ﰡ
﴿الر﴾ ونحوه ممال حمزة وعلى وأبوعمرو وهو تعديد للحروف على طريق التحدي ﴿تِلْكَ آيات الكتاب﴾ اشارة إلى ما تضمتنه السورة من الآيات والكتاب السورة ﴿الحكيم﴾ ذي الحكمة لاشمتاله عليها أو المحكم عن الكذب والاقتراف
والهمزة فى ﴿أكان للناس عجبا﴾ لانكار التعجب والتعجيب منه ﴿أن أوحينا﴾ اسم كان وعجبا خبره واللام في للناس متعلق بمحذوف هو صفة لعجبا فلما تقدم صار حالاً ﴿إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ أن أنذر الناس﴾ بأن أنذرا أو هي مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول ﴿وبشر الذين آمنوا﴾ أَنَّ لَهُمْ بأن لهم ومعنى اللام في للناس أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منه والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم فقد كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنيران ويبشر بالجنان وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاَّ بشراً مثلهم وإرسال اليتيم أو الفقير ليس
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾
أي استولى فقد يقدس الديان عن المكان والمعبود عن الحدود ﴿يُدَبّرُ﴾ يقضي ويقدر على مقتضى الحكمة ﴿الأمر﴾ أي أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش ولما ذكر ما يدل على عظمته وملكه من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور عن قضائه وتقديره وكذلك قوله ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ دليل على عزته وكبريائه ﴿ذلكم﴾ العظيم الموصوف بما وصف به ﴿الله رَبُّكُمُ﴾ وهو الذي يستحق العبادة ﴿فاعبدوه﴾ وجدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من إنسان أو ملك فضلاً عن جماد لا يضر ولا ينفع ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أفلا تتدبرون فتستدلون بوجود المصالح والمنافع على وجود المصلح النافع
﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ حال أي لا ترجعون فى العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه والمرجع الرجوع أو مكان الرحوع ﴿وَعَدَ الله﴾ مصدر مؤكد لقوله إليه مرجعكم ﴿حَقّاً﴾ مصدر مؤكد لقوله ﴿وعد الله﴾ ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه ﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم ﴿بالقسط﴾ بالعدل وهو متعلق بيجزى أى ليجزيهم بقسطه وليوفيهم أجورهم أو بقسطهم أي بما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا إذ الشرك ظلم إن الشرك لظلم عظيم وهذا أوجه لمقابلة قوله ﴿والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ ولوجه كلامي
﴿هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء﴾ الياء فيه منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها وقلبها قتيل همزة لأنها للحركة أجمل ﴿والقمر نُوراً﴾ والضياء أقوى من النور فلذا جعله للشمس ﴿وَقَدَّرَهُ﴾ وقدر القمر أي وقدر مسيره ﴿مَنَازِلَ﴾ أو وقدره ذا منازل كقوله ﴿والقمر قدرناه منازل﴾ ﴿لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين﴾ أي عدد السنين والشهور فاكتفى بالسنين لاشتمالها على الشهور ﴿والحساب﴾ وحساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور ﴿مَا خَلَقَ الله ذلك﴾ المذكور ﴿إِلاّ﴾ ملتبساً ﴿بالحق﴾ الذي هو
يونس (٥ _ ١٠)
الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً ﴿يُفَصّلُ الآيات﴾ مكي وبصري وحفص وبالنون غيرهم ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فينتفعون بالتأمل فيها
﴿إن في اختلاف الليل والنهار﴾ فى مجيء كل واحد منها خلف الآخر أو
﴿إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا﴾ لا يتوقعونه أصلاً ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم عن التفطن للحقائق أو لا يؤملون حسن لقائنا كما يؤمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف ﴿وَرَضُواْ بالحياة الدنيا﴾ من الآخرة وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي ﴿واطمأنوا بِهَا﴾ وسكنوا فيها سكون من لا يزعد عنها فبنوا شديداً وأملوا بعيداً ﴿والذين هُمْ عن آياتنا غافلون﴾ لا يتفكرون فيها ولا وقف عليه لأن خبر إن
﴿أولئك مأواهم النار﴾ فأولئك مبتدأ وماؤهم مبتدأ ثان والنار خبره والجملة خبر أولئك والباء في ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ يتعلق بمحذوف دل عليه الكلام وهو جوزوا
﴿إن الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق السديد المؤدي إلى الثواب ولذا جعل ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ بياناً له وتفسيراً إذ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها أو يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ومنه الحديث إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار وهذا دليل على أن الإيمان المجرد منج حيث قال بإيمانهم ولم يضم إليه العمل الصالح ﴿في جنات النعيم﴾ متعلق بتجرى أو حال من الأنهار
﴿دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم﴾ أي دعاؤهم لأن اللهم نداء لله ومعناه اللهم إنا نسبحك أي يدعون الله بقولهم سبحانك اللهم تلذذا بذكره لاعبادة ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ أي يحيي بعضهم بعضاً بالسلام أو هي تحية الملائكة إياهم وأضيف المصدر إلى المفعول أو تحية الله لهم ﴿وآخر دعواهم﴾ وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح ﴿أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين﴾
أن يقولوا الحمد لله رب العالمين أن مخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لله رب العالمين والضمير للشأن قيل أول كلامهم التسبيح وآخره التحميد فيبتدءون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بالشكر والثناء عليه ويتكلمون بينهما بما أرادوا
﴿وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير﴾ أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم والمراد أهل مكة وقولهم فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أي ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه ﴿لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ لأميتوا وأهلكوا لقضى إليهم أجلهم شامي على البناء للفاعل وهو الله عز وجل ﴿فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِى طُغْيَانِهِمْ﴾ شركهم وضلالهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يترددون ووجه اتصاله بما قبله أن قوله ولو يعجل الله متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قيل ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم
﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان﴾ أصابه والمراد به الكافر ﴿الضر دَعَانَا﴾ أي دعا الله لإزالته ﴿لِجَنبِهِ﴾ في موضع الحال بدليل عطف الحالين أي {أَوْ قَاعِدًا
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿لما ظلموا﴾ أشركوا وهو ظرف لأهلكنا والواو فى ﴿وجاءتهم رسلهم﴾ للحال اظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم ﴿بالبينات﴾ بالمعجزات ﴿وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ إن بقوا ولم يهلكوا لأن الله علم منهم أنهم يصرون
يونس (١٣ _ ١٦)
