تفسير سورة الطور

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الطور من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿رَقٍّ﴾ الرَّق بالفتح والكسر جلد رقيق يكتب فيه وقال أو عبيدة: الرقُّ الورق وفي الصحاح: الرقُّ بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيب ﴿المسجور﴾ الموقد ناراً يقال: سجرت النار أي أوقدتها ﴿تَمُورُ﴾ مار الشيء يمور موراً إذ تحرك واضطرب، وجاء وذهب، قال جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
﴿يُدَعُّونَ﴾ يدفعون بشدة عنف، والدَّع: الدفع بشدة وإهانة ﴿أَلَتْنَاهُمْ﴾ أنقصناهم ﴿رَهَينٌ﴾ محبوس ﴿السموم﴾ لريح الحارة النافذة في المسام
التفسِير: ﴿والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾ أقسم تعالى بجل الطور الذي كلَّم الله عليه وسمى، وأقسم بالكتاب الذي أنزله على خاتم رسله وهو القرآن العظيم المكتوب ﴿فِي رَقٍّ﴾ أي في أديمٍ من الجلد الرقيق ﴿مَّنْشُورٍ﴾ أي مبسوط غير مطوي وغير مختوم عليه قال القرطبي: أقسم الله تعالى بالكتاب المسطور أي المكتوب وهو القرآن يقرأه المؤمنون من المصاحف، ويقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ، وقيل يعني بالكتاب سائر الكتب المنزلة على الأنبياء لأن كل كتاب في رقٍّ ينشره
244
أهله لقراءته، والرقُّ ما رٌقّق من الجلد ليكتب فيه ﴿والبيت المعمور﴾ أي وأُقسم بالبيت المعمور الذي تطوف به الملائكة الأبرار، وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض، وفي حديث الإِسراء «ثم رفع إِليَّ البيت المعمور، فقلت يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إِذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم» وقال ابن عباس: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة أي مقابلها وحذاءها تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه ﴿والسقف المرفوع﴾ أي والسماء العالية المرتفعة، الواقفة بقدرة الله بلا عمد، سمَّى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت ودليله ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢] وقال ابن عباس: هو العرش وهو صف الجنة ﴿والبحر المسجور﴾ أي والبحر المسجور الموقد ناراً يوم القايمة كقوله ﴿وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ﴾ [التكوير: ٦] أي أضرمت حتى تصير ناراً ملتهبة تتأجج تحيط بأهل الموقف ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ هذا جواب القسم أي إن عذاب الله لنازل بالكفارين لا محالة قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بهذه الأشياء الخمسة للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن عذاب المشركين حق ﴿مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ أي ليس له دافع يدفعه عنهم قال أبو حيان: والواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، والجملة المقسم عليها هي ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ وفي فإضافته إِلى الرب وإِضافته لكاف الخطاب أمانٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن العذاب واقع بمن كذبه، ولفظ واقع أشد من كائن، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حلَّ به ﴿يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً﴾ أي تتحرك السماء وتضطرب اضطراباً شديداً من هول ذلك اليوم ﴿وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً﴾ أي تنسف نسفاً عن وجه الأرض فتكون هباءً منثوراً كقوله
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [طه: ١٠٥] قال الخازن: والحكمة في مور السماء وسير الجبال، الإِنذارُ والإِعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا، وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدمم بذلك، فلما لم يبق لهم عودٌ إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي هلاك ودمار وشدة عذاب للمكذبين أرسلَ الله في ذلك اليوم الرهيب ﴿الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ أي الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل غافلون ساهون عما يراد بهم ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ أي يوم يُدفعون إلى نار جهنم دفعاً بشدة وعنف قال في البحر: وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى
245
أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون بهم دفعاً إلى النار على وجوههم وزجاً في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها ﴿هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي هذه نار جهنم التي كنتم تهزءون وتكذون بها في الدنيا ﴿أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾ أي وتقول لهم الزبانية تقريعاً وتوبيخاً: هل هذا الذي ترونه بأعينكم من لعذاب سحرٌ، أم أنتم اليوم عميٌ كما كنتم في الدنيا عمياً عن الخبر والإِيمان؟ قال أبو السعود: وقوله تعالى ﴿أَفَسِحْرٌ هذا﴾ توبيخ لهم وتقريع حيث كانوا يسمون القرآن الناطق بالحق سحراً فكأنه يل لهم: كنتم تقولون عن القرآن إنه سحر أفهذا العذاب ايضاً سحر أم سُدَّت أبصاركم كما سدَّت في الدنيا؟ ﴿اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ﴾ أي قاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وهو توبيخ آخر ﴿سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي يتساوى عليكم الصبر والجزع لأنكم مخلدون في جهنم أبداً ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي إنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة من الكفر والتكذيب، ولا يظلم ربك أحداً.. ولما ذكر حال الكفرة الأشقاء ذكر حال المؤمنين السعداء على عادة القرآن الكريم في الجمع بين الترهيب والترغيب فقال ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم في الآخرة في بساتين عظيمة ونعيم مقيم خالد ﴿فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي متنعمين ومتلذذين بما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة وأصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومراكب، وغير ذلك من ملاذ الجنة ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم﴾ أي وقد نجاهم ربهم من عذاب جهنم وصرف فيها من السرور ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي يقال لهم: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنياً، لاتنغيص فيه ولا كدر، بسبب ما قدمتم من صالح الأعمال.
. ثم أخبر تعالى عن حالهم عند أكلهم وشربهم فقال ﴿مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ﴾ أي جالسين على هيئة المضطجع على سرر من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت، مصطفة بعضها إلى جانب بعض، قال ابن كثير: ﴿مَّصْفُوفَةٍ﴾ أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧] وفي الحديث «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنةً ما يتحول عنه ولا يملُّه، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» ﴿وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وهنَّ نساء بيض واسعات العيون من الحَوَر وهو شدة البياض، والعينُ جمع عيناء وهي كبير العين والبياضُ مع سعة العين نهاية الحسن والجمال ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ أي كانوا مؤمنين وشاركهم أولادهم في الإِيمان ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي ألحقنا الأبناء بالآباء لتقرَّبهم أعينهم وإن لم يبلغوا أعمالهم قال ابن عباس: إن الله عزو جل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لترَّبهم عينه وتلا الآية قال الزمخشري: فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين،
246
وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم ﴿وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ أي وما نقصنا الآباء من ثواب عملهم شيئاً قال في البحر: المعنى أنه تعالى يُلحق المقصِّر بالمحسن ولا ينقص المسحن من أجره شيئاً ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ أي كل إِنسان مرتهن بعمله لا يُحمل عليه ذنب غيره سواء كان أباً أو إِبناً وقال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنة إلى نعيمهم وقال الخازن: المراد بالآية الكافر أي كل كافر بما عمل من الشرك مرتهن بعمله في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً بعمله لقوله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين﴾ [المدثر: ٣٨٣٩].. ثم ذكر ما وعدهم به من الفضل والنعمة فقال ﴿وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أي وزدناهم فوق ما لهم من النعيم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويُشتهى ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً﴾ أي يتعاطون في الجنة كأساً من الخمر، يتجاذبها بعضهم من بعض تلذذاً وتأنساً قال الألوسي: أي يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى في الدنيا لشدة سرورهم ﴿لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ﴾ أي لا يقع بينهم بسبب شربها هذيان حتى يتكلموا بساقط الكلام، ولا يلحقهم إِثم كما يلحق شارب الخمر في الدنيا قال قتادة: نزّه الله خمر الآخرة عن قاذورات الكلام الفارغ الذي لا فائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش، ووصفها بحسن منظرها وطيب طعمها، فقال
