تفسير سورة الطور

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الطور من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الطور
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله: (وَالطُّورِ (١)
قسم، والطور الجبل، وجاء في التفسير أنه الجبل الذي كَلَّمَ اللَّه عليه
موسى عليه السلام.
* * *
(وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣)
الكتاب ههنا ما أثبت على بني آدم من أعمالهم.
* * *
(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
فىِ التفسير أنه بيت في السماء بإزاء الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف
ملك ثم يخرجون منه وَلَا يَعُودُونَ إليه.
* * *
وقوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧)
جواب القسم، أي وهذه الأشياء إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
وجائز أن يكون المعنى - واللَّه أعلم - ورب هذه الأشياء (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
* * *
وقوله: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩)
(تمور) تدور.
و" يومَ " منصوبُ بقوله (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
أي لواقع يوم القيامة.
(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١)
والويل كلمة يقولها العرب لكل من وقع في هلكة.
* * *
قوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢)
أي يشاغلهم بكفرهم لعب عاقِبتُه العذاب.
* * *
(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)
أي يوم يزعجون إليها إزعاجاً شديداً، ويدفعون دفعاً عنيفاً، ومن هذا
قوله: (الذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ)، أي يدفعه عما يجب له.
* * *
وقوله: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤)
المعنى فيقال لهم: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ).
(والبَحْرِ المَسْجُورِ).
جاء في التفسير أن البحر يسجر فيكون نار جهنم.
وأما أهل اللغة فقالوا: البحر المسجور المملوء.
وأنشدوا:
إِذا شاء طالَعَ مَسْجُورَةً... تَرى حَوْلَها النَّبْعَ والسَّاسَما
يعني ترى حولها عيناً مملوءة بالماء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥)
لفظ هذه الألف لفظ الاستفهام، ومعناها ههنا التوبيخ والتقريع أي
أتصدقون الآن أن عذاب الله لواقع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
(سَوَاءٌ) مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف، المعنى سواء عليكم الصبر والجزع.
(إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
معنى إنما ههنا ما تجزون إِلَّا ما كنتم تعملون، أي الأمر جارٍ عليكم
على العدل، ما جوزيتم إِلَّا أعمالكم.
* * *
وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨)
(فَكِهِينَ)
و (فَاكِهِينَ) جميعاً، والنصب على الحال.
ومعنى (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)
أي معجبين بما آتاهم رَبُّهُمْ
* * *
(وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).
أي غفر لهم ذنوبهم التي توَجِبُ النَّار بإسلامهم وتوبتهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلٌ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩)
المعنى: يقال لهم كلوا واشربوا هنيئاً.
و (هنيئاً) منصوب وهو صفة في موضع المصدر.
المعنى كلوا واشربوا هُنِّئتُمْ هَنيئاً وليهنكم ما صرتم إِليه.
* * *
وقوله: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (٢٣)
معنى (يتنازعون) يتعاطون فيها كأساً، يُتَناول هذا الكأس من يد هذا وهذا
من يد هذا.
وقوله: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)
معناه لا يجري بينهم ما يُلْغَى، أي لا يجري بينهم باطل
ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لِشَرَبَةِ الخمر.
والكأسُ في اللُغة الإِنَاءُ المملوء، فإذا كان فارغاً فليس بكأس.
وتقرأ: لا لغوَ فيها ولا تَأثِيمَ. بالنَصْبِ.
فمن رفع فعلى ضربين:
على الرفع بالابتداء، و " فِيْهَا " هو الخبر.
وعلى أن يكون " لا " في مذهب " ليس " رافعة.
أنشد سيبويه وغيره:
مَن صَدَّ عن نِيرانِها... فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ
ومن نصب فعلى النَّفْي والتبرية كما قال في قوله: لا ريب فيهِ، إلا أن
الاختيارَ عند النحويين إذا كررَتْ " لا " في هذا الموضع الرفع.
والنصْبُ عند جميعهم جائز حَسَن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦)
الكلام - واللَّه أعلم - يدل ههنا أنهم يتساءلون في الجنَّة عن أحوالهم
التي كانت في الدنيا، كان بعضهم يقولُ لبعض: بم صرت إلى هذه المنزلة
الرفيعة، وفي الكلام دليل على ذلك وهو قوله في جواب المسألة:
(إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ).
أي مشفقين من المصير إلى عذاب الله عزَّ وجلَّ، فعملنا بطَاعَتِه، ثم
قرنوا الجوابَ مع ذلك بالِإخلاص والتوحيد بقولهم:
(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
أي نُوَحِّدُه ولا ندعو إلهاً غيره.
* * *
(فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧)
أي عذاب سموم جهنم.
* * *
وقوله: عزَّ وجلَّ: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ
(٢٩)
أي ذكرهم بما أعتَدْنَا للمتقِينَ المؤمنين والضلال للكافِرِين.
(فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ)
أي لست تقول ما تَقُولُه كهانَة، ولا تنطق إِلَّا بَوَحيٍ من الله عزَّ وَجَلَّ.
* * *
وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)
(رَيْبَ المَنُونِ)
حوادث الدهر.