على كفرهم وهو عطف على ظلموا أو اعتراض واللام لتأكيد النفي يعني أن السبب في إِهلاكهم تكذيبهم للرسل وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل ﴿كذلك﴾ مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك ﴿نَجْزِي القوم المجرمين﴾ وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الأرض مِن بَعْدِهِم﴾ الخطاب للذين بعث اليهم محمد ﷺ أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ أي لننظر أتعملون خيرا وشرا فنعاملكم على حسب عملكم وكيف فى محل النصب يتعملون لا ينتظر لأن معنى الاستفهام فيه يمنع أن يتقدم عليه عامله والمعنى أنتم بمنظر منا فانظروا كيف تعملون أبالاعتبار ب
﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيّنَاتٍ﴾ حال ﴿قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا﴾ لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد لأهل الطغيان ﴿ائت بقرآن غَيْرِ هذا﴾ ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك ﴿أَوْ بَدّلْهُ﴾ بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها فأمر بأن يجيب عن التبديل لأنه داخل تحت قدرة الإنسان وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة وأن يسقط ذكر الآلهة بقوله ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي﴾ ما يحل لي ﴿أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تلقاء نَفْسِي﴾ من قبل نفسي ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ لا أتبع إلا وحي الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تبديل لأن الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدله ﴿إِنّى أَخَافُ إن عصيت ربي﴾ بالتبدليل من عند نفسي ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي يوم القيامة وأما الايتان بقرآن آخر فلا يقدر عليه الإنسان وقد ظهر لهم العجز عنه إلا أنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ويقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا ولا يحتمل أن يريدوا بقوله أئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عظيم وغرضهم في هذا الاقتراح الكيد أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله فأبدل مكانه آخر وأما اقتراح التبديل فلاختيار الحا ل وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجوا منه أولا يهلكه فيسخروا منه فيجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لإفترائه على الله
﴿قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة
يونس (١٦ _ ١٩)
خارجاً عن العادات وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يغلب كل كلام فصيح ويعلو على كل منثور ومنظوم مشحوناً بعلوم الأصول والفروع والإخبار عن الغيوب التي لا يعلمها إلا الله ﴿وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ ولا أعلمكم الله بالقرآن على لساني ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ﴾ من قبل نزول القرآن أي فقد أقمت فيما بينكم أربعين سنة ولم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ولا كنت موصوفاً بعلم وبيان فتتهموني بإختراعه ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلى وهذا جواب عما دسوه تحت قوله ائت بقرآن غير هذا من إضافا الافترءا إليه
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا﴾ يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في أنه ذو شريك وذو ولد وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء ﴿أو كذّب بآياته﴾ بالقرآن فيه بيان أن الكاذب على الله والمكذب بآياته في الكفر سواء ﴿إِنَّهُ لا يُفْلَحُ الْمُجرِمُون﴾
﴿ويعبدون من دون الله ما لا يَضُرُّهُمْ﴾ إن تركوا عبادتها ﴿وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ إن عبدوها ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاء﴾ أي الأصنام ﴿شفعاؤنا عِندَ الله﴾ أي في أمر الدنيا ومعيشتها لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله من يموت أو يوم القيامة أن يكن بعث ونشور ﴿قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ﴾ أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله وإذا لم يكن معلوماً له وهو عالم بجميع المعلومات لم يكن شيئاً وقوله ﴿فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض﴾ تأكيد لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو معدوم ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ نزَّه ذاته عن أن يكون له
﴿وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل أو بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً ﴿فاختلفوا﴾ فصاروا مللاً ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ﴾ وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ عاجلاً ﴿فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ فيما اختلفوا فيه وليميز المحق من المبطل وسبق كلمته لحكمة وهي أن هذه الدار تكليف وتلك الدار دار
يونس (٢٠ _ ٢٢)
ثواب وعقاب
﴿ويقولون لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ﴾ أي آية من الآيات التي اقترحوها ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ﴾ أي هو المختص بعلم الغيب فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير ﴿فانتظروا﴾ نزول ما اقترحتموه ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرينَ﴾ لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا الناس﴾ أهل مكة ﴿رَحْمَةً﴾ خصباً وسعة ﴿مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ﴾ يعني القحط والجوع ﴿إذا لهم مكر في آياتنا﴾ أي مكروا بآياتنا بدفعها وإنكارها رُوي أنه تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحيا فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله ﷺ ويكيدونه فإذا الاولى للشرط والثاينة جوابها وهي للمفاجأة وهو كقوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أي وإن تصبهم سيئة قنطوا وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا
﴿هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر﴾ يجعلكم قادرين على قطع المسافات بالأرجل والدواب والفلك الجارية في البحار أو يخلق فيكم السير ينشرُكم شامي ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك﴾ أي السفن ﴿وَجَرَيْنَ﴾ أي السفن ﴿بِهِمُ﴾ بمن فيها رجوع من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة ﴿بريح طيبة﴾ لينة الهبوب لاعاصفة ولا ضعيفة ﴿وَفَرِحُواْ بِهَا﴾ بتلك الريح للينها واستقامتها ﴿جَاءتْهَا﴾ أي الفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها ﴿رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ ذات عصف أي شديدة الهبوب ﴿وَجَاءهُمُ الموج﴾ هو ما علا على الماء ﴿مّن كُلّ مَكَانٍ﴾ من البحر أو من جميع أمكنة الموج ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أحيط بهم﴾ أهلكوا جعل إحاطة العدوا بالحي مثلاً في الإهلاك ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ من غير إشراك به لأنهم
يونس (٢٢ _ ٢٤)
لا يدعون حينئذ معه غيره يقولون ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه﴾ الأهوال أو من هذه الريح ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ لنعمتك مؤمنين بك متمسكين بطاعتك ولم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجئ الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالإنجاء وجواب إذا جاءتها ودعوا بدل من