﴿بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٦٤٧] ثم قال تعالى ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ﴾ أي ويطوف عليهم للخدمة غلمان مماليك خصصهم تعالى لخدمتهم ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ أي كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء اللؤلؤ المصون في الصدف قال القرطبي: وهؤلاء الغلمان قي لهم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة، وليس في الجنة نصيب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم علىغاية النعيم ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي اقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، تلذذاً بالحديث، واعترافاً بالنعمة ﴿قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ أي قال المسئولون: إنا كنا في دار الدنيا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه ﴿فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم﴾ أي فأكرمنا الله بالمغفرة والجنة، وأجرنا مما نخاف، وحمانا من عذاب جهنم النافذة في المسام نفوذ الريح الحارة الشديدة وهي التي تسمى ﴿السموم﴾ قال الفخر الرازي: والآية إشارة إلى أن أهل الجنة يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزاداد لذة المؤمن حيث يرى نفسه انتقلت من الضيف إلى السعة، ومن السجن إلى الجنة، ويزداد الكفار ألماًَ حيث يرى نفسه انتقلت من النعليم إلى الجحيم ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ أي قال أهل الجنة: إنا كنا في الدنيا نعبد الله ونتضرع إليه، فاستجاب الله لنا
247
فأعطانا سؤالنا ﴿إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم﴾ أي إنه تعالى هو المحسن، والمتفضل على عباده بالرحمة والغفران، وهو كالتعليل لما سبق، عن مسروق أن عائشة رضي الله تعالى عنها قرأت هذه الآية ﴿فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم﴾ فقالت: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم.
اللغَة: ﴿رَقٍّ﴾ الرَّق بالفتح والكسر جلد رقيق يكتب فيه وقال أو عبيدة: الرقُّ الورق وفي الصحاح: الرقُّ بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيب ﴿المسجور﴾ الموقد ناراً يقال: سجرت النار أي أوقدتها ﴿تَمُورُ﴾ مار الشيء يمور موراً إذ تحرك واضطرب، وجاء وذهب، قال جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
﴿يُدَعُّونَ﴾ يدفعون بشدة عنف، والدَّع: الدفع بشدة وإهانة ﴿أَلَتْنَاهُمْ﴾ أنقصناهم ﴿رَهَينٌ﴾ محبوس ﴿السموم﴾ لريح الحارة النافذة في المسام
التفسِير: ﴿والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾ أقسم تعالى بجل الطور الذي كلَّم الله عليه وسمى، وأقسم بالكتاب الذي أنزله على خاتم رسله وهو القرآن العظيم المكتوب ﴿فِي رَقٍّ﴾ أي في أديمٍ من الجلد الرقيق ﴿مَّنْشُورٍ﴾ أي مبسوط غير مطوي وغير مختوم عليه قال القرطبي: أقسم الله تعالى بالكتاب المسطور أي المكتوب وهو القرآن يقرأه المؤمنون من المصاحف، ويقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ، وقيل يعني بالكتاب سائر الكتب المنزلة على الأنبياء لأن كل كتاب في رقٍّ ينشره أهله لقراءته، والرقُّ ما رٌقّق من الجلد ليكتب فيه ﴿والبيت المعمور﴾ أي وأُقسم بالبيت المعمور الذي تطوف به الملائكة الأبرار، وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض، وفي حديث الإِسراء «ثم رفع إِليَّ البيت المعمور، فقلت يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إِذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم» وقال ابن عباس: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة أي مقابلها وحذاءها تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه ﴿والسقف المرفوع﴾ أي والسماء العالية المرتفعة، الواقفة بقدرة الله بلا