وآياتها ١٦٥
ﰡ
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
سورة الأنعاممكية [إلا الآيات ٢٠ و ٢٣ و ٩١ و ٩٣ و ١١٤ و ١٤١ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ فمدنية] وعن ابن عباس: غير ست آيات، وآياتها ١٦٥ [نزلت بعد الحجر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنعام (٦) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)جَعَلَ يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير، كقوله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق فيه معنى التقدير «١» وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. فإن قلت: لم أفرد النور «٢» ؟ قلت: للقصد إلى الجنس،
(٢). عاد كلامه. قال: فإن قلت: لم أفرد النور؟ قلت: للقصد... الخ» قال أحمد: وقد سبق للزمخشري الاستدلال يجمع الجنس على التكثير، واعتقاد أنه أدل على الكثرة من الافراد. وقد قدمنا ما في ذلك من النظر، وأسلفنا الاستدلال بقول حبر الأمة: كتابه أكثر من كتبه، على خلاف ذلك» وهو رأى الامام أبى المعالي.
ولو قال الزمخشري. إن جمع الظلمات لاختلافها بحسب اختلاف ما ينشأ عنه من أجناس الأجرام، وإفراد النور لاتحاد الجنس الذي ينشأ عنه وهو النار لكان أولى، والله أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة. وقيل: الأجل الأوّل:
ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأوّل النوم.
والثاني: الموت. فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره «٢» فلم جاز تقديمه
ثم جاءكم رسول مصدق له، فاستقام عطفه ودخوله في حكم الصلة بهذه الطريقة، لكن بقي في آية الأنعام هذه نظر في المعنى على الاعراب المذكور، وهو أنه يصير التقدير: الحمد لله الذي، الذين كفروا يعدلون، ووقوع هذا عقيب الحمد غير مناسب كما ترى. فالوجه- والله أعلم- عطفه على أول الكلام، لا على الصلة، والله الموفق. [.....]
(٢). قال محمود: «إن قلت المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب... الخ» قال أحمد: وليس في إرادة هذا المعنى موجب للتقديم. وقد ورد وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ في سياق التعظيم لها، وهو مع ذلك مؤخر عن الخبر في قبله وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالظاهر- والله أعلم- أن التقديم إنما كان لأن الكلام منقول من كلام آخر، وكان الأصل- والله أعلم- ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده، إذ كلاهما مقضي. فلما عدل بالكلام عن العطف الافرادى تمييزا بين الأجلين رفع الثاني بالابتداء وأقر بمكانه من التقديم والله أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)
فِي السَّماواتِ متعلق بمعنى اسم الله، «١»، كأنه قيل وهو المعبود فيما. ومنه قوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالالهية فيها، أو هو الذي «٢» يقال له- الله- فيها لا يشرك به في هذا الاسم. ويجوز أن يكون اللَّهُ فِي السَّماواتِ خبراً بعد خبر، على معنى: أنه الله- وأنه في السموات والأرض، بمعنى: أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء، كأن ذاته فيهما. فإن قلت: كيف موقع قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ؟ قلت: إن أردت المتوحد بالإلهية كان تقريراً له، لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو- الله- وحده، وكذلك إذا جعلت في السموات خبراً بعد خبر، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم. أو خبر ثالث وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من الخير والشر، ويثبت عليه، ويعاقب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)
مِنْ في مِنْ آيَةٍ للاستغراق. وفي مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ للتبعيض. يعنى: وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، إلا كانوا عنه معرضين: تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب فَقَدْ كَذَّبُوا مردود على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها
(٢). عاد كلامه. قال: أو هو المعروف بالألوهية أو هو الذي يقال له- الله- فيهما... الخ» قال أحمد: وهذه الوجوه كلها كأن التعبير وقع فيها بالملزوم عن لوازمه المشهورة به، كما وقع ذلك في قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
أى المعروف المشهور، لأنه بنى على أنه متى ذكر شعره فهم السامع عند ذكره خواصه من الجودة والبلاغة وسلامة النسج، لاشتهاره بذلك، فاقتصر على قوله «شعري» اتكالا على فهم السامع.
سيعلمون بأى شيء استهزءوا. وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها. ونحوه: أرّض له. ومنه قوله إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والسماء المظلة، لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، أو السحاب أو المطر. والمدرار: المغزار. فإن قلت: أى فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ٩]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ في ورق فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا «١» سكرت أبصارنا، ولا تبقى لهم علة. لقالوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنتا وعناداً
(٢). متفق عليه من روآية مسروق عن عائشة: أن النبي ﷺ رأى جبريل في صورته مرتين.
وفي روآية لها: رأى جبريل له ستمائة جناح.
(٣). عاد كلامه. قال: «وإما لأنه يزول الاختيار الذي قاعدة التكليف مبنية عليه عند نزول الملك فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا الملك في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون» قال أحمد: ويقوى هذا الوجه قوله: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا. قال ابن عباس: ليتمكنوا من رؤيته ولا يهلكوا من مشاهدة صورته.
(٤). عاد كلامه. قال: «ومعنى- ثم- بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر... الخ» قال أحمد: وهذه النكتة من محاسن، تنبيهاته.
(٥). متفق عليه من روآية أبى عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال «نبئت أن جبريل أتى النبي ﷺ وعنده أم سلمة، فجعل يتحدث، ثم قام فقال نبى الله لأم سلمة: من هذا؟ فقالت: دحية الكلبي... الحديث» وللحاكم من روآية مسروق عن عائشة قالت: «لقد رأيت رسول الله ﷺ يناجى في حجري رجلا شبهته بدحية الكلبي. فقال لي: هذا جبريل، وهو يقرئك السلام» وللطبراني من روآية قتادة عن أنس «أن رسول الله ﷺ كان يقول: يأتينى جبريل على صورة دحية الكلبي» قال أنس «وكان دحية رجلا جسيما جميلا أبيض» وفي إسناده عفير بن سعدان وهو ضعيف ولأبى نعيم في الدلائل من روآية صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد عن النبي ﷺ قال «رأيت جبرئيل في خلقه الذي خلق عليه، وكنت أراه قبل ذلك في صور مختلفة وأكثر ما كنت أراه في صورة دحية الكلبي» رجاله ثقات، إلا أنه مرسل وروى ابن سعد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عمر «كان جبريل يأتى رسول الله ﷺ في صورة دحية الكلبي».
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ تسلية لرسول الله ﷺ عما كان يلقى من قومه فَحاقَ بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
فإن قلت: أى فرق بين قوله فَانْظُروا وبين قوله ثُمَّ انْظُرُوا «١» قلت: جعل النظر «٢» مسبباً عن السير في قوله فَانْظُروا فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)
لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سؤال تبكيت، وقُلْ لِلَّهِ تقرير لهم، أى هو- الله- لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أى أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون
(٢). قوله «النظر» لعله «بالنظر». (ع)
معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله: لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)
وَلَهُ عطف على الله ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من السكنى وتعديه بفي كما في قوله وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤ الى ١٦]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
أوَلى غَيْرَ اللَّهِ همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو أَتَّخِذُ لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً، لا في اتخاذ الولي، فكان أولى بالتقديم. ونحوه أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ. وقرئ فاطِرِ السَّماواتِ بالجرّ صفة لله، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري: فطر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض، حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها «١» أى ابتدعتها وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ وهو يرزق ولا يرزق، كقوله ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ والمعنى: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ: ولا يطعم، بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب: وهو يطعم ولا يطعم، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير لغير الله.
وقرأ الأشهب. وهو يطعم ولا يطعم، على بنائهما للفاعل. وفسر بأن معناه: وهو يطعم، ولا يستطعم. وحكى الأزهرى: أطعمت، بمعنى استطعمت. ونحوه: أفدت. ويجوز أن يكون
ويحفظه، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف، لكونه معلوما أو مذكورا قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب يومئذ بيصرف انتصاب المفعول به، أى من يصرف الله عنه ذلك اليوم: أى هو له، فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبىّ رضى الله عنه: من يصرف الله عنه،
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه، فلا قادر على كشفه إلا هو وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من غنى أو صحة فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكان قادراً على ادامته أو إزالته.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٨]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
فَوْقَ عِبادِهِ تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة، كقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ الشيء
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٩]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
وأراد: أى شهيد أَكْبَرُ شَهادَةً فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ في التعميم قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله قُلِ اللَّهُ بمعنى الله أكبر شهادة، ثم ابتدئ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أى هو شهيد بيني وبينكم، وأن يكون اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ هو الجواب، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أى: لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ﷺ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ تقرير لهم مع إنكار واستبعاد قُلْ لا أَشْهَدُ شهادتكم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى يعرفون رسول الله ﷺ بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم ونعوتهم لا يخفون
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ناصبه محذوف تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أى آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله.
وقوله: الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ معناه تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. وقرئ: يحشرهم ثم يقول، بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ، ويجوز أن يشاهدوهم، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة. فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم فِتْنَتُهُمْ كفرهم. والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم «١» - الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمى فتنة، لأنه كذب. وقرئ: تكن، بالتاء وفتنتهم، بالنصب. وإنما أنث أَنْ قالُوا لوقوع الخبر مؤنثاً، كقولك: من كانت أمّك؟
وقرئ بالياء ونصب الفتنة. وبالياء والتاء مع رفع الفتنة. وقرئ: ربنا، بالنصب على النداء
كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً: ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. وأما قول من يقول:
معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحملُ قوله انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يعنى في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عىّ وإقحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ. وما أدرى ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ بعد قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلوا القرآن. روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته- يعنى الكعبة- ما أدرى ما يقول، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان:
إنى لأراه حقا. فقال أبو جهل: كلا، فنزلت. والأكنة على القلوب، والوقر في الآذان: مثل في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله «١» واعتقاد صحته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله
وروى أنهم اجتمعوا إلى أبى طالب وأرادوا برسول الله ﷺ سوءاً. فقال: «١»
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم | حَتَّي أُوَسَّدَ فِى التُّرَابِ دَفِينَا |
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ | وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا |
ودَعَوْتَنِى وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحٌ | وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا |
وَعَرَضْتَ دِيناً لَا مَحَالَةَ أنَّهُ | مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا |
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أوْ حذَارِىَ سُبَّةٌ | لَوَجَدْتَنِى سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا «٢» |
(٢). لأبى طالب، لما اجتمع عنده قريش وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم. «فاصدع» أى اجهر بأمرك حتى تؤثر في القلوب، كصدع الزجاج، أى شقه وكسره. وغض منه يغض- بالضم- غضاضة: وضع ونقص من قدره. وغضغضت الماء وتغضغض هو: نقصته وانتقص. أى ما عليك مذلة ومنقصة من أمرك. وبشر يبشر- بالضم- سر وفرح. وأبشر إبشارا: سر واستبشر. وبشرته وأبشرته أفرحته. أى: افرح وانسر بذلك.
