تفسير سورة الحشر

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الحشر
قال البقاعي : وتسمى سورة بني النضير وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال : قلت لابن عباس سورة الحشر قال : قل : سورة بني النضير قال ابن حجر : كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد ههنا إخراج بني النضير. وهي مدنية وآيها أربع وعشرون بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) وفي أول هذه ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب ) وفي آخر تلك ذكر من حاد الله ورسوله وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله وأن في الأولى ذكر المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة لا ترد له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أبو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفة من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل : أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها : الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف. وقيل : على جمل واستعمل على المدينة ابن مكتوم حتى إذا نزل صلى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب وقيل : استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : أخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون أخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم على ما قال ابن هشام في سيرته ست ليال وقيل : إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم : معنى ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز وجل :( بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ( إلى قوله تعالى :( والله على كل شيء قدير )

يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم- على ما قال ابن هشام في سيرته- ست ليال، وقيل:
إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم: معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلّى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز وجل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر: ٦] وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد، وكرر الموصول هاهنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق، والمراد- بالذين كفروا- بنو النضير- بوزن الأمير- وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة، ويقال للحيين: الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في البحر، ويقال: إنهم نزلوا قريبا من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلّى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى.
وقيل: إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق، وقال لهم: لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة الله تعالى والله لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب، والثاني متعلق- باخرج- وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا، وضمير هُوَ راجع إليه تعالى بعنوان العزة
233
والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام: ٤٦] أي بذلك فكأنه قيل: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة، وقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلق- بأخرج- واللام لام التوقيت كالتي في قولهم: كتبته لعشر خلون. ومآلها إلى معنى- في- الظرفية، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا: إنها بمعنى- في- إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات، وقيل: إنها للتعليل وليس بذاك، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام.
وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل، وهو يوم القيامة من القبور، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا: المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام،
وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر»
ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا، وقيل: آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره، وهو كما ترى، وقيل: المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلّى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى، ولذا قيل: إنه الظاهر، وتعقب بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر، وقيل: لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخت، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم.
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى- فحصونهم- مبتدأ ومانِعَتُهُمْ خبر مقدم، والجملة خبر أَنْ وكان الظاهر لمقابلة ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء- بمانعتهم. وحصونهم- مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، فجيء بضمير- هم- وصير اسما- لأن- وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث، ومنع
234
بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا- لمانعتهم- لاعتماده على المبتدأ.
وجوز كون مانِعَتُهُمْ مبتدأ خبره حُصُونُهُمْ، وتعقب بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل، وكانت حُصُونُهُمْ على ما قيل أربعة: الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة، وزاد بعضهم الوخدة (١) وبعضهم شقا، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أمره سبحانه، وقدره عز وجل المتاح لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة، وقيل: ضمير فَأَتاهُمُ ولَمْ يَحْتَسِبُوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، وفيه تفكيك الضمائر.
وقرىء فآتاهم الله، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف. أي فآتاهم الله العذاب أو النصر وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم، وبهذا الاعتبار عطفت أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ على- أيديهم- وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم- فيخربون- على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير قُلُوبِهِمُ أو لا محل لها من الإعراب، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول، وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه، فالإخراب يكون أثر التخريب، وقيل: هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى- الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين- إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه.
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور
(١) قوله: الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين، وقيل: بفتحها. ويقال فيه:
السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة اه منه.
235
والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع، ولذا قال ابن عباس في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر- وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب- ثبتت مشروعية العمل بالقياس، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: ١٣، النور: ٤٤] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [النحل: ٦٦] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال:
إنه غير معتبر، ولو كان القياس هو الاعتبار- لم يصح هذا السلب- سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة- فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي- سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم: إنه إذا قال لوكيله: أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم، وإن كان أسود، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم: اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال- وهو القياس. والآيتان على ذلك- ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق.
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال: قالوا: إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا، ويقال أيضا: جلاهم وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه: الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف، وقد صرح بذلك الرضي، وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف غير متعلق بجواب لَوْلا أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما
236
أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة.
