تفسير سورة مريم

نظم الدرر
تفسير سورة سورة مريم من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة١ مريم عليها السلام٢
٣مقصودها بيان اتصافه سبحانه بشمول الرحمة بإفاضة٤النعم على جميع خلقه، المستلزم للدلالة على اتصافه لجميع صفات الكمال، المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب، المستلزم [ لتمام القدرة - ٥ ] الموجب للقدرة على البعث والتنزه٦ عن الولد [ لأنه لا يكون إلا لمحتاج، ولا يكون إلا مثل الوالد - ٧ ]، ولا سمى له سبحانه فضلا عن مثيل٨، وعلى هذا دلت تسميتها بمريم، لأن قصتها أدل ما فيها على تمام القدرة وشمول العلم، لأن أغرب ما في المخلوقات وأجمعه خلقا الآدمي، وأعجب أقسام توليده الأربعة-٩ -– بعد ١٠ كونه آدميا١١ - ما كان من أنثى بلا توسط ذكر، لأن ذلك أضعف الأقسام، وأغرب ذلك أن يتولد منها على ضعفها أقوى النوع وهو الذكر، ولا سيما إن أوتي قوة الكلام والعلم والكتاب في حال الطفولية، وأن يخبر بسلامته الكاملة فيكون الأمر كذلك، لم يقدر أحد – مع كثرة الأعداء - على١٢ أن يمسه بشيء من أذى، هذا إلى١٣ ما جمعته١٤من إخراج الرطب في غير حينه من يابس الحطب، ومن إنباع الماء في غير موضعه، وعلى مثل ذلك أيضا دلت تسميتها بما في أولها من الحروف، بيان ذلك أن مخرج الكاف من أقصى اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من أسفل الحنك، وهي أدنى من مخرج القاف قليلا إلى مقدم الفم. ولها من الصفات الهمس والشدة والانفتاح والاستفال، ومخرج الهاء من أقصى الحلق لكنها أدنى من الهمزة إلى جهة اللسان قليلا، ولها من الصفات [ الهمس والرخاوة والانفتاح والاستفال والخفاء، ومخرج الياء من وسط اللسان ووسط الحنك الأعلى، ولها من الصفات الجهر والرخاوة والانفتاح والاستفال، وهو أغلب صفاتها، ومخرج العين من وسط الحلق، ولها من الصفات -١٥ ]الجهر وبين الشدة والرخاوة والانفتاح والاستفال، ومخرج الصاد من طرف رأس اللسان وبين أصول الثنيتين السفليين، وله من الصفات الهمس والرخاوة والإطباق والاستعلاء والصفير فالافتتاح بهذه الأحرف هنا إشارة – والله أعلم –إلى أن أهل الله عامة – من ذكر منهم في هذه السورة وغيرهم – يكون أمرهم عند المخالفين أولا – كما تشير إليه الكاف - ضعيفا مع شدة وانفتاح كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دعا، فإنه اشتهر أمره ولكنه كان ضعيفا بإنكار قومه إلا أنهم لم يبالغوا في الإنكار، ثم يصير الأمر في أوائل العراك – كما تشير إليه الهاء - إلى١٦ استفال١٧، ثم يزداد بتمالؤ المستكبرين عليهم ضعفا وخفاء، وإلى هذا تشير قراءتها بالإمالة ولا بد مع ذلك من نوع ظهور – كما يشير إليه انفتاح الهاء وإليه تشير قراءة الفتح، وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين صرح بسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وتضليل آبائهم فقاموا عليه إلبا واحدا، فهاجر١٨ أكثر الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة، وخاف أبو طالب دهماء العرب فقال قصيدته اللامية١٩ في ذلك، وتمادى الحال حتى ألجأتهم قريش إلى الشعب، و٢٠ تكون في وسط أمرهم – كما يشير إليه الياء وقراءتها بالفتح – لهم قوة مع رخاوة واشتهار واستفال، وهو الأغلب عليهم ظاهرا كما تشير إليه قراءة الإمالة، فيكون ذلهم من وراء عز وعزهم في ثوب ذل، يعرف ذلك من عاناه، ونظر إليه بعين الحقيقة واجتلاه، وهذا كما كان عند قيام من قام من قريش في نقض الصحيفة الظالمة وإخراجهم من الشعب، ثم عند موت خديجة رضي الله عنها وأبي طالب، وخرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فردوه – بأبي هو وأمي ونفسي وولدي وعيني، فلما قرب من مكة المشرفة لم يستطع دخولها بغير جوار، فاختفى في غار حراء وأرسل [ إلى -٢١ ] من يجيره ثم أرسل حتى أجاره المطعم بن عدى، ولبس السلاح هو ومن أطاعه وأدخله صلى الله عليه وسلم حتى طاف بالبيت، ثم قضى سبحانه أن قتل المطعم في بدر كافرا – بعد اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم [ في سلامته - ٢٢ ] والإيصاء به أن لا يقتل – ليعلم أنه سبحانه مختار في عموم رحمته وخصوصها لئلا ييأس عاص أو يأمن طائع ؛ ثم إذا علا أمرهم عن الوسط صاعدا قوى – كما تشير إليه العين، فصار بين الشدة والرخاوة وفيه انفتاح بشهرة مع استفال في بعض الأمر كما كان حاله صلى الله عليه وسلم عند مبايعة الأنصار رضوان الله عليهم، وأما آخر أمرهم فهو وإن كان فيه نوع من الضعف، وضرب من الرخاوة واللين كما كان في غزوة حنين والطائف، فإنه تعقبه قوة عظيمة بالإطباق، واستعلاء٢٣ واشتهار يملأ الآفاق، كما يشير إليه الضفير – هذا في أهل الله عامة المذكورين في هذه السورة وغيرهم، وأما ما يخص عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو صورة سورتها ومطمح إشارتها [ وسيرتها - ٢٤ ] فجعل الحروف / اللسانية من هذه الحروف أغلبها ثلاثة أحرف منها إشارة إلى أن إبراهيم عليه السلام بما أعطى في نفسه وفي ذريته ولسان الصدق المذكور به هو لسان هذا الوجود، وأن دولة آله الذين [ عيسى عليه السلام من أعيانهم هي وسط هذا الوجود حقيقة وخيارا - ٢٥ ] فموسى٢٦ عليه السلام أول أصحاب شرائعهم بمنزلة القاف التي هي من أقصى اللسان وله حظ كبير منها، فإنه من أجله قتل أبناء٢٧ بني إسرائيل وولد في سنة القتل، وكان سبب هجرته وابتداء سيره إلى الله تعالى قتله القبطي، وقرب نجيا، ومن صفاتها الجهر والشدة والانفتاح، و٢٨الاستعلاء والقلقلة٢٩، وهو عريق في كل من خيرات ذلك، وداود عليه السلام ثاني ذوى كتبهم بمنزلة الهمزة التي هي أبعد من مخرج الهاء إحدى هذه الحروف، وهو أول من جمع من بني إسرائيل بين الملك والنبوة، وله حظ من٣٠ صفاتها الجهر والشدة والانفتاح، بما كان فيه من الملك والظهور، والنصر على الأعداء وعجائب المقدور، وله حظ من وصفها بالاستفال في أول أمره وفي آخره بما كان من بكائه وتواضعه٣١ وإخباته لربه وصلاحه، فالكاف هنا إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو ثاني الشارعين٣٢ في الوجود، والهاء عبارة عن أنه من عقب داود عليهما السلام، وكل منهما له حظ من صفات الحرف المشير إليه الدال عليه، والصاد التي هي من طرف اللسان وهي خاتمة هذه الحروف إشارة بما فيها من الإطباق المشير [ إلى تطبيق الرسالة لجميع الوجوه ومن الاستعلاء المشير -٣٣ ]إلى نهاية العظمة، والصفير المشير إلى غاية الانتشار والشهرة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى مقرر دينه ومجدده عيسى عليه السلام [ وتشير الكاف أيضا بما فيها٣٤ من الصفات إلى أن أول أمر عيسى عليه السلام - ٣٥ ] يكون فيه مع الشدة ضعف، ثم تشير أيضا الهاء – التي هي٣٦ من أقصى الحلق – إلى أن أمره يبطن بعد ذلك الظهور ويخفى بارتفاعه إلى السماء، ويدل الاستفال على أنها قريبة إلى٣٧ السفلى، وهو كذلك فإنه في٣٨ الثانية بدلالة٣٩ رتبة الكاف والهاء في مخرجيهما.
وتشير الياء بجهرها إلى ظهوره بنزوله، وتدل بكونها من وسط اللسان على تمكنه في أموره وباعتلائها على شيء في ذلك وهو ضعف الأتباع وحصرهم٤٠ في ذلك الوقت، وتدل بانفتاحها ورخاوتها على ظهوره على الدجال في أولئك القوم الذين قد جهدهم البلاء عند نزوله، ومسهم الضر قبل حلوله، و٤١تليح غلبة٤٢ الاستفال عليها إلى أمر ياجوج وماجوج لما يوحيه الله إليه " إني قد٤٣ أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بهم فحرز عبادي إلى الطور " وتدل العين بكونها من وسط الحق على٤٤ انحصارهم وبجهرها على أنه لا سبيل للعدو عليهم ولا وصول بوجه إليهم، وبما٤٥ فيها من البينية٤٦ والاستفال على جهدهم مع٤٧ حسن العاقبة، وتبشر٤٨ - بما فيها من الانفتاح – بحصول الفتح الذي ليس وراءه فتح، وتدل الصاد بمخرجها على القوة الزائدة، وبالهمس والرخاوة على أنها قوة لا بطش فيها، وبالإطباق والاستعلاء على عموم الدين جميع الناس وبالصفير على أنه ليس وراء ذلك إلا النفخ في الصور لعموم الهلاك لكل موجود مفطور. ثم لبعثرة القبور. وتحصيل ما في الصدور، وكل هذا من ترتيب سنته سبحانه في المصطفين من عباده على هذا النحو البديع، وترتيب هذه الحروف على هذا/ النظم الدال عليه دائر على القدرة التامة والعلم الشامل، والحكمة الباهرة، رحمهم سبحانه بأن نكبهم٤٩ طريق الجبارين التي أوصلتهم إلى القسوة، وجنبهم سنن المستكبرين التي تلجئ ولا بد إلى الشقوة فجعل نصرهم في لوامع انكسار، وكسرهم في جوامع انتصار وحماهم من فخامة دائمة تجر إلى بذخ وعلو واستكبار، ومن رقة ثابتة نحمل على ذل وسفول وصغار، فلقد انطبق الاسمان٥٠ على المسمى، واتضحا غاية الاتضاح٥١ في أمره ونما.
١٥٢وهذا معنى ما قال الكلبي : هو ثناء أثنى الله به على نفسه٥٣ :" بسم الله " المنزه عن كل شائبة نقص، القادر على كل ما يريد " الرحمن " الذي عم٥٤ نواله سائر مخلوقاته " الرحيم " الذي اختص الصالحين من عباده، بما يسعد من مراده.
لما كان مقصود التي٥٥ قبلها الدلالة على أن القرآن قيم لا عوج فيه، وبه تمام الانتظام في نعمة الإبقاء الأول، ودل على ذلك بأنه ساق المسؤول عنه من القصص أحسن سوق، وكشف عن مخبأته القناع٥٦ أبدع كشف – إلى غير ذلك مما خلله٥٧ به من بدائع الحكم وغرائب المعاني فاضحة لمن ادعى لله سبحانه ولدا، وختمها بمثل ذلك من وصف الكتاب والتوحيد – النافي لقبول التعدد بولد أو غيره بكل اعتبار – والعمل الصالح، ابتدأ هذه بالكشف عن أغرب من تلك القصص، تحقيقا٥٨ لآية " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " بسياق غير ما تقدم فيما مضى من السور. وجزئيات لم تذكر إلا فيها مع عدم المخالفة لما مضى، تأييدا لأن كلماته لا تنفذ، وعجائبه لا تعد ولا تحد، وأنه لو كان من عند غيره لاختلف، مع أن أهلها سادة الموحدين، وقادة المصلحين المتقين الذين عملوا الصالحات، ونفوا الشرك وشرعوا ذلك للناس، فرحمهم ربهم سبحانه، وكلهم ممن يعتقده اليهود الآمرون لقريش بالسؤال عن أصحاب الكهف وذي القرنين تعنتا أما من عدا عيسى عليه الصلاة والسلام فواضح وأما عيسى عليه السلام فيعتقدون أنه ما أتى بعد وأنه سيأتي ويكون الناس في أيامه على دين واحد تصديقا لوعد التوراة الآتي بيانه وذلك على وجه مستلزم في أكثرها تنزهه تعالى عن الولد، وقدرته على البعث، وبدأها بقصة من خرق له العادة في الولد على وجه مبين أنه لا يحتاجه إلا فان حسا أو معنى يريد أن يخلفه فيما تعسر عليه فعله أو تعذر، وكان تقديم قصته أولى لأن التبكيت به أعظم لمباشرتهم لقتله وقتل ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام، وإشارة إلى أن العمل الصالح المؤسس٥٩ على التوحيد ضامن لإجابة الدعاء وإن كان فيه خرق للعادة وثنى بأمر من نسبوه إليه وافتروه٦٠ عليه وقصدوا قتله على وجه معرب عن شأنه غاية الإعراب. مبين فيه وجه الصواب متمما لتبكيت اليهود الآمرين لقريش بالتعنت بالسؤال بالإشارة إلى قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام وادعاء صلب٦١ المسيح الذي بشرت به التوراة، وهم الآن ينتظرونه ويدعون أنهم / أخص الناس به وقذف أمه – وحاشاها – دالا بذلك على القدرة على البعث، قال في التوراة في آخر السفر الأول٦٢
١ من ظ ومد، وفي الأصل: السورة التي يذكر فيها..
٢ هب التاسعة عشرة من سور القرآن، مكية مع الاختلاف الدائر حول استثناء بعض الآيات، وعدد آياتها ثمان وتسعون عند العراقيين والشاميين، وتسع وتسعون عند المكيين، وأما المدنيون فلهم قولان – راجع روح المعاني ٥ / ١٥١..
٣ زيد قبله في الأصل: بسم الله الرحمان الرحيم وبه الإعانة ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها..
٤ من مد وفي الأصل وظ: بإضافة..
٥ زيد من ظ ومد..
٦ من ظ ومد وفي الأصل: الفترة..
٧ زيد من ظ ومد..
٨ في مد: مثيله..
٩ زيد في ظ.
١٠ سقط ما بين الرقمين من ظ..
١١ سقط ما بين الرقمين من ظ..
١٢ سقط من مد..
١٣ من ظ ومد، وفي الأصل: إذا..
١٤ من ظ ومد، وفي الأصل: جمعه..
١٥ زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد..
١٦ في مد: مع..
١٧ من مد، وفي الأصل وظ: استقبال..
١٨ من ظ ومد وفي الأصل: فهم..
١٩ راجع سيرة ابن هشام ١ / ٩١..
٢٠ سقطت الواو من مد.
٢١ زيد من ظ ومد..
٢٢ زيد من ظ ومد..
٢٣ من ظ ومد وفي الأصل: الاستعلاء..
٢٤ زيد من مد..
٢٥ زيد من ظ ومد..
٢٦ من ظ ومد وفي الأصل: موسى..
٢٧ من ظ ومد، وفي الأصل: أنبياء..
٢٨ في مد: الغلظة..
٢٩ في مد: الغلظة..
٣٠ من ظ ومد وفي الأصل: في..
٣١ من ظ ومد وفي الأصل: نواجه..
٣٢ في ظ: السارحين..
٣٣ زيد من ظ ومد..
٣٤ في مد: فيه..
٣٥ زيد من ظ ومد..
٣٦ سقط من مد..
٣٧ زيد في الأصل: الذي هو، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها..
٣٨ من ظ ومد، وفي الأصل: من..
٣٩ من ظ ومد، وفي الأصل: بدليل..
٤٠ من ظ ومد وفي الأصل: حصره..
٤١ من ظ ومد، وفي الأصل: تمليح عليه..
٤٢ من ظ ومد، وفي الأصل: تمليح عليه..
٤٣ سقط من ظ ومد..
٤٤ من ظ ومد وفي الأصل: إلى..
٤٥ من ظ ومد وفي الأصل: لما..
٤٦ من ظ ومد وفي الأصل: التنبيه..
٤٧ في مد: من..
٤٨ من ظ ومد، وفي الأصل: وتشير..
٤٩ زيد في الأصل: في ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها..
٥٠ من مد، وفي الأصل وظ: الأسماء..
