ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (١- ١٦) [سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ١٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ».
الطور: هو طور سينين، أو سيناء..
وكتاب مسطور: هو جنس ما يكتب من الكتب، ولهذا جاء منكّرا موصوفا بأنه مكتوب فى رق منشور- وهو ما يكتب عليه من جلد رقيق..
وفى وصفه بأنه فى رق منشور- إشارة أخرى إلى أنه خفيف الحمل، سهل التداول، وأنه منشور، أي مفتوح للقارئين، غير مطوى عنهم..
وفى هذا كله تنويه بالكتابة ورفع لقدرها، وأنها باب واسع من أبواب العلم، وطريق فسيح من طرق المعرفة..
وليس هذا بالأمر المستغرب من رسالة افتتحت بهذا الأمر من رب العالمين، إلى النبىّ الأمىّ فى قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (١- ٥: العلق) ثم تلا هذا الأمر قسم بالكتابة وأدواتها من حروف وأقلام، فقال تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» (١- ٢: القلم).
فالكتابة نعمة من نعم الله العظمى على الإنسان، تكمل بها نعمة الكلمة التي وضعها سبحانه وتعالى فى فم الإنسان..
فلا عجب إذن أن يقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب، من حيث هو جنس عام لكل ما يكتب، وأن ينظمه فى نسق واحد، مع هذه المعالم المباركة، التي أقامها الله سبحانه، هدى، ورحمة للناس.. كالطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور..
والبيت المعمور: هو البيت الحرام، الذي عمره الله سبحانه وتعالى بالواردين عليه، من المؤمنين، وبما يذكرون الله فيه..
والسقف المرفوع: هو السماء. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا السَّماءَ
(٣٢: الأنبياء).. وقوله سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» (٢: الرعد).
والبحر المسجور: هو البحر المحيط بهذا العالم الأرضى.. والمسجور:
المربوط، المحبوس عن مفارقة الأرض، والانفلات منها، وهو كائن مائع، لا تمسكه إلا قدرة القادر..
تمور السماء مورا: أي تضطرب اضطرابا، وتموج موجا..
يدعون إلى نار جهنم دعّا: أي يدفعون إليها دفعا شديدا..
فالطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، أقسام خمسة، أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وهى بهذا القسم من الله سبحانه تلبس ثوب التكريم، والتعظيم، وفى تكريمها وتعظيمها، إشعار بعظمة الخالق، وجلاله، الذي أبدع هذه المخلوقات العظيمة، وأقامها هذا المقام الكريم، حتى لقد كانت أهلا لأن يقسم خالقها بها، ويعرضها فى هذا المعرض الكريم..
هذا، ويلاحظ أن سورة «الذاريات» قد بدئت بأربعة أقسام من الخالق جل وعلا على أربعة مخلوقات من مخلوقانه: الذاريات ذروا..
فالحاملات وقرا.. فالجاريات يسرا.. فالمقسّمات أمرا..
وقد أوقع الله سبحانه وتعالى هذه الأقسام الأربعة على وقوع الدينونة، وحساب الناس وجزائهم يوم القيامة..
ثم أتبع سبحانه وتعالى هذه الأقسام بقسم خامس، هو قوله سبحانه والسماء ذات الحبك.. وأوقع سبحانه هذا القسم على اختلاف الناس، وأنهم فريقان: مؤمن وكافر: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ»..
ووقوع العذاب يوم القيامة، يعنى وقوع هذا اليوم، ويعنى البعث، والحساب..
وعلى هذا- والله أعلم- يكون القسم الخامس هنا مراعى فيه تلك الإضافة الجديدة على ما وقع عليه القسم فى سورة الذاريات، وهو وقوع العذاب بأهله الكافرين الضالين، على حين تكون الأقسام الأربعة، مؤكّدة للأقسام الأربعة، التي جاءت فى تلك السورة، والتي وقعت على الإخبار بمجىء يوم القيامة.. أما القسم الخامس الذي جاء فى سورة الذاريات واقعا على اختلاف الناس، وافتراقهم إلى فرقتين: مؤمنين وكافرين، فهو تمهيد للقسم الخامس الذي ورد فى سورة الطور واقعا على ما يلقاه فريق من أحد الفريقين- وهو فريق الكافرين- من عذاب واقع فى هذا اليوم..
وقوله تعالى: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» هو بيان لما يقع فى هذا اليوم من أحداث تتغير بها معالم الوجود. «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (٤٨: إبراهيم)..
[هذا الانقلاب فى عوالم الوجود يوم القيامة.. ما تأويله؟] وهذا الذي يحدث من تغيّرات فى معالم الوجود يوم القيامة، هو- والله أعلم- نتيجة لتغير مدركات الناس، فى هذا اليوم، بانتقالهم من عالم
وهذا يعنى أن اختلاف الرؤية للأشياء من حيث مطالعها، ومن حيث الحواسّ والمشاعر المتعاملة معها، والمتلقّية لها- هو الذي يرى الإنسان هذه التغيّرات التي يراها فى نظام الوجود.. تماما، كما يرى الإنسان الأشياء من خلال مجهر، أو من خلال منشور زجاجى، أو جسم شفاف ملون..
أو مرآة محدبة أو مقعرة.. ونحو هذا.. إنه يراها فى كل مرة على صورة مخالفة لما كان يراها عليه من قبل بعينيه المجردتين، وعلى صورة مباينة أيضا لما يراها عليه من خلال أي شىء من تلك الأشياء.. وهى هى لم تتغير ولم تتبدل، وإن بدت أنها متغيرة متبدلة..
والذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، من أن الموجودات، لا وجود لها فى حقيقتها، وإنما هى موجودة بفعل حواسنا، وأنه لولا هذه الحواس، لما كان لها وجود.. ويضربون لهذا أمثلة، بأن فاقد البصر أصلا ينكر وجود النور، كما أن فاقد حاسّة الشمّ يغيب من عالمه عالم المشمومات.. وقلّ مثل هذا فى بقية الحواس، من اللمس والذوق، والسمع- نقول إن هذا الذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، يشير إلى شىء من هذا الذي نتحدث عنه من أن الاختلاف الذي يقع فى حواسنا للموجودات، بين ما نراه منها فى الدنيا، وما نراه منها فى الآخرة هو من عمل حواسنا، وإن كنا نخالفهم فيما يذهبون إليه من إنكار الموجودات أصلا.. فإن إنكار هذه الموجودات يستلزم- تبعا لهذا- إنكار وجودهم هم أنفسهم، وإنكار هذه المقررات التي يقررونها.. فإن فقد العضو أو فقد وظيفته لا يستتبع فقد
وأحقّ من هذا، وأقرب إلى الصواب، أن يقال إن الأشياء هى التي تحقق للحواس والمدركات وجودها، لا أن الحواس والمدركات هى التي توجد الموجودات التي تتعامل معها..