وقرت عينه. بردت سرورا، أى افرح بذلك وانسر. فهو توكيد لأبشر، إلا أنه بطريق الكناية المفيدة للمبالغة.
وعيونا تمييز محول عن الفاعل، أى لتقر عيونك. والمراد بالجمع ما فوق الواحد، أو المبالغة، أو عيونه هو أو عيونه هو والمؤمنين. ويروى «منه» أى من ذلك الأمر. و «لن» حرف لتوكيد النفي كما تشهد به مواضع الاستعمال.
ونفى الوصول: كناية عن نفى المضرة على وجه أبلغ. والباء للملابسة. و «حتى أوسد» غاية مفيدة للتوكيد والتأييد والتوسيد: كناية عن الموت، فيجعل له وسادة تحت رأسه في رمسه. و «دفينا» أى مدفونا حال. ومجيء المضارع المنفي بلن جوابا للقسم لا يجوز إلا في الضرورة كما هنا. وزعمت: أى قلت عند من لا يصدقك، ولقد صدقت في دعواك أنك ناصح للناس، و «كنت ثم» أى عند قولك «أمينا» فيما ادعيت وعرضت علينا دينا صادقا أنه من خير أديان البرية دينا، أى من جهة الديانة، أو من جهة الجزاء. وقيل: قد يراد من التمييز مجرد التوكيد وهذا منه لا محالة في ذلك، فقوله «لا محالة» جملة اعتراضية للتوكيد. والحذار: مصدر بمعنى الحذر من مسبتهم لي. ويروى أو حذارى سبة. والسب أبلغ من اللوم «لوجدتني» يا محمد راضياً بذاك الدين، مظهراً له. وسمح سماحة فهو سمح، كضخم ضخامة فهو ضخم: إذا جاد ولم يبخل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)وَلَوْ تَرى جوابه محذوف تقديره. ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أروها حتى يعاينوها. أو اطلعوا عليها اطلاعا هي تحتهم، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك: وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته، وقرئ: وقفوا، على البناء للفاعل، من وقف عليه وقوفا يا لَيْتَنا نُرَدُّ تم تمنيهم. ثم ابتدءوا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ واعدين الإيمان، كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات. وشبهه سيبويه بقولهم:
دعني ولا أعود، بمعنى دعني وأنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني. ويجوز أن يكون معطوفا على نردّ، أو حالا على معنى: يا ليتنا نردّ غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني.
فإن قلت: يدفع ذلك قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لأنّ المتمنى لا يكون كاذبا. قلت: هذا تمنّ قد تضمن معنى العدة، فجاز أن يتعلق به التكذيب، كما يقول الرجل: ليت الله يرزقني مالا فأحَسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمنّ في معنى الواعد، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالا كافأتك على الإحسان. وقرئ: ولا نكذب ونكون، بالنصب بإضمار أن على جواب التمني «١» ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا. وقيل: هو
وكثيراً ما تتناوب صيغة التمني والخبر. ألا ترى: إلى قوله تعالى وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إلى قوله وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وهذه المعاهدة إنما كانت تمنيا بصيغة الخبر، والله أعلم. وأبين من ذلك قوله تعالى في آية أخرى وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فهذا هو التمني بعينه، ولكن بصيغة الوعد والخبر الصريحة، والله الموفق.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٩]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
وَقالُوا عطف على لعادوا. أى ولو ردّوا لكفروا ولقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله: وإنهم لكاذبون، على معنى:
وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء، وهم الذين قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا. وكفى به دليلا على كذبهم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل: وقفوا على جزاء ربهم. وقيل عرفوه حق التعريف قالَ مردود على قول قائل قال: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه فقيل: قال أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ وهذا تعيين من الله تعالى لهم على التكذيب. وقولهم- لما كانوا يسماعون من حديث البعث والجزاء-: ما هو بحق وما هو إلا باطل بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر. وحَتَّى غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. أى ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة. فإن قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدّماتها، جعل من جنس الساعة وسمى باسمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته «١» ». أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة بَغْتَةً فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة، أو على المصدر
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٢]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالا بما لا يعنى ولا يعقب منفعة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: ولدار الآخرة. وقرئ: تعقلون بالتاء والياء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٣]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
قَدْ في قَدْ نَعْلَمُ بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته «١»، كقوله:
أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ | وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ «٢» |
قد أترك القرن مصفراً أنامله
والغرض التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه، تنبيها على أنه بلغ الآية التي ما بعدها إلا الرجوع إلى الضد. وذلك من لطائف لغة العرب وغرائبها.
(٢).
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله | ولكنه قد يهلك المال نائله |
تراه إذا ما جئته متهللا | كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
ولو لم يكن في كفه غير نفسه | لجاد بها فليتق الله سائله |
فمن مثل حصن في الحروب ومثله | لانكار ضيم أو لخصم يحاوله |
فسائله الأول مضاف لمفعوله الثاني. والثاني مضاف للأول. وقوله «فمن» استفهام إنكارى، أى ما مثله أحد في الحروب، وما مثله أحد معد لانكار الظلم وإبائه والمحاولة والمعالجة والطلب. وضمير يحاوله للضيم، أو لحصن، أو لمن. ويروى الشعر برواية أخرى، على أنه وصف لمعن بن زائدة وهي:
يقولون معن لا زكاة لماله | وكيف يزكى المال من هو باذله |
إذا حال حول لم تجد في دياره | من المال إلا ذكره وجمائله |
تراه إذا ما جئته متهللا | كأنك تعطيه الذي أنت نائله |
تعود بسط الكف حتى لو انه | أراد انقباضا لم تطعه أنامله |
كان رسول الله ﷺ يسمى الأمين «٢» فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون. وكان أبو جهل يقول: ما نكذبك لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروى أنّ الأخنس بن شريق قال لأبى جهل: يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله إن محمداً لصادق
(٢). لم أجده عنه وفي الطبقات من حديث يعلى بن أمية قال «بلغ رسول الله ﷺ خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين» ورواه أيضا من حديث على ابن أبى طالب نحوه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ تسلية لرسول الله ﷺ «١» وهذا دليل على أن قوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك ولكنهم أهانونى عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا على تكذيبهم وإيذائهم وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)
كان يكبر على النبي ﷺ كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ منها بِآيَةٍ فافعل. يعنى أنك لا تستطيع ذلك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يورّ أن يجابوا
وحذف جواب «أن» كما تقول: إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بأن يأتيهم بآية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه «١» إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعنى أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسماعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان. وأنت لا تقدر على ذلك. وقيل معناه: وهؤلاء الموتى- يعنى الكفرة- يبعثهم الله. ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسماعون. وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم «٢» وقرئ: يرجعون، بفتح الياء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٧]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ نزل بمعنى أنزل. وقرئ أن ينزل بالتشديد والتخفيف. وذكر الفعل والفاعل مؤنث، لأن تأنيث آية غير حقيقى، وحسن للفصل. وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً
تضطرهم إلى الإيمان.
كنتق الجبل على بنى إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(٢). قوله «إلى استماعهم» لعله: إسماعهم. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٨]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم ما فَرَّطْنا ما تركنا وما أغفلنا فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مِنْ شَيْءٍ من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعنى الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روى أنه يأخذ للجماء من القرناء. فإن قلت: كيف قيل: إِلَّا أُمَمٌ مع إفراد الدابة والطائر؟ فإن قلت: لما كان قوله تعالى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ دالا على معنى الاستغراق ومغنيا عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله إِلَّا أُمَمٌ على المعنى، فإن قلت، هلا قيل: وما من دابة ولا طائر «١» إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله فِي الْأَرْضِ ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها. فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقرأ ابن أبى عبلة: ولا طائر، بالرفع على المحل، كأنه قيل:
وما دابة ولا طائر. وقرأ علقمة: ما فرطنا، بالتخفيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
فإن قلت: كيف أتبعه قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؟ قلت: لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادى على عظمته قال: والمكذبون صُمٌّ لا يسماعون كلام المنبه
ولقائل أن يقول: يلزم من العموم في أجناس الطير دخول كل طائر في الجو في العموم وإن لم يذكر في الجو، وكذلك يلزم من عموم الدواب في سائر أصنافها أن يندرج في ذلك كل دابة في الأرضين وإن لم يذكر في الأرض، فلا بد من بيان وجه الزيادة فنقول: موقع قوله فِي الْأَرْضِ ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ موقع الوصف العام، وصفة العام عامة ضرورة المطابقة، فكأنه مع زيادة الصفة تظافرت صفتان عامتان، والله أعلم. [.....]
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١)
أَرَأَيْتَكُمْ أخبرونى. والضمير الثاني لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيدا ما شأنه؟ وهو خلف من القول ومتعلق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذاب انّه «٣» أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ من تدعون. ثم بكتهم بقوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون الله دونها بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أى ما تدعونه إلى كشفه إِنْ شاءَ إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ وتتركون آلهتكم، «٤» أو لا تذكرونها في ذلك الوقت، لأنّ أذهانكم في ذلك الوقت مغمورة بذكر ربكم وحده، إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره. ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ «٥» كأنه قيل:
(٢). قال محمود: «معنى يضلله يخذله ولم يلطف به... الخ» قال أحمد: وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة اتباعا لمعتقده الفاسد في أن الله تعالى لا يخلق الهدى ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد. وكم تخرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرقعها، وقد اتسع الخرق على الراقع، والله الموفق.
(٣). قال محمود: «متعلق الاستخبار محذوف تقديره... الخ» قال أحمد: هو لا يدع أن يحجر واسعا فيوجب على الله رعاية المصالح بناء على القاعدة الفاسدة من مراعاة الصلاح والأصلح.
(٤). عاد كلامه. قال: «وتنسون ما تشركون: أى وتتركون آلهتكم... الخ» قال أحمد: وإنما يلقى الاختصاص حيث يقول: معناه أتخصون آلهتكم، ثم قال: بل تخصون الله بالدعاء من حيث تقدم المفعول على الفعل في قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وقوله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ وتقديم المفعول عنده يفيد الاختصاص والحصر. وقوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ في قوة قولك: لا نعبد إلا إياك. وقد مضى الكلام عليه.
(٥). عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أغير الله تدعون... الخ» قال أحمد: ولقد سدد النظر لولا أنه نغص ذلك بما يفهم وجوب مراعاة المصالح. وأن مشيئة الله تعالى تابعة للمصلحة، وقد تقدم آنفا فاحذره. وعليك بما سواه فانه من بديع النظر، والله الموفق.