٥١ من مد، وفي الأصل وظ: الإيضاح..
٥٢ سقط ما بين الرقمين من ظ، وتأخر في الأصل عن "كل ما يريد" والترتيب من مد؛ وأما قول الكلي هذا فكره بصيغة المجهول في المعالم – راجع اللباب ٤/ ١٩٣.
٥٣ سقط ما بين الرقمين من ظ، وتأخر في الأصل عن "كل ما يريد" والترتيب من مد؛ وأما قول الكلي هذا فذكره بصيغة المجهول في المعالم – راجع اللباب ٤ / ١٩٣..
٥٤ من ظ ومد، وفي الأصل: يعم..
٥٥ من ظ ومد، وفي الأصل: الذي..
٥٦ من ظ ومد وفي الأصل: الفتاح..
٥٧ من مد، وفي الأصل وظ: جلله..
٥٨ من مد، وفي الأصل وظ: تصديقا..
٥٩ من ظ ومد، وفي الأصل: الموسر..
٦٠ من ظ ومد وفي الأصل: افتروا.
٦١ من ظ ومد وفي الأصل: لصلب..
٦٢ راجع الأصحاح التاسع والأربعين..

ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب - الذي به نعمة الإبقاء الأول - بالاستقامة البالغة، افتتحها بالأحرف المقطعة، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة، والتي تلي واصفته،
166
والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول، فقال: ﴿كهيعص *﴾ وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور، وهي جامعة النعم، وواصفة الكتاب، وذات النعمة الأولى، وذات النعمة الثانية، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى بأربعة على عددها مع قبلها من الأم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة ﴿ذكر﴾ أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر ﴿رحمت ربك﴾ أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض وإظهار الخبء ﴿عبده﴾ منصوب برحمة، لأنها مصدر بني على التاء، لا أنها دالة على الوحدة ﴿زكريا *﴾ أي ابن ماثان، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد ﴿إذ نادى﴾
167
ظرف الرحمة ﴿ربه﴾.
ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب، قال: ﴿نداء خفياً *﴾ أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى، فكأنه قيل: كما ذلك الندا؟ فقيل: ﴿قال رب﴾ بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب ﴿إني وهن﴾ أي ضعف جداً ﴿العظم مني﴾ أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني، وهو أصل بنائه، فكيف بغيره! ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها ﴿واشتعل الرأس﴾ أي شعره مني ﴿شيباً ولم أكن﴾ فيما مضى قط مع صغر السن ﴿بدعائك﴾ أي بدعائي إياك ﴿رب شقياً *﴾ فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله، فهو دعاء شكر واستعطاف؛ ثم عطف
168
على «إني وهن» قوله: ﴿وإني خفت الموالي﴾ أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة ﴿من وراءي﴾ أي في بعض الزمان الذي بعد موتي ﴿وكانت امرأتي عاقراً﴾ لا تلد أصلاً - بما دل عليه فعل الكون ﴿فهب لي﴾ أي فتسبب - عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة، وخوفي من سوء خلافة أقاربي، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي، وبلوغي من الكبر حداً لاحراك بي معه - إني أقول لك يا قادراً على كل شيء: هب لي ﴿من لدنك﴾ أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات، لا من جهة سبب أعرفه، فإن أسباب ذلك عندي معدومة.
وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان ﴿ولياً *﴾ أي من صلبي بدلالة ﴿ذرية﴾ في السورة الأخرى ﴿يرثني﴾ في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل ﴿ويرث﴾ زيادة على ذلك ﴿من ءال يعقوب﴾ جدنا مما خصصتهم به من المنح، وفضلتهم به من النعم، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام ﴿ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب﴾ [يوسف: ٦] ولأن إسرائيل صار علماً على الأسباط كلهم،
169
وكانت قد غلبت عليهم الأحداث؛ وقد استشكل القاضي العضد في «الفوائد الغياثية» كونَ ﴿يرث﴾ على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام قتل في حياته، ولا يكون وارثاً إلا إذا تخلف بعده، وقد قال تعالى ﴿فاستجبنا له ووهبنا له يحيى﴾ [الأنبياء: ٩٠] قال: فتجعل استئنافية، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام - هكذا نقل لي عنه، وأنا أجلّه عن ذلك، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصح السند، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثاً مجازاً مرسلاً باعتبار ما يؤول إليه في الجملة، لا سيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى العلم إرثاً على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء» ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه، ولم يرد منع من تسميته إرثاً حال الأخذ، هذا إذا صح
170
أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام، وحينئذ يؤول ﴿من وراءي﴾ بما غاب عنه، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني، فهب لي ولداً يكون متصفاً بصفاتي، فكان ما سأله، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلاً، وينتفي الاعتراض رأساً، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام، فإنه قال: آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام، وقيل: قتل، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال: إني كنت قد حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت
171
على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحداً أقتله، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي فقال: يا بني إسرائيل! ما شأن هذا الدم يغلي؟ قالوا: هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا، فقال: ما صدقتموني، قالوا: لو كان تأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل! ويلكم! أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا،
172
وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه، فقال لهم بيوزردان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، قال: الآن صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل، ثم قال: يا يحيى بن زكريا! قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحداً، فهدأ الدم بإذن الله تعالى، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره، وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه، قالوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد.
173
فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته.
ولما ختم دعاءه بقوله: ﴿واجعله رب﴾ أي أيها المحسن إلي ﴿رضياً *﴾ أي بعين الرضا منك دائماً حتى يلقاك على ذلك، قيل في جواب من كأنه قال: ماذا قال له ربه الذي أحسن الظن به؟ :﴿يا زكريا إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿نبشرك﴾ إجابة لدعائك؛ وقراءة الجماعة غير حمزة بالتشديد أوفق من قراءة حمزة للتأكيد الذي جيء به، لأن المبشر به لغرابته جدير بالإنكار ﴿بغلام اسمه يحيى﴾ ثم وصفه بما عرف به أن مما شرفه به أن ادخر له هذا الاسم فقال: ﴿لم نجعل له﴾ فيما مضى، ولعله أتى بالجار الدال على التبعيض تخصيصاً لزمان بني إسرائيل قومه فقال: ﴿من قبل سمياً *﴾ فكأنه قيل: ما قال في جواب هذه البشارة العظمى؟ فقيل: ﴿قال﴾ عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها، والتلذيذ بترديدها، وهل ذلك من امرأته أو غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل ﴿رب﴾ أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً ﴿أنّى﴾ أي
174
من أين وكيف وعلى أيّ حال ﴿يكون لي غلام﴾ يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة ﴿وكانت﴾ أي والحال أنه كانت ﴿امرأتي﴾ كانت شابة ﴿عاقراً﴾ غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيبن فكيف بها وقد أسنت! ﴿وقد بلغت﴾ أنا ﴿من الكبر عتياً﴾ أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام؛ قال البغوي في آل عمران: وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة؛ وقال الرازي في اللوامع: إن هذا على الاستخبار أيعطيه الله الولد بتلك الحال أم يقلبه شاباً؟ ولله تعالى في كل صنع تدبيران: أحدهما المعروف الذي يسلكه الناس من
175
توجيه الأسباب إلى المسببات، والآخر يتعلق بالقدرة المحضة، ولا يعرفه إلا أهل الاستبصار - انتهى. ﴿قال كذلك﴾ أي الأمر؛ ثم علله بقوله: ﴿قال ربك﴾ أي الذي عودك بالإحسان، وذكر مقول القول فقال: ﴿هو﴾ أي خلق يحيى منكما على هذه الحالة ﴿عليَّ﴾ أي خاصة ﴿هين﴾ لا فرق عندي بينه وبين غيره ﴿وقد خلقتك﴾ أي قدرتك وصورتك وأوجدتك.
ولما كان القصد تشبيه حاله بالإتيان منه بولد على ضعف السبب بتقديره من النطفة على ضعف سبيتها لكونها تارة تثمر وتارة لا، وهو الأغلب، أتى بالجار إشارة إلى ذلك فقال: ﴿من قبل﴾ أي قبل هذا الزمان ﴿ولم﴾ أي والحال أنك لم: ولما كان عليه السلام شديد التشوف لما يلقى عليه من المعنى في هذه البشرى، أوجز له حتى بحذف النون وليثبت أنه ليس له من ذاته إلا العدم المحض، وينفي أن يكون له من ذاته وجود ولو على أقل درجات الكون لاقتضاء حاله في هذا التعجب لتذكيره في ذلك فقال: ﴿تك شيئاً *﴾
176
أي يعتد به، ثم أبرزتك على ما أنت عليه حين أردت، فتحقق بهذا أنه من امرأته هذه العاقر في حال كونهما شيخين، ثم قيل جواباً لمن كأنه قال: ما قال بعد علمه بذلك؟ :﴿قال رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بالتقريب! ﴿اجعل لي﴾ على ذلك ﴿ءاية﴾ أي علامة تدلني على وقوعه ﴿قال﴾ أي الله: ﴿ءايتك﴾ على وقوع ذلك ﴿ألا تلكم الناس﴾ أي لا تقدر على كلامهم.
ولما بدئت السورة بالرحمة، وكان الليل محل تنزلها «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول» - الحديث، قال: ﴿ثلاث ليال﴾ أي بأيامها - كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك ﴿سوياً *﴾ من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتاً عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره ﴿فخرج﴾ عقب إعلام الله له بهذا ﴿على قومه﴾ أي عالياً على العلية منهم ﴿من المحراب﴾ الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه
177
عن كلام الناس ﴿فأوحى إليهم﴾ أي أشار بشفتيه من غير نطق: قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران: والرمز: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين، والأول أغلب؛ قال: وأصله الحركة. وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال: وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً، وذلك غير كثير فيهم، وقد يقال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز. ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد - انتهى. وهو ظاهر أيضاً في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق ﴿أن سبحوا﴾ أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها ﴿بكرة وعشياً *﴾ فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولداً فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا: ﴿يا يحيى خذ الكتاب﴾ أي التوراة ﴿بقوة﴾.
ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان، دل عليه النون في قوله: ﴿وءاتيناه﴾ بما لنا من
178
العظمة ﴿الحكم﴾ أي النبوة والفهم للتوراة ﴿صبياً *﴾ لغلبة الروح عليه، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له. وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له ﴿و﴾ آتيناه ﴿حناناً﴾ أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة ﴿من لدنا﴾ من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة ﴿وزكاة﴾ أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله ﴿وكان﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿تقياً *﴾ حوافاً لله تعالى ﴿وبراً﴾ أي واسع الأخلاق محسناً ﴿بوالديه ولم يكن﴾ جبلة وطبعاً ﴿جباراً﴾ عليهما ولا على غيرهما؛ ثم قيده بقوله: ﴿عصياً *﴾ إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم﴾ [التحريم: ٩] فكان مطيعاً لله قائماً بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي، فهنيئاً له ما أعطاه من
179
هذه الخلال القاضية بالكمال، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره ﴿وسلام﴾ أي أيّ سلام ﴿عليه﴾ منا ﴿يوم ولد﴾ من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين ﴿ويوم يموت﴾ من كرب الموت وما بعده، ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿ويوم يبعث﴾ من كل ما يخاف بعد ذلك ﴿حياً *﴾ حياة هي الحياة للانتفاع بها، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضياً، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، وأهوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: ذكره مثل هذه القذاة»
قال الهيثمي: وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، وأخرجه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم، لكن ليس فيه
180
ذكر الذكر، ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما: كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء - فذكره حتى قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا، قلنا: يا رسول الله! وكيف ذاك؟ قال: ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن؟ ﴿يا يحيى خذ الكتاب﴾ - إلى قوله: ﴿حياً﴾، مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم» ورواه أيضاً البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور - وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من ادعى لله ولداً من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته.
181
ولما كان حاصل القصة أنه ولد أخرجه الله تعالى عن سبب هو في ضعفه قريب من العدم، أما من جهته فبلوغه إلى حد من السن وحال في المزاج لا يقبل حركة الجماع عادة، أما من جهة زوجته فلزيادتها مع يأسها ببلوغها إلى نحو ذلك السن بكونها عاقراً لم تقبل حبلاً قط،
181
أتبعه بقصة هي أغرب من قصته بكونها ليس فيها إلا سبب واحد وهو المرأة، وعدم فيها سبب الذكورية أصلاً، إشارة إلى أنه تعالى يخلق ما يشاء تارة بسبب قوي، وتارة بسبب ضعيف، وتارة بلا سبب، ومن كان كذلك كان مستغنياً عن الولد؛ ولما كان على اليهود الآمرين بالسؤال تعنتاً عن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين أن ينصحوا العرب بالإعلام بأن دينهم باطل لشركهم، فلم يفعلوا فكانوا جديرين بالتبكيت، وكانت قصة زكريا أعظم في تبكيتهم بمباشرتهم لقتله وقتل ولده يحيى عليهما السلام، قدمها في الذكر، وتوطئة لأمر عيسى عليه السلام كما مضى بيانه في آل عمران إلزاماً لهم بالاعتراف به، وللنصارى بالاعتراف بأنه عبد، كما اعترف كل منهما بأمر يحيى عليه السلام، وذلك بما جمع بينهما من خرق العادة، وكانت قصة يحيى أولى من قصة إسحاق عليهما السلام لما تقدم، ولمشاهدة الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من الفريقين لأمره وأمر يحيى عليهم الصلاة والسلام لما لهما من الاتحاد في الزمن مع ما لهما من قرب النسب، ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره: اذكر هذا لهم: ﴿واذكر﴾ - بلفظ الأمر ﴿في الكتاب مريم﴾ ابنة عمران خالة يحيى - كما في الصحيح
182
من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء: «فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ثم أبدل من ﴿مريم﴾ بدل اشتمال قوله: ﴿إذ﴾ أي اذكر ما اتفق لها حين ﴿انتبذت﴾ أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت ﴿من أهلها﴾ حالة ﴿مكاناً شرقياً *﴾ عن مكانهم، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي ﴿فاتخذت﴾ أي أخذت بقصد وتكلف، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال: ﴿من دونهم﴾ أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للاغتسال أو غيره ﴿حجاباً﴾ يسترها ﴿فأرسلنا﴾ لأمر يدل على عظمتنا ﴿إليها روحنا﴾ جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، لئلا يشتبه عليها الأمر، ويتشعب بها الفكر، فتقتل نفسها غماً ﴿فتمثل لها﴾ أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني ﴿بشراً سوياً *﴾ في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه: ﴿قالت﴾.
183
ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت: ﴿إني أعوذ بالرحمن﴾ ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة ﴿منك﴾ ولما تفرست فيه - بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها - التقوى، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها: ﴿إن كنت تقياً * قال﴾ جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً، مؤكداً لأجل استعاذتها، ﴿إنما أنا رسول ربك﴾ أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية، وعبر باسم الرب المقتضي للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده ﴿لأهب﴾ بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى ﴿لك﴾ وقدم المتعلق تشويقاً إلى المفعول ليكون أوقع في النفس؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله:
184
﴿غلاماً﴾ أي ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية ﴿زكياً *﴾ طاهراً من كل ما يدنس البشر: نامياً على الخير والبركة ﴿قالت﴾ مريم: ﴿أنّى﴾ أي من أين وكيف ﴿يكون لي غلام﴾ ألده ﴿ولم يمسسني بشر﴾ بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها.
ولما هالها هذا الأمر، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته، فضاق عليها المقام، فأوجزت حتى بحذف النون من «كان» ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت ﴿ولم أك﴾. ولما كان المولود سر من يلده، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت: ﴿بغياً *﴾ أي ليكون دأبي الفجور، ولم يأت «بغية» لغلبة إيقاعه على النساء، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية، لا يقال إلا للمتلبسة به ﴿قال﴾ أي جبريل عليه السلام ﴿كذلك﴾ القول الذي قلت لك يكون.
185
ولما كان لسان الحال قائلاً: كيف يكون بغير سبب؟ أجاب بقوله: ﴿قال﴾ ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال: ﴿ربك هو﴾ أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة ﴿عليّ﴾ أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري ﴿هين﴾ أي خصصناك به ليكون شرفاً به لك.