ونعود إلى الحديث عما يقع يوم القيامة، من انقلاب فى عالم الموجودات..
أهذا الانقلاب واقع حقيقة، أم هو من عمل الحواس الجديدة التي يعيش بها الإنسان فى العالم الآخر؟..
يتحدث القرآن الكريم فى أكثر من موضع، عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وانطماس النجوم، وانكدارها، وتفجّر البحار، ودكّ الأرض والجبال، إلى غير ذلك مما يحدّث عن هذا الانقلاب الشامل الهائل الذي بغير معالم الأرض والسماء جميعا..
فيقول سبحانه وتعالى..
«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» (١- ٥: الانفطار) ويقول جل شأنه: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ» (١- ٣: التكوير) ويقول سبحانه: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» (٤- ٥: القارعة) ويقول سبحانه: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ»
النبأ).. ويقول سبحانه: «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» (٨- ١٠: المرسلات) ويقول سبحانه: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» (٧- ١٠: القيامة) ويقول سبحانه: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» (١٣- ١٦: الحاقة)..
والذي ينظر فى هذه الآيات الكريمة، يجد أنها تتحدث عن عوالم ثلاثة، يقع عليها التغيير والتبديل من أحداث القيامة..
العالم العلوىّ، والعالم الأرضى، والعالم الإنسانىّ..
ففى العالم العلوىّ: تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتتكور الشمس، وتنكدر النجوم، وتنفرج السماء، وتتشقق، ويخسف القمر، ويجمع الشمس والقمر..
وفى العالم الأرضى: تنفجر البحار، وتسيّر الجبال، وتكون كالعهن المنفوش، وتنسف نسفا، وتدكّ دكا..
وفى عالم الإنسان: تبعثر القبور، ويكون الناس كالفراش المبثوث، وتبرق أبصارهم، ويتدافعون أفواجا إلى المحشر..
[البعث.. وعلى أية صورة يكون؟]
فإذا أخذنا جانب الإنسان، وهو الذي تقع لعينيه هذه الأحداث التي تكون يوم القيامة، وجدنا أنه قد تغيّر فعلا، تغيرا يتناول طبيعته، كما يتناول الموقف الذي يرى الوجود منه..فهو من حيث طبيعته، قد صار كائنا روحانيا، محلّقا فوق هذا العالم الأرضى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» (٤: القارعة).. فالفراش حشرة طائرة، لطيفة الهيئة، دقيقة الجرم، هشة الجسم، تكاد تنخلع عن جسدها، وهى طائرة..
ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن الفراشة تمثّل الدورة الإنسانية كلها، من مولده، إلى مماته، إلى مبعثه من قبره، إلى طيرانه إلى محشره..
فهى تكون بيضة.. على حين يكون الإنسان نطفة.
ثم تكون دودة.. على حين يكون الإنسان وليدا، يتحرك فى الحياة، أشبه بالدودة.
ثم تكون عذراء «١» داخل الشرنقة «٢».. على حين يكون الإنسان مقبورا فى جدثه..
(٢) الشرنقة. بيت تنسجه الدودة من لعابها، ثم تدخل فيه الدودة وتسمى فى هذا الدور العذراء.
لا جواب الآن.. إن القلم يضطرب فى يدى، لما تملكنى من روعة هذا الجلال، ولما أخذنى من وجد ونشوة حيال هذا الإعجاز، الذي ألمح سنا برقه من بعيد، وأنا لا زلت على شاطىء هذا البحر الذي لا يحدّه البصر! وإنّى لأبخس نفسى حظّها، إن أنا انتزعتها الآن من هذه الحال التي لبستها من غبطة وحبور، فى هذا المقام الكريم، لأصوّر بالقلم بعض ما ترى من جلال وروعة، ولأمسك ببعض ما وقع فى الخاطر من رؤى ومشاهد بين يدى هذه المعجزة الباهرة القاهرة..
فلتأخذ النفس إذن حظها من تلك النشوة، وليرتشف القلب كأس هذه الخمر السماوية، قطرة قطرة.. حتى يرتوى!! فإذا كان لنا فى غد صحوة من هذا الانتشاء، وإذا كان لنا فى العمر غد نعيش فيه- كان لنا عودة إلى هذا الموقف، وكان لنا نظر مجدّد فى تلك المعجزة، وكان لنا قول فيما يؤدّى إليه هذا النظر..
فإلى غد- إن شاء الله- وإلى ما يأذن الله لنا به، من فضله وإحسانه، حتى يستقيم للقلم طريقه، ويجد اليد القادرة على الإمساك به، والسيطرة على زمامه..
وجاء صباح يوم آخر.. وقد هدأت موجات الجلال التي غشيت النفس بالأمس، وهأنذأ أمسك بالقلم، ولكن لا أجد شيئا مما كان يملأ صدرى من خواطر وتصورات!! فأين ذهب كل هذا؟ إنى لا أكاد أذكر شيئا مما كنت فيه بالأمس، بل لا أكاد أذكر فيم كنت.. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى معاودة النظر فى الآية الكريمة، نظرا مجدّدا يستجيش المشاعر، ويحرّك المدارك، ويبعث من جديد هذه النشوة التي خمدت، أو كادت..
ومن النظر فى وجه الآية الكريمة: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» تجد أن تشبيه الناس بالفراش المبثوث- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يمثل أكمل تمثيل وأدقه تلك الصورة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن حياة الفراشة من بدئها إلى نهايتها تمثّل حياة الإنسان من حال كونه نطفة إلى أن يولد، وينمو، ويقطع مسيرته فى الحياة الدنيا، ثم إلى أن يموت، ثم يبعث فى هيئة فراشة، كانت بيضة، ثم دودة، ثم عذراء ملففة فى أكفان من الشرنقة، ثم تنشق عنها الشرنقة، فإذا هى فراشة!..
هذا ما وقفنا عنده- على ما أذكر- من قبل..
الناس إذن يكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث- فحين يخرجون من الأجداث يطيرون فى خفّة كما يطير الفراش المنطلق نحو النور والنار!..
ولكن إلى أين يطير هذا الفراش الآدمي؟
إنه لا وجهة له حينئذ إلا هذه النار وهذا الضوء!! وكذلك الناس، أو الفراش البشرى، لا مورد لهم إلا هذه النار التي سعّرت وتأججت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» (٧١: مريم).
