تفسير سورة التوبة

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .
إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٤]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
المفردات:
بَراءَةٌ يقال: برىء من العهد أو المرض براءة: خلص منه. فَسِيحُوا السياحة والسيح: الذهاب في الأرض حسبما يشاء الشخص. وَأَذانٌ أى:
إعلام. يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ المراد: يوم العيد.
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله- تعالى- فنكثوا عهودهم، إلا بنى ضمرة وبنى كنانة، فأمر المسلمون بنكث عهد الناكثين وإمهالهم أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فإذا انقضت الهدنة ومضت المدة قاتلوهم.
كان هذا في السنة التاسعة وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يحج بالناس فلما سافر نزلت
852
سورة التوبة وفيها نقض عهود المشركين، فأمر عليا أن يبلغ ذلك الناس يوم الحج الأكبر قائلا:
«لا يبلغ عنى إلا رجل منى»
فلما اجتمعوا بمنى يوم النحر قرأ عليهم علىّ آيات من أول هذه السورة ثم قال: أمرت بأربع: ألا يقرب البيت بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده...
المعنى:
هذه براءة مبتدأة من الله ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله مع شمولها للمسلمين ونسبت المعاهدة للمسلمين فقط مع أنها بإذن الله واتفاق رسول الله، للإشارة إلى وجوب تنفيذ نقض العهد، وأنه صادر من الله ورسوله، ولا حرج عليكم أبدا فيه، فهو أمر واجب الامتثال، وهو لحكمة الله يعلمها، وأما المعاهدة فهي كبقية العقود أمرها الظاهر المشاهد أنها مع المسلمين، وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله: براءة من الله ورسوله مع عدم ذكره في المعاهدة عاهَدْتُمْ للتنويه بمقامه المحمود، ومكانه المرموق مع المولى جل شأنه.
هذه براءة من الله ورسوله، وتخلص من عهود المشركين، وإيذان لهم بالحرب، وإعطاؤهم فرصة للاستعداد مع التحدي الكامل لهم، حيث أمروا بالسير في الأرض والسياحة فيها حسب مشيئتهم وهواهم ليحصنوا أنفسهم وأموالهم، إذ ليس المراد أمر المشركين بالسياحة في الأرض وأقطارها أربعة أشهر.
فسيحوا في الأرض واستعدوا في هذه المدة، واعلموا علما أكيدا، أنكم غير معجزي الله أبدا، وأن الله مخزيكم ومذلكم فأنتم كفرتم بالله ورسوله ونقضتم عهودكم مع المسلمين مرارا، وقد يتحقق الموعود به بالأسر والقتل، وإعلاء كلمة الله، وذهاب الشرك إلى حيث لا رجعة، هذا هو الخزي في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد أعد لهم.
أمرهم الله أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة سنة تسع
853
وهو يوم الحج الأكبر (يوم النحر) الذي بلغ فيه علىّ- رضى الله عنه- وتنتهي في عاشر ربيع الآخرة سنة عشرة.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ
ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته».
وأما من لم يكن له عهد فأجله أن يتم الأربعة أشهر الحرم الدائرة في كل عام وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وعلى هذا تكون مدته خمسين يوما، عشرون باقية من الحجة، وثلاثون هي شهر المحرم.
وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد ارتضاه جمع من العلماء قديما وحديثا واختاره الشيخ محمد عبده في دروسه. أمروا بالسياحة والاستعداد، وأن يعلموا علما أكيدا أنهم غير معجزي الله أبدا، وأن الله مخزيهم ومذلهم، لأنهم كفروا بالله، ورسوله... وأذان من الله ورسوله، وإعلام تام منهما إلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم (وكان ذلك على لسان على بن أبى طالب سنة تسع في السنة التي حج فيها أبو بكر بالناس كما تقدم) ليعلم الكل أن الله برىء من المشركين، ومن عهودهم، ورسوله كذلك برىء، وأما المسلمون فهم حزب الله وأتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم وداخلون في ذلك دخولا أوليا، وهذا إنذار شديد للمشركين!!! فإن تبتم أيها المشركون ورجعتم عن الشرك وآثامه فهو خير لكم وأى خير؟!!... وإن توليتم وأعرضتم عن الإسلام فاعلموا أنكم غير معجزي الله، ولا طاقة لكم بحربه في الدنيا، وأما في الآخرة فبشرهم يا محمد- فأنت أدرى بأحوال الآخرة وأنت البشير النذير- بشرهم بعذاب أليم غاية الألم.
هذا الأذان بنقض العهد يسرى على المشركين جميعا إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم ثم لم ينقصوكم شيئا من العهود ولم يخلوا بشرط من الشروط، أى: حافظوا على نصوص المعاهدة وروحها. ولم يظاهروا عليكم أحدا، ولم يعينوا عليكم عدوا كبني ضمرة وبنى كنانة، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين الخائفين من عذابه الذين يوفون بعهدهم إلا مع المشركين الناقضين العهد.
854
وجوب قتال المشركين [سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
المفردات:
انْسَلَخَ: انقضى، وأصل الاستعمال في الجلد، شبه الزمان به لأنه محيط بما فيه إحاطة الجلد بالشاة، فإذا مضى الزمن فكأنه انسلخ عما فيه. خُذُوهُمْ المراد:
ائسروهم، والأخيذ: الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ: امنعوهم من التقلب في البلاد والسير فيها. كُلَّ مَرْصَدٍ المراد: كل ممر وطريق يجتازونه في أسفارهم.
المعنى:
فإذا انقضى الأشهر الحرم التي كانت ساترة لهم، وحرزا تمنعهم من أيدى المسلمين، وهل المراد بها الأشهر الحرم السابقة؟ أو المراد بها الأشهر الحرم مع ما فهم من قوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ؟
فإذا انقضى الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الناكثين خاصة، أو المشركين مطلقا حيث تم لهم عهدهم.
وخذوهم أسرى حرب، واحصروهم حالة كونكم مانعين لهم من الأسفار والتقلب في البلاد، واقعدوا لهم كل مرصد وممر، وترصدوا لهم في كل طريق حتى تملأوا قلوبهم خوفا ورهبة منكم، فيخشى الواحد منهم لقاءكم حتى بينه وبين نفسه، والحكمة في ذلك محو الشرك من جزيرة العرب بالقوة لتكون معقل الإسلام مع مراعاة قوله تعالى:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ «١». وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها «٢» هذا كله بقدر الإمكان، فإن ثابوا وأنابوا، ودخلوا في الإسلام وأقاموا حدوده، والتزموا أركانه التي أهمها الصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم واتركوهم وشأنهم، واعلموا أن الله غفور رحيم، والآية الكريمة تفيد دلالة إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة على الإسلام، وتوجب لمن يؤديهما حقوق الإسلام من حفظ ماله ودمه إلا بحق الإسلام.
سماحة الإسلام في معاملة الكفار [سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
المفردات:
اسْتَجارَكَ: طلب جوارك والاحتماء بك. مَأْمَنَهُ: مكان أمنه... تقدم بيان حكم من تاب من الكفر، ومن أصر عليه وهذا حكم من يتصدى للتوبة ويتقرب من المسلمين.
المعنى:
وإن استجارك أحد من المشركين، وطلب جوارك وحمايتك، فاقبل جواره حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويتفهم معانيه، ويقف على أسراره العالية فإن الإنسان إذا خرج من بيئة العناد والضلال قد يشرح الله صدره للإسلام، ثم أبلغه مكان أمنه، وأوصله للدار التي يأمن فيها إن أسلم أو لم يسلم، ثم قاتله إن استوجب حاله القتال من غير غدر ولا خيانة.
وهذا من مكارم الأخلاق التي دعا إليها الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم. وتنبيه للمسلمين جميعا أن يعملوا على نشر الدين ومبادئه حتى يسمعها أولئك الذين لا يعرفون عن محاسن الدين الإسلامى شيئا.
(١) سورة البقرة آية ٢٤٤.
(٢) سورة الأنفال آية ٦١.
ذلك، أى: الأمر بالإجارة وحسن المعاملة. وتوصيله إلى مكان أمنه ودار إقامته بسبب أنهم قوم جهلة بحقيقة الدين، ولا يعلمون عنه إلا معلومات مشوشة خاطئة كما يعلم الغربيون عن ديننا من المعلومات التي تعلموها على أيدى رجال دينهم، وللأسف الشديد إذا أراد الواحد منهم أن يعرف شيئا عن الإسلام حكم عليه بأعمال أهله، ويا له من حكم قاس!! فإننا مسلمون بالوراثة والنسب لا بالعمل والخلق!!
سبب البراءة من عهودهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ١٠]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
المفردات:
إِلًّا: عهدا، أو حلفا، أو جورا. وَلا ذِمَّةً أى: عهدا، وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب.
857
المعنى:
هذا هو بيان الحكمة الداعية للبراءة من عهودهم، مع أن الوفاء بالعهد فضيلة وشعبة من شعب الإيمان.
كيف يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله؟ وهذا استنكار لأن يكون لهم عهد حقيق وجدير بالمراعاة عند الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمراد: ليس لهم عهد على أى وضع وحال، وهذا أبلغ في النفي من غيره، ولكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، وهم الذين سبق استثناؤهم في قوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الآية. وهذا مقيدا بأنهم يستقيمون لكم ولا يقدمون أى إساءة، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، وأتموا لهم عهدهم إلى مدتهم على هذا الأساس وهو عدم تعديهم عليكم، إن الله يحب المتقين الذين يوفون بالعهد ولا يظلمون.
وكيف يكون لهم عهد محترم وذمة عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم، ويظفروا بكم، لا يراعون في شأنكم قرابة ولا صلة، ولا يراقبون فيكم عهدا ولا ذمة، وهم يرضونكم بألسنتهم، وقلوبهم قد ملئت حسدا وحقدا، وتأبى قلوبهم أن تكون معكم أبدا، ولا غرابة في ذلك فأكثرهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين والمروءة، فالوفاء بالعهد للذين يخافون الله أو حساب الضمير، وهم قد اشتروا بدل الآيات الإلهية الداعية للمثل العليا الكريمة ثمنا قليلا تافها وشيئا حقيرا، وهو اتباع الأهواء، والخضوع للشيطان، ولذا تراهم صدوا عن سبيل الله ودينه الحق، وبذلوا في سبيل الله كل مرتخص وغال، إنهم ساء ما كانوا يعملون، وبئس العمل عملهم!! وهم لا يرقبون في شأن مؤمن- أيا كان- عهدا ولا ذمة على الإطلاق في أى وقت أو زمان، وأولئك هم المعتدون المتجاوزون الغاية القصوى في الظلم والشر.
