ﰡ
سورة مريم عليها السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله، اسم عزيز من عبده واصل جهاده، ومن طلبه ودّع وساده، ومن عرفه أنكر أحبابه. ومن يسّر له أوقفه على محبته.
من ذكره نسى اسمه، ومن شهده فقد عقله ولبّه «١».
اسم عزيز جبلّت القلوب على محبته، وكل قلب ليس يوقفه على محبته، فليس بحيلة يصل.
اسم ما اتصفت أشباح الأبرار إلا بعبادته، وما اعتكفت أرواح الأحرار إلا بمشاهدته.
اسم عزيز من عرفه اعترف أنه وراء ما وصفه.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١)تعريف للأحباب بأسرار معانى الخطاب، حروف خصّ الحقّ المخاطب بها بفهم معانيها، وإذا كان للأخيار سماعها وذكرها، فللرسول- عليه السلام- فهمها وسرّها.
ويقال أشار بالكاف إلى أنه الكافي فى الإنعام والانتقام، والرفع والوضع على ما سبق به القضاء والحكم.
ويقال فى الكاف إشارة إلى كتابته الرحمة على نفسه قبل كتابة الملائكة الزّلّة على عباده.
والهاء تشير إلى هدايته المؤمنين إلى عرفانه، وتعريف خواصه باستحقاق جلال سلطانه، وماله من الحق بحكم إحسانه.
والياء إشارة إلى يسر نعمه بعد عسر محنه. وإلى يده المبسوطة بالرحمة للمؤمنين من عباده.
والعين تشير إلى علمه بأحوال عبده فى سرّه وجهره، وقلّه وكثره، وحاله ومآله، وقدر طاقته وحق فاقته.
وفى الصاد إلى أنه الصادق فى وعده.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٢]
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢)
تخصيصه إياه بإجابته فى سؤال ولده، وما أراد أن يتصل بأعقابه من تخصيص القربة له ولجميع أهله.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٣]
إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣)
وإنما ذلك لئلا يطّلع أحد على سرّ حاله فأخفى نداءه عن الأجانب وقد أمكنه أن يخفيه عن نفسه بالتعامي عن شهود محاسنه، والاعتقاد بالسّوء فى نفسه، ثم أخفى سرّه عن الخلق لئلا يقع لأحد إشراف على حاله، ولئلا يشمت بمقالته أعداؤه.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
أي لقيت بضعفي عن خدمتك ما لا أحبّه فطعنت فى السنّ، ولا قوة بعد المشيب فهب لى ولدا ينوب عنى فى عبادتك.
قوله جل ذكره: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.
أي إنى أسألك واثقا بإجابتك لعلمى بأنى لا أشقى بدعائك فإنّك تحبّ أن تسأل.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥ الى ٦]
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
إنى خفت أن تذهب النبوة من أهل بيتي، وتنتقل إلى بنى أعمامى فهب لى ولدا يعبدك، ويكون من نسلى ومن أهلى.
وهو لم يرد الولد بشهوتة الدنيا وأخذ الحظوظ منها، وإنما طلب الولد ليقوم بحقّ الله، وفى قوله: «يَرِثُنِي» دليل على أنه كما سأل الولد سأل بقاء ولده فقال: ولدا يكون وارثا لى أي يبقى بعدي، ويرث من آل يعقوب النبوة وتبليغ الرسالة.
واجعله ربّ رضيا: رضى فعيل بمعنى مفعول أي ترضى عنه فيكون مرضيّا لك. ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل أي راضيا منك، وراضيا بتقديرك.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)
أي استجبنا لدعائك، ونرزقك ولدا ذكرا اسمه يحيى تحيا به عقرة أمّه، ويحيا به نسبك، ويحيا به ذكرك، وما سألته من أن يكون نائبا عنك فيحيا به محلّ العبادة والنبوة فى بيتك.
«لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا» : انفراده- عليه السلام- بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة أي لم يكن له سمىّ قبله فلا أحد كفو له فى استجماع أوصاف فضله.
ويقال لم نجعل له من قبل نظيرا لأنه لم يكن أحد لا ذنب له قبل النبوة ولا بعدها غيره «١»
[سورة مريم (١٩) : آية ٨]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)
سأل الولد فلمّا أجيب قال أنّى يكون لى غلام؟ ومعنى ذلك- على ما جاء فى التفسير- أن بين سؤاله الولد وبين الإجابة مدة طويلة فكأنه سأل الولد فى ابتداء حال سنّه، واستجيبت دعوته بعد ما تناهى فى سنّه، فلذلك قال: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؟».