﴿فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُم يَبْغُونَ فِى الأرض﴾ يفسدون فيها ﴿بِغَيْرِ الحق﴾ باطلاً أي مبطلين ﴿يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ﴾ أي ظلمكم يرجع إليكم كقوله ﴿مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ مَّتَاعَ الحياة الدنيا حفص أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا وعلى انفسكم خبر لبغيكم غيره بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته كقوله فبغى عليهم ومعناه إنما بغيكم على أمثالكم أو هو خبر ومتاع خبر بعد خبر أو متاع خبر مبتدأ مضمر أي هو متاع الحياة الدنيا وفي الحديث أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة ورُوي ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين وعن ابن عباس رضى الله عنهما لو بغى جبل على جبل لدك الباغي وعن محمد بن كعب ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر قال الله تعالى إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ وَلاَ يحيق المكر السيء إِلاَّ بِأَهْلِهِ وَمِنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نفسه ﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فنخبركم به ونجازيكم عليه
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء﴾ من السحاب ﴿فاختلط بِهِ﴾ بالماء ﴿نَبَاتُ الأرض﴾ أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً ﴿مِمَّا يَأْكُلُ الناس﴾ يعني الحبوبِ والثمار والبقول ﴿والأنعام﴾ يعني الحشيش {حتى
يونس (٢٤ _ ٢٥)
ألوان الزين ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا﴾ أهل الأرض ﴿أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ عذابنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم ﴿ليلا أو نهارا فجعلناها﴾ فجعلنا زرعها ﴿حَصِيداً﴾ شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله ﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ﴾ كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث حذف المضاف فى هذه المواضع لا بدمنه ليستقيم المعنى ﴿بالأمس﴾ هو مثل في الوقت القريب كأنه قيل كأن لم تغن آنفاً ﴿كذلك نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فينتفعون بضرب الأمثال وهذا من التشبيه المركب شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفاقه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه وحكمة التشبيه التنبيه على أن الحياة صفوها شبيتها وكدرها شيبتها كما أن صفوالماء في أعلى الإناء قال
ألم تر أن العمر كأس سلافة | فأوله صفو وآخره كدْر |
﴿والله يدعو إلى دار السلام﴾ وهى الجنة أضافها إلى اسمه تعظيماً لها أو السلام والسلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه وقيل لفشوا السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم إلا قيلا سلاما سلاما ﴿وَيَهْدِى مَن يَشَاء﴾ ويوفق من يشاء ﴿إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ إلى الإسلام أو طريق السنة فالدعوة عامة على لسان رسول الله بالدلالة والهداية
يونس (٢٦ _ ٢٨)
خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية والمعنى يدعوا العباد كلهم إلى دار السلام ولا يدخلها إلا المهديون
﴿لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ﴾ آمنوا بالله ورسله ﴿الحسنى﴾ المثوبة الحسنى وهى الجنة ﴿وزيادة﴾ رؤية الرب عز وجل كذا عن أبي بكر وحذيفة وابن عباس وأبى موسى الأشعري وعبادة بن الصامت رضى الله عنهم وفي بعض التفاسير أجمع المفسرون على أن الزيادة النظر إلى الله تعالى وعن صهيب أن النبى ﷺ قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى أتريدون شيئاً ازيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم ندخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيرفع الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا ﴿للذين أحسنوا الحسنى﴾ وزيادة والعجب من صاحب الكشاف أنه ذكر هذا الحديث لا بهذه العبارة وقال إنه حديث مدفوع مع أنه مرفوع قد أورده صاحب المصابيح في الصحاح وقيل الزيادة المحبة في قلوب العباد وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان ﴿ولا يرهق وجوههم﴾ ولا يغشى وجوهم ﴿قَتَرٌ﴾ غبرة فيها سواد ﴿وَلاَ ذِلَّةٌ﴾ ولا أثر هوان والمعنى ولا يرهقهم مايرهق أهل النار ﴿أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون﴾
﴿والذين كَسَبُواْ﴾ عطف على للذين أحسنوا أي وللذين كسبوا ﴿السيئات﴾ فنون الشرك ﴿جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ الباء زائدة كقوله ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ أو التقدير جزاء سيئة مقدرة بمثلها ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ ذل وهوان ﴿مَا لَهُم مِنَ الله﴾ من عقابه ﴿مِنْ عَاصِمٍ﴾ أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعقابه ﴿كأنما أُغشيت وجوهُهم قِطعاً من الليل مظلماً﴾ أي جعل عليها غطاء من سواد الليل أي هم سود الوجوه وقطعا جمع قطعة وهو
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ أي الكفار وغيرهم ﴿جَمِيعاً﴾ حال ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ﴾ أي الزموا مكانكم ولا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم ﴿أَنتُمْ﴾ أكد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله الزموا ﴿وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾ عطف عليه ﴿فَزَيَّلْنَا﴾ ففرَّقنا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا ﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ من عبدوه من دون الله من أولي العقل أو الأصنام ينطقها الله عز وجل ﴿مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا فأطعتموهم وهو قوله ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ﴾
إلى قوله ﴿بل كانوا يعبدون الجن﴾
﴿فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي كفى الله شهيداً وهو تمييز ﴿إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين﴾ إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية
﴿هُنَالِكَ﴾ في ذلك المكان أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان ﴿تبلو كُلُّ نَفْسٍ﴾ تختبر وتذوق ﴿مَّا أَسْلَفَتْ﴾ من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن أنافع أم ضار أمقبول أم مردود وقال الزجاج تعلم كل نفس ما قدمت تتلوا حمزة وعلي أي تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذى هديه إلى طريق الجنة أو النار أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر كذا عن الأخفش ﴿وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق﴾ ربهم الصادق
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء﴾ بالمطر ﴿والأرض﴾ بالنبات ﴿أم من يَمْلِكُ السمع والأبصار﴾ من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذى سويا عليه من القطرة العجيبة أو من يحميها من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء ﴿وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ أي الحيوان والفرخ والزرع والمؤمن والعالم من النطفة والبيضة والحب والكافر والجاهل وعكسها ﴿وَمَن يُدَبّرُ الأمر﴾ ومن يلي تدبير أمر العالم كله جاء بالعموم بعد الخصوص ﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾ فسيجيبونك عند سؤالك إن القادر على هذه هو الله ﴿فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ الشرك في العبودية إذا اعترفتم بالربوبية