* * *
(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١)
فجاء في التفسير أن هؤلاء الذين قالوا هذا - وكان فيهم أبو جهل -
هلكوا كلهم قبل وفاة رسول اللهِ - ﷺ -.
* * *
وقوله: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٣٢)
أي أتأمرهم أحْلَامُهُم بترك القبول ممن يدعوهم إلى التوحيد وتأتيهم
على ذلك بالدلائل، ويعملون أحْجَاراً ويعبدونها.
(أمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
أي أم هم يكفرون طغياناً وقد ظهر لهم الحق.
* * *
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤)
أي إذا قالوا أن النبي - ﷺ - تقوله فقد زعموا أنه من قول البشر، فليَقولوا مثلَهُ فما رام أحَدٌ مِنهم أن يقول مثل عَشْرِ سُور ولا مثل سورةٍ.
* * *
وقوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥)
معناه بل أُخلِقُوا من غير شيء.
وفي هذه الآية قولان:
وهي مِنْ أصْعَب ما في هذه السورة.
قال بعض أهل اللغة:
ليس هم بأشد خلقاً من خلق السَّمَاوَات والأرض، لأن السَّمَاوَات والأرض خُلِقَتَا من غير شيء، وهم خُلِقوا من آدم وآدم من تراب.
وقيل فيها قولٌ آخر، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أَمْ خُلِقُوا لِغَيْرِ شَيْءٍ
أي خلقوا باطِلًا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا يَنْهَوْنَ.
* * *
ْوقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ).
وقرئت (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)
وقرئت " واتبعتم ذُريَّتُهُمْ " وكلا الوجهين جائز، الذُرية تقع على الجماعة، والذريَّات جَمِع، وذُرَيَّة على التوحيد أكثر.
وتأويل الآية أن الأبناء إذا كانوا مؤمنين، وكانت مراتب آبائهم في الجنة
أعلى من مراتبهم ألحق الأبناء بالآباء، ولم ينْقص الآباء من عملهم شيئاً.
وكذلك إن كان عَمَل الآبَاء أنقَص، أُلْحِقَ الآبَاءُ بالأبْنَاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).
معناه ما أنْقَصْنَاهم، يقال ألَتَه يَألِته ألْتاً إِذَا نَقَصَة.
قال الشاعِرْ
أَبْلِغْ بَني ثُعَلٍ عَنِّي مُغَلْغَلَةً... جَهْدَ الرِّسالَةِ لا أَلْتاً ولا كَذِبا
ويقال لأته يليتهُ لَيْتاً إذا نَقَصَهُ وصرفَهُ عن الشيء.
قال الشاعر:
وليلةٍ ذات ندى سَريْتُ... وَلَم يَلتْني عن هواها ليتُ (١)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّّ: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) المصيطرون: الأرباب المتسَلِّطونَ.
يقال: قد سيطر علينا وتسيطر وتسيطر. بالسين والصّاد.
والأصل السين، وكل سين بعدها طاء يجوز أن تقلب صاداً، تقول: سيطر
وصيطر، وسطا وصَطا.
وتفسير (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ)
أي عندهم ما في خزائن ربك من العلم.
وقيل - في " خزائن ربك " أي رزق ربك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨)
وقال أهل اللغة: - معنى يستمعون فيه، يستمعون عليه ومثله:
(لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)
أي على جذوع النخل.
(فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ من قولِه: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي: إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ به مَنْ دونَه في العمل، ابناً كان أو أباً، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ. قال أبو البقاء: «على تقدير وأكرَمْنا الذين آمنوا». قلت: فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى، وأَنْ يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء.
والثالث: أنه مجرورٌ عطفاً على «حورٍ عينٍ». قال الزمخشري: «والذين آمنوا معطوفٌ على» حورٍ عينٍ «أي: قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي: بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم، كقوله: ﴿إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ». ثم قال الزمخشري: «ثم قال تعالى: ﴿بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي: بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً عليهم».
قال الشيخ: «ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ» والذين آمنوا «معطوفٌ على» بحورٍ عينٍ «غيرُ هذا الرجلِ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ عباسٍ وغيرِه». قلت: أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه ونَضارَتِه، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه، بل لو عُرِض على ابنِ عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم. وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه؟.
وقوله: ﴿واتبعتهم﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ، ويكونَ «والذين» مبتدأً، ويتعلقَ «بإيمان» بالاتِّباع بمعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق الأولادَ الصغارَ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ، بأحكام الآباءِ المؤمنين. وهذا المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك. ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ والخبر، قاله الزمخشري. ويجوزُ أَنْ يتعلَّق «بإيمان» بألحَقْنا كما تقدَّم. فإنْ قيل: قولُه: «اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم» يفيد فائدةَ قولِه: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾. فالجوابُ أنَّ قولَه: «أَلْحَقْنا بهم» أي: في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان، وإن لم يَبْلُغوه كما تقدَّم. وقرأ أبو عمرو و «وأَتْبَعْناهم» بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ نفسَه. والباقون «واتَّبَعَتْهم» بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء التأنيث. وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ «ذُرِّيَّتهم» وجمعِه في سورة الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى.