ويقال أراد أن يعرف ممن يكون هذا الولد.. أمن هذه المرأة وهى عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها مملوكة أستفزشها؟ فالسؤال إنما كان لتعيين من منها يكون الولد. فقال تعالى:
[سورة مريم (١٩) : آية ٩]
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
معناه إجابة الولد لك فيها معجزة ودلالة فى هذا الوقت الذي فيه حسب مستقرّ العادة ولادة مثل هذه المرأة دلالة ومعجزة لك على قومك، فتكون للإجابة بالولد من وجه معجزة ومن وجه راحة وكرامة.
قوله جل ذكره: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً دلّت الآيه على أن المعدوم ليس بشىء لأنه نفى أن يكون قبل خلقه له كان شيئا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ١٠]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠)
أراد علامة على علوق المرأة بالولد ولم يرد علامة يستدل بها على صدق ما يقال له.
فأخبره تعالى: أنبئك علامة وقت إجابتك.. إنّ لسانك لا ينطق معهم بالمخاطبة- ولو اجتهدت كلّ الجهد- ثلاثة أيام، وعليك أن تخاطبني، وأن تقرأ الكتب المنزّلة التي كانت فى وقتك. فكان لا ينطق لسانه إذا أراد أن يكلّمهم، وإذا أراد أن يقرأ الكتب أو يسبّح الله انطلق مع الله لسانه.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ١١]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٢ الى ١٣]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣)
أي قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة منّا، خصصناك بها.. لا قوة يد ولكن قوة قلب، وذلك خير خصّه الله تعالى به وهو النبوة.
ودلّت الآية على أنه كان من الله له كتاب.
«وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» أي النبوة، بعثه الله بها إلى قومه، وأوحى إليه وهو صبّى.
ويقال الحكم بالصواب والحقّ بين الناس.
ويقال الحكم هو إحكام الفعل على وجه الأمر.
قوله وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي آتيناه رحمة من عندنا، وطهارة وتوفيقا لمجلوبات التقوى وتحقيقا لموهوباتها فإن التقوى على قسمين: مجموع ومجلوب يتوصّل إليه العبد بتكلّفه وتعلّمه، وموضوع من الله تعالى ومرهوب منه يصل إليه العبد ببذله سبحانه وبفضله.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ١٤]
وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
«بَرًّا بِوالِدَيْهِ»
كأمر الله- سبحانه- له بذلك لا لمودّة البشر وموجب عادة الإنسانية.
ولم يكن متمردا عن الحق، جاحدا لربوبيته.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ١٥]
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
أي له منّا أمان يوم القيامة، ويوم ولادته فى البداية، ويوم وفاته فى النهاية، وهو أن يصونه عن الزّيغ والعوج فى العقيدة بما يشهده على الدوام من حقيقة الإلهية.
محفوظ عن الآفة. وفى الآخرة معصوم عن البلاء والمحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧)
اعتزلت عنهم لتحصيل يطهرها، فاستترت عن أبصارهم.
فلمّا أبصرت جبريل فى صورة إنسان لم تتوقعه أحسّت فى نفسها رعبا، ولم تكن لها حيلة إلا تخويفه بالله، ورجوعها إلى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ١٨]
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)
قالت مريم لجبريل- وهى لم تعرفه- إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت ممن يجب أن يخاف ويتقّى منه أي إن كنت تقصد السوء. ومعنى قولها «بِالرَّحْمنِ»
ولم تقل:
«بالله» - أي بالذي يرحمنى فيحفظنى منك.
ويقال يحتمل أن يكون معناه: إن كنت تعرف الله وتكون متقيا مخالفة أمره فإنّى أعوذ بالله منك وأحذر عقوبته.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ١٩]
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩)
تعرّف جبريل إليها بما سكّن روعها، وقرن مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
الأمر كما قلت لك فلا يتعصّى ذلك على الله تعالى إذ هو أقدر أن يجعل هذا الولد دلالة على كمال قدرته، ويكون هذا الولد رحمة منه- سبحانه- لمن آمن، وسبب جهل للآخرين.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٢]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢)
لمّا ظهر بها الحمل، وعلمت أنّ الناس يستبعدون ذلك، ولم تثق بأحد تفشى إليه سرّها.. مضت إلى مكان بعيد عن الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٣]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)
ألجأها وجع الولادة إلى الاعتماد إلى جذع النخلة. ولمّا أخذها الطلق، وداخلها الخجل من قومها نطقت بلسان العجز، وقالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا».