ذلِكَ أي ما نزل بهم وما سينزل بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفعلوا ما فعلوا من القبائح وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال، والاقتصار على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وهذه الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل: ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وكل من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان، وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة، وقال أبو عبيدة وسفيان: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان: شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة أيضا: هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هي العجوة
، وقال الأصمعي: هي الدقل، وقيل: هي النخلة القصيرة، وقال الثوري: الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين، وجاء جمعها ليانا كما في قول امرئ القيس:
وسالفة كسوق الليا... ن أضرم فيه القويّ السعر
وقيل: هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة:
كأن قنودي فوقها عش طائر... على لينة سوقاء تهفو جنوبها
ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى، وما شرطية منصوبة- بقطعتم- ومِنْ لِينَةٍ بيان لها، ولذا أنث الضمير في قوله تعالى:
أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء ما، وجواب الشرط قوله سبحانه: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلّى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل، وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي- قوما- على وزن فعل كضرب جمع قائم، وقرىء- قائما- اسم فاعل مذكر على لفظ ما، وأبقى أصولها على التأنيث، وقرىء- أصلها- بضمتين، وأصله أُصُولِها فحذفت الواو اكتفاء بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه أن يكون معطوفا على قوله تعالى: بإذن اللَّهِ وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد- بالفاسقين- أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.
قال بعضهم: وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على
237
صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلّى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أول نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت الآية ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلخ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذانا بتساويهما في ذلك.
واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة، وقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم من أولئك الكفرة- وهم بنو النضير- وما موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا إليه، والجملة المتقرنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم، والمراد بإعادتها عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلّى الله عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: ٨٨، إبراهيم: ١٣] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازا، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلّى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئا للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة: فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، وأَفاءَ على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت ما شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصوله فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فان كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت بيانا لما يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الإخبار أنها نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ إلخ فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى.
وقال الضحاك: كانت له صلّى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة أعطاهم لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر
238
الأولين ولم يذكر الحارث، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم، ومعنى ما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب:
ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولولا أنت لم توجف الركب
وقال ابن هشام: «أوجفتم» حركتم وأتعبتم في السير، وأنشد قول تميم بن مقبل:
مذاويد بالبيض الحديث صقالها عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا
والمآل واحد، ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ خَيْلٍ زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كأنه قيل- فما أوجفتم عليه- فردا من أفراد الخيل أصلا وَلا رِكابٍ ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح: راكب لمن كان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال: فارس ونحوه، وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا، وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بني النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان على الحمار. أو على جمل- كما تقدم- لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها، وكان المراد أن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم، ولهذا لم يعط صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي ولكن سنته عز وجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطا خاصا، وقد سلط رسوله محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، ويكون أمرها مفوضا إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها، وقيل: الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار، والواقع من القتال شيء لا يعتد به.
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمر بن
239
الخطاب رضي الله تعالى عنه، ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلا يقول: قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز وجل من غيرهم؟ فقيل: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى إلخ، ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه، والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا الأعم، وفرقوا بينهما قالوا: الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة، وما لمرتد قتل أو مات على ردته، وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق، والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال، وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور.
وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب وغيره فقالوا: الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس، وباقيها للغانمين خاصة. والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة، والتخميس عنه استدلالا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع إلينا من الكفار، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية، واعتبرها عامة للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه، ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضا بعد أن قال خاطبا: اللهم اكفني بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين، ولذا قال بعض الشافعية: إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق، وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إلى ابْنِ السَّبِيلِ هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم: لمن ذكر الله عز وجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد، وذكره تعالى- كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية- افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقال أبو العالية: سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته- وهو الكعبة المشرفة- إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك، وسهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع- وهو خمس الخمس- وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤونة سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا: لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك- وهم أمناء الله تعالى على دينه- ولأن الحكم معلق بوصف مشتق- وهو الرسول- فيكون مبدأ الاشتقاق- وهو الرسالة- علة ولم توجد في أحد بعده، وهذا كما سقط الصفي.
ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم من خمس
240
الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه، ويقدم الأهم فالأهم وجوبا وأهمها سد الثغور، ورد سهمه صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه
قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح: «مالي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم»
صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس، والمراد بذي القربى قرابته صلّى الله عليه وسلم، والمراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب لأنه صلّى الله عليه وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، ومن ذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك
بقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «نحن وبنو المطلب شيء واحد»
وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلّى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما، وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم- حتى كأنهم على قلب رجل واحد- قيل: لذي القربى دون لذوي بالجمع.
قال الشافعية: يشترك في هذا السهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلّى الله تعالى عليه وسلم العباس وكان غنيا، بل قيل: كان له عشرون عبدا يتجرون له، والنساء لأن فاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه، ويفضل الذكر كالإرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظّي الأنثى، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالارث، ويثبت كون الرجل هاشميا أو مطلبيا بالبينة، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة، وبقول الشافعي قال أحمد، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم وإن كان أمره أهم من أمرهم.
وقال المزني والثوري: يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة، والغني والفقير سواء لإطلاق النص، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الاشتقاق، وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقا، وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول: سهم ذوي القربى على ما حكي عن الشافعي، وفائدة ذكرهم على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا لا يستحق شيئا لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقا، وهو رأي علماء أهل البيت، واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلا.
والكلام مستوفى في شروح الهداية، والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية: اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد، ويشترط إسلامه وفقره، أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفقته في بيت المال، ولا بد في ثبوت اليتيم والإسلام
241
والفقر هنا من البينة، ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين وإن اتهما، نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى، واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي.
هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف- وهو شافعي- بعد أن اختار جعل لِلْفُقَراءِ بدلا من ذي الْقُرْبى وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره، وقال: إنها للمقاتلين الآن على الأصح، وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد تبرع، والمرتزقة الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلّى الله عليه وسلم، وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس، فجملة ما كان يأخذه صلى الله تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين، وكان على ما قال الروياني: يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا في قول وندبا في آخر، وقال الغزالي: كان الفيء كله له صلّى الله عليه وسلم في حياته، وإنما خمس بعد وفاته.
وقال الماوردي: كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها، وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ إلخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة، وظاهره أن الجملة استئناف بياني، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالا معتدا به، وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسة كذلك والباقي- وهو أربعة أخماسه- لمن تضمنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على ما سمعت سابقا، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في مِنْهُمْ أعني بني النضير، وعدل عن الضمير إلى ذلك- على ما في الإرشاد- إشعارا بشمول ما في ما أَفاءَ اللَّهُ لعقاراتهم أيضا، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم، ووجه الآية بما أيد به مذهبه، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر.
وقال ابن عطية أَهْلِ الْقُرى المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وهذه قسمها كغيرها، وقيل: المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر، وكان نصفها لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة، وكان الذي للمسلمين الشق، وكان ثلاثة عشر سهما، ونطاة وكانت خمسة أسهم، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن صلّى الله تعالى عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وروي هذا عن ابن عباس، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج.
وعن الزهري أنه قال: بلغني أنه ذلك، وأنت قد سمعت أن عمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على
242
إبقاء سواد العراق بأيادي أهله، وضرب الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم.
وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء، وفيه على ما قيل: تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما، ووجه إفراد ذي القربى- قد ذكرناه غير بعيد- ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قبل: وَابْنِ السَّبِيلِ بالإفراد كما قيل: وَلِذِي الْقُرْبى وعلى ذلك قوله:
أيا جارتا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب
كَيْ لا يَكُونَ تعليل للتقسيم، وضمير يَكُونَ لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء دُولَةً هي بالضم، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة، وقال الكسائي وحذاق البصرة:- الدولة- بالفتح في الملك بالضم، والدولة- بالضم في الملك بالكسر، أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل: وفي الجاه وقيل: هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول، والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد، وجمهور القراء قرؤوا بضم الدال والنصب، وبالياء التحتية في يكون على أن اسم يَكُونَ الضمير، ودُولَةً الخبر أي كي لا يكون الفيء جدّا بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي بينهم خاصة يتكاثرون به، أو كي لا يَكُونَ دُولَةً وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزيز، وقيل:
المعنى كي لا يكون شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدا من الفقراء.
