تفسير سورة السجدة

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿الم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿لاَ رَيْبَ﴾ لا شك
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ أي اختلق محمد هذا القرآن ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ وهم قريش خاصة، أو العرب كافة. وبذلك تكون من أهل الفترة؛ قبل بعثته عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقد كانوا مكلفين باتباع إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام؛ وذلك مصداق قوله جل شأنه ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ لكنهم تحولوا إلى عبادة الأصنام؛ التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق به تعالى، وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود
﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ﴾ مدة بقاء الدنيا. وتدبير الأمر: أمره تعالى بما يصلح البلاد والعباد: من نزول أمطار، ونمو أشجار، وازدهار أثمار، وجريان أنهار، وإماتة أحياء، وإحياء أموات. فتعالى الخالق المصور، الرازق المدبر ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ أي يصعد إليه ذلك الأمر، ونتائجه ليفصل فيه: لقد أمر تعالى بنعمة لبعض عباده؛ هل شكروها، أم كفروها؟ وأمر لبعض عباده ببلاء؛ هل صبروا على بلواهم. أم قنطوا من رحمة مولاهم؟ ووسع على بعض عباده في الرزق؛ هل أعطوا منه الفقير، أم بخلوا وعندهم الكثير؟ وضيق على بعضهم؛ فهل لجأوا له بالطلب، وجأروا إليه بالدعاء، أم يئسوا من روحالله؛ ولا ﴿يبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ﴾ فتصعد إليه تعالى أوامره وما تم فيها - وهو جل شأنه أعلم بها من فاعلها وحاملها - وذلك ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ وهو يوم القيامة ﴿ذلِكَ﴾ الإله القادر القاهر، رب الأرباب، ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، وخالق السموات والأرضين؛ وما بينهما من حيوان وطير وجماد وآدميين، وغيرهم من المخلوقين «ذلك» هو مدبر الأمر
﴿عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ رب العالمين
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ أي أحسن خلق كل شيء خلقه. فلو تصورت مثلاً أن للفيل مثل رأس الجمل، أو للجمل مثل رأس الأسد، أو للإنسان مثل رأس الحمار: لوجدت في ذلك خللاً عظيماً، ونقصاً كبيراً؛ وعدم تناسب في الخلقة، وانعدام الانسجام بين الأعضاء مع حاجة المخلوق إليها على حالتها؛ بالنسبة لبيئته ورغبته؛ لأنك لو علمت أن طول عنق الجمل وشق شفته: سببه حاجة الناس إليه في الأسفار الطويلة، وحاجته هو إلى تناول الكلإ أثناء سيره. وأن الفيل لولا خرطومه الطويل: لما استطاع أن يبرك بجسمه الثقيل ليتناول طعامه وشرابه. وهكذا سائر المخلوقات من شتى الصور والأجناس؛ حتى الجمادات فقد اختصها الله تعالى بأشكال جذابة يسرح البصر في محاسنها، وألوان خلابة يتوه الفكر في مفاتنها فإنك لو تأملت ذلك، وتدبرت ما هنالك: لتيقنت أنه ليس في مقدور البشر، وأنه ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ﴾ وهو آدم عليه السلام
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ﴾ خلاصة؛ وهي المني. و «السلالة»: ما انسل من الشيء؛ سمي به المني: لأنه ينسل من سائر البدن، أو هو ينسل من النخاع ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ﴾ ﴿مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ ضعيف: لا قوة فيه، ولا أثر له بنفسه: وهو النطفة
﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ جعله مستوي الأعضاء، تام الخلقة، جميل الصورة ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ المملوكة له تعالى؛ والتي لا يستطيع مخلوق أن يهبها ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ الذي به تسمعون، وعنه تسألون ﴿وَالأَبْصَارَ﴾ التي بها تبصرون، وعنها تحاسبون ﴿وَالأَفْئِدَةَ﴾ التي بها تعقلون، وبواسطتها تهتدون. وكل هؤلاء جعلها الله تعالى أداة لتلقي الإيمان، وقبول الهداية؛ والإنسان عن جميعها مؤاخذ مسؤول ألا ترى إلى قول العزيز الجليل «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً»
﴿وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ﴾ أي إذا متنا وصرنا حطاماً ورفاتاً، واختلطنا بتراب الأرض، وضاعت معالم أجسامنا ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي نخلق خلقاً جديداً بعد هذا؟
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: نعم ﴿يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ أي كلف بقبض أرواحكم ﴿ثُمَّ﴾ تبعثون، و ﴿إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة، فيعاقبكم بذنوبكم، ويعذبكم على كفركم