ولما كان ذلك أعظم الخوارق، نبه عليه بالنون في قوله، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق: ﴿ولنجعله﴾ بما لنا من العظمة ﴿ءاية للناس﴾ أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام، وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً ﴿ورحمة منا﴾ لمن آمن به في أول زمانه، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال ﴿وكان﴾ ذلك كله ﴿أمراً مقضياً *﴾ أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً، ونبه
186
على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة: فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها ﴿فحملته﴾ وعقب بالحمل قوله: ﴿فانتبذت به﴾ أي فاعتزلت - وهو في بطنها - حالة ﴿مكاناً قصياً *﴾ أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله: ﴿فأجاءها﴾ أي فأتى بها وألجأها ﴿المخاض﴾ وهو تحرك الولد في بطنها للولادة ﴿إلى جذع النخلة﴾ وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها، فكانت كالعلم لما فيها من العجب، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته! فكيف إذا كانت يابسة! مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك.
187
ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً، كان كأنه قيل: يا ليت شعري! ما كان حالها؟ فقيل: ﴿قالت﴾ لما حصل عندها من خوف العار: ﴿ياليتني مت﴾ ولما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار: ﴿قبل هذا﴾ أي الأمر العظيم ﴿وكنت نسياً﴾ أي شيئاً من شأنه أن ينسى ﴿منسياً *﴾ أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال، فولدته ﴿فناداها من تحتها﴾ وهو عيسى عليه السلام ﴿ألا تحزني﴾ قال الرازي في اللوامع: والأصح أن مدة حملها له وولادته ساعة لأنه كان مبدعاً، ولم يكن من نطفة تدور في أدوار الخلقة - انتهى. ونقله ابن كثير وقال: غريب عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويؤيده أنه لم ينقل في كتابنا ولا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم أنكروا عليها زمن الحمل، ولو علموا به لأنكروه ولو أنكروه لنقل كما نقل إنكار الولادة.
ولما أنكروا الولادة فكأنها قالت: لم لا أحزن؟ وتوقعت ما يعلل به؟ قال: ﴿قد جعل ربك﴾ أي المحسن إليك ﴿تحتك﴾ في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها ﴿سرياً *﴾ جدولاً من
188
الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك ﴿وهزي إليك﴾ أي أوقعي الهز وهو جذب بتحريك.
ولما كان المقصود التهويل لصرف فكرها عما دهمها من الهم جعله قاصراً فكأنها قالت: ما أهز؟ إذ لم يكن في الجذع ما يتوقع نفعه بهزه، فقال مصرحاً بالمهزوز: ﴿بجذع النخلة﴾ التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها فكأنها قالت: ولم ذاك؛ فقال: ﴿تساقط عليك﴾ من أعلاها ﴿رطباً جنياً *﴾ طرياً آية أخرى عظيمة تطيب النفس وتذهب بالحزن، وتدل على البراءة، والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة الجماعة وحمزة للدلالة على أن التمر يسقط منها، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل،
189
تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونه من فعلها.
190
ولما كان من المعلوم أنها هزت فتساقط الرطب، سبب عنه قوله: ﴿فكلي﴾ أي فتسبب عن الإنعام عليك بالماء والرطب أن يقال لك تمكيناً من كل منهما كلي من الرطب ﴿واشربي﴾ من ماء السرى ﴿وقري﴾ أي استقري ﴿عيناً﴾ بالنوم، فإن المهموم لا ينام، والعين لا تستقر ما دامت يقظى، وعن الأصمعي أن المعنى: ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة، واشتقاق «قري» من القرور، وهو الماء البارد - انتهى.
وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وحكى الفراء أن قريشاً ومن حولهم يقولون: قررت به عيناً - أي بكسر العين - أقر، وأن أسداً وقيساً وتميماً يقولون: قررت به عيناً - أي بالفتح - أقر، قال - يعني الفراء: فمن قال: قررت - أي بالكسر - قراً، وقرى عيناً - أي بالفتح، وهي القراءة المعروفة، ومن قال: قررت، - أي بالفتح قراً وقري عيناً - بكسر القاف أي وهي الشاذة، قال - أي القزاز: هي لغة كل من لقيت من أهل نجد، والمصدر قرة وقرور.
190
وسيأتي في القصص ما ينفع هنا، وهو على كل حال كناية عن طيب النفس وتأهلها لأن تنام بالكفاية في الدنيا بطعام البدن وغذاء الروح بكونه آية باهرة، والآخرة بالكرامة وذلك على أنفع الوجوه، قيل: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ثم سبب عن ذلك قوله مؤكداً إيذاناً بأن أكثر رؤيتها في تلك الأوقات الملائكة عليهم السلام ﴿فإما ترين﴾ أي يا مريم ﴿من البشر أحداً﴾ لا تشكين أنه من البشر ينكر عليك ﴿فقولي﴾ لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه: ﴿إني نذرت للرحمن﴾ أي الذي عمت رحمته فأدخلني فيها على ضعفي وخصني بما رأيت من الخوارق ﴿صوماً﴾ أي صمتاً ينجي من كل وصمة وإمساكاً عن الكلام ﴿فلن﴾ أي فتسبب عن النذر أني لن ﴿أكلم اليوم إنسياً *﴾ فإن كلامي يقبل الرد والمجادلة ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع، وأما أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر، قالوا: ومن أذل الناس سفيهاً لم يجد مسافهاً، ومن
191
الدلالة عليه بالصمت عن كلام الناس مع ما تقدم الإشارة إلى أنه ردع مجرد ﴿فأتت﴾ أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها، وزال حزنها، وأتت ﴿به﴾ أي بعيسى ﴿قومها﴾ وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه ﴿تحمله﴾ غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل: فما قالوا لها؟ فقيل: ﴿قالوا يا مريم﴾ ما هذا؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم ﴿لقد جئت﴾ بما نراه ﴿شيئاً فرياً *﴾ قطيعاً منكراً ﴿ياأخت هارون﴾ في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام ﴿ما كان أبوك﴾ أي عمران ساعة من الدهر ﴿امرأ سوء﴾ لنقول: نزعك عرق منه ﴿وما كانت أمك﴾ في وقت من الأوقات ﴿بغياً *﴾ أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها ﴿فأشارت﴾ امتثالاً لما أمرت به ﴿إليه﴾ أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها ﴿قالوا كيف نكلم﴾ يا مريم ﴿من كان في المهد﴾ أي قبيل إشارتك ﴿صبياً *﴾ لم يبلغ سن هذا الكلام، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير ب «كان» يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله
192
خارق لعادة الرضعاء والصبيان، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام، ونصب ﴿صبياً﴾ على الحال، فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله: ﴿قال﴾ أي واصفاً نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث، مؤكداً لإنكارهم أمره فقال: ﴿إني عبد الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى ﴿ءاتاني الكتاب﴾ أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني ﴿وجعلني﴾ أي في علمه ﴿نبياً *﴾ ينبىء بما يريد في الوقت الذي يريد، وقيل في ذلك: فانبئكم به ﴿وجعلني مباركاً﴾ بأنواع البركات ﴿أين ما﴾ في أي مكان ﴿كنت﴾ فيه.
ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول: ﴿وأوصاني بالصلاة﴾ له طهرة للنفس ﴿والزكاة﴾ طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري ﴿ما دمت حياً﴾ ليكون ذلك حجة على من أطراه لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله ﴿وبراً﴾ أي وجعلني براً، أي واسع الخلق طاهره.
193
ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه، صرح ببراءتها فقال: ﴿بوالدتي﴾ أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر، فلا والد لي غيرها ﴿ولم يجعلني جباراً شقياً *﴾ بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق، إنما أفعل ذلك بمن يستحق، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيراً إلى أنه لا يضره عدو، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهاً وإلى البعث فقال: ﴿والسلام﴾ أي جنسه ﴿عليَّ﴾ فلا يقدر أحد على ضرري ﴿يوم ولدت﴾ فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهاً ﴿ويوم أموت﴾ كذلك أموت كامل البدن والدين، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائناً من كان ﴿ويوم أبعث حياً *﴾ يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه، ونذارة لمن كذبه، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم،
194
وإذا تقرر ذلك في نفوسهم من الصغر صعب زواله، ولم يكن هناك ما ينفيه حال الصغر، فعوض عن ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره، وإنطاق الحيوانات العجم، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها.
195
ولما كان في ذلك من أقوال عيسى وأحواله - المنادية بالحاجة للتنقل في أطوار غيره من البشر والكرامة من الله - أعظم البيان عن بعده عما ادعى فيه النصارى من الإلهية واليهود من أنه لغير رشده، نبه على ذلك مشيراً إليه بأداة البعد فقال مبتدئاً: ﴿ذلك﴾ أي الولد العظيم الشأن، العلي الرتبة، الذي هذه أحواله وأقواله البعيدة عن صفة الإله وصفة من ارتاب في أمره؛ ثم بين اسم الإشارة أو أخبر فقال: ﴿عيسى ابن مريم﴾ أي وحدها ليس لغيرها فيه بنوة أصلاً، وهي من أولاد آدم، فهو كذلك؛ ثم عظم هذا البيان تعظيماً آخر فقال: ﴿قول﴾ أي هو - أي نسبته إلى مريم فقط - قول ﴿الحق﴾ أي الذي يطابقه الواقع، أو يكون القول عيسى نفسه كما أطلق عليه في غير هذا الموضع «كلمة» من تسمية المسبب باسم السبب وهو على هذه
195
القراءة خبر بعد خبر أو بدل أو خبر مبتدأ محذوف، وعلى قراءة عاصم وابن عامر بالنصب، هو اغراء، أي الزموا ذلك وهو نسبته إلى مريم عليهما السلام وحدها ثم عجب من ضلالهم فيه بقوله: ﴿الذي فيه يمترون *﴾ أي يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلونه به مع أن أمره في غاية الوضوح، ليس موضعاً للشك أصلاً؛ ثم دل على كونه حقاً في كونه ابن مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضل: ﴿ما كان﴾ أي ما صح ولا تأتي ولا تصور في العقول ولا يصح ولا يتأتى لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة ﴿لله﴾ الغني عن كل شيء ﴿إن يتخذ﴾ ولما كان المقام يقتضي النفي العام، أكده ب «من» فقال: ﴿من ولد﴾.
ولما كان اتخاذ الولد من النقائص، أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله: ﴿سبحانه﴾ أي تنزه عن كل نقص من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله: ﴿إذا قضى أمراً﴾ أي أمر كان ﴿فإنما يقول له كن﴾ أي يريده ويعلق قدرته به ﴿فيكون *﴾ من غير حاجة إلى شيء أصلاً،
196
فكيف ينسب إلى الاحتياج إلى الإحبال والإيلاد والتربية شيئاً فشيئاً كما أشار إليه الاتخاذ.
ولما كان لسان الحال ناطقاً عن عيسى عليه الصلاة والسلام بأن يقول: وقد قضاني الله فكنت كما أراد، فأنا عبد الله ورسوله فاعتقدوا ذلك ولا تعتقدوا سواه من الأباطيل، عطف عليه في قراءة الحرميين وأبي عمرو قوله: ﴿وإن الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿ربي وربكم﴾ أي أحسن إلى كل منا بالخلق والرزق، لا فرق بيننا في أصل ذلك ﴿فاعبدوه﴾ وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده، وقراءة الباقين بالكسر على أنه مقول عيسى عليه السلام الماضي، ويكون اعتراض ما تقدم من كلام الله بينهما للتأكيد والاهتمام.
ولما كان اشتراك الخلائق في عبادة الخالق بعمل القلب والجوارح علماً وعملاً أعدل الأشياء، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿هذا﴾ أي الذي أمرتكم به ﴿صراط مستقيم *﴾ لأنا بذلنا الحق لأهله بالاعتقاد الحق
197
والعمل الصالح، ولم يتفضل أحد منا فيه على صاحبه.
ولما كان المنهج القويم بحيث يكون سبباً للاجتماع عند كل صحيح المزاج، عجب منهم في استثمار غير ذلك منه فقال: ﴿فاختلف﴾ أي فتسبب عن هذا السبب للاجتماع أنه اختلف ﴿الأحزاب﴾ الكثيرون. ولما كان الاختلاف لم يعم جميع المسائل التي في شرعهم قال: ﴿من بينهم﴾ أي بني إسرائيل المخاطبين بذلك خاصة لم تكن فيهم فرقة من غيرهم في هذه المقالة القويمة التي لا تنبغي لمن له أدنى مسكة أن يتوقف في قبولها، فمنهم من أعلم أنها الحق فاتبعها ولم يحد عن صوابها، ومنهم من أبعد في الضلال عنها بشبه لا شيء أو هي منها؛ روي عن قتادة أنه اجتمع من أحبار بني إسرائيل أربعة: يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل، فقال يعقوب: عيسى هو الله نزل إلى الأرض فكذبه الثلاثة واتبعه اليعقوبية، وقال نسطور: عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعه النسطورية، وقال ملكاً: عيسى أحد
198
ثلاثة: الله إله، ومريم إله، وعيسى إله، فكذبه الرابع واتبعه طائفة، وقال إسرائيل: عيسى عبد الله كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاتبعه فريق من بني إسرائيل، ثم اقتتل الأربعة فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع - ذكر معناه أبو حيان وابن كثير ورواه عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ﴿فويل﴾ أي فتسبب عن اختلافهم أنا نقول: ويل ﴿للذين كفروا﴾ منهم ومن غيرهم ﴿من مشهد يوم عظيم *﴾ في جمعه لجميع الخلائق، وما فيه من الأهوال والقوارع.
199
ولما كان ذلك المشهد عظيم الجمع، شديد الزحام مستوي الأرض، بعيد الأرجاء، كان حاله مقتضياً لئلا يطلعوا على غير ما يليهم من أهواله، فقال في جواب من يقول: وما عسى أن يسمعوا أو يبصروا فيه، معلماً بأن حالهم في شدة السمع والبصر جديرة بأن يعجب منها: ﴿أسمع بهم وأبصر﴾ أي ما أشد سمعهم وما أنفذ بصرهم! ﴿يوم يأتوننا﴾ سامعين لكل أهواله، مبصرين لسائر أحواله، فيطلعون بذلك على جميع ما أدى عمله في الدنيا إلى ضرهم في ذلك اليوم، وجميع ما كان ينفعهم لو عملوه، فيندمون حيث لا ينفعهم الندم، ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ونحوه ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك، بل يسلك بهم في كل
199
ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم، فيكونون بسلوك ذلك - وهم يعلمون ضرره عمياً وبكماً وصمّاً، لأنهم لا ينتفعون بمداركهم كما كانوا في الدنيا كذلك، لكنهم - هكذا كان الأصل، وإنما أظهر فقال: ﴿لكن الظالمون﴾ تنبيهاً على الوصف الذي أحلهم ذلك المحل ﴿اليوم في ضلال مبين *﴾ لا يسمعون ولا يبصرون.
ولما كان هذا الذي تقدم إنذاراً بذلك المشهد، كان التقدير: أنذر قومك ذلك المشهد وما يسمعونه فيه ويبصرونه ﴿وأنذرهم يوم الحسرة﴾ نفسه في ذلك المشهد العظيم، يوم تزل القدم، ولا ينفع الندم، للمسيء على إساءته، وللمحسن على عدم ازدياده من الإحسان.
ولما كان ﴿يوم﴾ مفعولاً، لا ظرفاً، أبدل منه، أو علل الإنذار فقال: ﴿إذ﴾ أي حين، أو لأنه، وعبر عن المستقبل بالماضي، إيذاناً بأنه أمر حتم لا بد منه فقال: ﴿قضي الأمر﴾ أي أمره وفرغ منه بأيسر شأن وأهون أمر، وقطعنا أنه لا بد من كونه ﴿وهم﴾ حال من ﴿أنذرهم﴾ أي والحال أنهم الآن ﴿في غفلة﴾ عما قضينا أن يكون في ذلك الوقت من أمره، لا شعور لهم بشيء منه،
200
بل يظنون أن الدهر هكذا حياة وموت بلا آخر ﴿وهم لا يؤمنون *﴾ بأنه لا بد من كونه؛ وفي الصحيح ما يدل على أن يوم الحسرة حين يذبح الموت فقد روى مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم! هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم! هذا الموت، فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي وراية: فذلك قوله ﴿وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر﴾ » «الآية.
وأما الغفلة ففي الدنيا، روى ابن حبان في صحيحه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إذ قضي الأمر وهم في غفلة﴾ قال في الدنيا. قال المنذري: وهو في مسلم بمعناه في آخر حديث.
ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله، وكان سبحانه
201
قد قضى بموت الخلائق أجمعين، وأنه يبقى وحده، عبر عن ذلك بالإرث مقرراً به مضمون الكلام السابق، فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم: إن الدهر لا يزال هكذا، حياة لقوم وموت لآخرين ﴿إنا نحن﴾ بعظمتنا التي اقتضت ذلك ولا بد، وأفاد الأصبهاني أن تأكيد اسم ﴿إن﴾ أفاد أن الإسناد إليه سبحانه لا إلى أحد من جنده ﴿نرث الأرض﴾ فلا ندع بها عامراً من عاقل ولا غيره. ولما كان العاقل أقوى من غيره، صرح به بعد دخوله فقال: ﴿ومن عليها﴾ أي من العقلاء، بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم ﴿وإلينا﴾ لا إلى غيرنا من الدنيا وجبابرتها إلى غير ذلك ﴿يرجعون *﴾ معنى في الدنيا وحساً بعد الموت.
ولما ذم الضالين في أمر المسيح، وعلق تهديدهم بوصف دخل فيه مشركو العرب، فأنذرهم بصريح تكذيبهم بالبعث، وغيرهم بأنهم لسوء أعمالهم كالمكذبين به، وختم ذلك بأنه الوارث وأن الرجوع إليه، ودخل في ذلك الإرث بغلبة أنبيائه وأتباعهم على أكثر أهل
202
الأرض برجوع أهل الأديان الباطلة إليهم حتى يعم ذلك جميع أهل الأرض في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان إبراهيم عليه السلام لكثرة أولاده من العرب والروم وأهل الكتابين وراثاً لأكثر الأرض، وكان مثل زكريا في هبة الولد على كبر سنه وعقم زوجه، أتبع ذلك قوله: ﴿واذكر﴾ أي يا محمد! ﴿في الكتاب﴾ أي الذي أنزل عليك وتبلغه للناس وتعلمهم أن هذه القصة من القرآن ﴿إبراهيم﴾ أعظم آبائكم الذي نهى أباه عن الشرك يا من يكفرون تقليداً للآباء! ثم علل تشريفه بذكره له على سبيل التأكيد المعنوي بالاعتراض بين البدل والمبدل منه، واللفظي ب «إن» بقوله منبهاً على أن مخالفتهم له بالشرك والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك تكذيب بأوصافه الحسنة: ﴿إنه كان﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿صديقاً﴾ أي بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله، والتصديق بكل ما يأتيه مما هو أهل لأن يصدق لأنه مجبول على ذلك ولا يكون كذلك إلا وهو عامل به حق العمل فهو أبلغ من المخلص
203
﴿نبياً *﴾ أي يخبره الله بالأخبار العظيمة جداً التي يرتفع بها في الدارين وهو أعظم الأنبياء بعد محمد - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام كما رواه الحافظ أبو البزار بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه وأكده وكذا أكد فيما بعده من الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا مقرين بنبواتهم تنزيلاً لهم منزلة المنكر، لجريهم في إنكارهم نبوة البشر على غير مقتضى عليهم.
204
ولما تكفل ما تقدم من هذه السورة بنفي الشريك بقيد كونه ولداً، أتبع ذلك من قصته ما ينفي الشريك ليقتدي به أولاده في ذلك إذ كانوا يقلدون الآباء وليس في آبائهم مثله، فقال مبدلاً من ﴿إبراهيم﴾ ﴿إذ قال﴾ أي اذكر وقت قوله ﴿لأبيه﴾ هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله: ﴿يا أبت﴾.
ولما كان العاقل لا يفعل فعلاً إلا لثمره، نبهه على عقم فعله بقوله: ﴿لم تعبد﴾ مريداً بالاستفهام المجاملة، واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله: ﴿ما لا يسمع ولا يبصر﴾ أي ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً. ولما كان الأعمى الأصم
204
قد ينفع بكلام أو غيره، قال: ﴿ولا يغني عنك شيئاً *﴾ من الإغناء.
ولما نبهه على أن ما يعبده لا يستحق العبادة، بل لا تجوز عبادته، لنقصه مطلقاً ثم نقصه عن عابده، ولن يكون المعبود دون العابد أصلاً، وكان أقل ما يصل إليه بذلك مقام الحيرة، نبهه على أنه أهل للهداية، فقال مكرراً لوصفه المذكور بالعطف والود: ﴿ياأبت﴾ وأكد علماً منه أنه ينكر أن يكون ابنه أعرف منه بشيء فقال: ﴿إني قد جاءني﴾ من المعبود الحق ﴿من العلم ما لم يأتك﴾ منه ﴿فاتبعني﴾ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لك وجوباً على النهي عن المنكر ونصيحة لما لك علي من الحق: اجتهد في تبعي ﴿أهدك صراطاً سوياً *﴾ لا عوج فيه، كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أن أمامنا مهالك لا ينجو منها أحد، وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك، لأطعتني، لو عصيتني فيه عدك كل أحد غاوياً.
ولما بين أنه لا نفع فيما يعبده، ونبهه على الوصف المقتضي لوجوب الاقتداء به، بين له ما في عبادة معبوده من الضر فقال: ﴿يا أبت لا تعبد الشيطان﴾ فإن الأصنام ليس لها دعوة أصلاً، والله تعالى قد حرم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل
205
ولي له، فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان، فكان هو المعبود بعبادتها في الحقيقة؛ ثم علل هذا النهي فقال: ﴿إن الشيطان﴾ البعيد من كل خير المحترق باللعنة، وذكر الوصف الموجب للإملاء للعاصي فقال: ﴿كان للرحمن﴾ المنعم بجميع النعم القادر على سلبها، ولم يقل: للجبار - لئلا يتوهم أنه ما أملى لعاصيه مع جبروته إلا للعجز عنه ﴿عصياً *﴾ بالقوة من حين خلق، وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم فأبى فهو عدو لله وله، والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء، لأن صديق العدو عدو.
فلما بين له أنه بذلك عاص للمنعم، خوفه من إزالته لنعمته فقال: ﴿يا أبت إني أخاف﴾ لمحبتي لك وغيرتي عليك ﴿أن يمسك عذاب﴾ أي عذاب كائن ﴿من الرحمن﴾ أي الذي هو ولي كل من يتولاه لعصيانك إياه ﴿فتكون﴾ أي فتسبب عن ذلك أن تكون ﴿للشيطان﴾ وحده وهو عدوك المعروف العداوة ﴿ولياً *﴾ فلا يكون لك نصرة أصلاً، مع ما يوصف به من السخافة باتباع العدو الدني، واجتناب الولي العلي.
فلما وصل إلى هذا الحد من البيان، كان كأنه قيل: ماذا كان جوابه؟ فقيل: ﴿قال﴾ مقابلاً لذلك الأدب العظيم والحكمة البالغة
206
الناشئة عن لطافة العلم بغاية الفظاظة الباعث كثافة الجهل، منكراً عليه في جميع ما قال بإنكار ما بعثه عليه من تحقير آلهته: ﴿أراغب﴾ قدم الخبر لشدة عنايته والتعجيب من تلك الرغبة والإنكار لها، إشارة إلى أنه لا يفعلها أحد؛ ثم صرح له بالمواجهة بالغلظة فقال: ﴿أنت﴾ وقال: ﴿عن ءالهتي﴾ بإضافتها إلى نفسه فقط، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها؛ والرغبة عن الشيء: تركه عمداً. ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال: ﴿يا إبراهيم﴾ ثم استأنف قوله مقسماً: ﴿لئن لم تنته﴾ عما أنت عليه ﴿لأرجمنك﴾ أي لأقتلنك، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته ﴿واهجرني﴾ أي ابعد عني ﴿ملياً﴾ أي زماناً طويلاً لأجل ما صدر منك هذا الكلام، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى، ويقاسي من قومه من العناء، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا - بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً ﴿قال﴾ أي إبراهيم عليه السلام مقابلاً لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم: ﴿سلام عليك﴾ أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء؛ ثم استأنف قوله: ﴿سأستغفر﴾ بوعد لا خلف فيه ﴿لك ربي﴾
207
أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للاسلام الجابّ لما قبله، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله: ﴿إني أخاف أن يمسك﴾.
ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال: ﴿إنه كان بي﴾ أي في جميع أحوالي ﴿حفيّاً *﴾ أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال: ﴿وأعتزلكم﴾ أي جميعاً بترك بلادكم؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله: ﴿وما تدعون﴾ أي تعبدون ﴿من دون الله﴾ الذي له الكمال كله، فمن أقبل عليه وحده أصاب، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ﴿وأدعوا﴾ أي أعبد ﴿ربي﴾ وحده لاستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه: ﴿عسى ألاّ أكون﴾ أي كوناً ثابتاً كأنه احترز بذلك
208
عما لا بد للأولياء منه في الدنيا من البلاء ﴿بدعاء ربي﴾ المتفرد بالإحسان إلي ﴿شقياً *﴾ كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم.
ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى، عزم على نشر شقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله:
وما غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وحقق ما عزم عليه؛ ثم بين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال: ﴿فلما اعتزلهم﴾ أي بالهجرة إلى الأرض المقدسة ﴿وما يعبدون﴾ أي على الاستمرار ﴿من دون الله﴾ الجامع لجميع معاني العظمة التي لا ينبغي العبادة لغيره ﴿وهبنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿له﴾ كما هو الشأن في كل كن ترك شيئاً لله ﴿إسحاق﴾ ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سن اليأس وأخذه هو في السن إلى حد لا يولد لمثله ﴿ويعقوب﴾ ولداً لإسحاق وخصهما
209
بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأما إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإيحائه به تلك المشاعر العظام فأخروه بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه؛ ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته فقال: ﴿وكلاًّ﴾ أي منهما ﴿جعلنا نبياً *﴾ عالي المقدار، ويخبر بالأخبار كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً ﴿ووهبنا لهم﴾ كلهم ﴿من رحمتنا﴾ أي شيئاً عظيماً جداً، بالبركة في الأموال والأولاد وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة ﴿وجعلنا لهم﴾ بما لنا من العظمة ﴿لسان صدق عليّاً﴾ أي ذكراً صادقاً رفيع القدر جداً يحمدون به ويثنى عليهم من جميع أهل الملل على كر الأعصار، ومر الليل والنهار، وعبر باللسان عما يوجد به، وفي ذلك ترغيب في الهجرة ثانياً بعد ما رغب فيها بقصة أهل الكهف أولاً، وأشار إليها بقوله في ﴿سبحان﴾ ﴿وقل رب أدخلني مدخل صدق﴾ [الإسراء: ٨٠] الآية.
210
ولما كان موسى أول من نوه الله بأسمائهم، على لسانه في التوراة، وأظهر محامدهم، وشهر مناقبهم، وتوارث ذلك أبناؤهم منه حتى شاع أمرهم وذاع، وملأ الأسماع، وطار في الأقطار، حتى عم البراري والبحار، عقب ذكرهم بذكره فقال: ﴿واذكر في الكتاب﴾
210
أي الذي لا كتاب مثله في الكمال ﴿موسى﴾ أي الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من العبودية والذل ختى تمكنوا من آثار آبائهم، وكان موافقاً لأبيه إبراهيم عليهم السلام في أن كلاً منهما أراد ملك زمانه الذي ادعى الربوبية قتله خوفاً على ملكه منه، فأنجاه الله منه، وأمر موسى أعجب لأنه سبحانه أنجاه من الذبح بالذباح، ثم علل ذكره له بقوله: ﴿إنه كان﴾ أي كوناً عريقاً فيه ﴿مخلصاً﴾ لله تعالى في توحيده وجميع أعماله كما أشارت إليه قراءة الجمهور - من غير كلفة في شيء، في ذلك لأن الله أخلصه له كما في قراءة الكوفيين بالفتح ﴿وكان رسولاً﴾ إلى بني إسرائيل والقبط ﴿نبياً *﴾ ينبئه الله بما يريد من وحيه لينبىء به المرسل إليهم، فيرفع بذلك قدره، فصار الإخبار بالنبوة عنه مرتين: إحداهما في ضمن ﴿رسولاً﴾ والأخرى صريحاً مع إفهام العلو باشتقاقه من النبوة، وبكون النبأ لا يطلق عليه غالباً إلا على خبر عظيم، فصار المراد: رسولاً عالياً مقداره ويخبر بالأخبار الجليلة، وفيه دفع لما يتوهم من أنه رسول عن بعض رسله كما في أصحاب يس؛ وعطف على ذلك دليله الدال على ما صدرت به السورة من الرحمة، فرحمه بتأنيس وحشته وتأهيل غربته بتلذيذه بالخطاب وإعطائه الكتاب
211
فقال: ﴿وناديناه﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿من جانب الطور﴾ أي الجانب ﴿الأيمن﴾ فأنبأناه هنالك - حين كان متوجهاً إلى مصر - بأنه رسولنا، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون، فكان لبني إسرائيل به من العجائب في رحمتهم بإنزال الكتاب، والإلذاذ بالخطاب، من جوف السحاب، وفي إماتتهم لما طلبوا الرؤية، ثم إحيائهم وغير ذلك ما يجل عن الوصف على ما هو مذكور في التوراة، وتقدم كثير منه في هذا الكتاب ﴿وقربناه﴾ بما لنا من العظمة تقريب تشريف حال كونه ﴿نجيّاً *﴾ نخبره من أمرنا بلا واسطة من النجوى وهي السر والكلام بين الاثنين كالسر، والتشاور كما في يوسف ويأتي في المجادلة ﴿ووهبنا له﴾ أي هبة تليق بعظمتنا ﴿من رحمتنا﴾ له لما سألنا ﴿أخاه﴾ أي معاضدة أخيه وبينه بقوله: ﴿هارون﴾ حال كونه ﴿نبياً *﴾ أو هو بدل أي نبوته شددنا به أزره، وقوينا به أمره، وكان يخلفه من قومه عند ذهابه إلى ساحة المناجاة، ومع ذلك فأشركوا بي صورة عجل، فلا تعجب من غرورهم للعرب مع مباشرتهم لهذه العظائم.
ولما كان إسماعيل عليه الصلاة والسلام هو الذي ساعد أباه
212
إبراهيم عليه السلام في بناء البيت الذي كان من الأفعال التي أبقى الله بها ذكره، وشهر أمره وكان موافقاً لموسى عليه السلام في ظهور آية الماء الذي به حياة كل شيء وإن كانت آية موسى عليه السلام انقضت بانقضائه، وآيته هو باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي التي كانت سبب حياته وماؤها ببركته أفضل مياه الأرض، وجعل سبحانه آية الماء التي أظهرها له سبب حفظه من الجن والإنس والوحش وسائر المفسدين، إشارة إلى أنه سبحانه يحيي بولده محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي غذاه بذلك الماء ورباه عند ذلك البيت إلى أن اصطفاه برسالته، فحسدته اليهود وأمرت بالتعنت عليه - ما لم يحي بغيره، ويجعله قطب الوجود كما خصه - من بين آل إبراهيم عليه السلام - بالبيت الذي هو كذلك قطب الوجود، ويشفي به من داء الجهل، ويغني به من مرير الفقر، كما جعل ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر من شيد قدرهم، وأعظم من أعلى ذكرهم، عقب ذكره بذلك فقال: ﴿واذكر في الكتاب﴾ أباك الأقرب ﴿إسماعيل﴾ ابن إبراهيم عليهما السلام الذي هم معترفون بنبوته، ومفتخرون برسالته وأبوته، فلزم بذلك فساد تعليلهم إنكار نبوتك بأنك من البشر، ثم علل ذكره والتنويه بقدره بقوله معلماً بصعوبة الوفاء بالتأكيد:
213
﴿إنه كان﴾ جبلة وطبعاً ﴿صادق الوعد﴾ في حق الله وغيره لمعونة الله له على ذلك، بسبب أنه لا يعد وعداً إلا مقروناً بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبرهم بأمر ذبحه ﴿ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾ فكن أبي كذلك ولا تقولن لشي إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله، وخصه بالمدح به - وإن كان الأنبياء كلهم كذلك - لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله ﴿وكان رسولاً نبياً﴾ نبأه الله بأخباره، وأرسله إلى قومه جرهم قاله الأصبهاني. وأتى أهل البراري بدين أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فأحياها الله بنور الإيمان الناشىء عن روح العلم ووصفه بالرسالة زيادة على وصف أخيه إسحاق عليهما السلام وتقدم في أمر موسى عليه السلام سر الجمع بين الوصفين؛ وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي - عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه «أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل عليه السلام» وفي رواية الترمذي «أن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» ﴿وكان يأمر أهله بالصلاة﴾ التي هي طهرة البدن وقرة العين وخير العون على جميع المآرب
214
﴿والزكاة﴾ التي هي طهرة المال، كما أوصى الله بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم في هذه السورة أنه سبحانه وتعالى أوصى بذلك عيسى عليه السلام ﴿وكان عند ربه﴾ لعبادته على حسب ما أقامته ربوبيته ﴿مرضياً *﴾ فاقتد أنت به فإنه من أجل آبائك، لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال، فتنال رتبة الرضا.