عمد، سمَّى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت ودليله ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢] وقال ابن عباس: هو العرش وهو صف الجنة ﴿والبحر المسجور﴾ أي والبحر المسجور الموقد ناراً يوم القايمة كقوله ﴿وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ﴾ [التكوير: ٦] أي أضرمت حتى تصير ناراً ملتهبة تتأجج تحيط بأهل الموقف ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ هذا جواب القسم أي إن عذاب الله لنازل بالكفارين لا محالة قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بهذه الأشياء الخمسة للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن عذاب المشركين حق ﴿مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ أي ليس له دافع يدفعه عنهم قال أبو حيان: والواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، والجملة المقسم عليها هي ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ وفي فإضافته إِلى الرب وإِضافته لكاف الخطاب أمانٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن العذاب واقع بمن كذبه، ولفظ واقع أشد من كائن، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حلَّ به ﴿يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً﴾ أي تتحرك السماء وتضطرب اضطراباً شديداً من هول ذلك اليوم ﴿وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً﴾ أي تنسف نسفاً عن وجه الأرض فتكون هباءً منثوراً كقوله
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [طه: ١٠٥] قال الخازن: والحكمة في مور السماء وسير الجبال، الإِنذارُ والإِعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا، وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدمم بذلك، فلما لم يبق لهم عودٌ إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي هلاك ودمار وشدة عذاب للمكذبين أرسلَ الله في ذلك اليوم الرهيب ﴿الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ أي الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل غافلون ساهون عما يراد بهم ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ أي يوم يُدفعون إلى نار جهنم دفعاً بشدة وعنف قال في البحر: وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون بهم دفعاً إلى النار على وجوههم وزجاً في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها ﴿هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي هذه نار جهنم التي كنتم تهزءون وتكذون بها في الدنيا ﴿أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾ أي وتقول لهم الزبانية تقريعاً وتوبيخاً: هل هذا الذي ترونه بأعينكم من لعذاب سحرٌ، أم أنتم اليوم عميٌ كما كنتم في الدنيا عمياً عن الخبر والإِيمان؟ قال أبو السعود: وقوله تعالى ﴿أَفَسِحْرٌ هذا﴾ توبيخ لهم وتقريع حيث كانوا يسمون القرآن الناطق بالحق سحراً فكأنه يل لهم: كنتم تقولون عن القرآن إنه سحر أفهذا العذاب ايضاً سحر أم سُدَّت أبصاركم كما سدَّت في الدنيا؟ ﴿اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ﴾ أي قاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وهو توبيخ آخر ﴿سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي يتساوى عليكم الصبر والجزع لأنكم مخلدون في جهنم أبداً ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي إنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة من الكفر والتكذيب، ولا يظلم ربك أحداً.. ولما ذكر حال الكفرة الأشقاء ذكر حال المؤمنين السعداء على عادة القرآن الكريم في الجمع بين الترهيب والترغيب فقال ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم في الآخرة في بساتين عظيمة ونعيم مقيم خالد ﴿فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي متنعمين ومتلذذين بما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة وأصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومراكب، وغير ذلك من ملاذ الجنة ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم﴾ أي وقد نجاهم ربهم من عذاب جهنم وصرف فيها من السرور ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي يقال لهم: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنياً، لاتنغيص فيه ولا كدر، بسبب ما قدمتم من صالح الأعمال.
