تفسير سورة الزخرف

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الزخرف
هذه السورة مكية، وقال مقاتل : إلا قوله :﴿ وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ﴾ وقال ابن عطية : بإجماع أهل العلم.

ﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﰿ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ
سورة الزّخرف
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٨٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤)
وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
353
يَعْشُو: يُعْرِضُ، وَيَعْشَى: يَعْمَى. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمْ نَرَ أَحَدًا حَكَى: عَشَوْتُ عَنِ الشَّيْءِ: أَعْرَضْتُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: تَعَاشَيْتُ عَنْ كَذَا وَتَعَامَيْتُ، إِذَا تَغَافَلْتُ عَنْهُ. وَتَقُولُ:
356
عَشَوْتُ إِلَى النَّارِ، إِذَا اسْتَدْلَلْتُ عَلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وَقِيلَ: عَشَى يَعْشَى، إِذَا حَصَلَتِ الْآفَةُ فِي بَصَرِهِ. وعشا يعشو: نظر المغشي وَلَا آفَةَ بِهِ، كَمَا قالوا: عَرَجَ لِمَنْ بِهِ الْآفَةُ، وَعَرَجَ لِمَنْ مَشَى مِشْيَةَ الْعُرْجَانِ مِنْ غَيْرِ عَرَجٍ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدِ
أَيْ: تَنْظُرُ إليها نظر المغشي، لِمَا يَضْعُفُ بَصَرٌ مِنْ عَظِيمِ الْوَقُودِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَاتِمٍ:
أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ
الصُّحْفَةُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ الْقَصْعَةُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَعْظَمُ الْقِصَاعِ الْجَفْنَةُ، ثُمَّ الْقَصْعَةُ تَلِيهَا تَسَعُ الْعَشَرَةَ، ثُمَّ الصَّحْفَةُ تَسَعُ الْخَمْسَةَ، ثُمَّ الْمَكِيلَةُ تَسَعُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ.
وَالصَّحِيفَةُ: الْكِتَابُ، وَالْجَمْعُ: صُحُفٌ وَصَحَائِفُ. الْكُوبُ، قَالَ قُطْرُبٌ: الْإِبْرِيقُ لَا عُرْوَةَ لَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْإِبْرِيقُ لَا خُرْطُومَ لَهُ، وَقِيلَ: كَالْإِبْرِيقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا أُذُنَ لَهُ وَلَا مِقْبَضَ.
قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ: إِنَّمَا كَانَ بِغَيْرِ عُرْوَةٍ لِيَشْرَبَ الشَّارِبُ مِنْ أَيْنَ شَاءَ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ. انْتَهَى. وَقَالَ عَدِيٌّ:
مُتَّكِئًا تُصَفِّقُ أَبْوَابُهُ يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوبِ
أَبْرَمَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَبْرَمَ الْأَمْرَ: بَالَغَ فِي إِحْكَامِهِ، وَأَبْرَمَ الْقَاتِلُ، إِذَا أَدْهَمَ، وَهُوَ الْقَتْلُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يُقَالُ لَهُ سِجِّيلٌ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
مِنْ سِجِّيلٍ وَبَرْمِ انْتَهَى. وَالْإِبْرَامُ: أَنْ يَجْمَعَ خَيْطَيْنِ، ثُمَّ يَفْتِلَهُمَا فَتْلًا مُتْقَنًا وَالْبَرِيمُ: خَيْطٌ فِيهِ لَوْنَانِ.
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ. وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ. وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
357
بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا قَوْلَهُ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا «١». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. إِنَّا جَعَلْناهُ، أَيْ صَيَّرْنَاهُ، أَوْ سَمَّيْنَاهُ وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَهُوَ مِنْ الْأَقْسَامِ الْحَسَنَةِ لِتَنَاسُبِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ:
وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضٌ وَقِيلَ: وَالْكِتَابُ أُرِيدَ بِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالضَّمِيرُ فِي جَعَلْنَاهُ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ صَرِيحُ الذِّكْرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلْنَاهُ، بِمَعْنَى صَيَّرْنَاهُ، مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَوْ بِمَعْنَى خَلَقْنَاهُ مُعَدًّى إِلَى وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «٢». وقُرْآناً عَرَبِيًّا: حَالٌ. وَلَعَلَّ: مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، لِتُلَاحِظَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى التَّرَجِّي، أَيْ خَلَقْنَاهُ عَرَبِيًّا غَيْرَ عَجَمِيٍّ. أَرَادَ أَنْ تَعْقِلَهُ الْعَرَبُ، وَلِئَلَّا يَقُولُوا: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «٣». انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مخلوقا. أُمِّ الْكِتابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي أُثْبِتَتْ فِيهِ الْكُتُبُ، وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ، وَتَرْفِيعٌ بِكَوْنِهِ. لَدَيْهِ عَلِيًّا: عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ، وَعَالِيًا عَنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ. حَكِيمًا:
أَيْ حَاكِمًا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ، أَوْ مُحْكَمًا بِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي.
قَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ: الْقُرْآنُ فِيهِ بِأَجْمَعِهِ مَنْسُوخٌ، وَمِنْهُ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ. وَقِيلَ: أُمُّ الْكِتَابِ: الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ، لِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ «٤»، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ سُورَةَ حم وَاقِعَةٌ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ الَّتِي هِيَ الْأُمُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي أُمِّ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَالْأَخَوَانِ بِكَسْرِهَا، وَعَزَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ يُوسُفُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَعْزُهَا لِلْأَخَوَانِ عَقْلَةً مِنْهُ. يُقَالُ: ضَرَبَ عَنْ كَذَا، وَأَضْرَبَ عَنْهُ، إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ. وَالذِّكْرَ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ: الْقُرْآنُ، أَيِ أَفَتَرَائَى عَنْكُمُ الْقُرْآنَ. وَقَوْلُهُمْ: ضَرَبَ الْغَرَائِبَ عَنِ الْحَوْضِ، إِذَا أَدَارَهَا وَنَحَّاهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٤٥. [.....]
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ٤٤.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ٧.
358
وَقِيلَ: الذِّكْرَ: الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ وَالتَّخْوِيفُ مِنْ عِقَابِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ إِنْكَارًا؟ لِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا قُدِّمَ مِنْ إِنْزَالِهِ الْكِتَابَ وَخَلْقِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتَعْقِلُوهُ وَتَعْمَلُوا بِمُوجَبِهِ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَقْدِيرِهِ فِعْلًا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ فِي نَحْوِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا «١» ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ «٢» ؟ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَاوِ فِي نَحْوِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا «٣» ؟ كَمَا وَأَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ مَنْوِيٌّ بِهِمَا التَّقْدِيمُ لِعَطْفِ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا، وَأَنَّ الْهَمْزَةَ تَقَدَّمَتْ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْحَرْفِ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى: أَفَنَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ وَتَخْوِيفَكُمْ عَفْوًا عنكم عفوا عَنْ إِجْرَامِكُمْ؟ أَنْ كُنْتُمْ أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ؟ أَيْ هَذَا لَا يَصْلُحُ. وَنَحَا قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى صَفْحًا، أَيْ مَعْفُوًّا عَنْهُ، أَيْ نَتْرُكُهُ. ثُمَّ لَا تؤاخذون بقوله ولا بتدبره، وَلَا تُنَبَّهُونَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى نَظِيرُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
ثم الصَّبَا صَفْحًا بِسَاكِنِ ذِي الفضا وبصدع قَلْبِي أَنْ يَهُبَّ هُبُوبُهَا
وَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
صَفُوحًا فَمَا تَلْقَاكَ إِلَّا بَخِيلَةً فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ وَلَمَّا تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ نَتْرُكَكُمْ هَمَلًا بِلَا أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: أَنْ لَا نُعَاقِبَكُمْ بِالتَّكْذِيبِ؟
وَقِيلَ: أَنْ نَتْرُكَ الْإِنْزَالَ لِلْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِكُمْ؟ وَقَرَأَ حَسَّانُ بن عبد الرحمن الضبغي، وَالسُّمَيْطُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَشُمَيْلُ بْنُ عُذْرَةَ: بِضَمِّ الصَّادِ، وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالسَّدِّ وَالسُّدِّ. وَانْتِصَابُ صَفْحًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى أَفَنَضْرِبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَفَنَصْفَحُ؟
أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ صَافِحِينَ، قَالَهُمَا الْحَوْفِيُّ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَفْحًا عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا مَصْدَرٌ مِنْ صَفَحَ عَنْهُ، إِذَا أَعْرَضَ مُنْتَصِبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى: أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ وَإِلْزَامَ الْحُجَّةِ بِهِ إِعْرَاضًا عَنْكُمْ؟ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْجَانِبِ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرَ إِلَيْهِ بِصَفْحِ وَجْهِهِ. وَصَفْحُ وَجْهِهِ عَلَى مَعْنَى: أَفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جَانِبًا؟ فَيُنْصَبُ عَلَى الظَّرْفِ، كَمَا تَقُولُ: ضَعْهُ جَانِبًا، وَامْشِ جَانِبًا. وَتُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صُفْحًا بِالضَّمِّ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يكون تَخْفِيفَ صُفُحٍ جَمْعَ صُفُوحٍ،
(١) سورة غافر ٤٠/ ٨٢.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ١٣٨.
(٣) سورة الروم: ٣٠/ ٩.
359
وَيُنْتَصَبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ صَافِحِينَ مُعْرِضِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صَفْحًا، انْتِصَابُهُ كَانْتِصَابِ صُنْعَ اللَّهِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ، فَلَيْسَ انْتِصَابُهُ انْتِصَابَ صُنْعَ اللَّهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْأَخَوَانِ:
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَإِسْرَافُهُمْ كَانَ مُتَحَقِّقًا. فَكَيْفَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِنْ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى غَيْرِ الْمُتَحَقِّقِ، أَوْ عَلَى الْمُتَحَقِّقِ الَّذِي انْبَهَمَ زَمَانُهُ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِنَ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ يَصْدُرُ عَنِ الْمُدِلِّ بِصِحَّةِ الْأَمْرِ الْمُتَحَقِّقِ لِثُبُوتِهِ، كَمَا يَقُولُ الْأَجِيرِ: إِنْ كُنْتَ عَمِلْتُ لَكَ فَوَفِّنِي حَقِّي، وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُخَيِّلُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ تَفْرِيطَكَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ فِعْلُ مَنْ لَهُ شَكٌّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، مَعَ وُضُوحِهِ، اسْتِجْهَالًا لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُنْتُمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخيط الْمُوَدِّعُ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِذْ كُنْتُمْ، بِذَالٍ مَكَانَ النُّونِ، لَمَّا ذَكَرَ خِطَابًا لِقُرَيْشٍ، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ؟ وَكَانَ هَذَا الْإِنْكَارُ دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لِلرَّسُولِ، وَإِنْكَارًا لِمَا جَاءَ بِهِ. آنَسَهُ تَعَالَى بِأَنَّ عَادَتَهُمْ عَادَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالرُّسُلِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ مَنْ كَانَ أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ قُرَيْشٍ، أَيْ أَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَدًا وَجِلْدًا. وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ: أَيْ فَلْيَحْذَرْ قُرَيْشٌ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِالْأَوَّلِينَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ الْعُقُوبَةِ. قَالَ مَعْنَاهُ قَتَادَةُ: وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الَّتِي سَارَتْ سَيْرَ الْمَثَلِ، وَقِيلَ: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقُرَيْشٌ سَلَكَتْ مَسْلَكَهَا، وَكَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ إِلَى إِخْبَارِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: احْتِجَاجٌ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَا يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، وَهُوَ إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّ مُوجِدَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ هُوَ اللَّهُ، ثُمَّ هُمْ يَتَّخِذُونَ أَصْنَامًا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْبُدُونَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمُقْتَضَى الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمَعْنَى، جَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِمَا عَدَّدَ مِنْ أَوْصَافِهِ الَّذِي ابْتَدَأَ الْإِخْبَارَ بِهَا، وَقَطَعَهَا مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَى مَعْنَاهُ عَنْ قُرَيْشٍ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيَنْسِبُنَّ خَلْقَهَا إِلَى الَّذِي هَذِهِ أَوْصَافُهُ، وَلَيَسْنِدُنَّهُ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ:
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ نَفْسُ الْمَحْكِيِّ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَا يَدُلُّ كَوْنُهُمْ ذَكَرُوا فِي مَكَانٍ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، أَنْ لَا يَقُولُوا فِي سُؤَالٍ آخَرَ. خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ.
360
والَّذِي جَعَلَ لَكُمُ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، خِطَابًا لَهُمْ بِتَذْكِيرِ نِعَمِهِ السَّابِقَةِ. وَكَرَّرَ الْفِعْلَ فِي الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، مُبَالَغَةً فِي التَّوْكِيدِ. وَفِي غَيْرِ مَا سُؤَالٍ، اقْتَصَرُوا عَلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ الْعَلَمُ الْجَامِعُ لِلصِّفَاتِ الْعُلَا، وَجَاءَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حيث اللفظ، لِأَنَّ مَنْ مُبْتَدَأٌ. فَلَوْ طَابَقَ فِي اللَّفْظِ، كَانَ بِالِاسْمِ مُبْتَدَأً، وَلَمْ يَكُنْ بِالْفِعْلِ. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: أَيْ إِلَى مَقَاصِدِكُمْ فِي السَّفَرِ، أَوْ تَهْتَدُونَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ. بِقَدَرٍ: أَيْ بِقَضَاءٍ وَحَتْمٍ فِي الْأَزَلِ، أَوْ بِكِفَايَةٍ، لَا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ، وَلَا قَلِيلًا فَلَا يُجْدِي. فَأَنْشَرْنا: أَحْيَيْنَا بِهِ. بَلْدَةً مَيْتاً: ذُكِرَ عَلَى مَعْنَى الْقَطْرِ، وبلدة اسْمَ جِنْسٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى: مَيِّتًا بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ الْمُصْبِحِ، وَعِيسَى، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْأَخَوَانِ: مبنيا للفاعل. والْأَزْواجَ: الْأَنْوَاعَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. قِيلَ: وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ زَوْجٌ، كَفَوْقَ، وَتَحْتَ، وَيَمِينٍ، وَشِمَالٍ، وَقُدَّامٍ، وَخَلْفٍ، وَمَاضٍ، وَمُسْتَقْبَلٍ، وَذَوَاتٍ، وَصِفَاتٍ، وَصَيْفٍ، وَشِتَاءٍ، وَرَبِيعٍ، وَخَرِيفٍ وَكَوْنُهَا أَزْوَاجًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحْدِثَهَا فَرْدٌ، وَهُوَ اللَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الضِّدِّ وَالْمُقَابِلِ وَالْمُعَارِضِ. انْتَهَى.