215
ولما كان إسماعيل عليه السلام قد رفع بالسكنى حياً إلى أعلى مكان في الأرض رتبة، وكان أول نبي رمى بالسهام، وكان إدريس عليه السلام - مع رفعته إلى المكان العلي - أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، وخط بالقلم، وخاط الثياب ولبس الجبة وكان أغربهم قصة، وأعجبهم أمراً، وأقدمهم زمناً، ختم به هذه القصص تأييداً لهذا النبي الكريم، بما بين له من القصص التي هي أغرب مما أمر اليهود بالتعنت فيه، وإشارة إلى أن الله تعالى يؤتي أتباعه من علوم إدريس الأرضية والسماوية مما يستحق أن يحفظ بالخط ويودع بطون الكتب لضيق الصدور عن حفظه ما لم يؤته أمة من الأمم، وأنه يجمع شملهم، وترهيباً للمتعنتين بأنهم إن لم ينتهوا وضع فيهم السلاح كما فعل إدريس عليه السلام بكفار زمانه فقال: ﴿واذكر في الكتاب﴾ أي الجامع
215
لكل ما يحتاج إليه من القصص المتقدمين والمتأخرين ﴿إدريس﴾ أي الذي هو أبعد ممن تعنت بهم اليهود زماناً، وأخفى منهم شأناً، وهو جد أبي نوح عليه السلام واسمه حنوخ بمهملة ونون وآخره معجمة ﴿إنه كان صديقاً﴾ أي صادقاً في أقواله وأفعاله، ومصدقاً بما أتاه عن الله من آياته على ألسنة الملائكة ﴿نبياً *﴾ ينبئه الله تعالى بما يوحيه إليه من الأمر العظيم، رفعة لقدره، فينبىء به الناس الذين أرسل إليهم ﴿ورفعناه﴾ جزاء منا له على تقواه وإحسانه، رفعة تليق بعظمتنا، فأحللناه ﴿مكاناً علياً *﴾ أي الجنة أو السماء الرابعة، وهي التي رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها ليلة الإسراء؛ قال ابن قتيبة في المعارف: وفي التوراة أن أخنوخ أحسن قدام الله فرفعه إليه - انتهى. وفي نسخة ترجمه التوراة وهي قديمة جداً وقابلتها مع بعض فضلاء الربانيين من اليهود وعلى ترجمة سعيد الفيومي بالمعنى وكان هو القارىء ما نصه: وكانت جميع حياة حنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، فأرضى حنوخ الله ففقد لأن الله غيبه، وفي نسخة
216
أخرى: لأن الله قبله، وفي أخرى: لأن الله أخذه. وهو قريب مما قال ابن قتيبة، لأن أصل الكلام عبراني، وإنما نقله إلى العربي المترجمون، فكل ترجم على قدر فهمه من ذلك اللسان، ويؤيد أن المراد الجنة ما في مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي عن معجمي الطبراني - الأوسط والأصغر إن لم يكن موضوعاً: حدثنا محمد بن واسط ثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ثنا حجاج بن محمد بن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد ابن أسلم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إن إدريس عليه السلام كان صديقاً لملك الموت فسأله أن يريه الجنة والنار، فصعد بإدريس فأراه النار ففزع منها، وكاد يغشى عليه فالتف عليه ملك الموت بجناحه، فقال ملك الموت: أليس قد رأيتها؟ قال: بلى! ولم أر كاليوم قط، ثم انطلق به حتى أراه الجنة فدخلها فقال له ملك الموت: انطلق! قد رأيتها، قال: إلى أين؟ قال ملك الموت: حيث كنت، قال إدريس: لا والله! لا أخرج منها بعد إذ دخلتها، فقيل لملك الموت: أليس أنت أدخلته إياها وأنه ليس لأحد دخلها أن يخرج منها».
وقال: لا يروى عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد، وقال الحافظ نور الدين: إبراهيم المصيصي متروك.
217
قلت وفي لسان الميزان لتلميذه شيخنا حافظ العصر ابن حجر عن الذهبي أنه كذاب، وعن ابن حبان أنه كان يسوي الحديث، أي يدلس تدليس التسوية. وفي تفسير البغوي عن وهب قريب من هذا، وفيه أنه سأل ملك الموت أن يقبض روحه ويردها إليه بعد ساعة، فأوحى الله إليه أن يفعل، وفيه أنه احتج في امتناعه من الخروج بأن كل نفس ذائقة الموت وقد ذاقه، وأنه لا بد من ورود النار وقد وردها، وأنه ليس أحد يخرج من الجنة، فأوحى الله إلى ملك الموت: بإذني دخل الجنة - يعني: فخلِّ سبيله - فهو حي هناك. وفي تفسير البغوي أيضاً عن كعب وغيره أن إدريس عليه السلام مشى ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب! فكيف بمن يحملها؟ اللهم! خفف عنه من ثقلها، فخفف عنه فسأل ربه عن السبب فأخبره فسأل أن يكون بينهما خلة، فأتاه فسأله إدريس عليه السلام أن يسأل ملك الموت أن يؤخر أجله، فقال: لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وأنا مكلمه، فرفع إدريس عليه السلام فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت وكلمه فقال: ليس ذلك إليّ، ولكن إن أحببت أعلمته أجله
218
فيتقدم في نفسه، قال: نعم! فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: فإني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات، فوالله ما بقي من أجل إدريس - عليه السلام - شيء، فرجع الملك فوجده ميتاً. ومن جيد المناسبات أن إسماعيل وإدرس عليهما الصلاة والسلام اشتركا في البيان بالعلم واللسان، فإسماعيل عليه السلام أول من أجاد البيان باللسان، وإدريس عليه السلام أول من أعرب الخطاب بالكتاب، فقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أول من فتق لسانه بهذه العربية إسماعيل عليه السلام»
ولأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام».
ولما انقضى كشف هذه الأخبار، العلية المقدار، الجليلة الأسرار، شرع سبحانه ينسب أهلها بأشرف نسبهم، ويذكر أمتن سببهم هزاً
219
لمن وافقهم في النسب إلى الموافقة في السبب فقال: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتب، الشرفاء النسب ﴿الذين أنعم الله﴾ بما له من صفات الكمال التي بها أقام آدم عليه السلام وهم في ظهره، مع ما طبعه عليه من الأمور المتضادة حتى نجاه من مكر إبليس، ونجى بها نوحاً عليه السلام وهم في صلبه من ذلك الكرب العظيم، وإبراهيم عليه السلام وهم في قواه مع اضطرام النار وإطفاء السن وإصلاد العظم، وأعلى بها إسرائيل عليه السلام وبنيه في سوط الفراق وامتهان العبودية وانتهاك الاتهام حتى كان أبناؤه معدن الملوك والأنبياء، ومحل الأتقياء والأصفياء، إلى غير ذلك من جليل الأنبياء وعظيم الأصطفاء والاجتباء ﴿عليهم﴾ بما خصهم به من مزيد القرب إليه، وعظيم المنزلة لديه؛ وبين الموصول بقوله: ﴿من النبيين﴾ أي المصطفين للنبوة الذين أبنأهم الله بدقائق الحكم، ورفع محالهم بين الأمم، وأنبؤوا الناس بجلائل الكلم، وأمروهم بطاهر الشيم.
ولما كانوا بعض بني آدم الذين تقدم أنا كرمناهم، قال إشارة إلى ما في ذلك من النعمة عليهم وهم يرونها: ﴿من ذرية ءادم﴾ صفينا أبي البشر الذي خلقه الله من التراب بيده، وأسجد له ملائكته، وإدريس أحقهم بذلك.
ولما كان في إنجاء نوح عليه السلام وإغراق قومه من القدرة الباهرة ما لا يخفى، نبه عليه بنون العظمة في قوله مشيراً إلى أعظم النعمة عليهم
220
بالتبعيض، وإلى أن نبيهم من ذريته كما كان هو من ذرية إدريس عليه السلام الذي هو من ذرية آدم، فكما كان كل منهم رسولاً فكذلك هو وإبراهيم أقربهم إلى ذلك: ﴿وممن حملنا مع نوح﴾ صفينا أول رسول أرسلناه بعد افتراق أهل الأرض وإشراكهم، من خلص العباد، وأهل الرشاد، وجعلناه شكوراً، وإبراهيم أقربهم إلى ذلك ﴿ومن ذرية إبراهيم﴾ خليلنا الذي كان له في إعدام الأنداد ما اشتهر به من فضله بين العباد، وإسماعيل وإسحاق أولاهم بذلك، ثم يعقوب ﴿وإسراءيل﴾ صفينا، وهم الباقون: موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم بنت داود - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام - فكما كان هؤلاء رسلاً وهم من ذرية إبراهيم الذي هو من ذرية نوح فكذا نبيكم الذي هو من ذرية إسماعيل الذي هو من إبراهيم لصلبه وهو أول أولاده كما كان إسرائيل من ذريته، فالإرسال من ذرية من هو ابنه لصلبه أولى من الإرسال من ذرية من بينه وبينه واسطة، وإلا كان بنو إسرائيل أشرف منكم وأبوهم أشرف من أبيكم، فلا تردوا الكرامة، يا من يتنافسون في المفاخرة والزعامة ﴿وممن هدينا﴾ إلى أقوم الطرق ﴿واجتبينا﴾ أي فعلنا بهم فعل من يتخير الشيء وينتقيه بأن أسبغنا عليهم من النعم ما يجل عن الوصف؛ وعطف الأوصاف بالواو إشارة إلى التمكن فيها.
221
ولما ذكر ما حباهم به، ذكر ما تسبب عن ذلك فقال مستأنفاً ﴿إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن﴾ العام النعمة، فكيف بهم إذا أعلاهم جلال أو خصتهم رحمة من جلائل النعم، من فيض الجود والكرم، فسمعوا خصوص هذا القرآن ﴿خروا سجداً﴾ للمنعم عليهم تقرباً إليه، لما لهم من البصائر المنيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم ﴿وبكياً *﴾ خوفاً منه وشوقاً إليه، فوصفهم بسرعة الخشوع من ذكر الله الناشىء عن دوام الخضوع والناشىء عنه الإسراع بالسجود في حالة البكاء، وجعلهما حالتين بالعطف بالواو لعراقة المتحلي بهما في كل منهما عل انفراده، وعبر بالاسم في كل من السجود والبكاء، إشارة إلى أن خوفهم دائم كما أن خضوعهم دائم لعظمة الكبير الجليل، لأن تلك الحضرة لا تغيب عنهم أصلاً، وإن حصل غير البكاء فللتأنيس لمن أرسلوا إليه ليوصلوه إلى قريب من رتبتهم بحسن عشرتهم على تفاوت المراتب، وتباين المطالب، وحذف ذكر الأذقان لدلالتها -
222
كما تقدم في سبحان - على نوع دهشة، فهي - وإن أعلت صاحبها عمن لم يبلغها - حالة دون مقام الراسخين في حضرة الجلال، لأنهم - مع كونهم في الذروة من مقام الخوف - في أعلى درجات الكمال من حضور الفكر وانشراح الصدر - لتلقي واردات الحق وإلقائها إلى الخلق، انظر إلى ثبات الصديق رضي الله عنه - لعلو مقامه عن غيره - عند وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنه أوفاهم من المحبة مشرباً، وأصفاهم مورداً، وأوفرهم حزناً، وأكثرهم غماً وهماً، حتى أنه اعتراه لذلك مرض السل حتى مات به وجداً وأسفاً ومن هنا تعلم السر في إرسال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنبجانية التي ألهت في الصلاة بأعلامها في الصلاة إلى أبي جهم لأنه رضي الله عنه ربما كان من أهل الجمع في الصلاة فلا يرى غيره سبحانه فناء عن كل فان بخلاف النبي فإنه لكماله متمكن في كل من مقامي الجمع والفرق في كل حالة ولهذا يرى من خلفه في الصلاة ولا يخفى عليه خشوعهم.
ولما كان من المقاصد العظيمة تبكيت اليهود، لأنهم أهل الكتاب وعندهم من علوم الأنبياء ما ليس عند العرب وقد استرشدوهم واستنصحوهم، فقد كان أوجب الواجبات عليهم محض النصح لهم، فأبدى سبحانه من تبكيتهم ما تقدم إلى أن ختمه بأن جميع الأنبياء كانوا لله
223
سجداً ولأمره خضعاً، عقب ذلك بتوبيخ هو أعظم داخل فيه وهو أشد مما تقدم لمن خاف الله ورسله فقال: ﴿فخلف من بعدهم﴾ أي في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً ﴿خلف﴾ هم في غاية الرداءة ﴿أضاعوا الصلاة﴾ الناهية عن الفحشاء والمنكر التي هي طهرة الأبدان، وعصمة الأديان، وأعظم الأعمال، بتركها أو تأخيرها عن وقتها والإخلال بحدودها، فكانوا لما سواها أضيع، فأظلمت قلوبهم فأعرضوا عن داعي العقل ﴿واتبعوا﴾ أي بغاية جهدهم ﴿الشهوات﴾ التي توجب العار في الدنيا والنار في الآخرة، فلا يقربها من يستحق أن يعد بين الرجال، من تغيير أحكام الكتاب وتبديل ما فيه مما تخالف الأهواء كالرجم في الزنا، وتحريم الرشى والربا، ونحو ذلك، وأعظمه كتم البشارة بالنبي العربي الذي هو من ولد إسماعيل ﴿فسوف يلقون﴾ أي يلابسون - وعدا لا خلف فيه بعد طول المهلة - جزاء فعلهم هذا ﴿غيّاً *﴾ أي شراً يتعقب ضلالاً عظيماً، فلا يزالون في عمى عن طريق الرشاد لا يستطيعون إليه سبيلاً، وهم على بصيرة من أنهم على خطأ وضلال، ولكنهم مقهورون على ذلك بما زين لهم منه حتى صارت لهم فيه أتم رغبة، وذلك أعظم الشر، ولم يزل سبحانه يستدرجهم بالنعم إلى
224
أن قطعوا بالظفر والغلبة حتى أناخت بهم سطوات العزة، فأخذوا على غرة، ولا أنكأ من الأخذ على هذه الصفة بعد توطين النفس على الفوز، وهو من وادي قوله
﴿ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً﴾ [الإسراء: ٩٧] مع قوله ﴿أسمع بهم وأبصر﴾ وجزاء من كان هذا ديدنه في الدنيا والآخرة معروف لكل من له أدنى بصيرة أنه العار ثم النار، وأيضاً فإن من ضل أخطأ طريق الفلاح من الجنة وغيرها فخاب، ومن خاب فقد هلك؛ قال أبو علي الجبائي: والغي هو الخيبة في اللغة - انتهى. ويجوز أن يراد بالغي الهلاك، إما من قولهم - أغوية - وزن أثفية - أي مهلكة، وإما من تسمية الشيء باسم ما يلزمه.
225
ولما أخبر تعالى عنهم بالخيبة، فتح لهم باب التوبة، وحداهم إلى غسل هذه الحوبة، بقوله: ﴿إلا من تاب﴾ أي مما هو عليه من الضلال، بإيثار سفساف الأعمال، على أوصاف الكمال، فحافظ على الصلاة، وكف نفسه عن الشهوات ﴿وءامن﴾ بما أخذ عليه به العهد ﴿وعمل﴾ بعد إيمانه تصديقاً له ﴿صالحاً﴾ من الصلوات والزكاة وغيرها، ولم يؤكدهما لما أفهمته التوبة من إظهار عمل الصلاة التي هي أم العبادات ﴿فأولئك﴾ العالو الهمم، الطاهرو الشيم ﴿يدخلون الجنة﴾ التي وعد المتقون ﴿ولا يظلمون﴾ من ظالم ما
225
﴿شيئاً *﴾ من أعمالهم؛ ثم بينها بقوله: ﴿جنات عدن﴾ أي إقامة لا ظعن عنها بوجه من الوجوه ﴿التي وعد الرحمن﴾ الشامل النعم ﴿عباده﴾ الذين هو أرحم بهم من الوالدة بولدها؛ وعبر عنهم بوصف العبودية للإشعار بالتحنن، وعداً كائناً ﴿بالغيب﴾ الذي لا اطلاع لهم عليه أصلاً إلا من قبلنا، فآمنوا به فاستحقوا ذلك بفضله سبحانه على إيمانهم بالغيب.