ويقال يحتمل أنها قالتها إشفاقا من قومها، لأنها علمت أنّهم سيبسطون لسان الملامة فيها بلسان الفجر وينسبونها إلى الفحشاء.
ويقال قالتها شفقة على قومها لئلا تصيبهم بسببها عقوبة.
ويقال قالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» حتى لم أسمع من قال فى الله تعالى بسببى إن عيسى ابن الله وابن مريم، وإن مريم زوجته... تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا! ويقال «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» : فى الوقت الذي كنت مرفوقا بي، ولم تستقبلنى هذه الخشونة فى الحالة التي لحقتني.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٤]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
«١» فى التفسير أنّ المعنيّ بقوله «مِنْ تَحْتِها» : جبريل عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام.
والمقصود منه تسكين ما كان بها من الوحشة، والبشارة بعيسى عليه السلام، أي يرزقك الله ولدا سريا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
وكان جذعا يابسا أخرج الله تعالى منه فى الوقت الثمرة، وهى الرّطب الجنىّ، وكان فى ذلك آية ودلالة لها فالذى قدر على فعل مثل هذا قادر على خلق عيسى- عليه السلام- من غير أب.
ويقال عند ما كانت مجرّدة بلا علاقة، فقد كان زكريا- عليه السلام- يجد عندها رزقا من غير أن أمرت بتكلف، فلمّا جاءت علاقة الولد أمرت بهزّ النخلة اليابسة- وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد، ليعلم أنّ العلاقة توجب العناء والمشقة.
ويقال بل أمرت بهزّ النخلة اليابسة، وكان تمكنها من ذلك أوضح دلالة على صدقها فى حالها.
ويقال لمّا لم يكن لها فى هذه الحالة من يقوم بتعهدها تولّى الله تعالى كفايتها ليعلم العالمون أنه لا يضيع خواصّ عباده فى وقت حاجتهم.
قوله جل ذكره:
«فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً» : فلا تخاطبيهم وعرّفيهم- بالإشارة- أنّك نذرت للرحمن الصمت مع الخلق، وترك المخاطبة معهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
بسط قومها فيها لسان الملامة لما رأوها قد ولدت- وظاهر الحال كان معهم- فقالوا لها على سبيل الملامة: يا من كنا نعدّك فى الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح.. من أين لك هذه الحالة الشنعاء؟
ويقال كان أخوها اسمه هارون: ويقال كان هارون رجلا فاسقا فى قومهم، فقالوا:
يا شبيتهه فى الفساد.. ما هذا الولد؟
ويقال كان هارون رجلا صالحا فيهم فقالوا: يا أخت هارون، ويا من فى حسابنا وظنّنا ما كان أبواك فيهما سوء ولا فساد.. كيف أتيت بهذه الكبيرة الفظيعة؟! قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٩]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)
فى الظاهر أشارت إلى الولد، وفى الباطن أشارت إلى الله، فأخذهم ما قرب وما بعد وقالوا: كيف نكلّم من هو أهل بأن ينوّم فى المهد؟!
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٠]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
لما قالوا ذلك أنطق الله عيسى حتى قال: إنى عبد الله، فظهرت براءة ساحتها بكلام عيسى قبل أن يتكلم مثله. وجرى على لسانه حتى قال: إنى عبد الله ليقال للنصارى إن صدق عيسى أنه عبد الله بطل قولكم إنه ثالث ثلاثة، وإن كذب فالذى يكذب لا يكون ابنا لله، وإنما يكون عبدا لله، وإذا لم يكن عبد هواه، ولا فى أسر شىء سواه فمن تحرر من غيره فهو فى الحقيقة عبده.
و «آتانِيَ الْكِتابَ» : أي سيؤتينى الكتاب أو آتاني فى سابق حكمه.
«وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» بفضله. وفى الآية ردّ على من يقول إن النبوة تستحقّ بكثرة الطاعة لأنه قال ذلك فى حال ولادته ولم تكن منه بعد عبادة وأخبر أن الله جعله نبيا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢)
أي نافعا للخلق يرشدهم إلى أمور دينهم، ويمنعهم من ارتكاب الزّلّة التي فيها هلاكهم، ومن استضاء بنوره نجا. فهذه بركاته التي كانت تصل إلى الخلق. ومن بركاته إغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، ونصرة المظلوم، ومواساة الفقير، وإرشاد الضال، والنصيحة للخلق، وكفّ الأذى عنهم وحمل الأذى منهم.