وَالْأَنْعامِ: الْمَعْهُودُ أَنَّهُ لَا يُرْكَبُ مِنَ الْأَنْعَامِ إِلَّا الْإِبِلُ. مَا: مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا يَرْكَبُونَهُ. وَرَكِبَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِلَلِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِوَسَاطَةِ فِي، إِذِ التَّقْدِيرُ مَا يَرْكَبُونَهُ. وَاللَّامُ فِي لِتَسْتَوُوا: الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمَنْ أَثْبَتَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَامُ الْأَمْرِ، وَفِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُ أَمْرِ الْمُخَاطَبِ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَهُوَ مِنَ الْقِلَّةِ بِحَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ.
فَالْفَصِيحُ الْمُسْتَعْمَلُ: اضْرِبْ، وَقِيلَ: لِتَضْرِبْ، بَلْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ قَلِيلَةٌ، إِذْ لَا تَكَادُ تُحْفَظُ إِلَّا قِرَاءَةً شَاذَّةً فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ. وَمَا آثَرَ الْمُحَدِّثُونَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: لتأخذوا مصافاكم، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الرَّاوِيَ رَوَى بِالْمَعْنَى، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ فَتَقْضِي حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَا
وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّهَا لُغَةٌ جَيِّدَةٌ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ. وَالضَّمِيرُ فِي ظُهُورِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى ظُهُورِ مَا تَرْكَبُونَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْجَمْعُ، لِأَنَّ مَآلَهَا لَفْظٌ وَمَعْنًى. فَمَنْ جَمَعَ، فَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَمَنْ أَفْرَدَ فَبِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَيَعْنِي: مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ نَحْوًا مِنْهُ، قَالَ: أَضَافَ الظُّهُورَ، ثُمَّ تَذْكُرُوا، أَيْ فِي
361
قُلُوبِكُمْ، نِعْمَةَ رَبِّكُمْ، مُعْتَرِفِينَ بِهَا مُسْتَعْظِمِينَ لَهَا. لَا يُرِيدُ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ بَلْ بِالْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا، أَيْ تُنَزِّهُوا اللَّهَ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ.
وَجَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، إِلَى قَوْلِهِ لَمُنْقَلِبُونَ، وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَهَلَّلَ ثَلَاثًا، وَقَالُوا: إِذَا رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها «١» إِلَى رَحِيمٍ، وَيُقَالُ عِنْدَ النُّزُولِ مِنْهَا: اللَّهُمَّ أَنْزِلْنَا مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
وَالْقَرْنُ: الْغَالِبُ الضَّابِطُ الْمُطِيقُ لِلشَّيْءِ، يُقَالُ: أَقْرَنَ الشَّيْءَ، إِذَا أَطَاقَهُ.
قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
وَأَقْرَنْتِ مَا حَمَّلْتِنِي ولقلما يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر
وَحَقِيقَةُ أَقْرَنَهُ: وَجَدَهُ، قَرِينَتَهُ وَمَا يُقْرَنُ بِهِ: لِأَنَّ الصَّعْبَ لَا يَكُونُ قَرِينَةً لِلضَّعْفِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لذ فِي قَرَنٍ لَمْ يَسْتَطِعْ صولة البذل الْقَنَاعِيسِ
وَالْقَرْنُ: الْحَبْلُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ، أَيْ ضَابِطٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا نَضْبُطُ بِهِ الدَّابَّةَ وَالْفُلْكَ، وَإِنَّمَا اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَهَا. وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ لعمرو بن معد يكرب:
لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عَقِيلٌ لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بمقرنينا
وقرىء: لَمُقْتَرِنِينَ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اقْتَرَنَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ: أَيْ رَاجِعُونَ، وَهُوَ إِقْرَارٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَبِالْبَعْثِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ فِي مَظَنَّةِ الْهَلَاكِ بِالْغَرَقِ إِذَا رَكِبَ الْفُلْكَ، وَبِعُثُورِ الدَّابَّةِ، إِذْ رُكُوبُهَا أَمْرٌ فِيهِ خَطَرٌ، وَلَا تُؤْمَنُ السَّلَامَةُ فِيهِ. فَقَوْلُهُ هَذَا تَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ مُسْتَشْعِرٌ الصَّيْرُورَةَ إِلَى اللَّهِ، وَمُسْتَعِدٌّ لِلِقَائِهِ، فَهُوَ لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ وَلَا لِسَانِهِ.
وَجَعَلُوا لَهُ: أَيْ وَجَعَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبُ لَهُ، أَيْ لِلَّهِ. مِنْ عِبَادِهِ: أَيْ مِمَّنْ هُمْ عَبِيدُ اللَّهِ. جُزْءًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَصِيبًا وَحَظًّا، وَهُوَ قَوْلُ الْعَرَبِ: الملائكة بنات الله. وقال قَتَادَةُ جُزْءًا، أَيْ نِدًّا، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْنَامُ وَفِرْعَوْنُ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وقيل: الجزء: الْجُزْءُ: الْإِنَاثُ.
قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: يُقَالُ أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى. قَالَ الشاعر:
(١) سورة هود: ١١/ ٤١.
362
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فلا عجب قد تجزىء الْحُرَّةُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانًا
قِيلَ: هَذَا الْبَيْتُ مَصْنُوعٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ:
زَوَّجَهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً وَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَعْلَهُمْ لِلَّهِ جُزْءًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ، فَكَيْفَ وَصَفُوهُ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ؟ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ نِعْمَةَ خَالِقِهِ. مُبِينٌ: مُظْهِرٌ لِجُحُودِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ جُزْءًا، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ. قَالَ ابْنُ عطية: ومبين فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. انْتَهَى. وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا لِكُفْرَانِ النِّعَمِ وَمُظْهِرًا لِجُحُودِهِ، كَمَا قُلْنَا. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ لِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ؟ كَيْفَ زَعَمُوا أَنَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ مَا أَنْتُمْ تَكْرَهُونَهُ حِينَ أَنْتُمْ تَسْوَدُّ وُجُوهُكُمْ عِنْدَ التَّبْشِيرِ بِهِنَّ وَتَئِدُونَهُنَّ؟ وَأَصْفاكُمْ: جَعَلَ لَكُمْ صَفْوَةَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ، وَذَلِكَ الْبَنُونَ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ، تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِنْ فُرِضَ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ، فَكَيْفَ يَخْتَارُ لَهُ الْأَدْنَى وَيَخُصُّكُمْ بِالْأَعْلَى؟ وَقَدَّمَ الْبَنَاتِ، لِأَنَّهُ الْمُنْكَرُ عَلَيْهِمْ لِنِسْبَتِهِنَّ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَّفَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ تَشْرِيفًا لَهُمْ عَلَى الْبَنَاتِ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ: أَيْ يَنْتَقِلُ فِي عُمُرِهِ حَالًا فَحَالًا فِي الْحِلْيَةِ، وَهُوَ الْحُلِيُّ الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْإِنَاثِ دُونَ الْفُحُولِ، لِتَزَيُّنِهِنَّ بِذَلِكَ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَهُوَ إِنْ خَاصَمَ، لَا يُبِينُ لِضَعْفِ الْعَقْلِ وَنَقْصِ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، أَظْهَرَ بِهَذَا لِحُقُوقِهِنَّ وَشُفُوفِ الْبَنِينَ عَلَيْهِنَّ. وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُنَاسِبُ لَهُ التَّزَيُّنُ كَالْمَرْأَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْشَوْشِنًا. وَالْفَحْلُ مِنَ الرِّجَالِ أَبَى أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ النِّسَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أراد بمن ينشؤا فِي الْحِلْيَةِ: النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ: أَيْ لَا يُظْهِرُ حُجَّةً، وَلَا يُقِيمُ دَلِيلًا، وَلَا يَكْشِفُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ كَشْفًا وَاضِحًا. وَيُقَالُ: قَلَّمَا تَجِدُ امْرَأَةً لَا تُفْسِدُ الْكَلَامَ، وَتَخْلِطُ الْمَعَانِيَ، حَتَّى ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَخَلْنَا عَلَى فُلَانَةٍ، لَا تخرج حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّ عَقْلَهَا عَقْلُ امْرَأَةٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بمن ينشؤا فِي الْحِلْيَةِ:
الْأَصْنَامُ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ كَثِيرًا مِنْهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَجْعَلُونَ الْحُلِيَّ على كثيرة مِنْهَا، وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِنَفْيِ الْإِبَانَةِ نَفْيُ الْخِصَامِ أَيْ لَا يَكُونُ مِنْهَا خِصَامٌ فَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ:
363
على لا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. وَمَنْ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ وَجَعَلُوا مَنْ يُنَشَّأُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ مَنْ يُنَشَّأُ جَعَلُوهُ لِلَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنَشَّأُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْجَحْدَرِيُّ فِي قَوْلٍ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ: فِي رِوَايَةٍ، وَالْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانٌ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَهَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا، والحسن: في رواية يناشؤ عَلَى وَزْنِ يُفَاعَلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمُنَاشَأَةُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ، كالمعالاة بمعنى الإعلاء. وفِي الْخِصامِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَفْسِيرُهُ غَيْرُ مُبِينٍ، أَيْ وَهُوَ يُبِينُ فِي الْخِصَامِ. وَمَنْ أَجَازَ أَمَّا زَيْدًا، غَيْرُ ضَارِبٍ بِإِعْمَالِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي غَيْرُ أَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُبِينٍ، أَجْرَى غَيْرُ مُجْرَى لَا. وَبِتَقْدِيمِ مَعْمُولِ أَمَّا بَعْدَ لَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي النَّحْوِ.
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ، وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ، وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
لَمْ يَكْفِهِمْ أَنْ جَعَلُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَجَعَلُوهُ إِنَاثًا، وَجَعَلُوهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ، حَيْثُ نَسَبُوا إِلَيْهِمُ الْأُنُوثَةَ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالِابْنَانِ، وَنَافِعٌ:
عِنْدَ الرَّحْمَنِ، ظَرْفًا، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى رَفْعِ الْمَنْزِلَةِ وَقُرْبِ الْمَكَانَةِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ
364
رَبِّكَ
«١». وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: عِبَادُ الرَّحْمَنِ، جَمْعَ عَبْدٍ لِقَوْلِهِ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «٢». وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عِبَادَ الرَّحْمَنِ، جَمْعًا.
وَبِالنَّصْبِ، حَكَاهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ، قَالَ: وَهِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ، وَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ الَّذِينَ هُمْ خُلِقُوا عِبَادَ الرَّحْمَنِ، وَأَنْشَئُوا عِبَادَ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مُفْرَدًا، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقَرَأَ الجمهور: وأشهدوا، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةً عَلَى شَهِدُوا، مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَهَادَةٍ تَحْمِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُطْلَبُ أَنْ تُؤَدَّى.
وَقِيلَ: سَأَلَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«مَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ؟» فَقَالُوا: سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ آبَائِنَا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ عَنْهَا
، أَيْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِهَمْزَةٍ دَاخِلَةٍ عَلَى أُشْهِدُوا، رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِلَا مَدٍّ بَيْنَ الهمزتين. والمسبى عَنْهُ: بِمَدَّةٍ بَيْنَهُمَا
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ: بِتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ بِلَا مَدٍّ
وَجَمَاعَةٌ: كَذَلِكَ بِمَدٍّ بَيْنَهُمَا.
وَعَنْ عَلِيٌّ وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ: تَحْقِيقُهُمَا بِلَا مَدٍّ
وَالزُّهْرِيُّ وَنَاسٌ: أُشْهِدُوا بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ رُبَاعِيًّا، فَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا. وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْإِنَاثِ، أَيْ إِنَاثًا مُشْهَدًا مِنْهُمْ خَلْقُهُمْ، وَهُمْ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ، لَكِنْ لَمَّا ادَّعَوْا لِجَرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، صَارُوا كَأَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ وَإِشْهَادَهُمْ خَلْقَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَاثًا، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
أُنُثًا، جَمْعَ جَمْعِ الْجَمْعِ. قِيلَ: وَمَعْنَى وَجَعَلُوا: سَمُّوا، وَقَالُوا: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَصَيَّرُوا اعْتِقَادَهُمُ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، وَالْمَعْنِيُّ: إِظْهَارُ فَسَادِ عُقُولِهِمْ، وَأَنَّ دَعَاوِيَهُمْ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْحُجَّةِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ الطَّاعِنَةِ عَلَى أَهْلِ التَّنْجِيمِ وَالطَّبَائِعِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ «٣». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
سَتُكْتَبُ، بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. شَهَادَتُهُمْ: بِالرَّفْعِ مُفْرَدًا وَالزُّبَيْرِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ وَالْحَسَنُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّاءِ، وَجَمْعِ شَهَادَتِهِمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَعْرَجُ: بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، شهادتهم على الإفراد. وقرأ فِرْقَةٌ: سَيَكْتُبُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ اللَّهُ شَهَادَتَهُمْ: بِفَتْحِ التَّاءِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِأُنُوثَتِهِمْ. وَيُسْأَلُونَ: وَهَذَا وَعِيدٌ.
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٠٦.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٦.
(٣) سورة الكهف: ١٨/ ٥١.
365
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ: الضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: فِي آخَرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَوْثَانَ عَلَّقُوا انْتِفَاءَ الْعِبَادَةِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، لَكِنَّ الْعِبَادَةَ وُجِدَتْ لَمَّا انْتَفَتِ الْمَشِيئَةُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَاءَ الْعِبَادَةَ، وَوَقَعَ مَا شَاءَ، وَقَدْ جَعَلُوا إِمْهَالَ اللَّهِ لَهُمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَرْضَى ذَلِكَ دِينًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَنَحْنُ لَا نُؤَاخَذُ بِذَلِكَ، إِذْ هُوَ وِفْقُ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، أَيْ بِمَا تَرَتَّبَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ: أَيْ يَكْذِبُونَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا كَفْرَتَانِ مَضْمُومَتَانِ إِلَى الْكَفَرَاتِ الثَّلَاثِ، وَهُمْ: عِبَادَتُهُمُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَقُولُ إِخْوَانُهُمُ الْمُجْبِرَةُ. انْتَهَى.
جَعْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَخَوَاتٍ لِلْكَفَرَةِ عُبَّادِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَجَوَابًا جَارِيًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَمَّا نَفَى عَنْهُمْ، عِلْمَ تَرْكِ عِقَابِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، أَيْ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَقْلٌ. نَفَى أَيْضًا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ سَمْعٌ، فَقَالَ:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ إِنْذَارِ الرُّسُلِ، يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ. وَمَعْنَى: عَلى أُمَّةٍ: أَيْ طَرِيقَةٍ وَدِينٍ وَعَادَةٍ، فَقَدْ سَلَكْنَا مَسْلَكَهُمْ، وَنَحْنُ مُهْتَدُونَ فِي اتِّبَاعِ آثَارِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الحطيم:
كُنَّا عَلَى أُمَّةِ آبَائِنَا وَيَقْتَدِي بِالْأَوَّلِ الْآخِرُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُمَّةٍ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقُطْرُبٌ: عَلَى مِلَّةٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْأُمَّةُ: الطَّرِيقَةُ، وَالَّذِي يُقَالُ: فُلَانٌ لَا أُمَّةَ لَهُ: أَيْ لَا دِينَ وَلَا نِحْلَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَهَلْ يَسْتَوِي ذُو أُمَّةٍ وَكَفُورٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أُمَّةٍ فِي قَوْلِهِ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «١». وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْحَسَنَةُ لُغَةً فِي الْأُمَّةِ بِالضَّمِّ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّةٍ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ عَلَى قَصْدٍ وَحَالٍ، وَالْخِلَافُ فِي الْحَرْفِ الثَّانِي كَهُوَ فِي الْأَوَّلِ. وَحَكَى مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ المغيرة، وأبي
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٤٥.
366
سُفْيَانَ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَعُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَيْ كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ أَيْضًا، يُسَلِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. وَالْمُتْرَفُ: الْمُنَعَّمُ، أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ، فَآثَرُوا الشَّهَوَاتِ، وَكَرِهُوا مَشَاقَّ التَّكَالِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ عَلَى الْأَمْرِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: قَالَ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جِئْتُكُمْ، بِتَاءِ المتكلم وأبي جعفر، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَأَبُو شَيْخٍ الْهُنَائِيُّ، وَخَالِدٌ: جِئْنَاكُمْ، بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَالَ، أَوْ فِي قُلْ، لِلرَّسُولِ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ: أَتَتَّبِعُونَ آبَاءَكُمْ، وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِدِينٍ أَهْدَى مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؟ وَهَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ، حَيْثُ يُقَلِّدُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ فِي الدَّلَائِلِ.
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ، أَنْتَ وَالرُّسُلُ قَبْلَكَ. غَلَبَ الْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بِالْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجَلَاءِ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَنْ كَذَّبَكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَالَ: ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى النَّذِيرِ، وَبَاقِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُلْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا لَيْسَتْ بِأَمْرٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّذِيرُ. وَلَوْ: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى: إِنْ، كَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَوْ إِنْ جِئْتُكُمْ بِأَبْيَنَ وَأَوْضَحَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، يَصْحَبُكُمْ لِجَاجُكُمْ وَتَقْلِيدُكُمْ، فَأَجَابَ الْكُفَّارُ حِينَئِذٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِأَنْبِيَائِهَا، كَمَا كَذَّبَتْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بل الظَّاهِرُ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: وَذَكِّرِ الْعَرَبَ بِحَالِ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى، وَنَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ هُزُؤًا لَهُمْ، لِيَكُونَ لَهُمْ رُجُوعٌ إِلَى دِينِ جَدِّهِمْ، إِذْ كَانَ أَشْرَفَ آبَائِهِمْ وَالْمُجْمَعَ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَلِّدْ أَبَاهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَقْتَدُوا بِهِ فِي تَرْكِ تَقْلِيدِ آبَائِكُمُ الْأَقْرَبِينَ، وَتَرْجِعُوا إِلَى النَّظَرِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
بَرَاءٌ، مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُذَكَّرُ وَمُقَابِلُهُمَا، يُقَالُ: نَحْنُ الْبَرَاءُ مِنْكَ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَالِيَةِ. وَقَرَأَ الزَّعْفَرَانِيُّ والقورصي، عن أبي جعفر وَابْنُ الْمَنَاذِرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ: بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْأَعْمَشُ: بَرِيءٌ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ وَشَيْخَيْهِ، وَيُجْمَعُ وَيُؤَنَّثُ، وَهَذَا نَحْوُ: طَوِيلٍ وَطِوَالٍ، وَكَرِيمٍ وَكِرَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: إِنِّي، بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ دُونَ نُونِ الْوِقَايَةِ وَالْجُمْهُورُ: إِنَّنِي، بِنُونَيْنِ، الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إِذْ كَانُوا لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ أَصْنَامِهِمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يُشْرِكُونَ أَصْنَامَهُمْ مَعَهُ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَالَّذِي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَإِذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، كَانَتْ مَا شَامِلَةً مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الْمَجْرُورِ بِمَنْ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا مِنَ الَّذِي. وَأَنْ تَكُونَ إِلَّا صِفَةً
367
بِمَعْنَى: غَيْرٍ، عَلَى أَنَّ مَا فِي مَا تَعْبُدُونَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ تَقْدِيرُهُ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِنْ آلِهَةٍ تَعْبُدُونَهَا غَيْرَ الَّذِي فَطَرَنِي، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «١». انْتَهَى. وَوَجْهُ الْبَدَلِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمُوجَبِ مِنَ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ مَا بَعْدَ إِلَّا لِتَفْرِيغِ الْعَامِلِ لَهُ؟ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ، جُمْلَةٌ مُوجَبَةٌ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُفَرَّغَ الْعَامِلُ فِيهَا لِلَّذِي هُوَ بَرِيءٌ لِمَا بَعْدَ إِلَّا. وَعَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ: كَوْنُ بَرِيءٌ، فِيهِ مَعْنَى الِانْتِفَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُوجَبٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّغَ لِمَا بَعْدَ إِلَّا. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، فَلَمْ يُبْقِهَا مَوْصُولَةً، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِلَّا لَا تَكُونُ صِفَةً إِلَّا لِنَكِرَةٍ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ. مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَالَ: تُوصَفُ بِهَا النَّكِرَةُ وَالْمَعْرِفَةُ، فَعَلَى هَذَا تَبْقَى مَا مَوْصُولَةً، وَيَكُونُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَجَعْلُهُ فَطَرَنِي فِي صِلَةِ الَّذِي. تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ.
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ: أَيْ يُدِيمُ هِدَايَتِي، وَفِي مَكَانٍ آخَرَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ «٢»، فَهُوَ هَادِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْحَالِ وَالضَّمِيرُ فِي جَعَلَهَا الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ عَلَى اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «٣»، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ «٤»، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «٥». وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: كِلْمَةً، بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وقرىء: فِي عَقْبِهِ، بِسُكُونِ الْقَافِ، أي في ذريته. وقرىء: فِي عَاقِبِهِ، أَيْ مِنْ عَقِبِهِ، أَيْ خَلْفِهِ.
فَلَا يَزَالُ فِيهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِهِ. لَعَلَّهُمْ: أَيْ لَعَلَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ يَرْجِعُ بِدُعَاءِ مَنْ وَحَّدَ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ مَتَّعْتُ، بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ لِقُرَيْشٍ وَمَنْ كَانَ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْعَرَبِ. لَمَّا قَالَ: فِي عَقِبِهِ، قَالَ تَعَالَى:
لَكِنْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ تُعَقَّبُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فِيهِمْ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: بَلْ مَتَّعْتَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَرَوَاهَا يَعْقُوبُ عَنْ نَافِعٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ:
وَهِيَ مِنْ مُنَاجَاةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ مُنَاجَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، أي:
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٢.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٧٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٨. [.....]
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٣١.
(٥) سورة الحج: ٢٢/ ٧٨.
368
قَالَ يَا رَبِّ بَلْ مَتَّعْتَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَتَّعْنَا، بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَهِيَ تُعَضِّدُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ.
حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ: بَلْ مَتَّعْتَ، بِفَتْحِ التَّاءِ؟ قُلْتُ: كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَرَضَ عَلَى ذَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَقَالَ: بَلْ مَتَّعْتُهُمْ بِمَا مَتَّعْتُهُمْ بِهِ مِنْ طُولِ الْعُمُرِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ، حَتَّى شَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْإِطْنَابَ فِي تَعْيِيرِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا مَتَّعَهُمْ بِزِيَادَةِ النِّعَمِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ الشُّكْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، لَا أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ وَيَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، فَمِثَالُهُ: أَنْ يَشْكُوَ الرَّجُلُ إِسَاءَةَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: أَنْتَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ بِمَعْرُوفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَوْبِيخُ الْمُسِيءِ لَا تَقْبِيحُ فِعْلِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلَ مَجِيءَ الْحَقِّ وَالرَّسُولِ غَايَةً لِلتَّمْتِيعِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ قَوْلَهُ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ، فَمَا طَرِيقَةُ هَذَا النَّظْمِ وَمُؤَدَّاهُ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالتَّمْتِيعِ: مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُمْ بِالِاسْتِمْتَاعِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ. فَقَالَ عَزَّ وَعَلَا: بَلِ اشْتَغَلُوا عَنِ التَّوْحِيدِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، فَخَيَّلَ بِهَذِهِ الْغَايَةِ أَنَّهُمْ تَنَبَّهُوا عِنْدَهَا عَنْ غَفْلَتِهِمْ لِاقْتِضَائِهَا التَّنَبُّهَ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ قِصَّتَهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ، جَاءُوا بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ غَفْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنْ ضَمُّوا إِلَى شِرْكِهِمْ مُعَانَدَةَ الْحَقِّ، وَمُكَابَرَةَ الرَّسُولِ وَمُعَادَاتَهُ، وَالِاسْتِخْفَافَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، وَالْإِصْرَارَ عَلَى أَفْعَالِ الْكَفَرَةِ، وَالِاحْتِكَامَ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ فِي تَخَيُّرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، وَهِيَ الْغَايَةُ فِي تَشْوِيهِ صُورَةِ أَمْرِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ لَكِنْ فِيهِ إِسْهَابٌ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَقَالُوا، لِقُرَيْشٍ، كَانُوا قَدِ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا، فَاسْتَفَاضَ عِنْدَهُمْ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَدْفَعٌ، نَاقَضُوا فِيمَا يَخُصُّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لِمَ كَانَ مُحَمَّدًا، وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ يُنَزَّلُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟ أَشَارُوا إِلَى مَنْ عَظُمَ قَدْرُهُ بِالسِّنِّ وَالْقِدَمِ وَالْجَاهِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ. وقرىء: عَلَى رَجُلٍ، بِسُكُونِ الْجِيمِ. مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ: أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ. وَقِيلَ: مِنْ رَجُلِ الْقَرْيَتَيْنِ، وَهُمَا مَكَّةُ وَالطَّائِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي مِنْ مَكَّةَ:
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَمِنَ الطَّائِفِ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُرْوَةُ بْنُ
369
مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فَخْذٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا ادَّعَاهُ، وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يُسَمَّى رَيْحَانَةَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَزَلَ عَلَيَّ أَوْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، يَعْنِي عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا مَسْعُودٍ.
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ فِيهِ تَوْبِيخٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ جَهْلِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: عَلَى اخْتِيَارِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ تُقْسَمُ الْفَضَائِلُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ فِي إِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ: رَحْمَةِ رَبِّكَ، تَشْرِيفٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَكَ لَيْسَتْ إِلَّا مِنْ رَبِّكَ الْمُصْلِحِ لِحَالِكَ وَالْمُرَبِّيكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَ الْمَعِيشَةَ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا قَسَمَهُ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْفَانِي، فَكَيْفَ لَا يَتَوَلَّى الْأَمْرَ الْخَطِيرَ، وَهُوَ إِرْسَالُ مَنْ يَشَاءُ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَتَخَيَّرُوا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، بَلْ أَنْتُمْ عَاجِزُونَ عَنْ تَدْبِيرِ أُمُورِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَعِيشَتَهُمْ، عَلَى الْإِفْرَادِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسُفْيَانُ: مَعَائِشَهُمْ، عَلَى الْجَمْعِ. وَالْجُمْهُورُ: سُخْرِيًّا، بِضَمِّ السِّينِ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مِنَ التَّسْخِيرِ، بِمَعْنَى: الِاسْتِعْبَادِ وَالِاسْتِخْدَامِ، لِيَرْتَفِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَصِلُوا إِلَى مَنَافِعِهِمْ. وَلَوْ تَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ أَشْغَالِهِ بِنَفْسِهِ، مَا أَطَاقَ ذَلِكَ وَضَاعَ وَهَلَكَ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سُخْرِيًّا هُنَا مِنَ الْهُزْءِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ يَهْزَأُ الْغَنِيُّ بِالْفَقِيرِ.
وَفِي قَوْلِهِ: نَحْنُ قَسَمْنا، تَزْهِيدٌ فِي الْإِكْبَابِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَهَوْنٌ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَاضَلْنَا بَيْنَهُمْ، فَمَنْ رئيس ومرؤوس. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَلْقَى ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، قَلِيلَ الْحِيلَةِ، غَنِيَّ اللِّسَانِ، وَهُوَ مَبْسُوطٌ لَهُ وَتَلْقَى شَدِيدَ الْحِيلَةِ، بَسِيطَ اللِّسَانِ، وَهُوَ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحْمَةُ اللَّهِ:
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ بُؤْسُ الْفَقِيرِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ
وَرَحْمَةُ رَبِّكَ: قِيلَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ وَالْإِيمَانُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: الْجَنَّةُ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُ هَؤُلَاءِ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَحْقِيرٌ لِلدُّنْيَا وَمَا جُمِعَ فِيهَا مِنْ مَتَاعِهَا.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ
370
يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ.