ولما كان من شأن الوعود الغائبة - على ما يتعارفه الناس بينهم - احتمال عدم الوقوع، بين أن وعده ليس كذلك بقوله: ﴿إنه كان﴾ أي كوناً هو سنة ماضية ﴿وعده مأتيّاً *﴾ أي مقصوداً بالفعل، فلا بد من وقوعه، فهو كقوله تعالى ﴿إن كان وعد ربنا لمفعولاً﴾ [الإسراء: ١٠٨].
ولما كانت الجنة دار الحق، وكان أنكأ شيء لذوي الأقدار الباطل، وكان أقل ما ينكأ منه سماعه، نفى ذلك عنها أبلغ وجه فقال: ﴿لا يسمعون فيها لغواً﴾ أي شيئاً ما من الباطل الذي لا ثمرة له. ولما كانت السلامة ضد الباطل من كل وجه، قال: ﴿إلا﴾ أي لكن ﴿سلاماً﴾ لا عطب معه ولا عيب ولا نقص أصلاً فيه، وأورد على صورة الاستثناء من باب قول الشاعر:
226
ويحسن أن يراد باللغو مطلق الكلام؛ قال في القاموس: لغا لغواً: تكلم. أي لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة، ولا يسمعون شيئاً يدل على عطب أحد منهم ولا عطب شيء فيها.
ولما كان الرزق من أسباب السلامة قال: ﴿ولهم رزقهم﴾ أي على قدر ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بد من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا يمن عليهم به ﴿فيها بكرة وعشياً *﴾ أي دواماً، لا يحتاجون إلى طلبه في وقت من الأوقات، وفي تفسير عبد الرزاق عن مجاهد: وليس فيها بكرة ولا عشي، لكنهم يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. أي أنهم خوطبوا بما يعرفون كما أشار إليه تأخير الظرف إذ لو قدم لأوهم بعدهم عن ذلك بالجنة.
ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل، أشار إلى علو رتبتها وما هو سببها بقوله: ﴿تلك الجنة﴾ بأداة البعد لعلو قدرها، وعظم أمرها ﴿التي نورث﴾ أي نعطي عطاء الإرث الذي لا نكد فيه من حين التأهل له بالموت ولا كد ولا استرجاع ﴿من عبادنا﴾ الذين أخلصناهم لنا، فخلصوا عن الشرك نية وعملاً ﴿من كان﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿تقياً *﴾ أي مبالغاً في التقوى، فهو في غاية الخوف منا لاستحضاره أنه عبد؛ قال الرازي في اللوامع: وما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار، والعبد يكون ذليلاً بأوصافه،
227
عزيزاً بأوصاف الحق تعالى - انتهى.
وذلك إشارة إلى سبب إيراثها التقوى.
ولما كرر سبحانه الوصف بالتقى في هذه السورة ثلاث مرات، وختمه بأنه سبب للمقصود بالذات، وهو الراحة الدائمة بالوراثة لدار الخلد على وجه الإقامة المستمرة، وصفة الملك الذي لا كدر فيه بوجه ولا تخلف عن مراد، أتبعه ما بعده إشارة إلى ما تنال به التقوى، وهو الوقوف مع الأمر مراقبة للأمر على ﴿وبالحق أنزلناه﴾ [الإسراء: ١٠٥] لأنه لما كان العلم واقعاً بأن جميع سورة الكهف شارحة لمسألتين من مسائل قريش، وبعض سورة سبحان شارح للثالثة، ولطول الفصل صدرت قصة ذي القرنين بقوله ﴿ويسألونك﴾ إعلاماً بعطفها على مسألة الروح المصدرة بمثل ذلك، وجاءت سورة مريم كاشفة - تبكيتاً لأهل الكتاب الكاتمين للحق - عن أغرب من تلك القصص وأقدم زماناً وأعظم شأناً من أخبار الأنبياء المذكورين ومن أسرع التبديل بعدهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات، فثبت بذلك أن هذا كله مرتب لإجابة سؤالهم وأنه كلام الله قطعاً، إذ لو كان من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وعدهم الإجابة في الغد إلا وهو قادر عليها، لما هو معلوم قطعاً من رزانة عقله، وغزارة فطنته، ومتانة رأيه، ولو قدر على ذلك ما تركهم يتكلمون في عرضه بما الموت أسهل منه، لما علم منه من الشهامة والأنفة والبعد عما يقارب الشين، وبان بذلك أن الله سبحانه وعز شأنه ما أجمل أمر الروح
228
ولا أخر الإجابة خمس عشرة ليلة أو أقل أو أكثر من عجز ولا جهل، وثبت بذلك كله وبما بين من صنعه لأهل الكهف ولذي القرنين وفي ولادة يحيى وعيسى وإسحاق عليهم الصلاة والسلام تمام قدرته المستلزم لكمال علمه، وكان الإخبار عن ذلك مطابقاً للواقع الذي ثبت بعضه بالنقل الصحيح وبعضه بأدلة العقل القاطعة، ثبت مضمون قوله تعالى ﴿وبالحق أنزلناه وبالحق نزل﴾ وأن هذا الكتاب قيم لا عوج فيه، فعطف عليه الجواب عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبرئيل عليه الصلاة والسلام «لقد أبطات عليّ يا جبرئيل حتى سؤت ظناً» ونحوه مما ذكر في أسباب النزول، فقال على لسان جبرئيل عليه الصلاة والسلام: ﴿وما نتنزل﴾ أي أنا ولا أحد من الملائكة بإنزال الكتاب ولا غيره ﴿إلا بأمر ربك﴾ المحسن إليك في جميع الأمر في التقديم والتأخير لئلا يقع في بعض الأوهام أنه حق في نفسه، ولكنه نزل بغير أمره سبحانه، ووقع الخطاب مقترناً بالوصف المفهم لمزيد الإكرام تطييباً لقلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإشارة إلى أنه محسن إليه، ولفظ التنزل مشير إلى الإكرام، وهو التردد مرة بعد مرة ووقتاً غب وقت، ولا يكون إلا لذلك لأن النزول للعذاب يقتضي به الأمر في مثل لمح البصر، وكان هذا عقب ذكر القيامة بذكر الجنة كما كان المعطوف عليه عقب
﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾ [الإسراء: ٧] وكما كان ختام مسائلهم بذكر الآخرة في قوله
229
﴿فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء﴾ [الكهف: ٩٨]- إلى آخر السورة ليكون ذلك أشد تثبيتاً للبعث وأعظم تأكيداً، وإن استطلت هذا العطف مع بعد ما بين المعطوف والمعطوف عليه واستعظمته واستنكرته لذلك واستبعدته فقل: لما كشفت هذه السورة عن هذه القصص الغريبة، وكان المتعنتون ربما قالوا: نريد أن يخبرنا هذا الذي ينزل عليك بجميع أنباء الأقدمين وأخبار الماضين، قال جواباً عن ذلك أن قيل: ما أنزلنا عليك بأخبار هؤلاء إلا بأمر ربك، وما نتنزل فيما يأتي أيضاً إلا بأمر ربك؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿له ما بين أيدينا﴾ أي من المكان والزمان وما فيهما ﴿وما خلفنا﴾ من ذلك ﴿وما بين ذلك﴾ وهو نحن والمكان والزمان اللذان نحن بهما وما فوقه وتحته، ونحن نعلم ذلك ونعمل على حسب ما نعلم، فلا نتصرف في ملكه إلا بأمره ﴿وما كان﴾ على تقدير من التقادير ﴿ربك نسياً *﴾ أي ذا نسيان لشيء من الأشياء فيترك تفصيل أمر الروح، ويؤخر الجواب عن الوقت الذي وعدتهم فيه لخفاء شيء من ذلك عليه، ولا ينسى ما يصلحك فيحتاج إلى مذكر به، ولا ينسى أحداً منا فينزل في وقت نسيانه له بل هو دائم الاطلاع على حركتنا وسكناتنا، فنحن له في غاية المراقبة، وهو سبحانه يصرفنا بحسب الحكمة في كل وقت تقتضيه حكمته، لا يكون شيء من ذلك إلا في الوقت الذي حده له وأراده فيه، ولا يخرج شيء من الأشياء وإن دق عن مراده. ويجوز أن يقال في التعبير بصيغة فعيل أنه لا يتمكن العبد من الغيبة
230
عن السيد بغير إذنه إلا أن كان بحيث يمكن أن يغفل وأن تطول غفلته وتعظم لكونه مجبولاً عليها، أو أنه لما استلبث الوحي في أمر الأسئلة التي سألوا عنها من الروح وما معها خمس عشرة ليلة أو أكثر أو أقل - على اختلاف الروايات، فكان ذلك موهماً للأغبياء أنه نسيان، وكان مثل ذلك لا يفعله إلا كثير النسيان، نفى هذا الوهم بما اقتضاه من الصيغة ونفى قليل ذلك وكثيرة في السورة التي بعدها ضماً لدليل العقل بقوله
﴿لا يضل ربي ولا ينسى﴾ [طه: ٥٢] لما اقتضاه السياق، فأتى في كل أسلوب بما يناسبه مع الوفاء بما يجب من حق الاعتقاد، وهذه الآية مع ﴿وبالحق أنزلناه﴾ و ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن﴾ [الإسراء: ٨٨] مثل ﴿قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾ [هود: ٣]- الآيتين في سورة هود عليه السلام، على ما قدمت في بيانه غير أن ما جمع هناك فصل هنا في أول الجواب على أسئلتهم بآية ﴿قل لئن اجتمعت﴾ وأثنائه بآية ﴿وبالحق أنزلناه﴾ وآخره بهذه الآية، لتكون الآيات رابطة على هذه الأجوبة وتوابعها وضابطة لها كالشهب والحرس الشديد بالنسبة إلى السماء، فلا يبغيها متعنت من جهة من جهاتها كيداً إلا رد خاسئاً، ولا يرميها بقادح ألا كان رميه خاطئاً.
ولما وصف سبحانه وتعالى بنفوذ الأمر واتساع العلم على وجه ثبت
231
به ما أخبر به عن الجنة، فثبت أمر البعث، أتبع ذلك ما يقرره على وجه أصرح منه وأعم فقال مبدلاً من ﴿ربك﴾ :﴿رب السماوات والأرض﴾ اللتين نحن من جملة ما فيهما من عباده ﴿وما بينهما﴾ منا ومن غيرنا من الأحياء وغيرها ﴿فاعبده﴾ بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي له من مثلك ﴿واصطبر﴾ أي اصبر صبراً عظيماً بغاية جهدك على كل ما ينبغي الاصطبار عليه كذلك ﴿لعبادته﴾ أي لأجلها فإنها لا تكون إلا عن مجاهدة شديدة؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿هل تعلم له سمياً *﴾ أي متصفاً بوصف من أوصافه اتصافاً حقيقياً، أو مسمى باسمه، العلمَ الواقع موقع لأنه لا مماثل له حتى ولا في مجرد الاسم، وإيراده بصورة الاستفهام كالدعوى بدليلها.
232
ولما تبين بذلك وبما ذكر في هاتين السورتين مما سألوا عنه ومن غيره شمولُ علمه وتمام قدرته لا سيما في إيجاد البشر تارة من التراب، وتارة من ذكر وأنثى في حكم العدم، وتارة من أنثى بلا ذكر، وثبت ذلك كله، فانكشفت الشبه، وتضاءلت موجبات المراء، وانقمعت مخيلات الفتن، عجب منها في إنكارهم البعث وهم يشاهدون
232
ما ذكر من قدرته وعلمه، عاطفاً على التعجب في قولهم ﴿وقالوا ءاذا كنا﴾ تعجيباً أشد من ذلك فقال: ﴿ويقول﴾ بلفظ المضارع المؤذن بالتجدد بعد هذا البيان المقتضي حتماً لاعتقاده البعث فضلاً عن إنكار مرة من المرات، ليخبر عنها بصيغة الماضي، فكيف بالمداومة على ذلك المشار إليها بصيغة المضارع؛ وعبر بالمفرد وإن كان للجنس لأن الإنكار على الواحد يستلزم الإنكار على المتعدد فقال: ﴿الإنسان﴾ أي الذي خلقناه ولم يك شيئاً، مع ما فضلناه به من العقل، ونصبنا له من الدلائل، فشغله الإنس بنفسه عن التأمل في كمال ربه منكراً مستبعداً: ﴿أءذا ما مت﴾ ثم دل على شدة استبعاده لذلك بقوله مخلصاً للام الابتداء إلى التوكيد سالخاً لها عما من شأنها الدلالة عليه من الحال لتجامع ما يخلص للاستقبال: ﴿لسوف أخرج﴾ أي يخرجني مخرج ﴿حياً *﴾ أي بعد طول الرقاد، وتفتت الأجزاء والمواد، وجاء بهذه التأكيدات لأن ما بعد الموت وقت كون الحياة منكرة على زعمه، والعامل في ﴿إذا﴾ فعل من معنى ﴿أخرج﴾ لا هو، لمنع لام الابتداء لعمله فيما قبله؛ ثم قابل إنكاره الباطل بإنكار هو الحق فقال عطفاً على يقول أو على ما تقديره: ألا يذكر ما لنا من تمام القدرة بخلق ما هو أكبر من ذلك من جميع الأكوان: ﴿أو لا يذكر﴾ بإسكان الذال
233
على قراءة نافع وابن عامر وعاصم إشارة إلى أنه أدنى ذكر من هذا يرشده إلى الحق، وقراءة الباقين بفتح الذال والكاف وتشديدهما يشير إلى أنه - لاستغراقه في الغفلة - يحتاج إلى تأمل شديد ﴿الإنسان﴾ أي الآنس بنفسه، المجترىء بهذا الإنكار على ربه وقوفاً مع نفسه ﴿أنا خلقناه﴾ وأشار الجار إلى سبقه بالعدم فقال: ﴿من قبل﴾ أي من قبل جدله هذا أي بما لنا من القدرة والعظمة.
ولما كان المقام لتحقيره بكونه عدماً، أعدم من التعبير عن ذلك ما أمكن إعدامه، وهو النون، لتناسب العبارة المعتبر فقال: ﴿ولم يك شيئاً *﴾ أصلاً، وإنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك.
ولما كان كلام الكافر صورته صورة استفهام، وهو جحد في الحقيقة وإنكار، وكان إنكار المهدَّد لشيء يقتدر عليه المهدد سبباً لأن يحققه لما مقسماً عليه، قال تعالى مجيباً عن إنكاره مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عنهم مخاطباً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره: ﴿فوربك﴾ المحسن إليك بالانتقام منهم.
ولما كان الإنكار للبعث يلزم منه الاحتقار، أتى بنون العظمة، استمر في هذا التحلي بهذا المظهر إلى آخر وصف هذا اليوم فقال: ﴿لنحشرنهم﴾ بعد البعث ﴿والشياطين﴾ الذين يضلونهم بجعل كل واحد
234
منهم مع قرينه الذي أضله، في سلسلة ﴿ثم لنحضرنهم﴾ بعد طول الوقوف ﴿حول جهنم﴾ التي هم بها مكذبون، يحيطون بها لضيق رأسها وبعد قعرها، حال كونهم ﴿جثياً *﴾ على الركب من هول المطلع وشدة الذل، مستوقرين تهيؤوا للمبادرة إلى امتثال الأوامر ﴿ثم لننزعن﴾ أي لنأخذن أخذاً بشدة وعنف ﴿من كل شيعة﴾ أي فرقة مرتبطة بمذهب واحد.
ولما كان التقدير: لننزعن أغناهم، وهم الذين إذا نظرت إلى كل واحد منهم بخصوصه حكمت بأنه أغنى الناس، علم أنهم بحيث يحتاج إلى السؤال عنهم لإشكال أمرهم فقال: ﴿أيهم أشد على الرحمن﴾ الذي غمرهم بالإحسان ﴿عتياً *﴾ أي تكبراً متجاوزاً للحد، انتزاعاً يعلم به أهل الموقف أنه أقل من القليل، وأوهى أمراً من القتيل، وأن له سبحانه - مع صفة الرحمة التي غمرهم إحسانها وبرها - صفات أخرى من الجلال والكبرياء والجبروت والانتقام.