وقرأ عبد الله «تكون» بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال، وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك ورفع «دولة» بضم الدال على أن كان تامة، و «دولة» فاعل أي كي لا يقع دولة، وقرأ علي والسلمي كذلك أيضا، ونصب «دولة» بفتح الدال على أن كان ناقصا اسمها ما سمعت، «دولة» خبرها، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء، وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل سهما، وكذا يجل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أن يسمى فقيرا، وما اشتهر من
قوله عليه الصلاة والسلام: «الفقر فخري»
لا أصل له، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وهو صلّى الله تعالى عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين: لا يقال له صلى الله تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم للترك، وقيل: إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز وجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه ربما يكون دليلا على القول بأنه لا يعطى أغنياء ذوي القربى، وإنما يعطى فقراؤهم، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيرا وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي ما أعطاكم من الفيء فَخُذُوهُ لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي عن أخذه منه فَانْتَهُوا عنه وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته عليه الصلاة والسلام إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقب من يخالفه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام، وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في العموم، وذلك لعموم لفظ ما على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل، ولذلك عقب بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ تعميما على تعميم فيتناول كل ما
243
يجب أن يتقى ويدخل ما سبق له الكلام دخولا أوليا كدخوله في العموم الأول، وروي ذلك عن ابن جريج.
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلع ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن: فأتته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى، قال: فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنه
. وعن الشافعي أنه قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال عبد الله بن محمد بن هارون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عنه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
. وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور، وهذا من غريب الاستدلال، وفيه على علاته- ككلام ابن مسعود- حمل ما في الآية على العموم، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضا، قيل: والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه، والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم له، قيل: والأول أقرب لأنه لا يقال: أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى، واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرا ولا نهيا لا يجب تركه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ قال الزمخشري:
بدل من قوله تعالى: لِذِي الْقُرْبى والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن الله عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه: ويَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظا لأن فيه سوء أدب انتهى.
وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر، قال الإمام: فكأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين، وما ذكر من الإبدال من لِذِي الْقُرْبى وما بعده مبني على قوله الحنفية إنه لا يعطى الغني من ذوي القربى وإنما يعطى الفقير، ومن يرى كالشافعي أنه يعطى غنيهم كما يعطى فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده، وقيل: يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيا شيئا منه، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر.
وفي الكشف أن لِلْفُقَراءِ ليس للقيد بل بيانا للواقع من حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل: لله وللرسول وللمهاجرين، وقال ابن عطية: لِلْفُقَراءِ إلخ بيان لقوله تعالى: الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبيين أن البدل هو منها، وقيل: اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ كأنه قيل: ولكن يكون للفقراء المهاجرين.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناء على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى
244
الخروج فخرجوا منها، وهذا وصف باعتبار الغالب، وقيل: كان هؤلاء مائة رجل يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وصفوا أولا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال، وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلّام وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف على يَبْتَغُونَ فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الصفات الجليلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك. وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك في الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار، والتبوّؤ النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل، ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوؤهم إياها مدحا لهم.
وقال غير واحد: الكلام من باب:
علفتها تبنا وماء باردا أي تبوؤوا الدار وأخلصوا الإيمان، وقيل: التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل: لزموا الدار والإيمان وقيل: في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة. وفي وَالْإِيمانَ حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل: تبوؤوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة، والعطف كما في قولك: رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدا، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل:
إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى، وقيل: الواو للمعية والمراد تبوؤوا الدار مع إيمانهم أي تبوؤوها مؤمنين، وهو أيضا ليس بشيء، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك.
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق بتبوءوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.
وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوؤوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة هاهنا وقيل: لا حاجة إلى
245
شيء مما ذكر، وقصارى ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوؤىء الأنصار وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوؤ الدار، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصلح أن يقال:
بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهم على تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ في موضع الحال من الموصول، وقيل: استئناف، والكلام قيل: كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل: على ظاهره أي يحبون المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي ولا يعلمون في أنفسهم.