هؤلاء الذين وصفوا بهذا الوصف، كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟! وكيف يثبت هؤلاء على عهدهم، فهم يخضعون للقوة، ويوفون للسيف لا للذمة، وقد ثبت أنهم كذلك في الواقع.
858
كيف نعامل هؤلاء الكفار؟ [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١ الى ١٢]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
المفردات:
نَكَثُوا أصل النكث: نقض الحبل، ثم استعير لنقض العهد. لا أَيْمانَ المراد: لا عهود لهم.
المعنى:
هذا بيان لحال الكفار بعد ما ثبتت عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين: أحدهما التوبة الصادقة والرجوع إلى الله- سبحانه وتعالى- والبعد عن الشرك والصد عن سبيل الله، فإن تابوا بهذا المعنى، وآمنوا وعملوا بإخلاص خصوصا إقامة الصلاة التي هي عماد الدين، وإيتاء الزكاة الدالة على صدق التوبة، وصفاء النفس وقوة العقيدة، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، وفي هذا التعبير الكريم التعبير بالأخوة، إشارة إلى مقام الأخوة في الدين وأنها أعلى نسبا، وأقوم صلة بين المسلم والمسلم، وبهذه الأخوة تهدم صروح العداوة، ويزول كل فارق بينكم.
والأخوة لا تتحقق إلا بالرجوع إلى الله حقا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويمكننا أن نقول بأن الثلاثة متلازمة لا يمكن أن يحصل واحد بدون الآخر، والله- سبحانه- يفصل الآيات، ويوضحها كالشمس أو أشد، ولكن لقوم يعلمون أو يريدون أن يعلموا.
أما الحالة الثانية وهي أنهم ينقضون العهود، بعد توكيدها، ويخلون بالمعاهدة بعد إبرامها، ويطعنون في دينكم بالنيل منه والاستهزاء به، والصد عنه، فهؤلاء يجب قتالهم قتالا عنيفا حتى يثوب إليهم رشدهم، قاتلوا أئمة الكفر وقادته وحملة لوائه أينما كانوا إنهم لا عهود لهم ولا ذمة ولا يمين، قاتلوهم لعلهم ينتهون إلى الحق ويرجعون عن الغي، وهكذا نعامل هؤلاء المشركين إما بالأخوة الإسلامية إن تابوا وعملوا صالحا، وإما حرب لا هوادة فيها إن ظلوا كما هم!!
تحريض على قتال المشركين [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٣ الى ١٥]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
المعنى:
كيف لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم التي أقسموا بها عند المعاهدة؟!! ونقضوا عهدهم من بعد توكيده، وهذا استفهام لإنكار عدم قتالهم. وهو يفيد الحض على القتال والحث عليه ببيان شناعة جرمهم وعظيم فعلهم المقتضى للقتال، وهم هموا بإخراج الرسول من مكة، أو حبسه حتى لا يراه أحد، أو قتله بأيدى عصابة مكونة من القبائل حتى يضيع دمه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [سورة الأنفال آية ٣٠]
وهم بدءوكم بالقتال أولا، وقد قيل: الشر بالشر والبادئ أظلم، وقد كان منهم كل ذلك إذ نقضت قريش العهد وأعانت بنى بكر على خزاعة، وقتلوا منهم كثيرا حتى استنجدوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من بلدة مكة وأخرجوا غيره من المهاجرين، وبدءوا بالقتال يوم بدر.
ثم قال هذه الحجج: أتخشونهم؟ وتتركون قتالهم خشية وخوفا إن كانت الخشية هي المانعة فالله أحق بها إن كنتم مؤمنين، إذ شرط الإيمان الخوف من الله وحده وخشيته دون سواه.
وهذا الاستفهام يفيد الإنكار والتوبيخ ولكن للمنافقين ولمن كانوا يعظمون أمر القتال ويرون أنه لا يليق برحمة الإسلام وعطفه على الناس.. ثم بعد هذا البيان الكامل أمرهم بالقتال فقال: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، فالله هو الفاعل حقيقة وأنتم باشرتم العمل في الظاهر وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة، وينصركم عليهم نصرا مؤزرا ما دمتم تنصرون الله بطاعته، ويشف صدور قوم مؤمنين كانت قد ملئت غيظا وألما من أفعال المشركين بهم في مكة، وقيل: هم خزاعة شفى الله صدرها بحرب المسلمين لقريش وأحلافهم، ويذهب غيظ قلوبهم بما كابدوا من المكاره والمكايد.
ولقد أنجز الله وعده، وصدق عبده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده، وهذا تحريض للقتال بأسلوب بليغ مع تبليغ أن النصر للمسلمين.
ويتوب الله بعد ذلك على من يشاء من عباده حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة، ولا غرابة فالله عليم بخلقه لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إلا ما فيه الخير والحكمة لعباده...
اختيار المسلمين وتمحيصهم [سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
المفردات:
وَلِيجَةً المراد: بطانة وصاحب سر، مأخوذ من الولوج وهو الدخول، وصاحبك يدخل في محيط أسرارك.
المعنى:
هذا كلام جديد غير السابق، فيه بيان حال جماعة المسلمين شأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة فيه، بل أحسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم بالأموال والأنفس؟ ونفى علم الله دليل على عدم الوقوع والحصول ضرورة أن الله يعلم كل ما يحصل في الكون، جاهدوا ولم يتخذوا من الكفار أولياء من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين، لم يتخذوا وليجة وبطانة منهم، والله خبير بما تعملون فمجازيكم عليه، ومثل هذه الآية آية البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ والخلاصة: أنه تعالى شرع لعباده الجهاد وبين أن له فيه حكمة، وهي اختبار عبيده ليظهر من يطيعه ممن يعصيه وهو العالم بما كان وما سيكون.
عمارة المسجد للمسلمين لا للمشركين [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
862
المفردات:
أَنْ يَعْمُرُوا عمارة المسجد في اللغة: تشمل لزومه والإقامة فيه وعبادة الله فيه، وبنيانه وترميمه وخدمته والإرعاء عليه، والعناية به. مَساجِدَ: جمع مسجد، وهو مكان السجود، ثم استعمل في البيوت الخاصة بعبادة الله وحده.
والمراد: المسجد الحرام.
روى عن ابن عباس- رضى الله عنه- أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علىّ في القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا وتنسون محاسننا؟ فقال علىّ: ألكم محاسن؟ فقال: نعم، إننا نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقى الحاج
، فأنزل الله- عز وجل- ردا على العباس هذه الآيات، والمراد أنها تتضمن الرد على العباس وأمثاله لا أنها وقعت عقب قوله، وهي مناسبة لنقض عهودهم، وعدم حجهم البيت ومنعهم منه إذا أنها تفيد منع خدمتهم وعمارتهم للمسجد الحرام أيضا.
المعنى:
ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين أبدا أن يعمروا مسجد الله الأعظم، وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو للخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين، وهذا الحكم يشمل كل المساجد ما كان لهم ذلك في حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، فإن هذا جمع بين الضدين فإن عمارة المسجد الحسية أو المعنوية بالعبادة لا تصح إلا من المسلم الموحد بالله الذي يعبد الله وحده، والكفر بالله والإشراك به يتنافى مع عبادة الله وحده والقيام على مساجد الله خصوصا مسجد الله الحرام.
والخلاصة أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله مع الكفر بالله، وشهادتهم بالكفر ثابتة قولا وعملا فهم يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وأما عملهم فقد عبدوا الأصنام واستقسموا بالأزلام، فهذه شهادتهم بالكفر.
أولئك المشركون البعيدون في الضلال حبطت أعمالهم وبطلت، وهم في النار خالدون وماكثون: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ
863
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً
«١» إنما يعمر مساجد الله وخصوصا المسجد الحرام بالرعاية والعناية والولاية والخدمة والعبادة إنما يعمره من آمن بالله إيمانا كاملا صادقا وآمن باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وكان عمله الظاهر موافقا لعقيدته فيقيم الصلاة ويؤديها كاملة الأركان والشروط ويؤدى الزكاة لأربابها وأكثرهم يقيمون بالمساجد، على أن في مال الزكاة متسعا لتعمير المساجد تعميرا حسيا، والذين يخشون الله وحده هم أولى الناس بذلك.
المعنى:
قصر تعمير المساجد على المؤمنين بالله إيمانا كاملا شاملا والمقيمين الصلاة إقامة كاملة مع إيتاء الزكاة، والخشية من الله وحده دون غيره مما لا ينفع ولا يضر، والمراد:
الخشية الدينية الغريزية كالخوف من الحيوان المؤذى مثلا.
ونحن نرى الآن أنه لا يعمر بيوت الله إلا هؤلاء فقط.
فأولئك الموصوفون بهذه الصفات الجليلة هم المهتدون إلى الخير دائما، المستحقون على أعمالهم عظيم الأجر، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وفي تصدير جزائهم بكلمة (عسى) إشارة إلى قطع أطماع الكفار، أى: إذا كان هؤلاء العاملون المقربون جزاؤهم بين (لعل وعسى) فما بال الكفار!! والخير للمؤمن أن يكون بين الرجاء الذي يحمله على العمل وبين الخوف الذي يبعده عن التقصير ويغلب الخوف على الرجاء في حال الصحة والعكس في حال المرض الشديد، وهذه الصفات الجامعة لشعب الإيمان والإسلام تقتضي حتما الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنها لا تعمل على الوجه الكامل إلا بهديه وإرشاده صلّى الله عليه وسلّم.
فضل الإيمان والجهاد [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
(١) سورة الكهف آية ١٠٥.
864
المفردات:
سِقايَةَ في اللغة: هي الموضع الذي يسقى فيه الحاج، أو الإناء الذي يسقى به والمراد: ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يلي هذا ويشرف عليه العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام...
روى عن النعمان بن يشير ما معناه قال: كنت عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رجل: ما أبالى ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر ودخل يستفتى رسول الله فقرأ عليه هذه الآية «١»
، وبهذا الحديث يعلم أن الخطاب في الآية للمؤمنين، وقيل: إن الخطاب فيها للمشركين وهي تكملة للآيتين السابقتين في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام للمسلمين على كل حال، وبيان أن الجهاد في سبيل الله مع الإيمان أعظم درجة عند الله.
المعنى:
أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله في الفضيلة والدرجة؟ وهذا استفهام إنكارى لمن يدعى تشبيه هذا بذاك.
(١) أخرجه عبد الرزاق.