قوله: ﴿أَلَتْنَاهُمْ﴾ قرأ ابن كثير «أَلِتْناهم» بكسر اللام، والباقون بفتحِها. فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ.
وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ، وأَنْ تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم. وقرأ ابن هرمز «آلَتْناهم» بألفٍ بعد الهمزة، على وزنِ أَفْعَلْناهم. يقال: آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ. وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة، وتُرْوى عن ابنِ كثير «لِتْناهم» بكسر اللام كبِعْناهم يُقال: لاتَه يَليته، كباعه يَبيعه. /
وقرأ طلحة والأعمش أيضاً «لَتْناهم» بفتح اللام. قال سهل: «لا يجوز فتحُ اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ» ولذلك أَنْكر «آلَتْناهم» بالمدِّ: وقال: «لا يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ». وليس كما زعم؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ: آلَتَ يُؤْلِتُ. وقُرِىء «وَلَتْناهم» بالواو ك «وَعَدْناهم» نَقَلها هارون. قال ابن خالويه: «فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت، ووَلَتَ يَلِتَ، وأَلِتَ يَأْلَت، وأَلَت، وأَلات يُليت. وكلُّها بمعنى نَقَص. ويقال: أَلَتَ بمعنى غَلَّظ. وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل: لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي: لا تُغْلِظْ عليه». قلت: ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه، والمعنى: لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه.
قوله: ﴿مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ «مِنْ شيءٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «أَلَتْناهم» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «شيء» لأنَّها في الأصلِ صفةٌ له، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ ب «أَلَتْناهم» وليس بظاهرٍ. وفي الضمير في «أَلَتْناهم» وجهان، أظهرهما: أنَّه عائدٌ على المؤمنين. والثاني: أنَّه عائد على أبنائهم. قيل: ويُقَوِّيه قولُه: ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي بحجة واضحة، والمعنى - واللَّه أعلم - أنهم كجبريل الذي يأتي
النبي - ﷺ - بالوحي ويبيِّنُ تبيينه عن اللَّه، ما كان وما يكون.
ثم سفر أحلامهم في جعلهم البنات للَّهِ فقال:
* * *
(ام لَهُ البَنَات وَأ@كُم البَنُونَ). -
أي أنتم يجعلواط للَّهِ ما تكرهون وأنتم حكماءْ عند أنفسكم.
* * *
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠)
المعنى أن الحجة واجبة عليهم من كل جهة، لأنك أتيتهم بالبيان
والبرهان ولم تسألهم على ذلك أجراً.
* * *
ْوقوله جلَّ وعزَّ: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢)
أي أم يريدون لكفرهم وطغيانهم كيداً.
فاللَّه عزَّ رجل يكيدهم ويجزيهم بكيدهم العذاب في الدنيا والآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
المعنى بل ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ.
فإن قال قائل: هم يزعمون أن الأصنام آلهتهم، فإن قيل لهم: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ)؟
فالجواب في ذلك ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يخلق ويرْزق ويفعل ما يعجز عنه المخلوقون، فمن يفعل ذلك إلا الله عزَّ وجلَّ، ثم نَزَهَ نفسه عزَّ وجلَّ فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
جاء في التفسير وفي اللغة أن معناه تنزيه اللَّهِ - عمَّا يشركون، أي عمن
يجعلون شريكاً لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (٤٤)
أي وإن يروا قطعة من العذاب يقولوا لشدة طغيانهم وكفرهم: هذا سحاب مركوم، ومركوم قد ركم بعضا، على بعض، وهذا في قوم من أئمة الكفر وهم الذين
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - فيهم: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥).
فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هُؤلَاءِ لَا يَعْتَبِرونَ وَلَا يوقِنُونَ ولا يؤمنون بأبْهَرِ ما يكون من الآيات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥)
(يَصْعَقُونَ)
وقرئت: (يُصْعَقُونَ)، أي فذرهم إلى يوم القيامةِ.
ثم أعلم أنه يعجل لهم العذاب في الدنيا فقال:
(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧)
المعنى وإن للذين ظلموا عذاباً دون عذاب الآخرة، يعني من القتل
والأسر وسبي الذَارَارِي الَّذِي نزل بهم، وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه ناصِرٌ دينه ومهلك من عادى نبيه، ثم أمره بالصبر إلى أن يقع العذاب بهم فقال:
(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨)
أي فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، ولا يصلون إلى مكروهك.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ).
أي حين تقوم من منامك، وقيل حين تقوم في صلاتك، وهو ما يُقَالُ مع
التكبير: سبحانك اللهم وبحمدك.
* * *
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (٤٩)
وقرئت (وَأَدْبَارَ النُّجُومِ).
فمن قرأ (إِدْبَارَ) بالكسر فعلى المصدر أَدبَرْت إِدْباراً.
ومن قرأ (أَدْبَارَ) بالفتح فهو جمع دبر.
وأجمعوا في التفسير أن معنى (أَدْبَارَ السًّجُودِ) معناه صلاة الركعتين بعد المغرب، وأن (إِدْبَارَ النُّجُومِ) صلاة ركعتي الغداة.
Icon