حاجَةً أي طلب محتاج إليه مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز،- والحاجة- بمعنى المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال: خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته، ومِنْ تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.
ويجوز أن يكون المعنى- لا يجدون في أنفسهم ما يحصل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون- على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، قيل: على أنه كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم: أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب، ومِنْ في قوله تعالى: مِمَّا أُوتُوا تعليلية وَيُؤْثِرُونَ أي يقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم، ويجوز أن لا يعتبر مفعول- يؤثرون- خصوص المهاجرين،
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إليه نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار- وفي رواية- فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما وَيُؤْثِرُونَ»
إلخ.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح، والجملة في موضع الحال، وقد تقدم وجه ذلك مرارا وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا
وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، وقال الراغب: الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكم
246
وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله تعالى يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلما، وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه التفاسير للشح، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلما أن تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ومن يوقّ» بشدّ القاف، وقرأ ابن عمر وابن عمر وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين، وجاء فيه لغة الفتح أيضا، ومعنى الكل واحد، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولا أوليا، وفي الإفراد أولا والجمع ثانيا رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددا وكثرتهم معنى:
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
ويفهم من الآية ذم الشح جدا، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه،
أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «ما محق الإسلام محق الشح شيء قط»
وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعا «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا».
وأخرج أبو داود والترمذي- وقال غريب- والبخاري في الأدب وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا «خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق»
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها:
انطقي فقالت: قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»

إلى غير ذلك من الأخبار، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء،
فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعا «بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة».
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه، وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه
، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين، والمراد بهؤلاء قيل: الذين هاجروا حين قوي الإسلام، فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للمهاجرين الأولين، وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم
247
القيامة، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للفريقين المهاجرين والأنصار، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين، وجملة قوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ حالية، وقيل: استئناف رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا، وقرىء غمرا لِلَّذِينَ آمَنُوا على الإطلاق رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في الرأفة والرحمة. فحقيق بأن تجيب دعاءنا، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو قال: لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
وفي رواية أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نال من عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال، وقال الإمام مالك: من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قول سيء أو بغض فلا حظّ له في الفيء أخذا من هذه الآية، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين،
وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال
مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق- وفي رواية- أنه قال: لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله: لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلا بيّنا»
هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ مبتدأ، وجملة يُحِبُّونَ إلخ خبره، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار، وجوز كون ذلك معطوفا على أُولئِكَ فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، وجملة يُحِبُّونَ إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير تَبَوَّؤُا وإلى أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ مبتدأ، وجملة يَقُولُونَ إلخ خبره، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار.
واستدل لعدم عطف الَّذِينَ تَبَوَّؤُا على الْمُهاجِرِينَ بما
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم، وقال عليه الصلاة والسلام لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا: بل نقسم لهم- أي للمهاجرين- من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ إلى آخره
، وبعض القائلين بالعطف يقولون: إن قوله تعالى:
248
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف، ولكن قد اختار صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم، وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم، وأنهم يعطون من الفيء، وكذا عطف- الذين جاؤوا من بعدهم- فقد اخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن عمر رضي الله تعالى عنه قال- أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه وعمه العباس رضي الله تعالى عنه في فدك، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا- إن الله تعالى قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكانت لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة، ثم قال سبحانه:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الآية، ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إلى قوله تعالى: رَحِيمٌ فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون لِلْفُقَراءِ بدل من- لذي القربى- وما بعده ولا مما بعده دونه، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله وزيد بن ثابت كما أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش- ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله- على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات، وفي صدق ذلك عليهم بعد، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك، وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا: فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي؟ فقيل: تكون الأخماس الاربعة الباقية أو يكون الباقي لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل، والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك.
249
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم. والخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس في رهط من بني عوف منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ.