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي لم يجعلنى غير قابل للنصيحة.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٣]
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
قال عيسى عليه السلام: «وَالسَّلامُ عَلَيَّ»، وقال لنبينا عليه السلام ليلة المعراج:
«السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته».. فشتان ما هما! والسلام بمعنى السلامة، أي سلامة لى يوم الولادة مما نسبوا إلىّ من قول النصارى في مجاوزة الحدّ فى المدح، ومما وصفنى به اليهود من الذمّ «١»، فلست كما قالت الطائفتان جميعا.
وسلام علىّ يوم أموت ففى ذلك اليوم تكون لى سلامة حتى تكون بالسعادة وفاتي.
وسلام علىّ يوم أبعث أي سلامة لى فى الأحوال ممّا يبتلى به غير أهل الوصال.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٤]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)
أي الذي قال ما أخبر الله عنه هو عيسى ابن مريم... أيكون بقول إله؟
وقد شكّ فيه أكثر الخلق فردّه قوم وقبله قوم، والفرق بينهما فى استحقاقه «٢».
وقوله: «قَوْلَ الْحَقِّ» أي يكون بقوله الحق وهو:
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
لا يجوز أن يكون له ولد على الحقيقة لأنه واحد، والولد بعض والده.
(٢) أي فى نصيبه من الحق الفارق بين الردّ والقبول.
وقوله: «وَإِذا قَضى أَمْراً... » إذا أراد إحداث شىء خلقه بقدرته، وخاطبه بأمر التكوين «١»، ولا يتعّصى عليه- فى التحقيق- مقدور.
«وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» أي أمرنى بأن تعلموا ذلك وأمرنى بتبليغ رسالتى، واتباع ما شرع الله من العبادات.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٧]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
فمن عجنت بماء السعادة طينته أطاع فى عاجله وما ضاع فى آجله، ومن أقصته القسمة السابقة لم تدنه الخدمة اللاحقة، وسيلقون غبّ هذا الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٨]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
صير معارفهم ضرورية، وأحوالهم كلّها معكوسة، والحجّة تتأكّد عليهم، والحاجة لا تسمع منهم، والرحمة لا تتعلّق بهم، فلا ترحم شكاتهم، ولا يسمع نداؤهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٩]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩)
تقوم الساعة بغتة، وتصادفهم القيامة وهم غير مستعدين لها فيتحسّرون على ما فانهم.
ويقال يوم الحسرة يوم القسمة حين سبقت لقوم الشقاوة- وهم فى محو العدم، ولآخرين السعادة- وهم بنعت العدم، ولم يكن من أولئك جرم بعد، ولا من هؤلاء وفاق بعد.
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٠]
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
يريد به إذا قبض أرواح بنى آدم بجملتهم، ولم يبق على وجه الأرض منهم واحد، وليس يريد به استحداث ملكه، وهو اليوم مالك الأرض ومن عليها، ومالك الكون وما فيه.
ويقال إن زكريا قال- لمّا سأل الولد: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وقال تعالى فى صفة بنى إسرائيل: «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» «١» وقال: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» «٢»، ولما انتهى إلى هذه الأمة «٣» قال: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها».. فشتان بين من وارثه الولد وبين من وارثه الأحد! ويقال هان على العبد المسلم إذا مات إذا كان الحقّ وارثه.. وهذا مخلوق يقول فى صفة مخلوق:
فإن يك عتّاب مضى لسبيله | فما مات من يبقى له مثل خالد |
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤١]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١)
الصّديق الكثير الصدق، الذي لا يمازج صدقه شوب.
ويقال هو الصادق فى أقواله وأعماله وأحواله.
ويقال الصدّيق لا يناقض سرّه علنه.
(٢) آية ١٢٨ سورة الأعراف. [.....]
(٣) يقصد امة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.
(٤) آية ١٦٨ سورة آل عمران.
ويقال هو المستجيب لما يطالب به جملة وتفصيلا.
ويقال هو الواقف مع الله فى عموم الأوقات على حدّ الصدق.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٢]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢)
دلّت الآية على استحقاق المعبود الوصف بالسمع والبصر على الكمال دون نقصان فيه، وكذلك القول فى القدرة على الضّرّ والنفع.