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ وَلَوْلَا أَنْ يَرْغَبَ النَّاسُ فِي الكفر، إذ رَأَوُا الْكَافِرَ فِي سَعَةٍ، وَيَصِيرُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: لَأَعْطَيْنَاهُمْ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ تَعَالَى اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يُغْنِيَ وَيُفْقِرَ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي: لِمَنْ يَكْفُرُ، لَامُ الْمِلْكِ، وَفِي: لِبُيُوتِهِمْ، لَامُ تَخْصِيصٍ. كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْكِسَاءُ لِزَيْدٍ لِدَابَّتِهِ، أَيْ هُوَ لِدَابَّتِهِ حِلْسٌ وَلِزَيْدٍ مِلْكٌ، انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ، فَلَا يُمْكِنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَدَلٌ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الثَّانِيَةُ إِلَّا بِمَعْنَى اللَّامِ الْأُولَى. أَمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الْمَدْلُولُ، فَلَا وَاللَّامُ فِي كِلَيْهِمَا لِلتَّخْصِيصِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَا بِمَنْزِلَةِ اللَّامَيْنِ فِي قَوْلِكَ: وَهَبْتُ لَهُ ثُوبًا لِقَمِيصِهِ.
انْتَهَى، وَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَيَجُوزُ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُقُفًا، بِضَمَّتَيْنِ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِضَمٍّ وَسُكُونٍ، وَهُمَا جَمْعُ سَقْفٍ، لُغَةُ تَمِيمٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو:
بِفَتْحِ السِّينِ وَالسُّكُونِ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَالَ الفراء: جمع سقيفة، وقرىء بِفَتْحَتَيْنِ، كَأَنَّهُ لُغَةٌ فِي سقف وقرىء: سُقُوفًا، جَمْعًا عَلَى فُعُولٍ نَحْوَ: كَعْبٍ وَكُعُوبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَمَعَارِجَ جَمْعَ مَعْرَجٍ، وَطَلْحَةُ: وَمَعَارِيجَ جَمْعَ مِعْرَاجٍ، وَهِيَ الْمَصَاعِدُ إِلَى الْعَلَالِي عَلَيْهَا، أَيْ يَعْلُونَ السُّطُوحَ، كَمَا قَالَ: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ «١». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وسررا، بضم السين وقرىء بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ تَمِيمٍ وَبَعْضِ كَلْبٍ، وَذَلِكَ فِي جَمْعِ فَعِيلٍ الْمُضَعَّفِ إِذَا كَانَ اسْمًا بِاتِّفَاقٍ وَصِفَةً نَحْوَ: ثَوْبٌ جَدِيدٌ، وَثِيَابٌ جُدُدٌ، بِاخْتِلَافٍ بَيْنَ النُّحَاةِ.
وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَعَاطِيفُ عَلَى قَوْلِهِ: سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تُوصَفَ الْمَعَاطِيفُ بِكَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُقُوفًا وَمَصَاعِدَ وَأَبْوَابًا وَسُرُرًا، كُلَّهَا مِنْ فِضَّةٍ. انْتَهَى، كَأَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاكَ الْمَعَاطِيفِ فِي وَصْفِ مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ وَزُخْرُفًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ: سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَزُخْرُفٍ، يَعْنِي: بَعْضَهَا من فضة
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٩٧.
371
وَبَعْضَهَا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَصَبَ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ فِضَّةٍ. انْتَهَى. وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ هُنَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ فَإِنَّهَا مِنْ أَحَبِّ الزِّينَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ».
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحَسَنُ أَحْمَرُ، وَالشَّهَوَاتُ تَتْبَعُهُ. انْتَهَى. قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِنَا:
وَصَبَغْتَ دِرْعَكَ مِنْ دِمَاءِ كُمَاتِهِمْ لَمَّا رَأَيْتَ الْحَسَنَ يَلْبَسُ أَحْمَرًا
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الزُّخْرُفُ: أَثَاثُ الْبَيْتِ، وَمَا يُتَّخَذُ لَهُ مِنَ السُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النُّقُوشُ، وَقِيلَ: التَّزَاوِيقُ، كَالنَّقْشِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَا، بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: هِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالنَّفْيِ، وَمَا: زَائِدَةٌ، وَمَتَاعُ:
خَبَرُ كُلُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَعِيسَى، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: لَمَّا، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَإِنْ: نَافِيَةٌ، وَلَمَّا: بِمَعْنَى إِلَّا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: لَمَّا، بِكَسْرِ اللَّامِ، وَخَرَّجُوهُ عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي هُوَ مَتَاعٌ كَقَوْلِهِ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ «١». وَإِنْ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَكُلُّ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فِي الْمَجْرُورِ، أَيْ: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ، أَوْ لَمُسْتَقِرٌّ الَّذِي هُوَ مَتَاعٌ، وَمِنْ حَيْثُ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، كَانَ الْإِتْيَانُ بِاللَّامِ هُوَ الْوَجْهُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ لَكُمَا مَتَاعٌ، لَكِنَّهُ قَدْ تُحْذَفُ هَذِهِ اللَّامُ إِذَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، فَلَا يَجُرُّ إِلَى ذِكْرِ اللَّامِ الْفَارِقَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَنَحْنُ أُبَاةُ الضَّيْمِ مِنْ آل مالك وإن مالك كَانَتْ كِرَامَ الْمَعَادِنِ
يُرِيدُ: لَكَانَتْ، وَلَكِنَّهُ حُذِفَ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ فِي أَنْ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، لِأَنَّ صَدْرَ الْبَيْتِ يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ، وَتُعَيَّنُ إِنْ لِكَوْنِهَا الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ:
أَيْ وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى. وَقَرَأَ: وَمَنْ يَعْشُ، بِضَمِّ الشِّينِ، أَيْ يَتَعَامَ وَيَتَجَاهَلْ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ يَعْرِفُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: يُقِلَّ نَظَرَهُ فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَيُغْمِضْ جُفُونَهُ عَنِ النَّظَرِ فِي: ذِكْرِ الرَّحْمنِ. وَالذِّكْرُ هُنَا، يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ يَعْشُ عَنْ أَنْ يَذْكُرَ الرَّحْمَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فِيمَا ذَكَّرَ عِبَادَهُ، فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. انْتَهَى، كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالذِّكْرِ: التَّذْكِيرَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ الْبَصْرِيُّ: وَمَنْ يَعْشَ، بِفَتْحِ الشِّينِ، أَيْ يَعْمَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، كقوله:
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٤.
372
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ «١». وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَعْشُو بِالْوَاوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنْ مِنْ مَوْصُولَةٌ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَحَقُّ هَذَا الْقَارِئِ أَنْ يَرْفَعَ نُقَيِّضُ. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، إِذْ تَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَنْ شُرْطِيَّةً، وَيَعْشُو مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ تَقْدِيرًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَخْفَشُ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ، وَيَحْذِفُونَ حُرُوفَ الْعِلَّةِ لِلْجَازِمِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النُّحَاةِ إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الشِّعْرِ، لَا فِي الْكَلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً وَالْجَزْمُ بِسَبَبِهَا لِلْمَوْصُولِ بِاسْمِ الشَّرْطِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَسْمُوعًا فِي الَّذِي، وَهُوَ لَمْ يَكُنِ اسْمَ شَرْطٍ قَطُّ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِيمَا اسْتُعْمِلَ مَوْصُولًا وَشَرْطًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا تَحْفِرَنَّ بِئْرًا تُرِيدُ أَخًا بِهَا فَإِنَّكَ فِيهَا أَنْتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ
كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعَ
أَنْشَدَهُمَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ: أَنَّهُ كَمَا شَبَّهَ الْمَوْصُولَ بِاسْمِ الشَّرْطِ فَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، فَكَذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهِ فَيَنْجَزِمُ الْخَبَرُ، إِلَّا أَنَّ دُخُولَ الْفَاءِ مُنْقَاسٌ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مُسَبَّبًا عَنِ الصِّلَةِ بِشُرُوطِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهَذَا لَا يَنْفِيهِ الْبَصْرِيُّونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُقَيِّضْ، بِالنُّونِ
وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ عَنْهُ
وَحَمَّادٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَعِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَعَنْ عَاصِمٍ، وَالْعَلِيمِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِالْيَاءِ، أَيْ يُقَيِّضِ الرَّحْمَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: يُقَيَّضْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. لَهُ شَيْطَانٌ: بِالرَّفْعِ، أَيْ يُيَسَّرْ لَهُ شَيْطَانٌ وَيُعْدَلْهُ، وَهَذَا عِقَابٌ عَلَى الْكُفْرِ بالحتم وَعَدَمِ الْفَلَاحِ. كَمَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالتَّزَايُدِ مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَخْذُلُهُ، وَيَحِلُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ، كَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ «٢» أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ «٣». انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على من، على الْمَعْنَى أَعَادَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَى الْمَعْنَى. وَالضَّمِيرُ فِي يَصُدُّونَهُمْ عَائِدٌ عَلَى شَيْطَانٌ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا، لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ فِي جِنْسِهِ، وَلِكُلِّ عَاشٍ شَيْطَانٌ قَرِينٌ، فَجَازَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ، عَائِدٌ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَفِي: لَيَصُدُّونَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ.
انْتَهَى. وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ فِي وَإِنَّهُمْ، وَفِي لَيَصُدُّونَهُمْ، وَفِي ويحسبون،
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨- ١٧١.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٢٥.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٨٣.
373
لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّ الْكَلَامَ: وَإِنَّ الْعُشَاةَ لَيَصُدُّونَهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنِ السَّبِيلِ، أَيْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالْفَوْزِ، وَيَحْسَبُونَ: أَيِ الكفار.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْحَرَمِيَّانِ: حَتَّى إذا جاآنا، عَلَى التَّثْنِيَةِ، أَيِ الْعَاشِي وَالْقَرِينُ إِعَادَةً عَلَى لَفْظِ مَنْ وَالشَّيْطَانِ الْقَرِينِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَالِحًا لِلْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعِيسَى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَخَوَانِ: جَاءَنَا عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى لَفْظِ مَنْ أَعَادَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ أَفْرَدَ عَلَى اللَّفْظِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً «١» : أَفْرَدَ أَوَّلًا ثُمَّ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ، ثُمَّ أَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ: لَهُ رِزْقاً. رُوِيَ أَنَّهُمَا يُجْعَلَانِ يَوْمَ الْبَعْثِ فِي سِلْسِلَةٍ، فَلَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يُصَيِّرَهُمَا اللَّهُ إِلَى النَّارِ قَالَ، أَيِ الْكَافِرُ للشيطان: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ. تَمَنَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا يَصُدَّهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ تَمَنَّى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ جَوَابُ إِذَا الَّتِي لِلِاسْتِقْبَالِ، أَيْ مَشْرِقَيِ الشَّمْسِ:
مَشْرِقِهَا فِي أَقْصَرِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَمَشْرِقِهَا فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ، أَوِ بُعْدَ الْمَشْرِقِ، أَوِ الْمَغْرِبِ غَلَبَ الْمَشْرِقُ فَثَنَّاهُمَا، كَمَا قَالُوا: الْعُمَرَانِ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَالْقَمَرَانِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْمَوْصِلَانِ فِي الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَالزَّهْدَمَانِ فِي زَهْدَمَ وَكَرْدَمَ، وَالْعَجَّاجَانِ فِي رُؤْبَةَ وَالْعَجَّاجِ، وَالْأَبَوَانِ فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا بُعْدُ الْمَشْرِقَيْنِ؟ قُلْتُ: تَبَاعُدُهُمَا، وَالْأَصْلُ بُعْدُ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَالْمَغْرِبِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَلَمَّا غَلَبَ وجمع الْمُفْتَرِقَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ أَضَافَ الْبُعْدَ إِلَيْهِمَا. انْتَهَى. وَقِيلَ: بُعْدُ الْمَشْرِقَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبَيْنِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشْرِقَيْنِ. وَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ يُرِيدُ مَشْرِقَيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَيْهِمَا. فَبِئْسَ الْقَرِينُ:
مُبَالَغَةٌ مِنْهُ فِي ذَمِّ قَرِينِهِ، إِذَا كَانَ سَبَبَ إِيرَادِهِ النَّارَ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَنْتَ. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ: حِكَايَةُ حَالٍ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ مَقَالَةٌ مُوحِشَةٌ حَرَمَتْهُمْ رُوحَ التَّأَسِّي، لِأَنَّهُ وَقَّفَهُمْ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّأَسِّي لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ وَطُولِ العذاب واستمراره مُدَّتِهِ، إِذِ التَّأَسِّي رَاحَةُ كُلِّ مُصَابٍ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَغْلَبِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الخنساء:
(١) سورة الطلاق: ٦٥/ ١١.
374
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
فَهَذَا التَّأَسِّي قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ قَتْلِ النَّفْسِ، فَنَفَى اللَّهُ عَنْهُمُ الِانْتِفَاعَ بِالتَّأَسِّي وَفِي ذَلِكَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ وَيَأْسٌ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ يَنْفَعَكُمْ أَنَّكُمْ وَمَعْمُولَاهَا، أَيْ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ أَنْ لَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمُ اشْتِرَاكَكُمْ فِي الْعَذَابِ. وَإِذَا كَانَ الْفَاعِلُ غَيْرَ أَنَّ، وَهُوَ ضَمِيرٌ، يَعُودُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، أَيْ يَتَمَنَّى مُبَاعَدَةَ الْقَرِينِ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ، وَيَكُونُ أَنَّكُمْ تَعْلِيلًا، أَيْ لِاشْتِرَاكِكُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي سَبَبِهِ، وَهُوَ الْكُفْرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ الْمَعْنَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ الِاعْتِذَارُ وَالنَّدَمُ، لِأَنَّكُمْ وَقُرَنَاءَكُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ، كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي الْكُفْرَانِ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى كَوْنِ الْفَاعِلِ غَيْرَ أَنَّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، لَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ نَفْيَ التَّأَسِّي. وقرىء: إِنَّكُمْ بِالْكَسْرِ، فَدَلَّ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاعِلِ، وَيُقَوِّيهِ حَمْلُ أَنَّكُمْ بِالْفَتْحِ عَلَى التَّعْلِيلِ. وَالْيَوْمَ وَإِذْ ظَرْفَانِ، فَالْيَوْمَ ظَرْفُ حَالٍ، وَإِذْ ظَرْفُ مَاضٍ. أَمَّا ظَرْفُ الْحَالِ فَقَدْ يَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، أَوْ لِتَجَوُّزٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ «١»، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
سَأَشْقَى الْآنَ إِذْ بَلَغْتُ مُنَاهَا وَأَمَّا إِذْ فَمَاضٍ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذْ بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ. انْتَهَى.