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ مع قوله أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشف المشيئة، وهو قوله: إِنْ شاءَ إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
البأساء، والضراء: البؤس، والضر. وقيل البأساء: القحط والجوع. والضراء: المرض ونقصان الأموال والأنفس. والمعنى: ولقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه: نفى التضرع، كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء: أى تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى، طلباً لصلاحه حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتداب لشكر ولا تصدّ لتوبة واعتذار أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ واجمون «١» متحسرون آيسون فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم لم يترك منهم أحد، قد استؤصلت شأفتهم «٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(٢). قوله «شأفتهم» قرحة تخرج من أسفل القدم فتكوى فتذهب، ثم ضربت مثلا في الاستئصال. أوده الصحاح. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٦]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ بأن يصمكم ويعميكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطى عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم يَأْتِيكُمْ بِهِ أى يأتيكم بذاك، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة أو بما أخذ وختم عليه يَصْدِفُونَ يعرضون عن الآيات بعد ظهورها.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٧]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته، قيل بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً وعن الحسن: ليلا أو نهاراً. وقرئ بغتة أو جهرة «٢» هَلْ يُهْلَكُ أى ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون. وقرئ. هل يهلك بفتح الياء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٨]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨)
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ من آمن بهم وبما جاءوا به وأطاعهم، ومن كذبهم وعصاهم ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة وَأَصْلَحَ ما يجب عليه إصلاحه مما كلف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
(٢). قوله «بغتة أو جهرة» كذا في أبى السعود والبيضاوي. وفي بعض نسخ هذا الكتاب بغتة أو جهرة، وكتب عليه: أى بتحريك الغين والهاء. اه (ع)
حيث جمعوا جمع العقلاء: وقوله إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٠]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
أى لا أدعى ما يستبعد في العقول «٢» أن يكون لبشر من ملك خزائن الله- وهي قسمه بين الخلق وإرزاقه، وعلم الغيب، وأنى من الملائكة الذين هم أشرف جنس «٣» خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه. أى لم أدّع إلهية ولا ملكية، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها. وإنما أدّعى ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للضالّ والمهتدى «٤» ويجوز أن يكون
(٢). قال محمود: «أى لا أدعى ما يستبعد في العقول... الخ» قال أحمد رحمه الله: هو ينبنى على القاعدة المتقدمة له في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها ولمخالفة أن يقول: إنما وردت الآية رداً على الكفار في قولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ... الآية فرد قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، بأنه بشر وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء لأنه لا خلاف أن الأنبياء يأكلون الطعام وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء. وكذلك رد قولهم. أو يلقى إليه كنز، بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به. وهذه الآية جاء الترتيب فيها مخالفاً لترتيب قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
قال الزمخشري: لأنهم أعلى من الأنبياء، وقد أخر هاهنا دعوى الملكية عن دعوى الالهية، إذ الالهية أجل وأعلى، والملكية أدنى، ولا محل لذلك إلا التمهيد الذي أسلفته وقد جعلت الأمر في التقديم والتأخير تبعا للسياق، فقد تقضى البلاغة في بعضه عكس ما تقتضيه في الآخر. ولم يحسن الزمخشري في قوله: ليس يعد الالهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، فانه جعل الالهية من جملة المنازل كالملكية. ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فاطلاقها على الالهية تحريف، والله الموفق للصواب.
(٣). قوله «من الملائكة الذين هم أشرف جنس» أى عند المعتزلة، أما عند أهل السنة، فالبشر أشرف، على ما تقرر في التوحيد. (ع)
(٤). عاد كلامه. قال: والأعمى والبصير مثل للضال والمهتدى... الخ» قال أحمد: قوله أو ادعى المحال يعنى المستحيل، ولذلك قابله بالمستقيم يريد الممكن، وذلك مسبب عن دعوى الالهية، إذ ادعاؤها لا يجوز عقلا. وأما مدعى الملكية فلا يقاس بمدعي الالهية في الاستحالة العقلية. ويجوز في القدرة أن يجعل البشر ملكا والملك بشراً، كما يجوز أن يجعل البشر أنبياء. ويدل على هذا الجواز قوله وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا هذا مع أن العقل يجيزه في قدرة الله تعالى، لأن الجواهر متماثلة، والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها فالمعاني التي بها كان الملك ملكا يجوز أن يخلقها الله تعالى للبشر وبالعكس. وعدم وقوعه لا يأبى استقامته وإمكانه، والله الموفق.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥١]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
وَأَنْذِرْ بِهِ الضمير راجع إلى قوله ما يُوحى إِلَيَّ والَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل «١» فينذرهم بما يوحى إليه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أى يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين. وإمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث. وإما ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمرّدين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء. وقوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في موضع الحال من يحشروا، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم، ولا بدّ من هذه الحال، لأن كلا
وأما وقد قيل وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ فهذا الكلام مستقل برأسه. ومضمونه تخصيص الانذار المأمور به بالقوم الخائفين من البعث، إما لأنهم مقرون به. وإما لأنهم يحتاطون لأنفسهم فيحملهم الخوف على النظر المقضى إلى اليقين، دون العتاة المصممين على الجحد وليس كل خائف من البعث لا شفيع له، فان الموحدين أجمعين خائفون وهم مشفوع لهم، وإن عنى باللازمة التي لا ينفك ذو الحال عنها، كالتي في قوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً قائما هو حينئذ يبتنى على قاعدته في إنكار الشفاعة، فكل خائف عنده لا شفيع له إذ لا يخاف إلا أصحاب الكبائر غير التائبين أو الكفار. والكل عنده سواء لا شفيع لهم. وحيث أثبتت الشفاعة، جعلها خاصة بزيادة الثواب، فلا ينالها إلا من يستوجب على زعمه الثواب بعمله الصالح، وتكون الشفاعة مفيدة للمزيد على ما يرضيه. فهذا عنده لا يخاف من البعث، لأنه يستوجب الجنة. فمن ثم جعل الحال لازمة إذ الناس قسمان: غير مخالف، فلا تتناوله الآية.
وخائف، فذاك إنما خاف لأنه استوجب العقاب فلا شفاعة تناله. وهذه من دفائنه الخفية، ومكامنه المزوية، فتفطن لها، والله الموفق برحمته. [.....]
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٢]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أى عبادته ويواظبون عليها. والمراد بذكر الغداة والعشى: الدوام. وقيل معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. روى أن رؤسا من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم، وأرواح جبابهم- وكانت عليهم جباب من صوف- جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم، طمعاً في إيمانهم «١». وروى أن عمر رضى الله عنه قال:
لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتابا، فدعا بصحيفة وبعلىّ رضى الله عنه ليكتب، فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته «٢». قال سلمان وخباب: فينا نزلت فكان رسول الله ﷺ يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته. وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت «٣» : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم، فترك القيام عنا إلى أن تقوم
(٢). قلت هو في حديث خباب المذكور آنفا دون مشورة عمر. واعتذاره.
(٣). قلت أما حديث خباب فمن أوله إلى قوله «أن تقوم» في حديثه المذكور آنفا. وأما حديث سلمان فقد ذكرته أولا. وأما قوله «وقال الحمد لله... إلى آخره» فهو في حديث سلمان وحده.
أما كفى قوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى ضم إليه وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؟
قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنىّ في قوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب النهى. ويجوز أن يكون عطفا على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبيب، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم. وقرئ: بالغدوة والعشى.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
وَكَذلِكَ فَتَنَّا ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أى ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين أَهؤُلاءِ الذين مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أى أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بينهم بالخير، ونحوه أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا، لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ. ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم «٢» فافتتنوا، حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول مفتون أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أى الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان. وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٤]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)
(٢). قوله «خذلناهم فافتتنوا» فسر بهذا على مذهب المعتزلة: أنه تعالى لا يخلق الشر. وعند أهل السنة يخلق الشر كالخير. (ع)
على أنّها قالت عشيّة زرتها | جهلت على عمد ولم تك جاهلا «١» |
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٥]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
وقرئ وَلِتَسْتَبِينَ بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث. وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل. يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين، من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
(٢). قوله «وقرئ يقص الحق» ظاهره أن قراءة يَقُصُّ من القضاء، هي المشهورة. فليحرر. (ع)
(٣). قوله «وامتعاضا» الامتعاض: امتداد الغضب. أفاده الصحاح. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٩]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن «١» المتوثق منها بالأغلاق والأقفال. ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. والمفاتح: جمع مفتح وهو المفتاح. وقرئ مفاتيح، وقيل: هي جمع مفتح- بفتح الميم- وهو المخزن. وَلا حَبَّةٍ... وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف على ورقة «٢» وداخل في حكمها، كأنه قيل: وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله إِلَّا يَعْلَمُها لأنّ معنى إِلَّا يَعْلَمُها ومعنى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد. والكتاب المبين: علم الله تعالى، أو اللوح: وقرئ: ولا حبة. ولا رطب.
ولا يابس، بالرفع. وفيه وجهان: أن يكون عطفاً على محل مِنْ وَرَقَةٍ وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ: كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الخطاب للكفرة، أى أنتم منسدحون «٣» الليل كله
(٢). عاد كلامه. قال: «ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، عطف على ورقة وداخل في حكمها... الخ» قال أحمد: وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده، لأنه لما عطف على ورقة بعد أن سلب الإيجاب لمقصود للعلم في قوله إِلَّا يَعْلَمُها وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم وهو المقصود وطالت، وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف كان ذلك جديراً بتجديد العهد بالمقصود، ثم كان اللائق بالبلاغة المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى، ليتلقاها السامع غضة جديدة غير مملولة بالتكرير. وهذا السر إنما ينقب عنه المسيطر في علم البيان ونسكت اللبان، والله الموفق.
(٣). قوله «منسدحون» أى منسطحون على القفا، أو منقلبون على الوجه أفاده الصحاح. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
حَفَظَةً ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون. وعن أبى حاتم السجستاني كان يكتب عن الأصمعى كل شيء يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه. أنت شبيه الحفظة، تكتب لغط اللفظة: فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب. فإن قلت: الله تعالى غنىّ بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أى استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه. وعن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله. وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين. وقرئ:
توفاه. ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعا بمعنى تتوفاه. ويُفَرِّطُونَ بالتشديد والتخفيف، فالتفريط التواني والتأخير عن الحدّ، والإفراط مجاوزة الحدّ أى لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أى إلى حكمه وجزائه مَوْلاهُمُ مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم الْحَقِّ العدل الذي لا يحكم إلا بالحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ لا حكم فيه لغيره وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لا يشغله حساب عن حساب. وقرئ الْحَقِّ بالنصب على المدح كقولك: الحمد لله الحق.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
هُوَ الْقادِرُ هو الذي عرفتموه قادراً وهو الكامل القدرة عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وأرسل على قوم نوح الطوفان أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل من فوقكم: من قبل أكابركم وسلاطينكم.
ومن تحت أرجلكم: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:
وكتيبة لبستها بكتيبة | حتّى إذا التبست نفضت لها بدى «٢» |
(٢).