ولما تقدم ما هو في صورة الاستفهام، أتبعه ما يزيل ما قد يقع بسببه من بعض الأوهام، فقال: ﴿ثم﴾ وعزتنا! ﴿لنحن﴾ لشمول علمنا وكمال قدرتنا وعظمتنا ﴿أعلم﴾ من كل عالم ﴿بالذين هم﴾ لظواهرهم وبواطنهم ﴿أولى بها﴾ أي جهنم ﴿صلياً *﴾ وبالذين هم أولى بكل طبقة من دركاتها من جميع الخلق من المنتزعين وغيرهم، فلا يظن بنا أنا نضع أحداً في غير دركته أو غير طبقته من دركته؛
235
وعطف هذه الجمل بأداة البعد مقرونة بنون العظمة لبعد مراتبها وتصاعدها في ذرى العليا وترقيها، تهويلاً للمقام وتعظيماً للأمر لاستبعادهم له، على أنه يمكن أن تكون الحروف الثلاثة للترتيب الزماني، وهو في الأولين واضح، وأما في الثالث فلأن العلم كناية عن الإصلاء، لأن من علم ذنب عدوه - وهو قادر - عذبه، فكأنه قيل: لنصلين كلاًّ منهم النار على حسب استحقاقه لأنا أعلم بأولويته لذلك.
ولما كانوا بهذا الإعلام، المؤكد بالإقسام، من ذي الجلال والإكرام، جديرين بإصغاء الأفهام، إلى ما يوجه إليها من الكلام، التفت إلى مقام الخطاب، إفهاماً للعموم فقال: ﴿وإن﴾ أي وما ﴿منكم﴾ أيها الناس أحد ﴿إلا واردها﴾ أي داخل جهنم؛ ثم استأنف قوله: ﴿كان﴾ هذا الورود؛ ولما كان المعنى أنه لا بد من من إيقاعه، أكده غاية التأكيد فأتى بأداة الوجوب فقال: ﴿على ربك﴾ الموجد لك المحسن إليك بإنجاء أمتك لأجلك ﴿حتماً﴾ أي واجباً مقطوعاً به ﴿مقضياً *﴾ لا بد من إيقاعه؛ قال الرازي في اللوامع: ما من مؤمن - إلا الأنبياء - إلا وقد تلطخ بخلق سوء ولا ينال السعادة الحقيقية إلا بعد تنقيته، وتخليصه من ذلك إنما يكون بالنار.
236
ولما كان الخلاص منها بعد ذلك مستبعداً، قال مشيراً إليه بأداة البعد:
236
﴿ثم ننجي﴾ أي تنجية عظيمة على قراءة الجماعة، ومطلق إنجاء على قراءة الكسائي، وكأن ذلك باختلاف أحوال الناس مع أن المطلق لا ينافي المقيد ﴿الذين اتقوا﴾ أي كانوا متقين منها بأن تكون عليهم حال الورود برداً وسلاماً ﴿ونذر الظالمين﴾ أي نترك على أخبث الأحوال الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها واستمروا على ذلك فكانوا في أفعالهم خابطين كالأعمى ﴿فيها جثياً *﴾ كما كانوا حولها لا يهتدون إلى وجه يخلصون به منها.
ولما كان هذا جديراً بالقبول لقيام الأدلة على كمال قدرة قائله، وتنزهه عن إخلاف القول، لبراءته من صفات النقص، قال معجباً من منكره عاطفاً على قوله ﴿ويقول الإنسان﴾ :﴿وإذا تتلى عليهم﴾ أي الناس، من أيّ تال كان ﴿ءاياتنا﴾ حال كونها ﴿بينات﴾ لا مرية فيها، بأن تكون محكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو ببيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي حال مؤكدة أو كاشفة ﴿قال الذين كفروا﴾ بآيات ربهم البينة، جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم ﴿للذين ءامنوا﴾ أي لأجلهم أو مواجهة لهم، إعراضاً عن الاستدلال بالآيات، ووجوه دلالتها
237
البينات، بالإقبال على هذه الشبهة الواهية - وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا - من قولهم: ﴿أي الفريقين﴾ نحن - بما لنا من الاتساع، أم أنتم - بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال ﴿خير مقاماً﴾ أي موضع قيام أو إقامة - على قراءة ابن كثير بضم الميم والجماعة بفتحها: ﴿وأحسن ندياً *﴾ مجمعاً ومتحدثاً باعتبار ما في كل من الرجال، وما لهم من الزي والأموال، ويجعلون ذلك الامتحان بالإنغام والإحسان دليلاً على رضى الرحمن، مع التكذيب والكفران، ويغفلون عن أن في ذلك - مع التكذيب بالبعث - تكذيباً مما يشاهدونه منا من القدرة على العذاب بإحلال النقم، وسلب النعم، ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به ﴿وكم أهلكنا﴾ بما لنا من العظمة.
ولما كان المراد استغراق الزمان، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال: ﴿قبلهم من قرن﴾ أي شاهدوا ديارهم، ورأوا آثارهم؛ ثم وصف كم بقوله: ﴿هم﴾ أي أهل تلك القرون ﴿أحسن﴾ من هؤلاء ﴿أثاثاً﴾ أي أمتعة ﴿ورئياً *﴾ أي منظراً، فكأنه قيل: فما يقال لهم؟ فقال: ﴿قل﴾ أي لهم رداً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم: هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة، بل على عكس ذلك، فقد جرت عادته سبحانه أنه ﴿من كان في الضلالة﴾ مثلكم كوناً راسخاً بسط له
238
في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها، ونعم بأنواع الملاذ، وعبر عن أن ذلك لا يكاد يتخلف عن غير من حكم بإلزامه المسكنة من اليهود بلام الأمر، إيذاناً بوجوده وجود المأمور به الممتثل في قوله: ﴿فليمدد﴾ وأشار إلى التحلي لهم بصفة الإحسان بقوله: ﴿له الرحمن﴾ أي العام الامتنان ﴿مداً *﴾ في العاجلة بالبسط في الآثار، والسعة في الديار، والطول في الأعمار، وإنفاقها فيما يستلذ من الأوزار الكبار، فيزيده العزيز الجبار بذلك ضلالة، فيا له من خسار، وتباب وتبار، لمن له استبصار، ولا نزال نمد هل استدراجاً ﴿حتى﴾ وحقق أخذهم بأداة التحقيق فقال: ﴿إذا رأوا﴾ أي كل من كفر بالله بأعينهم وإن ادعوا أنهم يتعاضدون ويتناصرون، ولذلك جمع باعتبار المعنى ﴿ما يوعدون﴾ من قبل الله ﴿إما العذاب﴾ في الدنيا بأيدي المؤمنين أو غيرهم، أو في البرزخ ﴿وإما الساعة﴾ التي هم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها معرضون، ولا شيء يشبه أهوالها، وخزيها ونكالها.
ولما كان الجواب: علموا أن مكانهم شر الأماكن، وأن
239
جندهم أضعف الجنود، عبر عنه بقوله تهديداً: ﴿فسيعلمون﴾ إذا رأوا ذلك ﴿من هو شر مكاناً﴾ أي من جهة المكان الذي قوبل به المقام ﴿وأضعف جنداً *﴾ هم أو المؤمنون، أي أضعف من جهة الجند الذي أشير به إلى النديّ، لأن القصد من فيه، وكأنه عبر بالجند لأن قصدهم المغالبة وما كل من في النديّ يكون مقاتلاً.
ولما كان هذا لكونه استدراجاً زيادة في الضلال، قابله بقوله، عطفاً على ما تقدم تقديره تسبيباً عن قوله ﴿فليمدد﴾ وهو: فيزيده ضلالاً، أو على موضع ﴿فليمدد﴾ :﴿ويزيد الله﴾ وعبر بالاسم العلم إشارة إلى التجلي لهم بجميع الصفات العلى ليعرفوه حق معرفته ﴿الذين اهتدوا هدى﴾ عوض ما زوى عنهم ومنعهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسطه للضلال لهوانه عليه؛ فالآية من الاحتباك: ذكر السعة بالمد للضال أولاً دليلاً على حذف الضيق بالمنع للمهتدي ثانياً، وزيادة الهداية ثانياً دليلاً على حذف زيادة الضلال أولاً، وأشار إلى أنه مثل ما خذل أولئك بالنوال، وفق هؤلاء لمحاسن الأعمال، بإقلال الأموال فقال: ﴿والباقيات﴾ ثم وصفها احترازاً من أفعال أهل الضلال بقوله: ﴿الصالحات﴾ أي من الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور،
240
فأنارت بها القلوب، وسلمت من إحباط الذنوب، فأوصلت إلى علام الغيوب ﴿خير عند ربك﴾ مما متع به الكفرة ومدوا به - على تقدير التنزل إلى تسميته خيراً، وإضافة الرب إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشارة إلى أنه يربيها تربية تبلغ أقصى ما يرضيه في كل تابعيه؛ ثم بين جهة خيرية هذا بقوله: ﴿ثواباً﴾ أي من جهة الثواب ﴿وخير مرداً *﴾ أي من جهة العاقبة يوم الحسرة وهو كالذي قبله، أو على قولهم: الصيف أحر من الشتاء بمعنى أنه في حره أبلغ منه في برده. فالكفرة يردون إلى خسارة وفناء، والمؤمنون إلى ربح وبقاء.
241
ولما تضمن هذا من التهديد بذلك اليوم ما يقطع القلوب، فيوجب الإقبال على ما ينجي منه، عجب من حال من كفر به، موبخاً له، منكراً عليه، عاطفاً على ما أرشد إليه السياق فقال معبراً عن طلب الخير بالرؤية التي هي الطريق إلى الإحاطة بالأشياء علماً وخبرة، وإلى صحة الخبر عنها: ﴿أفرءيت﴾ أي أرأيت الذي يعرض عن هذا اليوم فرأيت ﴿الذي﴾ زاد على ذلك بأن ﴿كفر بآياتنا﴾ الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات ﴿وقال﴾ جراءة منه وجهلاً؛ أو يقال:
241
إنه لما هول أمر ذلك اليوم. وهتك أستار مقالاتهم، وبين وهيها، تسبب عن ذلك التعجيبُ ممن يقول: ﴿لأوتين﴾ أي والله في الساعة على تقدير قيامها ممن له الإيتاء هنالك ﴿مالاً وولداً *﴾ أي عظيمين، فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز.
ولما كان ما ادعاه لا علم له به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما، أنكر عليه قوله ذلك بقوله: ﴿أطلع الغيب﴾ الذي هو غائب عن كل مخلوق، فهو في بعده عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع عليه، وتفرد به الواحد القهار ﴿أم اتخذ﴾ أي بغاية جهده ﴿عند الرحمن﴾ العام الرحمة بالإنعام على الطائع والانتقام من العاصي ثواباً للطائع ﴿عهداً *﴾ عاهده عليه بأنه يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها له على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله.
ولما كان كل من الأمرين: إطلاع الغيب واتخاذ العهد، وكذا ما ادعاه لنفسه، وما يلزم عن اتخاذ العهد من القرب، منتفياً قال: ﴿كلاًّ﴾ أي لم يقع شيء من هذين الأمرين، ولا يكون ما ادعاه فليرتفع عنه صاغراً.
242
ولما كان النفي هنا عن الواحد مفهماً للنفي عما فوقه اكتفى به، ولما رد ذلك استأنف الجواب لسؤال من كأنه قال: فماذا يكون له؟ بقوله مثبتاً السين للتوكيد في هذا التهديد: ﴿سنكتب ما يقول﴾ أي نحفظه عليه حفظ من يكتبه لنوبخه به ونعذبه عليه بعد الموت فيظهر له بعد طول الزمان أن ما كان فيه ضلال يؤدي إلى الهلاك لا محالة، ويجوز أن تكون السين على بابها من المهلة، وكذا الكتابة، والإعلام بذلك للحث على التوبة قبل الكتابة، وذلك من عموم الرحمة ﴿ونمد له من العذاب مداً *﴾ باستدراجه بأسبابه من كثرة النعم من الأموال والأولاد المحببة له في الدنيا، المعذبة له فيها، بالكدح في جمعها والمخاصمة عليها الموجبة له التمادي في الكفر الموجب لعذاب الآخرة، وإتيان بعضه في إثر بعض ﴿إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون﴾ [التوبة: ٨٥] ﴿ونرثه﴾ بموته عن جميع ذلك؛ ثم أبدل من ضميره قوله: ﴿ما يقول﴾ أي من المال والولد فنحول بينه وبينهم بعد البعث كما فعلنا بالموت كحيلولة الوارث بين الموروث وبين الموروث عنه ﴿ويأتينا﴾ في القيامة ﴿فرداً *﴾ مسكيناً منعزلاً عن كل شيء لا قدرة له على مال ولا ولد، قلا عز له، ولا قوة بشيء منهما؛ روى
243
البخاري في التفسير عن خباب رضي الله عنه قال: كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفاً، فجئت أتقاضاه فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يحييك، وفي رواية: حتى تموت ثم تبعث، قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟ قلت: نعم! قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالاً وولداً فأقضيك، فنزلت هذه الآية ﴿أفرأيت الذي - إلى قوله: فرداً﴾.
ولما أخبر تعالى بالبعث، وذكر أن هذا الكافر يأتيه على صفة الذل، أتبعه حال المشركين مع معبوداتهم، فقال معجباً منهم عاطفاً على قوله ويقول الإنسان: ﴿واتخذوا﴾ أي الكفار، وجمع لأن نفي العز عن الواحد قد لا يقتضي نفيه عما زاد ﴿من دون الله﴾ وقد تبين لهم أنه الملك الأعلى الذي لا كفوء له ﴿ءالهة ليكونوا لهم﴾ أي الكافرين ﴿عزاً *﴾ لينقذوهم من العذاب.
ولما بين أنه لا يعزه مال ولا ولد، وكان نفع الأوثان دون ذلك بلا شك، نفاه بقوله: ﴿كلاًّ﴾ بأداة الردع، لأن ذلك طلب للعز من معدن الذل من العبيد الذين من اعتز لهم ذل، فإنهم مجبولون على الحاجة، ومن طلب العز للدنيا طلبه من العبيد لا محالة، فاضطر قطعاً -
244
لبنائهم على النقص - إلى ترك الحق واتباع الباطل، فكانت عاقبة أمره الذل وإن طال المدى، فإن الله تعالى ربما أمهل المخذول إلى أن ينتهي في خذلانه إلى أن يستحق لباس الذل؛ ثم بين سبحانه ذلك بما يكون منهم يوم البعث فقال: ﴿سيكفرون﴾ أي الآلهة بوعد لا خلف فيه وإن طال الزمان ﴿بعبادتهم﴾ أي المشركين، فيقولون لهم ﴿ما كنتم إياناً تعبدون﴾ [يونس: ٢٨] ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا﴾ [البقرة: ١٦٦] ﴿ويكونون عليهم﴾ أي الكفار؛ ووحد إشارة إلى اتفاق الكلمة بحيث إنهم لفرط تضامنهم كشيء واحد فقال: ﴿ضداً *﴾ أي أعداء فيكسبونهم الذل، وكذا يفعل الكفار مع شركائهم ويقولون ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ فيقع بينهم العداوة كما قال تعالى ﴿ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً﴾ [العنكبوت: ٢٥].
ولما كان من المستبعد عندهم جواز رجوعهم عنهم فضلاً عن كفرهم بهم، دل على وقوعه بما يشاهد منهم من الأفعال المنافية لرزانة الحلم الناشئة عن وقار العلم، فقال: ﴿ألم تر أنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿أرسلنا الشياطين﴾ الذين خلقناهم من النار، إرسالاً مستعلياً بالإبعاد والإحراق ﴿على الكافرين﴾ أي العريقين في الكفر
245
﴿تؤزهم أزاً *﴾ أي تحركهم تحريكاً شديداً، وتزعجهم في المعاصي والدنايا التي لا يشكون في قباحتها وعظيم شناعتها وهم أشد الناس عيباً لفاعليها وذماً لمرتكبيها إرعاجاً عظيماً بحيث يكونون في تقلبهم ذلك مثل الماء الذي يغلي في القدر، ومثل الشرر المتطاير الذي هو أشد شيء منافاة لطبع الطين وملاءمة لطبع النار، فلما ثبت بذلك المدعى، تسبب عنه النهي عما اتصفوا به من خفة السفه وطيش الجهل فقال: ﴿فلا تعجل عليهم﴾ بشيء مما تريد به الراحة منهم.