وما مصير هذا الفراش الحشرى المتدافع إلى النار؟ إنه يتقحمها، ويلقى بنفسه فيها، وكأنّ يدا قوية تدفعه إليها دفعا ليكون وقودا لها.. وقليل قليل هو الذي ينجو بنفسه، ويعدل بوجهه عن لهيبها..
كذلك شأن الفراش البشرىّ الوارد على نار جهنم، إنه وقود هذه النار إلا قليلا قليلا ممن أنجاهم الله منها، وكتب لهم الفوز بجنات النعيم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (٧٢: مريم)..
فهذا القليل هو الذي يقف فى منطقة النور دون أن يتقحم النار..
وأما الكثير الغالب، فإنه يغشى فى هذا الضوء فيهوى فى جهنم.. إنه أعمى لا يرى إلى أين مساقه، لأنه حشر على ما كان فى الدنيا من عمى: «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى».. فالهلكى فى الآخرة كثيرون، والناجون قليل بل وأقل من القليل!! وأكاد أقول إن الناس سيكونون يوم القيامة على صورة الفراش حقيقة لا تشبيها، وذلك لهذا التوافق العجيب الدقيق بين الصورتين، - صورة الفراش الحشرى، وصورة الفراش البشرى- فى الملامح، والألوان، والظلال..
فالجراد المنتشر، والفراش المبثوث.. صورتان متماثلتان فى مرأى العين، وفى أطوار الحياة التي يتنقل فيها كلّ من الفراش والجراد!.
فالجراد يأخذ فى خلقه وتطوره نفس المراحل التي يقطعها الفراش فى مسيرة الحياة..
البيضة، فالدودة، فالعذراء، فالفراشة التي تطير..
«والفراش» كائن لطيف، رقيق، يكاد يكون من عالم الروح أكثر منه من عالم المادة..
وأما «الجراد» - وإن كان أكثر كثافة من الفراش، فإن أجنحته- الكبيرة القويّة، تغلب كثافة جسده، فيطير بخفة أشبه بخفة الأرواح..
وفى الجمع بين الفراش المبثوث، والجراد المنتشر، تصوير معجز للصورة التي يبعث عليها الناس يوم القيامة..
ففى الناس: فراش، وجراد.. فى الدنيا وفى الآخرة..
فالمؤمنون، يمثلون الفراش.. فى لطفه، ورقته، ووداعته، ومواقعه فى فى الحياة، وتناوله من رحيق أزهارها، وطيّب ثمارها.. حيث هم زينة
والكافرون، والضالون، يمثلون الجراد فى نهمه، وشراسته، وعدوانه على مواقع الخصب، فيفسدها، وو يحيلها جدبا..
وهكذا يبعث الناس، على ما كانوا عليه فى الدنيا، من كان منهم على صورة الفراش، فى اللطف، والوداعة، بعث على صورة الفراش، ومن كان منهم على هيئة الجراد، فى الشراسة والنّهم، بعث على هيئة الجراد..
وأكثر من هذا، فإن الفراش قلّة قليلة بالنسبة لأعداد الجراد الكثيرة التي تتكاثر مواليدها وتتضاعف بين ساعة وأخرى.. وكذلك المؤمنون هم قلة فى محيط الكافرين، والمشركين.. وهذا ما نامحه فى قوله تعالى فى وصف كل من الفراش والجراد.. فقد جاء وصف الفراش، بالبثّ:
«كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ».. والبث، هو إذاعة الحديث الطيب فى رفق، وعلى هينة، ولطف.. وجاء وصف الجراد بالانتشار: «كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» والانتشار، إنما يكون فى سرعة مجنونة، كما ينتشر الوباء فى الناس، وكما تنتشر النار فى الهشيم..!
ويكاد يصرفنا هذا الموقف الرائع المعجز، عن الموضوع الذي نعالجه، بل إنه ليكاد يغنينا عن النظر إلى ماوراءه، لما نالت النفس منه، من شبع ورىّ! ولكن وفاء بحق هذا البحث، نعود فنقول:
إنه بالنظر فى حال للإنسان يوم القيامة، نجد فى قوله تعالى عن هذا
هذه صورة مجملة للإنسان يوم القيامة، ولموقفه من الموجودات فى هذا اليوم..
فهو كائن سابح فى عالم علوىّ، قد يبلغ فى سبحه هذا، مدارج الكواكب والنجوم، ثم هو فى هذا العلو السحيق يملك بصرا حديدا كاشفا لا يمكن تصوره..
ومن هذا الأفق العالي، وبهذا البصر الحديد النافذ، ينظر الإنسان إلى هذه الأرض التي كان يعيش فيها.. فيرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء..
«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (٤٨: إبراهيم) إنه تبدل يقع فى إحساس الإنسان نفسه، وفى معطيات بصره..
إنه يرى البحار وكأنها قد فجّرت، وفاضت مياهها.. إنه يرى البحر كله، وقد اشتمل على الكرة الأرضية وأحاط بها..
وإنه يرى الجبال وكأنها قد سيّرت، وهى فى حقيقتها سائرة لا تتوقف،
هكذا تبدو الجبال، على صور شتى، بين الصغر والكبر، وبين الظهور والخفاء، حسب الأفق الذي يشرف منه الإنسان عليها يومئذ.
ولقد أحسن الشاعر «شوقى» غاية الإحسان، فى تصوير الطائرة، وهى تنطلق مصعّدة فى السماء، وكلما ارتفعت كان لها فى موقع البصر صورة، على غير سابقتها أو لا حقتها.. يقول شوقى:
ثم تسامت فكانت أعقبا فنسورا.. فصقورا.. فحماما أمّا السماء وعوالمها، فإنه يقع عليها من التبدل والتحول، فى نظر الإنسان، ما وقع له فى العالم الأرضى من تحول وتبدل..
إنه يرى السماء، التي- كانت تبدو له فى دنياه سقفا صفيقا مصمتا- يراها، وقد فتحت فكانت أبوابا، وكانت فروجا، وإذا سقفها هذا قد بدا واهيا، لا يحول بينه وبين اختراق أجوائها إلى غير حدود..
تلك هى السماء، كما يراها الإنسان، ويختبر تصعيده فيها.. أما هى فى حقيقتها فهى هى، لم تتبدل، ولم تتحول..!
وحال أخرى من السماء، يجدها الإنسان فى هذا اليوم، وهى ما جاء فى قوله تعالى: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ».. فهذه حال من السماء يجدها الإنسان، حين يرتفع إلى مواقع النجوم منها، فيجد لذلك مسّ حرارة هذه النجوم، ويشهد منها هذا الغليان والفوران المتأجج فى كيانها..
