تفسير سورة مريم

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة مريم من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ مريم عليها السَّلام
مكية بإجماع، إلا السجدة منها، ففيها خلاف، وآيها تسع وتسعون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وثمان مئة وحرفان، وكلمها: تسع مئة واثنتان وستون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿كهيعص (١)﴾ [مريم: ١].
[١] ﴿كهيعص﴾ قرأ أبو عمرو: بإمالة الهاء وفتح الياء، وقرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف: بضم الهاء وإمالة الياء ضد الأول، وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بإمالة الهاء والياء جميعًا، واختلف عن نافع، فروي عنه إمالتها بين بين، وفتحها، والأول أشهر، وفتحها الباقون، وهم أبو جعفر، وابن كثير، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر يقطع الحروف على أصله، يسكت على كل حرف سكتة يسيرة في جميع أحرف الهجاء من أوائل السور، وأظهرَ دالَ (صاد) عند ذال (ذِكْرُ): نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب، وأدغمها الباقون، وأشبع مدَّ (ع): ورش بخلاف عنه (١)، واختلف في الحروف التي في أوائل السور
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٨)، =
على قولين: فقيل: هي سر الله في القرآن، لا ينبغي أن يتعرض له، نؤمن بظاهره، ونترك باطنه، وقال الجمهور: بل ينبغي أن يتكلم فيها، وتطلب معانيها؛ فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالًا على كلمة، وليس في كتاب الله ما لا يفهم، وتقدم الكلام فيها أول سورة البقرة، قال ابن عباس: (كهيعص): هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله تعالى: (الكاف) من كبير، و (الهاء) من هاد، و (الياء) من علي، و (العين) من عزيز، و (الصاد) من صادق (١)، وقيل: معناه كافٍ لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده.
...
﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢)﴾ [مريم: ٢].
[٢] ﴿ذِكْرُ﴾ خبر مبتدأ؛ أي: المتلوُّ ذكرُ ﴿رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ وفيه تقديم وتأخير، معناه: ذكر ربك عبده زكريا برحمته، و (رحمت) بالتاء في سبعة مواضع، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (٢)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (زَكَرِيَّا) مقصورًا بغير همز حيث وقع، والباقون: بالهمز والمد (٣).
...
= و"تفسير البغوي" (٣/ ٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٢٤١ - ٤٢٥ و ٢/ ٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥ - ٢٧).
(١) رواه الحاكم في "المستدرك" (٣٤٠٥)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (١٠/ ٣٠٠)، وغيرهما.
(٢) انظرها في تفسير الآية (٢١٨) في سورة البقرة.
(٣) انظرها في تفسير الآية (٣٧) من سورة آل عمران.
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣)﴾ [مريم: ٣].
[٣] ﴿إِذْ نَادَى﴾ دعا ﴿رَبَّهُ﴾ في محرابه ﴿نِدَاءً خَفِيًّا﴾ سرًّا جوفَ الليل؛ لأنه أسرع للإجابة. قرأ ابن كثير، وعاصم، وروح عن يعقوب: (زَكَرِيَّاءَ إِذْ) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية (١)، وتقدم ذكر زكريا ووفاته في سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ [آل عمران: ٣٧].
...
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)﴾ [مريم: ٤].
[٤] ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ أي: ضعف من الكبر.
﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ كناية عن عموم الثيب، شبهه بلهب النار، ونصبه على التمييز، تقديره: اشتعل شيبُ رأسي. قرأ أبو عمرو: (الرَّأْس شَيْبًا) بإدغام السين في الشين (٢).
﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ أي: عودتني الإجابة فيما مضى، وما أشقيتني قَطُّ بِرَدٍّ.
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٨).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨٤)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٠).
﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥)﴾ [مريم: ٥].
[٥] ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾ العصبة.
﴿مِنْ وَرَائِي﴾ أي: بعدي؛ ألا يقوموا مقامي في الدين، خاف تضييع بني عمه دين الله، وتغيير أحكامه؛ لما شاهد من بني إسرائيل من تبديل الدين، وقتل الأنبياء، فسأل ربه ولدًا صالحًا يأمنه على أمته لئلا يضيع الدين. قرأ ابن كثير: (وَرَائِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١) ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ لا تلد.
﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾ أعطني من عندك ﴿وَلِيًّا﴾ ولدًا.
...
﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)﴾ [مريم: ٦].
[٦] ﴿يَرِثُنِي﴾ في النبوة والعلم ﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ الملكَ.
﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ أي: راضيًا بقضائك تقيًّا مرضيًّا. قرأ أبو عمرو، والكسائي: (يَرِثْنِي وَيَرِثْ) بجزم الثاء فيهما على جواب الدعاء، والباقون: بالرفع على الحال والصفة؛ أي: وليًّا وارثًا (٢).
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٠).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣١).
﴿يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)﴾ [مريم: ٧].
[٧] ﴿يَازَكَرِيَّا﴾ فيه إضمار؛ أي: فاستجاب الله له دعاءه، فقال، أو: فنودي: (يا زكريا) ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ﴾ بولد ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾ سمي به لأنه حيي به الرحم اليائس.
﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ أي: لم يسم قبله يحيى. قرأ ابن عامر، وعاصم، وروح عن يعقوب: (يَا زَكَرِيَّاءُ إِنَّا) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل واوًا خالصة (١)، وقرأ حمزة: (نَبْشُرُكَ) بفتح النون وجزم الباء وضم الشين مخففة، من البشر، وهو البشرى والبشارة، وقرأ الباقون: بضم النون وفتح الباء وكسر الشين مشددة (٢)؛ من بَشَّرَ المضعف على التكثير، والبشر والتبشير والإبشار لغات فصيحات.
...
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)﴾ [مريم: ٨].
[٨] ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى﴾ أي: كيف، ومن أين ﴿يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾، وليس في ما أستحق به ذلك، ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ لا تلد.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧ و ١٤٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٧ - ٢٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧ - ٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٢).
﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ يبسًا، أي: بلغت العتي من أجل الكبر.
قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (عِتِيًّا) بكسر العين، والباقون: بضمها، وهما لغتان (١).
...
﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩)﴾ [مريم: ٩].
[٩] فثَم ﴿قَالَ﴾ جبريل: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما قلتُ لك.
﴿قَالَ رَبُّكَ هُوَ﴾ أي: خلقُ يحيى من كبيرين ﴿عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ سهل.
﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ﴾ قرأ حمزة والكسائي: (خَلَقْنَاكَ) بالنون والألف على لفظ الجمع للتعظيم، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة من غير ألف على لفظ التوحيد (٢)، وكلاهما إخبار؛ أي: أوجدناك.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: قبل يحيى ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ بل كنت معدومًا.
...
﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠)﴾ [مريم: ١٠].
[١٠] ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ دلالة على حمل امرأتي. قرأ نافع،
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٤).
وأبو جعفر، وأبو عمرو: (لِيَ آية) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ أي: صحيحًا من غير خرس، روي أنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس، فإذا أراد (٢) ذكر الله، انطلق لسانه. روي عن يعقوب وقنبل: الوقفُ بالياء على (لَيَالِي).
...
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)﴾ [مريم: ١١].
[١١] ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ صبيحة ليلة حمل امرأته.
﴿مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ من المصلَّى، أو من الغرفة، وكان الناس ينتظرونه ليخرج إلى الصلاة، فخرج متغيرًا لونُه، فأنكروه وقالوا: ما لك يا زكريا؟
﴿فَأَوْحَى﴾ أومأ ﴿إِلَيْهِمْ﴾ إشارة بإصبعه ﴿أَنْ سَبِّحُوا﴾ صلوا.
﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ طرفي النهار (٣). قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: (المحرابَ) بالإمالة، والباقون: بالفتح (٤).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٤).
(٢) "أراد" زيادة من "ت".
(٣) "النهار" ساقطة من "ش".
(٤) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٦٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٤).
﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢)﴾ [مريم: ١٢].
[١٢] ﴿يَايَحْيَى﴾ فيه حذف معناه: يولد له، وقلنا للمولود: يا يحيى ﴿خُذِ الْكِتَابَ﴾ أي: التوراة بلا اختلاف؛ لأنه ولد قبل عيسى عليه السلام، ولم يكن الإنجيل عند الناس موجودًا ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد واجتهاد.
﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ﴾ النبوة، وقيل: الفهم للتوراة.
﴿صَبِيًّا﴾ شابًّا لم يبلغ حد الكهول.
وروي أنه نبئ وفهم التوراة وهو ابن ثلاث سنين، وروي أنه قال له الصبيان: لم لا تلعب؟ فقال: أللعبِ خُلِقتُ؟!
...
﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣)﴾ [مريم: ١٣].
[١٣] ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا﴾ أي: رحمة من عندنا، المعنى: رحمة للخلق، ولأبويه ﴿وَزَكَاةً﴾ تطهيرًا وبركة وصدقة تصدق الله بها على أبويه وأهل زمانه.
﴿وَكَانَ تَقِيًّا﴾ مطيعًا، وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة، ولا هَمَّ بها.
...
﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤)﴾ [مريم: ١٤].
[١٤] ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ﴾ أي: جعلناه محسنًا إليهما، مشفقًا عليهما.
﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا﴾ متكبرًا ﴿عَصِيًّا﴾ لربه.
***
﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)﴾ [مريم: ١٥].
[١٥] ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾ أي: سلامة له من الشيطان.
﴿يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ إلى الموقف.
قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال: يوم ولد فيخرج مما كان، ويوم يموت (١) فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير مثله، فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن (٢).
...
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦)﴾ [مريم: ١٦].
[١٦] ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ أي: القرآن ﴿مَرْيَمَ﴾ يعني: قصتها، وهذا ابتداء قصته ليست من الأولى.
﴿إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا﴾ أي: اعتزلتهم ناحية ﴿مَكانًا﴾ ظرف ﴿شَرقِيًّا﴾ نعته؛ أي: نحو المشرق في بيت المقدس، ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة.
...
﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧)﴾ [مريم: ١٧].
(١) "ويوم يموت" ساقطة من "ش".
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١٦/ ٥٨ - ٥٩)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (٢/ ٢٢٨)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٦٤/ ١٧٤).
[١٧] ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾ سترًا تستتر به؛ لتخلو للعبادة، وقيل: لتغتسل من الحيض، وقد تقدم في تفسير سورة آل عمران أنها كانت لا تحيض.
﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ يعني: جبريل عليه السلام.
﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ أتاها جبريل -عليه السلام- متمثلًا بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (فَتَمَثَّل لهَا) بإدغام اللام الأولى في الثانية (١).
...
﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)﴾ [مريم: ١٨].
[١٨] فلما رأته يقصد نحوها ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ مطيعًا؛ أي: إن اتقيت، فستنتهي لتعوذي. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنِّيْ أَعُوذُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
...
﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩)﴾ [مريم: ١٩].
[١٩] ﴿قَالَ﴾ لها جبريل: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ﴾ قرأ
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨٥)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥).
أبو عمرو، ويعقوب، وورش عن نافع (لِيَهَبَ) بالياء بعد اللام؛ أي: ليهب لك ربك، وقرأ الباقون بخلاف عن قالون: (لِأهَبَ) بهمزة بين اللام والهاء (١)، وأخبر جبريل عن نفسه؛ لأنه الواهب بأمر ربه، ورسمها (لأهب) ﴿غُلَامًا زَكِيًّا﴾ ولدًا طاهرًا لا يقارف ذنبًا.
...
﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)﴾ [مريم: ٢٠].
[٢٠] ﴿قَالَتْ﴾ مريم: ﴿أَنَّى﴾ من أين ﴿يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ولم يقربني زوج ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ زانية تبغي الرجال، تلخيصه: إنما يكون الولد من نكاح أو سفاح، وليسا عندي، ولا أحدهما.
...
﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١)﴾ [مريم: ٢١].
[٢١] فثَمَّ ﴿قَالَ﴾ جبريل: ﴿كَذَلِكِ﴾ أي: كما قلتُ لك.
﴿قَالَ رَبُّكِ هُوَ﴾ أي: خلقُ ولدٍ بلا أب ﴿عَلَىَّ هَيِّنٌ﴾ سهل.
﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً﴾ علامة ﴿لِلنَّاسِ﴾ ودلالة على قدرتنا ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ لمن آمن به؛ لأنه سبب الرحمة.
﴿وَكَانَ﴾ ذلك ﴿أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ مقدرًا لا يرد.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٦).
قال ابن عباس: أنست به، فنفخ في جيب درعها، فَسَرتِ النفخةُ بإذن الله تعالى (١).
...
﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢)﴾ [مريم: ٢٢].
[٢٢] ﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ أي: حملت عيسى في بطنها.