865
وهل هذا خطاب للمشركين حسب السياق؟ أم هو خطاب للمؤمنين حسب حديث النعمان بشير- رضى الله عنه- إذا كان هذا حال السقاية والعمارة مع المؤمنين فما بال الكفار الذي يفتخرون بهما؟!! نعم لا يستوون عند الله أبدا، وإن كان في كل خير، إلا أن الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله مع بذل النفس والنفيس أعلى درجة وأعظم مكانة عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين إلى معرفة جهة الفضل، وموضع الخير، إذ قد طمس الله على قلوبهم.
الذين آمنوا بالله ورسوله وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله ولإعلاء كلمته باذلين النفس والمال هم أعظم درجة، وأعلى مكانة ممن لم يتصف بهذه الصفات كائنا من كان، وإن حاز جميع ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقاية والعمارة.
فإن فهمت الآية على أن الخطاب للمؤمنين المتفاخرين حسب حديث النعمان بن بشير قلنا: إنه لا مراء أن في السقاية والعمارة خيرا وإن كان الإيمان والجهاد أعظم درجة عند الله.
وإن فهمت الآية على أن الخطاب للمشركين والتفاخر من الكفار كان المعنى: نعم للسقاية والعمارة درجة عند الله إذا فعلا كما يرضى الله ورسوله، ولكن الشرك يحبط عملهما كما سبق.
وأولئك المؤمنون المهاجرون والمجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وفضله وكرامته.
وما هذا الفوز؟ أجاب الله بقوله: يبشرهم ربهم في كتابه المنزل على نبيه برحمة واسعة، ورضوان من الله أكبر من كل شيء، وجنات لهم فيها نعيم مقيم دائم، وهم خالدون فيها وماكثون إلى ما شاء الله عطاء غير مجذوذ، أى: غير مقطوع.
إن الله عنده أجر عظيم فلا غرابة في هذا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة آية ٧٢].
وقد ورد عن أبى سعيد الخدري- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن
866
الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟
فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟
فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.
ولاء المؤمنين للكافرين وخطره [سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
المفردات:
اسْتَحَبُّوا: أحبوا. عَشِيرَتُكُمْ: أهلكم وقرابتكم. فَتَرَبَّصُوا:
انتظروا. كَسادَها: بوارها وعدم رواجها.
كان لما أعلنه القرآن الكريم من البراءة من الله ورسوله إلى المشركين، ومن نبذ عهودهم ونقض معاهداتهم، ووجوب قتالهم كان لهذا أثر كبير في نفوس بعض المسلمين خصوصا ضعفاء الإيمان الذين لم تزل في قلوبهم العصبية الجنسية، وصلة القرابة لها
867
المكان الأعلى، وبعضهم كان يكره الحرب ونقض العهد لما في ذلك من الاعتداء وهتك الحرمات، ولقد اتخذ المنافقون من ذلك مادة للدعاية وللتأثير على بعض المسلمين حتى كان للبعض بطانة ووليجة من الكفار، وما قصة حاطب بن أبى بلتعة ببعيدة، وكانت نقطة الضعف هي نعرة القرابة ورحمة الرحم.
وبعد أن بين الله فضل الجهاد ونتائجه والهجرة وأثرها، وحبوط أعمال المشركين حتى ما كان خيرا منها كالسقاية والعمارة، بين هنا أن ذلك كله لا يتم إلا بترك ولاية المشركين، وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد والأخ والزوج والعشيرة والمال والمسكن.
المعنى:
يا أيها الذين آمنتم بالله ورسوله، واتصفتم بهذا الوصف: لا يليق بكم أن تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال، وتظاهرون لأجلهم الكفار، لا تتخذوا منهم بطانة ولا وليجة تخبرونهم بالأسرار الحربية الخاصة بالجيش الإسلامى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [سورة التوبة آية ١٦].
لا تتخذوهم أولياء ما داموا يحبون الكفر على الإيمان ويؤثرون الشرك على الإسلام ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم التي ينتمون إليها، وذلك أنهم وضعوا الولاية موضع البراءة، والمودة محل العداوة.
خاطب الله المؤمنين بهذا الوصف الكامل لينهاهم عن جريمة اتخاذ الولاية للكافرين المعادين للرسول والمؤمنين، خاطبهم مباشرة (لا تتخذوا) ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخاطبهم في ما هو سببها مذكرا لهم مبينا الخطر الذي ينجم على فرض وقوعها منهم مع تصدير كلمة (إن) المفيدة للشك لأن هذا هو المنظور، إذ حب المذكورات يجب أن يكون مشكوكا فيه بالنسبة للمؤمنين، والمؤاخذة ليست على حب المذكورات بل على تفضيلها على حب الله، أما أصل الحب فشيء طبيعي جبلّىّ لا مؤاخذة فيه.
868
أما محبة الآباء فغريزة عند الأبناء، إذ الولد يشعر أن أباه هو سبب وجوده وأنه قطعة منه وهو مثله الأعلى، والأب هو المخلوق الذي عطف عليه ورباه، ولا تنس أن الآباء مفخرة العرب فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ «١» ومحبة الأبناء غريزة، فالولد محط الأمل، وهو قطعة من الفؤاد وفلذة من الكبد، وهو الجزء الباقي بعد الإنسان، لا يحب أن يتميز عليه إنسان إلا هو والأخ هو اليد القوية والساعد لأخيه، وابن أمه وأبيه سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «٢» وحب الزوجة شعور خاص ليس له ضريب فهو الذي يسكن إليها، وتهدأ ثورة الطبيعة عندها وقد كانت محط نظره ومحل أمله، وأما حب المال والتجارة فطبيعة عند كل إنسان، وقد كان أكثر المسلمين يشتغلون بالتجارة، وحب المسكن الذي ألفه الشخص غريزى أيضا، فهو وطنه، وأول أرض مس جسمه ترابها... فهذه الثمانية المحبوبة بالطبيعة جعلت بعض المسلمين يكرهون القتال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «٣» لذلك لم يفرض إلا للضرورة القصوى.
والآية الكريمة تشير إلى إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على كل منفعة في الأرض.
أما حب الله فيجب أن يكون هو المقدم لأنه صاحب النعم والفضل واهب الوجود والكون، خلقنا ورزقنا وأحيانا. وهو الذي أوجد الآباء والأبناء والمال والتجارة والمساكن، على أنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص.
وأما حب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو دون حبه- تعالى- وفوق حب تلك الأصناف الثمانية، فهو زعيم العلماء العاملين وقدوة الهداة والراشدين، وهو المثل البشرى الأعلى والأسوة الحسنة في الخلق والأدب والفضل، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، قد جعل القرآن علامة محبة الله اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [سورة آل عمران آية ٣١].
وأما الجهاد في سبيل الله بأى نوع منه فدرجته لا تخفى وتفضيله على الأصناف الثمانية السابقة أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها».
(١) سورة البقرة آية ٢٠٠.
(٢) سورة القصص آية ٣٥.
(٣) سورة البقرة آية ٢١٦.
869
وعلى ذلك فمن أحب الآباء والأبناء والأزواج والمال أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو ناقص الإيمان يستحق هذا الوعيد الشديد ولينتظر الهلاك والدمار، وما كان الذين يحبون الأهل والعشيرة والمال والتجارة أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله إلا من المنافقين الذين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد ويوحون لهم زخرف القول بالاعتراض على نبذ العهود، وإعلان الحرب على المشركين.
والله لا يهدى القوم الفاسقين الخارجين عن حدود الدين والعقل والحكمة.
وهل النصر إلا من عند الله؟ [سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
المفردات:
مَواطِنَ: هي مواقع الحرب كبدر، والحديبية، ومكة. حُنَيْنٍ: واد بين مكة والطائف. رَحُبَتْ الرحب: الواسع. سَكِينَتَهُ: ما يسكنهم ويذهب خوفهم.
870
لما بلغ قبيلة هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف وكانت الرياسة له، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد ونزلوا بأوطاس (واد في ديار هوازن فيه كانت وقعة حنين). ولما بلغ خبرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزم على قصدهم وأعد العدة، وكان معه حوالى اثنى عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء، ولما رأى المسلمون كثرتهم غر بعضهم هذا حتى قال: لن نغلب اليوم عن قلة، فوكلوا إلى أنفسهم حتى انهزموا ثم لما رجعوا عن غرورهم والتجأوا إلى ربهم كان النصر والظفر لهم.
المعنى:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة تقابلتم فيها مع أعدائكم وأنتم قلة قليلة، وهم كثرة كثيرة، ومع هذا نصركم الله وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حيث كنتم متوكلين على الله، معتمدين عليه ممتثلين أمر الله ورسوله، معتقدين أن النصر من عند الله، وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
أما إذا أعجبتكم كثرتكم، وظننتم أنكم لا تغلبون عن قلة وضعف كما حصل منكم يوم حنين فقد ترككم ربكم لأنفسكم فلم تغن كثرتكم عنكم شيئا من قضاء الله وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف ثم وليتم مدبرين وكانت الدائرة عليكم في أول المعركة حتى فر كثير من الناس، ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعلىّ والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلته الشهباء ثابتا يقاتل الكفار، وقال: «أى العباس» ناد أصحاب السمرة (الشجرة التي كانت عند بيعة الرضوان) فنادى عباس وكان ذا صوت: أين أصحاب السمرة! قال: فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار...
قال: ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيات فرمى بها وجوه الكفار. ثم قال: «انهزموا ورب محمد».
وفي رواية أنه دعا واستنصر وكان يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن
871
عبد المطلب، اللهم أنزل نصرك»
قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس، أى: اشتد، نتقي برسول الله... ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فاستجاب دعاء النبي وأنزل ما به تسكن قلوبهم وتطمئن نفوسهم، وتقوى عزائمهم حتى اجترءوا على قتال المشركين، وأنزل الله جنودا لم تروها من الملائكة يقوون روح المؤمنين المعنوية بما يلقون في قلوبهم من التثبيت والاطمئنان ويضعفون الكافرين بما يلقون في قلوبهم من الخوف والجبن من حيث لا يرونهم وهكذا عمل الدعاية في الحرب وقد ثبت أن لها النصر المؤكد، والثابت أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفي رواية عمن أسلم بعد حنين قال: أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليهم بيض ما كان قتلنا إلا بأيديهم؟!! وعذب الله الذين كفروا بسيوفكم بعد أن كانوا أعزة لهم الغلب رماة ماهرين، وذلك كله جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ممن انهزم وفر فيهديه إلى الإسلام، ويثبت قلبه عند الشدائد.
وفي هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنعم الله عليهم، وأن النصر من عنده، وكثيرا ما تتخلف الأسباب الظاهرة ليتذكروا أن عناية الله- تعالى- برسوله والمؤمنين وتأييده بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوى المادية.