وإذا رجع العبد إلى التحقيق علم أن كلّ الخلق لا تصلح قدرة واحد منهم للإبداع والإحداث، فمن علّق قلبه بمخلوق، أو توهّم شظية منه من النفي والإثبات فقد ضاهى عبدة الأصنام.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٣]
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣)
أمره باتباعه لمّا ترجح عليه جانبه فى كون الحقّ معه- وإن كان أكبر منه سنّا، وبيّن أن الخلاص فى اتباع أهل الحقّ، وأنّ الهلاك فى الابتداع والتطوح فى مغاليط الطرق.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٤]
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤)
بيّن أنّ العلة فى منعه من عبادة الشيطان عصيانه للرحمن فبان أنّه لا ينبغى أن تكون طاعة لمن يعصى الله بحال.
ويقال أساس الدّين هجران أرباب العصيان.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٥]
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٦]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
مناه ابراهيم بجميل العقبي، فقابله بتوعّد العقوبة فقال:
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
فأجابه الخليل بمقتضى سكون البصيرة فقال:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٧]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)
وهذا قبل أن ييأس من إيمانه، إذ كانت لديه بعد بقية من الرجاء فى شانه، فلمّا تحقق أنه مختوم له بالشقاوة قال له:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٨]
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)
«ما تَدْعُونَ» : أي ما تعبدون، «وَأَدْعُوا رَبِّي» : أي أعبده.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٩]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩)
لما أيس من أصله آنسه الله بما أكرمه من نسله، فأنبتهم نباتا حسنا، ورزقهم النبوة، ولسان الصدق بالذكر لهم على الدوام «١» فقال:
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٥١]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١)
مخلصا خالصا لله، ولم يكن لغيره بوجه فلم تأخذه فى الله لومة لائم، ولم يستفزه طمع نحو إيثار حظ، ولم يغض فى الله على شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٢]
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢)
للنجوى مزية على النداء، فجمع له الوصفين: النداء فى بدايته، والسماع والنجوى فى نهايته فوقفه الحقّ وناداه، وفى جميع الحالين تولّاه.
«مِنْ جانِبِ الطُّورِ» : ترجع إلى موسى فموسى كان بجانب الطور «١».
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٣]
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
من خصائص موسى أنه وهب له أخاه هارون نبّيّا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
كان صادق الوعد إذ وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه «٢»، وصبر على ذلك إلى أن ظهر الفداء. وصدق الوعد لأنه حفظ العهد. وكان يأمر أهله بالصلاة- بأمر الله إياه- وبالزكاة، ويشتمل هذا على ما أمره إياهم بالعيادة البدنية والمالية حينما وكيفما كان.
(٢) من هذه الاشارة نعرف أن القشيري يرى أن إسماعيل- لا إسحاق- هو مدار قصة الذبح والفداء.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)
الصّدّيق كثير الصدق، لا يشوب صدقه مذق «١»، ويكون قائما بالحقّ للحق، ولا يكون فيه نفس لغير الله.
«وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» : درجة عظيمة فى التربية لم يساوه فيها أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
أقامهم بشواهد الجمع، وأخبر أن منّته كامنة فى تخصيصهم بأحوالهم، وتأهيلهم لما رقّاهم إليه من المآل، وأنه بفضله اختارهم واجتباهم ومما أنعم به عليهم من الخصائص رقّة قلوبهم فهم إذا تتلى عليهم الآيات سجدوا، وسجود ظواهرهم يدل على سجود سرائرهم بما حقّق لهم من شواهد الجمع، وأمارة صحته ما وفقهم إليه من عين الفرق فبوصف التفرقة قاموا بحق آداب العبودية، وبنعت الجمع تحققوا بحقائق الربوبية «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)
(٢) هذا من أشد البراهين نصاعة على تمسك القشيري بالشريعة فإن صدق العبد فى التوجه أمارته ان يكون محفوظا- من قبل الحق- كى يؤدى فرائض الشرع.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
فأولئك الذين تداركتهم الرحمة الأزلية، وسيبقون فى النعم السرمدية. يستنجز الحقّ لهم عداتهم، ويوصّلهم إلى درجاتهم، ويحقّق لهم ما وعدهم.
«إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» : لأن ما أتيته فقد أتاك أو ما أتاك فقد أتيته «١».
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» : فإن أسماعهم مصونة عن سماع الأغيار، لا يسمعون إلا من الله وبالله، فإن لم يكن ذلك فلا يسمعون إلا الله.