. ثم أخبر تعالى عن حالهم عند أكلهم وشربهم فقال ﴿مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ﴾ أي جالسين على هيئة المضطجع على سرر من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت، مصطفة بعضها إلى جانب بعض، قال ابن كثير: ﴿مَّصْفُوفَةٍ﴾ أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧] وفي الحديث «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنةً ما يتحول عنه ولا يملُّه، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» ﴿وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وهنَّ نساء بيض واسعات العيون من الحَوَر وهو شدة البياض، والعينُ جمع عيناء وهي كبير العين والبياضُ مع سعة العين نهاية الحسن والجمال ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ أي كانوا مؤمنين وشاركهم أولادهم في الإِيمان ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي ألحقنا الأبناء بالآباء لتقرَّبهم أعينهم وإن لم يبلغوا أعمالهم قال ابن عباس: إن الله عزو جل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لترَّبهم عينه وتلا الآية قال الزمخشري: فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم ﴿وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ أي وما نقصنا الآباء من ثواب عملهم شيئاً قال في البحر: المعنى أنه تعالى يُلحق المقصِّر بالمحسن ولا ينقص المسحن من أجره شيئاً ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ أي كل إِنسان مرتهن بعمله لا يُحمل عليه ذنب غيره سواء كان أباً أو إِبناً وقال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنة إلى نعيمهم وقال الخازن: المراد بالآية الكافر أي كل كافر بما عمل من الشرك مرتهن بعمله في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً بعمله لقوله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين﴾ [المدثر: ٣٨٣٩].. ثم ذكر ما وعدهم به من الفضل والنعمة فقال ﴿وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أي وزدناهم فوق ما لهم من النعيم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويُشتهى ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً﴾ أي يتعاطون في الجنة كأساً من الخمر، يتجاذبها بعضهم من بعض تلذذاً وتأنساً قال الألوسي: أي يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى في الدنيا لشدة سرورهم ﴿لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ﴾ أي لا يقع بينهم بسبب شربها هذيان حتى يتكلموا بساقط الكلام، ولا يلحقهم إِثم كما يلحق شارب الخمر في الدنيا قال قتادة: نزّه الله خمر الآخرة عن قاذورات الكلام الفارغ الذي لا فائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش، ووصفها بحسن منظرها وطيب طعمها، فقال
﴿بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٦٤٧] ثم قال تعالى ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ﴾ أي ويطوف عليهم للخدمة غلمان مماليك خصصهم تعالى لخدمتهم ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ أي كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء اللؤلؤ المصون في الصدف قال القرطبي: وهؤلاء الغلمان قي لهم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة، وليس في الجنة نصيب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم علىغاية النعيم ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي اقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، تلذذاً بالحديث، واعترافاً بالنعمة ﴿قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ أي قال المسئولون: إنا كنا في دار الدنيا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه ﴿فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم﴾ أي فأكرمنا الله بالمغفرة والجنة، وأجرنا مما نخاف، وحمانا من عذاب جهنم النافذة في المسام نفوذ الريح الحارة الشديدة وهي التي تسمى ﴿السموم﴾ قال الفخر الرازي: والآية إشارة إلى أن أهل الجنة يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزاداد لذة المؤمن حيث يرى نفسه انتقلت من الضيف إلى السعة، ومن السجن إلى الجنة، ويزداد الكفار ألماًَ حيث يرى نفسه انتقلت من النعليم إلى الجحيم ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ أي قال أهل الجنة: إنا كنا في الدنيا نعبد الله ونتضرع إليه، فاستجاب الله لنا فأعطانا سؤالنا ﴿إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم﴾ أي إنه تعالى هو المحسن، والمتفضل على عباده بالرحمة والغفران، وهو كالتعليل لما سبق، عن مسروق أن عائشة رضي الله تعالى عنها قرأت هذه الآية ﴿فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم﴾ فقالت: الل
248
المنَاسَبَة: لما تقدم إِقسام الله تعالى على وقوع العذاب الكافرين، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين، أمر تعالى رسوله بالتذكير، إِنذاراً للكافرين وتبشيراً للمؤمنين، وختم السورة الكريمة ببيان عاقبة المكذبين، وحفظ الله ورعايته لرسوله الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
اللغَة: ﴿رَيْبَ المنون﴾ حوادث الدهر وصروفه، والمنون هو الدهر قال أبو ذؤيب:
أمنَ المنونِ وريْبة تتوجَّع والدَّهر ليس بمعتب من يجزع
والمنون أيضاً الموتُ من اللمنِّ بمعنى القطع بأنه يقطع الأعمار ﴿أَحْلاَمُهُمْ﴾ عقولهم جمع حُلم وهو العقل ﴿المصيطرون﴾ المسيطر: المتسلط على الشيء ﴿كِسْفاً﴾ قطعة يقال: كسف بسكون السين وكسفة أي قطعة وجمعه كسف بفتح السين ﴿مَّرْكُومٌ﴾ متجمع ومتراكم بعضه فوق بعض.