المشركون لا يدخلون المسجد الحرام [سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
المفردات:
نَجَسٌ النجاسة في اللغة: القذارة وعدم النظافة، وإذا وصف بها الإنسان كان المراد أنه شرير خبيث النفس وإن كان طاهر البدن، وإذا وصف بها الداء كان المراد أنه
عضال لا برء معه، وفي عرف الفقهاء: ما يجب تطهيره سواء كان قذرا كالبول أو غير قذر كالخمر مثلا. عَيْلَةً: فقرا، يقال: عال: افتقر، وأعال: كثر عياله.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن المشركين ما هم إلا أنجاس، عقائدهم فاسدة يشركون بالله غيره، ويعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويأكلون الميتة ولا يتحرّون الطهارة في أبدانهم ولباسهم، فلا تمكنوهم بعد هذا العام (عام تسع الذي بلغ فيه على هذه الآيات) من دخول المسجد الحرام ولا الطواف به عراة يشركون بربهم في التلبية.
وهل المراد أنهم أنجاس، أى: ذواتهم نجسة؟ أو المراد أنهم أشرار خبثاء النفس؟
قولان، والظاهر الثاني، وأن المراد المعنى اللغوي لا المعنى العرفي عند الفقهاء، وذلك لأن المتتبع للسيرة يرى أن معاملة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم لم تكن على أساس أنهم أنجاس بهذا المعنى، فقد كان المسلمون يعاشرونهم وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي صلّى الله عليه وسلّم وتدخل مسجده في المدينة، ومن الثابت أنه لم يأمر بغسل شيء أصابه بدنهم، هذا هو الصحيح.
وقد ورد أن المسلمين قالوا: من أين لنا الطعام بعد هذا النهى؟ فقيل: وإن خفتم أيها المسلمون عيلة وفقرا من منع هؤلاء من دخول المسجد الحرام كما يوسوس لكم إبليس، وكما يرجف بذلك المرجفون، فاعلموا أنه سوف يغنيكم الله من فضله، فهو واسع الفضل، يداه مبسوطتان، وهو على كل شيء قدير، وهو العليم بخلقه الحكيم في فعله.
قتال أهل الكتاب وغايتهم [سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
873
المفردات:
الْجِزْيَةَ: نوع من الخراج- الضريبة- يضرب على الأشخاص لا على الأرض.
يَدٍ: سعة وقدرة. صاغِرُونَ الصغار والصغر: ضد الكبر، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية، والمراد هنا: الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي تصغر بها أنفسهم بفقد الملك.
كل ما تقدم كان في قتال المشركين وهم أكثرية سكان جزيرة العرب، وهذه الآية في حكم قتال أهل الكتاب والغاية التي ينتهى إليها، وقد قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين في جزيرة العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره، وقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية.
المعنى:
يا أيها المسلمون قاتلوا الذين تجمعت فيهم صفات أربع، هي سبب عداوتهم للإسلام، وكراهيتهم لكم، ووضعهم العراقيل في طريق الدعوة، وتركهم مستقلين يجعلهم يغيرون على أطراف المملكة الإسلامية ويؤلبون العرب كما فعل اليهود في المدينة وما حولها، وكما تفعل نصارى الروم في حدود بلاد العرب كما سيأتى في غزوة تبوك، وهاك صفاتهم:
١- لا يؤمنون بالله، وقد شهد القرآن بأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقدوه لأنهم لا يقولون بالتوحيد، وقد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يحلون ويحرمون كما يشاءون، وقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وقد سبق بيان عقائد النصارى في المسيح في سورة المائدة.
٢- ولا يؤمنون باليوم الآخر. فهم يقولون: إنها حياة روحية فقط كحلم النائم، ولا يرون فيها شيئا مما نعتقده من نعيم حسى وروحي، وعذاب حسى وروحي.
٣- ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، نعم وهما لا يحرمون على أنفسهم ما حرمه الله عندهم على لسان موسى وعيسى، وها هو ذا القرآن يقول: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [سورة النساء آية ١٥٥] ألم يحلوا الربا والخمر وهما محرمان عندهما؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ [سورة البقرة آية ٨٥].
874
٤- ولا يدينون دين الحق، نعم فهذا الذي يسيرون عليه ليس دين الله الحق الكامل، وإنما لعبت الأهواء والأغراض والتحريف والتبديل في التوراة والإنجيل وهم لا يدينون بالإسلام وهو الدين الحق الذي لا شك فيه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران آية ١٩].
قاتلوهم حيث اتصفوا بهذه الصفات حتى يعطوا الجزية عن قدرة وسعة وهم صاغرون، والمعنى: قاتلوهم إن بدر منهم ما يوجب القتال كنقض العهد أو إثارة العدو ومعونته أو الإغارة على أطراف المملكة، كما فعل النصارى في الشام، وإعطاء الجزية دليل الخضوع وسلامة العاقبة على أنهم بهذا يخالطونكم فيرون عدل الإسلام وسماحته، فإن أسلموا فهم منكم وأنتم منهم، وإلا فالجزية مع معاملتهم معاملة حسنة بلا اضطهاد ولا تعذيب، ويسمون أهل الذمة لأن حقوق المساواة والعدل في معاملتهم بمقتضى ذمة الله ورسوله، والمعاهدون هم من بيننا وبينهم عهد محترم من الجانبين، وهناك أحكام في كتب الفقه خاصة بالجزية وأهلها والمعاهدين.
أهل الكتاب لا يعبدون الله حقا [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
875
المفردات:
عُزَيْرٌ: هو عزرا الموجود في الكتب التي بأيديهم. يُضاهِؤُنَ:
يشبهون. أَنَّى يُؤْفَكُونَ: كيف يصرفون عن الحق إلى غيره؟ أَحْبارَهُمْ:
جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. وَرُهْبانَهُمْ:
جمع راهب، وأصله مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله- تعالى- على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له، وعمله معه، وأنسه به. أَرْباباً:
جمع رب، وهو الخالق البارئ الذي يحل الحلال ويحرم الحرام.
هذا تقرير لما مر، وتأكيد له ببيان أنهم لا يؤمنون بالله، وعزير هذا هو عزرا الوارد في كتبهم التي أجمعت على أن أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في كتابة كتبهم المقدسة وأنه هو الذي أملاها، إذ ثابت أن التوراة التي كتبت في عهد موسى ضاعت قبل عهد سليمان- عليه السلام- وأن عزيرا هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي، كتبها بإلهام من الله أو بوحي، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، بل كتب علماء أوروبا الأحرار يشكون في هذا وينفونه كما في دائرة المعارف البريطانية.
والخلاصة أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى أن بعضهم أطلق عليه لقب (ابن الله) ويظهر- والله أعلم- أنه كان إطلاقا في أول الأمر للتكريم ثم صار حقيقة بعد دخول الفلسفة الوثنية الهندية عندهم.
876
المعنى:
وقالت اليهود- أى: بعضهم-: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقد كان القدماء منهم يقولون به قاصدين معنى التكريم والمحبة، فهو إطلاق مجازى، ثم لما سرت الفلسفة الوثنية صاروا يطلقونه إطلاقا حقيقيا على أن المسيح ابن الله وهو الله، وهم متفقون جميعا على أن الموحد ليس نصرانيا- وقد مر شيء من التحقيق في هذا الموضوع في سورة المائدة بالجزء السادس- ذلك قولهم الكذب وافتراؤهم المحض بألسنتهم من غير دليل ولا حجة يشبهون به قول الذين كفروا من قبلهم سواء كانوا من العرب أو من آبائهم السابقين، ألا لعنة الله عليهم أجمعين.
قاتلهم الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل؟ ويبدلون الحقائق، ويصرفونها عن غير وجهها الطبيعي: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة آية ٧٥]. وقد بين الله حقيقة مضاهاتهم للمشركين ومشابهتهم لهم بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة ٣١]، والمعنى: اتخذوا اليهود والنصارى علماءهم وعبّادهم أربابا من دون الله يحلون ما يحلون، ويحرمون ما يحرمون. وهذا معنى اتخاذهم أربابا كما ورد في الحديث، فهم تركوا حكم الله واتبعوا حكم هؤلاء، واتخذ النصارى المسيح ابن مريم إلها معبودا مع أنه قال: وقال المسيح يا بنى إسرائيل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون. كما ورد في كتبهم على لسان موسى وعيسى.
وهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهدايته إلى الدين الحق والكتاب المحكم والقرآن المنزل على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم ولكن أنى لهم هذا؟! ويأبى الله إلا أن يتم نوره بتثبيته وحفظه، والعناية به وإكماله وتمامه في كل شيء، ولو لم يكره الكافرون، ولو كره الكافرون.
ولا غرابة في ذلك فهو الذي أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالهدى والدين، والقرآن المبين، وأرسله بدين الحق والكمال والجلال ليظهره على الأديان كلها ولو كره المشركون، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده صلّى الله عليه وسلّم.
877
سلوك رجال الدين من أهل الكتاب [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
المفردات:
يَكْنِزُونَ الكنز في اللغة: الضم والجمع مطلقا، والمراد جمع الأموال وخزنها وإمساكها عن الإنفاق. فَبَشِّرْهُمْ: أنذرهم، وهو تهكم بهم لأن البشارة في الخير لا في الشر. فَتُكْوى الكي: إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد.
هذا بيان لسير الأحبار والرهبان العملية، وكشف لنفسيتهم المالية حتى يقف أهل الكتاب على خطئهم في اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله والاقتداء بهم، وليعلم المسلمون السر في عنادهم وكفرهم، وأنهم يريدون إطفاء هذا النور لأنهم ألفوا الضلال، ألا ساء ما كانوا يعملون.
878
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله: اعلموا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل لا بالحق، وإنما نسب هذا لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق، فإن أكثرهم فاسقون، وقليل منهم صالحون، أما أكلهم المال بالباطل فيظهر في صور شتى، منها: صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى عند كثير من الفرق النصرانية كالأرثوذكس والكاثوليك، وخلاصتها: أن يعترف المخطئ منهم بخطئه فيغفر له القسيس نظير مال يدفعه ثم يعطيه صكا يسمى صك الغفران. ألا لعنة الله على القوم الجهلاء!! ومنها الرشوة المنتشرة عند أهل الكتاب.
ومنها أكل الربا واليهود هم أساتذة الربا وقادته في العالم، وقد قلدهم المسيحيون في ذلك ولهم فلسفة خاطئة فيه.