إذ النجوم فى حقيقتها عوالم من لظى يأكل بعضه بعضا..
أما النجوم والكواكب، فإنه يراها- كذلك- فى أحوال شتى، حسب موقعه منها.. فيرى النجوم وقد انكدرت وطمست، واختفى ضوءها.. حيث أن هذا الضوء الذي نراه للنجوم، إنما هو من أثر هذا الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من محيط هذا الغلاف لم يقع على بصره هذا الضوء اللامع الذي نراه لها..
كذلك يرى الكواكب، التي كان يراها فى العالم الأرضى على مستوى واحد، متجاورة كما تتجاور حيات العقد- يراها متناثرة، كل واحد منها عالم يدور فى فلك، بينه وبين النجوم الأخرى آماد بعيدة، تقدر مسافاتها بالألوف والملايين من السنين الضوئية!.
والشمس- وهى نجم من تلك النجوم- تبدو كرة ملتهبة، لا شعاع فيها، لأن هذا الشعاع الذي نراه منها، هو- كما قلنا- أثر من الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من دائرة
أما قوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» - فهو أيضا أثر من آثار خروج الإنسان يوم القيامة من عالم الأرض.. حيث يرى الشمس شمسا، والقمر قمرا، فى حال واحدة، لا يحكم رؤيته لهما، ليل أو نهار..
هذه وقفة قصيرة غاية القصر مع تلك المشاهد التي يراها الإنسان يوم القيامة، من عوالم الوجود.. ولو أننا ذهبنا نتقصّى وجوه النظر المختلفة، لخرج بنا ذلك عن المنهج الذي التزمناه، فى هذا التفسير لكتاب الله..
بقيت كلمة لا بد منها فى التعقيب على هذا البحث، وهى، الإجابة على هذا السؤال:
هل يكون البعث بالأجساد، أو الأرواح؟.
وهذه قضية كثرت فيها الأقوال وتضاربت الآراء، ولا نحسب أن إجابتنا على هذا السؤال بالذي يحسم الأمر، ويرفع الخلاف فيها، بل إنه ربما وسّع من شقة الخلاف، وأضاف إلى المقولات المتخالفة مقولة! ومع هذا، فإن إمساكنا عن القول فى هذه القضية، لا يخفف من حدة الخلاف فيها، ولا يمسك ذوى الآراء عن الخوض فى تلك القضية، التي هى وسواس كل خاطر، وامتدا كل نظر إلى الحياة، وما وراء الحياة.
فنقول إننا نرجح الرأى القائل بأن البعث يكون بالأرواح لا بالأجسام..
«يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» - لنا فى هذا شاهد نلمح منه صورة الحياة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وهى أنها حياة أشبه بحياة الطير، حيث ينطلق الناس فى العوالم العليا، إلى حيث الكواكب والنجوم..
والأرواح الإنسانية التي نلمحها من الآبتين الكريمتين، ليست أرواحا مجردة، بل هى أرواح، تلبس أجسادا شفافة، هى قوالب روحانية، على هيئات بشرية يعيش فيها الناس.. وهى ما يسمى بالنفس، التي هى وسط بين الروح، والجسد «١»..
قوله تعالى:
«هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ»..
فى الإشارة إلى النار، دعوة لأهلها إلى ورودها، ونزولهم ضيوفا عليها، ليطعموا مما تقدّمه لهم من زاد عتيد تلقاهم به، وتغاديهم وتراوحهم بصنوفه وأكوانه..!!
وفى الدعوة إلى هذا المكروه، مزيد من الاستهزاء والإيلام لهؤلاء الأشقياء، الذين يساقون إلى هذا العذاب الأليم.. مثل قوله تعالى:
«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»..
وقوله تعالى:
«أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» ؟
فهم يسألون هذا السؤال التقريعيّ، الذي لا يجدون له جوابا إلا الإبلاس والوجوم، وإلا الحسرة القاتلة، والنّدم الأسود الكئيب!..
«أَفَسِحْرٌ هذا؟» أي أهذا العذاب الذي، تساقون إليه، والذي كان يتلوه عليهم من آيات الله- أسحر هو؟
وإنه لأسلوب من أساليب العقاب، أن يوقف المجرم على جسم جريمته، وأن يواجه بها، وأن يذكر بها حالا بعد حال، وخاصة إذا كان بين يدى السلطان القاهر الذي يأخذه بجريمته ويوقّع عليه الجزاء الذي يستحقه، فإن جريمته هى التي ساقته إلى هذا البلاء الذي هو فيه، وإنها لهى العدوّ الذي ألقاه فى التهلكة!.
وفى قوله تعالى: «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» هو زيادة فى إبلامهم بأن ينظروا فى هذا العذاب، وأن يملأوا عيونهم منه، قبل أن يذوقوه بأجسامهم، ويلبسوه ثيابا تقطّع لهم من تلك النار الموقدة أمام أعينهم..
قوله تعالى:
«اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»..
هو دعوة أخرى لهؤلاء المكذبين، إلى تذوق ما فى هذه النار التي دعوا
فليأخذوا ما تقدّم لهم النّار من ضيافة نكدة، وليصبروا على تجرّع هذه الغصص، أولا يصبروا، فإنه لا مفرّ لهم من أن يشربوا من هذه الكأس التي لا تنضب، ولا معدل لهم عنها، صبروا أولم يصبروا..
فالأمر بالنسبة إليهم سواء.. إنهم فى قيد العذاب: «فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» (٢٤: فصلت)..
الآيات: (١٧- ٢٨) [سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ»..
هو عرض لصورة من صور النعيم، الذي حرمه أهل الضلال، الذين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون..
فهذا النعيم الذي يراه أهل النار بأعينهم، ويرون فيه أقواما كانوا من قبل موضع استهزاء بهم وسخرية منهم- هذا النعيم، كان يمكن أن يكون لهم نصيب منه، ولكنهم صرفوا وجوههم عنه فى الدنيا، وسفّهوا الذين كانوا يدعونهم إليه، فأبقى لهم ذلك حسرة دائمة، وبلاء طويلا ممتدا..
لا ينتهى أبدا..
وفى هذا ما يضاعف من عقابهم، ويزيد فى شقائهم، على حين أنّه يقدّم بين أيدى المؤمنين المتقين، ويرفع لأبصارهم فى تلك الجنّة التي وعدوا بها، فيرونها دانية منهم، يشوقهم لقاؤها، والسعى الحثيث إليها..
وقوله تعالى: «فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» هو حال من المتقين.. أي أنهم وهم فى جنتهم تلك، يتفكهون بما فيها من طيبات تملأ نفوسهم رضا وحبورا..