وكتيبة لبستها بكتيبة | حتى إذا التبست نفضت لها يدي |
فتركتهم تقص الرماح ظهورهم | من بين منعقر وآخر مسند |
ما كان ينفعني مقال نسائهم | وقتلت دون رجالها لا تبعد |
منعفر، بالفاء أى متعفر بالتراب. والمسند: اسم مفعول، أى دابرين بين ساقط ومتكئ على غيره، ولا تبعد:
مقول المقال، وهو بفتح العين أى لا تهلك، وهي كلمة تقولها النساء عند المصيبة. وقوله «وفتلت» حال، أى والحال أنى قد قتلت دون رجال تلك النساء، أى أمامهم، أو من بينهم لكفايتى عنهم. أى لو صبرت لقتلت، ولم يحينى كلام نسائهم وتفجعهم على مع سلامة رجالهن. (٣- كشاف- ٢)
قال «هاتان أهون» «٢» ومعنى الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. والضمير في قوله وَكَذَّبَ بِهِ راجع إلى العذاب وَهُوَ الْحَقُّ أى لا بدّ أن ينزل بهم قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ وكل إلىَّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجباراً، إنما أنا منذر لِكُلِّ نَبَإٍ لكل شيء ينبأ به، يعنى إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار وحصول لا بدّ منه. وقيل: الضمير في بِهِ للقرآن.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)
يَخُوضُونَ فِي آياتِنا في الاستهزاء بها والطعن فيها، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم وقم عنهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فلا بأس أن تجالسهم حينئذ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهى عن مجالستهم «٣»
(٢). أخرجه البخاري من حديث جابر
(٣). قال محمود: «معناه وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهى... الخ» قال أحمد: وهذا التأويل الثاني يروم تنزيله على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل، وأنه كاف وإن لم يرد شرع في التحريم وغيره من الأحكام إذا كانت واضحة للعقل، كمجالسته المستهزئين فان قبحها بين العقل فهو مستقل بتحريمها، وحيث ورد الشرع بذلك فهو كاشف لحكمها ومبنية عليه، لا منشئ فيها حكما. وقد علمت فساد هذه القاعدة ومخالفتها للعقائد السنية، على أن الآية تنبو عنه فانه لو كان النسيان المراد هاهنا نسيان الحكم الذي يدل عليه العقل قبل ورود هذا النهى، لما عبر بالمستقبل في قوله وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ فأما وقد ورد بصيغة الاستقبال فلا وجه لحمله على الماضي، والله الموفق.
ويجوز أن يراد: وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهى «١» قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم وَلكِنْ عليهم أن يذكروهم ذِكْرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون، أى يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها. وروى أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم. فإن قلت: ما محل ذِكْرى؟ قلت: يجوز أن يكون نصباً على: ولكن يذكرونهم ذكرى، أى تذكيراً. ورفعا على: ولكن عليهم ذكرى.
ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل مِنْ شَيْءٍ، كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأنّ قوله مِنْ حِسابِهِمْ يأبى ذلك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٠]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أى دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً. وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجد. واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم. أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين
وإبسالى بنىَّ بغير جرم | بعوناه ولا بدم مراق «١» |
منقبض الوجه وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية «٢» لأن الفادي يعدل المفدى بمثله. وكلّ عدل: نصب على المصدر. وفاعل يُؤْخَذْ قوله مِنْها لا ضمير العدل لأنّ العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فبمعنى المفدىّ به، فصحّ إسناده إليه أُولئِكَ إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً. قيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان «٣».
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧١]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)
(٢). قال محمود: «معناه وإن تفد كل فداء والعدل الفدية... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من عيون إعرابه ونكت إغرابه التي طالما ذهل عنها غيره، وهو من جنس تدقيقه في منع عود الضمير من قوله فَتَنْفُخُ فِيها إلى الهيئة من قوله كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ مع أنه السابق إلى الذهن، وإنما حمله على القول بأن العدل هاهنا مصدر أن الفعل تعدى إليه بغير واسطة، ولو كان المراد المفدى به لكان مفعولا به، فلم يتعد إليه الفعل إلا بالباء، وكان وجه الكلام: وإن تعدل بكل عدل، فلما عدل عنه علم أنه مصدر، والله أعلم.
(٣). قال محمود: «نزلت في أبى بكر رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان... الخ» قال أحمد: ومن أنكر الجن واستيلاءها على بعض الأناسى بقدرة الله تعالى حتى يحدث من ذلك الخبطة والصرع ونحوهما، فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال الفلسفي، حيران له أصحاب من الموحدين يدعونه إلى الهدى الشرعي ائتنا، وهو راكب في ضلالة التعاسيف لا يلوى عليهم ولا يلتفت إليهم، فمرة يقول: إن الوارد في الشرع من ذلك تخييل، كما تقدم في سورة البقرة. ومرة يعده من زعمات العرب وزخارفها. وقد أسلفنا ذلك في البقرة وآل عمران قولا شافيا بليغا، فجدد به عهداً، والله الموفق.
هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. فإن قلت: فإذا كان هذا وارداً في شأن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «٢» فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعوا؟
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت إذا كان هذا وارداً في أبى بكر فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ... الخ؟ قال أحمد: هو مبنى على أن الأمر هو الارادة، أو من لوازمه إرادة المأمور به، وهذا الاعراب منزل على معتقده هذا. وأما أهل السنة فكما علمت أن الأمر عندهم غير الارادة ولا يستلزمها.
وقولهم في هذه اللام كقولهم وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ من نفى كونها تعليلا. والوجه في ذلك أنهم لما أوضحت لهم الآيات البينات وأزيحت عنهم العلل وتمكنوا من الإسلام والعبادة امتثالا للأمر جعلوا بمثابة من أريد منهم ذلك تمكيناً لحضهم على الامتثال ولقطع أعذارهم إذا فعل بهم فعل المراد منهم ذلك، وما شأن المريد للشيء إذا كان قادراً على حصوله أن يزيح العلل ويرفع الموانع، وكذلك فعل مع المكلفين وإن لم تكن الطاعة مرادة من جميعهم، وأما إذا كانت اللام هي التي تصحب المصدر كما يقول الزجاج: تقديره الأمر للإسلام وكذلك يقول في قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ الارادة للبيان وهي اللام التي تصحب المفعول عند تقدمه في قولك: لزيد ضربت، فهي على هذا الوجه غير محتاجة للتأويل. وقد قيل إنها بمعنى أن كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم قال هذا القائل. وكى ولام كى في أمرت وأردت خاصة، بمعنى «أن» لا على بابها من التعليل. والغرض من دخولها إفادة الاستقبال على وجه أوثق وأبلغ، إذ لا يتعلق هذان المعنيان- أعنى الأمر والارادة- إلا بمستقبل، وقد جمع بين
الثلاثة اللام وكى وأن، في قوله... أردت لكيما أن يطير...
«البيت» وهذا الوجه أيضا سالم المعنى من الخلل الذي يعتقده الزمخشري، والمحافظة على العقيدة. وقد وجدنا السبيل إلى ذلك بحمد الله متعينة، والله الموفق.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
فإن قلت: علام عطف قوله وَأَنْ أَقِيمُوا «١» ؟ قلت: على موضع لِنُسْلِمَ كأنه قيل:
وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا. ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا: أى للإسلام ولإقامة الصلاة قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ. ويوم يقول: خبره مقدّما عليه، وانتصابه بمعنى الاستقراء، كقولك: يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين. والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائما بالحق والحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء كُنْ فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أى لا يكون شيأ من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب. ويَوْمَ يُنْفَخُ ظرف لقوله وَلَهُ الْمُلْكُ كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ويجوز أن يكون قَوْلُهُ الْحَقُّ فاعل يكون، على معنى: وحين يقول لقوله الحق، أى لقضائه الحق كُنْ فيكون قوله الحق. وانتصاب اليوم لمحذوف»
دلّ عليه قوله بِالْحَقِّ كأنه قيل: وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق عالِمُ الْغَيْبِ هو عالم الغيب، وارتفاعه على المدح.
وفي ورود أَقِيمُوا الصَّلاةَ محكيا بصيغته، وورود «نسلم» محكيا بمعناه، إذ الأصل المطابق لأقيموا: أسلموا، مصداق لما قدمته عند قوله تعالى ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وبينت ثم أن ذلك جائز على أن يكون عيسى عليه السلام حكى قول الله تعالى: اعبدوا الله ربكم ورب عيسى بمعناه فقال: اعبدوا الله ربى وربكم، فهذا مثله حكاية المعنى دون اللفظ، والله أعلم.
(٢). قوله «لمحذوف» لعله «بمحذوف». (ع)
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٩]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
آزَرَ اسم أبى إبراهيم عليه السلام. وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح. والأقرب أن يكون وزن آزَرَ فاعل مثل تارح وعابر وعازر وشالخ وفالغ وما أشبهها من أسمائهم، وهو عطف بيان لأبيه. وقرئ «آزر» بالضم على النداء. وقيل «آزر» اسم صنم، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته، كما نبز ابن قيس بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ، فقيل ابن قيس الرقيات. وفي شعر بعض المحدثين:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها... كأن أسماء أضحت بعد أسمائى «١»
أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ ءأزر تتخذ أصناما آلهة بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاى ساكنة وراء منصوبة منونة، وهو اسم صنم. ومعناه: أتعبد آزراً على الإنكار؟ ثم قال: تتخذ أصناما آلهة تثبيتا لذلك وتقريرا، وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عطف على قال إبراهيم لأبيه «٢»
وعلى اعتبار ياء المتكلم فهو من الناقص.
(٢). قال محمود: «قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عطف على قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ... الخ» قال أحمد: وفي الاعتراض بهذه الجملة تنويه بما سيأتى من استدلال إبراهيم عليه السلام وأنه تبصير له من الله تعالى وتسديد. [.....]
وليكون من الموقنين: فعلنا ذلك. ونرى: حكاية حال ماضية، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب «١»، فأراد أن ينبههم على الخطإ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيأ منها لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها هذا رَبِّي قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأنّ ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى مكان، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام بازِغاً مبتدئا في الطلوع لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه هذا أَكْبَرُ من باب استعمال النصفة «٢» أيضاً مع خصومه إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أى للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله.
(٢). عاد كلامه. قال: و «قوله هذا أَكْبَرُ من باب استعمال النصفة أيضاً مع الخصوم... الخ» قال أحمد:
وصدق الزمخشري، بل ذلك متعين. وقد ورد الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه السلام فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول: نفسي نفسي لا أسأل أحداً غيرى، ويذكر كذباته الثلاث ويقول: لست لها، يريد قوله لسارة «هي أختى» وإنما عنى في الإسلام. وقوله «إنه سقيم» وإنما عنى همه بقومه وبشركهم، والمؤمن يبقمه ذلك. وقوله «بل فعله كبيرهم» وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض، فإذا عد صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها، دل ذلك على أنها أعظم ما صدر منه، فلو كان الأمر على ما يقال من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظر لنفسه، لكان أولى أن يعده أعظم مما ذكرناه لأنه حينئذ يكون شكا بل جزما، على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك.
ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله «علام» ولم يقولوا «علامة» وإن كان العلامة أبلغ، احترازا من علامة التأنيث. وقرئ: ترى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، بالتاء ورفع الملكوت. ومعناه: تبصره دلائل الربوبية.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٠ الى ٩٠]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩)
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
وهذه أيضاً من عيون نكتة ووجوه حسناته.
(٢). عاد كلامه. قال: «ومعنى وكيف أخاف ما أشركتم... الخ» ما لكم تنكرون على الأمن... الخ» قال أحمد: ويحتمل أن يكون العدول إلى ذلك ليعم بالأمن كل موحد، وبالخوف كل مشرك، ويندرج هو في حكم الموحدين وقومه في حكم المشركين. وأحسن الجواب ما أفاد وزاد.
هم أصحاب النبي ﷺ وكل من آمن به. وقيل: كل مؤمن من بنى آدم. وقيل: الملائكة وادّعى الأنصار أنها لهم. وعن مجاهد: هم الفرس. ومعنى توكيلهم بها: أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. والباء في بِها صلة كافرين. وفي بِكافِرِينَ تأكيد النفي. فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلا بهم. وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة وهي هدى، ما لم تنسخ. فإذا نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدا. والهاء في اقْتَدِهْ للوقف تسقط في الدرج. واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩١]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
فقال عليه الصلاة والسلام «إنما هو الظلم في قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» وإنما هو يروم بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لاحظ لهم في الأمن كالكفار، ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمر بالجامعين الأمرين: الايمان والبراءة من المعاصي، ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق العصاة هو الخوف اللاحق الكفار، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار، فغير آمنين بوجه ما، والله الموفق.
ويقال لمن كان في عمل لا يجدى عليه: إنما أنت لاعب. ويَلْعَبُونَ حال من ذرهم، أو من خوضهم، ويجوز أن يكون فِي خَوْضِهِمْ حالا من يلعبون، وأن يكون صلة لهم أو لذرهم
(٢). أخرجه الواحدي في الأسباب من طريق سعيد بن جبير «أن النبي ﷺ قال لمالك بن الصيف فذكره إلى قوله- فغضب ثم قال: ما أنزل الله على بشر من شيء» وكذلك أخرجه الطبري من رواية جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير.
(٣). قوله «وقيل القائلون قريش» أخرجه الطبري عن مجاهد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٢]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)مُبارَكٌ كثير المنافع والفوائد والتنذير معطوف على ما دلّ عليه صفة الكتاب، كأنه قيل: أو أنزلناه للبركات، وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. وقرئ ولينذر بالياء والتاء. وسميت مكة أُمَّ الْقُرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً لبعض المجاورين:
فمن يلق في بعض القريّات رحله | فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابى «١» |
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أن الله بعثه نبياً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وهو مسيلمة الحنفي الكذاب. أو كذاب صنعاء الأسود العنسي. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم:
رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يدىّ سوارين من ذهب فكبرا علىّ وأهمانى فأوحى الله إلىّ أن انفخهما، فنفختهما فطارا عنى، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما: كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العنسي «٢» وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ هو عبد الله بن سعد بن أبى سرح القرشي، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعاً عليما، كتب
(٢). متفق عليه من حديث ابن عباس.
نزلت في عبد الله بن سعد بن أبى سرح. أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعا عليما كتب هو عليما حكيما وإذا قال عليما حكيما كتب سميعا عليما. فشك وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إلى، وإن كان الله ينزله فلقد أنزلت مثل ما أنزل الله. فلحق بالمشركين «تنبيه» قوله القرظي غلط بين فان ابن أبى سرح قرشي عامرى. قوله «ثم رجع مسلما قبل فتح مكة. قوله وقيل: هو النضر بن الحارث «فائدة» روى أن هذه القصة كانت لابن خطل. أخرج ابن عدى في ترجمة أصرم بن حوشب أحد المتروكين من حديث على، قال «كان ابن خطل يكتب للنبي ﷺ فكان إذا نزل غفور رحيم كتب رحيم غفور- فذكر الحديث.
وفيه: ثم كفر ولحق بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل ابن خطل فله الجنة» وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه. ونقل عن ابن معين تكذيب أصرم.
(٢). قال محمود: «أصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة... الخ» قال أحمد: هو يجعله من مجاز التمثيل، ولا حاجة إلى ذلك. والظاهر أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على لحقيقة فلا معدل عنها.
(٣). قوله «ولا أريم مكاني» أى أبرح. وفي الصحاح: رامه يريمه أى برحه. (ع) [.....]
(٤). عاد كلامه. قال: «وقيل معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب... الخ» قال أحمد: ومثله وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٤]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
فُرادى منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه، وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة وَراءَ ظُهُورِكُمْ لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدّمتموه لأنفسكم فِيكُمْ شُرَكاءُ في استعبادكم، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.
وقرئ: فرادى، بالتنوين. وفراد، مثل ثلاث. وفردي، نحو سكرى: فإن قلت: كما خلقناكم، في أى محل هو؟ قلت: في محل النصب صفة لمصدر جئتمونا، أى مجيئا مثل خلقنا لكم تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل: ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف، كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم. وفي قراءة عبد الله: لقد تقطع ما بينكم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٥]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى بالنبات والشجر. وعن مجاهد: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أى الحيوان، والنامي من النطف. والبيض والحب والنوى وَمُخْرِجُ هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي- فإن قلت: كيف قال مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قلت: عطفه على فالق الحب والنوى، لا على الفعل، ويخرج الحىَّ من الميت: موقعه موقع الجملة المبينة لقوله فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامين «١» من جنس إخراج الحىّ من الميت، لأنّ النامي
إنى قد لقيت الغول تسعى... بسيب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربه فخرت... صريعا اليدين وللجران
فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذعن السامع. ومنه إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً فعدل عن مسبحات وإن كان مطابقا لمحشورة بهذا السبب والله أعلم، ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما تكون العناية به أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه، وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه، ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي ناشئ عنه، فكان الأول جديراً بالتصدير والتأكيد في النفس، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر على حسب ترتيبهما في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل، وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع «فكل واحد منهما يقدر بالآخر، فلا جناح في عطفه عليه. والله أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٦]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
الْإِصْباحِ مصدر سمى به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله:
أفنى رباحا وبنى رباح | تناسخ الإمساء والإصباح «١» |
يرويان بكسر الهمزة على أنهما مصدران، وبفتحهما جمع مساء وصباح. وظلام الليل ينسخ نور النهار ويزيله وبالعكس. وإسناد الافناء إلى التناسخ مجاز عقلى، من باب الاسناد الزمان، أو هو على اعتقاد الجاهلية فيكون حقيقة عندهم.
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت ما معنى فلق الصبح والظلمة وهي التي تنفلق... الخ» ؟ قال أحمد: وقيل الخالق والفالق بمعنى، فيكون المراد خالق الإصباح. والأظهر ما فسره عليه المصنف، والله أعلم.
تردّت به ثمّ انفرى عن أديمها | تفرّى ليل عن بياض نهار «١» |
وقال الطائي:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه | وأوّل الغيث قطر ثمّ ينسكب «٢» |
كأن بقايا ما عفا من حبابها | تفاريق شيب في سواد عذار |
تردت به ثم انفرى عن أديمها | تفرى ليل عن بياض نهار |
(٢).
هذى مخايل برق خلفه مطر | جود وروى زناد خلفه لهب |
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه | وأول الغيث قطر ثم ينسكب |
وكاذب العمر يبدو قبل صادقه
وروى بعد هذا البيت:
ومثل ذلك وجد العاشقين هوى | بالمزح يبدو وبالادمان ينتهب |
(٣). قوله «وجمامه» أى راحته من التعب. وفي الصحاح «الجمام» بالفتح-: الراحة. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
من فتح قاف المستقر، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدراً. ومن كسرها، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول. والمعنى: فلكم مستقرّ في الرحم. ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها. أو فمنكم مستقرّ ومنكم مستودع. فإن قلت: لم قيل يَعْلَمُونَ مع ذكر النجوم «١» ويَفْقَهُونَ مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت كان إنشاء الإنس من نفس
وإذا قيل فلان لا يفقه شيئا، كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئا، وكان معنى قولك: لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك: لا يعلم، فغايته نفى حصول العلم له. وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكاراً مستأنفا. وقولنا في أدراج الكلام أنه نفى العلم عن أحد الفريقين ونفى الفقه عن الآخر، يعنى بطريق التعريض، حيث خص العلم بالآيات المفصلة والتفقه فيها بقوم، فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم ولا فقه، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نبت كل صنف من أصناف النامي، يعنى أن السبب واحد وهو الماء. والمسببات صنوف مفتنة، كما قال يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ
. فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من النبات خَضِراً شيئاً غضا أخضر. يقال أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبل. وقِنْوانٌ رفع بالابتداء. ومِنَ النَّخْلِ خبره. ومِنْ طَلْعِها بدل منه، كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه، تقديره: ومخرجة من طلع النخل قنوان. ومن قرأ: يخرج منه حب متراكب، كان قِنْوانٌ عنده معطوفا على حب. والقنوان: جمع قنو، ونظيره: صنو وصنوان. وقرئ بضم القاف وبفتحها، على أنه اسم جمع كركب، لأنّ فعلان ليس من زيادة التكسير دانِيَةٌ سهلة المجتنى
كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَىَّ بَرِيّا
والمعنى: بعضه متشابها وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليل على التعمد دون الإهمال انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا ضعيفاً لا يكاد ينتفع به. وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال. وقرئ وَيَنْعِهِ بالضم. يقال: ينعت الثمرة ينعاً وينعاً. وقرأ ابن محيصن: ويانعه. وقرئ: وثمره، بالضم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
إن جعلت لِلَّهِ شُرَكاءَ مفعولي جعلوا، نصبت الجن بدلا من شركاء، وإن جعلت لِلَّهِ لغوا كان شُرَكاءَ الْجِنَّ مفعولين قدّم ثانيهما على الأول. فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت:
فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك مَن كان ملكا أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك. ولذلك قدّم اسم الله على الشركاء. وقرئ الجن بالرفع، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن. وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين. والمعنى أشركوهم في عبادته، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله. وقيل: هم الذين زعموا أنّ الله خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ وَخَلَقَهُمْ وخلق الجاعلين لله شركاء. ومعناه: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠١]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)
بَدِيعُ السَّماواتِ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك: فلان بديع الشعر، أى بديع شعره. أو هو بديع في السموات والأرض، كقولك: فلان ثبت الغدر، أى ثابت فيه، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها. وقيل: البديع بمعنى المبدع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أو فاعل تعالى: وقرئ بالجرّ ردّاً على قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ أو على سُبْحانَهُ. وبالنصب على المدح، وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه، أحدها: أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والداً. والثاني:
أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس، فلم يصح أن تكون له صاحبة، فلم تصح الولادة. والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء، والولد إنما يطلبه المحتاج. وقرئ: ولم يكن له صاحبة، بالياء.