ومنها بيع الفتاوى بالمال لإرضاء الحكام والملوك والأمراء على حساب الدين وقد كان هذا شائعا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وما بعده.
ومنها إباحة أخذ ما تيسر لهم من مخالفيهم في العقيدة لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران آية ٧٥] والمراد بالأكل كل ما يعم الأخذ وغيره، وإنما عبر به لأنه المقصود المهم من الأخذ.
وأما صدهم عن سبيل الله فبما يختلقون على الله الكذب، ويصفون النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحقر الأوصاف، ويكتمون صفته وبشارته التي هي عندهم، والنصارى انفردوا في هذه الأيام بالمبالغة في الصد عن سبيل الله بالتبشير في البلاد الإسلامية عن طريق المدارس والمستشفيات والجمعيات... إلخ.
والمراد بقوله- سبحانه-: والذين يكنزون الذهب... هم من تقدم من الأحبار والرهبان لأن الكلام معهم، أو ما هو أعم وهم يدخلون في الموصول دخولا أوليا، وكذا غيرهم من المسلمين، وهذا هو الظاهر.
والذين يجمعون المال ويحبسونه عن الإنفاق في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، وجمع المال وكنزه لا يكون خطرا إلا إذا منعت فيه حقوق الله، أما إذا أديت الحقوق الواجبة
879
عليك في المال، ثم كنزت وجمعت فلا غبار عليك. وهذا هو الواجب فهمه في الآية خلافا لبعضهم. قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز.
فبشرهم وأنذرهم بعذاب أليم جدا يوم يحمى على ما جمعوه من دنانير ودراهم في النار، أى: يوقد عليها في النار حتى تحمى فتكوى بها جباههم التي طالما اعتزت بكثرة المال وتكون جنوبهم التي طالما تمتعت بالحرير والديباج، وتكوى بها ظهورهم التي طالما استندت للمال، على أن الكي على الوجه أشهر وأشنع، والكي على الجنب والظهر أوجع وآلم ويقال لهم: هذا جزاء ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون!!!
وروى البخاري عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعنى شدقيه- ثم يقول له: أنا مالك أنا كنزك» ثم تلا:
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة آل عمران آية ١٨٠].
بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
880
المفردات:
حُرُمٌ: جمع حرام. كَافَّةً أى: مجتمعين. النَّسِيءُ: من نسأ الشيء وأنسأه، أى: أخره، والنسيء كالمسنوء، أى: المؤخر.
لِيُواطِؤُا المواطأة: الموافقة.
عود للكلام على المشركين بعد أن أنهى الكلام على أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
المعنى:
إن عدة الشهور عند الله أى: في حكمه اثنا عشر شهرا، فيما كتبه الله وأثبته من نظام للكون، وتقدير لمنازل القمر والشمس، كتبه يوم خلق السموات والأرض، والمراد الأشهر القمرية لا غيرها، فإن الحساب بها يسير، وتتوقف على الهلال، وهو يرى لكل إنسان متعلم وغير متعلم، بدوي أو حضرى.
منها أربعة حرم كتب الله وفرض احترامها وتحريم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل. وتناقلت العرب ذلك قولا وعملا، وفي زمن الجاهلية الجهلاء غيرت العرب في ذلك وبدلت تبعا لأهوائها كما سيأتى
والأشهر الحرم كما وردت في الحديث هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى الثانية وشعبان.
وحرم القتال فيها لأنها زمن الحج فيأمن الناس في أسفارهم وغربتهم على أنفسهم وأموالهم، ولا شك أن الحج يبتدئ غالبا من ذي القعدة إلى آخر المحرم. وكان رجب في وسط العام هدنة للراحة والاستجمام ولتسهيل العمرة فيه، ذلك الدين القيم، ذلك
881
الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في عدة الشهور، وتحريم الأربعة الحرم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل أى محرم ومحظور، ويدخل في ذلك انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها، أو الحرم بالقتال فيها في كل وقت، يدخل هذا وذلك في الظلم دخولا أوليا، وقاتلوا المشركين جميعا على قلب رجل واحد كل في دائرة اختصاصه كما يقاتلونكم كذلك، واعلموا أن الله مع المتقين للظلم والعدوان والفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وقد ورثت ذلك عن أبيها إبراهيم وإسماعيل، ولما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم بدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم، ولا سيما شهر المحرم منها، فكانوا ينسئون تحريمه، أى: يؤجلون تحريمه إلى صفر فتبقى الأشهر أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله. وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم لأجل الحج.
وفي كتب التاريخ أنه كان يقوم رجل منهم كبير (يقال له القلمس) فيقول في (منى) : أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: صدقت فأخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، ويحرم عليهم صفرا، ثم صاروا ينسئون غير المحرم.
إنما النسيء، أى: التأخير في الأشهر الحرم كما ورد عنهم، زيادة في الكفر إذ هم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل فكان زيادة على أصل كفرهم وشركهم بالله تعالى، فإن تشريع الحلال والحرام لله وحده وإنهم بالنسيء يضلون به سائر الكفار الذين يتبعون فيه حيث يوهمونهم أنهم على ملة إبراهيم وأنهم لم يزيدوا ولم ينقصوا في الأشهر الحرم، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة.
والله لا يهدى القوم الكافرين أبدا إلى خير أو صواب، خصوصا في أمور الدين،
روى الشيخان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» «١»
بمعنى أنه عاد حساب الشهور ونظامها إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغير في حساب العرب بسبب النسيء في الأشهر.
(١) أخرجه البخاري في التفسير ٤٦٦٢.
882
في الحث على الجهاد والتحذير من تركه [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
المفردات:
انْفِرُوا النفر والنفور: عبارة عن الفرار من الشيء، أو الإقدام عليه بخفة ونشاط، واستنفر الإمام الجيش إلى القتال: أعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا.
اثَّاقَلْتُمْ: تثاقلتم وتباطأتم. الْغارِ المراد: غار جبل ثور، وهو فتحة في الجبل. لا تَحْزَنْ الحزن: انفعال نفسي ينشأ من تألم النفس مما وقع، ويراد بالنهى
883
عنه: مجاهدته وتوطين النفس على عدم الاستسلام له. كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى المراد: كلمة الكفر والشرك ودولتهم. كَلِمَةُ اللَّهِ هي كلمة الإسلام ودولته.
هذه الآيات، من هنا إلى آخر السورة، نزلت في غزوة تبوك تقوى من عزم المؤمنين وتكشف عن ستر المنافقين، وتبين أحكاما كثيرة لازمة لجماعة المسلمين، وتعاتب من تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم من غزوة حنين والطائف وكان المسلمون في عسرة وضيق، وقد حان قطاف الثمر عندهم وظهور الموسم.
لهذا كره بعض المسلمين الخروج إلى القتال خصوصا بعد ما أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم اتجاهه ومقصده في الغزوة وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة آية ٢١٦].
أما سبب الغزوة فهو استعداد الروم والقبائل العربية المنتصرة من لخم وجزام لقتال النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أعدوا جيشا كثيفا لغزو المدينة فهي حرب دفاعية لا هجومية «هكذا غزواته وحروبه صلّى الله عليه وسلّم ولما لم يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم من يقاتله عاد بلا هجوم، وتبوك: مكان في منتصف الطريق تقريبا بين المدينة ودمشق.
المعنى:
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، واهتديتم بالقرآن الكريم: مالكم متثاقلين حين قال لكم رسولكم الأمين: انفروا في سبيل الله ولإعلاء كلمته؟! ماذا عرض لكم مما يتنافى مع الإيمان وكماله حين قال لكم الرسول: انفروا في سبيل الله لقتال الروم؟ الذين تجهزوا لقتالكم والإغارة عليكم فتثاقلتم عن النهوض، وتباطأتم عن الحرب. مخلدين إلى الأرض وراحتها ولذتها؟! وآية الإيمان جهاد وعمل، ونشاط وجد إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية ١٥].
أرضيتم بالحياة الدنيا ولذتها الفانية وعرضها الزائل بدلا من سعادة الآخرة ونعيمها المقيم؟!، إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فما متاع
884
الحياة الدنيا المشوب بالهم والحزن في جانب الآخرة ونعيمها الدائم والرضوان الإلهى العظيم فيها إلا شيء قليل لا يعبأ به، ولقد شبه النبي صلّى الله عليه وسلّم نعيم الدنيا ونعيم الآخرة في قلته وسرعته بمن وضع إصبعه في البحر ثم أخرجها منه
قال: «فانظر بم ترجع»
؟.. إن لم تنفروا خفافا وثقالا كل على قدر حاله وإمكاناته يعذبكم الله عذابا أليما موجعا، ويستبدل قوما غيركم يطيعون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ومن هم؟ الله أعلم بهم، على أن هذا تهديد فقط وإلا فالشرط وجوابه لم يتحققا.
ولا تضروه أيها المتثاقلون في شيء أصلا، إذ لا يبلغ أحد ضره ولا نفعه كيف ذلك؟ وهو القاهر فوق عباده!!! والله على كل شيء قدير، وهو الغنى عن نصرتكم لنبيه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
إن لم تنصروه، ولم تطيعوه للجهاد في سبيل الله فسينصره الله بقدرته وتأييده كما نصره وقت أن أجمع المشركون على الفتك به أو إخراجه من بلده أو حبسه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سورة الأنفال آية ٣٠].
نصره الله في ذلك الوقت ولم يكن معه جيش ولا أنصار بل حال كونه ثانى اثنين وواحدا منهما إذ هما في الغار المعروف في جبل ثور، إذ يقول لصاحبه أبى بكر حين فزع لما رأى المشركين وقال: يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا.
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا بالنصر والمعونة والولاية والرعاية.
وفي رواية:
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
فأنزل الله سكينته على أبى بكر حتى هدأ من روعه وطمأن نفسه أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد كان ثابت الجنان هادئ النفس واثقا بالنصر ثقة لا حد لها، ولم يخف ولم يحزن أبدا، وأيد الله نبيه بجنود من عنده لم تروها، فالله معه وناصره، وحافظه، وكافيه شر الكفار والمستهزئين، وقد أمده الله بالجنود من الملائكة المسومين في بدر وحنين والأحزاب بما لا يدع مجالا للشك إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [سورة غافر آية ٥١].
وجعل الله كلمة الكافرين ودولتهم هي السفلى، وكلمة الله ودولته هي العليا، والله
885
عزيز وغالب لا يغلبه أحد، حكيم يضع الأمور في نصابها، وقد نصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعزته، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة التوبة آية ٣٣].