وأصل التفكّه: من الفكاهة، وهو حديث فكه، يوننس به..
وسميت الفاكهة فاكهة للذة طعمها فى الأفواه، كلذّة الحديث الفكه على الآذان.
قوله تعالى:
«كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
هو التفاتة كريمة ودعوة مسعدة للمتقين، إلى أن يأخذوا بحظهم من رضوان الله، الذي قدّمه لهم ربهم.. وعلى حين تصكّ آذان المكذبين الضالين الذين أخذوا أما كنهم فى نار جهنم، بهذه الدعوة المزلزلة المهلكة:
«اصلوها»، فإذا أخذهم لهيبها، واشتمل عليهم سعيرها، وصرخوا صرخة الويل والثبور، قيل لهم: «فاصبروا أولا تصبروا.. سواء عليكم» - على حين يفعل هذا بالمكذبين الضالين، يقال للمؤمنين المتقين، وقد أكلوا وشربوا من نعيم الجنة: «هنيئا» أي هنأكم الطعام والشراب.. فكلّ يأخذ من ثمر ما عمل، وبطعم من جنى ما غرس! «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». (٧١: التحريم) قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ».
أي أن المتقين يلقّون هذا التكريم، وتلك التحية، فى حال قد أخذوا فيها أما كنهم على أرائك وسرر مصفوفة، يقابل فيها بعضهم بعضا، ويأنس فيها بعضهم ببعض، وقد زوّجوا بحور عين..
والحور: جمع حوراء، وهى التي فى سواد عينيها قليل من البياض، وهو من أمارات الحسن والجمال، وقيل هو شدة بياض العين مع شدة
والعين: جمع عيناء، ويطلق على بقر الوحش لجمال عيونه..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ»..
ومما يساق إلى أهل الجنة فى الجنة، أن يكرم من أجلهم أبناؤهم وذرياتهم من المؤمنين، وذلك إذا كانوا أنزل درجة منهم فى الجنة- وفى الجنة درجات، كما فى النار دركات- وبذلك يجتمع شملهم فى الجنة، كما اجتمع شملهم فى الدنيا، وبهذا تقرّ أعينهم، ويكمل سرورهم..
وقوله تعالى: «وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ» - إشارة إلى أن هذه الذرية التي لحقت بآبائها فى الجنة، قد كانت على إيمان بالله، كإيمان آبائهم، وبهذا كانوا جميعا من أهل الجنة، وإن اختلفت فيها منازلهم، فكان جمعهم، وإلحاق الأدنى منهم بالأعلى- إحسانا من الله سبحانه وتعالى إليهم جميعا.. الآباء، والأبناء..
وهنا سؤال:
لماذا تلحق الأبناء بالآباء، ولا يلحق الآباء بالأبناء، إذا كانوا أنزل درجة من أبنائهم؟..
والجواب على هذا، أن هؤلاء الآباء، هم أبناء لآباء، وهؤلاء الآباء أبناء لآباء، وهكذا.. يتبع الأبناء آباءهم فى سلسلة تمتد من بدء الخليقة إلى نهايتها.. وهكذا يبدو أهل الجنة، وكأنهم جميعا أسرة واحدة.
ويدفع هذا الاعتراض:
أولا: أن أهل الجنة، أو الجنات، ليس بينهم هذه العزلة الجامدة الباردة، التي تقيم كل طائفة فى معزل عن الآخرين، بل إن أهل الجنة وإن اختلفت منازلهم، وتباينت درجاتهم، هم فى عالم واحد، مطلق، لا حدود فيه ولا قيود.. وهل تكون جنة ويكون نعيم، ثم يقام على هذه الجنة وذلك النعيم حارس؟.
وثانيا: هذا الاختلاف الذي بين درجات أهل الجنة ومنازلهم عند الله، هو اختلاف فى درجة التقبّل للنعيم، وفى مدى القدرة على التناول من هذا النعيم الذي لا ينفد أبدا.. فهناك نفوس كبيرة تستوعب نعيم الجنة كله، وتلذّ به، على حين أن هناك نفوسا صغيرة تأخذ من هذا النعيم حسوا كحسو الطير، ثم تجد فى ذلك شبعها وربّها.. إنها موائد ممدودة، عليها ما لا يبلغه الوصف من طيبات النعيم.. وإنه لا يردّ أحد عن أي لون من ألوان هذا النعيم، بل إن كل ما يطلبه المرء منه يجده حاضرا بين يديه.. ولكن هنا يختلف أهل الجنة فى قدرتهم على الأخذ من هذا النعيم، الذي بين أيديهم، فبعضهم يأخذ القليل لأنه لا شهوة له إلى أكثر من هذا القليل، على حين يكون هناك من يجدون القدرة والاشتهاء لكل ما فى الجنة من ألوان النعيم فيذوقون من كل لون، ويطعمون من كل صنف.. تماما كما نرى ذلك فى الحياة الدنيا، حيث يجلس المدعوّون إلى
دون أن يكون هناك حائل يحول بين أىّ منهم وبين ما يشتهى..
قوله تعالى «وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي وما أنقصنا شيئا من عمل هؤلاء الآباء الذي ألحقنا بهم ذريتهم، بل وفاهم الله تعالى أجرهم غير منقوص..
وكان إلحاق أبنائهم بهم، فضلا من فضل الله على الوالدين والمولودين جميعا..
والجملة: حال من الفاعل فى قوله تعالى «أَلْحَقْنا» وهو الله سبحانه وتعالى..
قوله تعالى:
«وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ».
هو مما يقدّم لأهل الجنة من طعام، وليس هو كل طعام الجنة، وإنما هناك من ألوان الطعام ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. وإنما اختصّ هذان الصنفان بالذّكر، لأنهما من أطيب، وأشهى ما يطعمه أهل الدنيا من طعام.. وكان من تمام النعمة فى الجنة ألا يحرم أهلها ما كان لهم من طعام مشتهى فى الدنيا، وخاصة أولئك الذين حرموا هذا الطعام فى دنياهم، وكان من مشتهياتهم فيها..
قوله تعالى:
«يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» التنازع: هو المجاذبة للشىء بين قوتين.. وتنازع الكئوس، تجاذبها بين الجالسين فى مجلس شرابها، يتبادلونها فى شوق ورغبة ونزوع أنفسهم إليها..
ولا تأثيم: أي لا إثم على شاربها، فهى خمر، وهى مع ذلك حلال لشاربها..
ومن هنا ندرك السر فى تحريم الخمر، والعلّة التي من أجلها كانت إثما يسوق مرتكبه إلى ساحة الاتهام والعقاب..