قوله جل ذكره: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا كانوا يعدّون من عنده طعام البكرة والعشية من جملة المياسير والأغنياء لكونهم فقراء إن وجدوا غداءهم ففى الغالب يعدمون عشاءهم، وإن وجدوا عشاءهم فقلّما كانوا يجدون غداءهم. ويقال فى «لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» فيها: بمقدار الغدو والعشى من الزمان فى الجنة أي كالوقت. ثم إن الأرزاق تختلف فى الجنة فللأشباح رزق من مطعوم ومشروب، وللأرواح رزق من سماع وشهود، ولكل- على قدر استحقاقه- قسط معلوم.
قوله جل ذكره: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٤]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
إن الملائكة- عليهم السلام- أبدا ينزلون بإذن الحقّ تعالى، فبعضهم بإنجاد المظلومين، وبعضهم بإغاثة الملهوفين، وبعضهم بتدمير الجاحدين، وبعضهم بنصرة المؤمنين، وبعضهم إلى ما لا يخصى من أمور الناس أجمعين. والله- سبحانه- لا يترك جاحدا ولا عابدا من حفظ وإنعام، أو إمهال ونكال...
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٥]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
بحق الإظهار يجب أن يكون هو ربّها، ويكون مالكها، ويكون قادرا عليها.
وإذا وجدت فهو فاعلها، فمعنى كون فعل الشيء لفاعله أنه فى مقدوره وجوده.
ويقال إذا كان ربّ الأكبر من الأقوياء فهو أيضا ربّ الأصاغر من الضعفاء، وقيمة العبد بمالكه وقدره «١»، ولا بثمنه فى نفسه وخطوه.
قوله: «فَاعْبُدْهُ» أي قف حيثما أمرك، ودع ما يقع لك، وخلّ رأيك وتدبيرك.
قوله: «وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» : الاصطبار غاية الصبر.
قوله: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» :
أي كفوا ونظيرا. ويقال هل تعرف أحدا يسمى «الله» غير الله؟ ويقال أنّى بالنظير | وهو بالقدم متوحد! والتشبيه يقتضى التسوية بين المتشابهين، ولا مثل له.. لا موجودا ولا موهوما. |
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)
أنكروا حديث البعث غاية الإنكار، فأقام الحجّة عليهم بالنشأة الأولى فقال: إن الذي قدر على خلق الخلق فى الابتداء وهم نطف ضعفاء، وقبل كانوا فى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ففطرهم، وعلى ما شاء صوّرهم، وفى الوقت الذي أراد- عن «١» بطون أمهاتهم أخرجهم.
قوله: «وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» فيه دليل على صحة أهل البصائر أنّ المعدوم لم يك شيئا فى حال عدمه «٢».
ويقال أبطل لهم كلّ دعوى حيث ذكّرهم نسبهم وكونهم من العدم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٨]
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)
نحشرهم جميعا فيجتمعون فى العرصة «٣». ثم يختلف منقلبهم فيصير قوم إلى النار ثم إلى دركات بعضها أسفل من بعض- واسم جهنم يجمع أماكنهم. ويصير قوم إلى الجنة ثم هى درجات بعضها أعلى رتبة ودرجة من بعض- واسم الجنة يشتمل على جميع مساكنهم.
ويقال التفاوت فى الجنة بين الدرجات أكثر من التفاوت بين أهل الدارين.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
(٢) وفيه ردّ على القائلين بأن المادة لا تستحدث.
(٣) العرصة ساحة الدار أو صفيحة من الحديد توضع فى التنور لينضج عليها الخبز وغيره (الوسيط)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ينزل فى كل دركة من دركاتها من هو أهل لها، فمن كان عتوّه اليوم أشدّ غلوا كان فى النار أبعد من الله وأشدّ عقوبة وإذلالا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧١]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)
كلّ يرد النار ولكن لا ضير منها ولا احتباس بها لأحد إلا بمقدار ما عليه من (... ) «١»
والزلل فأشدّهم انهماكا أشدهم بالنار اشتعالا واحتراقا. وقوم يردونها- كما فى الخبر:
«إن للنار عند مرورهم عليها إذوابة كإذوابة اللّبن، فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا: أو ليس وعدنا جهنم على طريق؟ فيقال لهم. عبرتم وما شعرتم «٢» ! قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٢]
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
ينجّى من كان مؤمنا، بعضهم قبل بعض، وبعضهم بعد بعض، ولكن لا يبقى من
(٢) الإذواية: الزبد حين يوضع فى البرمة ليذاب (مقايبس اللغة لابن فارس ج ٢ ص ٣٦٢).