التجنيد العام [سورة التوبة (٩) : آية ٤١]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
المعنى:
بعد أن عاتب المتخلفين عن النفر أمر به أمرا عاما شاملا فقال: انفروا خفافا وثقالا، والخفة والثقل تكون في الأجسام وأحوالها من صحة ومرض، ونحافة وسمن، وشباب وكبر، وغنى وفقر، وقلة وكثرة، ووجود ظهر وعدم وجوده... إلخ.
فإذا أعلن النفير العام وجب تجنيد القوى كلها في البلد للحرب، ووجب الحرب على الكل ما عدا المعذورين عذرا شرعيا، وقد نبه القرآن على نوع العذر حيث قال:
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [سورة التوبة آية ٩١].
انفروا في سبيل الله وجاهدوا بالأموال والأنفس ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، فمن قدر على الجهاد بنفسه وماله وجب عليه ذلك، ومن قدر على الجهاد بنفسه فقط أو ماله فقط وجب عليه.
وقد كان الصحابة يجاهدون بالنفس والمال، وها هو ذا عثمان يجهز جيش العسرة، وبعض الصحابة فعلوا مثله.
والأمم الآن ترصد الأموال الواسعة للدفاع والحرب حتى تأمن جارتها، ذلك خير لكم وأجدى إن كنتم تعلمون حقيقة هذه الخيرية، وقد أثبتت التجارب صدق هذه النظرية.
هذا التجنيد العام واجب عند ظرفه الخاص به وفي الأحوال العادية فالواجب امتثال أمر القائد العام.
المنافقون وما صدر منهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٢ الى ٥٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
887
المفردات:
عَرَضاً: وهو ما يعرض من منافع الدنيا، أى: غنيمة قريبة. سَفَراً قاصِداً المراد: سهلا لا عناء فيه ولا مشقة. الشُّقَّةُ: هي المسافة البعيدة التي لا تقطع إلا بمشقة. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ العفو: التجاوز عن الذنب أو التقصير وترك المؤاخذة عليه، وقد يستعمل بمعنى الدعاء. انْبِعاثَهُمْ: خروجهم معك بنشاط وهمة.
فَثَبَّطَهُمْ التثبيط: التعويق عن الأمر والحبس عنه. خَبالًا والمراد به: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. خِلالَكُمْ الخلل: الفرجة بينكم. قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ: تقلب الأمور: صرفها وإجالة الرأى والتفكير العميق فيها.
سَقَطُوا: وقعوا. تَرَبَّصُونَ بِنا التربص: الانتظار. الْحُسْنَيَيْنِ: مثنى الحسنى، التي هي تأنيث الأحسن، والمراد بها: الغنيمة، أو الشهادة.
888
كان دأب المؤمنين إذا دعوا إلى الجهاد لبوا مسرعين نشطين لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة والأجر، أو الغنيمة والنصر.
ولما دعاهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك تثاقل بعضهم لأسباب رآها، هذا التثاقل تختلف درجاته تبعا لقوة الإيمان وشدة العذر، وقد نفرت الأكثرية طائعة وتخلفت قلة عاجزة معذورة. أما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر، وشق عليهم الخطب. كيف يقاتلون في تبوك أكبر دولة في العالم؟! فطفقوا ينتحلون الأعذار، ويستأذنون في القعود، والتخلف فيأذن لهم الرسول قبل بيان حالهم والوقوف على أسرارهم.
فكانت هذه الآيات الفاضحة للمنافقين، الكاشفة عن أخلاقهم وطبائعهم.
وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للجند بن قيس لما أراد الخروج إلى تبوك: «يا جدّ هل لك في جلاد بنى الأصفر تتخذ منهم سرارى ووصفاء؟» فقال الجد: قد عرف قومي أنى مغرم بالنساء وإنى أخشى إن رأيت بنى الأصفر ألا أصبر عنهن، فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال: قد أذنت لك. فنزلت هذه الآية.
المعنى:
لو كان ما دعوا إليه- هؤلاء المنافقون- عرضا قريبا، ومغنما سهل المأخذ قريب المنال، ولو كان سفرا ذا قصد وسهولة ليس فيه مشقة ولا تعب، لو كان هذا أو ذاك لاتبعوك وأجابوك إلى طلبك، ولكن بعدت عليهم الشقة التي دعوا إليها وهي غزوة تبوك، وكبر عليهم التعرض لقتال الروم في ملكهم وعقر دراهم، والروم أكبر دولة حينئذ، نعم كبر عليهم ذلك فتخلفوا جبنا وميلا للراحة والدعة، وسيحلفون بعد رجوعكم إليهم قائلين: لو استطعنا لخرجنا معكم مجاهدين غازين، فإننا لم نتخلف إلا لعدم استطاعة الغزو وفقد المال والظهر، وما علموا أنهم يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة
«اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» (حديث شريف)
، والله يعلم إنهم لكاذبون، وسيجازيهم على ذلك كله..
روى أن ناسا قالوا لبعضهم: استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
889
والذي حصل من النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أذن لهم لما أقسموا كاذبين: إنهم لا يستطيعون الجهاد، فجاء قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟.. صريحا في أنه- سبحانه وتعالى- عفا عنه- عليه الصلاة والسلام- وما وقع منه عند إذنه للمتخلفين المنافقين، فقد ترك الأولى والأفضل، وكان الأحسن الانتظار والتأنى حتى تنكشف أمورهم وتظهر للعيان، كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم؟ وهلا انتظرت حتى ينجلي الأمر فإن هذا هو الحزم والحكمة!! على أن الله كره انبعاثهم، وكان في خروجهم خطر على المسلمين، وفي تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العقاب لطف الرب اللطيف بالحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وذلك بخلاف مفاداة الأسرى فإن الخطأ فيها كان كثيرا، وكذا كان التعبير هناك صارما ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى.. [سورة الأنفال آية ٦٧].
ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم الجهاد، وباليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الكامل على الأعمال، أن يستأذنوك في أمر الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس بل يقدمون عليه عند وجوبه بهمة ونشاط، فهل يعقل أن يكون من شأنهم أن يستأذنوك في التخلف عنه بعد النفير العام له؟.. كلا.. نعم لا يستأذنك المؤمنون في القعود عن الجهاد أبدا ما داموا مستطيعين ذلك، والله عليم بالمتقين وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء، إنما يستأذنك المنافقون الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في القعود عن الجهاد منتحلين الأعذار، مقسمين أحرج الأيمان، والله يعلم إنهم لكاذبون، وهذا يقتضى عدم الإذن لهم بسرعة.
فهم قد ارتابت قلوبهم، وملئت شكّا ونفاقا، وهم في ريبهم يترددون، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو قاتلهم الله أنى يؤفكون؟! ولو أرادوا الخروج معك للقتال لأعدوا له عدته من الزاد والراحلة، وقد كانوا مستطيعين ذلك. ولكن كره الله انبعاثهم وخروجهم مع المؤمنين لأنهم لو خرجوا ما فعلوا إلا تفريق كلمتهم، وإذاعة قالة السوء بينهم، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من الخواطر، وما أذاع في جوانبهم من المخاوف فلم يعدوا للخروج عدته وكان في متناول أيديهم، وقيل لهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم: اقعدوا مع القاعدين من المرضى والصبيان والنساء والضعفاء.
890
ثم أراد القرآن أن يطمئن المؤمنين ويبين أن عدم خروجهم مصلحة للجيش فقال ما معناه: لو خرجوا منبثين فيكم، وقاتلوا معكم، ما زادوكم إلا خبالا وضعفا، واضطرابا في الرأى وفسادا في العمل، فلن يأتى منهم خير أبدا بل سيأتى شر، وإذا خرجوا معكم فسيسرعون في الدخول بينكم بالنميمة وتفريق الكلمة حالة كونهم يبغون الفتنة، وإذاعة السوء، والتخويف من الأعداء، وتثبيط الهمة وهذا كله خطر عليكم وأى خطر كهذا؟!! ولا تنسوا أن فيكم قوما سماعين لهم من ضعفاء العقل والإيمان يسمعون لهم ويصدقونهم في قولهم، والله يعلم أن قولهم إفك، وحديثهم كذب، والله عليم بالظالمين، ومجازيهم على عملهم.
تالله لقد ابتغوا الفتنة من قبل لكم، ألا تذكروا موقف عبد الله ابن أبىّ زعيم المنافقين في غزوة أحد حينما توقف عن السير للقتال في مكان يسمى بالشوط وانحاز له ثلث الجيش، ولقد همت طائفتان منكم أن تفشلا وترجعا عن القتال، ولكن عصمهم الله من الذلة إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [سورة آل عمران آية ١٢٢]، وتقدم تفصيل ذلك في الجزء الرابع فخروجهم معكم خطر عليكم، والله صرفهم عنكم.
لقد ابتغوا الفتنة لكم قديما، وقلبوا لكم الأمور، وفكروا كثيرا في القضاء على دعوتكم ولكن: أطنين أجنحة الذباب يضير؟!! نعم لم يفعلوا شيئا فالله معكم، وقد جاء الحق بالنصر الموعود، وظهر أمر الله بالتنكيل باليهود، وبطل الشرك بفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، كل ذلك وهم له كارهون..!!
يا عجبا لهؤلاء المنافقين ينتحلون الأعذار، ويظهرون التمسك بالفضيلة، وما علموا أن الله يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة!! وقد كانت نفوسهم منطوية على نفاق الله أعلم به. انظر إلى بعضهم يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لي في القعود عن الحرب وسأعينك بالمال فإنى أخاف فتنة نساء الروم فأذن لي ولا تفتنّى، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم كاشفا حقيقتهم: ألا في الفتنة سقطوا، وقد وقعوا فيها كما يقع الإنسان في البئر، وانظر إلى بدء الجملة بكلمة (ألا) للتنبيه وافتتاح الكلام وأنهم خبوا في الفتنة ووضعوا!!! وانظر إليهم وهم يتربصون بكم الدوائر، ويتمنون لكم كل شر وخيبة
891
ويتألمون إذا أصابتكم حسنة في الدنيا من نصر أو نعمة. ويستاءون إساءة بليغة من وصول الخير لكم، وإن تصبك يا محمد أنت وأصحابك مصيبة من هزيمة أو شر- في الغالب سببها- يقولوا فرحين مسرورين: قد أخذنا أمرنا من قبل وأعددنا أنفسنا لها إذ نحن متوقعون هذه الهزيمة منتظرون لها، لذلك تراهم يعتذرون وينافقون، ألا لعنة الله عليهم أجمعين.