التفسِير: ﴿فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ أي فذكّر يا محمد بالقرآن قومك وعظهم به، فما أنت بإِنعام الله عليك بالنبوة وإكرامه لك بالرسالة ﴿بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ﴾ أي لست كاهناً تخبر بالأمور الغيبية من غير وحي، ولا مجنوناً كما زعم المشركون، إِنما تنطق بالوحي.. ثم أنكر عليهم مزاعمهم الباطلة في شأن الرسول فقال ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ أي بل أيقول المشركون هو
248
شاعر ننتظر به حوادث الدهر وصروفه حتى يهلك فنستريح منه؟ قال الخازن: وريبُ المنون حوادث الدهر وصروفه، وغرضهم أنه يهلك ويموت كما هلك من كان قبله من الشعراء، والمنون اسم الموت وللدهر وأصله القطع، سيما بذلك لأنهما يقطعان الأجل ﴿قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين﴾ أي قل لهم يا محمد: انتظروا بي الموت فإِني منتظر هلاككم كما تنتظرون هلاكي، وهو تهكم بهم مع التهديد والوعدي ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ﴾ ؟ أي أم تأمرهم عقولهم بهذا الكذب والبهتان؟ قال الخازن: وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول، فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل، وهو تهكم آخر بالمشركين ﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أي بل هم قوم مجاوزون الحد في الكفر والطغيان، والمكابرة والعناد ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ أي أم يقولون إن محمداً اختلق القرآن وافتراه من عند نفسه قال القرطبي: والتقوُّل تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر، يقال: قوَّلتني ما لم أقل أي أدعيته عليَّ، وتقوَّل عليه أي كذب عليه ﴿بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ أي ليس الأمر كما زعموا بل لا يصدقون بالقرآن استكباراً وعناداً ثم ألزمهم تعالى الحجة فقال ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ أي فليأتوا بكلامٍ مماثلٍ للقرآن في نظمه وحسنه وبيانه، إن كانوا صادقين في قولهم إن محمداً افتراه، وهو تعجيزٌ لهم مع التوبيخ ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ أي هل خُلقوا من غير ربٍ ولا خالق؟ قال ابن عباس: من غير ربٍ خلقهم وقدَّرهم ﴿أَمْ هُمُ الخالقون﴾ أي أم هم الخالقون لأنفسهم، حتى تجرءوا فأنكروا وجود الله جل وعلا؟ ﴿أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض﴾ أي أم هم خلقوا السموات والأرض؟ وإِنما خصَّ السمواتِ والأرض بالذكر من بين سائر المخلوقات لعظمها وشرفها، ثم بيَّن تعالى السبب في إِنكارهم لوحدانية اله فقال ﴿بَل لاَّ يُوقِنُونَ﴾ أي بل لا يصدقون ولا يؤمنون بوحدانية الله وقدرته على البعث ولذلك ينكرون الخالق قال الخازن: ومعنى الآية هل خُلقوا من غير شيءٍ خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون، لأن تعلق الخلق بالخالق ضروري، فإِن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في البطلان أشدُّ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق؟ فإِذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن له خالقاً فليؤمنوا به، وليوحدوه، وليْعبدوه، ولْيوقنوا أنه ربهم وخالقهم ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ﴾ ؟ أي أعندهم خزائن رزق الله ورمته حتى يعطوا النبوة من شاءوا ويمنعوها عمن شاءوا؟ قال ابن عباس: ﴿خَزَآئِنُ رَبِّكَ﴾ المطر والرزقُ وقال عكرمة: النبوة ﴿أَمْ هُمُ المصيطرون﴾ ؟ أي أم هم الغالبون القاهرون حتى يتصرفوا في الخلق كما يشاءون؟ لا بل الله عَزَّ وَجَلَّ هو الخالق المالك المتصرف وقال عطاء ﴿أَمْ هُمُ المصيطرون﴾ أم هم الأرباب فيفعلون ما يشاءون ولا يكونون تحت امر ولا نهي؟ ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ﴾ ؟ أي أم لهم مرقى ومصعد
249
إلى السماء يستمعون فيه كلام الملائكة والوحي فيعلمون أنهم على حقٍّ فهم به مستمسكون؟ ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي فليأت من يزعم ذلك بحجة بينة واضحة على صدق استماعه كما أتى محمد بالبرهان القاطع.