وعن جابر أنه عليه السلام سئل عن ذلك فقال: إذا دخل أهل الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم قد ورد نموها وهى خامدة (القاضي البيضاوي ط الجسّال بجدة) ص ٤١٠.
وعن جابر أيضا، الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين يردا وسلاما كما كانت على إبراهيم» [الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ج ١١ ص ١٣٦ سلسلة التراث].
وعن الحسن «ليس الورود الدخول، إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها فالورود أن يمروا على الصراط «وقد استند كثير إلى رأى الحسن واحتجوا بقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها. [.....]
وإنما ينجو القوم بحسب تقواهم فزيادة التقوى توجب لهم التعجيل فى النجاة فمن سابق ومن لاحق، ومن منقطع، ومن محترق.. إلى كثير من الأصناف والألوان.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٣]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)
يعنى إذا قرئت عليهم آيات القرآن قابلوها بالردّ والجحد والعتو والزيغ، ويدّعون أنهم على حق، ولا يعتمدون فى ذلك إلا على الحدس والظّن.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٤]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
أي إن هؤلاء ينخرطون فى سلك من تقدّمهم، كما سلكوا فى الريب منهاجهم، وسيلقون ما يستوجبونه على سوء أعمالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٥]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
«١» إن الله تعالى يمهل الكفار ليركنوا إلى أباطيل ظنونهم، ويغترّوا بسلامة أحوالهم، فينسونه فى غفلة الإمهال والاغترار بسلامة أحوالهم، ثم يغشاهم التقدير بما يستوجب حسبانهم قوله «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ... » أي يحل بهم موعود العقوبة عاجلا أو قيام
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٦]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
أي يغنيهم بنور البدر عن الاستضاءة بنور النجم، ثم بطلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فإذا متع نهار العرفان فلا ظلمة ولا تهمة.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : الشهادة بالربوبية خير من غيرها مما لا يوجد فيه صدق الإخلاص.
ويقال «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : التي تبقى عند الله مقبولة.
قوله تعالى: «خَيْرٌ» لأن فى استحقاق القبول زيادة للهدى فيصير علم اليقين عين اليقين، وعين يقينهم حق اليقين.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٧]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧)
أخبر بقصة ذلك الكافر «٢» الذي قال بيمين- من غير حجة- لأعطينّ مالا وولدا، ورأى أن يكون ليمينه تصديق، فهل هو:
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٨]
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨)
(٢) عن الحسن: أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة. والمشهور انها فى العاص بن وائل فقد روى ان خباب ابن الأرت صاغ للعاصى حليا فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون انكم تبعثون وان فى الجنة ذهبا وفضة فأنا أقضيك ثم فإنى اوتى مالا وولدا حينئذ! وقد ذكر الواحدي ثلاث وروايات تؤيد ذلك عن مسروق وعن الكلبي وعن مقاتل. (أسباب النزول ط مؤسسة الحلبي) ص ٢٠٤.
ورواه البخاري عن الحميدي عن سفيان، ورواه مسلم عن الأعمش.
ودليل الخطاب يقتضى أن المؤمن إذا ظن بالله تعالى ظنا جميلا، أو أمّل منه أشياء كثيرة فالله تعالى يحققها له، ويصدق ظنّه لأنه على عهد مع الله تعالى، والله تعالى لا يخلف عهده.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
كلا.. ليس الأمر على ما يقول، وليس لقولهم تحقيق، بل سنمدلهم من العذاب مدا أي سنطيل فى العذاب مدتهم.
«وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ... » لن نمتّعه بأولاده وحشمه وخدمه وقومه، ويعود إلينا منفردا عنهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)
حكموا بظنهم الفاسد أنّ أصنامهم تمنعهم، وأنّ ما عبدوه من دون الله تعالى توجب عبادتهم لهم عند الله تعالى وسيلة.. وهيهات! هيهات أن تكون لمغاليط حسبانهم تحقيق، بل إذا حشروا وحشرت أصنامهم تبّرأت أصنامهم منهم، وما أمّلوا نفعا منها عاد ضررا عليهم.
ويقال طلبوا العزّ فى أماكن الذل، فأخفقوا فى الطلب، ونفوا عن المراد.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)
تؤزهم أي تزعجهم، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وغمّة، وخاطر الحقّ يكون بروح وسكينة، وهذه إحدى الدلائل بينهما.