فالإسكار، هو علّة تحريم الخمر، لا علّة له غيرها.. دون نظر إلى المادة التي يصنع منها..
وعلى هذا، فإن الخلاف القائم بين أصحاب المذاهب الفقهية فى تلك المباحث التي تبحث عن جواب هذا السؤال: ما هى الخمر؟ وما هى المادة التي تصنع منها؟ - إن هذا الخلاف لا محصّل له، ولا داعية للوقوف عنده، فى تقرير الحكم الشرعي للخمر.. فكل مسكر خمر، وكل مغيّب للعقل، ذاهب بوقاره، داع له إلى اللغو- هو خمر، وهو موقع على متعاطيه إثما، هو إثم شارب الخمر..
قوله تعالى:
«وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» أي ويطوف على أهل الجنة بتلك الكئوس المترعة بالخمر، سقاة يقومون على خدمة شاربيها، وهم غلمان كاللؤلؤ المكنون، صفاء، وحسنا، وبهاء..
وهذا من تمام النعمة.. فإن الصورة التي يقدّم عليها الطعام أو الشراب من آنية توضع فيها، وأدوات تستعمل فى تناولها، وخدم يقومون بتقديمها.. كل ذلك وأشباهه، يجعل للطعام طعما يضاف إلى طعمه الذاتي، حسنا أو قبحا حسب
تدار علينا الرّاح فى عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى، وفى جنباتها مهّا تدّريها بالقسيّ الفوارس فللخمر ما زرّت عليه جيوبهم والماء مادارت عليه القلانس قوله تعالى:
«وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ».
أي ومن أحوال أهل الجنة، أنهم يتفكهون بتلك الأحاديث المسعدة، التي يذكرون بها فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، بإنزالهم هذا المنزل الكريم، بعد أن نجاهم من هذا البلاء، وعافاهم من ذلك العذاب الذي يصلاه أهل الجحيم من أهليهم، وإخوانهم، وأقوامهم، الذين كفروا بالله، وصدّوا عن سبيله...
المعارج).
وقوله تعالى: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» - هو تعقيب على قولهم: «إنا كنّا قبل فى أهلنا مشفقين» أي إنا كنا فى دنيانا مشفقين من عذاب ربنا فى هذا اليوم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى منّ علينا بالنجاة من هذا العذاب ووقانا شرّ ذلك اليوم، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» (١١: الإنسان) قوله تعالى:
«إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» هو تعقيب بعد تعقيب على قولهم: «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ» أي وكنا ندعو الله، ونطلب النجاة من شر هذا اليوم، ومن العذاب الواقع بأهل الشقاء فيه، وقد استجاب الله لنا بفضله، وإحسانه.. «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ» أي البارّ بعباده المؤمنين المحسنين «الرَّحِيمُ» الواسع الرحمة، لمن يطلبون رحمته، ويبتغون فضله.. فما أعظم برّه، وما أوسع رحمته..
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
قوله تعالى:
«فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، عرضت مشاهد القيامة وما يلقى المكذبون الضالّون هناك من عذاب وهوان، وما يتلقّى المؤمنون المتقون من رضوان الله، وجنات لهم فيها نعيم مقيم..
وهنا تجىء الآية الكريمة، والآيات التي بعدها، لتواجه الناس جميعا مرة أخرى، بالدعوة الإسلامية، وبرسولها الكريم الذي يدعو بها، بعد أن نقلتهم فى لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة وأرتهم منازلهم هناك، وما يجزون به عن أعمالهم، من محسنين ومسيئين.
ولا شك أن مواجهة الناس هنا بالدعوة الإسلامية، بعد هذه المشاهد التي شهدوها من يوم القيامة- لا شك أن هذه المواجهة ستلقى الناس على حال غير الحال التي كانوا عليها من قبل، وقد رأوا النار وسعيرها، والجنة ونعيمها.
وقوله تعالى: «فذكّر» هو دعوة للنبى أن يواجه الناس بدعوته، وأن يتلو عليهم آيات ربه، وأن يؤذّن فيهم بقوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (١٥٨: الأعراف).. فهذا هو موقف النبي دائما لا يتحول عنه، ولا يعدل به عن مقامه فيه، ما يلقى من أذى وضرّ، وما يسمع من سفاهة السفهاء، وجهل الجاهلين.. «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، (٥٥:
الذاريات).
وقوله سبحانه. «فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» أي فما أنت
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».
هو إضراب عن مقولات المشركين فى النبي، بأنه شاعر، أو كاهن، وانتقال إلى مقولة أخرى يقولونها فى النبي، وهو قولهم «شاعر».. فهم يلقون بهذه الأباطيل من غير أن يقوم عندهم دليل عليها، وإنما هى رميات طائشة عمياء، يلقون بها بلا حساب أو تقدير.. شأن من يحارب عدوّا متوهما، فيرمى بكل ما يقع ليده إلى كل اتجاه، فرارا من هذا الخطر المتوهم، سواء أصابت هذه الرميات عدوّا، أم صديقا..
وقوله تعالى: «نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» هو أمنية من تلك الأمانى التي يعيش بها المشركون مع النبي، وتعلّة يتعللون بها، وهى أن ينتظروا به موتا يختطفه من بينهم، ويريحهم منه.. فتلك أمنية يتمنونها، ويعلقون آمالهم بها.
وقوله تعالى: «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» - هو ردّ على ما ينتظرون فى النبي من موت يريحهم منه.. «تربصوا» أي انتظروا: «فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» أي منتظر لما تأتى به الأيام فىّ وفيكم.. فالأمر فى هذا على سواء بينهم وبينه، إذ للموت حكم واقع عليهم وعليه. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟» (٣٤: الأنبياء) ويقول سبحانه «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (٣٠: الزمر).
«أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ».
هو استفهام يراد به تسفيه عقول هؤلاء الذين يقولون هذا القول الأحمق، الذي لا يقبله عقل، ولا ينطق به عاقل، وهو التربص والانتظار للموت الذي يتمنونه للنبى.
وفى التعبير عن معطيات عقولهم، بالأمر، وبأنها تملى عليهم هذا القول وتأمرهم به- إشارة إلى أنهم كيان منفصل عن تلك العقول، التي تفيض بالوساوس والأوهام، وأن كل ما يطرقهم من أوهام هذه العقول ووساوسها، لا يجد منهم إلا ألسنة تردد هذه الأوهام وتلك الوساوس، دون أن يكون لهم سلطان عليها، أو تحكّم فيها، وذلك على غير ما يفعل العقلاء الذين يتدبرون أمرهم بينهم، وبين خطرات نفوسهم، ووساوس عقولهم.
