كونه مخالفاً لهواكم وشهواتكم. قوله: ﴿ أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً ﴾ الإبرام في الأصل الفتل المحكم، يقال: أبرم الحبل إذا أتقن فتله ثانياً، وأما فتله أولاً فيسمى سحلاً، ثم أطلق على مطلق الإتقان والإحكام، و ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل والهمزة، وهو انتقال من توبيخ أهل النار إلى توبيخ الكفار، على بعض ما حصل منهم في الدنيا. قوله: (في كيد محمد) أي كما ذكره في قوله تعالى:﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ﴾[الأنفال: ٣٠] الآية. قوله: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل وهمزة الإنكار. قوله: ﴿ وَرُسُلُنَا ﴾ إلخ، الجملة حالية، وقوله: ﴿ يَكْتُبُونَ ﴾ (ذلك) أي سرهم ونجواهم. قوله: ﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ ﴾ أي إن صح وثبت ذلك ببرهان صحيح، فأنا أول من يعظم ذلك الولد ويعبده. قوله: (لكن ثبت أن لا ولد له) أِار بذلك إلى أن قياس استثنائي، وقد استثنى فيه نقيض المقدم بقوله: (لكن ثبت) إلخ، فأنتج نقيض التالي وهو قوله: (فانتفت عبادته) وإيضاحه: أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محالة في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها، فحصل نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. قوله: (الكرسي) المناسب إبقاء الآية على ظاهرها، لأن من المعلوم أن ﴿ ٱلْعَرْشِ ﴾ غير (الكرسي). قوله: (العذاب) مفعول ثان ليوعدون وفيه متعلق بالعذاب. قوله: (وهو يوم القيامة) المناسب أن يقول: يوم موتهم، لأن خوضهم ولعبهم إنما ينتهي بيوم الموت.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي ﴾ (هو) ﴿ فِي ٱلسَّمآءِ ﴾ إلخ، قدر الضمير إشارة إلى أن العائد محذوف وهو مبتدأ، و ﴿ إِلَـٰهٌ ﴾ خبره، و ﴿ فِي ٱلسَّمآءِ ﴾ متعلق بإله، وإنما حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه، ولطول الصلة بالمعمول، نظير قولك: ما أنا بالذي قائل لك سوءاًً، ولا يصح أن يكون الجار والمجرور خبراً مقدماً، و ﴿ إِلَـٰهٌ ﴾ مبتدأ مؤخراً، لئلا تعرى الجملة عن رابط نظير: جاء الذي في الدار زيد. قوله: (بتحقيق الهمزتين) إلخ، أي همزة سماء، وهمزة إله، وذكر المفسر هنا ثلاث قراءتان، وفي الحقيقة هي سبع سبعيات: التحقيق وهي قراءة واجدة، وإسقاط الهمزة الأولى وتسهيلها مع القصر في سماء بقدر ألف والمد بقدر ألفين، وتسهيل الثانية وإبدالها ياء مع القصر لا غير. قوله: (متعلق بما بعده) أي وهو إله لأنه بمعنى معبود، والتقدير: وهو معبود في السماء ومعبود في الأرض، ولا شك أن العابد في السماء غير العابد في الأرض، والمعبود واحد، ودفع ما يتوهم من ظاهر الآية أن الإله متعدد، لأن النكرة إذا أعيدت كانت غيراً. قوله: ﴿ وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾ أي علم وقت قيامها. قوله: (والتاء) أي فهو التفات من الغيبة للخطاب للتهديد والتقريع. قوله: ﴿ وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ ﴾ إلخ، الاسم الموصول فاعل ﴿ يَمْلِكُ ﴾ وهو إما عبارة عن مطلق المعبودات غير الله ليكون الاستثناء متصلاً، وهو ما تقتضيه عبارة المفسر، أو عن خصوص الأصنام فيكون منقطعاً. قوله: (أي الكفار) تفسير للواو في ﴿ يَدْعُونَ ﴾.
قوله: (لأحد) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ ٱلشَّفَاعَةَ ﴾ محذوف. قوله: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ الضمير عائد على ﴿ مِن ﴾ والجمع باعتبار معناها. قوله: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم ﴾ أي العابدين مع ادعاء الشريك. قوله: ﴿ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ﴾ جواب القسم، وجواب الشرط محذوف على القاعدة. قوله: (أي قول محمد النبي) تفسير لكل من المضاف والمضاف إليه، وقوله: (ونصبه على المصدر) أي فالقول والقيل المقالة كلها مصادر بمعنى واحد، وفي قراءة سبعية أيضاً بالجر، إما عطفاً على ﴿ ٱلسَّاعَةِ ﴾ أو أن الواو للقسم، والجواب: إما محذوف والتقدير لأفعلن بهم ما أريد، أو مذكور وهو قوله: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. قوله: ﴿ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ خبر لمحذوف أي شأني سلام، أي ذو سلامة منكم ومني، فهو تباعد وتبرؤ منهم، فليس في الآية مشروعية السلام على الكفار. قوله: (وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم) أي فالآية منسوخة، ويحتمل أن المراد الكف عن مقابلتهم بالكلام فلا نسخ فيها.
Icon