وإنما جاز للفصل كقوله:
لَقَدْ وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سُوءِ «١»
لقد ولد الأخيطل أم سوء | على يأب استه صلب وشام |
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٢]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)ذلِكُمُ إشارة إلى الموصف مما تقدم من الصفات، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أى ذلك الجامع لهذه الصفات فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة على معنى: أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه. ثم قال وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يعنى وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٣]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
البصر: هو الجوهر اللطيف «١» الذي ركبه الله في حاسة النظر، به تدرك المبصرات. فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعال أن يكون مبصراً «٢» في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا، كالأجسام والهيئات وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك وَهُوَ اللَّطِيفُ يلطف عن أن تدركه الأبصار الْخَبِيرُ بكل لطيف فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٤]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
وقد سلف الكلام على هذه الآية في غير موضعها، لأن المصنف تعجل الكلام عليها قبل، والذي يريده الآن أن الإدراك عبارة عن الاحاطة، ومنه: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أى أحاط به، وإِنَّا لَمُدْرَكُونَ أى محاط بنا، فالمنفى إذاً عن الأبصار إحاطتها به عز وعلا لا مجرد الرؤية، ثم إما أن نقتصر على أن الآية لا تدل على مخالفتنا، أو تزيد فنقول، بدل لنا أن تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك، وأقله مجرد الرؤية، كما أنا نقول: لا تحيط به الأفهام وإن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكل مؤمن، فالاحاطة للعقل منفية كنفى الاحاطة للحس، وما دون الاحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحس ثابت غير منفي. ولم يذكر الزمخشري على إحالة الرؤية عقلا دليلا ولا شبهة فيحتاج إلى القدح فيه ثم معارضته بأدلة الجواز، ولكنه اقتصر على استبعاد أن يكون المرئي لا في جهه، فيقتصر معه على إلزامه استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة إذ اتباع الرهم يبعدهما جميعاً، والانقياد إلى العقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معاً. وهذا القدر كاف بحسب ما أورده في هذا الوضع، والله الموفق.
(٢). قوله «لأنه متعال عن أن يكون مبصراً» استحالة الرؤية مذهب المعتزلة، لظاهر هذه الآية. وجوازها مذهب أهل السنة لقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكل يؤول مستند الآخر. وتحقيقه في التوحيد. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٥]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
وَلِيَقُولُوا جوابه محذوف تقديره. وليقولوا درست تصرّفها. ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت. وقرئ: دارست، أى دارست العلماء. ودرست بمعنى قدّمت هذه الآيات وعفت كما قالوا: أساطير الأولين، ودرست بضم الراء، مبالغة في درست، أى اشتدّ دروسها. ودرست- على البناء للمفعول- بمعنى قرئت أو عفيت. ودارست. وفسروها بدارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاز الإضمار، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم. ويجوز أن يكون الفعل للآيات، وهو لأهلها، أى دارس أهل الآيات وحملتها محمداً، وهم أهل الكتاب. ودرس أى درس محمد. ودارسات، على: هي دارسات، أى قديمات. أو ذات دروس، كعيشة راضية. فإن قلت: أى فرق بين اللامين في لِيَقُولُوا، وَلِنُبَيِّنَهُ؟ قلت: الفرق بينهما أنّ الأول مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شبه به فسيق مساقه. وقيل: ليقولوا كما قيل لنبينه: فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله وَلِنُبَيِّنَهُ؟ قلت: إلى الآيات لأنها في معنى القرآن، كأنه قيل: وكذلك نصرف القرآن. أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوما إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل، كقولهم: ضربته زيداً. ويجوز أن يراد فيمن قرأ درست ودارست:
درست الكتاب ودراسته، فيرجع إلى الكتاب المقدّر.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكذبه إيجاب اتباع الوحى لا محلّ له من الإعراب. ويجوز أن يكون حالا من ربك، وهي حال مؤكدة كقوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٨]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)وَلا تَسُبُّوا الآلهة الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ إلهك. وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله تعالى.
فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهى عنه، وإنما يصح النهى عن المعاصي؟
قلت: ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهى عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهى عن المنكر هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّى إلى زيادة الشر انقلب معصية، ووجب النهى عن ذلك النهى. كما يجب النهى عن المنكر. فإن قلت: فقد روى عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة فرأى محمد نساء فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا ممن نحن بصدده، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة وليس بسبب لحضور النساء فإنهن يحضرنها حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة. وإنما خيل إلى محمد أنه مثله حتى نبه عليه الحسن.
عَدْواً ظلماً وعدواناً. وقرئ عدوّاً بضم العين وتشديد الواو بمعناه. يقال: هذا فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداء. وعن ابن كثير: عدوّاً، بفتح العين بمعنى أعداء بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّة من أمم الكفار سوء عملهم، أو خليناهم وشأنهم «١» ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم: أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم. وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا فَيُنَبِّئُهُمْ فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٩]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وهو قادر
ألا ترى إلى قوله كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وقيل: «أنها» بمعنى «لعلها» من قول العرب: ائت السوق أنك تشترى لحماً. وقال امرؤ القيس:
عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا | نبكي الديار كما بكى ابن خذام «٢» |
وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة. ومنهم
بإسقاط «لا» وإن أثبتها انعكس المعنى، إلى أن المعلوم لك الثبوت وأنت تنكر على من نفى، فلما جاءت الآية تفهم ببادئ الرأى أن الله تعالى علم الايمان منهم وأنكر على المؤمنين نفيهم له والواقع على خلاف ذلك، اختلف العلماء، فحمل بعضهم «لا» على الزيادة، وبعضهم أول «أن» بلعل، وبعضهم جعل الكلام جواب قسم محذوف. وقد تفتح «أن» بعد القسم فقال التقدير: والله أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها من غير حذف ولا تأويل فقال قوله السالف، ونحن نوضح اطراده في المثال المذكور ليتضح بوجهيه في الآية، فنقول: إذا حرمت زيداً لعلمك بعدم مكافأته فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة، تلك معه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه، وحالة نعذره في عدم العلم بما أحطت به علماً، فان أنكرت عليه قلت: وما يدريك أنه يكافئ؟ وإن عذرته في عدم عليه بأنه لا يكافئ قلت: وما يدريك أنه لا يكافئ؟ يعنى ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته وانت لم تخبر أمره خبرى، فكذلك الآية، إنما ورد فيها الكلام قامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى وهو عدم إيمان هؤلاء، فاستقام دخول «لا» وتعين وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار باقامة الأعذار. والله الموفق للصواب.
(٢). لامرئ القيس. والعوج: عطف رأس البعير بالزمام. والمحيل: الذي حال وتغير عن صفة الجدة إلى صفة البلى، أو الذي أصابه المحل والاقفار. هذا وفي الصحاح: أحال الشيء إذا أتى عليه الحول. ومنه الطلل المحيل، فهو اسم فاعل وهو الوجيه، ولأننا: بفتح اللام والهمزة، بمعنى لعلنا. قال في التسهيل: في لعل عشر لغات، وعد منها أن المفتوحة، ولأن. وابن خذام بمعجمتين أول من بكى الديار من شعراء العرب، وكان طبيبا حاذقا يضرب به المثل في الطب. [.....]
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٠]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ... وَنَذَرُهُمْ عطف على يؤمنون، داخل في حكم وما يشعركم، بمعنى:
وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم اما نقلب أفئدتهم وأبصارهم: أى نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا. أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعا على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أى نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا «١» فيه. وقرئ: ويقلب. ويذرهم بالياء أى الله عزّ وجلّ. وقرأ الأعمش: وتقلب أفئدتهم وأبصارهم، على البناء للمفعول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى كما قالوا: فَأْتُوا بِآبائِنا، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا كما قالوا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا قبلا كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا، أو جماعات. وقيل قُبُلًا مقابلة. وقرئ قُبُلًا أى عيانا «٢» إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مشيئة إكراه واضطرار «٣» وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيقسمون
(٢). قوله «وقرئ قبلا أى عيانا» في الصحاح: رأيته قبلا وقبلا- بالضم- أى مقابلة وعيانا. ورأيته قبلا- بكسر القاف- قال الله تعالى أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أى عيانا. (ع)
(٣). قال محمود: «معناه إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار... الخ قال أحمد: بل المراد إلا أن يشاء الله منهم اختيار الايمان، فانه تعالى لو شاء منهم اختيارهم للايمان لاختاروه وآمنوا حتما. ما شاء الله كان. والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في اعتقاده أن الله تعالى شاء منهم الايمان اختياراً فلم يؤمنوا، إذ لا يجب على زعم طائفته نفوذ المشيئة، ولا يطلقون القول كما أطلقه سلف هذه الأمة وحملة شريعتها. من قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بل يقولون إن أكثر ما شاءه لم يقع، إذ شاء الايمان والصلاح من جميع الخلق، فلم يؤمن ويعمل الصالح إلا القليل، وقليل ما هم. وهذا كله مما يتعالى الله عنه علواً كبيراً، فإذا صد منهم مثل هذه الآية بالرد تحيلوا في المدافعة بحمل للمشيئة المنفية على مشيئة القسر والاضطرار، وإنما لم يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء، وأما وهو القدوة والمتبوع، فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فالى النار، وما بعد الحق إلا الضلال، والله الموفق للصواب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٢]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا وكما خلينا بينك وبين أعدائك، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر. وكثرة الثواب والأجر. وانتصب شَياطِينَ على البدل من عدوّا. أو على أنهما مفعولان كقوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس. وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض. وعن مالك ابن دينار: إنّ شيطان الإنس أشد علىّ من شيطان الجنّ، لأنى إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عنى، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّنى إلى المعاصي عيانا زُخْرُفَ الْقَوْلِ ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه غُرُوراً خدعا وأخذاً على غرّة وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ما فعلوا ذلك، أى ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف الفول بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٣]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
وَلِتَصْغى جوابه محذوف تقديره: وليكون ذلك جعلنا لكل نبىّ عدوّاً، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر. والضمير في إِلَيْهِ «١» يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في فعلوه، أى ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أَفْئِدَةُ الكفار وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ من الآثام.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٤]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٥]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أى تم كل ما أخبر به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يبدّل شيئاً من ذلك مما هو أصدق وأعدل. وصدقا وعدلا. نصب على الحال. وقرئ: كلمة ربك، أى ما تكلم به. وقيل: هي القرآن.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٦]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أى من الناس أضلوك، لأنّ الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم، ثم قال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وهو ظنهم أنّ آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يقدّرون أنهم على شيء. أو يكذبون في أنّ الله حرّم كذا وأحلّ كذا.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٠]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ما أعلنتم منه وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهره الزنا في الحوانيت، وباطنه الصديقة في السرّ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢١]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير راجع إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهى، يعنى وإنّ الأكل منه لفسق. أو إلى الموصول على: وإنّ أكله لفسق، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقا. فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل «١» ما لم يذكر اسم الله
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدى والضال، بمن كان ميتا فأحياه الله وجعل له نوراً يمشى به في الناس مستضيئا به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص ومعنى قوله كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كمن صفته هذه وهي قوله فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج منها، كقوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ
وقرئ: أكبر مجرميها، على قولك: هم اكبر قومهم، وأكابر قومهم وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأنّ مكرهم يحيق بهم.
