تفسير سورة الطلاق

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الطلاق مدنية
وهي إحدى عشرة أو اثنتا عشرة آية وفيها ركوعان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾ أي أردتم تطليقهن خصه عليه السلام بالنداء، وعم الخطاب ؛ لأنه إمام أمته، فنداؤه نداؤهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم ﴿ فطلقوهن لعدتهن١ أي : وقتها، وهو الطهر، أي : لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، وعن أكثر السلف أنه الطهر الذي لم يجامعها فيه، فطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع في ذلك الطهر، والبدعي أن يطلقها في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه. نزلت٢ حين طلق عليه السلام حفصة فقيل له :" راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك في الجنة "، وطلق ابن عمر امرأته حائضا فقال٣ عليه السلام :" ليراجعها " وقال :" إذا طهرت فليطلق أو يمسك " وقرأ الآية :﴿ وأحصوا العدة ﴾ اضبطوها ابتداءها وانتهاءها للعلم ببقاء زمن الرجعة ولغير ذلك ﴿ واتقوا الله ربكم ﴾ في ذلك ﴿ لا تخرجوهن من بيوتهن ﴾ البيوت التي سكن فيها حتى تنقضي عدتهن ﴿ ولا يخرجن ﴾ من بيوت كن فيها عند الفراق في مدة العدة فإن خرجت أثمت ﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ استثناء من الأول والفاحشة الزنا فإنها تخرج لإقامة الحد أو إلا أن تبذو٤ على أهل الزوج وآذتهم في الكلام والفعال لأنها كالنشوز في إسقاط٥ الحق ﴿ وتلك ﴾ الأحكام المذكورة ﴿ حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ﴾ فإنه عرضها للعقاب ﴿ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك ﴾ أي الطلاق ﴿ أمرا ﴾ وهو أن يقلب قلبه من الرغبة عنها فيندم يعني أمرنا بعدم إخراجها مدة العدة لأنه ربما يندم، ومن ذلك ذهب كثير من السلف ومن تابعهم كالإمام أحمد إلى أنه لا يجب السكنى للبائنة وكذا المتوفاة عنها، وبعض٦ الأحاديث يدل على مذهبه صريحا
١ اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت نحو أقم الصلاة لدلوك الشمس ومن عد العدة بالحيض قال تقديره: مستقبلات لعدتهن نحو أتيت ليلة بقيت من المحرم أي مستقبلا لها / ١٢منه..
٢ كذا ذكر السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى ابن أبي حاتم/١٢..
٣ كما رواه الشيخان عن ابن عمر / ١٢ كمالين..
٤ بذوت على القوم، وآبذيتهم، وأبذيت عليهم من البذاء، وهو الكلام القبيح (اللسان: بذا).
٥ الأول قول ابن مسعود وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن والمجاهد وغيرهم من السلف والثاني قول أبي بن كعب وابن عباس وعكرمة/١٢ منه..
٦ في مسند الإمام أحمد والطبراني قال عليه والسلام في حديث طويل:" إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة وإذا لم تكن فلا نفقة ولا سكنى/١٢ منه [أحمد في"المسند" (٦/٤١٣) و إسناده حسن].
﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ قاربن انقضاء العدة ﴿ فأمسكوهن ﴾ بالرجعة ﴿ بمعروف ﴾ بإحسان إليها ﴿ أو فارقوهن ﴾ اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتقع المفارقة الكلية والبينونة ﴿ بمعروف ﴾ من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف ﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ على الرجعة والفراق وهو أمر ندب١ عند بعض كأشهدوا إذا تبايعتم ﴿ وأقيموا الشهادة ﴾ أيها المشهود عند الحاجة ﴿ لله ﴾ خالصا لوجهه ﴿ ذلكم ﴾ جميع ما في الآية ﴿ يوعظ به من كان ﴾ مفعول يوعظ ﴿ ويؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾ من كل مكروه
١ وقيل: إنه للوجوب وإليه ذهب الشافعي قال: الإشهاد واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وإليه ذهب أحمد بن حنبل و في قول الشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق وروى نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين عن رجل طلق ولم يشهد قال: بئسما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة فيشهد على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله /١٢ فتح..