. ثم وبخهم تعالى على ماهو أشنع وأقبح من تلك المزاعم الباطلة وهو نسبتهم إلى الله البنات، وجعلهم لله جل وعلا ما يكرهون لأنفسهم فقال ﴿أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون﴾ ؟ أي كيف تجعلون لله البنات مع كراهتكم لهن وتجعلون لأنفسكم البنين؟ أهذا هو المنطق والإِنصاف؟ وقال القرطبي: سفَّه أحلامهم توبيخاً لهم وتقريعاً والمعنى أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا لا يُستبعد منه إِنكار البعث وقال أبو السعود: تسفيهٌ لهم وتركيكٌ لعقولهم، وإِيذانٌ بأن من هذا رأيه لا يكاد يُعد من العقلاء، فضلاً عن الترقي إلى عالم الملكوت، والاطلاع على الأسرار الغيبية، والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإِنكار والتوبيخ ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً﴾ أي هل تسألهم يا محمد أجراً على تبليغ الرسالة وتعليم أحكام الدين؟ ﴿فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ أي فهم بسبب ذلك الأجر والغُرم الثقيل الذي أوجبته عليهم مجهدون ومتعبون فلذلك يزهدون في اتباعك، ولا يدخلون في الإِسلام؟ فإن العادة أن من كلف إِنساناً مالاً وضربَ عليه جُعلاً يسير مثقلاً وغارماً بسببه فيكرهه ولا يسمع قوله ولا يمتثله ﴿أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ ؟ أي أعندهم علم الغيب حتى يعلموا أنَّ ما يخبرهم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمور الآخرة والحشر والنشر باطلٌ فلذلك يكتبون هذه المعلومات عن معرفةٍ ويقين؟ قال قتادة: هو ردٌّ لقولهم ﴿شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ والمعنى أعَلموا أن محمداً يموتُ قبلهم حتى يحكموا بذلك؟ وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيهن ويُخبرون الناس بما فيه؟ ليس الأمر كذلك فإِنه لا يعلم أحدٌ من أهل السموات والأرض الغيب إِلا الله ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً﴾ ؟ أي أيريد هؤلاء المجرمون أن يتآمروا عليك يا محمد؟ قال المفسرون: والآية إِشارة إلى كيدهم في دار الندوة وتآمرهم على قتل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠] ﴿فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون﴾ أي فالذين جحدوا رسالة محمد هم المجزيون بكيدهم لأن ضربب ذلك عائد عليهم، ووباله راجع على أنفسهم كقوله ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] قال الصاوي: وأوقعٍ الظاهر ﴿فالذين كَفَرُواْ﴾ موقع المضمر تشنيعاً وتقبيحاً عليهم بتسجيل وصف الكفر ﴿أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله﴾ ؟ أي لهم إله خالق رازق غير الله تعالى حتى يلجأوا إليه وقت الضيف والشدة؟ ويستنجدوا به لدفع الضُّرِّ والعذاب عنهم؟ ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يشركون به من الأوثان والأصنام قال الإِمام الجلال: والاستفهام ب «أم» في مواضعها الخمسة عشر للتوبيخ والتقريع والإِنكار.. ثم أخبر تعالى عن شدة طغيانهم وفرط عنادهم فقال ﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً﴾ أي لو عذبناهم بسقوط قطع من السماء نزلت عليهم لم ينتهوا ولم يرجعوا، ولقالوا في هذا النازل عناداً واستهزاءً: إنه سحاب مركوم ﴿يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾ أي إنه سحاب
250