وَحُمِلَ إِذْ ظَلَمْتُمْ عَلَى مَعْنَى إِذْ تَبَيَّنَ وَوَضَحَ ظُلْمُكُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ وَلَا لَكُمْ شُبْهَةٌ فِي أَنَّكُمْ كُنْتُمْ ظَالِمِينَ، وَنَظِيرُهُ:
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أَيْ تَبَيَّنَ أَنِّي وَلَدُ كَرِيمَةٍ. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَدَلُ عَلَى بَقَاءِ إِذْ عَلَى مَوْضُوعِهَا مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفًا لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ. فَإِنْ جُعِلَتْ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ جَازَ، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى الْبَدَلِ، أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ ابْنِ جِنِّي. قَالَ فِي مُسَاءَلَتِهِ أَبَا عَلِيٍّ: رَاجَعْتُهُ فِيهَا مِرَارًا، وَآخِرُ مَا حَصَلَ مِنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مُتَّصِلَتَانِ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، فَيَكُونُ إِذْ بَدَلًا مِنَ الْيَوْمِ، حَتَّى كَأَنَّهَا مُسْتَقْبَلَةٌ، أَوْ كَأَنَّ الْيَوْمَ مَاضٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقِيلَ: إِذْ لِلتَّعْلِيلِ حَرْفًا بِمَعْنَى إِنْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْيَوْمَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِيَنْفَعَكُمْ، وَلَا يَجُوزُ تَعَلُّقُ إِذْ بِهِ، لِأَنَّهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ، يَعْنِي مُتَغَايِرَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَغَايُرًا
(١) سورة الجن: ٧٢/ ٩.
375
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَا، قَالَ: فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْأَخِيرِ، يَعْنِي لِذَلِكَ التَّغَايُرِ مِنْ كَوْنِ هَذَا ظَرْفَ حَالٍ وَهَذَا ظَرْفَ مُضِيٍّ. قَالَ: وَلَكِنْ تَكُونُ إِذْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اجْتِمَاعُكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَفَاعِلُ يَنْفَعَكُمُ الِاشْتِرَاكُ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ظُلْمُكُمْ، أَوْ جَحْدُكُمْ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِذْ، لَا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْمَعُ ذَلِكَ، فَلَا تَزْدَادُ إِلَّا عُتُوًّا وَاعْتِرَاضًا، وَكَانَ هُوَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ لَهُمْ. خَاطَبَهُ تَعَالَى تَسْلِيَةً لَهُ بِاسْتِفْهَامِ تَعْجِيبٍ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ صُمٌّ، فَلَا يُمْكِنُكَ إِسْمَاعُهُمْ، عُمْيٌ حَيَارَى، فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ حَوَاسُّهُمْ لَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا الِانْتِفَاعَ الَّذِي يُجْرِي خَلَاصَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، جُعِلُوا صُمًّا عُمْيًا حَيَارَى، وَيُرِيدُ بِهِمْ قُرَيْشًا، فَهُمْ جَامِعُو الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: إِنْ قَبَضْنَاكَ قَبْلَ نَصْرِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «١»، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ كَيَوْمِ بَدْرٍ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ: أَيْ هُمْ فِي قَبْضَتِنَا، لَا يَفُوتُونَنَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْمُتَوَعَّدُ هُمُ الْأُمَّةُ، أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا انْتَقَمَ مِنْ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَيَاتِهِمْ، فَوَقَعَتِ النِّقْمَةُ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْعَيْنِ الْحَادِثَةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، مَعَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. وقرىء: نُرِينَكَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَلَمَّا رَدَّدَ تَعَالَى بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَمْسِكَ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَبَعْضُ قُرَّاءِ الشَّامِ:
بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالضَّحَّاكُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَنَّهُ، أَيْ وَإِنَّ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ: أَيْ شَرَفٌ، حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَبِلِسَانِهِمْ، جُعِلَ تَبَعًا لَهُمْ. وَالْقَوْمُ عَلَى هَذَا قُرَيْشٌ ثُمَّ الْعَرَبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ.
كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ، فَإِذَا قَالُوا لَهُ: لِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَكَ؟ سَكَتَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «لِقُرَيْشٍ»
، فَكَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَقْبَلُ حَتَّى قَبِلَتْهُ الْأَنْصَارُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَوْمُ هُنَا أُمَّتُهُ، وَالْمَعْنَى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْغَبُ فِي الثَّنَاءِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَرْغُوبًا فِيهِ، مَا امْتَنَّ بِهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. وَقَالَ إبراهيم عليه السلام:
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٧٧.
376
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «١». وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيَاةِ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ أَثَرَ الْحَيَاةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْحَيِّ، وَأَثَرَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ يَحْصُلُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ. انْتَهَى. وَقَالَ ابن دريد:
وإنما المراد حَدِيثٌ بَعْدَهُ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وعا
وَقَالَ الْآخَرُ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَاسِنُهَا طَيِّبُ مَا يَبْقَى مِنَ الْخَبَرِ
وَذُكِرَ أَنَّ هَلَاوُنَ، مَلِكَ التَّتَرِ، سَأَلَ أَصْحَابَهُ: مَنِ الْمَلِكُ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ الَّذِي دَوَّخْتَ الْبِلَادَ وَمَلَكْتَ الْأَرْضَ وَطَاعَتْ لَكَ الْمُلُوكُ. فَقَالَ: لَا الْمَلِكُ هَذَا، وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذْ ذَاكَ يُؤَذِّنُ، هَذَا الَّذِي لَهُ أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، قَدْ مَاتَ وَهُوَ يُذْكَرُ عَلَى الْمَآذِنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؟ يُرِيدُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، قَالَ الْحَسَنُ عَنْ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مَنْ كَذَّبَ بِهِ يسأل سؤال توبيخ. وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، قِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ،
وَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، حِينَ أَمَّ بالأنبياء: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا، فَلَمْ يَسْأَلْهُمْ، إِذْ كَانَ أَثْبَتَ يَقِينًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَكٍّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ
وَفِي الْأَثَرِ أَنَّ مِيكَالَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: هَلْ سَأَلَ مُحَمَّدٌ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: هُوَ أَعْظَمُ يَقِينًا وَأَوْثَقُ إِيمَانًا مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَطَاءٌ: أَرَادَ وَاسْأَلْ أَتْبَاعَ مَنْ أَرْسَلْنَا وَحَمَلَةَ شَرَائِعِهِمْ، إِذْ يَسْتَحِيلُ سُؤَالُ الرُّسُلِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمْ إِنَّمَا يُخْبِرُونَهُ عَنْ كُتُبِ الرُّسُلِ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ، فَكَأَنَّهُ سَأَلَ الرُّسُلَ، وَالسُّؤَالُ الْوَاقِعُ مَجَازٌ عَنِ النَّظَرِ، حَيْثُ لَا يَصْلُحُ لِحَقِيقَتِهِ، كَثِيرٌ مِنْهُ مُسَاءَلَةَ الشُّعَرَاءِ الدِّيَارَ وَالْأَطْلَالَ، وَمِنْهُ: سَيِّدُ الْأَرْضِ مَنْ شَقَّ أَنْهَارَكَ، وَغَرَسَ أَشْجَارَكَ، وَجَنَى ثِمَارَكَ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تُجِبْكَ حِوَارًا أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا. فَالسُّؤَالُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ النَّظَرِ فِي أَدْيَانِهِمْ: هَلْ جَاءَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ قَطُّ فِي مِلَّةٍ مِنْ مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلسَّامِعِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْحَصَ عَنِ الدِّيَانَاتِ، فَقِيلَ لَهُ: اسْأَلْ أَيُّهَا النَّاظِرُ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ، أَجَاءَتْ رُسُلُهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ؟ فَإِنَّهُمْ يُخْبِرُونَكَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتُوا بِهِ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى:
وَاسْأَلْنِي، وَاسْأَلْنَا عَنْ مَنْ أَرْسَلَنَا، وَعَلَّقَ وَاسْأَلْ، فَارْتَفَعَ مَنْ، وَهُوَ اسم استفهام على
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٨٤.
377
الِابْتِدَاءِ، وَأَرْسَلْنَا خَبَرُهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِاسْأَلْ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، كَانَ سُؤَالُهُ: مَنْ أَرْسَلْتَ يَا رَبِّ قَبْلِي مِنْ رُسُلِكَ؟ أَجَعَلْتَ فِي رِسَالَتِهِ آلِهَةً تُعْبَدُ؟ ثُمَّ سَاقَ السُّؤَالَ فَحَكَى الْمَعْنَى، فَرَدَّ الْخِطَابَ إِلَى مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ، وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ، فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ.
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ طَعْنُ قُرَيْشٍ عَلَى الرَّسُولِ، وَاخْتِيَارُهُمْ أَنْ يُنَزَّلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَيْ فِي الْجَاهِ وَالْمَالِ وَذَكَرَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَتْبَعَهُ بِالْمُلْكِ وَالْمَالِ، فَفِرْعَوْنُ قُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَصَارَ فِرْعَوْنُ مَقْهُورًا مَعَ مُوسَى مُنْتَقِمًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا الْآيَةَ، ذَكَرَ وَقْتَهُ مُوسَى وَعِيسَى، وَهُمَا أَكْبَرُ أَتْبَاعًا مِمَّنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكُلٌّ جَاءَ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا جَاءَ أَبَدًا إِبَاحَةُ اتِّخَاذِ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا اتَّخَذَتْ قُرَيْشٌ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ قِصَّتِهِمَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَآيَاتُ مُوسَى هِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَتَى بِهَا. وَخَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ، وَهُمُ الْأَشْرَافُ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ تَبَعٌ لَهُمْ.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا، قَبْلَهُ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَطَالَبُوهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا، وَهِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَعَوْدُهَا عَصًا، وَإِخْرَاجُ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ نَيِّرَةً، وَعَوْدُهَا إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ، إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ، أَيْ فَاجَأَهُمُ الضَّحِكُ بِحَيْثُ لَمْ يُفَكِّرُوا وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا، بَلْ بِنَفْسِ مَا رَأَوْا ذَلِكَ ضَحِكُوا سُخْرِيَّةً وَاسْتِهْزَاءً، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَضْحَكُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُجَابَ لَمَّا بِإِذَا الْمُفَاجِأَةِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ فِعْلَ الْمُفَاجَأَةِ مَعَهَا مُقَدَّرٌ، وَهُوَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي مَحَلِّهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ:
فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ. انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ نَحْوِيًّا ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ، مِنْ أَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةَ تَكُونُ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ فَاجَأَ، بَلِ الْمَذَاهِبُ فِيهَا
378
ثَلَاثَةٌ: مَذْهَبٌ أَنَّهَا حَرْفٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَامِلٍ، وَمَذْهَبٌ أَنَّهَا ظَرْفُ مَكَانٍ، فَإِنْ صَرَّحَ بَعْدَ الِاسْمِ بَعْدَهَا بِخَبَرٍ لَهُ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ عَامِلًا فِيهَا نَحْوَ: خَرَجْتُ فَإِذَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَقَائِمٌ نَاصِبٌ لِإِذَا، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: خَرَجْتُ فَفِي الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجْتُ فِيهِ زَيْدٌ قَائِمٌ وَمَذْهَبُ أَنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْخَبَرُ أَيْضًا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي خَرَجْتُ فِيهِ زَيْدٌ قَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ الِاسْمِ خَبَرٌ، أَوْ ذُكِرَ اسْمٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، كَانَتْ إِذَا خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ. فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ جُثَّةً، وَقُلْنَا إِذَا ظَرْفُ مَكَانٍ، كَانَ الْأَمْرُ وَاضِحًا وَإِنْ قُلْنَا ظَرْفُ زَمَانٍ، كَانَ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ فَفِي الزَّمَانِ حُضُورُ زَيْدٍ. وَمَا ادَّعَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلِ الْمُفَاجَأَةِ، لَمْ يَنْطِقْ بِهِ وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ الْمُفَاجَأَةُ الَّتِي ادَّعَاهَا لَا يَدُلُّ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، بَلِ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفَاجَأَةَ تَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ إِذَا.
تَقُولُ: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ، وَالْمَعْنَى: فَفَاجَأَنِي الْأَسَدُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى: فَفَاجَأْتُ الْأَسَدَ.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ جُمْلَةِ التِّسْعِ، فَمَا أُخْتُهَا الَّتِي فُضِّلَتْ عَلَيْهَا فِي الْكِبَرِ مِنْ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ؟
قُلْتُ: أُخْتُهَا الَّتِي هِيَ آيَةٌ مِثْلُهَا، وَهَذِهِ صِفَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. قُلْتُ: أُخْتُهَا الَّتِي هِيَ آيَةٌ مِثْلُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ وَالِاسْتِقْرَاءِ، وَاحِدَةٌ بَعْدَ وَاحِدَةٍ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ أَفْضَلُ رَجُلٍ رَأَيْتُهُ، تُرِيدُ تَفْضِيلَهُ عَلَى أُمَّةِ الرِّجَالِ الَّذِينَ رَأَيْتَهُمْ إِذَا قَدَّرْتَهُمْ رَجُلًا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَا مِنْ آيَةٍ مِنَ التِّسْعِ إِلَّا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَتَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَاضِلَةً وَمَفْضُولَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، قُلْتُ:
الْغَرَضُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُنَّ مَوْصُوفَاتٌ بِالْكِبَرِ، لَا يَكَدْنَ يَتَفَاوَتْنَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَلَاقَى فِي الْفَضْلِ وَتَتَقَارَبُ مَنَازِلُهُمْ فِيهِ التَّقَارُبُ الْيَسِيرُ، إِنْ تَخْتَلِفْ آرَاءُ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا فَيُفَضِّلُ بَعْضُهُمْ هَذَا وَبَعْضُهُمْ ذَاكَ، فَعَلَى هَذَا بَنَى النَّاسُ كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: رَأَيْتُ رِجَالًا بَعْضَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِيهَا، فَتَارَةً يُفَضِّلُ هَذَا، وَتَارَةً يُفَضِّلُ ذَاكَ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ:
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تقل لا قيت سَيِّدَهُمْ مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
وَقَدْ فاضلت الأنمارية بين الكلمة مِنْ بَنِيهَا ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا أَبْصَرْتُ مَرَاتِبَهُمْ مُتَدَانِيَةً قَلِيلَةَ التَّفَاوُتِ، ثَكِلْتُهُمْ إِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ، لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ طَوِيلٌ، مُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْوَصْفَ بِالْأَكْبَرِيَّةِ مَجَازٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاظِرِينَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ مَوْقِعِهَا فِي نُفُوسِهِمْ بِحِدَّةِ أَمْرِهَا
379
وَحُدُوثِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ آيَةً عَرَضَهَا مُوسَى، هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ آيَاتِهِ، ثُمَّ كُلُّ آيَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ تَقَعُ فَيَعْظُمُ عِنْدَهَا مَجِيئُهَا وَتَكْبُرُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَسُوا الَّتِي قَبْلَهَا، فَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَى إِنَّهَا تَعْفُو الْكُلُومُ وَإِنَّمَا يوكل بِالْأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا يَمْضِي
وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْآيَاتِ هُنَا الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ. انْتَهَى. وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ كِبَارِ الْآيَاتِ، وَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ مِنْ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَبْقَى فِي الْكَلَامِ تَعَارُضٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهَا شَيْءٌ، فَتَكُونَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَقِيلَ: الْأُولَى تَقْتَضِي عِلْمًا، وَالثَّانِيَةُ تَقْتَضِي عِلْمًا مُنْضَمًّا إِلَى عِلْمِ الْأُولَى، فَيَزْدَادُ الرُّجُوحُ. وَكَنَّى بِأُخْتِهَا: مُنَاسِبَتِهَا، تَقُولُ: هَذِهِ الذَّرَّةُ أُخْتُ هَذِهِ، أَيْ مُنَاسِبَتُهَا. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ: بِالسِّنِينَ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ «١» والطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ «٢»، وَذَلِكَ عِقَابٌ لَهُمْ، وَآيَاتٌ لِمُوسَى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَرَادَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ أَرَادَ رُجُوعَهُمْ لَكَانَ. قُلْتُ: إِرَادَتُهُ فِعْلَ غَيْرِهِ، لَيْسَ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ وَيَطْلُبَ مِنْهُ إِيجَادَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْقَسْرِ وُجِدَ، وَإِلَّا دَارَ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنِ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ لَمْ تَكُنْ قَسْرًا وَلَمْ يَخْتَارُوهُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَعَلَّهُمْ، تَرَجٍّ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ الْبَشَرِ وَظَنِّهِمْ.
وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ: أَيْ فِي كَشْفِ الْعَذَابِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خِطَابُ تَعْظِيمٍ، لِأَنَّ السِّحْرَ كَانَ عِلْمُ زَمَانِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمُ اسْتَصْحَبُوا لَهُ مَا كَانُوا يَدَّعُونَ بِهِ أَوَّلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ: إخبار مطابق مقصود، وَقِيلَ: بَلْ خِطَابُ اسْتِهْزَاءٍ وَانْتِقَاصٍ وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، أَيْ عَلَى زعمك، وقوله:
وإِنَّنا لَمُهْتَدُونَ: إخبار مطابق عَلَى شَرْطِ دُعَائِهِ، وَكَشْفِ الْعَذَابِ وَعَهْدٍ مَعْزُومٍ عَلَى نَكْثِهِ. أَلَا تَرَى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ؟ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جَارِيًا عَلَى أَكْثَرِ عَادَةِ النَّاسِ، إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ تَضَرَّعَ وَدَعَا، وَإِذَا كُشِفَ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى عَادَتِهِ الْأُولَى، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٠.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٣.
380
إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «١»، ثم إذا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ. وَقَوْلُهُ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنَّ دَعْوَتَكَ مُسْتَجَابَةٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَدَعَا مُوسَى، فَكُشِفَ فَلَمَّا كَشَفْنا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: يَنْكِثُونَ، بِكَسْرِ الْكَافِ.
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ: جَعَلَ الْقَوْمَ مَحَلًّا لِلنِّدَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَادَى عُظَمَاءَ الْقِبْطِ فِي مَحَلِّهِ الَّذِي هُوَ وَهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِتَنْتَشِرَ مَقَالَتُهُ فِي جَمِيعِ الْقِبْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ، فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ. وَسَبَبُ نِدَائِهِ ذَلِكَ، أَنَّهُ لَمَّا رَأَى إِجَابَةَ اللَّهِ دَعْوَةَ مُوسَى وَرَفْعَ الْعَذَابِ، خَافَ مَيْلَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، فَنَادَى: قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فَضْلَهُ عَلَى مُوسَى بِمُلْكِ مِصْرَ، وَهِيَ مِنْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ إِلَى أَسْوَانَ.
وَهذِهِ الْأَنْهارُ: أَيِ الْخُلْجَانُ الَّتِي تَجْرِي مِنَ النِّيلِ، وَأَعْظَمُهَا: نَهْرُ الْمَلِكِ، وَنَهْرُ طُولُونَ، وَنَهْرُ دِمْيَاطَ، وَنَهْرُ تِنِّيسَ. وَالْوَاوُ فِي وَهذِهِ الْأَنْهارُ وَاوُ الْحَالِ، وتجري خبر.
وهذه الأنهار صِفَةٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى مُلْكِ مِصْرَ، وَتَجْرِي حَالٌ. مِنْ تَحْتِي: أَيْ مِنْ تَحْتِ قَهْرِي وَمُلْكِي. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ جِنَانُهَا وَأَنْهَارُهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِ قَصْرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ سَرِيرٌ عَظِيمٌ، وَقَطَعَ مِنْ نِيلِ مِصْرَ قِطْعَةً قَسَّمَهَا أَنْهَارًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِ ذَلِكَ السَّرِيرِ. وَأَبْعَدَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ الْأَنْهَارَ بِالْقُوَّادِ وَالرُّؤَسَاءِ الْجَبَابِرَةِ، يَسِيرُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ. وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْأَمْوَالِ، يَعْرِفُهَا مِنْ تَحْتِ يَدِهِ. وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْخَيْلِ فَقِيلَ:
كَمَا سُمِّيَ الْفَرَسُ بَحْرًا يُسَمَّى نَهْرًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَقْرُبُ مِنْ تَفَاسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ.
أَفَلا تُبْصِرُونَ عَظَمَتِي وَقُدْرَتِي وَعَجْزِ مُوسَى؟ وَقَرَأَ مَهْدِيُّ بْنُ الصَّفِيرِ: يُبْصِرُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ ذَكَرَهُ فِي الْكَامِلِ لِلْهُذَلِيِّ، وَالسِّبَاعِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ، ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْتَ شِعْرِي! كَيْفَ ارْتَقَتْ إِلَى دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ هِمَّةُ مَنْ تَعَاظَمَ بِمُلْكِ مِصْرَ؟
وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ مَدَى عَظَمَتِهِ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِهَا فِي أَسْوَاقِ مِصْرَ وَأَزِقَّتِهَا، لِئَلَّا تَخْفَى تِلْكَ الْأُبَّهَةُ وَالْجَلَالَةُ عَلَى صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ حَتَّى يَتَرَبَّعَ فِي صُدُورِ الدَّهْمَاءِ مِقْدَارُ عِزَّتِهِ وَمَلَكُوتِهِ.
وَكَسَرَ نُونَ أَفَلا تُبْصِرُونَ، عِيسَى. وَعَنِ الرَّشِيدِ، أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَهَا قَالَ: لِأُوَلِّيَنَّهَا أَحْسَنَ عَبِيدِي، فَوَلَّاهَا الْخَصِيبَ، وَكَانَ عَلَى وُضُوئِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنَّهُ وَلِيَهَا فَخَرَجَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا شَارَفَهَا وَوَقَعَ عَلَيْهَا قَالَ: أَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي افْتَخَرَ بِهَا فِرْعَوْنُ حَتَّى قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ وَاللَّهِ لَهِيَ أَقَلُّ عِنْدِي مِنْ أَنْ أَدْخُلَهَا، فَثَنَى عِنَانَهُ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ، أَيْ بَلْ أَنَا خير. وهو إذا
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٦٥. [.....]
381
اسْتَفْهَمَ أَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ هُوَ ضَعِيفٌ؟ لَا يَكَادُ يُفْصِحُ عَنْ مَقْصُودِهِ إِذَا تَكَلَّمَ، وَهُوَ الْمَلِكُ الْمُتَحَكِّمُ فِيهِمْ، قَالُوا لَهُ: بِلَا شَكٍّ أَنْتَ خَيْرٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى بَلْ، فَيَكُونُ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَى إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّنْ ذَكَرَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وَصَوَّرْتَهَا أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَمْ هَذِهِ الْمُعَادِلَةُ: أَيْ أَمْ يُبْصِرُونَ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ حَقِيقِيٌّ أَنْ يُبْصَرَ عِنْدَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ مُوسَى. وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: أَمْ هَذِهِ مُتَّصِلَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ تُبْصِرُونَ؟ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ قَوْلَهُ: أَنَا خَيْرٌ مَوْضِعَ تُبْصِرُونَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: أَنْتَ خَيْرٌ، فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَرَاءُ، وَهَذَا مِنْ إِنْزَالِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ الْمُسَبِّبِ.
انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا، إِذِ الْمُعَادِلُ إِنَّمَا يَكُونُ مُقَابِلًا لِلسَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، كَانَ الْمُعَادِلُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، أَوْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، يَتَقَدَّرُ مِنْهَا فِعْلِيَّةٌ كَقَوْلِهِ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «١» ؟ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَمْ صَمَتُّمْ؟ وَهُنَا لَا يَتَقَدَّرُ مِنْهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، لِأَنَّ قَوْلُهُ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ؟ لَيْسَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ اسْمًا، كَانَ الْمُعَادِلُ اسْمًا، أَوْ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً يَتَقَدَّرُ مِنْهَا اسْمٌ، نَحْوُ قَوْلِهِ:
أَمُخْدَجُ الْيَدَيْنِ أَمْ أَتَمَّتِ فَأَتَمَّتْ مُعَادِلٌ لِلِاسْمِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَمْ مُتِمًّا؟ وَقِيلَ: حَذَفَ الْمُعَادِلَ بَعْدَ أَمْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: تُبْصِرُونَ، فَحَذَفَ تُبْصِرُونَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ أَمْ لَا، نَحْوُ: أَيَقُومُ زَيْدٌ أَمْ لَا؟ تَقْدِيرُهُ: أَمْ لَا يَقُومُ؟ وَأَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ لَا، أَيْ أَمْ لَا هُوَ عِنْدَكَ. فَأَمَّا حَذْفُهُ دُونَ لَا، فَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ حَذْفُ أَمْ وَالْمُعَادِلُ، وَهُوَ قَلِيلٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهَا سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
يُرِيدُ أَمْ غَيٌّ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ قَرَأَ: أَمَا أَنَا خَيْرٌ، دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى مَا النَّافِيَةِ فَأَفَادَتِ التَّقْدِيرَ. وَلا يَكادُ يُبِينُ: الْجُمْهُورُ، أَنَّهُ كَانَ بِلِسَانِهِ بَعْضُ شَيْءٍ مِنْ أَثَرِ الْجَمْرَةِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ كَانَ أَجَابَهُ فِي سُؤَالِهِ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «٢»، فَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ جَعَلَ انْتِفَاءَ الْإِبَانَةِ بِأَنَّهُ لَا يُبِينُ حُجَّتَهُ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِي، لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيضَاحِ الْمَعْنَى لِأَجْلِ كَلَامِهِ. وَقِيلَ: عَابَهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مُوسَى مِنَ الْخِسَّةِ أَيَّامَ كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ، فَنُسِبَ إِلَى مَا عَهِدَهُ مُبَالَغَةً فِي التعبير. وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ: وَلا يَكادُ يُبِينُ، كذب
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٩٣.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٢٧.
382
بَحْتٌ. أَلَا تَرَى إِلَى مُنَاظَرَتِهِ لَهُ وَرَدِّهِ عَلَيْهِ وَإِفْحَامِهِ بِالْحُجَّةِ؟ وَالْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كُلُّهُمْ بُلَغَاءُ.
وَقَرَأَ الْبَاقِرُ: يَبْيَنُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، مِنْ بَانَ إِذَا ظَهَرَ.
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا إِذَا سَوَّدُوا رَجُلًا، سَوَّرُوهُ سُوَارَيْنِ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ مِنْ ذَهَبٍ، عَلَامَةً لسودده. قَالَ فِرْعَوْنُ: هَلَا أَلْقَى رب موسى عليه أساورة مِنْ ذَهَبٍ إِنْ كَانَ صَادِقًا؟ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِلْقَاءِ مَقَالِيدِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِزَّةِ وَالْمُلْكِ، وَوَازَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَصَفَهُ بِالضَّعْفِ وَقِلَّةِ الْأَعْضَادِ.
فَاعْتَرَضَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ صَادِقًا، فَهَلَّا مَلَّكَهُ رَبُّهُ وَسَوَّرَهُ وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَارَهُ؟ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: فَلَوْلا أُلْقِيَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ أَسَاوِرَةً نَصْبًا وَالْجُمْهُورُ: أَسَاوِرَةٌ رَفْعًا، وَأُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: أَسَاوِيرُ، وَالْمُفْرَدُ إِسْوَارٌ بِمَعْنَى سُوَارٍ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ، كَهِيَ فِي زَنَادِقَةٍ، هِيَ عِوَضٌ مِنْ يَاءِ زَنَادِيقَ الْمُقَابِلَةِ لِيَاءِ زِنْدِيقٍ، وَهَذِهِ مُقَابِلَةٌ لِأَلِفِ أَسْوَارٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحَفْصٌ: أَسْوِرَةٌ، جَمْعَ سُوَارٍ، نَحْوُ: خِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَسَاوِرُ. وَرُوِيَتْ عَنْ أُبَيٍّ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ: أَيْ يَحْمُونَهُ وَيُقِيمُونَ حُجَّتَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُعِينُونَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُقَارِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَمْشُونَ مَعَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُتَتَابِعِينَ.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ: أَيِ اسْتَجْهَلَهُمْ لِخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَخِفُّوا لِمَا يُرِيدُ مِنْهُمْ، فَأَجَابُوهُ لِفِسْقِهِمْ. فَلَمَّا آسَفُونا: مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ مِنْ أَسِفَ، إِذَا غَضِبَ وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا عَمِلُوا الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ الْمُوجِبَةَ لِأَنْ لَا يَحْلُمَ عَنْهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحْزَنُوا أَوْلِيَاءَنَا الْمُؤْمِنِينَ نَحْوَ السَّحَرَةِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَعَنْهُ أَيْضًا:
أَغْضَبُونَا.
وَعَنْ عَلِيٍّ: أَسْخَطُونَا.
وَقِيلَ: خَالَفُوا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ، أَمَّا إِرَادَةُ الْعُقُوبَةِ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ الْعُقُوبَةُ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَلَفًا. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَتَادَةُ: أَيْ مُتَقَدِّمِينَ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ مَصْدَرُ سَلَفَ يَسْلِفُ سَلَفًا، وَسِلْفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَالْجَمْعُ أَسْلَافٌ وَسُلَافٌ. وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ سَالِفٍ، كَحَارِسٍ وَحَرَسٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، لأن فعلا ليس من أَبْنِيَةِ الْجُمُوعِ الْمُكَسَّرَةِ. وَقَالَ طُفَيْلٌ يَرْثِي قَوْمَهُ:
مَضَوْا سَلَفًا قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ صُرُوفُ الْمَنَايَا وَالرِّجَالُ تَقَلَّبُ
قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: سَلَفًا لِيَتَّعِظَ بِهِمُ الْكُفَّارُ الْمُعَاصِرُونَ لِلرَّسُولِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
383
وَأَصْحَابُهُ، وَسَعِيدُ بْنُ عِيَاضٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَسُلُفًا بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ، جَمْعَ سَلِيفٍ، وَهُوَ الْفَرِيقُ. سَمِعَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَضَى سَلِيفٌ مِنَ النَّاسِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ أَيْضًا: وَسُلُفًا، بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ
، جَمْعَ سُلْفَةٍ، وَهِيَ الْأَمَةُ وَالْقَطِيعَةُ. وَالسِّلْفُ فِي غَيْرِ هَذَا: وَلَدُ الْقُبْحِ، وَالْجَمْعُ سِلْفَانٌ. وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ: أَيْ حَدِيثًا عَجِيبَ الشَّأْنِ سَائِرًا مَسِيرَ الْمَثَلِ، يُحَدَّثُ بِهِ الْآخَرُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، يُقَالُ لَهُمْ: مَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ، وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ «١»، وَنَزَلَ كَيْفَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ مِنْ ذِكْرِ عِيسَى إِلَّا أَنْ نَعْبُدَهُ، كَمَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَهَذَا كَانَ صُدُودُهُمْ مِنْ ضَرْبِهِ مَثَلًا. وَقِيلَ: ضَرْبُ الْمَثَلِ بِعِيسَى، هُوَ مَا جَرَى بَيْنَ الزِّبَعْرَى وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْقِصَّةِ الْمَحْكِيَّةِ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ «٢». وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي آخِرِهَا أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى قَالَ: فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أَيْ عِيسَى وَأُمُّهُ وَعُزَيْرٌ فِي النَّارِ، فَقَدْ وُصِفْنَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا معهم. وقيل:
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٥٩.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٨.
384
الْمَثَلُ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى قَالُوا: آلِهَتُنَا خَيْرٌ مِنْ عِيسَى، قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ. وَضُرِبَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يكون الْفَاعِلُ ابْنَ الزِّبَعْرَى، إِنْ صَحَّتْ قِصَّتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ الكفار. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَامِرٌ، وَنَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ: يَصُدُّونَ، بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ مِنْ أَجْلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِهَا، أَيْ يَصِيحُونَ وَيَرْتَفِعُ لَهُمْ حَمِيَّةٌ بِضَرْبِ الْمَثَلِ.
وَرُوِيَ: ضَمُّ الصَّادِ، عَنْ عَلِيٍّ
، وَأَنْكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا يَكُونُ إِنْكَارُهُ إِلَّا قَبْلَ بُلُوغِهِ تَوَاتُرَهَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ:
هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى: مِثْلُ يَعْرِشُونَ وَيَعْرُشُونَ.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ: خَفَّفَ الْكُوفِيُّونَ الْهَمْزَتَيْنِ، وَسَهَّلَ بَاقِي السَّبْعَةِ الثَّانِيَةَ بَيْنَ بَيْنَ. وَقَرَأَ وَرْشٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَزْهَرِ: بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مِثَالِ الْخَبَرِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةً لِدَلَالَةِ أَمْ عَلَيْهَا، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا. حَكَوْا أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَيْرٌ، ثُمَّ عَنَّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَفْهِمُوا، عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ الْإِفْحَامُ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَيْرٌ مِنْ عِيسَى. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا:
أَيْ مَا مَثَّلُوا هَذَا التَّمْثِيلَ إِلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْغَلَبَةِ وَالْمُغَالَطَةِ، لَا لِتَمْيِيزِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ.
وَانْتَصَبَ جَدَلًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ:
إِلَّا جِدَالًا بِكَسْرِ الجيم. وألف خصمون: شديد والخصومة وَاللَّجَاجِ وَفَعِلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوُ: هُدًى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَمْ هُوَ لِعِيسَى، لِتَتَنَاسَقَ الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ:
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَشَرَّفْنَاهُ بِالرِّسَالَةِ. وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أَيْ خِبْرَةً عَجِيبَةً، كَالْمَثَلِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ، إِذْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَةِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَسْقَامِ كُلِّهَا، مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِ فِي زَمَانِهِ.
وَقِيلَ: الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ، قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: مِنْ تَكُونُ لِلْبَدَلِ، أَيْ لَجَعَلْنَا بَدَلَكُمْ مَلَائِكَةً، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «١»، أَيْ بَدَلَ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرُ:
أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الفصيل غلية ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفَالَا
أَيْ بَدَلَ الْفَصِيلِ، وَأَصْحَابُنَا لَا يُثْبِتُونَ لِمِنْ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَتَأَوَّلُونَ مَا وَرَدَ ما يوهم
(١) سورة التوبة، الآية: ٣٨.
385
ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ نَشَاءُ، لِقُدْرَتِنَا عَلَى عَجَائِبِ الْأُمُورِ وَبَدَائِعِ الْفِطَرِ، لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ: لَوَلَّدْنَا مِنْكُمْ يَا رِجَالُ مَلَائِكَةً يَخْلُفُونَكُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا يَخْلُفُكُمْ أَوْلَادُكُمْ كَمَا وَلَدْنَا عِيسَى مِنْ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، لِتَعْرِفُوا تَمَيُّزَنَا بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلِتَعْلَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ لَا تَتَوَلَّدُ إِلَّا مِنْ أَجْسَامٍ، وَذَاتَ الْقَدِيمِ مُتَعَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ. انْتَهَى، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ. وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَجَعَلْنَا مِنَ الْإِنْسِ مَلَائِكَةً، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ. وَالْجَوَاهِرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ بِالْأَوْصَافِ.
يَخْلُفُونَ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَكُونُونَ خُلَفَاءَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: فِي الرِّسَالَةِ بَدَلًا مِنْ رُسُلِكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي:
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يَعُودُ عَلَى عِيسَى، إِذِ الظَّاهِرُ فِي الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَيْ وَإِنَّ خُرُوجَهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ قِيَامِهَا، إِذْ خُرُوجُهُ شَرْطٌ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَهُوَ نُزُولُهُ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَابْنُ جُبَيْرٍ: يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ على معنى أنه يَدُلَّ إِنْزَالُهُ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ، أَوْ أَنَّهُ بِهِ تُعْلَمُ السَّاعَةُ وَأَهْوَالُهَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، تَمَيَّزَتِ السَّاعَةُ بِهِ نَوْعًا وَقَدْرًا مِنَ التَّمْيِيزِ، وَنَفَى التَّحْدِيدَ التَّامَّ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَعِلْمٌ، مَصْدَرَ عَلِمَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
أَيْ شَرْطٌ مِنْ أَشْرَاطِهَا تُعْلَمُ بِهِ، فَسَمَّى الْعِلْمَ شَرْطًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْكَلْبِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو نصرة: لَعَلَمٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ، أَيْ لَعَلَامَةٌ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِهِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وأبو نصرة: لِلْعَلَمِ، مُعَرَّفًا بِفَتْحَتَيْنِ.
فَلا تَمْتَرُنَّ بِها: أَيْ لَا تَشُكُّونَ فِيهَا، وَاتَّبِعُونِ هَذَا: أَيْ هُدَايَ أَوْ شَرْعِي.
وَقِيلَ: أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: وَاتَّبِعُونِي هَذَا، أَيِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ لَهُ، أَوْ هَذَا الْقُرْآنُ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَالَ لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ حَذَّرَهُمْ مِنْ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ، وَنَبَّهَ عَلَى عَدَاوَتِهِ بِالْبَيِّناتِ: أَيِ الْمُعْجِزَاتِ، أَوْ بِآيَاتِ الْإِنْجِيلِ الْوَاضِحَاتِ. بِالْحِكْمَةِ: أَيْ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ مِنَ الشَّرَائِعِ. قَالَ السُّدِّيُّ: بِالْحِكْمَةِ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ أَيْضًا: قَضَايَا يَحْكُمُ بِهَا الْعَقْلُ. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: الْإِنْجِيلُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَوْعِظَةُ. وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: وَهُوَ أَمْرُ الدِّيَانَاتِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَكُونُ فِيهَا، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالدِّيَانَاتِ. فَأُمُورُ الدِّيَانَاتِ بَعْضُ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ فِي غَيْرِهِ مَا احْتَاجُوا
386
إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَعْضُ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَعْضُ بِمَعْنَى كُلٍّ، وَرَدَّهُ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ كَقَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ «١»، أَيْ فِي الْإِنْجِيلِ: لَحْمُ الْإِبِلِ، وَالشَّحْمُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَصَيْدُ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْضُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ تَبْدِيلِ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: مِمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمُ اخْتِلَافَ الْقُرُونِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا فِي أَمْرِ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَهُمْ قَوْمُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ، أَيْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، بَانَ شَرُّهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمُ الِاخْتِلَافُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ:
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ «٢».
هَلْ يَنْظُرُونَ: الضمير لقريش، وأَنْ تَأْتِيَهُمْ: بَدَلٌ مِنَ السَّاعَةِ، أَيْ إِتْيَانَهَا إِيَّاهُمْ. الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، أَيْ يَوْمَ إِذْ تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ، وَيَوْمَئِذٍ مَنْصُوبٌ بَعْدُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْقَطِعُ كُلُّ خِلَّةٍ وَتَنْقَلِبُ الْأَخِلَّةُ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهَا لَا تَزْدَادُ إِلَّا قُوَّةً. وَقِيلَ: إِلَّا الْمُتَّقِينَ: إِلَّا الْمُجْتَنِبِينَ أَخِلَّاءَ السُّوءِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَخِلَّاءَ السُّوءِ كُلٌّ مِنْهُمْ يَرَى أَنَّ الضَّرَرَ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ خَلِيلِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَرَى كُلٌّ منهم النفع دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ خَلِيلِهِ. وقرىء:
يَا عِبَادِي، بِالْيَاءِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيَا عِبَادِ بِحَذْفِهَا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَكِلَاهُمَا فِي السَّبْعَةِ. وَعَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ: سَمِعَ أَنَّ النَّاسَ حِينَ يُبْعَثُونَ، لَيْسَ مِنْهُمْ أحد إلا يفزغ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الآية، فَيَرْجُوهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَيَتْبَعُهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، قَالَ: فَيَيْأَسُ مِنْهَا الْكُفَّارُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا خَوْفٌ، مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى، وَابْنُ يَعْمَرَ: بِفَتْحِهَا من غير تنوين، والَّذِينَ آمَنُوا صفة ليا عبادي.
تُحْبَرُونَ: تُسَرُّونَ سُرُورًا يَظْهَرُ حَبَارُهُ، أَيْ أَثَرُهُ عَلَى وُجُوهِكُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «٣». وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُكْرَمُونَ إِكْرَامًا يُبَالَغُ فِيهِ، وَالْحَبَرَةُ:
الْمُبَالَغَةُ فِيمَا وُصِفَ بِجَمِيلٍ وَأَمَالَ أبو الحرث عَنِ الْكِسَائِيِّ. بِصِحافٍ: ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي: وفِيها، عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ. مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ:
هَذَا حَصْرٌ لِأَنْوَاعِ النِّعَمِ، لِأَنَّهَا إِمَّا مُشْتَهَاةٌ فِي الْقُلُوبِ، أَوْ مُسْتَلَذَّةٌ فِي العيون. وقرأ أبو
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٥٠.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٣٧.
(٣) سورة المطففين: ٨٣/ ٢٤.
387
جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحَفْصٌ: مَا تَشْتَهِيهِ بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى مَا، وَالْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِحَذْفِ الْهَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ، بِالْهَاءِ فِيهِمَا. وتِلْكَ الْجَنَّةُ: مبتدأ وخبر. والَّتِي أُورِثْتُمُوها: صِفَةٌ، أَوِ الْجَنَّةُ صفة، والَّتِي أُورِثْتُمُوها، وبِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الْخَبَرُ، وَمَا قَبْلَهُ صِفَتَانِ. فَإِذَا كَانَ بِمَا الْخَبَرَ تَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِأُورِثْتُمُوهَا، وَشُبِّهَتْ فِي بَقَائِهَا عَلَى أَهْلِهَا بِالْمِيرَاثِ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَتَضَمَّنُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ.