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٤]
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)
الأنفاس فى الحكم معدودة فمن لم يستوف فلا انقضاء لها. وإذا انتهى الأجل فلا تنفع بعد ذلك الحيل، وقبل انقضائه لا يزيد ولا ينقص بالعلل.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٥]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
قيل ركبانا على نجائب طاعاتهم، وهم مختلفون فمن راكب على صدور طاعاته، ومن راكب على مراكب هممه، ومن راكب على نجائب أنواره. ومن محمول يحمله الحقّ فى عقباه كما يحمله اليوم فى دنياه. وليس محمول الحقّ كمحمول الخلق! قوله جل ذكره
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٦]
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦)
فأولئك يساقون بوصف العزّ، وهؤلاء يساقون بنعت الذّلّ، فيجمعهم فى السّوق، ولكن يغابر بينهم فى معانيه.. فشتّان ما هما!! قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٧]
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
وذلك العهد حفظهم فى دنياهم ما أخذ عليهم- يوم الميثاق- من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)
ما أعظم بهتانهم فى مقالتهم! وما أشدّ جرأتهم فى قبيح حالتهم! لكنّ الصمدية متقدّسة عن عائد يعود إليها من زين بتوحيد موحّد، أو شين بإلحاد ملحد.. فما شاهت إلّا وجوههم بما خاضوا فيه من مقالهم، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يتجمّل بما قاله الآخرون إلا القائل، وما عاد إلا على القائل مقابل من عاجل أو آجل.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٢ الى ٩٥]
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
أنّى بالولد وهو واحد؟! وأنّى بالولادة ولا جنس له وجوبا «١» ولا جوازا؟! «لَقَدْ أَحْصاهُمْ..» : لا يعزب عن علمه معلوم، ولا ينفكّ عن قدرته- مما يصح أن يقال حدوثه- موهوم.
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً: لا خدم يصحبهم، ولا حشم يلحقهم، كلّ بنفسه مشتغل، وعن غيره منفرد.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٩٦]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
يجعل فى قلوبهم ودا لله نتيجة لأعمالهم الخالصة، وفى الخبر: «لا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى يحبنى وأحبه» «٢».
ويقال يجعل لهم الرحمن ودا فى قلوب عباده، وفى قلوب الملائكة، فأهل الخير والطاعة محبوبون من كلّ أحد من غير استحقاق بفعل «٣».
(٢) (... فإذا أجبته كنت عينه التي يبصر بها، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها) وهو حديث قدسى ورواه البخاري عن أبى هريرة، واحمد عن عائشة، والطبراني فى الكبير عن ابى امامة، وابن السنى عن ميمون، وقد اخطأ من زعم ان البخاري انفرد بروايته.
(٣) اخرج مسلم والترمذي عن ابى هريرة ان النبي (ص) قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبه، فينادى فى السماء ثم تنزل له المحبة فى الأرض.. وذلك قوله تعالى: «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا».
السيوطي فى إتقانه ص ١٩٩ ج ٢ ط مصطفى الحلبي.
[سورة مريم (١٩) : آية ٩٧]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧)
«١» الكلام واحد والخطاب واحد، وهو لقوم تيسير، ولآخرين تخويف وتحذير. فطوبى لمن يسّر لما وفّق به، والويل لمن خوّف بل خذل فيه. والقوم بين موفق ومخذول.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (١٩) : آية ٩٨]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
أثبتهم وأحياهم، وعلى ما شاء فطرهم وأبقاهم، ثم بعد ذلك- لما شاء- أماتهم وأفناهم، فبادوا بأجمعهم، وهلكوا عن آخرهم، فلا كبير منهم ولا صغير، ولا جليل ولا حقير، وسيطالبون- يوم النشور- بالنقير والقطمير.
سورة طه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم عزيز من تحقّق بجلال عزّته تمحض «٢» فى خلوص عبوديته، وإذا وصل إلى ضياء صفوته نزل عن سيماء نعوته.
اسم عزيز من عرفه سمت همّته، وإذا سمت همته سقطت عن الدارين طلبته.
اسم من عرفه زال كربه وطاب قلبه دينه ربّه «٣» وجنّته حبّه.
اسم عزيز من وسمه بعبوديته حرّره من رقّ شهواته، وأعتقه من أسر مطالبه فلا له لمحبوب طلب، ولا يستفزّه لمحذور هرب.
(٢) المحض- اللبن الخالص، وتمحض- خلص من الشوائب.
(٣) أي عبادته لربه لذاته لا طلبا لثواب ولا خوفا من عقاب كما هو الشأن فى العبادة التقليدية.