ولما كانت مراقبة ناصر الإنسان لعدوه في الحركات والسكنات أكبر شاف للولي ومفرح، وأعظم غائط للعدو ومزعج ومخيف ومقلق، علل ذلك بقوله دالاًّ على أن زمنهم قصير جداً بذكر العد: ﴿إنما نعد لهم﴾ بإمهالنا لهم وإدرارنا النعم عليهم ﴿عداً *﴾ لأنفاسهم فما فوقها لا نغفل عنهم بوجه، فإذا جاء أجلهم الذي ضربناه لهم، محونا آثارهم، وأخلينا منهم ديارهم، لا يمكنهم أن يفوتونا، فاصبر فما أردنا بإملائنا لهم إلا إشقاءهم وإرداءهم لا تنعيمهم وإعلاءهم، فهو من قصر الموصوف على صفته إفراداً.
246
ولما بين مآل حال الكافرين في آلهتهم ودليله، أتبعه بوقته فقال: ﴿يوم﴾ أي يكفرون بعبادتهم يوم ﴿نحشر المتقين﴾ أي العريقين
246
في هذا الوصف؛ ولما تقدمت سورة النعم العامة النحل، وأتبعت سورة النعم الخاصة بالمؤمنين وبعض العامة، مثل ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ [الإسراء: ٧٠]، ثم سورتي الخاصة بالصالحين الكهف وهذه، قال: ﴿إلى الرحمن﴾ فيدخلهم دار الرضوان، فذكر الاسم الدال على عموم الرحمة، وكرره في هذه السورة تكريراً دل على ما فهمته، وربما أيد ذلك افتتاح النحل بنعمة البيان على هذا الإنسان التي عبر عنها بالخصيم، وختام هذه بالقوم اللد من حيث رد مقطع هذه التي كانت بالنظر إلى النعم شيئاً واحداً على مطلعها ﴿وفداً *﴾ أي القادمين في إسراع ورفعة وعلى، كما تقدم الوفود على الملوك، فيكونون في الضيافة والكرامة.
ولما ذكر ما يدل على كرامة أوليائه، أتبعه ما يدل على إهانة أعدائه فقال: ﴿ونسوق المجرمين﴾ أي بالكفر وغيره من المعصية، كالبهائم سوقاً عنيفاً مزعجاً حثيثاً ﴿إلى جهنم﴾ بسطوة المنتقم الجبار ﴿ورداً *﴾ أي عطاشاً ﴿لا يملكون الشفاعة﴾ أي لا يملك أحد من القسمين أن يَشفَع ولا أن يشفَّع فيه ﴿إلا من اتخذ﴾ أي كلف نفسه واجتهد في أن أخذ ﴿عند الرحمن عهداً *﴾ بما وفقه له من الإيمان والطاعة التي وعده عليها أن يشفع أو أن يشفع فيه؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الرحمن أولاً دليلاً على المنتقم ثانياً، وجهنم ثانياً دليلاً
247
على حذف الجنة أولاً.
ولما أبطل مطلق الشفعاء، وكان الولد أقرب شفيع، وكانوا قد ادعوا له ولداً، أبطل دعواهم فيه لينتفي كل شفيع خاص وعام، فينتفي كل عز راموه بشفاعة آلهتهم وغيرها. فقال عاطفاً على قوله: ﴿واتخذوا من دون الله آلهة﴾ موجباً منهم: ﴿وقالوا﴾ أي الكفرة ﴿اتخذ الرحمن﴾ أي الذي لا منعم غيره، فكل أحد محتاج إليه وهو غني عن كل أحد ﴿ولداً *﴾ قالت اليهود: عزير، والنصارى: المسيح، والمشركون: الملائكة، مع قيام الأدلة على استحالته عليه سبحانه؛ ثم استأنف الالتفات إلى خطابهم بأشد الإنكار، إيماء إلى تناهي الغضب فقال: ﴿لقد﴾ أي وعزتي! لقد ﴿جئتم شيئاً إدّاً *﴾ أي عظيماً ثقيلاً منكراً؛ ثم بين ثقله بقوله: ﴿تكاد السماوات﴾ على إحكامها، مع بعدها من أصحاب هذا القول ﴿يتفطرن﴾ أي يأخذن في الانشقاق ﴿منه﴾ أي من هذا الشيء الإدّ ﴿وتنشق الأرض﴾ على تحتها شقاً نافذاً واسعاً ﴿وتخر﴾ أي تسقط سريعاً ﴿الجبال﴾ على صلابتها ﴿هداً *﴾ كما ينفسخ السقف تحت ما لا يحتمله من الجسم الثقيل، لأجل ﴿أن ادعوا﴾ أي سموا ﴿للرحمن﴾ الذي كل ما سواه نعمة منه ﴿ولداً *﴾ هذا المفعول الثاني، وحذف الأول لإرادة العموم ﴿وما ينبغي﴾ أي ما يصح ولا يتصور ﴿للرحمن أن يتخذ ولداً *﴾ لأنه غير محتاج إلى الولد بوجه،
248
ومع ذلك فهو محال، لأن الولد لا يكون إلا مجانساً للوالد، ولا شيء من النعم بمجانس للمنعم المطلق الموجد لكل ما سواه، فمن دعا له ولداً قد جعله كبعض خلقه، وأخرجه عن استحقاق هذا الاسم، ثم أقام الدليل على غناه عن ذلك واستحالته عليه، تحقيقاً لوحدانيته، وبياناً لرحمانيته، فهدم بذلك الكفر بمطلق الشريك بعد أن هدم الكفر بخصوص الولد فقال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿كل من﴾ أي شيء من العقلاء، فهو نكرة موصوفة لوقوعها بعد كل وقوعها بعد رب ﴿في السماوات والأرض﴾ الذين ادعوا أنهم ولد وغيرهم ﴿إلا﴾.
ولما كان من العبد من يعصي على سيده، عبر بالإتيان فقال: ﴿ءاتي الرحمن﴾ العام بالإحسان، أي منقاد له طوعاً أو كرهاً في كل حالة وكل وقت ﴿عبداً *﴾ مسخراً مقهوراً خائفاً راجياً، فكيف يكون العبد ابناً أو شريكاً؟ فدلت الآية على التنافي بين العبودية والولدية، فهي من الدليل على عتق الولد والوالد إذا اشتريا.
249
ولما كان من المستبعد معرفة الخلائق كلهم، أتبعه بقوله: ﴿لقد﴾ أي والله لقد ﴿أحصاهم﴾ كلهم إحاطة بهم ﴿وعدهم﴾ ولما كان ذلك لا يكاد يصدق، أكده بالمصدر فقال: ﴿عداً *﴾ قبل خلقهم من جميع جهات العبد ولوازمها، فلم يوجد ولم يولد، ولم يعدم أو يصب
249
أحد منهم إلا في حينه الذي عده له، وقد يكون الإحصاء قبل الوجود في عالم الغيب والعد بعد الوجود ﴿وكلهم﴾ أي وكل واحد منهم ﴿ءاتيه يوم القيامة﴾ بعد بعثه من الموت ﴿فرداً *﴾ على صفة الذل، موروثاً ماله وولده الذي كنا أعطيناه في الدنيا قوة له وعزاً، لأنه لا موجود غيره يقدر على حراسة نفسه من الفناء، فهو لا شك في قبضته، فكيف يتصور في بال أو يقع في خيال أن يكون شيء من ذلك له ولداً أو معه شريكاً.
ولما عم بهذا الحكم الطائع والعاصي، وكان ذلك محزناً لأهل الطاعة باستشعار الذل في الدارين، تحركت النفس إلى معرفة ما أفادتهم الطاعة، واستأنف الجواب لذلك مبشراً لهم بقوله: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا﴾ تصديقاً لادعائهم الإيمان، الأعمال ﴿الصالحات سيجعل﴾ تحقيقاً عما قليل عند بيعة العقبة ﴿لهم الرحمن﴾ الذي خصهم بالرضا بعد أن عمهم بالنعمة، جزاء على انقيادهم له، لأنه كان إما باختيارهم وإما برضاهم ﴿وداً *﴾ أي حباً عظيماً في قلوب العباد، دالاً على ما لهم عندهم من الود؛ قال الأصبهاني: من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي تكسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع غيره أو غير ذلك، وإنما هو اختراع ابتدأ اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة كما
250
قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم - انتهى. والمراد - والله أعلم - أنه لا يجعل سبحانه في قلب أحد من عباده الصالحين عليهم إحنة، لأن الود - كما قال الإمام أبو الحسن الحرالي: خلو عن إرادة المكروه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يزيد ذلك وضوحاً؛ روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبرئيل فقال: يا جبرئيل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبرئيل فقال: يا جبرئيل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض».
ولما كان إنزال هذا القول الثقيل ثم تيسيره حفظاً وعملاً سبباً لما جعل لأهل الطاعة في الدنيا من الود بما لهم من التحلي والتزين بالصالحات، والتخلي والتصون من السيئات، الدال على ما لهم عند مولاهم من عظيم العز والقرب، وكان التقدير: والذين كفروا ليكسبنهم
251
الجبار بغضاً وذلاًّ، فأخبر كلاًّ من الفريقين بما له بشارة ونذارة، قال مسبباً عن إفصاح ذلك وإفهامه: ﴿فإنما يسرناه﴾ أي هذا القرآن، الذي عجز عن معارضته الإنس والجان، والكتاب القيم والوحي الذي لا مبدل له بسبب إنزالنا إياه ﴿بلسانك﴾ هذا العربي المبين، العذب الرصين ﴿لتبشر به المتقين﴾ وهم الذين يجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية، فلا يبطلون حقاً ولا يحقون باطلاً، ومتى حصلت لهم هفوة بادروا الرجوع عنها بالمتاب، بما لهم عندنا من العز الذي هو ثمرة العز المدلول عليه بما لهم منه في الدنيا، لا لتحزنهم بأن ينزل فيه ما يوهم تسويتهم بأهل المعصية في كلتا الدارين ﴿وتنذر به قوماً لدّاً *﴾ أشد في الخصومة، يريدون العز بذلك، لما لهم عندنا من الذل والهوان الناشىء عن المقت المسبب عن مساوىء الأعمال، وأنا نهلكهم إن لم يرجعوا عن لددهم، والألد هو الذي يتمادى في غيه ولا يرجع لدليل، ويركب في عناد الحق ما يقدر عليه من الشر، ولا يكون هذا إلا ممن يحتقر من يخاصمه ويريد أن يجعل الحق باطلاً، تكبراً عن قبوله، فينطبق عليه ما رواه مسلم في الإيمان عن صحيحه، وأبو داود في اللباس من سننه، والترمذي في البر من جامعه، وابن ماجه في السنة من سننه عن ابن مسعود
252
رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط -» وفي رواية: «وغمص - الناس» وكلاهما بمعنى الاحتقار، ومن كان هذا سبيله مرن على ذلك ومرد عليه، فكان جديراً بأن يركبه الله أبطل الباطل: الكفر عند الموت، فتحرم عليه الجنة، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق﴾ [الأعراف: ٤٩] فيا ذل من تكبر على الحق! ويا عز من تشرف بالذل للحق والعز على الباطل! ولعمري لقد أجرى الله عادته - ولن تجد لسنة الله تحويلاً أن من تعود الجراءة بالباطل كان ذليلاً في الحق، وإليه يشير قوله تعالى في وصف أحبابه ﴿أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤].
ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول ﴿ينذر﴾ : فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم، عطف عليه قوله: ﴿وكم أهلكنا﴾ بما لنا من العظمة، ولما كان المراد التعميم، أثبت الظرف
253
عرياً عن الجار، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال: ﴿قبلهم من قرن﴾ كانوا أشد منهم شدة، وأكثر عدة، وأوثق عدة، فلم يبق إلا سماع أخبارهم، ومشاهدة آثارهم؛ ثم قال تصويراً لحالهم، وتقريراً لمضمون ما مضى من مآلهم: ﴿هل تحس منهم من أحد﴾ ببصر أو لمس ﴿أو تسمع لهم ركزاً *﴾ أي صوتاً خفياً فضلاً عن أن يكون جلياً، فقد ختمت السورة بما بدئت به من الرحمة لأوليائه، والود لأصفيائه، والنعمة للذين خلفوا بعدهم من أعدائه، بعد الرحمة للفريقين بهذا الكتاب بشارة ونذارة فحلت الرحمة على أوليائه، وزلت عن أعدائه والله الموفق.
254
مقصودها الإعلام بإمهال المدعوين والحلم عنهم والترفق بهم إلى أن يكونوا أكثر الأمم، زيادة في الشرف داعيهم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وعلى هذا المقصد الشريف دل اسمها بطريق الرمز والإشارة، لتبيين أهل الفطنة والبصارة، وذلك بما في أولها من الحروف المقطعة، وذلك أنه لما كان ختام سورة مريم حاملاً على الخوف من أن تهلك أمته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قبل ظهور أمره الذي أمر الله به ةاشتهار دعوته، لقلة من آمن به منهم، ابتدأه سبحانه بالطاء إشارة بمخرجها الذي هو من رأس اللسان وأصول الثنيتين العليين إلى قوة أمر وانتشاره، وعلوه وكثرة أتباعه، لأن هذا المخرج أكثر المخارج حروفاً، وأشدها حركة وأوسعها انتشاراً، وبما فيها من صفات الجهر والإطباق والاستعلاء والقلقلة إلى انقلاب ما هو فيه من الإسرار جهراً، وما هو فيه من الرقة فخامة، لأنها من حروف التفخيم، وأنه يستعلي أمره، وينتشر ذكره، حتى يطبق جميع الوجود ويقلقل سائر الأمم، ولكن يكون ذلك.
بما تشير إليه الهاء بمخرجها من أقصى الحلق.
255
على حد بعده من طرف اللسان مع طول كبير وتماد كثير، وبما فيها من صفات الهمس والرخاوة والانفتاح والاستفال والخفاء مع مخافته وضعف كبير، وهدوء وخفاء عظيم، ومقاساة شدائد كبار، مع نوع فخامة واشتهار، وهو وإن كان اشتهاراً يسيراً يغلب هذا الضعف كله وإن كان قوياً شديداً، وقراءة الإمالة للهاء تشير إلى شدة الضعف، وقراءة التفخيم.
وهي الأكثر القراء.
مشيرة إلى فخامة القدر وقوة الأمر، بما لهما من الانتفاخ، وإن رئي أنه ليس كذلك (إنه ليخافهملك بني الأصفر) وإن كان معنى الحرفين: يا رجل، فهو إشارة إلى قوته وعلو قدره، وفخامة ذكره، وانتشار أتباعه وعموم أمره، وإن كانا إشارة إلى وطء الأرض فهو إلاحة إلى قوة التمكن وعظيم القدرة وبعدد الصيت حتى تصير كلها ملكاً له ولأتباعه، وملكاً لأمرائه واشياعه.
والله أعلم.
وذكر ابن الفرات في تأريخه أن هحر الحبشة كانت قي السنة الثامنة من المبعث فالظاهر.
على ما يأتي في إسلام عمر رضي الله عنه أن نزول هذه السورة أو أولها كان قرب هجرة الحبشة، فيكون سبحانه قد رمز له (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) على ما هو
256
ألذ في محادثة الأحباب، من صريح الخطاب، بعدد مسمى الطاء إلى أن وهن الكفار الوهن الشديد.
يقع في السنة التاسعة من نزولها، وذلك في غزوة بدر الموعد في سنة أربع من الهجرة، وبعدد اسمها إلى أن الفتح الأول يكون في السنة الحاية عشر من نزولها، وذلك في عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة عند نزول سورة الفتح، ورمز له بعدد مسمى الهاء إلى أن مبدأ النصرة بالهجرة في السنة الخامسة من نزولها، وبعدد اسمها إلى أن نصرة بالفعل يعق في السنة السابعة من نزولها، وذلك في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وبعدد حرفي اسمها لا بعدد اسميها إلى أنه في السنة الثالثة عشر من نزولها يكون بفتح الأكبر بالاستعلاء على مكة المشرفة التي كان سبباً قريباً للاستعلاء على جميع الأرض، وذلك في أواخرها في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وكان تمتمه بفتح الطائف بإرسال وفدهم وإسلامهم وهدم طاغيتهم في سنة تسع، وهي السنة الرابعة عشرة، وبعدد اسميهما إلى أن تطبيق أكثر الأرض بالإسلام يكون في السنة الثامنة عشرة من نزولها، وذلك بخلافة عمر رضي الله عنه في السنة الثالثة عشر من الهجرة.
والله أعلم.
) بسم (الواسع الحلم التام القدرة) الله (الملك الأعظم) الرحمن (
257
الذي استوى في أصل نعمته جميع خلقه) الرحيم (الذي أتم النعمة على أهل توفيقه ولطفه) طه
258
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب