تفسير سورة الحجرات

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ

روى البخاري وغيره من طريق ابن جريج عن أبي مليكة أن عبد الله ابن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أمّر القعقاع ابن معبد وقال عمر بل أمر الأقرع ابن الحابس فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي وقال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا ﴾١ إلى قوله تعالى ﴿ ولو أنهم صبروا ﴾ الآية، قرأ يعقوب لا تقدموا بفتح التاء والدال من التقدم بحذف إحدى التائين والجمهور بضم التاء وكسر الدال من التقديم، قال البغوي هو أيضا لازم بمعنى التقديم مثل بين وتبين وقيل إنه متعد والمفعول محذوف ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن أن لا تقدموا قولا ولا فعلا أو متروك، ونزل الفعل منزلة اللازم يعني لا يصدر منكم التقديم ﴿ بين يدي الله ورسوله ﴾ بين يدي مستعارة مما بين الجهتين المسامتين ليمينه وشماله قريبا منه ففيه تمثيل للتقدم الزماني بالتقدم المكاني والمعنى لا تقولوا قولا ولا تفعلوا شيئا قبل أن يحكمانه، قال الضحاك يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله، قال أبو عبيدة يقول العرب لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجل بالأمر والنهر والنهي دونه، قيل المراد بين يدي رسول الله وذكر الله تعظيما له وإشعارا بأن التقديم على رسول الله كان تقديم على الله تعالى، فإنه من الله بمكان يوجب إجلاله إجلالا به وسوء الأدب بالله كما قال الله تعالى :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ﴾ ٢ وأخرج ابن المنذر عن الحسن أن ناسا ذبحوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر أمرهم أن يعيدوا ذبحا فأنزل الله تعالى هذه الآية، كذا أخرج ابن الدنيا في كتاب الأضاحي بلفظ ذبح رجل قبل الصلاة فنزلت، وعن البراء ابن عازب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال :﴿ إن أول ما نبدأ يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء ﴾ ٣ متفق عليه، وعن جندب ابن عبد الله بلفظ : صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح قال :﴿ من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ﴾ متفق عليه، وبما ذكرنا من الأحاديث احتج أبو حنيفة ومالك وأحمد على أنه لا يجوز ذبح الأضحية قبل صلاة الإمام خلافا للشافعي حيث قال يجوز ذبح الأضحية بعد طلوع الشمس من يوم النحر إذا مضي قدر صلاة العيد والخطبتين صلى الإمام أو لم يصل، وقال عطاء يجوز بعد طلوع الشمس فقط وهما محجوجان بما روينا ولا دلالة في الحديثين على ما قال مالك أن لا يجوز الذبح إلا بعد الصلاة وبعد ذبح الإمام ولعل مالك أخذا هذا القول من قوله تعالى :﴿ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ يعني لا تذبحوا قبل ذبح الرسول والإمام نائب الرسول صلى الله عليه وسلم، قلنا الحديث بيان للآية فلا يشترط ما لا يستفاد من الحديث.
مسألة : قال أبو حنيفة يجوز لأهل السواد حيث لا يصلي هناك صلاة العيد ذبح الأضحية بعد طلوع الفجر الثاني خلافا للأئمة الثلاثة فإنهم قالوا لا يجوز إلا بعد حصول اليقين بصلاة الإمام عند أحمد والصلاة وذبحه عند مالك وبعد مضي قدر صلاة العيد والخطبتين بعد طلوع الشمس عند الشافعي لإطلاق النصوص، وجه قول أبي حنيفة إن التأخير لاحتمال تشاغل به عن الصلاة ولا معنى للتأخير في حق القرى ولا صلاة عليه والله أعلم وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة أن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا ﴾ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فيصومه ﴾ ٤ رواه أصحاب الصحاح والسنن الستة، وروى أصحاب السنن الأربعة وعلقه البخاري عن عمار قال ﴿ من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم عليه السلام ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام ﴿ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ﴾ ٥ وهو في الصحيحين، وعند أبي داوود والترمذي وحسنه ﴿ وإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا ﴾ ٦ والله أعلم.
وأخرج بن جرير عن قتادة قال ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا فأنزل الله ﴿ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ ﴿ واتقوا الله ﴾ في تضييع حقه وحق رسوله ومخالفة أمره ﴿ إن الله سميع ﴾ لأقوالكم ﴿ عليم ﴾ بنياتكم
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي ﴿٤٣٦٧﴾ وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب: ومن سورة الحجرات ﴿٣٢٦٦﴾.
٢ سورة الفتح الآية: ١٠.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: العيدين باب: الخطبة بعد العيد ﴿٩٦٥﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الأضاحي باب: وقتها ﴿١٩٦١﴾.
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الصوم باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين ﴿١٩١٤﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين ﴿١٠٨٢﴾.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم ﴿إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا﴾ ﴿١٩٠٩﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال ﴿١٠٨١﴾.
٦ أخرجه النسائي في كتاب: الصيام ﴿٢١٢٠﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ كرر النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الألفاظ وزيادة اهتمام ما أمر به ﴿ لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﴾ إذا كلمتموه ﴿ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ﴾ يعني لا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا بأن تخاطبوه باسمه أو كنيته بل يجب عليكم بتجمله وتعظيمه ومراعاة آدابه وخفض الصوت بحضرته وخطابه بالنبي والرسول ونحو ذلك ﴿ أن تحبط أعمالكم ﴾ أي كراهة أن تحبط ﴿ و لئلا يحبط فيكون علة للنهي وجاز أن يكون تقديره لأن تحبط متعلق بالنهي واللام للعاقبة فإن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والجهر عليه استخفافا يؤدي إلى الكفر فعاقبته حبط العمل إذا قصد الإهانة نعوذ بالله منها وعدم المبالاة وترك المراقبة في آدابه لا يخلو من الحرمان من بركات صحبته فبطل عمل المصاحبة إذا لم يترتب عليه فائدته { وأنتم لا تشعرون ﴾ حال من الضمير المجرور في أعمالكم، قال البغوي قال أبو هريرة وابن عباس لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وقال ابن الزبير فيما مر من حديث رواه البخاري في سبب نزول قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا ﴾ قال فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه١، وروى مسلم في الصحيح عن أنس ابن مالك قال لما نزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ﴾ جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال أنا من أهل النار واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلام سعد ابن معاذ فقال يا أبا عمر ما شأن ثابت إشتكى ؟ فقال سعد إنه لجاري وما علمت له شكوى فأتاه سعد فذكره قول النبي صلى الله عليه وسلم قال ثابت أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم أصواتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ بل هو من أهل الجنة ﴾ ٢، وأخرج ابن جرير عن محمد ابن ثابت ابن قيس بن شماس وكذا ذكر البغوي أنه لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمر به عاصم بن عدي فقال ما يبكيك يا ثابت ؟ قال هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأن أكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابت البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله ابن أبي ابن سلول فقال لها إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار فضربته بمسمار، وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال إذهب فادعه لي فجاء عاصم إلى المكان الذي رواه فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس فقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقال إكسر الضبة، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت ؟ قال أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا أو تدخل الجنة ﴾ فقال رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله
١ أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب، ﴿لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾ (٤٨٤٥).
٢ أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله (١١٩).
﴿ إن الذين يغضون أصواتهم ﴾ أي يخفضونها، ﴿ عند رسول الله ﴾ إجلالا له ﴿ أولئك ﴾ مبتدأ خبره ﴿ الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ﴾ والجملة خبر إن، في القاموس امتحن الله قلوبهم أي شرحها وسعها وفيه أيضا محنه كمنعه وضربه واختبره كامتحنه، قال البيضاوي أي جربها للتقوى ومرنها عليها يعني عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها فإن الامتحان سبب المعرفة، واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل أو المعنى ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل ظهور التقوى فإنه لا يظهر إلا بالاصطبار عليها أو أخلصه للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه أو ميز بريزه من خبثه ﴿ لهم مغفرة ﴾ لذنوبهم ﴿ وأجر عظيم ﴾ بغضهم الأصوات تأدبا لرسول الله ولسائر طاعاتهم والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لإن أو استئناف لبيان ما هو جزائهم إخبارا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وإن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك، قال البغوي قال أنس فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا - يعني ثابت ابن قيس الذي نزل فيه هذه الآية وقال له عليه السلام :﴿ تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ﴾ قال فلما كان يوم اليمامة من حرب مسيلمة الكذاب رأى ثابت في المسلين انكسارا وانهزمت طائفة منهم فقال أف لهؤلاء وقال لسالم مولى حذيفة ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ثم ثبتا وقاتلا حتى استشهد ثابت وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنه قال له اعلم أن فلانا رجلا من المسلمين ينزع درعي فذهب به وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستن به في طوله وقد وضع علي درعي برمة فأت خالد ابن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له إن علي دين حتى يقضي وفلان من رفيق عتيق، فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وضعه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك ابن انس لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه والله تعالى أعلم.
وأخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد ابن أرقم قال جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون يا محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ﴾ وما بعدها، قرأ الجمهور بضم الجيم وأبو جعفر بفتح الجيم وهما لغتان في جمع حجرة، وقال البغوي هي جمع حجر والحجر جمع حجرة فهي جمع الجمع والحجرة قطعة من الأرض إحاطتها الجدران من الحجر بمعنى المنع، والمراد حجرات نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومن ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء وفيه دلالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان داخل حجرة منها إذ لا بد ان يختلف المبدأ أو المنتهى وإن مناداتهم كان من ورائها فإن تعدد القصة يحمل على أن مناداتهم وقع تارة وراء بعض وتارة وراء بعض آخر ومنها وإن تحد القصة فمناداتهم من ورائها، إما بأنهم أتوه حجرة حجرة فنادوه من ورائها أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له ﴿ أكثرهم لا يعقلون ﴾، فإنهم كانوا أعرابا من أهل البادية أو المعنى لا يعقلون عظمتك ومراعاة الحشمة وحسن الأدب والظاهر منه أن بعضهم كانوا من العقلاء ولم يرتض بالتعجيل وإنما أسند فعل البعض إلى الكل مجازا ويحتمل أن يراد بالنفي القلة إذ القلة تقع موقع النفي العام. أخرج الثعلبي من حديث جابر أن الذي ناداه عيينة بن حصن وأقرع ابن حابس وفدا على لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا وقت الظهيرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم راقدا في بعض الحجرات نسائه فقالا يا محمد أخرج علينا، وأخرج ابن جرير عن الأقرع ابن حابس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أخرج إلينا فنزلت، وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد عن مدحي زين وإن شتمي شين فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك هو الله فنزلت هذه الآية وهذا مرسل وله شاهد مرفوع من حديث البراء دون نزول الآية، وأخرج ابن جريج نحوه عن الحسن وذكر البغوي حديث قتادة وجابر بلفظ قال قتادة نزلت يعني هذه الآية وما بعدها في ناس من أعراب بني تميم جاؤوا على النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب، ويروى ذلك عن جابر قال جاءت بنو تميم فنادوا على الباب أخرج علينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :( إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين )، فقالوا نحن ناس من بني تميم جئنا وشاعرنا وخطيبنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت ابن قيس ابن شماس وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ قم فأجبه ﴾ فقام فأجابه فقام شاعرهم يذكر أبياتا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان ابن ثابت ﴿ قم فأجبه ﴾ فقام فأجابه فقام الأقرع ابن حابس فقال إن محمدا ليؤتى له بكل خير تكلم خطيبنا فكان شاعركم أشعر وأحسن قولا ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أن لا إلاه إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فقال رسول الله ( ما يضرك ما كان قبل هذا ) ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم وقد كان تخلف في ركابهم عمرو ابن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم وأزرى به بعضهم وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﴾ الآيات الأربع إلى ﴿ غفور رحيم ﴾.
وذكر البغوي عن ابن عباس أنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة ابن حصن الفرازي فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم فسابهم عيينة وقدمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا في أهله فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة، فعجلوا قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون يا محمد أخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم فقالوا يا محمد فادنا عيالنا جبرئيل عليه السلام فقال إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة ابن عمرو وهو على دينكم فقالوا نعم فقال سبرة أنا لا أحكم بينهم إلا وعمي شاهد وهو الأعور ابن بشامة فرضوا به، فقال الأعور أرى أن تفادي نصفهم وتعتق فنصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضينا ففادى نصفهم وأعتق بعضهم وأنزل الله تعالى :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ٤ ﴾
﴿ ولو أنهم صبروا ﴾ يعني لو ثبت صبرهم يعني حبس نفوسهم عما تشتهيه الأهواء من التعجيل في قضاء الحوائج بخلاف ما يقتضيه العقل من تعظيم المحتاج إليه لا سيما من هو من الله بمنزلة من لا يوازيه أحد ﴿ حتى يخرج إليهم ﴾ يعني صبرا بالخروج إليهم، فيه إشعار إلى أن مطلق لا يصلح غاية الصبر بل ينبغي أن يصبروا حتى يتوجه إليهم ويفاتحهم بالكلام لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم الموجبتين للثناء والثواب وإسعاف المرام، قال مقاتل لكان خيرا لهم لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء ﴿ والله غفور رحيم ﴾ فأقتصر على النصح والتقريع للمسيئين للأدب التاركين تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بناء على جهلهم وقلة عقلهم، وذكر محمد ابن يوسف الصالحي أن سرية عيينة ابن حصن كان إلى بني تميم في المحرم سنة تسع بعث إليهم رسول الله حين منعوا الزكاة وكان السبايا على ما ذكر محمد ابن عمر إحدى عشر امرأة وثلاثين صبيا، وأخرج أحمد وغيره بسند جيد عن الحارث ابن الضرار الخزاعي قال قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فأقررت به ودخلت فيه ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته فترسل إلى الأبان كذا وكذا ليأتيك فلما جمع الحارث الزكاة وبلغ الأبان احتبس الرسول فلم يأته فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة فدعى سروات قومه فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت وقتا يرسل رسوله ليقبض ما عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد ابن عقبة ليقبض ما كان عنده فلما أن سار الوليد فرق فرجع فقال إن الحارث منع الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه إذا استقبل البعث، قال لهم إلى أين بعثتم قالوا إليك، قال ولم ؟ قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد ابن عقبة فزعم أنك منعت الزكاة وأردت قتله قال لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته ولا أتاني فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال منعت الحق وأردت قتل رسولي قال لا والذي بعثك بالحق فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ﴾ إلى قوله ﴿ غفور رحيم ﴾.
وروى الطبراني نحوه من حديث جابر ابن عبد الله وعلقمة ابن ناجية وأم سلمة وابن جرير نحوه من طريق العوفي عن ابن عباس ومن طرق أخرى وسلمة وفي حديث أم سلمة عند الطبراني، وكذا ذكر البغوي أن الآية نزلت في وليد ابن عقبة ابن أبي معيط بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمعه القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يرون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله لما سمعنا برسولك خرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله عز وجل فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء بغضب غضبة علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، قال البغوي فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد ابن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفى عليهم، وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم ترد فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد وأفاهم فسمع منهم أذان صلاة المغرب والعشاء وأخذ صدقاتهم ولم ير فيهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق ﴾ يعني الوليد ابن عقبة ﴿ بنبإ ﴾ أي بخبر ارتداد القوم تنكير الفاسق ونبأ لشيوع الحكم كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ ﴿ فتبينوا ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة ثم الباء الموحدة ثم التاء المثناة من الفوق من التثبت بمعنى التوقف في الحكم ما لم يظهر الحال والباقون بالباء الموحدة ثم الياء المثناة من تحت ثم النون من التبين بمعنى طلب البيان وظهور الحال والقراءتان متقاربان معنى، وتعليق التثبت والتبين بخبر الفاسق يقتضي جواز قبول خبر الواحد العدل لعدم المانع من قبول خبره والفسق في اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها وفي اصطلاح الشرع قد يطلق على الكافر لخروجه عن الإيمان وهو الغالب في محاورة القرآن وقد يطلق على من ارتكب الكبيرة أو أصر على الصغيرة ما لم يتب وهو المراد في هذه الآية إجماعا، قلت : والوليد ابن عقبة وكان صاحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن فسقه ظاهرا قبل هذا الكذب المبني على فساد ظنه واتهامه من كان له أعداء في الجاهلية فلعل المراد بالفاسق هاهنا من لم يظهر صدق وعدالته فيدخل فيه مستور الحال أيضا، أو المراد بالفاسق من كان مخبر الشيء يدل على القرينة على كذبه وإن كان المخبر ظاهر العدالة فإن ارتداد بني المصطلق بعد إيمانهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طوعا وقبولهم أحكامه أبعد احتمالا من كذب الوليد عمدا أو زعما فاسدا ﴿ أن تصيبوا ﴾ أي كراهة أن تصيبوا أولئك تصيبوا بالقتل والقتال ﴿ قوما ﴾ براء من العصيان ﴿ بجهالة ﴾ حال من فاعل تصيبوا يعني جاهلين بحقيقة الأمر وحال القوم ﴿ فتصبحوا ﴾ أي تصيروا عطف على من تصيبوا ﴿ على ما فعلتم ﴾ متعلق بقوله ﴿ نادمين ﴾ وهو خبر لتصبحوا يعني تصيروا نادمين على إصابتكم قوما براء، والندامة نوع من الغم على ما صدر منك بحيث تتمنى أنه لم يصدر الظاهر من سياق الآية أن بعض المؤمنين كانوا زينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطعهم وبعث خالد ابن الوليد للتثبت وتبيين الحال قال الله سبحانه خاطبهم بهذه الآية وأمرهم بالتثبت والتبيين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيلا يصبحوا نادمين وبينهم على أنه لا ينبغي لهم تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إلجاؤه إلى ما تهوى به نفوسهم بل يجب عليهم أن يطيعوه فيما أحبوا وفيما كرهوا يدل عليه قوله تعالى :﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ﴾
﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ﴾ أي وقعتم في الإثم والهلاك قال البيضاوي جملة لو يطيعكم حال من أحد ضميري فيكم وإن مع اسمه وخبره مقيدا بالحال المذكور ساد مسد مفعولي اعلموا أو المعنى أن فيكم رسول الله في حال يجب تغيرها وحي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم ولو فعل ذلك لعنتم ولما كان غضبهم على بني المصطلق إنما هو لما سمعوا من الوليد ارتدادهم بغضا في الله لا لأنفسهم وكان ما سبق من الكلام موهما لوقوعهم في الإثم واللوم استدرك الله سبحانه ببيان عذرهم ﴿ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ﴾ والظاهر من سياق الآية أن الفسوق أخف من الكفر وأقبح من العصيان فالمراد به الخروج من الجماعة وارتكاب البدعة في العقائد بحد لا يكفر فهو دون من الكفر وأخبث من عصيان الجوارح ومعنى الآية لكن ما صدر منكم من ترك التثبت إنما كان يحبكم الإيمان وبغضكم الكفر فلا لوم عليكم ولا إثم ﴿ أولئك هم الراشدون ﴾ جملة معترضة وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إشعارا بأن من كان صفته مثل صفتكم فهم الراشدون
﴿ فضلا من الله ونعمة ﴾ منصوبان على العلبة من حبب وكره لا من الراشدون فإن الفضل فعل الله والراشدون كان مسببا بفعله لكنه أسند إلى ضميرهم أو على المصدرية فإن تحبب الإيمان فضل من الله وإنعام، وقال بعض أئمة التفسير معنى قوله ﴿ أن فيكم رسول الله ﴾ فلا تكذبوه فإن الله يخبره فيهتك ستر الكاذب وقوله ﴿ يطيعكم في كثير من الأمر ﴾ كلام مستأنف يعني لو يطيعكم الرسول فيما يخبرونه كاذبا لعنتم، وهذا التأويل يقتضي أن يكون قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ الخ خطابا للوليد وأمثاله وليس كذلك فإن الكاذب غير مخاطب بالتثبت بل السامع مخاطب به، مقال بعضهم واعلموا أن فيكم رسول الله معناه كما مر أن لا تكذبوا ولو يطيعكم كلام مستأنف خطاب لبعض المؤمنين الذين زينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق والاستدراك خطاب لبعض آخر من المؤمنين الذين يريدون التثبت وهم المعنيون بقوله تعالى :﴿ أولئك هم الراشدون ﴾ وهذا القول يفيد جدالا لاستلزام انتشار الضمائر في كلام واحد من غير قرينة وأمر داع إليه والأحسن ما قال البيضاوي ﴿ والله عليم ﴾ بأحوال المؤمنين ﴿ حكيم ﴾، يفضل وينعم بالتوفيق عليهم،
أخرج الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا وانطلق إلى عبد الله ابن أبي فقال إليك عني فوالله لقد أداني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار والله لحماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتما وغضب لكل واحد أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فنزلت فيهم ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين ﴾١ مرفوع بفعل مضمر أعني اقتتل يفسره قوله تعالى :﴿ اقتتلوا ﴾ يعني تقاتلوا أورد صيغة الجمع حملا على المعنى فإن كل طائفة جمع ﴿ فأصلحوا بينهما ﴾ شرطية جزائه إنشاء ولذا عطفت على الإنشائيات وثنى الضمير هاهنا نظرا إلى لفظ الطائفتين والإصلاح أن يمنع المبطل منها من الظلم ويدفع شبهة ويدعوهما إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك التحاسد والتباغض ﴿ فإن بغت ﴾ أي تعددت ﴿ إحداهما على الأخرى ﴾ وأبت الإجابة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن دفع ظلمها بالحبس والمنع بأن كان لها منعة ﴿ فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء ﴾ أي ترجع إلى أمر الله عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال الرجل يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصر ظالما ) قال :( تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه )٢ متفق عليه ﴿ فإن فاءت ﴾ إلى أمر الله بعد المقاتلة ﴿ فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ فيه الإصلاح بالعدل هاهنا إشعارا بأن المقاتلة الواقع قبل ذلك لا يجرمنك على أن تعدلوا ﴿ وأقسطوا ﴾ في الأمور كلها ﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾ فيحسن جزاؤه القسط الجور والإقساط إزالة الجور بالعدل والهمزة للسلب
١ خرجه البخاري في كتاب: الصلح باب: ما جاء في الإصلاح بين الناس ﴿٢٦٩١﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير باب: ﴿في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافين {١٧٩٩﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الإكراه باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخذه إذا خاف عليه القتل أو نحوه ﴿٦٩٥٢﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: نصر الأخ ظالما أو مظلوما ﴿٢٥٨٤﴾.
﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ لانتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ولما كان منشأ هذا الأصل هو النبي صلى الله عليه وسلم كان أبا المؤمنين وأزواجه أمهاتهم وهذه الجملة تعليل وتقرير للأمر بالإصلاح ولذلك كرره مرتبا عليه فقال ﴿ فأصلحوا بين أخويكم ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والفاء للسببية قرأ يعقوب بين إخوتكم بالتاء الفوقانية على الجمع والباقون بالباء التحتانية على التثنية وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهما الخلاف ﴿ واتقوا الله ﴾ ولا تخالفوا أمره ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ على تقواكم فإن التقوى سبب للتواصل والائتلاف والتراحم بينكم والتراحم موجب رحمة الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) رواه المجدد رضي الله تعالى عنه، وفي الصحيحين ( لا يرحم الله من لا يرحم الناس ) ١ من حديث جرير ابن عبد الله قال البغوي يروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحا وكف بعضهم عن بعض وأخرج سعيد ابن منصور وابن جرير عن أبي مالك قال ثلاث رجال من المسلمين فغضب قوم هذا لهذا وقوم هذا لهذا فاقتتلوا بالأيدي والنعال فأنزل الله تعالى تلك الآية ولعل هذه القصة بعينه هي السابقة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وكذا ذكر البغوي عن السدي قال كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها جعلها في علية له وإن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها وانزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم وفاؤوا إلى أمر الله. وأخرج ابن جرير وذكر البغوي عن قتادة قال ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار وكانت بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما الآخر لآخذن عنوة لكثرة عشيرته والآخر دعاه للتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى فلم يزل الأمر حتى تدافعوا وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف، وأخرج ابن جرير عن الحسن قال كانت الخصومة بني الحيين فيدعوهم إلى الحكم فيأبون أن يجيبوا فأنزل الله تلك الآية ولعل هذه القصة ما ذكر قتادة روى البغوي وغيره عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة )٢ وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )٣ وفي الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، قال البغوي ويدل عليه ما روي عن الحارث الأعور أن علي ابن أبي طالب ﴿ رض ﴾ سئل عن الجمل والصفين أمشركون هم ؟ فقال لا من الشرك فروا فقيل منافقين لهم ؟ فقال لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا فما حالهم قال إخواننا بغوا علينا، مسألة : إذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة وخرجوا عن إطاعة الإمام دعاهم إلى العود وكشف شبهتهم فإن أبدوا ما يجوز لهم القتال كان ظلمهم الإمام أو ظلم غيرهم ظلما لا شبهة فيه يجب على الناس أن يعينوهم حتى ينصفوهم الإمام ويرجع عن جوره كذا قال ابن الهمام وإن لم يبدوا ذلك وتحيزوا للقتال مجتمعين حل لنا قتالهم بدءا، وقال الشافعي لا يجوز قتالهم حتى ابتدأو بالقتال وهو قول مالك وأحمد وأكثر أهل العلم لأن قتل المسلم لا يجوز إلا دفعا وهم مسلمون قال الله تعالى :﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا ﴾ قلنا البغي في اللغة الطلب قال الله تعالى :﴿ قال ذلك ما كنا نبغ ﴾ ٤ والمراد هاهنا طلب ما يخل من الجور والظلم والإباء عن قبول أحكام الشرع كما في قوله تعالى :﴿ فإن أطعناكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ﴾٥ يعني لا تطلبوا عليهن ظلما فلا يشترط في جواز قتالهم بداية القتال منهم وإنما شرطنا منعتهم لأنه إذا لم يكن لهم منعة نقدر على إلزامهم بالحبس والضرب ونحو ذلك فلا حاجة على القتال ولو شرطنا بداية القتال منهم فربما لا يمكن دفعهم لتقوى شوكتهم جمعهم ﴿ مسألة ﴾ : يجهز على الجريح من البغاة ويتبع موليهم إن كان لهم فئة يخاف أن يلحق بالفيئة وإن لم يكن له فئة لا يجهز ولا يتبع وقال الشافعي ومالك وأحمد لا يجهز ولا يتبع في الحالين لأن القتال إذا تركوه بالتولية والجراحة لم يبق قتلهم دفعا ولا يجوز قتلهم إلا دفعا لشرهم روى ابن أبي شيبة عن عبد خير عن علي أنه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا ومن ألقى سلاحه فهو آمن وأسند أيضا لا يقتل أسير، قلنا احتمال شرهم باق إذا خيف لحوقهم بالفيئة وأصحاب الجمل لم يكن لهم فيئة حين قال ذلك، وما رواه الحاكم في المستدرك والبزار في مسنده من حديث كوثر ابن حكيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) هل تدري يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ؟ قال الله تعالى ورسوله أعلم، قال لا تجهز على جريحها ولا يقتل أسيرا ولا يقسم فيئها ) فأعله البزار بكوثر ابن حكيم وتعقب الذهبي على الحاكم. مسألة : ولا تسبي ذريتهم ولا يقسم مالهم إجماعا بل يحبس مالهم حتى يتوبوا، روى ابن أبي شيبة أن عليا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديا فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر يعني بعهد الهزيمة ولا يفتح باب ولا يستحل فرج ولا مال، وروى عبد الرزاق نحوه وزاد وكان علي لا يأخذ مال المقتول ويقول من اعترف شيئا فليأخذه وفي تاريخ واسط بإسناده عن علي أنه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيرا وإياكم والنساء وإن شتمن أعراضكم وسبين أمراءكم. مسألة : ولا بأس أن تقاتلوا بسلاحهم إن احتاج إليه أهل العدل وكذا الكراع يقاتلون عليه، وقال الشافعي ومالك وأحمد لا يجوز استعمال سلاحهم وكراعهم لنا ما روى ابن أبي شيبة في آخر منصفه في باب وقعة الجمل أن عليا قسم الجمل في العسكر ما أجافوا عليه من كراع وسلاح، قال صاحب الهداية وكان قسمة للحاجة لا للتمليك لانعقاد الإجماع على عدم تملك أموالهم مسألة : ما أتلف أهل البغي على أهل العدل في حال القتال من نفس أو مال فإن كان لهم منعة وتأويل مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية الشافعي في الجديد الراجح أنه لا يضمن وقال الشافعي في رواية الأخرى وأحمد يضمن، قال البغوي قال ابن شهاب كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأتلف أموال ثم صار الناس إلى أن أسكت الحرب وجرى الحكم عليهم فما علمت اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه. مسألة : باغ قتل عادلا مدعيا حقيقة يرثه وإن أقرأنه على الباطل لا يرث عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف والشافعي لا يرث الباغي العادل سواء ادعى حقيقة أو أقرأنه على باطل وعادل قتل باغيا يرث إجماعا. مسألة : الخارجون عن إطاعة الإمام إذا لم يكن لهم تأويل سواء كان لهم منعة أو لا يأخذون أموال الناس ويقتلونهم الطريق فهم قطاع الطريق وقد مر حكمهم في سورة المائدة :﴿ أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ﴾٦ مسألة : من كان خارجا من حكم الإمام ولا منعة له يلزمه حكم الله بالحبس والضرب ونحو ذلك ولا يجوز قتله.
قال البغوي روي أن عليا سمع رجلا يقول في ناحية المسجد لا حكم إلا الله، فقال علي كلمة حق أريد به الباطل لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله عز وجل ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بقتال كذا قال محمد بلغنا عن علي ﴿ رض ﴾ فذكره نحوه والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد باب: قول الله تعالى: ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان﴾ ﴿٧٣٧٦﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المظالم باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب: تحريم الظلم ﴿٢٥٨٠﴾.
٣ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه ﴿٢٥٦٤﴾.
٤ سورة الكهف: الآية: ٦٤.
٥ سورة النساء: الآية ٣٤.
٦ سورة المائدة، الآية ٣٣.
وذكر البغوي عن ابن عباس أنه كان أنه كان ثابت ابن قيس ابن شماس في أذنه وقر وكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبوقا بالمجلس وسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وفاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضيق كل رجل مجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا قام قائما كما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول تفسخوا فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين رجل فقال له تفسح فقال الرجل قد أصبت مجلسا فأجلس ثابت خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال من هذا ؟ قال أنا فلان فقال ثابت ابن فلانة فذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه واستحى فأنزل الله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ﴾ في القاموس القوم الجماعة من الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة وتدخله النساء على التبعية وفي الصحاح القوم جماعة في الأصل دون النساء واستدل بهذه الآية حيث عطف النساء عليه ويقول الشاعر :
وما أدري لست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وفي عامة القرآن أريد به الرجال والنساء جميعا وحقيقة للرجال لقوله تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾١ كذا قال صاحب المدارك وقال البيضاوي هو مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور والقيام بالأمور وظيفة الرجال وحيث فسر بالقبيلتين كقوم هود وقوم فرعون وقوم نوح وقوم لوط فأما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال عن ذكرهن لأنهن توابع واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع ﴿ عسى أن يكونوا ﴾ أي من يسخر به ﴿ خيرا منهم ﴾ أي من يسخر استئناف ﴿ ولا نساء من نساء ﴾ عطف النساء على الرجال ولم يكتف بما سبق مبالغة في النهي ولأن السخرية والاستهزاء يكون في النساء غالبا لضعف عقلهن وجهلهن قال البغوي روي عن أنس أنها أنزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر وعن كرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي ابن أخطب قالت لها النساء يهودية بنت يهوديين وفي رواية لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد ) ( عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ) اللمز الطعن باللسان يعني لا يعب بعضكم بعضا ﴿ ولا تنابزوا بالألقاب ﴾ التنابز التفاعل من النبز بمعنى اللقب، قال البيضاوي النبز باللقب السوء، وفي القاموس التنابز التعاير والتداعي بالألقاب يعني لا تدع بعضكم بعض اللقب السوء، قال البغوي قال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر، قال الحسن كان اليهودي والنصراني يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك قال عطاء هو أن تقول لأخيك يا حمار يا خنزير وروي عن ابن عباس ﴿ رض ﴾ قال التنابز أن يكون الرجل عمل السيآت ثم تاب عنها فنهى أن يعير بما سلف من عمله، أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة ابن الضحاك قال كان الرجل منها يكون له اسمان أو ثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكره فنزلت ﴿ ولا تنابزوا بالألقاب ﴾٢ قال الترمذي حسن وروى أحمد عنه بلفظ قال فينا نزلت بني سلمة ولا تنابزوا بالألقاب قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة وليس فيها إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعاه أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت ﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ﴾ أي بئس الاسم أن يقال له يهودي أو يا فاسق أو يا شارب الخمر بعد ما أن تاب، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ﴾٣ رواه البخاري عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أيما رجل قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدها )٤ متفق عليه وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ من دعى رجلا بالكفر أو قال عنه والله ليس ذلك إلا جاء عليه ﴾ متفق عليه، وقيل معنى الآية أن السخرية واللمز والنبز فسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان فلا تفعلوا شيئا توصفوا فيه باسم الفسوق، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ﴾٥ متفق عليه ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة وعن سعد والطبراني عن عبد الله ابن مغفل وعن عمر ابن النعمان ابن مقرن والدارقطني عن جابر وزاد الطبراني عن ابن مسعود ﴿ وحرمة ماله كحرمة دمه ﴾ ﴿ ومن لم يتب ﴾ عما نهى عنه من السخرية واللمز والنبز ﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب وحد ضمير لم يتب نظرا إلى لفظة من وجمع ضميرهم الظالمون نظرا إلى معناها نسبة المحصن إلى الزنا يوجب حد القذف إجماعا وسنذكر مسائل حد القذف في سورة النور إن شاء الله تعالى، ونسبة غير المحصن كالعبد والكافر إلى الزنا لا يوجب الحد لانحطاط درجتها بل يوجب التعزير لإشاعة الفاحشة ونسبة المحصن إلى غير الزنا لا يوجب حد القذف ويوجب التعزير إن كان النسبة إلى فعل اختياري يحرم في الشرع ويعد عارا في العرف وإلا لا إلا أن يكون تحقيرا للأشراف فمن قال لمسلم يا فاسق يا كافر يا خبيث يا سارق يا فاجر يا مخنث يا خائن يا زنديق يا لص يا ديوث يا قرطبان يا شارب الخمر يا آكل الربا يعزر، قتال ابن همام روي أنه عليه السلام عزر رجلا قال لغيره يا مخنث ولو قال يا حمار يا خنزير يا كلب يا تيس يا حجام لا يعزر وقيل لا إلا أن يقال لعالم، أو علوي أو رجل صالح ولو قال يا لاعب النرد ويا عشار لا يعزر لأنها لا يعد عارا عرفا وإن كان محرما شرعا مسألة : لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود عند أبي حنيفة والشافعي عفى الله عنهما وأدنى الحدود عند أبي حنيفة رح أربعون سوطا حد الشرب في العبد وعند أبي يوسف ثمانون حد الأحرار، وعند الشافعي وأحمد عشرون وقال مالك للإمام أن يضرب في التعزيز أي عدد أدى إليه اجتهاده وقال أحمد يعزر في الوطء فيما دون الفرج بشبهة أكثر من أدنى الحدود ولا يبلغ أعلاها، وفي قبلة أجنبية أو شتم أو سرق دون النصاب لا يبلغها أدنى في الحدود والله تعالى أعلم،
١ سورة النساء الآية ﴿٣٤﴾.
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الحجرات ﴿٣٢٦٧﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب باب: في الألقاب: ﴿٤٩٥٤﴾ وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الأدب باب: الألقاب ﴿٣٧٤١﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب باب: ما ينهى من السباب واللعن ﴿٦٠٤٥﴾.
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال ﴿٦١٠٣﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر ﴿٦٠﴾.
٥ أخرجه البخاري في كتاب الأيمان باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهولا يشعر ﴿٤٨﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم ﴿سباب المسلم فسوق وقتاله كفر﴾ ﴿٦٤﴾ وأخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب باب في الإيمان ﴿٦٩﴾.
وذكر البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزى أو سافر ضم الرجال المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيء لهما وما يصلحهما من الطعام والشراب فضم سلمان الفارسي ﴿ رض ﴾ إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيء لهما شيئا فلما قالا له ما صنعت شيئا قال لا غلبتني عيناي قالا له انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب لنا منه طعاما فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أسامة ابن زيد وقل له إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما وأخبرهما فقالا كان عند أسامة ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالا لو بعثنا إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا بتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاؤوا إلى رسول الله قال لهما مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ؟ قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما قال ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ﴾ الآية قال السيوطي رواه الثعلبي بغير إسناد وروى معناه الأصبهاني في الترغيب عن عبد الرحمان ابن أبي ليلة وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قالوا زعموا أن قوله تعالى :﴿ ولا يغتب بعضكم بعضا ﴾ نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده والله تعالى أعلم ﴿ إن بعض الظن إثم ﴾ تعليل مستأنف للأمر والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه والهمزة بدل من الواو كأنه يثم الأعمال ويكسرها والمراد بالظن هاهنا ما يقابل اليقين سواء كان جانب الوجود فيه راجحا أولا وتحقيق المقام أن الظن على أقسام منها ما يجب إتباعه وهو حسن الظن بالله تعالى والمؤمنين والمؤمنات وما يحصل بدليل شرعي فيه شبهة حيث لا قاطع فيه من العمليات وكذا في العمليات عن لم يعارضه قاطع من أحوال المبدأ والمعاد، ومنها ما يحرم اتباعه كسوء الظن بالمؤمنين والمؤمنات لا سيما بالصالحين منهم والظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالف قاطع ومنها ما ليس من القسمين المذكورين كالظن في الأمور المعايشة ونحوها، والإثم إنما هو بعض الظن يعني قسم الثاني منها والله سبحانه أمر بالاجتناب عن كثير من الظن احتياط ومبالغة في اجتناب الإثم فيتجنب عما هو إثم وعما هو يشبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة )١ الحديث ﴿ ولا تجسسوا ﴾ الجس في اللغة المس باليد والتجسس تفحص الأخبار باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللبس والمراد هاهنا لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوا عوراتهم حتى لا يظهر عليكم ما ستره الله منها، عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا لا تنافروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو ينزل ) ٢ رواه مالك وأحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي وصححه وعن ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا والمسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورات المسلمين يتبع الله عوراته فيفضحه ولو في جوف رحله ) ٣ رواه الترمذي وحسنه وابن حبان، قال زيد ابن وهب قيل لابن مسعود هل لك في الوليد ابن عقبة تقطر لحيته خمرا ؟ قال نهينا عن التجسس فإن يظهر لنا شيء نأخذ به ﴿ ولا يغتب بعضكم بعضا ﴾ أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته )٤ متفق عليه، وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قال لا يأكل حتى يطعم ولا يرحل حتى يرحل فقال النبي صلى الله عليه وسلم اغتبتموه فقالوا إنما حدثنا بما فيه قال ( حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه ) رواه البغوي ﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ﴾ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام الذي معناه الإنكار المستلزم لتقرير النفي وإسناد الفعل إلى أحد للتعليق وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ولم يقتصر عليه حتى جعله أخا ولم يقتصر عليه حتى جعله ميتا وتعقب ذلك بقوله ﴿ فكرهتموه ﴾ تقريرا وتحقيقا لذلك وجملة فكرهتموه جزاء شرط محذوف تقديره إن صح ذلك إذ عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته أو هي معطوف على الاستفهام المذكور فإن معناه تغير المحبة الموهوم عدم الكراهة فلدفع ذلك الوهم عطف عليه، وجاز أن تكون الفاء للسببية والماضي بمعنى المستقبل والمعنى أنه لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا إنكم تكرهونه وقال مجاهد لما قيل لهم أيحب أحدهم أن يأكل الخ فكأنهم قالوا لا فقيل كرهتموه فكأنه معطوف على محذوف والحاصل أنكم كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا عن أنس ابن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم قلت من هؤلاء فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) رواه البغوي قال قال ميمون بينا أنا نائم إذ أنا بجيفة زنجي وقائل يقول كل قلت يا عبد الله ولم أكل قال ما اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا قال لكنك استمتعت ورضيت وكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا أن يغتاب عنده، عن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ( حسبك من صفية كذا وكذا يعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته ) ٥ رواه أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي سعيد وجابر قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الغيبة أشد من الزنا، قالوا يا رسول الله وكيف الغيبة أشد من الزنا ؟ قال إن الرجل يزني فيتوب الله فيغفر له وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه ) ٦ فائدة : في كفارة الغيبة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن من كفارة الغيبة أن يستغفر لمن اغتابه تقول اللهم اغفر لنا وله ) رواه البيهقي. فائدة : عن خالد ابن معدان عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله يعني من ذنب قد تاب منه ) ٧ رواه الترمذي وخالد لم يدرك معاذا ﴿ واتقوا الله ﴾ بترك ما نهيتم عنه والندم على ما وجد منكم منه ﴿ إن الله تواب ﴾ يقبل توبتكم مبالغ في قبول التوبة حيث يجعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له ﴿ رحيم ﴾ بالعباد لا يرضي أن يقع بعضكم في عرض بعض
١ أخرجه البخاري في كتابك الإيمان بابك فضل من استبرأ لدينه ﴿٥٢﴾.
٢ أخرجه مالك في أبواب السير باب: ما يكره من الكذب وسوء الظن والتجسس والنميمة ﴿٨٩٥﴾ وأخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة باب: ما جاء في الحسد ﴿١٩٤١﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب باب: في هجرة الرجل أخاه ﴿٤٩٠٢﴾ وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الدعاء باب: الدعاء بالعفو والعافية ﴿٣٨٤٩﴾.
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة باب: ما جاء في تعظيم المؤمن ﴿٢٠٣٢﴾.
٤ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: تحريم الغيبة ﴿٢٥٨٩﴾.
٥ أخرج الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع ﴿٢٥٠٢﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب باب: في النية ﴿٤٨٦٧﴾.
٦ رواه الطبراني في الكبير الثقفي وهو متروك انظر مجمع الزوائد في كتاب الأدب باب: ما جاء في الغيبة والنميمة ﴿١٣١٢٨﴾.
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع ﴿٢٥٠٥﴾.
ذكر البغوي أنه قال مقاتل لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أتى على ظهر الكعبة وأذن فقال عباد ابن أسيد الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم وقال الحارث ابن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، وقال سهيل ابن عمرو وإن يرد الله شيئا يغيره وقال أبو سفيان إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء فأتاه جبرئيل عليه السلام فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى : هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقر، وقال ﴿ يا أيها الناس ﴾ الآية ولم يقل يا أيها الذين آمنوا لأنهم لم يكونوا آمنوا في ذلك الوقت وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مليكة هذه القصة مختصرا وقال ابن عساكر في مبهماته بخط ابن يشكو إلي أن أبا بكر ابن أبي داود أخرج في تفسير له أنها نزلت في أي هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم فقالوا يا رسول الله تزوج بناتنا موالينا فنزلت الآية، وقال البغوي قال ابن عباس نزلت في ثابت ابن قيس وقومه للرجل الذي لم ينفسح له ابن فلانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم من الذاكر فلانة ؟ فقال ثابت أنا يا رسول الله، فقال أنظر وجه القوم، فقال ما رأيت يا ثابت ؟ فقال رأيت أبيض وأحمر وأسود فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى فنزلت في ثابت هذه الآية وفي الذي لم يفسح ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا ﴾ ﴿ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ يعني نوع البشر من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فلا مزية لحد على غيره ولا وجه للتفاخر وجاز أن يكون تقريرا للأخوة المانعة من الاغتياب ﴿ وجعلناكم شعوبا وقبائل ﴾ كانت العرب تعتبر في النسب ست طبقات أعلاها الشعب وهي الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهي تجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن تجمع الأفخاذ والفخذ تجمع الفضائل والفضيلة تجمع العشائر وليس بعد العشيرة حي يوصف به، وقيل الشعوب من العجم والقبائل من العرب والأسباط من بني إسرائيل وقال أبو رواق الشعوب من الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدن والقرى والقبائل من العرب الذي ينتسبون إلى آبائهم ﴿ لتعارفوا ﴾ احذف أحد التائبين أي لتعرف بعضهم بعضا قرب النسب وبعده لا ليتفاخروا ﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ قال قتادة في هذه الآية أن أكرم التقوى وألأم اللؤم الفجور، عن سمرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الحسب المال والكرم التقوى )١ رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم، وقال ابن عباس كرم الدنيا الغنا وكرم الآخرة التقوى وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راجلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطب بهم رجلان فمحمد الله وأثنى عليه وقال :" الحمد لله الذي عنكم عبية الجاهلية وتكبرها الناس رجلان برتقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله تلا ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ ﴿ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ الآية ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم٢ " رواه الترمذي والبغوي وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان خير من فلان ابن فلان فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون " وعن أبي هريرة قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم على الله ؟ قال أكرمكم عند الله أتقاهم، قالوا ليس عن ذلك نسألك، قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله بين خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألون ؟ قالوا نعم، قال فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " ٣ رواه البخاري وغيره وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ﴾ ٤ رواه مسلم وابن ماجه ﴿ إن الله عليم خبير ﴾ ببواطنكم وفضائلكم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الحجرات ﴿٣٢٧١﴾ وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد باب: الورع والتقوى ﴿٤٢١٩﴾
.

٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الحجرات ﴿٣١٧٠﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب: قول الله تعالى ﴿لقد كان في يوسف وإخوانه آيات للسائلين﴾ (٣٣٨٣)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه ﴿٢٥٦٤﴾ وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد باب: القناعة ﴿٤١٤٣﴾..
ذكر البغوي أن نفرا من بني أسد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر فأفسدوا طرق المدينة بالقذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدرون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعمال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم ويردون الصدقة ويقولون أعطنا فأنزل الله تعالى :﴿ قالت الأعراب آمنا ﴾ الآية، قال السدي نزلت في الأعراب الذي ذكرهم الله في سورة الفتح وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا يقولون أمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم.
فلما استنفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية تخلفوا فنزلت ﴿ قالت الأعراب آمنا ﴾ يعني صدقنا قل يا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لم تؤمنوا ﴾ فإن الإيمان صفة القلب عبارة عن تصديقه والإقرار كن زائد عن الاختيار لإجراء الأحكام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ الإيمان أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن من بالقدر خيره وشره ﴾١ كذا في الصحيحين من حديث عمر ابن الخطاب مرفوعا في حديث سؤال جبرئيل ﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ والمراد بالإسلام الانقياد الظاهري وكان مقتضى نظم الكلام أن يقال لا تقولوا أمنا لكن قولوا أسلمنا أو يقال لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل عنه إلى هذا النظم احترازا عن النهي عن القول بالإيمان وعن الجزم بإسلامهم مع فقد لشرط اعتباره عند الله تعالى :﴿ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ حال من فاعل قولوا أو معطوف على لم تؤمنوا للتأكيد على نفي الإيمان في الماضي والتوقع في المستقبل وليس في لم تؤمنوا التوقع فلا يلزم التكرار { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ﴿٥٠﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ﴿١٠﴾.
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } في الإيمان بالقلوب مخلصين والامتثال كما يدل على قوله تعالى :﴿ ثم لم يرتابوا ﴾ أي لا يشكوا فيما جاء به الرسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمة ثم للإشعار باشتراط عدم الارتباط في شيء من الأزمنة المتراخية إلى آخر أجزاء الحياة كاشتراط في بداية الإيمان فهي كقوله تعالى :﴿ ثم استقاموا ﴾١ ﴿ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ أي في طاعة يجوز أن يكون مفعول جاهدوا محذوفا منويا يعني جاهدوا العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى وجاز أن يجعل لازما مبالغة في الجهد وجاز أن يراد بالمجاهدة العبادات القلبية والسرية والبدنية والمالية فهذه الآية لامتثال جميع الأوامر والانتهاء عن جميع المناهي إما عبارة إن كان المراد مطلق المجاهدة وإما دلالة إن كان المراد به القتال مع الكفار فإن من بذل نفسه وماله لإصلاح العالم وإخلائه من الفساد وإعلاء كلمة الله وإفشاء الدين، فإنه يصلح أولا نفسه بآيتان المأمورات وانتهاء المناهي بالطريق الأولى ﴿ أولئك ﴾ الموصوفين بتلك الصفات ﴿ هم الصادقون ﴾ في ادعاء الإيمان جملة مستأنفة وجاز أن يكون الموصول مع صلته صفة للمبتدأ وهذه الجملة خبر له،
١ سورة فصلت الآية ٣٠.
فلما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعرف الله غير ذلك فأنزل الله تعالى :﴿ قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ﴾﴿ قل أتعلمون الله بدينكم ﴾ الدائم عليه بقولكم أمنا ﴿ والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ﴾ حال من الله تعالى في أتعلمون الله ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ عطف على الله يعني أن الله يعلم حقيقة أسراركم ولا يحتاج إلى إخباركم فعليكم بإصلاح بواطنكم،
أخرج الطبراني بسند حسن عن عبد الله ابن أبي أوفى والبزار من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس وابن أبي حاتم مثله عن الحسن أن ناسا من العرب قالوا يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك وقاتلك بنو فلان قال الحسن كان ذلك لما فتحت مكة ونزلت ﴿ يمنون عليك أن أسلموا ﴾ منصوب بنزع الخافض أي بأن أسلموا وبتضمين الفعل معنى الاعتداد وكذا إسلامكم في قوله تعالى ﴿ قل لا تمنوا على إسلامكم ﴾ وكذا إن هداكم في قوله تعالى :﴿ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ﴾ بخلق التصديق في قلوبكم ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في إدعاء الإيمان وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله يعني إن كنتم صادقين في ادعاء الإيمان فلله المنة عليكم وفيه إشارة إلى أن كلهم ليسوا صادقين فيما ادعوا لذلك عقبة بقوله ﴿ إن الله يعلم غيب السماوات والأرض ﴾
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة: وأخرج ابن سعد عن محمد ابن كعب القرظي وسعيد ابن منصور في سننه عن سعيد جبير نحوه وأنه قدم عشرة نفر من بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع وفيهم طلحة ابن حويلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فسلموا وقال متكلمهم يا رسول الله إنا نشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا ونحن لمن وراءنا سلم فأنزل الله تعالى :﴿ يمنون عليك أن أسلموا ﴾.
﴿ إن الله يعلم غيب السماوات والأرض ﴾ يعني ما غاب فيهما ﴿ والله بصير بما تعملون ﴾ في سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه ما في ضمائركم، قرأ ابن كثير بالتاء خطابا للأعراب داخلا في مقولة قل والباقون بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الأعراب فهو كلام مستأنف من الله تعالى
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة: وأخرج ابن سعد عن محمد ابن كعب القرظي وسعيد ابن منصور في سننه عن سعيد جبير نحوه وأنه قدم عشرة نفر من بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع وفيهم طلحة ابن حويلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فسلموا وقال متكلمهم يا رسول الله إنا نشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا ونحن لمن وراءنا سلم فأنزل الله تعالى :﴿ يمنون عليك أن أسلموا ﴾.
Icon