مِنْها تَأْكُلُونَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ لَا تَأْكُلُونَ إِلَّا بَعْضَهَا،
وَمَا يَخْلُفُ الْمَأْكُولُ بَاقٍ فِي الشَّجَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ، أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ، قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ، سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يُقَالُ لَهُمْ مِنْ لَذَائِذِ الْبِشَارَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَالِ الْكَفَرَةِ، وَمَا يُجَاوِبُونَ بِهِ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهُمْ فِيهَا، أَيْ فِي جَهَنَّمَ وَالْجُمْهُورُ: وَهُمْ فِيهِ أَيْ فِي الْعَذَابِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: يُجْعَلُ الْمُجْرِمُ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ يُرْدَمُ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى فِيهِ خَالِدًا لَا يَرَى وَلَا يُرَى. لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ: أَيْ لَا يُخَفَّفُ وَلَا يُنْقَصُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَرَتْ عَنْهُ الْحُمَّى، إِذَا سَكَنَتْ قَلِيلًا وَنَقَصَ حَرُّهَا. وَالْمُبْلِسُ: السَّاكِتُ الْيَائِسُ مِنَ الْخَيْرِ. وَما ظَلَمْناهُمْ: أَيْ مَا وَضَعْنَا الْعَذَابَ فِيمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ: أَيِ الْوَاضِعِينَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الْإِيمَانِ، فَظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَالظَّالِمِينَ، عَلَى أَنَّ هُمْ فَصْلٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيَّانِ: الظَّالِمُونَ بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُمْ خَبَرُهُمْ، وَهُمْ مُبْتَدَأٌ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الْجَرْمِيُّ: أَنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ جَعْلُ مَا هُوَ فَصْلٌ عِنْدَ
388
غَيْرِهِمْ مُبْتَدَأً، وَيَرْفَعُونَ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَالَ أبو زيد: سمعتهم يقرأون: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ أَجْرًا «١» يَعْنِي: بِرَفْعِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ. وَقَالَ قيس بن دريج:
نَحِنُّ إِلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تركنها وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالْمَلَا أَنْتَ أَقْدَرُ
قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ رُؤْبَةَ كَانَ يَقُولُ: أَظُنُّ زَيْدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، يعني بالرفع. وَنادَوْا يا مالِكُ: تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُبْلِسُونَ، أَيْ سَاكِتُونَ، وَهَذِهِ أَحْوَالٌ لَهُمْ فِي أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ سُكُوتِهِمْ وَنِدَائِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَا مَالِكُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلَى، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: يَا مَالِ، بِالتَّرْخِيمِ
، عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْتَظِرُ الْحَرْفَ. وَقَرَأَ أَبُو السِّرَارِ الْغَنَوِيُّ:
يَا مَالُ، بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ، جُعِلَ اسْمًا عَلَى حِيَالِهِ. وَاللَّامُ فِي: لِيَقْضِ لَامُ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ. وَالْمَعْنَى: يُمِتْنَا مَرَّةً حَتَّى لَا يَتَكَرَّرَ عَذَابُنَا، كَقَوْلِهِ: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ «٢»، أَيْ أَمَاتَهُ. قالَ: أي ما لك، إِنَّكُمْ ماكِثُونَ: أَيْ مُقِيمُونَ فِي النَّارِ لَا تَبْرَحُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُجِيبُهُمْ بَعْدَ مُضِيِّ أَلْفِ سَنَةٍ، وَقَالَ نَوْفٌ: بَعْدَ مِائَةٍ، وَقِيلَ:
ثَمَانِينَ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: أَرْبَعِينَ. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ: يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدُ خَدَمِ الرَّئِيسِ: أَعْلَمْنَاكُمْ وَفَعَلْنَا بِكُمْ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَقَدْ جِئْناكُمْ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لِقُرَيْشٍ بِعَقِبِ حِكَايَةِ أَمْرِ الْكُفَّارِ مَعَ مَالِكٍ، وَفِي هَذَا تَوَعُّدٌ وَتَخْوِيفٌ بِمَعْنَى: انْظُرُوا كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ. أَمْ أَبْرَمُوا:
وَالضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ، أَيْ بَلْ أَحْكَمُوا أَمْرًا مِنْ كَيْدِهِمْ لِلرَّسُولِ وَمَكْرِهِمْ، فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كَيْدَنَا، كَمَا أَبْرَمُوا كَيْدَهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «٣»، وَكَانُوا يَتَنَاجَوْنَ وَيَتَسَارَعُونَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ، وَهُوَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ خَالٍ. وَنَجْواهُمْ: وَهِيَ مَا تَكَلَّمُوا بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. بَلى: أَيْ نَسْمَعُهَا، رُسُلُنا، وَهُمُ الْحَفَظَةُ.
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، كَمَا تَقُولُونَ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَحَسَّنَهُ بِفَصَاحَتِهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وَصَحَّ ذَلِكَ وَثَبَتَ بِبُرْهَانٍ صَحِيحٍ يُورِدُونَهُ، وَحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ يَبْذُلُونَهَا، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْوَلَدَ، وَأَسْبَقُكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، كَمَا يُعَظِّمُ الرَّجُلُ ولد الملك لعظم
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ٢٠، والصحيح: «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خيرا وأعظم أجرا».
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ١٥.
(٣) سورة الطور: ٥٢/ ٤٢.
389
أَبِيهِ. وَهَذَا كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ لِغَرَضٍ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَ النَّاطِقُ بِهِ شُبْهَةً إِلَّا مُضْمَحِلَّةً مَعَ التَّرْجَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِبَادَةَ بِكَيْنُونَةِ الْوَلَدِ، وَهِيَ مُحَالٌ فِي نَفْسِهَا، فَكَانَ الْمُعَلَّقُ بِهَا مُحَالًا مِثْلَهَا. فَهُوَ فِي صُورَةِ إِثْبَاتِ الْكَيْنُونَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَفِي مَعْنَى نَفْيِهَا عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَاهَا. ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلِيُّ لِلْمُجْبِرِ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ التَّأْدِيبَ، بَلِ السَّيْفَ، نَزَّهْتُ كِتَابِي عَنْ ذِكْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَمَحَّلَ النَّاسُ بِمَا أَخْرَجُوهُ بِهِ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ الشَّرِيفِ الْمَلِيءِ بِالنُّكَتِ وَالْفَوَائِدِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِهِ، فَقِيلَ:
إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فِي زَعْمِكُمْ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، الْمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ، الْمُكَذِّبِينَ قَوْلَهُمْ بِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عَبْدٍ يُعْبَدُ، إِذَا اشْتَدَّ أَنْفُهُ فَهُوَ عَبْدٌ وَعَابِدٌ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: عَبِدِينَ، وَقِيلَ: هِيَ إِنِ النَّافِيَةُ، أَيْ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ وَعَبَدَ وَوَحَّدَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ قَالَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ، فَقَالَ النَّضْرُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ صَدَّقَنِي؟ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: مَا صَدَّقَكَ، وَلَكِنْ قَالَ: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. انْتَهَى. أَمَّا الْقَوْلُ: إِنْ كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ، فَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَأَمَّا الْقَوْلُ: فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ، فَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ، حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ وَالْيَمَانِيِّ: الْعَبِدِينَ، وَقِرَاءَةٌ ذَكَرَهَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ الْعَيْنِ: الْعَبْدِينَ، بِإِسْكَانِ الْبَاءِ، تَخْفِيفُ الْعَبْدِينَ بِكَسْرِهَا. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْلَّوَامِحِ أَنَّهُ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْعَابِدِينَ: أَنَّهُ الْآنِفِينَ.
انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يُقَالُ: عَبَدَ يَعْبُدُ فَهُوَ عَبْدٌ، وَقَلَّمَا يُقَالُ: عَابِدٌ. وَالْقُرْآنُ لَا يَأْتِي بِالْقَلِيلِ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا الشَّاذَّ، ثُمَّ قَالَ: كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ وَأَعْبُدُ أَنْ أَهْجُوَ كُلَيْبًا بِدَارِمِي
أَيْ: آنَفُ وَأَسْتَنْكِفُ. وَقَالَ آخَرُ:
متى ما يشا ذُو الْوُدِّ يَصْرِمُ خَلِيلَهُ وَيَعْبُدُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ظَالِمًا
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ، فَمَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّكَ إِنَّمَا نَفَيْتَ عَنِ اللَّهِ الْوَلَدَ فِيمَا مَضَى دُونَ مَا هُوَ آتٍ، وَهَذَا مُحَالٌ. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ
390
مُحَالٌ، لِأَنَّ كَانَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَدُومُ وَلَا يَزُولُ، كَقَوْلِكَ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «١»، أَيْ لَمْ يَزَلْ، فَالْمَعْنَى: مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْعَبِدُ، بِكَسْرِ الْبَاءِ: الشَّدِيدُ الْغَضَبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ أَوَّلُ الْجَاحِدِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَبَدَنِي حَقِّي، أَيْ جَحَدَنِي. وَقَرَأَ وَلَدٌ بِفَتْحَتَيْنِ. عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ.
ثُمَّ قَالَ: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ: أَيْ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: إِزَالَةُ الْعِلْمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فَرْدٌ مُطْلَقٌ لا يقبل التجزي. وَالْوَلَدُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنِ الشَّيْءِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شَخْصٌ مِثْلُهُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا هُوَ قَابِلٌ ذاته للتجزي، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَامْتَنَعَ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ. وَلَمَّا ذُكِرَ هَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ قَالَ: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا، أَيْ فِي بَاطِلِهِمْ، وَيَلْعَبُوا، أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ. وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مُهَادَنَةٌ وَتَرْكٌ، وَذَلِكَ مِمَّا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَتَّى يُلاقُوا، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: يَلْقَوْا، مُضَارِعُ لَقِيَ. يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَضَافَ الْيَوْمَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُهُمْ وَعَذَابُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
إِلَهٌ فِيهِمَا. وَقَرَأَ عُمَرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ،
وَعَلِيٌّ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَالِي، وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو الشَّيْخِ الْهُنَائِيُّ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: اللَّهُ فِيهِمَا.
وَمَعْنَى إِلَهٍ: مَعْبُودٌ بِهِ، يَتَعَلَّقُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ هُوَ مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ وَمَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ، وَالْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هُوَ إِلَهٌ، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَنَا بِالَّذِي قَائِلٌ لَكَ شَيْئًا، وَحَسَّنَهُ طُولُهُ بِالْعَطْفِ عَلَيْهِ، كَمَا حَسَّنَ فِي قَائِلٌ لَكَ شَيْئًا طُولُهُ بِالْمُعَوَّلِ. وَمَنْ قَرَأَ: اللَّهُ، ضَمَّنَهُ أَيْضًا مَعْنَى الْمَعْبُودِ، كَمَا ضُمِّنَ الْعَلَمُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: هُوَ حاتم في طيىء، أي جواد في طيىء.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّلَةُ الجار والمجرور. والمعنى: أنه فِيهِمَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ، نَفْيٌ لِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ.
وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ: أَيْ عِلْمُ تَعْيِينِ وَقْتِ قِيَامِهَا، وَهُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى. وقرأ الجمهور: يرجعون، بياء الْغَيْبَةِ وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَالْعَدَنِيَّانِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَهُوَ فِي كلتا
(١) سورة النساء: ٤/ ٩٦.
391
القراءتين مبني للمفعول. وقرىء: بِفَتْحِ تَاءِ الْخِطَابِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الدَّالِ، وَعَنْهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَشَدِّ الدَّالِ، والمعنى: ولا يملك آلهتهم الَّتِي يَدْعُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَثْنَى مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً بِأَنْ يُمَلِّكَهَا اللَّهُ إِيَّاهُمْ، إِذْ هُمْ مِمَّنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ فِي أَحْوَالِهِمْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: مِنَ الْمَشْفُوعِ فِيهِمْ؟ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَشْفَعُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ وَعُزَيْرٌ وَعِيسَى إِلَّا فِيمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، أَيْ بِالتَّوْحِيدِ، قَالُوا:
فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَشْفَعُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرُوهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفًا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ، إِلَّا فِيمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ ومئزار
أي: وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَشْفُوعِ فِيهِمُ الْجَائِزُ فِيهِ الْحَذْفُ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ مُسْتَثْنَى مِنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ، فَيَكُونُ مُنْفَصِلًا، وَالْمَعْنَى: وَلَا يَمْلِكُ آلِهَتُهُمْ، وَيَعْنِي بِهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ، الشَّفَاعَةَ. كما زغموا أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَكِنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا شَهِدَ بِهِ، هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ، وَإِنْ أُدْرِجَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي الَّذِينَ يَدْعُونَ، كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ، أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ أَقَرُّوا أَنَّهُ مُوجِدُ الْعَالَمِ. وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَقِيلَهُ، بِالنَّصْبِ. فَعَنِ الْأَخْفَشِ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى سِرِّهِمْ وَنَجْوَاهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: عَلَى وَقَالَ قِيلَهُ، وَعَنِ الزَّجَّاجِ، عَلَى مَحَلِّ السَّاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ يَكْتُبُونَ الْمَحْذُوفِ، أي يكتبون أقولهم وَأَفْعَالَهُمْ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ، أَيْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ. وَقِيلِهِ يَا رَبِّ: وَهُوَ قَوْلٌ لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَاصِمٌ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَقِيلِهِ، بِالْخَفْضِ، وَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى السَّاعَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا وَاوُ الْقَسَمِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَيُنْصَرُنَّ، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِهِمْ مَا أَشَاءُ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدَبٍ: وَقِيلُهُ بِالرَّفْعِ، وَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلْمُ السَّاعَةِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَعِلْمُ قِيلِهِ حُذِفَ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
392
وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: يَا رَبِّ إِلَى لَا يُؤْمِنُونَ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَسْمُوعٌ، أَوْ مُتَقَبَّلٌ، فَجُمْلَةُ النِّدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نصب بو قيله. وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ: يَا رَبَّ، بِفَتْحِ الْبَاءِ أَرَادَ: يَا رَبًّا، كَمَا تَقُولُ: يَا غُلَامُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى جَوَازِ الْأَخْفَشِ: يَا قَوْمَ، بِالْفَتْحِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ وَالِاجْتِزَاءَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي قَالُوهُ يَعْنِي مِنَ الْعَطْفِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْمَعْنَى، مَعَ وُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَحْسُنُ اعْتِرَاضًا، وَمَعَ تَنَافُرِ النَّظْمِ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَحَذْفِهِ، وَالرَّفْعُ عَلَى قَوْلِهِمْ: ايْمُنُ اللَّهِ، وَأَمَانَةُ اللَّهِ، وَيَمِينُ اللَّهِ، وَلَعَمْرِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، جَوَابُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
وَأَقْسَمَ بِقِيلِهِ، أَوْ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ قَسَمِي. إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِقْسَامُ اللَّهِ بِقِيلِهِ، رَفْعٌ مِنْهُ وَتَعْظِيمٌ لِدُعَائِهِ وَالْتِجَائِهِ إِلَيْهِ. انْتَهَى، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكَلَامِ، إِذْ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
يَا رَبِّ إِلَى لَا يُؤْمِنُونَ، مُتَعَلِّقٌ بِقِيلِهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذَا كَانَ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَوَابَ الْقَسَمِ، كَانَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ عَنْهُمْ وَكَلَامِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَقِيلِهِ لِلرَّسُولِ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ، أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وتاركهم، وَقُلْ سَلامٌ، أَيِ الْأَمْرُ سَلَامٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَتَهْدِيدٌ وَمُوَادَعَةٌ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يَعْلَمُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، كَمَا فِي: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَهِشَامٌ: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَقُلْ سَلَامٌ، أَيْ خَيْرًا بَدَلًا مِنْ شَرِّهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
أَوْرِدْ عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: قُلْ مَا تَسْلَمُ بِهِ مِنْ شَرِّهِمْ.
393
Icon