وهذه تسلية لرسول الله ﷺ وتقديم موعد بالنصرة عليهم. روى أن الوليدين المغيرة قال: لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك، لأنى أكبر منك سناً وأكثر منك مالا.
وروى أن أبا جهل قال: زاحمنا بنى عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا:
منا نبىّ يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فنزلت.
ونحوها قوله تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
اللَّهُ أَعْلَمُ كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفى للنبوّة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا من أكابرها صَغارٌ وقماءة «٢» بعد كبرهم وعظمتهم وَعَذابٌ شَدِيدٌ في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٧]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
(٢). قوله و «قماءة» أى ذل، (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ منصوب بمحذوف، أى واذكر يوم نحشرهم، أو ويوم نحشرهم قلنا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان مالا يوصف لفظاعته، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم، والجن هم الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول: استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلان من الأشياع وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أى انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات
أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر
لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم | إلى المنتهى ومن السرور يكاد |
(٢). قوله «قوله الموتور» الموتور: المظلوم. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٩]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٠]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
واختلف في أن الجن هل بعث إليهم رسل منهم، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وقيل: أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم، كقوله تعالى وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وعن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد ﷺ يبعثون إلى الإنس، ورسول الله ﷺ بعث إلى الإنس والجن الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله لَمْ يَأْتِكُمْ
لأن الهمزة الداخلة على نفى إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريراً لهم. وقولهم هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوجون بها. فإن قلت: ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ قلت:
تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣١ الى ١٣٢]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدإ محذوف: أى الأمر ذلك. وأَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى تعليل، أى الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن «أن» هي التي تنصب الأفعال. ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، على معنى: لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. ولك أن تجعله بدلا من ذلك، كقوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ، بِظُلْمٍ بسبب ظلم قدموا عليه. أو ظالما، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماء وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح وَلِكُلٍّ من المكلفين دَرَجاتٌ منازل مِمَّا عَمِلُوا من جزاء أعمالهم وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن عباده وعن عبادتهم ذُو الرَّحْمَةِ يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم المنافع الدائمة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق المطيع كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٥]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
«المكانة» تكون مصدراً يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن. وبمعنى المكان، يقال:
مكان ومكانة، ومقام ومقامة. وقوله اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يحتمل: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٦]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله، وأشياء منها لآلهتهم، فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأنّ الله غنىّ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها: وقوله مِمَّا ذَرَأَ فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكية بِزَعْمِهِمْ وقرى بالضم، أى قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أى لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك ساءَ ما يَحْكُمُونَ في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٧]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
(٢). قال محمود: «المعنى أن شركاءهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم... الخ» قال أحمد رحمه الله: لقد ركب المصنف في هذا الفصل متن عمياء، وتاه في تيهاء. وأنا أبرأ إلى الله وأبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه مما رماهم به «فانه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهاداً، لا نقلا وسماعا فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في شركائهم، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب أولادهم بالقياس، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معاً فقرأه منصوبا، قال المصنف: وكانت له مندوحة عن نصبه إلى جره بالاضافة وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه يعنى ابن عامر من الفصل بين المضاف والمضاف إليه الذي يسمج في الشعر فضلا عن النثر فضلا عن المعجز. فهذا كله كما ترى ظن من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه والفصيح سواه، ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد والفعل بين المضاف والمضاف إليه، بها يعلم ضرورة أن النبي ﷺ قرأها على جبريل كما أنزلها عليه كذلك، ثم تلاها النبي ﷺ على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ويقرؤن بها خلفاً عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر فقرأها أيضاً كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم.
فإذا علمت العقيدة الصحيحة فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشري، ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر، فان المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعا وضرورة. ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين، أعنى علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوى الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين. وأنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة وزلة منكرة تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة فيها ما ليس متواتراً، فان هذا القائل لم يثبتها بغير النقل.
وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأى غير موقوفة على النقل.
وهذا لم يقل به أحد من المسلمين. وما حمله على هذا الخيال إلا التغالى في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية، فظنها قطعية حتى يرد ما خالفها، ثم إذا تنزل معه على اطراد القياس الذي ادعاه مطرداً، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه. وذلك أن الفصل بين المضاف والمضاف إليه وإن كان عسراً، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله فهو مقدر بالفعل، وبهذا التقدير عمل، وهو أن لم تكن إضافته غير محضة، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة حتى قال بعض النحاة:
إن إضافته ليست محضة لذلك. فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره. وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر وبين المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره لما بيناه من انفكاكه في التقدير وعدم توغله في الاتصال بأن يفصل بينه وبين المضاف إليه بما ليس أجنبياً عنه، وكأنه بالتقدير فكة بالفعل، ثم قدم المفعول على الفاعل وأضافه إلى الفاعل وبقي المفعول مكانه حين الفك، ويسهل ذلك أيضا تغاير حال المصدر، إذ تارة يضاف إلى الفاعل وتارة يضاف إلى المفعول. وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل لوقوعه في غير مرتبته، إذ ينوى به التأخير، فكأنه لم يفصل، كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حل في غير رتبته، لأن النية به التأخير. وأنشد أبو عبيدة
فداسهم دوس الحصاد الدائس
وأنشد أيضاً:
يفرك حب السنبل الكنافج | بالقاع فرك القطن المحالج |
فقيل: زينه لهم شركاؤهم. وأما قراءة ابن عامر: قتل أولادهم شركائهم برفع القتل ونصب الأولاد وجرّ الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجاً مردوداً، كما سمج وردّ.
زجّ القلوص أبى مزاده «١»
فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته. والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء. ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء- لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم- لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وليخلطوا، عليهم ويشبهوه. ودينهم: ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: معناه وليوقعوهم في دين ملتبس. فان قلت: ما معنى اللام؟ قلت: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة قسر ما فَعَلُوهُ لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل. أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك، إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الاشارة وَما يَفْتَرُونَ وما يفترونه من الإفك. أو وافتراؤهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٨]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)
فزججتها بمزجة... زج القلوص أبى مزاده
الزج: الطعن: والمزجة: الرمح القصير، لأنه آلة للزج. والقلوص: الناقة الشابة، وهو مفعول فاصل بين المضاف والمضاف إليه شذوذاً. يقول: فطعنت الناقة أو الجماعة برمح قصير، كطعن أبى مزادة القلوص في السير.
وقرأ ابن عباس: حرج، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي البحائر والسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها. والمعنى:
أنهم قسموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر، وأنعام محرّمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله. فجعلوها أجناسا بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله افْتِراءً عَلَيْهِ أى فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء- تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وانتصابه على أنه مفعول له: أو حال، أو مصدر مؤكد، لأنّ قولهم ذلك في معنى الافتراء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٩]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)
كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور لا تأكل منه الإناث، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. وأنث خالِصَةٌ للحمل على المعنى، لأنّ ما في معنى الأجنة «١» وذكر مُحَرَّمٌ للحمل على اللفظ. ونظيره وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر. وأن تكون مصدراً وقع موقع الخالص، كالعاقبة أى ذو خالصة. ويدل عليه قراءة من قرأ خالِصَةٌ بالنصب على أنّ قوله لِذُكُورِنا هو الخبر، وخالصة مصدر مؤكد، ولا يجوز أن يكون حالا متقدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله. وقرأ ابن عباس: خالصة على الإضافة.
وفي مصحف عبد الله: خالص. وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرئ: وإن
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٠]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
نزلت في ربيعة ومضر والرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ لخفة أحلامهم، وجهلهم بأنّ الله هو رازق أولادهم، لا هم. وقرئ «قتلوا» بالتشديد ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر والسوائب وغيرها.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤١]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ من الكروم مَعْرُوشاتٍ مسموكات «١» وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ متروكات على وجه الأرض لم تعرّش. وقيل: المعروشات» ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ مما أنبته وحشياً في البراري والجبال. فهو غير معروش. يقال: عرّشت الكرم، إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان. وسقف البيت: عرّشه مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في اللون والطعم والحجم والرائحة. وقرئ «أكله» بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفا عليه. ومختلفاً: حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ. وقرئ «ثمره» بضمتين. فإن قلت: ما فائدة قوله إِذا أَثْمَرَ وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت: لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل: إذا أثمر، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فأريد بالحق ما كان يتصدّق به على
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف على جنات. أى: وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. وقيل: «الحمولة» الكبار التي تصلح للحمل، «والفرش» الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشاً اثْنَيْنِ زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى، كالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز- والواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمى كل واحد منها زوجاً، وهما زوجان، بدليل قوله خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى والدليل عليه «١» قوله تعالى ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ونحو تسميتهم الفرد بالزوج، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه: تسميتهم الزجاجة
الهمزة في آلذَّكَرَيْنِ للإنكار والمراد بالذكرين: الذكر من الضأن والذكر من العز.
وبالأنثيين: الأنثى من الضأن والأنثى من المعز، على طريق الجنسية. والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنس الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكران من جنسى الإبل والبقر، والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما، وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام «١» تارة، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون قد حرّمها الله، فأنكر ذلك عليهم نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبرونى بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدل على تحريم ما حرّمتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّ الله حرّمه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ بل أكنتم شهداء. ومعنى الهمزة الإنكار، يعنى أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون: الله حرّم هذا الذي نحرّمه، فتهكم بهم في قوله أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ على معنى: أعرفتم التوصية به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم لِيُضِلَّ النَّاسَ وهو عمرو بن لحى بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٥]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبى من المعدود. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها، والاحتجاج على من حرّمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ تنبيه على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه، لا بهوى الأنفس مُحَرَّماً طعاماً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إلا أن يكون الشيء المحرّم ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أى مصبوباً سائلا، كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح
ومنه قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأهل: صفة له منصوبة المحل.