قل لهم يا محمد: لن يصيبنا أبدا إلا ما كتبه الله لنا، وما كتب لنا فهو الخير والدواء وإن كان مرّا فعلى رسلكم أيها الناس فنحن راضون صابرون مطمئنون لقضاء الله وقدره فهذا هو الإيمان.
لهذا على الله وحده فليتوكل المؤمنون، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والله كافيه وحافظه، وهو نعم المولى ونعم النصير. قل لهم: هل تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة والأجر فإن عشنا عشنا أعزة مؤمنين، وإن متنا متنا شهداء مأجورين. أما نحن فنتربص بكم الدوائر التي تدور عليكم فيصيبكم الله بعذاب من عنده، وتلك سنته مع من يخالف أمره ويبالغ في عصيان رسله، أو يصيبكم الله بعذاب الهزيمة والذل على أيدينا. فتربصوا كما تشاءون وإنا معكم متربصون فإذا لقى كل منا ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم.
أنفقوا طوعا وكرها [سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
892
المفردات:
وَتَزْهَقَ زهوق النفس: خروجها من الأجساد بصعوبة عند الموت.
يَفْرَقُونَ من الفرق وهو الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه.
مَلْجَأً: المكان الذي يلتجئ إليه الخائف ليعتصم به، من حصن أو قلعة.
مَغاراتٍ: جمع مغارة، وهي الغار في الجبل، سمى بذلك لأنه يستتر فيها.
مُدَّخَلًا: مسلكا للدخول فيه بمشقة. يَجْمَحُونَ الجموح: السرعة التي لا تردها شيء. يَلْمِزُكَ اللمز: العيب مطلقا، والهمز: العيب في الغيبة.
المعنى:
يا أيها الرسول قل لهؤلاء المنافقين: إن تنفقوا ما شئتم من الأموال في الجهاد أو غيره مما أمر الله به حال الطوع لتتقوا به المسلمين وصولتهم، أو تنفقوا في حال الكره خوف
893
العقوبة فلن يتقبل الله منكم في الحالين، ما دمتم تشكون فيما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء عليه في الآخرة، إنكم كنتم قوما فاسقين، وهذا تعليل لعدم القبول منهم في الحالين: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة آية ٢٧].
وهذا بيان أوضح لهذا التعليل- وما منع قبول نفقاتهم منهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وبصفاته وكفرهم برسوله وما يجب أن يكون له، وأنهم لا يأتون الصلاة التي هي عماد الدين، إلا وهم كسالى ولا ينفقون نفقة صغيرة أو كبيرة إلا وهم كارهون كراهة دائمة لازمة لهم فإن أنفقوا من غير أمر ولا إلزام من الرسول، بل طوع أنفسهم فهم أيضا كارهون كراهة قلبية لإنفاقهم. ومع الإلزام من باب أولى كارهون،
ولقد صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات»
. وإذا كان هذا مآل أموالهم في الآخرة لا يقبل منهم صرف ولا عدل فهم لا ينتفعون بها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ولا تسر من حالهم فأموالهم في الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها حيث يجمعونها بالكدح والنصب، وما يلزم ذلك من هم وألم، ثم هم ينفقونها كارهين تذهب أنفسهم حسرات عليها كأنهم يلقونها في البحر، بل أشد لأنها ستنفق في تقوية المسلمين وفي الآخرة لهم عذاب شديد، فهم يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح، وستخرج أرواحهم بشدة وعنف وصعوبة وألم..
ألست معى في أنهم خسروا الدنيا والآخرة؟!! المعنى: هكذا خلق المنافق يدفعه الخوف، ويملى عليه الفرق فيحلف كاذبا إنه منك في الدين ومعك في الملة والطريق وما هو منك في شيء أبدا: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة ١٤].
وما دفعهم إلى هذا إلا الخوف الذي ملك قلوبهم، والفرق الذي شاع في نفوسهم حتى إنهم لشدة كراهيتهم للقتال معكم وشدة رعبهم من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدة عنكم بحيث لو يجدون ملجأ يلجئون إليه، أو مغارة يغورون فيها أو مدخلا يندسون فيه، لولوا إليه وهم مسرعون لا يلوون على شيء، سرعة الفرس الجموح التي لا يردها لجام ولا قائد.
894
وبعضهم يريد أن يشوه جمال الإسلام. ويطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيأتى إلى ما يظنه أنه نقطة ضعف كتقسيم الغنائم والصدقات، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرى إعطاء المؤلفة قلوبهم كما نص القرآن، فيقولوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أعدل والله ما هذا بعدل. وهذا كله مما يؤثر عن ضعاف القلوب والإيمان من المسلمين، فيرد الله عليهم بقوله: ومنهم من يلمزك في تفريق الصدقات، ويعيب عليك طريقتك فيها، فإن أعطوا منها رضوا واطمأنوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ويتألمون، فليس نقدهم بريئا، ولكن لغرض حقير، ولو أنهم رضوا بما أعطاهم الله من الغنائم، وما قسمه لهم رسوله، وقالوا: حسبنا الله، وكافينا في كل حال فهو الرزاق ذو القوة المتين، وسيؤتينا الله من فضله في المستقبل ورسوله زيادة على ما أعطانا، إنا إلى الله راغبون لا نرغب إلى غيره أبدا، فبيده ملكوت السموات والأرض، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه سبحانه وتعالى...
إلى من تعطى الصدقة الواجبة [سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
من طبيعة الإنسان حب المال، وقد يكون الغنى أشد حبا والطمع فيه شديد، وضعيف الإيمان دائما لا يرضى بما يعطى... وقد كان المنافقون وضعفاء الإيمان لا يرضون بقسمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ على أن للمال سطوة وشهوة قد تجمح ببعض الأغنياء وأولياء الأمور فيميلون عن طريق الحق في صرف الزكاة، لذلك بيّن الله في القرآن مصرف الصدقة الواجبة.
والآية مناسبة لما قبلها، قاضية على أطماعهم، مبينة حقيقة ما صنع الرسول معهم، وأنهم مخطئون في اعتراضهم.
895
المعنى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين ولغيرهم من الأصناف الثمانية لا تتعداهم إلى غيرهم أبدا، والمراد إنما هي لهم لا لغيرهم وقد فرضها الله لهم فريضة منه، والله عليم بخلقه حكيم في فعله.
وها هم أولاء الأصناف:
١- الفقير: المقابل للغنى، والقرآن دائما يذكرهما متقابلين: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «١» وهو المحتاج.
٢- المسكين عديم الحركة من حاجته وضعفه، فالفقر والمسكنة يلتقيان في الحاجة، وهل هما صنفان مستقلان أم صنف واحد له؟ وهل هما في درجة واحدة أم أحدهما أشد من الآخر؟ أقوال كثيرة.
٣- والعاملين عليها كالكتبة والحراس والصيارفة والمشرفين على الجمع.
٤- المؤلفة قلوبهم، وهو صنف من الناس كان يعطيهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر من باب تأليف القلوب وجمعها على الإسلام لضعف في إيمانهم أو حكمة في عطائهم، وهذا حق للإمام يفعل ما فيه المصلحة.
٥- وفي الرقاب، والمراد الصرف للإعانة في فك الرقاب وعتقها من ذل الرق وبؤس الأسر، ويدخل في ذلك المال المدفوع لفك الأمة وعتقها من ذل الاستعمار، وكيد الدخيل الأجنبى.
٦- والغارمين، وهم من عليهم غرامة مالية أثقلت كواهلهم كديون عليهم استدانوها فأغرقت مالهم، أو هم قوم غرموا في سبيل صلح بين الناس، أو جمع شمل المسلمين... إلخ.
٧- وفي سبيل الله، والمراد به هنا: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر دينهم ودولتهم من كل خير يعود على المجموع، وهذا يشمل تسهيل العمل لكل عاطل، وعلاج كل مريض، وتعليم كل جاهل، وبالأخص التعليم الديني.
(١) سورة النساء آية ٦.
896
٨- وابن السبيل، وهو المنقطع عن بلده في سفر لم يتيسر له شيء من المال، فيعطى حتى يصل إلى ماله.
والظاهر- والله أعلم- أن السر في التعبير باللام المفيدة للملك في أصناف خاصة هم الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وابن السبيل، وبقي في صنفين هما: في الرقاب، وفي سبيل الله (اللام) أصحابها أشخاص يملكون و (في) أصحابها ليسوا أشخاصا بل المراد أوصافا ومصالح عامة للمسلمين.
والترتيب في الآية ملحوظ ومقصود.
أذى المنافقين للنبي صلّى الله عليه وسلّم والرد عليهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ٦١ الى ٧٠]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥)
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
897
المفردات:
يُؤْذُونَ الأذى: ما يؤلم الإنسان في نفسه أو ماله أو بدنه قليلا كان أو كثيرا.
أُذُنٌ: هذا من باب تسمية الإنسان باسم جزء منه للمبالغة في وصفه بوظيفته، كما قالوا للجاسوس: عين. يُحادِدِ اللَّهَ المحادة كالمعاداة مأخوذة من الحد، أى:
طرف الشيء، وهكذا كل عدو يكون في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه.
يَحْذَرُ الحذر: الخوف في المستقبل من شيء خاص. مُخْرِجٌ الإخراج:
يشمل إظهار مكنون الصدور وإخراج الحب من الأرض، والنفي من الوطن.
نَخُوضُ الخوض: خاص بالعمل الباطل لا الحق لأنه مأخوذ من الخوض في البحر أو الوحل، والمراد: الإكثار من العمل الذي لا ينفع. بِخَلاقِهِمْ الخلاق:
النصيب. حَبِطَتْ: بطلت. الْمُؤْتَفِكاتِ: جمع مؤتفكة، من الائتفاك:
وهو الانقلاب والخسف، والمراد أصحاب قرى قوم لوط.
هذا لون آخر من ألوان نفاقهم ذكر مناسبا لذكر لمزهم عليه ونقدهم له في تقسيم الغنائم والصدقات.
وكذا بيان عام لأصل النفاق مع ذكر جزائه في الدنيا والآخرة وضرب الأمثال بحالهم وحال من تقدمهم على أن المنافقين في العصر الإسلامى الأول ضربوا الرقم القياسي في النفاق.
المعنى:
وبعض هؤلاء المنافقين الذين يؤذون النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويصفونه بصفات تتنافى مع نبوته ورسالته، وشهادة الحق له بأنه على خلق عظيم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم آية ٤] وهكذا عمل المنافقين دائما خارج عن حدود العقل والواقع.