وقال السدي: أسلم ناس من بني قريظة والنضير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى، والمعول عليه الأول، وقوله سبحانه: يَقُولُونَ استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو لاستحضار صورته، واللام في قوله عز وجل: لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبليغ والمراد بإخوتهم الإخوة في الدين واعتقاد الفكرة أو الصداقة، وكثر جمع الأخ مرادا به ما ذكر على إخوان، ومرادا به الأخوة في النسب على إخوة، وقل خلاف ذلك، واللام في قوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ موطئة للقسم وقوله سبحانه لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه أَبَداً وإن طال الزمان، وقيل: لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم، قال في الإرشاد: وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم، ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدّعوا أن
250
خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين، ونوقش في ذلك، وجواب إِنْ محذوف، ولَنَنْصُرَنَّكُمْ جواب قسم محذوف قبل إِنْ الشرطية، وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان، وقوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وكان الأمر كذلك، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل: من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مبني على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير، وكلام أهل الحديث والسير على ما قيل: يدل على خلافه.
وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ إلخ من باب الإخبار بالغيب بناء على ما روي أن عبد الله بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على سبيل الفرض والتقدير لَيُوَلُّنَّ أي المنافقون الْأَدْبارَ فرارا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك أي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لَيُوَلُّنَّ أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين، وقيل: الضمير المرفوع في نَصَرُوهُمْ لليهود، والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الوجه السابق، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي أشد مرهوبية على أن رَهْبَةً مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنين مرهوب منهم لا راهبون فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز وجل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز وجل، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى ولشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك، قيل: إن فِي صُدُورِهِمْ على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ذلِكَ أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ شيئا حتى يعلموا عظمة الله عز وجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى، والمراد بهؤلاء اليهود، وقيل:
المنافقون وقيل: الفريقان لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود والمنافقون، وقيل: اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم جَمِيعاً أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق ونحوها أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم.
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب «جدر» بإسكان الدال تخفيفا، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش، وقرأ أبو عمرو وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من المكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر، والقصد فيه إلى الجنس، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان.
وقرأ جمع من المكيين وهارون عن ابن كثير «جدر» بفتح الجيم وسكون الدال، قال صاحب اللوامح:
وهو الجدار بلغة اليمن، وقال ابن عطية: معناه أصل بنيان كسور وغيره، ثم قال: ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة
251
إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين ذوي إلفة واتحاد وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى جمع شتيت أي متفرقة لا إلفة بينها يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
وقرأ مبشر بن عبيد «شتى» بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق، وعبد الله- وقلوبهم أشت- أي أكثر أو أشد تفرقا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ شيئا حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق، وقيل: لا يَعْقِلُونَ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر- كما قال مجاهد- أو كبني قينقاع- كما قال ابن عباس- وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالى المدينة غزاهم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير.
وقيل: أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية قَرِيباً ظرف لقوله تعالى: ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم.
وقيل: انتصاب قَرِيباً- بمثل- إذ التقدير كوقوع مثل الذين، وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل، وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل: مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبا، وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة، والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبا فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح.
وقيل: إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب، وقيل: متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع، وكلا القولين كما ترى، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية قريبة، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل، ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه، وجملة ذاقُوا مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب، ويتعين تعلق قَرِيباً بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره، والجملة قيل: عطف على الجملة السابقة وإن اختلفا فعلية واسمية، وقيل: حال مقدرة من ضمير ذاقُوا وأيا ما كان فهو داخل في حيز المثل، وقيل: عطف على جملة- مثلهم كمثل الذين من قبلهم- ولا يخفى بعده، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير- مثلهم- هاهنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير، وقال بعضهم: ضمير- مثلهم- المقدر في الموضعين للفريقين، وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني
252
النضير، والثاني يخص المنافقين، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوص ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل: مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها أبد الآبدين وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ على الإطلاق دون المذكورين خاصة، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله: إِنِّي أَخافُ إلخ.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم حتى وقعوا فيما وقعوا قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله الآية، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة، وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر، ومعنى اكْفُرْ على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض، وقال الخفاجي: لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل.
وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال، فذلك قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الآية
، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص، وفي البحر إن قول الشيطان: «إني أخاف الله» كان رياء وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم وقرىء أنا بريء، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم ابن أرقم- فكان عاقبتهما- بالرفع على أنه اسم كان، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور.
وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة- خالدان- بالألف على أنه خبر إن، وَفِي النَّارِ متعلق به، وقدم للاختصاص، وفيها تأكيد له وإعادة تضميره، وجوز أن يكون «في النار» خبر إن، وخالدان- خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير الأحوال السابقة، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل: «لغد» لا يعرف كنهه لغاية عظمه، وأما تنكير نَفْسٌ فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها، ومنه ظهر- كما في الكشف- أن جعله من قبيل قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤] غير مطابق للمقام أي فهو كما
في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة»
لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من القليل، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر إليه ما لم يأتمر، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت، وليس بذاك، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحارث- ولتنظر- بكسر اللام، وروي ذلك عن حفص عن عاصم، وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء
253
جعلها لام كي، وكان المعنى ولكي تنظر نفس ما قدمت لغد أمرنا بالتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي من المعاصي، وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد، وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى، وقيل: إن التقوى شاملة لترك ما يؤثم ولا وجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الاهتمام بأمرها، فالتأكيد أولى وأقوى، وفيه منع ظاهر، وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذا قيل، ولعل من يقول بالتأكيد يقول: إن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ إلخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضا، ولعلك مع هذا تميل للتأسيس.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حقوقه تعالى شأنه: وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجب أمره سبحانه ونواهيه عز وجل حق رعايتها فَأَنْساهُمْ الله تعالى بسبب ذلك أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلّصها، أو أراهم جل جلاله يوم القيامة من أهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم أمرا هائلا وعذابا أليما، ونسيان النفس حقيقة قيل: مما لا يكون لأن العلم بها حضوري، وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق.
وقرأ أبو حيوة- ولا يكونوا- بياء الغيبة على سبيل الالتفات، وقال ابن عطية: كناية عن نفس المراد بها الجنس لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا لله تعالى فاستحقوا الخلود في النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص، وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد: ١٦] إلى غير ذلك.
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] لأن صفته ملكة لصفة المفضول الإعدام مسبوقة بملكاتها، والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبىء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة، وكذا قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، وهذا كما تقول لمن عق أباه: هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف، ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا: لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز وجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحا للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة. إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون: إن العموم مدلول نفي المساواة لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة
254
فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ، وقول الحنفية: إن الاستواء مطلقا أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين.
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع، ألا ترى أن من قال: ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا؟ وتمام ذلك في كتب الأصول، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع عَلى جَبَلٍ من الجبال أو جبل عظيم لَرَأَيْتَهُ مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشققا منها.
وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع، ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلخ وإلى أمثاله، فالكلام بتقدير وقوع تلك، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق وَالشَّهادَةِ وهو ما يشاهده مخلوق.
قال الراغب: الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة، وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى، وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر، وأل فيه للاستغراق إذ لا قرينة للعهد، ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: ١٠٩، ١١٦، التوبة:
٧٨، سبأ: ٤٨] فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق، ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل: مراد الفقهاء في قولهم: مدعي علم الغيب كافر، وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى، وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوما له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩]، وقيل: الغيب ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك، والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس.
وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه: الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان
، وقال الحسن: الغيب السر والشهادة العلانية، وقيل: الأول الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها، وقيل: الأول الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام وأعراضها، وفيه أن في ثبوت المجردات خلافا قويا، وأكثر السلف على نفيها، وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة، وقيل: لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب، وصاحب القيل الأخير يقول: إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، ووجهه ما أشرنا إليه، وتتضمن على ما قيل: دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالاختيار كما هو الواقع في نفس الأمر، والخلق بالاختيار يستحيل بدون العلم، ومن هنا قيل: الاستدلال بها على هذا المطلب أولى من الاستدلال بقوله تعالى: وَاللَّهُ
255
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[البقرة: ٢٨٢، النساء: ١٧٦، النور: ٣٥، ٦٤، الحجرات: ١٦، التغابن: ١١] هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ برحمة تليق بذاته سبحانه، والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفي كما حقق في التمييز وغيره.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرر لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد الْمَلِكُ المتصرف بالأمر والنهي، أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها، أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الاذلال، أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل، أو المنفرد بالعز والسلطان، أو ذو الملك والملك خلقه، أو القادر أقوال حكاها الآمدي، وحكي الأخير عن القاضي أبي بكر الْقُدُّوسُ البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا، أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به، أو الذي لا يحدّ ولا يتصور، وقرأ أبو السمال وأبو دينار الأعرابي «القدّوس» بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة، فقد قالوا: فعول بالضم كثير، وأما بالفتح فيأتي في الأسماء- كسمور وتنور وهبود- اسم جبل باليمامة، وأما في الصفات فنادر جدا، ومنه سبوح بفتح السين السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة، وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة، وقيل: أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف الْمُؤْمِنُ قيل: المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة، أو واهب عبادة الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم، وقيل: مؤمن الخلق من ظلمه، وقال ثعلب: المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا، وقال النحاس: في شهادتهم على الناس يوم القيامة وقيل: ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه، وقيل: غير ذلك،
وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم- وقيل- أبو جعفر المدني «المؤمن» بفتح الميم
على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥] أي المؤمن به.
وقال أبو حاتم: لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه غيره، وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي الْمُهَيْمِنُ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن بقلب همزته هاء، وإليه ذهب غير واحد، وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء، وإذا قلت: أمن الراعي الذئب على الغنم مثلا دل على كمال حفظه ورقبته، فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز وجل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى:
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: ٤٨] وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة، وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياء كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاء كما في هراق الماء، وقولهم في إياك: هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين، وحرف الاستعلاء- كمهيمنا عليه- لتضمين معنى الاطلاع ونحوه، وأنت تعلم أن الاشتقاق على ما سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل، وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء.
وقال المبرد: إنه مصغر، وخطىء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عز وجل الْعَزِيزُ الغالب.
وقيل: الذي لا مثل له، وقيل: الذي يعذب من أراد، وقيل: الذي عليه ثواب العاملين، وقيل: الذي لا يحط عن منزلته، وقيل: غير ذلك الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه: ويقال في فعله: أجبر، وأمثلة المبالغة
256
تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة، وقيل: إنه من جبره بمعنى أصلحه، ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها، وقيل: هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي: جبارة، وقيل: هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره.
وقال ابن عباس: هو العظيم، وقيل: غير ذلك الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكليف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ، أو الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه الله تعالى عما يشركون به سبحانه، أو عن إشراكهم به عز وجل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلا هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة، أو مبدع الأشياء من غير أصل ولا احتذاء، ويفسر الخلق بإيجاد الشيء الْبارِئُ الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة، وقيل: المميز بعضها عن بعض بالاشكال المختلفة الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد.
وقال الراغب: الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها، وهي ضربان: محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة. ومعقولة تدركها الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء، وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه:
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف: ١١] إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع «المصور» بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للبارىء، وأريد به جنس المصور،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول
نحو الضارب الغلام، وفي الخانية إن قراءة «المصور» بفتح الواو هنا تفسد الصلاة ولعله أراد إذا أجراه حينئذ على الله سبحانه، وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر.
لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على محاسن المعاني يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان، أو بلسان المقال الذي أوتيه كل منها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين، وقد تقدم الكلام فيه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به الْعَزِيزُ بناء على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به الْحَكِيمُ بناء على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة، وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١] فتأمل ولا تغفل.
ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات،
وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من قال:
حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة»

وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر».
وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فوائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه: أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول الله عليه الصلاة
257
والسلام مما خصه به جبريل مما بعث به الرحمن عز وجل، قال: يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر، ثم قل: يا من هو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فو الله يا براء لو دعوت عليّ لخسف بي.
وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال في قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلى آخر السورة هي رقية الصداع
وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال: أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر المقرئ البغدادي- يعرف بغلام ابن شنبوذ- أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على عبد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رؤوسكما فإني قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي: «ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلي قال: ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت»
إلى غير ذلك من الآثار، والله تعالى أعلم.
258
Icon