﴿فَانْتَبَذَتْ بِهِ﴾ أي: انفردت وهو في بطنها.
﴿مَكَانًا قَصِيًّا﴾ بعيدًا من أهلها وراء الجبل بوادي بيت لحم قبل بيت المقدس، بينهما أربعة أميال؛ فرارًا من قومها أن يُعيِّروها بولادتها من غير زوج، وكانت مدة الحمل ساعة واحدة في قول ابن عباس، وقيل غير ذلك، وكان سنها ثلاث عشرة سنة، وقد ورد في حديث المعراج الشريف أن جبريل عليه السلام قال للنبي - ﷺ - حين أسري به: "انزلْ فصلِّ، فنزل فصلى، قال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام" (٢)، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يبعث بزيت يسرج في بيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام.
...
﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣)﴾ [مريم: ٢٣].
(١) رواه الحاكم في "المستدرك" (٤١٥٦)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٧٠/ ٨٦ - ٨٧).
(٢) تقدم تخريج حديث الإسراء والمعراج في "الصحيحين" وهذا لفظ النسائي في "سننه" (٤٥٠)، كتاب: الصلاة، باب: فرض الصلاة.
[٢٣] ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ﴾ وهو تحرك الولد للخروج وألم الولادة حتى ذهبت.
﴿إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ وكانت يابسة في الصحراء في شدة الشتاء، التجأت إليها؛ لتستند إليها، وتتمسك بها؛ إذ لم تكن لها قابلة تعينها، أو (١) لئلا يراها أحد.
﴿قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾ تمنت الموت استحياء من الناس، ومخافة لومهم. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِتُّ) بكسر الميم، والباقون: بضمها (٢).
﴿وَكُنْتُ نَسْيًا﴾ قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: (نَسْيًا) بفتح النون، والباقون: بكسرها (٣)، ومعناهما: حقيرًا.
﴿مَنْسِيًّا﴾ إذا أُلقي نسي، ولم يلتفت إليه.
...
﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)﴾ [مريم: ٢٤].
[٢٤] ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، وروح عن يعقوب: (مِنْ) بكسر الميم
(١) في "ت": "و".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٧).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٨٠)، والمصادر السابقة، وهذه القراءة والتي قبلها رويتا بخلاف عن عاصم.
(تَحْتِهَا) بخفض التاء، وقرأ الباقون: بفتح الميم ونصب التاء (١)، وهو جبريل -عليه السلام- وكانت مريم على أكمة، وجبريل -عليه السلام- وراء الأكمة تحتها، لما سمع كلامها، وعرف جزعها، ناداها:
﴿أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ نهرًا صغيرًا. قرأ أبو عمرو (جَعَل ربُكِ) بإدغام اللام في الراء (٢).
...
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥)﴾ [مريم: ٢٥].
[٢٥] روي أن جبريل -عليه السلام- أو عيسى -عليه السلام- ضرب بعقبه الأرض، فظهرت (٣) عين ماء عذب، فجرى النهر اليابس، فاخضرَّت النخلة وأثمرت وأينعت ثمرتها، فقيل لها: ﴿وَهُزِّى﴾ أي: حركي.
﴿إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ وأميليه إليك، والباء مزيدة للتأكيد، والهز: تحريك بجذب ودفع.
﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ﴾ قرأ حمزة: (تَسَاقَطْ) بفتح التاء والقاف وتخفيف السين، أصله: تتساقط، فحذف إحدى التاءين، وروى حفص عن عاصم: بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين، على وزن تُفاعِل، وساقط بمعنى:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٨١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٩).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٨٥)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٩).
(٣) في "ش": "فظهر".
أسقط، والتأنيث لأجل النخلة، وقرأ يعقوب: بالياء على التذكير وفتحها وتشديد السين وفتح القاف، رده إلى الجذع، أي: يتساقط، وقرأ الباقون: بفتح التاء والقاف وتشديد السين؛ أي: تتساقط، فأدغمت إحدى التاءين في السين (١) ﴿رُطَبًا جَنِيًّا﴾ أي: مجنيًّا.
...
﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)﴾ [مريم: ٢٦].
[٢٦] ﴿فَكُلِي﴾ من الرطب ﴿وَاشْرَبِي﴾ من ماء النهر.
﴿وَقَرِّي عَيْنًا﴾ طيبي نفسًا بعيسى، وبانتفاء التهمة عنك؛ بحمل النخلة اليابسة، وجري النهر اليابس؛ لأنه إذا شوهد ذلك، لم يستبعد وجود ولد بلا فحل، وقرة العين مأخوذة من القر، وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سخن، وإنما معنى قرة العين: أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع؛ إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت العين به و (عَيْنًا) نصب على التمييز ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ﴾ أي: فإن رأيت ﴿مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ فسألك عن ولدك.
﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ صمتًا، والصوم في اللغة: الإمساك عن الطعام والكلام، أُمرت أن تنذُرَ السكوت؛ لأن عيسى يكفيها، ولئلا تجادل
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٨٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٩ - ٥٠).
السفهاء، وعرفتهم بصيامها إشارة، وكان هذا في شريعتهم، ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتًا.
﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ آدميًّا؛ أي: أنا ممنوعة من كلام البشر.
...
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧)﴾ [مريم: ٢٧].
[٢٧] ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ فلما رأوه معها، بكَوْا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالح، ثم ﴿قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ﴾ أي: فعلت.
﴿شَيْئًا فَرِيًّا﴾ عظيمًا من الافتراء.
...
﴿يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)﴾ [مريم: ٢٨].
[٢٨] ﴿يَاأُخْتَ هَارُونَ﴾ كان رجلًا صالحًا عابدًا في بني إسرائيل، شُبهت به، روي أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفًا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل، سوى سائر الناس، شبهوها به على معنى: أنا ظننا أنك مثله في الصلاح، وليس المراد منه الأخوة في النسب.
﴿مَا كاَنَ أَبُوكِ﴾ عمران ﴿امْرَأَ سَوْءٍ﴾ زانيًا ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ أي: زانية، فمن أين لك هذا الولد؟!
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)﴾ [مريم: ٢٩].
[٢٩] ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ إلى عيسى عليه السلام؛ أي: كلموه ليجيبكم،
فغضب القوم، وقالوا: مع ما فعلت تسخرين بنا؟! ثم ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ﴾ أي: وجد.
﴿فِي الْمَهْدِ﴾ أي: في حجر أمه ﴿صَبِيًّا﴾ وكان عيسى يرضع.
﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾.