وقوله تعالى: «أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» هو إضراب عليهم، وعلى عقولهم جميعا، وأنهم كيان من الطغيان، يندفع كما تندفع الحمر المستنفرة، فرّت من قسورة، لا إرادة معها، ولا اختيار لها فى الوجهة التي تأخذها فى فرارها.
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ.. بَلْ لا يُؤْمِنُونَ».
استفهام آخر، يكشف عن جريمة أخرى من جرائمهم، ويواجههم بضلالة من ضلالاتهم، وهى قولهم فى النبي: إنه افترى هذا القول الذي يحدّثهم به، ويقول لهم عنه إنه كلام الله!!.
وقوله تعالى: «بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» - حكم عليهم بأنهم لن ينتفعوا بهذا القرآن، ولا يهتدون به، ولا يكونون فى المؤمنين أبدا.. وهذا حكم واقع
قوله تعالى:
«فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ».
هو ردّ متحدّ لهؤلاء المشركين، الذين يتهمون النبي بالكذب والتقوّل على الله، وذلك بأن يأتوا بحديث مفترى، مثل هذا القرآن، إن كانوا صادقين فى دعواهم تلك.. فإن يفعلوا- ولن يفعلوا- فذلك هو مقطع القول بينهم وبين النبي.
قوله تعالى:
«أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ».
هو انتقال بالقضية التي تتصل بالقرآن، وبمقولاتهم فيه، بعد أن دعاهم إلى التحدّى فلم يقوموا له- انتقال إلى ميدان آخر من ميادين المحاجّة.. فليدعوا هذا القرآن، وليدعوا ما يحدّثهم به النبي منه.. ثم لينظروا فى أنفسهم، وليجيبوا على هذا السؤال: أخلقوا من غير شىء؟ فمن أين إذن جاءوا إلى هذه الدنيا؟
ومن صوّرهم على تلك الصورة التي هم فيها؟ أخلقوا هم أنفسهم؟ أصوروا هذه النّطف التي بدأت بها مسيرتهم فى الحياة فى أرحام أمهاتهم؟ إنه لا جواب إلا الصمت المطبق والوجوم الحائر! قوله تعالى:
«أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. بَلْ لا يُوقِنُونَ».
وإذا لم يكن لهم أن يقولو إنهم خلقو أنفسهم، فهل لهم أن يقولوا إنهم
وقوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» - هو استدراك على سؤال يرد على قوله تعالى:
«أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟» وهذا السؤال هو: وهل ينكر المشركون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول عنهم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» (٩: الزخرف) فكيف يسألون هنا هذا السؤال الذي فيه اتهام لهم بالقول بأن للسموات والأرض خالقا غير الله؟ فكان قوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» دافعا لهذا الذي يقع فى الوهم من تعارض بين سؤالهم سؤال المتهم، فى قوله تعالى: «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» وبين إقرارهم بما يدفع هذه التهمة عنهم فى قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».
(٢٥: لقمان) وذلك أن قوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» يكشف عن حقيقة إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض.. فهو إقرار لا يقوم على استدلال وبحث، ونظر.. ومن ثمّ فلا يقع منهم موقع اليقين.. فلم يكن إقرارهم بما أقروا به، إلّا عن قهر واضطرار، إذ لم يجدوا بدّا من التسليم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض! أمّا هذا الخالق، وقدرته، وعلمه وحكمته وسلطانه، فلم يكن له مفهوم واضح يقوم على إدراك سليم عندهم.. ولو كان هذا الإقرار قائما على إدراك صحيح، وفهم سليم، لكانوا مؤمنين به، مصدقين لرسوله، مؤمنين بآيات الله التي بين يديه.. وهكذا كل قول لا يقوم على علم لا يبعث فى صاحبه يقينا بمفهوم هذا القول، ولا يحدث فى نفسه أثرا يثير وجدانه، ويحرك مشاعره، ويؤثر فى منازعه.. فهذا هو كلام الله، يمسك بالحقائق من أطرافها جميعا: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (٨٢: النساء).
«أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ».
سؤال آخر، يسأله المشركون، وهم فى موقف الاتهام بالشرك بالله، وضلالهم الطريق إليه..
والسؤال هنا عمّا يمكن أن يكون لهم من دعوى يدّعونها فيما بين يدى الله من خزائن ملكه، ومن تصرّفه فيما تضم هذه الخزائن من منن وعطايا، ومن رحمة وإحسان.
أعندهم مفاتح هذه الخزائن؟ أهم المسيطرون عليها، المتصرفون فيها؟ وإذا لم يكن لهم شىء من هذا، فلم إذن ينكرون على الله أن يمنّ بفضله على من يشاء من عباده؟ ولم إذن ينكرون أن يكون لله سبحانه الخترة فى اصطفاء من يصطفى من خلقه للسفارة بينه وبين الناس؟ ولم يقولون هذا القول المنكر فى النبي.. «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» ؟ (٢٥: القمر) وكيف تبلغ بهم الجرأة أن يقولوا: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟» وقد رد الله سبحانه قولهم هذا بقوله: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟» (٣١، ٣٢ الزخرف).
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ».
وسؤال اتهام أيضا.. يقال لهم فيه: من أين جئنم بهذه المقولات الباطلة التي تقيمون منها دينا تدينون به، فتجعلون من الملائكة، والجنّ، والنجوم، والكواكب- آلهة تعبدونها من دون الله؟ أمعكم بهذا كتاب من عند الله؟
أم كان لكم سلم وصل بينكم وبين الملأ الأعلى، فتلقّيتم منه هذه المقولات التي
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟».
وهذا سؤال اتّهام كذلك، لهؤلاء المشركين:
إذا كان قد صحّ لديكم أن الملائكة بنات الله، وأنكم إنما تعبدون بنات الله تقربا إلى الله، ليكونوا شفعاء لكم عنده- فهل نسبتكم البنات إلى الله، مما يتفق مع منطقكم الذي تعيشون به، والذي تقيمون فيه البنات عندكم على ميزان شائل، تخفّ به كفتهم إزاء كفة البنين، بل إنه لا يكاد يقام لهم ميزان أصلا عند كثير منكم؟ أفلا كان يقضى عليكم منطقكم هذا- إذا كنتم تريدون لله توقيرا- أن تجعلوا الملائكة- وقد نسبتموهم إلى الله نسبة بنوة- ذكورا لا أناثا، وبنين، لا بنات؟ وفى هذا يقول سبحانه: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى.. لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» (٦٢: النحل).
قوله تعالى:
«أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» ؟
وتهمة أخرى يسألون جوابهم عنها:
ماذا يضيرهم من هذه الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها؟ وماذا
فما سألهم الرسول شيئا من حطام الدنيا، ولا أقام نفسه سلطانا عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» (٨٦- ٨٧ ص)..
قوله تعالى:
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ» ؟.
أي أعندهم علم من الغيب، فهم يخرجون منه هذه المقولات التي يقولونها، ويجعلون منها دينا يردّون به دين الله الذي يدعوهم الرسول إليه؟
ولا جواب أيضا..
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً» (٧٧- ٨٠: مريم).
قوله تعالى:
«أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ»..
أي أيريدون بهذا الخلاف على النبي، والتولّى عنه، والتصدي لدعوته- أيريدون بهذا كيدا للنبى، وإساءة إليه؟ إنهم بهذا إنما يكيدون لأنفسهم، ويحرمونها هذا الخير الكثير الممدود إليهم، وإنهم بهذا لهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة جميعا..
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ؟ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ»..
قوله تعالى:
«وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ»..
هو تهديد لهؤلاء المشركين، ببلاء ينزل عليهم من السماء، التي افتروا عليها، وكذّبوا بآيات الله المنزلة عليهم منها.. فإن السماء التي تتنزل بالهدى والرحمة، يمكن أن تتنزل كذلك بالرجوم والصواعق والمهلكات..
وإنه كما ضل هؤلاء المشركون عن آيات الله، فلم يتبينوا وجه الحق المبين فيها، وحسبوا ما فيها من خير وهدى، أنه شر وبلاء- كذلك اختلط عليهم الأمر فى هذا البلاء النازل عليهم من السماء، فحسبوه خيرا وظنوه رحمة هاطلة، وغيثا مدرارا.. وهكذا تتحول الحقائق عندهم إلى نقائضها..
فالخير يرونه شرا، والشر يحسبونه خيرا.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (٤١:
المائدة)..
والكشف: - كما يقول الراغب- جمع كسفة، وهى القطعة من السحاب أو القطن، ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة.
والمركوم: أي المتراكم، والركام ما يلقى بعضه على بعض..
قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ»..
واليوم الذي يصعقون فيه، هو يوم القيامة، حيث تأخذهم صواعقه، وتغشاهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم..
قوله تعالى:
«يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ».
أي فى هذا اليوم الذي ينتظرهم بالصواعق والعذاب الأليم- فى هذا اليوم، لا يجدون من هذا الكيد الذي يكيدونه للنبى شيئا ينتفعون به، بل إنه سيكون عليهم حسرة ووبالا، حيث لا ناصر لهم ينصرهم من بأس الله، ويدفع عنهم العذاب المحيط بهم.
قوله تعالى:
«وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»..
هو وعيد لتلك الطّغمة الظالمة الطاغية من هؤلاء المشركين، والذين تولّوا كبر هذا الموقف، الآثم، الذي يقفه المشركون من النبي، ومن آيات الله، التي يتلوها عليهم- فهؤلاء الظالمون الطّاغون، لهم- فوق العذاب الراصد لهم فى الآخرة- عذاب معجّل فى هذه الدنيا، هو ما يلقاهم فى يوم بدر وغيره، من قتل، ومن خزى، ومن حسرة تتقطع
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن أكثر هؤلاء المشركين الظالمين الطاغين، لا يعلمون هذا من أمر دين الله، وأنه ذو سلطان غالب، أمّا قليل منهم، فقد كان يعلم هذه الحقيقة، ويتوقع هزيمة الشرك، وخزى المشركين، ولكنه كان يمسك بشركه، أنفة، وحميّة واستعلاء..
قوله تعالى:
«وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ»..
بهذه الآية تختم السورة، داعية النبي إلى أن يصبر على عناد قومه، وما يسوقون من كيد له.. فهذا موقف أراده الله وقضى به، ليبتلى به ما فى الصدور، وليمحّص ما فى القلوب، وليجزى المؤمنين منه جزاء حسنا..
واللام فى قوله تعالى: «لِحُكْمِ رَبِّكَ» هى لام العاقبة، أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبين قومك، وإنه لحكم ينتصر فيه الحق على الباطل، وتعلو فيه كلمة المحقّين على المبطلين..
وقوله تعالى «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» تطمين لقلب النبي الكريم، وأنه ملحوظ بعين الله سبحانه وتعالى، محفوف بعنايته.. ترعاه عين الله وتحرسه.
وقوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» دعوة للنبى أن يذكر ربه، ويسبح بحمده على هذه الرعاية الربانية التي يفيضها الله
وبقوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أي ومن بعض الليل، فسبح بحمد ربك.. وبقوله: «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» أي مطلع الفجر، بعد أن يغلب ضوءه أضواء النجوم، فتولى النجوم أدبارها، منهزمة أمام هذا الضوء الذي يغزوها بجيشه الزاحف الذي لا يهزم..
هذا، ويدخل فى هذا التسبيح بحمد الله فى تلك الأوقات- الصلوات الخمس المفروضة.. فيدخل فى قوله تعالى: «حِينَ تَقُومُ» صلاة النهار، وهى الظهر والعصر، وفى قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» - صلاة المغرب والعشاء وفى قوله تعالى: «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» صلاة الصبح..
نزولها: مكية باتفاق..
عدد آياتها: اثنتان وستون آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون كلمة..
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة الطور مواجهة صريحة بالاتهام للمشركين، بمفترياتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمقولاتهم الآثمة فيه، وبأنه شاعر يتربصون به ريب المنون، وأنهم لهذا لا يقبلون ما يدعوهم إليه من هدى، يطالعهم به فى آيات الله التي يتلوها عليهم، وأنهم لهذا أيضا، متمسكون بما معهم من أباطيل وضلالات يدينون بها، ويقيمون حياتهم الروحية عليها..
وقد ووجهوا بهذه الضلالات، وضبطوا متلبسين بها، وسئلوا عن المصدر الذي تلقوها منه- فلم يكن لهم هناك جواب إلا الحيرة والوجوم..
وجاءت سورة النجم تعقيبا على هذا الموقف الذي جمد فيه المشركون، وخرسوا أمام هذه التهم التي تلبسوا بها، وفى أعينهم نظرات زائغة..
يرمون بها هنا وهناك ليجدوا مخرجا من هذا المأزق الحرج الذي هم فيه..
وفى هذا التعقيب يعرض على المشركين الوجه الذي ينبغى أن يسلكوه، إن هم أرادوا الخروج من هذه الحيرة التي لبستهم..
ومن جهة أخرى، فإن سورة الطور، قد ختمت بقوله تعالى: «وَمِنَ