متراكم بعضُه فوق بعض قد سقط علينا قال أبو حيان: كانت قريشٌ قد اقترحت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما اقترحت من قولهم ﴿أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً﴾ [الإِسراء: ٩٢] فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً حسب اقتراحهم لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ويقولوا: هو سحابٌ مركوم أي سحاب تراكم بعضه فوق بعض ممطرنا، وليس بكسفٍ ساقطٍ للعذاب ﴿فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ أي اتركهم يا محمد يتمادون في غيهم وضلالهم، حتى يلاقوا ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة الذي يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم ويسلب ألبابهم ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ أي يوم لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا ولا يدفع عنهم شيئاً من العذاب ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي ولا هم يُمنعون من عذاب الله في الآخرة ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ﴾ أي وإن للذين كفروا عذاباً شديداً في الدنيا قبل عذاب الآخرة قال ابن عباس: هو عذاب القبل وقال مجاهد: هو الجوعن والقحط سبع سنين ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعلمون أن العذاب نازل بهم ﴿واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أي اصبرْ يا محمد على قضاء ربك وحكمه، فيما حمَّلك به من إعباء الرسالة ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أي فإِنك بفحظنا وكلاءتنا نحرسك ونرعاك ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ أي ونزَّه ربك عما لا يليق به من صفات النقص حين تقوم من منامك ومن كل مجلس بأن تقول: سبحان الله وبحمده قال ابن عباس: أي صلِّ للهِ حين تقومُ من منامك ﴿وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ﴾ أي ومن الليل فاذكره واعبده بالتلاوة والصلاة والناسُ نيام كقوله
﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ [الإِسراء: ٧٩] ﴿وَإِدْبَارَ النجوم﴾ أي وصلِّ له في آخر الليل حين تدبر وتغيب النجوم بضوء الصبح قال ابن عباس: هما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر وفي الحديث «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - جناس الاشتقاق ﴿تَمُورُ السمآء مَوْراً﴾ [الطور: ٩] و ﴿تَسِيرُ الجبال سَيْراً﴾ [الطور: ١٠].
٢ - الإِهانة والتوبيخ ﴿اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ﴾ [الطور: ١٦] وبين قوله ﴿اصبروا﴾ وقوله ﴿أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ﴾ طباق السلب وهو من المحسنات البديعية.
٣ - التشبيه المرسل المجمل ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ [الطور: ٢٤] حذف منه وجه الشبه فهو مجمل.
٤ - الاستعارة التبعية ﴿رَيْبَ المنون﴾ شبهت حوادث الدهر بالريب الذي هو الشك بجامع التحير وعدم البقاء على حالة واحدة في كلٍ منهما واستعير لفظ الريب لصروف الدهر ونوائبه بطريق الاستعارة التبعية.
٥ - الأسلوب التهكمي ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ﴾ ؟ هذا بطريق التهكم والسخرية بعقولهم.
٦ - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم ﴿أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون﴾ ؟.
٧ -
251
أسلوب الفرض والتقدير ﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً﴾ أي لو رأوا ذلك لقالوا ما قالوا.
٨ - السجع الرصين غير المتكلف مثل ﴿والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ﴾ [الطور: ١٣] ومثل ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ [الطور: ٧٨] وهلم جراً.
فَائِدَة: عن جبير بن مطعم قال: قدمتُ المدينة لأسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أسارى بدر، فوافيتُه يقرأ في صلاة المغرب ﴿والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾ [الطور: ١٢] فلما قرأ ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ [الطور: ٧٨] فكأنما صُدع قلبي، فأسلمتُ خوفاً من نزول العذاب، فلما انتهى إلى هذه الآية ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ﴾ كاد قلبي أن يطير.
252
Icon