[٣٠] فقالت له: تكلم، فأقبل عليهم بوجهه، ثم اتكأ على يساره، وأشار بسبابته، ثم ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ اعترف بالعبودية وهو ابن يوم أو أربعين؛ لئلا يُعبد.
﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ قال الأكثرون: أوتي الإنجيل وهو صغيرٌ طفلٌ، وكان يعقل عَقلَ الرجال. قرأ حمزة: (آتَانِيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (١)، وقرأ أبو عمرو (فِي المَهْد صبِّيًّا) بإدغام الدال في الصاد (٢) ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾.
...
﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾.
[٣١] ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾ على من آمن بي واتبعني.
﴿أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي﴾ أمرني.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٣).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨٥)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٣).
﴿بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)﴾ قرأ الكسائي: (آتَانِي) (وَأَوْصَانِي) بالإمالة، والباقون: بالفتح (١).
...
﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢)﴾ [مريم: ٣٢].
[٣٢] ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾ أي: وجعلني برًّا بها؛ أي: كثير الإحسان إليها.
﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ بمخالفته.
...
﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)﴾ [مريم: ٣٣].
[٣٣] ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ﴾ أي: السلامة عند الولادة من طعن الشيطان.
﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ عند الموت من الشرك.
﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ من الأهوال، ولما كلمهم عيسى بهذا، علموا براءة مريم، ثم سكت عيسى ولم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان.
...
﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)﴾ [مريم: ٣٤].
[٣٤] ﴿ذَلِكَ﴾ المعنى ذلك الذي هذه قصته.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٣ - ٤٤).
﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ لا ما يقول النصارى من أنه إله، أو أنه ابن الله.
﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾ قرأ ابن عامر، وعاصم، ويعقوب: (قَوْلَ الْحَق) بنصب اللام؛ أي: قالَ قولَ الحق، وقرأ الباقون: برفعها (١)، أي: هذا الكلام قول الحق، والحق هو الله سبحانه.
﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ يشكُّون ويختلفون؛ لأن اليهود قالوا: عيسى ساحر كذاب، وبعض النصارى قال: هو الله، وبعضهم: ولده، وبعضهم: شريكه، وكذبوا جميعًا.
...
﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)﴾ [مريم: ٣٥].
[٣٥] ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ أي: ما ينبغي له ذلك، وجيء بـ (مِنْ) للنفي العام؛ [لأنك إذا قلت: ما عندي رجل، جاز أن يكون عندك أكثر من رجل] (٢)، وإذا قلت: ما عندي من رجل، نفيت أن يكون عندك واحد وأكثر ﴿سُبْحَانَهُ﴾ عن صفات المخلوقين.
﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أراد كونه ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ قرأ ابن عامر:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٨٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٥)، وقراءة يعقوب في "النشر".
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ش".
(فَيَكُونَ) بنصب النون؛ لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبًا، وقرأ الباقون: بالرفع على معنى: فهو يكونُ (١).
...
﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)﴾ [مريم: ٣٦].
[٣٦] ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ أطيعوه؛ لاختصاصه بالربوبية.
﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي: هو الطريق المشهود له بالاستقامة. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب، (وإنَّ الله) بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون: بفتحها عطفًا على ما قبل (٢)؛ أي: أوصاني بالصلاة والزكاة، وبأن الله.
...
﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)﴾ [مريم: ٣٧].
[٣٧] ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ أي: اليهود والنصارى، فجعله اليهود ولد زنا، والنصارى إلهًا.
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي: شهودهم يوم القيامة.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٦).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٨٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٦).
﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨)﴾ [مريم: ٣٨].
[٣٨] ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ أي: ما أسمعَهم وأبصرَهم.
﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ حين لا ينفعهم ذلك، لأنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا أو لم يبصروا في الدنيا.
﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: خطأ بَيِّن.
...
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩)﴾ [مريم: ٣٩].
[٣٩] ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ هو يوم القيامة يقع فيه الندم على ما فات ﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فرغ من الحساب، واستقر كلٌّ في مقره (١)، ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، ويذبح، وينادى على أهل النار وأهل الجنة: خلود بلا موت؛ كما ورد به الحديث الصحيح عن النبي - ﷺ - (٢).
﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ عن الاهتمام لذلك المقام.
﴿وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لا يصدقون به في الدنيا.
...
﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠)﴾ [مريم: ٤٠].
[٤٠] ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ بأن نهلك جميع سكانها.
(١) في "ت": "مستقره".
(٢) رواه البخاري (٤٤٥٣)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ [مريم: ٣٩]، ومسلم (٢٨٤٩)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ في الآخرة، فيجازون. قرأ يعقوب: (يَرْجِعُونَ) بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون: بضم الياء وفتح الجيم (١).
...
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١)﴾ [مريم: ٤١].
[٤١] ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾ قرأ هشام: (أَبْرَاهَامَ) بالألف (٢).
﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ مبالِغا في الصدق بجميع ما صدر عن الله.
﴿نَبِيًّا﴾ النبي العالي في الرتبة بإرسال الله إياه.
...
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)﴾ [مريم: ٤٢].
[٤٢] ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ﴾ آزر وهو يعبد الأصنام: ﴿يَاأَبَتِ﴾ قرأ أبو جعفر، وابن عامر: (يَا أَبَتَ) بفتح التاء حيث وقع، والباقون: بكسرها، ووقفًا: (يَا أَبَهْ) بالهاء، ووافقهما في الوقف ابن كثير، ويعقوب (٣).
﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ﴾ صوتًا ﴿وَلَا يُبْصِرُ﴾ العبادة ﴿وَلَا يُغْنِي عَنْكَ﴾ أي: لا يدفع ﴿شَيْئًا﴾ من عذاب الله عنك؟!
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٧).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٨).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٨).
﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣)﴾ [مريم: ٤٣].
[٤٣] ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ﴾ بالله والبيان.
﴿مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي﴾ على ديني ﴿أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ مستقيمًا.
...
﴿يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤)﴾ [مريم: ٤٤].
[٤٤] ﴿يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ لا تطعه بعبادة الأصنام.
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ عاصيًا.
...
﴿يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥)﴾ [مريم: ٤٥].
[٤٥] ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ﴾ يصيبك.
﴿عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ قريبًا في النار. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنِّيْ أَخَافُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (١).
...
﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)﴾ [مريم: ٤٦].
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٨).
[٤٦] ﴿قَالَ﴾ آزرُ توبيخًا: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي﴾ أي: عن عبادة الأصنام.