﴿فَذَلِكُمُ الله﴾ أي من هذه قدرته هو الله ﴿رَبُّكُمُ الحق﴾ الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ أي لا واسطة بين الحق والضلال فمن تخطى الحق وقع في الضلال ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ عن الحق إلى الضلال وعن التوحيد إلى الشرك
﴿كذلك﴾ مثل ذلك الحق ﴿حقت كلمة رَبّكَ﴾ كلمات شامي ومدني أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك حقت كلمة ربك ﴿عَلَى الذين فَسَقُواْ﴾ تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه ﴿أَنَّهُمْ لا يؤمنون﴾
يونس (٣٤ _ ٣٦)
بدل من الكلمة أي حق عليهم انتفاء الإيمان أو حق عليهم كلمة الله أن ايمانهم غير
﴿قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ إنما ذكر ثم يعيده وهم غير مقرين بالإعادة لأنه لظهور برهانها جعل أمراً مسلماً على أن فيهم من يقر بالإعادة أو يحتمل إعادة غير البشر كإعادة الليل والنهار وإعادة الإنزال والنبات ﴿قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أمر نبيه بأن ينوب عنهم في الجواب يعني أنهم لا تدعهم مكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ فكيف تصرفون عن قصد السبيل
﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق﴾ يرشد إليه ﴿قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أم من لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى﴾ يقال هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين ويقال هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قراءة حمزة وعلي أمن لا يهدي بمعنى يهتدي لا يَهّدىِ بفتح الياء والهاء وتشديد الدال مكي وشامي وورش وبإشمام الهاء فتحة أبو عمرو وبكسر الهاء وفتح الياء عاصم غير يحيى والأصل يهتدي وهي قراءة عبد الله فأدغمت التاء في الدال وفتحت الهاء بحركة التاء وكسرت لالتقاء الساكنين وبكسر الياء والهاء وتشديد الذال يحيى لاتباع ما بعدها وبسكون الهاء وتشديد الدال مدني غير ورش والمعنى أن الله وحده هو الذي يهدي للحق بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم وبما وفقهم وألهمهم ووقفهم على الشرائع بإرسال الرسل فهل من شركائكم الذين جعلتم أنداد الله أحد لا يهدي إلى الحق مثل هداية الله ثم قال أفمن يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الذى لا يهدى أى لا يهدى بنفسه أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله وقيل معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن يهدي إلا
﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ﴾ في قولهم للأصنام إنها آلهة وإنها شفعاء عند الله والمراد بالأكثر الجميع ﴿إِلاَّ ظَنّا﴾ بغير دليل وهو اقتداؤهم بأسلافهم ظناً منهم إنهم مصيبون ﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق﴾ وهو العلم ﴿شَيْئاً﴾ في موضع المصدر أي إغناء ﴿إِنَّ الله عليم بما يفعلون﴾ من اتباع
يونس (٣٧ _ ٣٩)
الظن وترك الحق
﴿وما كان هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله﴾ أي افتراء من دون الله والمعنى وما صح وما استقام أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ﴿ولكن﴾ كان ﴿تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة ﴿وَتَفْصِيلَ الكتاب﴾ وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع من قوله كتاب الله عليكم ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين﴾ داخل في حيز الاستدراك كأنه قال ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل ويكون لا ريب فيه اعتراضًاً كما تقول زيد لا شك فيه كريم
﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ بل أيقولون اختلقه قُلْ إن كان الأمر كما تزعمون ﴿فَأتُواْ﴾ أنتم على وجه الافترءا ﴿بِسُورَةٍ مّثْلِهِ﴾ أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية ﴿وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله﴾ أي وادعوا من دون الله من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أنه افتراه
﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن فى بديهة السمع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم ومعنى التوقع في ولما يأتهم تأويله أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليداً للآباء وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي وجربوا قواهم في المعارضة وعرفوا عجزهم عن مثله فكذبوا به بغياً وحسداً ﴿كذلك﴾ مثل ذلك التكذيب ﴿كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني كفار الأمم الماضية كذبوا رسلهم قبل النظر في معجزاتهم وقبل تدبرها عناداً وتقليداً للآباء ويجوز أن يكون معنى ولما يأتهم تأويله ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق يعني أنه كتاب معجز من جهتين من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز وقبل أن يجربوا إخباره بالمغيبات
يونس (٣٩ _ ٤٥)
وصدقه وكذبه ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين﴾
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ بالنبي أو بالقرآن اي بصدق به فى نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند بالتكذيب ﴿وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ لا يصدق به ويشك فيه أو يكون للاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصر ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين﴾ بالمعاندين أو المصرين
﴿وَإِن كَذَّبُوكَ﴾ وإن تمّوا على تكذيبك ويئست من إجابتهم {فَقُل لّي
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ ومنهم ناس يستمعون اليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يعون ولا يقبلون فهم كالصم ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت فإذا اجتمع سلب العقل والسمع فقد تم الأمر
﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ أتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلىّ فقد البصر فقد البصيرة لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر
﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ولكنِ الناس حمزة وعلي أي لم يظلمهم بسلب آلة الاستدلال ولكنهم ظلموا أنفسهم بترك الاستدلال حيث عبدوا جماداً وهم أحياء
﴿ويوم نحشرهم﴾ وبالياء حفص ﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار﴾
يونس (٤٥ _ ٥٠)
مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنهم ويتعارفون بينهم حال بعد حال أو مستأنف على تقديرهم يتعارفون بينهم ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله﴾ على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك أو هي شهادة من الله على خسرانهم والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ للتجارة عارفين بها وهو استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل ما أخسرهم
﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل عذابهم ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف أي وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة ﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ﴾ ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب كأنه قيل ثم الله معاقب على ما يفعلون وقيل ثم هنا بمعنى الواو