ويجوز أن يكون مفعولا له من أهلّ، أى أهلّ لغير الله به فسقاً. فإن قلت: فعلام تعطف أُهِلَّ؟ وإلام يرجع الضمير في بِهِ على هذا القول؟ قلت: يعطف على يكون، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في يكون فَمَنِ اضْطُرَّ فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات غَيْرَ باغٍ على مضطر مثله تارك لمواساته وَلا عادٍ متجاوز قدر حاجته من تناوله فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
«ذو الظفر» ما له أصبع من دابة أو طائر، وكان بعض ذات الظفر حلالا لهم، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم فعمّ التحريم كل ذى ظفر بدليل قوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقوله وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما كقولك: من زيد أخذت ماله، تريد بالإضافة زيادة الربط. والمعنى أنه حرّم عليهم لحم كل ذى ظفر وشحمه وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلا الشحوم الخالصة، وهي الثروب «١» وشحوم الكلى.
وقوله إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعنى إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحقة «٢» أَوِ الْحَوايا أو اشتمل على الأمعاء أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وهو شحم الإلية. وقيل الْحَوايا عطف على شحومهما. و «أو» بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين ذلِكَ الجزاء جَزَيْناهُمْ وهو تحريم الطيبات بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم «٣» وَإِنَّا لَصادِقُونَ
فيما أوعدنا
(٢). قوله «من السحقة» السحقة: الشحمة الملتزقة بالجلد على الظهر من الكتف إلى الورك، نقله في الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود: معناه ذلك الجزاء جزيناهم ببغيهم بسبب ظلمهم... الخ» قال أحمد: هذه الآية وردت فيمن كفر وافترى على الله ووعيد الكافر باتفاق واقع به غير مردود عنه. وأهل السنة وإن قالوا: يجوز العفو عن العاصي الموحد، فلا يقولون إن ذلك حتم، ولا يلزمهم ذلك، لأن الله تعالى حيث توعد المؤمنين العصاة، علق حلول الوعيد بهم بالمشيئة، وأخبر أنه يغفر لمن يشاء منهم، فمن ثم اعتقدنا أن كل موحد عاص في المشيئة، وحيث أطلق وعيدهم في بعض الظواهر فهو محمول على المقيد، فلا يلزمهم حينئذ اعتقاد الخلف في الخبر. والزمخشري إنما يدندن حول إلزامهم ذلك وأنى له.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إخبار بما سوف يقولونه، «١» ولما قالوه قال وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعنون بكفرهم وتمردهم «٢». أن شركهم وشرك
(٢). عاد كلامه. قال: فلما وقع ذلك منهم قال وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعنون بكفرهم... الخ» قال أحمد رحمه الله: قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية، وأوضحنا أن الرد عليهم، إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك، فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ثم أوضح تعالى أن كل شيء واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون، بقوله فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة، بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها، وهم الفرقة المعروفون بالمجبرة. والمصنف يغالط في الحقائق فيسمى أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختياراً وقدرة، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة، ويجعله لقبا عاما لأهل السنة. وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم عن أهل السنة في قوله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا- إلى قوله- قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين، فلم تقع من أكثرهم. ووجه الرد أن «لو» إذا دخلت على فعل مثبت نفته، فيقتضى ذلك أن الله تعالى لما قال فَلَوْ شاءَ لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم، ولو شاءها لوقعت، فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم، فإذا ثبت اشتمال الاية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها، فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها، فان أولها كما بينا يثبت للعبد اختياراً وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الالهية خيراً أو غيره، وذلك عين عقيدتهم، فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة، يسلبون تأثيرها ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ملزم له بالطاعة على وفق اختياره، ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضاً وقدرته في أفعال عباده، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز، يثبتون ما أثبت، وينفون ما نفى، مؤبدون بالعقل والنقل، والله الموفق.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٠]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
هَلُمَّ يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين. وبنو تميم تؤنث وتجمع. والمعنى: هاتوا شهداءكم وقرّبوهم. فإن قلت: كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين
(٢). قوله «على قود مذهبكم» لعله من قاد الفرس ونحوه قوداً، إذا جره بسهولة، أى على طبق مذهبكم، أى على مقتضاه وما يؤدى إليه. (ع)
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥١]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)
«تعالى» من الخاص الذي صار عاما. وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ. وما حَرَّمَ منصوب بفعل التلاوة، أى أتل الذي حرمه ربكم.
أو يحرم بمعنى: أقل أىّ شيء حرّم ربكم، لأن التلاوة من القول، و «أن» في أَلَّا تُشْرِكُوا مفسرة
قلت: وجب أن يكون أَلَّا تُشْرِكُوا ولا تَقْرَبُوا ولا تَقْتُلُوا ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ نواهى لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وَأَوْفُوا
، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
. فإن قلت: فما تصنع بقوله وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على أن لا تشركوا إذا جعلت أن هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفى الإشراك والتوحيد، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما؟ قلت: أجعل قوله وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً علة للاتباع بتقدير اللام، كقوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه. والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو واتبعوا صراطي إنه مستقيم. فإن قلت: إذا جعلت أَنَّ مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرم ربكم، وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرما كله، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهى، فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهنّ جميعاً فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان. وترك العدل في القول، ونكث عهد الله مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر ومن خشيته، كقوله تعالى خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ مثل قوله ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ. إِلَّا بِالْحَقِّ كالقصاص، والقتل على الردّة، والرجم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٢]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إلا بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره والمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه فادفعوه إليه بِالْقِسْطِ
بالسوية والعدل، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا تعجز عنه. وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك، لأن مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجرى فيه الحرج، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفوّ عنه وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القاتل، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٣]
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)وقرئ: وأن هذا صراطي مستقيما، بتخفيف «أن» وأصله: وأنه هذا صراطي، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث. وقرأ الأعمش: وهذا صراطي. وفي مصحف عبد الله: وهذا صراط ربكم. وفي مصحف أبىّ: وهذا صراط ربك وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطرق المختلفة في الدين، من اليهودية والنصرانية، والمجوسية، وسائر البدع والضلالات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ فتفرقكم أيادى سبا عَنْ سَبِيلِهِ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام. وقرئ: فتفرق بإدغام التاء. وروى أبو وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»
، ثم تلا هذه الآية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب. وقيل: إنهنّ أمّ الكتاب، ومن عمل بهنّ دخل الجنة، ومن تركهنّ دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة. فإن قلت: علام عطف قوله ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قلت: على وَصَّاكُمْ بِهِ. فإن قلت: كيف صح عطفه عليه بثم- والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل-؟ قلت: هذه التوصية قديمة، لم تزل توصاها كل أمّة على لسان نبيهم، كما قال ابن عباس رضى الله عنهما: محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بنى آدم قديماً وحديثاً.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٤]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)
ثُمَّ أعظم من ذلك أنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. وقيل:
هو معطوف على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ.
تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ تماماً للكرامة والنعمة، على الذي أحسن، على من كان محسنا صالحاً، يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله: على الذين أحسنوا: أو أراد به موسى عليه السلام، أى تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته، أى
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
أَنْ تَقُولُوا كراهة أن تقولوا عَلى طائِفَتَيْنِ يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل وَإِنْ كُنَّا هي إن المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن عَنْ دِراسَتِهِمْ عن قراءتهم، أى لم نعرف مثل دراستهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدّة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأسجاعها وأمثالها، على أنا أمّيون. وقرئ: أن يقولوا:
أو يقولوا، بالياء فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ تبكيت لهم، وهو على قراءة من قرأ يقولوا على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات. والمعنى: إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينة من ربكم، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك وَصَدَفَ عَنْها الناس فضلّ وأضلّ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ كقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
بدليل قوله أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يريد آيات القيامة والهلاك الكلى، وبعض الآيات.
أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك. وعن البراء بن عازب: كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله ﷺ فقال: «ما تتذاكرون؟ فقلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمغرب، وخسفا بالمشرق، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطُلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، وناراً تخرج من عدن «١» » لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة لقوله نفساً. وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على آمنت. والمعنى أنّ أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرّة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فلم يفرّق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت «٢» في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً، ليعلم أنَّ قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد. وقرئ: أن يأتيهم الملائكة، بالياء والتاء.
وقرأ ابن سيرين: لا تنفع، بالتاء، لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك: ذهبت بعض أصابعه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
فَرَّقُوا دِينَهُمْ اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وفي الحديث: «افترقت اليهود
(٢). قال محمود: «فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت... الخ» قال أحمد رحمه الله، هو يروم الاستدلال على صحة عقيدته في أن الكافر والعاصي سواء في الخلود بهذه الآية، إذ سوى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات، ولا يتم له ذلك، فان هذا الكلام اشتمل على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف.
وأصل الكلام. يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفساً لم تكسب في إيمانها خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لف الكلامين فجعلهما كلاما واحداً بلاغة واختصاراً وإعجازاً:
أراد أن يثبت أن ذلك هو الأصل، فهو غير مخالف لقواعد السنة، فانا نقول: لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخبر وإن نفع الايمان المتقدم في السلامة من الخلود، فهذا بأن يدل على رد الاعتزال، أجدر من أن يدل له.
والله الموفق.
فارقوا دينهم، أى تركوه وَكانُوا شِيَعاً فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أى من السؤال عنهم وعن تفرقهم. وقيل من عقابهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
عَشْرُ أَمْثالِها على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، تقديره عشر حسنات أمثالها، وقرئ: عشر أمثالها، برفعهما جميعاً على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الإضعاف.
وقد وعد بالواحد سبعمائة، ووعد ثواباً بغير حساب. ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦١]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)
دِيناً نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ لأنّ معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً والقيم: فيعل، من قام، كسيد من ساد، وهو أبلغ من القائم.
وغير في كل منها كلها فقال «إلا واحدة» وقال في الأخيرة «الإسلام وجماعة» أخرجه الطبراني والحاكم.
وحَنِيفاً حال من إبراهيم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وعبادتي وتقرّبى كله. وقيل: وذبحى. وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وقيل: صلاتي وحجى من مناسك الحج وَمَحْيايَ وَمَماتِي وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالصة لوجهه وَبِذلِكَ من الإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبىّ متقدّم لإسلام أمّته.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم، والهمزة للإنكار، أى منكر أن أبغى ربا غيره وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره، كما قال قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها جواب عن قولهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ لأن محمداً ﷺ خاتم النبيين فحلفت أمّته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً. أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف والرزق لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة، وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحرّ بالعبد، والغنى بالفقير إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفر نعمته وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن قام يشكرها.
ووصف العقاب بالسرعة، لأن ما هو آت قريب.