﴿يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ عن شتم الأصنام ﴿لأَرْجُمَنَّكَ﴾ قال ابن عباس: معناه: لأضربنك (١)، وقيل: لأشتمنك ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ حينًا طويلًا.
...
﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)﴾ [مريم: ٤٧].
[٤٧] ﴿قَالَ﴾ إبراهيم: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ أي: سلمت من أن أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره.
﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ سأسأل الله لك توبة تنال بها المغفرة.
﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ بليغًا في البر واللطف. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ إنه) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
...
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)﴾ [مريم: ٤٨].
[٤٨] ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ﴾ تعبدون.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٨٩)، و"تفسير القرطبي" (١١/ ١١١).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٩).
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من الأصنام، فارتحل من كوثا إلى الأرض المقدسة ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ أعبدُه.
﴿عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي﴾ بعبادته.
﴿شَقِيًّا﴾ أي: عسى أن يجيبني فيك، ولا يخيبني.
...
﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩)﴾ [مريم: ٤٩].
[٤٩] ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فذهب مهاجرًا.
﴿وَهَبْنَا لَهُ﴾ بعد الهجرة.
﴿إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ أولادًا كرامًا على الله، يأنس بهم بدلَ الكفار.
﴿وَكُلًّا﴾ من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴿جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾.
...
﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)﴾ [مريم: ٥٠].
[٥٠] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ نعمتنا، وهو ما بسط الله لهم، في الدنيا من سعة الرزق.
﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ أي: ثناءً حسنًا في جميع أهل الأديان، فكلهم يتولونهم، ويثنون عليهم.
...
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥١)﴾ [مريم: ٥١].
[٥١] ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا﴾ قرأ الكوفيون (مُخْلَصًا)
بفتح اللام؛ أي: مختارًا اختاره الله لعبادته ونبوته، وقرأ الباقون: بكسرها (١) أي: أخلص هو نفسه لله وحده.
﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ والرسول من الأنبياء: الذي يكلف تبليغ أمة، وقد يكون نبي غيرَ رسول.
...
﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢)﴾ [مريم: ٥٢].
[٥٢] ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾ من موسى، لا من الجبل؛ لأن الجبل لا يمين له، إنما ذلك بالنسبة إلى الشخص، والطور: جبل بين مصر ومدين، ويقال: اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار، فنودي: ﴿يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠)﴾ [القصص: ٣٠].
﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ أي: مناجيًا، قال ابن عباس: معناه: قربه فكلمه (٢) ومعنى التقريب: إسماعه كلامه.
...
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣)﴾ [مريم: ٥٣].
[٥٣] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ من نعمتنا عليه.
﴿أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ وذلك حين سأل ربه فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩)
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٩٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٤٩).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٩١).
هَارُونَ أَخِي (٣٠)} [طه: ٣٠ - ٣١]، فأجاب الله دعاءه، وأرسل إلى هارون، ولذلك سماه هِبةً له.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤)﴾ [مريم: ٥٤].
[٥٤] ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ﴾ هو ابن إبراهيم عليهما السلام، وهو الذبيح في قول الجمهور، وقالت فرقة: الذبيح إسحاق، والراجح الأول؛ لأن أمر (١) الذبح كان بمنى عند مكة بلا خلاف بين العلماء، وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد.
﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ لم يعد أحدًا شيئًا إلا وفى به، روي أنه ومحمد رجلًا (٢) أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه، فأقام إسماعيل مكانه يومه وليلته حتى رجع إليه الرجل، وقيل: انتظره سنة، قال ابن عطية: وهو بعيد غير صحيح، والأول أصح (٣).
﴿وَكَانَ رَسُولًا﴾ إلى جرهم ﴿نَبِيًّا﴾ مخبرًا عن الله -عز وجل-.
﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)﴾ [مريم: ٥٥].
[٥٥] ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ﴾ قومه وأمته.
﴿بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ التي افترضها الله عليهم.
(١) "أمر" زيادة من "ت".
(٢) في "ش": "رجلان".
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٢١).
﴿وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ صالحًا زكيًّا (١)؛ لأنه قام بطاعته.
...
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٥٦)﴾ [مريم: ٥٦].
[٥٦] ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ﴾ وهو جد أبي نوح، واسمه حنوخ -بحاء مهملة ونون وواو وخاء معجمة-، وسمي إدريس، لكثرة درسه الكتب، وهو ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وكان إدريس خياطًا، وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكان من قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم الحساب، وأدرك إدريس من حياة شيث جد جده عشرين سنة، ولما صار له من العمر ثلاث مئة وخمس وستون سنة، رفعه الله إلى السماء، وكان قد نبأه الله تعالى، وانكشفت له الأسرار السماوية، ونزل عليه جبريل أربع مرات، وله صحف منها: لا تروموا أن تحيطوا بالله خبرة؛ فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين، إلا من آثره. ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾.
...
﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)﴾ [مريم: ٥٧].
[٥٧] ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ الجنة؛ لأنه روي أنه أذيق الموت ساعة، ثم أُحيي، ثم أُدخل الجنة ولم يخرج منها، وقيل: رفع إلى السماء الرابعة، وروي ذلك عن النبي - ﷺ - (٢)، وقال كعب: صعد به ملك من الملائكة إلى
(١) في "ت": "زاكيًا".
(٢) وقد تقدم ذلك في حديث الإسراء والمعراج.
السماء، فلما صار في الرابعة، قبض روحه (١).
واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت؟ فقال قوم: هو ميت، وقال قوم: هو حي، وقالوا: أربعة من الأنبياء في الأحياء: اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى عليهم السلام.
...
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)﴾ [مريم: ٥٨].
[٥٨] ﴿أُولَئِكَ﴾ النبيون المذكورون من زكريا إلى إدريس ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾، وقوله: ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ يريد: إدريس ونوحًا ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ في السفينة، يريد: إبراهيم؛ لأنه من ولد سام بن نوح ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ يريد: إسماعيل وإسحق ويعقوب ﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾ يعني: ومن ذرية إسرائيل: موسى وهارون وزكريا ويحيى، وعيسى بن مريم من ذريته ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾ أرشدنا واصطفينا.
﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ من خشية الله، أخبر تعالى أن الأنبياء كانوا يسجدون ويبكون لسماع آيات الله. قرأ حمزة، والكسائي: (وَبكِيًّا) بكسر الباء، والباقون: بضمها (٢)، وهذا محل سجود بالاتفاق، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في سجود التلاوة وحكمه وسجود الشكر
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٩٢).