﴿وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾ يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ويدعوهم إلى دين الحق ﴿فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ﴾ بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه ﴿قُضِىَ بَيْنَهُمْ﴾ بين النبي ومكذبيه ﴿بالقسط﴾ بالعدل فأنجى الرسول وعذب المكذبين أو ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بالقسط ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ لا يعذب أحد بغير ذنبه
ولما قال وإما نرينك بعض الذي نعدهم أي من العذاب
﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا﴾ من مرض أو فقر ﴿وَلاَ نَفْعاً﴾ من صحة أو غنى ﴿إِلاَّ مَا شَاء الله﴾ استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب ﴿لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ لكل أمة وقت معلوم للعذاب مكتوب في اللوح فإذا جاء وقت عذابهم لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون فلا تستعجلوا
﴿قل أرأيتم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ﴾ الذي تستعجلونه ﴿بَيَاتًا﴾ نصب على الظرف أي وقت بيات وهو الليل وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون ﴿أَوْ نَهَارًا﴾ وانتم مشتغلون بطلب
يونس (٥٠ _ ٥٥)
المعاش والكسب ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ أي من العذاب والمعنى أن العذاب كله مكروه موجب للنفور فأي شيء تستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال والاستفهام في ماذا يتعلق بأرأيتم لأن المعنى أخبرونى ماذا يتعلق بأرأيتم لأن المعنى أخبرونى ماذا يستعجل منه المجرموون وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه ولم يقل ماذا يستعجلون منه لأنه أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام أو ماذا يستعجل منه المجرمون جواب الشرط نحو إن أتيتك ماذا تطعمنى ثم تتعلق الجملة بأرأيتم أو
﴿أثم إذا ما وقع﴾ العذاب ﴿آمنتم به﴾ جواب الشرط وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراض والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ودخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على
﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ عطف على قيل المضمر قبل الآن ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد﴾ أي الدوام ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ من الشرك والتكذيب
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾ ويستخبرونك فيقولون ﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾ وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء والضمير للعذاب الموعود ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِى وَرَبّي﴾ نعم والله ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ إن العذاب كائن لا محالة ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتين العذاب وهو لاحق بكم لا محالة
﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ﴾ كفرت وأشركت وهو صفة لنفس أي ولو أن لكل نفس ظالمة ﴿مَّا فِى الأرض﴾ في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها ﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ لجعلته فدية لها يقال فداه فافتدى ويقال افتداه أيضاً بمعنى فداه ﴿وأسروا الندامة لما رأوا العذاب﴾ وأظهروها من قولهم أسر الشيء إذا أظهره أو أخفوها عجزاً عن النطق لشدة الأمر فأسر من الأضداد ﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط﴾ بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾
ثم أتبع ذلك الإعلام بأن له الملك كله بقوله ﴿أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض﴾ فكيف يقبل الفداء وأنه المثيب المعاقب وما وعده من الثواب
يونس (٥٥ _ ٥٩)
أو
﴿هو يحيي ويميت﴾ هو القادر على الاحياء والاماتة لايقدر عليهما غيره ﴿وإليه ترجعون﴾ إلى حسابه وجزائه المرجع فيخاف ويرجى
﴿يا أيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ﴾ أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد والموعظة التى تدعوا إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب فما في القرآن من الأوامر والنواهي داع إلى كل مرغوب وزاجر عن كل مرهوب إذ الامر يقتضى حسن الأمور به فيكون مرغوبا وهو يقتضي النهي عن ضده وهو قبيح وعلى هذا فى النهى ﴿وشفاء لما في الصدور﴾ اة صدوركم من العقائد الفاسدة ﴿وهدى﴾ من الضلالة ﴿ورحمة﴾ المؤمنين لمن آمن به منكم
﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قبل إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح أو بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا وهما كتاب الله والإسلام في الحديث من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينينه إلى يوم يلقاه وقرأ الآية ﴿هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ وبالتاء شامي فلتفرحوا يعقوب
﴿قل أرأيتم﴾ أخبروني ﴿مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ﴾ ما منصوب
يونس (٦٠ _ ٦٤)
وإتقان وإلا فهو مفتر على الديان
﴿وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب﴾ ينسبون ذلك إليه ﴿يَوْمُ القيامة﴾ منصوب بالظن وهو ظن واقع فيه أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه
﴿وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ﴾ ما نافية والخطاب للنبى ﷺ والشأن الأمر ﴿وما تتلو منه﴾ من التنزيل كأنه قيل وما تتلوا من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له أو من الله عز وجل ﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ﴾ أنتم جميعاً ﴿مِنْ عَمَلٍ﴾ أي عمل ﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ شاهدين رقباء نحصى عليكم ﴿إذ تفيضون فيه﴾ تخوضون فِيهِ تخوضون من أفاض في الأمر إذا
﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله﴾ هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة أو هم الذين تولى الله هداهم بالبرهان الذي آتاهم فتولوا القيام بحقه والرحمة لخلقه أو هم المتحابون في الله على غير أرحام نبيهم ولا أموال يتعاطونها أو هم المؤمنون المتقون بدليل الآية الثانية ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ إذا خاف الناس ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ إذا حزن الناس
﴿الذين آمنوا﴾ منصوب بإضمار أعني أو لأنه صفة لأولياء أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا ﴿وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ الشرك والمعاصى
﴿لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا﴾ ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير موضع من كتابه وعن النبى ﷺ هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له وعنه عليه السلام ذهبت النبوة وبقيت المبشرات والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزاء من النبوة وهذا لأن مدة الوحي ثلاث وعشرون سنة وكان فى ستة
يونس (٦٤ _ ٦٨)
أشهر منها يؤمر في النوم بالإنذار وستة أشهر من ثلاث وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءاً أو هي محبة
﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ تكذيبهم وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ﴿إِنَّ العزة﴾ استئناف بمعنى التعليل كأنه قيل مالي لا أحزن فقيل إن العزة ﴿لِلَّهِ﴾ إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً لا يملك أحد شيئا منهما لاهم ولا غيرهم فهو يغلبهم وينصرك عليهم كَتَبَ الله لأغلبن أنا ورسلى إنا لننصر رسلنا أو به يتعزز كل عزيز فهو يعزك ودينك وأهلك والوقف لازم على قولهم لئلا يصير إن العزة مقول الكفار ﴿جَمِيعاً﴾ حال ﴿هُوَ السميع﴾ لما يقولون ﴿العليم﴾ بما يدبرون ويعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك
﴿أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السماوات وَمَنْ فِى الأرض﴾ يعني العقلاء وهم الملائكة والثقلان وخصهم ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفى مملكته ولا يصلح أحد منهم للربوبية ولا أن يكون شريكاً له فيها فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكاً ﴿وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء﴾ ما نافية أي وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء لأن شركة الله في الربوبية محال ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ إلا ظنهم أنهم شركاء الله ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ يحزرون ويقدّرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً أو استفهامية أى وأى شيء يتبعون وشركاء على هذا نصب بيدعون وعلى الأول بيتبع وكان حقه وما يتبع الذين يدعون من دون الله
ثم نبه على عظيم قدرته وشمول نعمته على عباده بقوله ﴿هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ أي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب التردد في النهار ﴿والنهار مبصرا﴾ مضيئا لتبصروا فيه مطالب أرزقاكم ومكاسبكم ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماع مذكر معتبر
﴿قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه﴾ تنزيه له عن اتخاذ الولد وتعجيب من كلمتهم الحمقاء ﴿هُوَ الغني﴾ علة لنفي الولد لأنه إنما يطلب الولد ضعيف ليتقوى به أو فقير ليستعين به أو ذليل ليتشرف
يونس (٦٨ _ ٧٢)
به الكل أمارة الحاجة فمن كان غنياً غير محتاج كان الولد عنه منفياً ولأن الولد بعض الوالد فيستدعي أن يكون مركباً وكل مركب ممكن وكل ممكن يحتاج إلى الغير فكان حادثاً فاستحال القديم أن يكون له ولد ﴿لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ ملكا ولا تجتمع البنوة معه ﴿إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا﴾ ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله إن عندكم على أن يجعل القول مكانا لسلطان كقولك ما عندكم بأرضكم موز كأنه قيل إن عندكم فيما تقولون سلطان ولما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين فقال ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾
﴿قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب﴾ بإضافة الولد إليه ﴿لاَ يُفْلِحُونَ﴾ لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة
﴿متاع فِى الدنيا﴾ أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة هى الدنيا حيث يقيمون به رياستهم في الكفر ومناصبة النبى ﷺ بالتظاهر به ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد﴾ المخلد ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ بكفرهم
﴿واتل عَلَيْهِمْ﴾ واقرأ عليهم ﴿نَبَأَ نُوحٍ﴾ خبره مع قومه والوقف عليه لازم إذ لو وصل لصار إذ ظرفا لقوله واتل بل التقدير واذكر ﴿إذ قال لقومه يا قوم إن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ﴾ عظم وثقل كقوله ﴿وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين﴾ ﴿مَّقَامِى﴾ مكاني يعني نفسه كقوله وَلِمَنْ خَافَ مقام ربه جنتان أي خاف ربه أو قيامي ومكثي بين أظهركم ألف سنة إلا خمسين عاماً أو مقامى ﴿وتذكيري بآيات الله﴾ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بينًا وكلامهم مسموعاً ﴿فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ﴾ أي فوضت أمري إليه ﴿فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ﴾ من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه ﴿وَشُرَكَاءكُمْ﴾ الواو بمعنى مع أي فأجمعوا أمركم مع شركائكم ﴿ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ أي غماً عليكم وهما والغم والغمة كالكرب والكربة أو ملتبساً في خفية والغمة السترة من غمه إذا ستره ومنه الحديث لاغمة في فرائض الله أي لا تستر ولكن يجاهر بها والمعنى ولا يكن قصدكم إلى اهلاكى مستورا عليكم ولكم مكشوفا مشهور اتجاهروننى به ﴿ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ﴾ ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إلى ما هو حق عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه أو اصنعوا ما أمكنكم ﴿وَلاَ تُنظِرُونَ﴾ ولا تمهلوني
﴿فإن توليتم﴾ فإن أعرضتم عن تذكيرى
يونس (٧٢ _ ٧٧)
ونصحي ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ﴾ فأوجب التولي أو فما سألتكم من أجر ففاتني ذلك بتوليكم ﴿إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ وهو الثواب الذى بثيبنى به في الآخرة أي ما نصحتكم إلا لله لا لغرض من أغراض الدنيا وفيه دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم الديني ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ من المستسلمين لأوامره ونواهيه إن أجري بالفتح مدني وشامي وأبو عمرو وحفص
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ فداموا على تكذيبه ﴿فنجيناه﴾ من الغرق ﴿ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف﴾ يخلفون الهالكين بالغرق فى السفينة ﴿وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بآياتنا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ هو تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله ﷺ من مثله وتسلية له
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ﴾ من بعد نوح عليه السلام ﴿رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ﴾ أي هوداً وصالحا وابراهيم ولوطا وشعيبا ﴿فجاؤوهم بالبينات﴾ بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ فأصروا على الكفر بعد المجيء ﴿بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾ من قبل مجيئهم يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق فما وقع فصل بن حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث اليهم أحد ﴿كذلك نطبع﴾ مثل ذلك الطبع نختم ﴿على قُلوبِ المعتدين﴾ المجاوزين الحد في التكذيب
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم﴾ من بعد الرسل ﴿موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا﴾ بالآيات التسع ﴿فاستكبروا﴾ عن قبولها وأعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ويتعظموا عن قبولها ﴿وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾ كفاراً
﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا﴾ فلما عرفوا أنه هو الحق وأنه من عند الله ﴿قَالُواْ﴾ لحبهم الشهوات ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر
﴿قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم﴾ إنكار ومقولهم محذوف أي هذا سحر ثم استأنف إنكارا آخر
يونس (٧٧ _ ٨٤)
فقال ﴿أسحر هذا﴾ خبرومبتدأ ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون﴾ أي لا يظفر
﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ لتصرفنا ﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنا﴾ من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء﴾ أي الملك لأن الملوك موصوفون بالكبرياء والعظمة والعلو ﴿فِى الأرض﴾ أرض مصر ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ بمصدقين فيما جئتما به يكون حماد ويحيى
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ﴾ سحار حمزة وعلى
﴿فَلَمَّا جَاء السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾ ما موصولة واقعة مبتدأ وجئتم به صلها والسحر خبر أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله آلسحر بعد وقف أبو عمروعلى الاستفهام فعلى هذه القراءة استفهامية أيْ أيّ شيء جئتم به أهو السحر ﴿إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ يظهر بطلانه ﴿إِنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين﴾ لا يثبته بل يدمره
﴿وَيُحِقُّ الله الحق﴾ ويثبّته ﴿بكلماته﴾ بأوامره وقضاياه أو يظهر الإسلام بعداته بالنصرة ﴿وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾ ذلك
﴿فما آمن لموسى﴾ فى أول امره ﴿إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ﴾ إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل كأنه قيل إلااولاد من أولاد قومه وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف أو الضمير في قومه لفرعون والذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنة وماشطته والضمير في ﴿وملئهم﴾ يرجع إلى فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر أولأنه ذو أصحاب يأتمرون له أو إلى الذرية أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم دليله قوله ﴿أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ يريد أن يعذبهم فرعون ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض﴾ لغالب فيها قاهر ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين﴾ في الظلم والفساد وفي الكبر والعتو بادعائه الربوبية
﴿وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله﴾ صدقتم به وبآياته ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ﴾ فإليه أسندوا أمركم فى العصمة من
يونس (٨٤ _ ٨٨)
فرعون ﴿إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ﴾ شرط في التوكل الإسلام وهو أن يسملوا نفوسهم لله اى يجعلو هاله سالمة خالصة لاحظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط
﴿فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا﴾ إنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين لاجرم أن الله قبل توكلهم وأجاب دعاءهم ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه وجعلهم خلفاء في أرضه فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين﴾ موضع فتنة
﴿وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين﴾ أي من تعذيبهم وتسخيرهم
﴿وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ تبوأ المكان اتخذه مباءة كقوله توطنه إذا اتخذه وطناً والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه ﴿واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة وكانوا في أول الأمر مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك في أول الإسلام بمكة ﴿وأقيموا الصلاة﴾ في بيوتكم حتى تأمنوا ﴿وَبَشّرِ المؤمنين﴾ يا موسى ثنى الخطاب أولاً ثم جمع ثم وحد آخراً لأن اختيار مواضع العبادة مما يفوض إلى الأنبياء ثم تجمع لأن اتخاذ المساجد والصلاة فيها واجب على الجمهور وخص موسى عليه السلام بالبشارة تعظيماً لها وللمبشر بها
﴿وقال موسى ربنا إنك آتيت فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً﴾ هو ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك ﴿وَأَمْوَالاً﴾ أي نقداً ونعماً وضيعة ﴿في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك﴾ ليضلوا الناس عن طاعتك كوفي ولا وقف على الدنيا لأن قوله ليضلوا متعلق بآتيت وربنا تكرار الأول للإلحاح في التضرع قال الشيخ أبو منصور رحمه الله إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا عن سبيله
يونس (٨٨ _ ٩١)
﴿واشدد على قُلُوبِهِمْ﴾ اطبع على قلوبهم واجعلها قاسية ﴿فَلاَ يُؤْمِنُواْ﴾ جواب الدعاء الذي هو اشدد ﴿حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ إلى أن يروا العذاب الأليم وكان كذلك فإنهم لم يؤمنوا إلى الغرق وكان ذلك إيمان يأس فلم يقبل وإنما دعا عليهم بهذا لما أيس من إيمانهم وعلم بالوحي أنهم لا يؤمنون فأما قبل أن يعلم بأنهم لا يؤمنون فلا يسع له أن يدعو بهذا الدعاء لأنه أرسل إليهم ليدعوهم إلى الإيمان وهو يدل على أن الدعاء على الغير بالموت على الكفر لا يكون كفراً
﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ قيل كان موسى عليه السلام يدعوا وهارون يؤمن فثتب أن التأمين دعاء فكان إخفاؤه أولى والمعنى أن دعائكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكم في وقته ﴿فاستقيما﴾ فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والتبليغ ﴿وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ولا تتبعان طريق الجهلة الذين لا يعلمون صدق الإجابة وحكمة الإمهال فقد كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة ولا تتبعان بتخفيف النون وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية شامي وخطأه بعضهم لأن النون الخفيفة واجبة السكون وقيل هو إخبار عما يكونان عليه وليس بنهي أو هو حال وتقديره فاستقيما غير متبعين
﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر﴾ هو دليل لنا على خلق الأفعال ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ﴾ فلحقهم يقال تبعته حتى أتبعته ﴿بَغِيّاً﴾ تطاولاً
﴿الآن﴾ أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك قيل قال ذلك حين ألجمه الغرق والعامل فيه أتؤمن ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين﴾ من الضالين المضلين عن الإيمان روي أن جبريل عليه السلام أتاه بفتيا ما قول الأمير فى عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه فكتب فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماءه أن يغرق
يونس (٩٢ _ ٩٤)
في البحر فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه
﴿فاليوم نُنَجّيكَ﴾ نلقيك بنجوة من الأرض فرماه الماء إلى الساحل كأنه ثور ﴿بِبَدَنِكَ﴾ في موضع الحال أى فى الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير أو عرياناً لست إلا بدنا من غير لباس أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها وقرأ أبو حنيفة رضى الله عنه بأبدانك وهو مثل قولهم هو بأجرامه أي ببدنك كله وافياً بأجزائه أو بدروعك لأنه ظاهر بينها ﴿لتكون لمن خلفك آية﴾ لمن ورءاك من الناس علامة وهم بنوا إسرائيل وكان في أنفسهم أن
﴿ولقد بوأنا بني اسرائيل مبوأ صدق﴾ منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات فَمَا اختلفوا﴾ في دينهم ﴿حتى جَاءهُمُ العلم﴾ أي التوراة وهم اختلفوا في تأويلها كما اختلف أمة محمد ﷺ في تأويل الآيات من القرآن أو المراد العلم بمحمد واختلاف بنى اسرائل وهم أهل الكتاب اختلافهم في صفته أنه هو أم ليس هو بعد ما جاءهم العلم أنه هو ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ يميز المحق من المبطل ويجزى كلا جزءاه
﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب مِن قَبْلِكَ﴾ لما قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراء الكتاب ووصفهم بأن العلم قد جاءهم لأن أمر رسول الله ﷺ مكتوب فى التوارة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وبصحة نبوته ﷺ ويبالغ في ذلك فقال فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته أو بمباحثة العلماء فسل علماء أهل الكتاب فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن غيرك فالمراد وصف الأخبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله ﷺ لا وصف رسول الله ﷺ بالشك فيه ثم قال ﴿لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ﴾ أي ثبت عندك بالآيات الواضحة والبراهين اللائحة
يونس (٩٤ _ ٩٨)
هو الحق الذي لا مجال فيه للشك ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ الشاكين ولا وقف عليه للعطف
﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين﴾ أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتقاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله أو هو على طريقة التهييج والإلهاب كقوله ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك﴾ ولزيادة التثبيت والعصمة ولذلك قال عليه السلام عند نزوله لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق أو خوطب رسول الله ﷺ والمراد أمته أي وإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم كقوله وأنزلنا إليكم نوراً مبينا أو الخطاب لكل سامع يجوز عليه الشك كقول العرب إذا عز أخوك فهن أو إن للنفي أي فما كنت في شك فاسأل أى ولا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى فإن قلت إنما يجئ إن للنفي إذا كان بعده إلا كقوله أن الكافرون إلا فى غرور قلت ذاك غير لازم ألا ترى إلى قوله إن أمسكهما من أحد من بعده فإن للنفي وليس بعده إلا
﴿إن الذين حقت عليهم كلمة رَبّكَ﴾ ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً أو قوله لأملأن جهنم الآية ولا وقف على ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ لأن
﴿ولو جاءتهم كل آية﴾ تتعلق بما قبلها ﴿حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ أي عند اليأس فيؤمنون ولا ينفعهم أو عند القيامة ولا يقبل منهم
﴿فلولا كانت قرية آمنت﴾ فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن اخذ بحتفه ﴿فنفعها إيمانها﴾ بأن تقبل الله إيمانها منها بوقوعه في وقت الاختيار ﴿إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ﴾ استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس أو متصل والجملة في معنى النفي كأنه قيل ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس وانتصابه على أصل الاستثناء ﴿لما آمنوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ إلى آجالهم رُوي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنه مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول عذاب فلبسوا المسوح كلهم وعجوا أربعين ليلة وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان والدواب وأولادها فحن بعضهم إلى بعض وأظهروا الإيمان والتوبة فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة وبلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل كان يقلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنيانه فيرده وقيل خرجوا لما نزل بهم العذاب إلى شيخ من بقية علمائهم فقال له قولوا يا حى حين لا حى ويا حى محيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت
يونس (٩٩ _ ١٠٣)
فقالوا فكشف الله عنهم وعن الفضيل قدس الله روحه قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت اعظم منها وأجل افعل بناما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ﴾ على وجه الإحاطة والشمول ﴿جَمِيعاً﴾ مجتمعين على الإيمان مظبقين عليه لا يختلفون فيه أخبر عن كمال قدرته ونفوذ مشيئته أنه لو شاء لآمن من في الأرض
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ بمشيئته أو بقضائه أو بتوفيقه وتسهيله أو بعلمه ﴿وَيَجْعَلُ الرجس﴾ أي العذاب أو السخط أو الشيطان أي ويسلط الشيطان ﴿عَلَى الذين لا يعقلون﴾ لا ينتفعون بعقلوهم ونجعل حماد ويحيى
﴿قُلِ انظروا﴾ نظر استدلال واعتبار ﴿مَاذَا فِى السماوات والأرض﴾ من الآيات والعبر باختلاف الليل والنهار وخروج الزروع والثمار ﴿وَمَا تُغْنِى الآيات﴾ ما نافية ﴿والنذر﴾ والرسل المنذرون أو الانذارا ﴿عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ لا يتوقع إيمانهم وهم الذين لا يعقلون
﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني وقائع الله فيهم كما يقال أيام العرب لوقائعها ﴿قُلْ فانتظروا إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ المنتظرين﴾
﴿ثُمَّ نُنَجّى رُسُلُنَا﴾ معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل
يونس (١٠٤ _ ١٠٧)
بالتخفيف على وحفص
﴿قُلْ يا أَيُّهَا الناس﴾ يا أهل مكة ﴿إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى﴾ وصحته وسداده فهذا ديني فاستمعوا وصفه ثم وصف دينه فقال ﴿فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي الأصنام ﴿ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ﴾ يميتكم وصفه بالتوفي ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى ويعبد دون مالايقدر على شيء ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ أي بأن أكون يعني أن الله أمرني بذلك بماركب فيّ من العقل وبما أوحى إليّ في كتابه
﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ﴾ أي وأوحى إليّ أن أقم ليشاكل قوله أمرت أى استقم مقبلا بوجهك على ماأمرك الله أو استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا ﴿حَنِيفاً﴾ حال من الدين أو الوجه ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾
﴿ولا تدع من دون الله ما لا يَنفَعُكَ﴾ إن دعوته ﴿وَلاَ يَضُرُّكَ﴾ إن خذلته ﴿فَإِن فَعَلْتَ﴾ فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فكنى عنه بالفعل إيجازاً ﴿فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين﴾ إذا جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك
﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله﴾ يصبك ﴿بِضُرّ﴾ مرض ﴿فَلاَ كاشف لَهُ﴾ لذلك الضر ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ إلاَّ الله ﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ عافية ﴿فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ فلا
يونس (١٠٨ _ ١٠٩)
بما ذكر على ما ترك على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله يصيب به من يشاء من عباده
﴿قُلْ يا أَيُّهَا الناس﴾ يا أهل مكة ﴿قَدْ جَاءكُمُ الحق﴾ القرآن أو الرسول ﴿مِن رَّبّكُمْ فَمَنُ اهتدى﴾ اختار الهدى واتبع الحق ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ﴾ فما نفع باختياره إلا نفسه ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه ودل اللام وعلى على معنى النفع والضر ﴿وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ بحفيظ موكول إلى أمركم إنما أنا بشير ونذير
﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر﴾ على تكذيبهم وايذائهم ﴿حتى يحكم الله﴾ لك بالنصرة عليهم والغلبة ﴿وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ لأنه المطلع على السرائر فلا يحتاج إلى بينة وشهود
بسم الله الرحمن الرحيم
هود (١ _ ٣)