﴿ ويرزقه من حيث لا يحتسب١ وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما : من طلق وراجع كما أمره الله، جعل الله له من الكرب– سيما عند الموت- مخرجا، ورزقه من حيث لا يرجو، وأكثر العلماء على أنها نزلت حين جاء صحابي أسر ابنه، وشكا إليه عليه السلام هذا والفاقة. فقال عليه السلام :" اتق واصبر، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله " ففعل الرجل إذ جاء ابنه٢ بإبل وغنم، وعن بعض إن فيها تسلية ووصية للنساء عند الفراق، فإنهن مضطرات غالبا للغيرة والاحتياج والعجز ﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾ كافيه ﴿ إن الله بالغ أمره ﴾ يبلغ ما يريد لا يعجزه مطلوب فهو منفذ أمره ﴿ قد جعل الله لكل شيء قدرا ﴾ تقديرا وتوفيقا فتوكلوا عليه
١ وظاهر الآية العموم ولا وجه للتخصيص بنوع خاص، ويدخل في ذلك ما فيه السياق دخولا أوليا، فإن قيل: نرى كثيرا من الأتقياء مضيقا عليه في الرزق أجيب بأنه لا يخلوا عن رزق والآية لم تدل على أن المتقي يوسع له في الرزق بل دلت على أنه يرزق من حيث لا يحتسب وهذا أمر مطرد في الأتقياء أفاده الكرخي /١٢ فتح..
٢ أخرجه الحاكم وصححه وضعفه الذهبي وعن ابن عباس- رضي الله عنه قال: جاء عوف ابن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني قال:"آمرك وإياها أن تستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله" فقالت المرأة: نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء به إلى أبيه فنزلت هذه الآية أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه وفي الباب روايات تشهد لهذا /١٢ فتح. [أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي الصالح عن ابن عباس... فذكره، كما في"الدر المنثور" (٦/٣٥٤)].
﴿ واللائي يئسن ﴾ للكبر ﴿ من المحيض من نسائكم إن ارتبتم ﴾ إن أشكل عليكم حكمهن ﴿ فعدتهن ثلاثة أشهر ﴾ أي : فهذا حكمهن ﴿ واللائي لن يحضن ﴾ بعد ذلك وهن الصغائر ﴿ وأولات الأحمال ﴾ مطلقة أو متوفى عنها زوجها للحديث١ الصحيح الصريح ﴿ أجلهن ﴾ منتهى عدتهن ﴿ أن يضعن حملهن ﴾ وقد روى عن علي ابن عباس رضي الله عنهما : إن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين، عملا بهذه الآية والتي في سورة البقرة :﴿ والذين يتوفون منكم ﴾ الآية ( البقرة : ٢٤٠ ) ﴿ ومن يتق الله ﴾ في أحكامه ﴿ يجعل له من أمره يسرا ﴾ آتاه اليسر في أموره
١ قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الباب أحاديث /١٢ فتح..
﴿ ذلك ﴾ الإحكام ﴿ أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله ﴾ فيه ﴿ يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ﴾ بالمضاعفة
﴿ أسكنوهن ﴾ المطلقات ﴿ من حيث سكنتم ﴾ أي بعض مكان سكنتم ﴿ من وجدكم ﴾ وسعكم وطاقتكم عطف بيان لقوله من حيث سكنتم كأنه قال أسكنوهن مكانا من مسكنكم ما تطيقونه ﴿ ولا تضاروهن ﴾ في السكنى ﴿ لتضيقوا عليهن ﴾ حتى تضطروهن إلى الخروج، وعن بعض هو أن يطلقها فإذا بقي يومان يراجعها ليضيق عليها أمرها ﴿ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ﴾ عن كثير من السلف هذه من البوائن، أنفق عليها إن كانت حاملا حتى تضع، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها حاملا أو حائلا. وقال آخرون : نص على الإنفاق على الحامل الرجعية ؛ لأن السياق كله في الرجعيات ؛ لأن الحمل ربما يطول مدته، فيتوهم أنه تجب النفقة بمقدار مدة عدة الحامل ﴿ فإن أرضعن لكم ﴾ وهن طوالق ﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ على الإرضاع ﴿ وأتمروا بينكم ﴾ ليأمر بعضكم بعضا ﴿ بمعروف ﴾ بجميل في الإرضاع والأجر ﴿ وإن تعاسرتم ﴾ تضايقتم ﴿ فسترضع له ﴾ للصبي مرضعة ﴿ أخرى ﴾ سوى أمه ولا تكرهوا أمه على الإرضاع
﴿ لينفق ذو سعة من سعته ﴾ على مرضعة ولده ﴿ ومن قدر ﴾ ضيق ﴿ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ﴾ على قدر ذلك ﴿ لا يكلف الله نفسا ﴾ في النفقة ﴿ إلا آتاها ﴾ قدر ما أعطاها من المال ﴿ سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾ تطييب لقلب المعسر، ووعد له باليسر، لما ذكر الأحكام، وأخبر عما حل بالأمم السالفة بسبب مخالفة أوامره ونواهيه١.