(٢) سلفت عند تفسير الآية (٨) من هذه السورة.
261
مستوفىً آخر سورة الأعراف. وملخصه أنه كالصلاة يشترط له الطهارة واستقبال القبلة بالاتفاق، ولا يسجد له في وقت نهي عند الثلاثة؛ خلافًا للشافعي، وأما حكمه، فقال أبو حنيفة: هو واجب على التالي والسامع، سواء قصد السماع، أو لم يقصد، ويكبر ويسجد بلا رفع يد، ثم يكبر [ويرفع بلا تشهد ولا سلام، وقال مالك: هو فضيلة للقارئ وقاصد الاستماع، ويكبر] (١) لخفضه ورفعه، وليس له تسليم، وقال الشافعي: هو سنة للقارئ والمستمع [والسامع، وينوي ويكبر للإحرام رافعًا يديه، ثم للهوي بلا رفع، ويسجد كسجدة الصلاة، ويرفع مكبرًا، ويسلم من غير تشهد، وقال أحمد: هو سنة للقارئ والمستمع] (٢) دون السامع، وسجوده عن قيام أفضل، ويكبر إذا سجد وإذا رفع، والسلام ركن، وتجزئ واحدة بلا تشهد، وأما سجود الشكر، فقال أبو حنيفة ومالك (٣): هو مكروه، فيقتصر على الحمد والشكر باللسان، وخالف أبو يوسف ومحمد أبا حنيفة، فقالا: هي قربة يثاب فاعلها، وقال الشافعي وأحمد: يسن، وحكمه عندهما كسجود التلاوة، لكنه لا يفعل في الصلاة، وقد وقع الكلام على ذلك بأتم من هذا آخر سورة الأعراف، وذكر اختلاف الأئمة في عدد السجدات ومكانها (٤)، ونبه على كل شيء في محله فيما مضى من السجدات، وسيأتي التنبيه على ما بقي منها في محل كل سجدة إن شاء الله تعالى.
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) "ومالك" زيادة من "ت".
(٤) في "ت": "محلها".
262
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)﴾ [مريم: ٥٩].
[٥٩] ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد الأنبياء المذكورين ﴿خَلْفٌ﴾ وهم قوم سوء (فالخلْف) -بسكون اللام-: الطالح، وبفتحها: الصالح، والتلاوة بالأولى (١)، والمراد بالخلف هنا: أهل الكتابين والمجوس ومن لحق بهم.
﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضة بتركها ﴿وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ ملاذ النفس المحرمة ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ وهو واد في جهنم تستعيذ أودية جهنم من حره، أعده الله للزاني المصر عليه، وشارب الخمرة المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور.
...
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠)﴾ [مريم: ٦٠].
[٦٠] ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ من الشرك ﴿وَآمَنَ﴾ صدَّق النبي.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أدى الفرائض.
﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يَدْخُلُونَ) بفتح الياء وضم الخاء، والباقون: بضم الياء وفتح الخاء (٢) ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ لا ينقصون من أعمالهم شيئًا.
(١) في "ت": "بالأول".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١)﴾ [مريم: ٦١].
[٦١] ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ﴾ أي: وعدهم بها وهي غائبة عنهم.
﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ آتيًا.
...
﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢)﴾ [مريم: ٦٢].
[٦٢] ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا﴾ أي: في الجنة.
﴿لَغْوًا﴾ أي: ما يلغى من الكلام ويؤثم.
﴿إِلَّا سَلَامًا﴾ أي: لكن سلامًا بمعنى: سلامة.
﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ طرفي النهار، ولأنهار ثَمَّ ولا ليل، بل المراد: مقدارهما.
...
﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (٦٣)﴾ [مريم: ٦٣].
[٦٣] ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ﴾ نعطي ﴿مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ متقيًا لله تعالى. قرأ رويس عن يعقوب (نُوَرِّثُ) بفتح الواو وتشديد الراء، والباقون: بالإسكان والتخفيف (١).
...
= ٣٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٠).
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥١).
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)﴾ [مريم: ٦٤].
[٦٤] ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ هو قول جبريل عليه السلام لما استبطأه النبي - ﷺ -، فقال له: ذلك لأنا عبيد مأمورون لا نفعل شيئًا إلا بإذن.
﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ الآخرة ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ الدنيا ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ وما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة.
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ أي: مما يلحقه النسيان.
...
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)﴾ [مريم: ٦٥].
[٦٥] ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من الخلق ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ اصبر على أمره ونهيه ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ أي: شبيها ونظيرًا. قرأ أبو عمرو: (لِعِبَادَتِه هلْ) بإدغام الهاء في الهاء، (وَاصْطَبِر لعِبَادَتِه): بإدغام الراء في اللام، بخلاف عنه في الثاني (١).
...
﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦)﴾ [مريم: ٦٦].
[٦٦] [وكان أُبيُّ بن خَلَفٍ ينكر البعث، ففتَّت عظمًا، وقال: أنبعث
(١) انظر: "غيث النفع" للصفاقسي (ص: ٢٨٦)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٢).
بعد ما صرنا كذا؟! فنزل] (١): ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ (٢) قاله استهزاء وتكذيبًا. واختلف القراء في (أَئِذَا)، فقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (إِذَا) بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ الباقون: بهمزتين على الاستفهام، فالكوفيون، وهشام، وروح، وابن ذكوان بخلاف عنه: يحققون الهمزتين، والباقون: يحققون الأولى، ويسهلون الثانية، ومنهم أبو جعفر، وقالون، وأبو عمرو، ويفصلون بينهما بألف، واختلِف عن هشام في الفصل مع تحقيق الهمزتين (٣).
...
﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧)﴾ [مريم: ٦٧].
[٦٧] ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ﴾ المعنى: أيقول الإنسان: سأخرج حيًّا بعد الموت، ولا يتأمل خلقنا له ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: قبل هذه الحالة.
﴿وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ فيستدل على أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة.
قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: (يَذْكُرُ) بتخفيف الذال والكاف مع ضم الكاف؛ من الذكر، وقرأ الباقون: بتشديدهما وفتح الكاف (٤)؛ من التذكُّر (٥): التفكر.
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧٢).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٧٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٢ - ٥٣).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٣).
(٥) في "ت": "التذكير".
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)﴾ [مريم: ٦٨].
[٦٨] ثم أقسم بنفسه تعالى فقال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ أي: الكفار.