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ﴾ الكافرون، المنكرون للبعث: حين يبعثون ﴿نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ﴾ مطأطئوها من الذل والخزي والهوان؛ ويقولون ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا﴾ بأعيننا البعث الذي كنا به نكذب ﴿وَسَمِعْنَا﴾ الحق الذي كنا له ننكر ﴿فَارْجِعْنَا﴾ إلى الدنيا ﴿نَعْمَلْ﴾ عملاً ﴿صَالِحاً﴾ كما أمرت ﴿إِنَّا﴾ الآن، بعد ظهور
-[٥٠٦]- البرهان ﴿مُوقِنُونَ﴾ بصحة ألوهيتك، وصدق رسلك
﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ﴾ من هذه الأنفس ﴿هُدَاهَا﴾ في دنياها؛ على سبيل القسر والإلجاء. أو ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ﴾ تطلب الرجعة إلى الدنيا «هداها» ورددناها إلى الدنيا ﴿وَلَكِنْ حَقَّ﴾ وجب ﴿الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ﴾ كفرة الجن وعصاتهم ﴿وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ الذين كفروا بي؛ بعد ظهور آياتي، وكذبوا رسلي؛ بعد إبداء معجزاتهم، وتوالى براهين صدقهم فكيف نردهم ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾
﴿فَذُوقُواْ﴾ العذاب ﴿بِمَا نَسِيتُمْ﴾ بسبب نسيانكم ﴿لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ﴾ وإنكاركم للبعث والحساب، والثواب والعقاب ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾
أي تركناكم كالمنسيين ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ الدائم؛ الذي لا انقطاع له
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ ويصدق برسالاتنا ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا﴾ أي تليت عليهم ﴿خَرُّواْ سُجَّداً﴾ لله ﴿وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن طاعته، وعن عبادته
﴿تَتَجَافَى﴾ تتنحى وتتباعد ﴿جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ أي أن نومهم قليل، وسهرهم طويل؛ لانقطاعهم إلى الله تعالى، وحرصهم على عبادته ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً﴾ من غضبه وعقوبته ﴿وَطَمَعاً﴾ في رحمته وجنته
﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾ كافراً
﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾ التي يأوي إليها كل مؤمن ﴿نُزُلاً﴾ النزل: ما يعد لنزول الضيف وتكرمته
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ﴾ كفروا وكذبوا
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى﴾ أي الأقرب؛ وهو عذاب الدنيا: بالقتل، والأسر، والخزي ﴿دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ﴾ أي قبل عذاب الآخرة، أو أقل من عذابها ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى ربهم، ويتوبون عن كفرهم
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ وعظ بها
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ﴾ شك ﴿مِّن لِّقَآئِهِ﴾ أي من لقاء موسى؛ وقد لقيه ليلة الإسراء: عند العروج به إلى السماء. وقيل: «من لقائه» أي من تلقي موسى الكتاب. وقيل: من لقاء ما لقيه موسى من تكذيب وإيذاء؛ مثل ما لاقيت أنت من تكذيب قومك وإيذائهم
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ﴾ أي ممن آمن بموسى من بني إسرائيل ﴿أَئِمَّةً يَهْدُونَ﴾
الناس ﴿بِأَمْرِنَا﴾ بأوامرنا وشرائعنا التي بيناها لهم في التوراة ﴿لَمَّا صَبَرُواْ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي؛ وجعل الله تعالى جزاء الصبر: إمامة الناس
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ أو لم يتبين لهم ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ﴾ الأمم ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ ويرون ما حل بها من خراب ودمار ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإهلاك ﴿لآيَاتٍ﴾ لعبراً ودلالات على قدرتنا، وبطشنا بمن يكفر بنا
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ أيضاً ﴿أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ اليابسة، التي لا نبات بها ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ﴾ بهائمهم ﴿وَأَنفُسُهُمْ﴾ أي ويأكلون هم من ذلك الزرع أيضاً
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾ أي متى هذا الفصل في الحكومة؛ الذي تعدنا به؟ وهو يوم القيامة. وقيل «الفتح» النصر الموعود: يوم بدر، أو يوم فتح مكة
﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ يمهلون، أو يؤجلون
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ﴾ نزول العذاب الموعود بهم ﴿إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ﴾ بك الدوائر.
507
سورة الأحزاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

507
Icon