١ ليحذر المأمورين عن موافقتهم/١٢ وجيز..
فقال :﴿ وكأين من قرية ﴾ وكم من أهل قرية ﴿ عتت عن أمر ربها ﴾ تمردت واستكبرت عن إتباع أمر الله ﴿ ورسله فحسبناها حسابا شديدا ﴾حاسبها بعملها في الدنيا، وأثبتها في صحائف الحفظة ﴿ وعذبناها عذابا نكرا ﴾ منكرا، وهو ما أصيبوا به من أنواع المصائب، أو المراد بالحساب والعذاب في الآخرة، والتعبير بلفظ الماضي لتحققه
﴿ فذاقت ﴾ القرية ﴿ وبال أمرها ﴾ عقوبة معاصيها ﴿ وكان عاقبة أمرها خسرا ﴾ لا ربح فيها أصلا
﴿ أعد الله لهم عذابا شديدا ﴾ على التوجيه الثاني تكرير للوعيد١ ﴿ فاتقوا الله ﴾ في مخالفة أمره لكي لا يصيبكم مثل ما أصابهم ﴿ يا أولي الألباب الذين آمنوا ﴾ بدل من أولي الألباب أو صفة أو منادي بحذف يا أيها للقرينة ﴿ قد أنزل الله إليكم ذكرا ﴾ القرآن
١ وعلى التوجيه الأول لا تكرار لأن العذاب النكر في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة/١٢..
﴿ رسولا ﴾ بدل اشتمال ؛ لأنه مبلغه، وموصوف بتلاوة الآيات أو الذكر الشريف، فالبدل بدل الكل، كأنه في نفسه شرف، فالمراد من الإنزال الإرسال، إلا أن يقال : المراد من الرسول جبريل، أو تقديره أرسل رسولا، فيكون استئنافا ﴿ يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي : من هو في علم الله مؤمن ﴿ من الظلمات١ إلى النور ﴾ من الضلالة إلى الهدى أو ليحصل لهم ما عليهم الآن من الإيمان والعمل الصالح ﴿ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ﴾ وهو ما أعد للمتقين في الآخرة
١ من الجهالات إلى العلم فإن من آمن وتدبر رفع عنه الجهل بسبب تدبر القرآن فإن مجرد الإيمان لا يكفي وتفاصيل الدين مستنبطة من كلام الله/١٢ وجيز..
﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ﴾ أخبر عن عظيم سلطانه ؛ ليكون باعثا على تعظيم ما شرع ﴿ ومن الأرض مثلهن ﴾ في العدد ﴿ يتنزل الأمر بينهن١ أي أمر الله وحكمه، ففي كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وقضاء من قضائه ﴿ لتعلموا أن الله ﴾ علة الخلق ﴿ على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ﴾ عن ابن عباس- رضي الله عنه- قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تكذيبكم بها.
اللهم علمنا حقائق القرآن آمين.
١ بين السماوات السبع والأرضين السبع والعلم عند الله أن بين كل أرض أي خلق وكيف سماؤها وأما ما نقل عن ابن عباس- رضي الله عنه- من أن في كل أرض آدم كآدم ونوح كنوح ونبي كنبينا فهو من رواية الواقدي الكذاب الواضح للحديث، هذا ما في الوجيز وذكر في الفتح هذا الأثر وقال: أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب: هذا إسناد صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا، قال ابن كثير: هذا وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله انتهى تصحيح الحاكم له ليس بذاك. قال السيوطي: ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم حتى رأيت البيهقي قال: إسناده صحيح لكن شاذ بمرة. قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح والحاصل أن الأثر المذكور وإن صح فهو موقوف شاذ والشاذ لا يحتج به كما قال الطيي في الخلاصة وغيره، وبسط الكلام على هذا لا يأتي بفائدة يعتد بها ويكفي الاعتقاد بكون السماوات سبعا والأرضين سبعا كما ورد به في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، لا ينبغي الخوض في خلقهما وما فيها فإنه شيء استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه لا يحيط به أحد سواه، ولم يكلفنا الله تعالى بالخوض في أمثال هذه المسائل والتفكر فيها والكلام عليها وبالله التوفيق. وحديث أن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت، قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية تسجن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريت جهنم... والحديث بطوله وتفصيله قال الذهبي متعقبا الحاكم: هو حديث منكر قال بعض أهل العلم: لا ينبغي لأحد أن يغتر بتصحيح الحاكم للأحاديث حتى ينظر في تعقبات الذهبي له أو كما قال/١٢ فتح..
Icon