﴿وَالشَّيَاطِينَ﴾ معهم؛ لأن كل كافر يحشر مع شيطانه في سلسلة.
﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ﴾ قبل دخولهم إياها ﴿جِثِيًّا﴾ جمع جاثٍ؛ أي: جاثين على الركب، وهي قعدة الخائف الذليل على ركبتيه، كالأسير ونحوه؛ لهول ذلك الوقت، وضيق المكان.
...
﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٦٩)﴾ [مريم: ٦٩].
[٦٩] ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ﴾ لنخرجَنَّ ﴿مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾ طائفةً.
﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ جرأة، يبدأ بالأكثر جرمًا، فالأكثر، ثم الذين يلونهم؟ الأعتى فالأعتى منهم.
...
﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠)﴾ [مريم: ٧٠].
[٧٠] ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا﴾ دخولًا؛ أي: نحن أعلم بالذين هم أحق بالعذاب ودخول النار، المعنى: نحشرهم، ثم نخرج الأعصى فالأعصى منهم، ثم نُدخل النار أولًا أحقَّهم بها، ثم أحقهم بها، على قدر ذنوبهم. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (جِثيًّا) في الحرف المتقدم والآتي و (عِتِيًّا) و (صِلِيًّا) بكسر أولهن (١)، والباقون: بالضم (٢).
(١) في "ت": "أوائلهن".
(٢) انظر تفسير الآية (٨) من هذه السورة.
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١)﴾ [مريم: ٧١].
[٧١] ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ﴾ أي: وما منكم ﴿إِلَّا وَارِدُهَا﴾ داخلها، وأصل الورود: الحضور، ويطلق على الحضور والدخول، فعلي وابن عباس -رضي الله عنهما- يفسران الورود بالدخول، لكنها تكون (١) على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم، وعلى الكافرين نارًا، روي أنهم يمرون عليها لا يحسون بها؛ لخمودها، في الحديث: "تقول النار للمؤمن: جُزْ فقد أطفأ نورُك لهبي" (٢).
﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ حتم الأمر: أوجبه، أي: لازمًا قضاه الله عليكم.
...
﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢)﴾ [مريم: ٧٢].
[٧٢] ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشرك. قرأ الكسائي، ويعقوب: (نُنْجِي) بإسكان النون الثانية مخففًا، والباقون: بفتحها مشددًا (٣).
﴿وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ على الركب، تلخيصه: ورودكم جهنم لا بد منه، ثم نخلص المؤمن منها، ونترك الكافر معذبًا فيها.
(١) "تكون" زيادة من "ت".
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (٢٢/ ٢٥٨)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (٦/ ٣٩٤)، وتمام الرازي في "فوائده" (٩٦٠)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٩/ ٣٢٩)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (٥/ ١٩٣)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٣٧٥)، عن يعلى بن منية رضي الله عنه.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٠٠ و ١٠٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٥).
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)﴾ [مريم: ٧٣].
[٧٣] ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ يعني: القرآن وما بَيَّن الله فيه.
﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: مشركي قريش: النضر بن الحارث وأصحابه.
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني: فقراء أصحاب محمد - ﷺ -، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة، وفي ثيابهم رثاثة، وكان المشركون يرجلون شعورهم، ويدهنون رؤوسهم، ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين:
﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا﴾ منزلًا ومسكنًا. قرأ ابن كثير: (مُقَامًا) بضم الميم: ظرف من قام، والباقون: بفتحها (١): مصدر من قام.
﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ مجلسًا، المعنى: قال المشركون للمؤمنين؛ احتقارًا بهم: أينا أطيب عيشًا وأحسن مجلسًا نحن أو أنتم؟
...
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤)﴾ [مريم: ٧٤].
[٧٤] فأجابهم الله تعالى فقال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ أمة.
﴿هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا﴾ لباسًا وأموالًا ﴿وَرِئْيًا﴾ قرأ أبو جعفر، وقالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر (٢): (وَرِيًّا) بتشديد الياء غير مهموز؛ من
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٦).
(٢) "عن ابن عامر" ساقطة من "ت".
الري بمعنى النعمة (١)، وقرأ الباقون: بهمزة ساكنة بين الراء والياء (٢): هو المنظر والهيئة، (وَزِيًّا) بالمعجمة؛ من الزينة، والتلاوة بالأول والثاني.
...
﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (٧٥)﴾ [مريم: ٧٥].
[٧٥] ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ﴾ أي: الكفر ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ هذا أمر بمعنى الخبر؛ أي: يمهله في غَيِّه ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ﴾ في الدنيا؛ بأن ينصر الله المسلمين عليهم، فيعذبهم بالقتل والأسر.
﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾ يعني: القيامة، فيصيرون إلى النار.
﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا﴾ منزلًا إذا صاروا في النار ﴿وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ عددًا وقوة إذا نصر الله المسلمين.
...
﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)﴾ [مريم: ٧٦].
[٧٦] ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ آمنوا بالإيمان ﴿هُدًى﴾ إيمانًا ورشدًا ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ الأعمال الصالحة؛ من الذكر وغيره.
﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ عاقبة.
...
(١) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٢) المصادر السابقة.
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧)﴾ [مريم: ٧٧].
[٧٧] ونزل فيمن سخر بالبعث، وهو العاص بن وائل السهمي: قال خباب بن الأرت: كان لي على العاص بن وائل دين، فتقاضيته، فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد، قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم بعثت، فسيكون لي ثَمَّ مال وولد، فأعطيك، فإنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة؛ استهزاء واستخفافًا، فنزل قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ (١) قرأ حمزة والكسائي: (وَوُلْدًا) بضم الواو وإسكان اللام في هذا الحرف، وفي الثلاثة الآتية: جمع ولد كأسَد وأُسْد، وقيل -بالفتح-: الابن والابنة، وبالضم: الأهل، وقرأ الباقون: بفتح الواو واللام فيهن (٢).
...
﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨)﴾ [مريم: ٧٨].
[٧٨] ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ أي: نظر في اللوح المحفوظ.
﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ أي: عهد إليه أنه يعطيه ذلك.
...
(١) رواه البخاري (٤٤٥٥)، كتاب: التفسير، باب: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾، ومسلم (٢٧٩٥)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي - ﷺ - عن الروح.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٨).
﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩)﴾ [مريم: ٧٩].
[٧٩] ﴿كَلَّا﴾ رد عليه، يعني: أنه مخطئ فيما تصوره لنفسه.
﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ سنحفظ عليه قوله، فنجازيه عليه.
﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ نزيده عذابًا فوق عذابه.
...
﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠)﴾ [مريم: ٨٠].
[٨٠] ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ أي: نهلكه ونورث ماله وولده غيرَه.
﴿وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ بلا أهل ولا مال.
...
﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)﴾ [مريم: ٨١].
[٨١] ﴿وَاتَّخَذُوا﴾ يعني: مشركي قريش.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً﴾ أصنامًا يعبدونها ﴿لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ ليعتزوا بهم.
...
﴿كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)﴾ [مريم: ٨٢].
[٨٢] ﴿كَلَّا﴾ تفسيرها كالتي تقدمت ﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾ أي: ستجحد الآلهة عبادة المشركين.
﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ﴾ على المشركين ﴿ضِدًّا﴾ أي: ضد العز، وهو الذل.
***
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)﴾ [مريم: ٨٣].
[٨٣] ثم عَجَّب تعالى نبيه - ﷺ - منهم بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ﴾ سلَّطناهم ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ تزعجهم إزعاجًا، وتسوقهم إلى المعاصي بسرعة، وأصل الأَزِّ: الحركة مع صوت متصل؛ من أزيز القِدْر: غليانها.
...
﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)﴾ [مريم: ٨٤].
[٨٤] ثم سلَّاه بقوله: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾ بطلب العذاب قبل حينه.
﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ﴾ أنفاسهم وأعمارهم وأعمالهم؛ ليستوفوا آجالهم.
﴿عَدًّا﴾ فلا يزادون عليها، ولا ينقصون منها.
...
﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥)﴾ [مريم: ٨٥].
[٨٥] ﴿يَوْمَ﴾ أي: واذكر يا محمد يوم.
﴿نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ﴾ نجمعهم من قبورهم.
﴿إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ ركبانًا، جمع وافد.
...
﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦)﴾ [مريم: ٨٦].
[٨٦] ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ جمع وارد، فيساقون رجَالة عطاشًا قد تقطعت أعناقهم من العطش.
***
﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧)﴾ [مريم: ٨٧].
[٨٧] ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾ أي: لا يشفع ثَمَّ ﴿إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ توحيدًا وإيمانًا، المعنى: لا يشفع إلا المؤمن المأمور بالشفاعة المأذون له فيها، ولا يشفع إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، وروي أن أهل العلم والفضل والصلاح يَشفعون فيُشفعون.
...
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨)﴾ [مريم: ٨٨].
[٨٨] ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ يعني: اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله.
...
﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩)﴾ [مريم: ٨٩].
[٨٩] ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾ منكرًا عظيمًا.
...
﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠)﴾ [مريم: ٩٠].
[٩٠] ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ﴾ قرأ نافع، والكسائي: (يَكَادُ) بالياء على التذكير؛ لتقدم الفعل، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث؛ لتأنيث (السَّموات) (١).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، =
﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، والكسائي، وحفص عن عاصم: بالتاء وفتح الطاء مشددة من التفطر، وقرأ الباقون: بالنون وكسر الطاء مخففة؛ من الانفطار، ومعناهما واحد (١)؛ أي: يتشققن ﴿مِنْهُ﴾ أي (٢): من قولهم الكفر ﴿وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ﴾ أي: تنخسف.
﴿وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ أي: سقوطًا من سماع قولهم.
...
﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١)﴾ [مريم: ٩١].
[٩١] ﴿أَنْ دَعَوْا﴾ يعني: لأن جعلوا ﴿لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾.
...
﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢)﴾ [مريم: ٩٢].
[٩٢] ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ المعنى: لا يتأتى له تعالى اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد إنما يكون لحاجة ومجانسة، والله تعالى منزه عن ذلك؛ لامتناعهما في حقه سبحانه.
...
﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣)﴾ [مريم: ٩٣].
[٩٣] ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: ما منهم.
= و"تفسير البغوي" (٣/ ١٠٨)، و"معجم القراءَات القرآنية" (٤/ ٦١)، وقرأ "يكاد" نافع والكسائي، دون حفص.
(١) المصادر السابقة.
(٢) "أي" زيادة من "ت".
﴿إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ﴾ يوم القيامة ﴿عَبْدًا﴾ ذليلًا خاضعًا.
واستدل بعض العلماء على أن الولد يعتق على والده إذا ملكه بأي وجه من وجوه الملك، وأن الولد لا يكون عبدًا بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ إلى قوله: ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾، وقد اتفق الأئمة على أن من ملك والديه، وإن علوا، وأولاده، وإن سفلوا، فإنهم يعتقون عليه بملكه لهم، وأن ولاءهم له، واختلفوا فيما عدا الوالدين، والمولودين فقال أبو حنيفة وأحمد: كل ذي رحم محرم منه إذا ملكه، عتق عليه، وله ولاؤه، وقال مالك في المشهور عنه: يعتق عليه الوالدون والمولودون من علو وسفل، والإخوة والأخوات من كل جهة فقط دون أولادهم، وقال الشافعي: لا يعتق إلا عمود النسب من عُلْو وسُفْل فقط.
...
﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤)﴾ [مريم: ٩٤].
[٩٤] ﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ عَلِمَهم كلَّهم، فلا يخفى عليه أحد.
...
﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥)﴾ [مريم: ٩٥].
[٩٥] ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥)﴾ وحيدًا من ماله وولده، والكل اسم لجملة مرعية عن أجزاء محصورة، وكلمة (كل) عام تقتضي عموم الأسماء والإحاطة على سبيل الانفراد، وكلمة (كما) تقتضي عموم الأفعال.
***
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦)﴾ [مريم: ٩٦].
[٩٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ محبة.
...
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (٩٧)﴾ [مريم: ٩٧].
[٩٧] ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ﴾ سهلنا القرآن ﴿بِلِسَانِكَ﴾ بلغتك يا محمد.
﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: المؤمنين. قرأ حمزة: (لِتَبْشُرَ) بفتح التاء وتخفيف الشين وضمها؛ من البشر، وهو البشرى والبشارة، والباقون: بضم التاء وتشديد الشين مكسورة (١)؛ من بَشَّر المضعف على التكثير ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ جمع ألد، وهو الشديد الخصومة.
...
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨)﴾ [مريم: ٩٨].
[٩٨] ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ أمة ﴿هَلْ تُحِسُّ﴾ أي: ترى.
﴿مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ صوتًا خفيًّا، والله أعلم.
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧ - ٨٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٦٢).
Icon