يقولون في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: هو أذن يسمع كل ما يقال له، ويصدقه، ويرمون إلى أنه لا يميز بين هذا وذاك، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وإنما هو النبي الكريم صاحب الخلق الكامل والإحساس العالي لا يجابه أحدا بما يؤلمه، ولا ينقد أحدا بما يؤذيه، بل يقول دائما: ما بال قوم؟ ما بال رجال؟ وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يعامل المنافقين
899
بظاهر حالهم، ويجرى عليهم أحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها الناس، ولقد رد الله عليهم ولقنه الجواب: قل: هو أذن خير لا أذن شر كما تعلمون!! فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الخير وما وافق الشرع، ولا يسمع الباطل، ولا الغيبة ولا النميمة ولا الجدل ولا المراء.
ثم فسر المراد بأذن خير.. بأنه يؤمن بالله وما يوحيه إليه من أخبار الغيب وأسرار السماء وبما يوحى إليه من أخباركم وأخبار غيركم: ويؤمن للمؤمنين إيمان جنوح وميل وائتمان للمهاجرين والأنصار وصادقي الإيمان، أما المنافقون فلا يميل لهم ولا يصدق خبرهم وفي هذا تهديد لهم بأن الله ينبئه بأسرارهم وأخبارهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [سورة التوبة آية ٦٤].
وهم رحمة للمؤمنين فقد هداهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، وفي قوله: مِنْكُمْ إشارة إلى أن منهم من يدعى الإيمان وهو كاذب فيه، وإشارة إلى أنه عالم أن فيهم المنافقين، ولكن لحسن خلقه يعاملهم بالحسنى حتى يؤذن بغيرها.
والذين يؤذون رسول الله في كل ما يتعلق بالرسالة كوصفه بالسحر والكذب، وعدم الفطنة... إلخ لهم عذاب أليم، إذ هم كفروا بهذا، أما الإيذاء الخفيف فيما يتعلق بشخصه فحرام فقط مع أنه لا يصدر من مؤمن أبدا، وإيذاء أهل بيته حرام كذلك.
إن من عادة المنافقين، والكاذبين، ومن يرتكبون جرما أن يشعروا بحرج موقفهم، وكأن الناس جميعا مطلعون عليهم عالمون بأحوالهم، ولذلك تراهم يكثرون من الحلف حتى تبتعد عنهم الشبهة المحيطة بهم، وقد كان المنافقون كثيرا ما يحلفون، ويعتذرون والله يعلم إنهم لكاذبون!! يحلفون لكم أيها المؤمنون أنهم براء مما نسب إليهم قولا وفعلا ليرضوكم فتطمئنوا لهم وتثقوا فيهم، وقد فهموا أنهم بهذا يضمونكم لصفوفهم.
فيرد الله عليهم ويكشف سترهم حيث يقول: يحلفون لكم ليرضوكم والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، وإرضاء الله ورسوله بالإيمان الصادق والعمل الكامل، والبعد عن النفاق، وقد أفرد الضمير أَنْ يُرْضُوهُ ليعلموا أن رضاء الرسول رضاء الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذا إن كانوا مؤمنين حقا إذ علامة الإيمان ثقة بالله وحب له ولرسوله، والعمل على رضاهما بامتثال الأمر واجتناب النهى:
«ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
900
سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (حديث شريف).
ألم يعلموا أنه من يحادّ الله ورسوله، حتى يكون في جانب والله ورسوله في جانب آخر؟ فإن له نار جهنم يصلاها وبئس القرار قراره، له نار جهنم خالدا فيها وذلك هو الخزي العظيم، والنكال والذل المهين.
والمنافقون مذبذبون بين الإيمان والكفر، شاكّون مرتابون في الوحى وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا الشك والارتياب يدعوهم إلى الحذر والإشفاق. بل هو لازم له، إذ لو كانوا موقنين بكذب الرسول لما جاءهم الحذر، ولو كانوا مؤمنين حقا لما كان لهذا الخوف والحذر محل، لهذا يصفهم القرآن بقوله: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة كاشفة لهم، فاضحة أستارهم، مبينة نفاقهم، كهذه السورة، ولذلك سميت الكاشفة والفاضحة.
يحذرون من سورة تنبئهم بما في قلوبهم! والمراد اللازم وهو فضيحتهم وكشف عورتهم وبيان شكهم وارتيابهم، وتربصهم الدوائر بالمسلمين وإنذارهم بما قد يترتب على ذلك من عقابهم، وقد كان المنافقون دائمى الاستهزاء بالنبي والمؤمنين كما مر إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ولذلك يأمر الله نبيه بأن يقول لهم: قل استهزءوا كما تشاءون، وهذا تهديد لهم شديد، ووعيد عليه، إن الله مخرج ما تحذرون إخراجه من مخبئات الضمير، ومكنونات الصدور، وقد حصل ذلك وظهر نفاقهم لكل الناس.
روى عن قتادة: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين: فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات!! فأطلع الله نبيه على ذلك فقال: احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا قلتم كذا؟ قالوا: يا نبي الله: إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم هذه الآية
على طريقة القسم للتأكيد، ولئن سألتهم عن أقوالهم التي يقولونها نفاقا من وراء الرسول ليقولن:
إنا كنا غير جادين، ومنكرين بل هازلين لاعبين، وهذا كفر محض فإن من يهزأ بالله ورسوله فهو كافر بها.
قل لهم: ألم تجدوا ما تستهزءون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم الهزء عليهم ثم تظنون أن هذا عذر مقبول فتتكلمون به بلا حياء ولا خوف،
901
ولكن المنافقين لا يفقهون!!! لا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره قد كفرتم بعد إيمانكم في الظاهر، وظهر أمركم وبدا الصبح لذي عينين.
الآية صريحة في أن الخوض في كتاب الله ورسوله وصفاته- سبحانه وتعالى- كفر حقيقى.
إن نعف عن طائفة منكم ونقبل توبتها الخالصة نعذب طائفة أخرى لإصرارها على النفاق وارتكابها الآثام لأنهم كانوا مجرمين..
المنافقون والمنافقات بعضهم يشبه بعضا، وهم ذرية بعضها من بعض فهم متشابهون وصفا وعملا، ذكرا وأنثى، وهذا دليل على تأصل الداء وتمكنه من نفوسهم حتى صار كالغرائز الموروثة، ثم بين الله وجه الشبه فقال: هم يأمرون بكل منكر ويدعون إليه، والمنكر: ما أنكره الطبع السليم، والعقل الراجح وما نهى عنه الشرع الشريف، وينهون عن المعروف شرعا وعقلا وطبعا، ألا لعنة الله عليهم!! ويقبضون أيديهم عن الإنفاق، ويبخلون بمالهم عن الجهاد، وهذا من أهم علامات النفاق
ولقد ورد في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذ حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»
وفي رواية «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»
وهكذا النفاق أسّ الشر وأصل البلاء، ومجمع كل رذيلة في الوجود.
نسوا الله فأنساهم أنفسهم، نسوا التقرب إليه، ونسوا جلاله وعظمته وشرعه وآياته وحسابه وعقابه فنسيهم وجزاهم على عملهم فحرمهم من حبه وذكره والتمتع بدينه وآياته والإنفاق في سبيله، وحرمهم من الثواب والرضوان، أولئك حبطت أعمالهم وأولئك هم الخاسرون.
إن المنافقين هم الفاسقون الخارجون عن حدود العقل والدين والمصلحة العامة والخاصة هم الفاسقون لا غير.
أما ما أعد لهم من عقاب وجزاء فها هو ذا، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار وعدهم نار جهنم خالدين فيها وفي ذكر الرجال منهم والنساء دليل على عموم الوصف
902
وتأصل الداء، وتأخير ذكر الكفار دليل على أن النفاق أخطر من الكفر الصريح، ثم لم يكتف بهذا بل زاد في عقابهم والتنكيل بهم ثلاثا. هي حسبهم، نعم وفي جهنم جزاء يكفيهم عقابا لهم، ولعنهم في الدنيا والآخرة، وطردهم من رحمته وتوفيقه في الدنيا، وفي الآخرة لهم العذاب الشديد، عذاب مقيم ثابت لا يتحول ولا يزول، ويظهر- والله أعلم- أن القرآن يريد أن يوفيهم العذاب الحسى والمعنوي الذي يتكافأ مع نفاقهم وعملهم.
ثم خاطب الله- سبحانه- المنافقين المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك بقوله: أنتم أيها المنافقون الذين آذيتم الله ورسوله والمؤمنين كأولئك المنافقين السابقين مع أنبيائهم- وهكذا لا يخلو عصر من النفاق إذ هو مرض يصيب بعض النفوس- أنتم مثلهم مغرورون بمالكم مفتونون بأولادكم، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا، ولم يكن لهم في دنياهم إلا مطلب واحد هو المتاع الفاني، والعرض الزائل، والتمتع بالمال والولد، فكان نصيبهم نصيب الحيوان يتمتع ويأكل ويتناسل، فاستمتعتم بنصيبكم من المال والولد والعرض الزائل كاستمتاعهم بنصيبهم، لم تفضلوا عليهم بشيء من التمتع بكلام الله المحكم الذي نزل على خير الأنبياء وسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم فكنتم أجدر منهم بالملامة، وأحق بالعذاب والنكال.
فأنتم فعلتم الخبائث كما فعلوا مع توافر دواعي الشر عندهم. وتوافر دواعي الخير عندكم!!! وخضتم في حمأة الرذيلة والفسق كالخوض الذي خاضوه، وأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وفسدت لأنها أعمال للرياء والسمعة وقد ظهر نفاقهم فيها، وفي الآخرة لهم العذاب الأليم لأن شرط الثواب عليها الإيمان، وهم لم يؤمنوا حقيقة بل نافقوا.
وأولئك هم الخاسرون، الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقد ضل سعيهم في الدنيا والآخرة.
ألم يأتهم نبأ السابقين من قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وقوم لوط؟ والاستفهام للتقرير والتوبيخ.
هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات فأعرضوا وكذبوا، فجاءهم العذاب كالطوفان الذي
903
أغرق قوم نوح، والريح الذي أهلك عادا، والصيحة التي أبادت ثمود، والعذاب الذي هلك به نمروذ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.
فما كان الله ليظلمهم حينما عذبهم، وقد أنذرهم ومن أنذر فقد أعذر، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، والغرض من ضرب المثل أن يفهم الكفار والمنافقون جيدا أن سنة الله مع الخلق لا تتغير ولا تتبدل وأن العذاب سينزل بهم حتما أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [سورة القمر آية ٤٣] فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر ٢].
المؤمنون وصفاتهم وجزاؤهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
المفردات:
أَوْلِياءُ بَعْضٍ المراد بالولاية هنا: ما يعم النصرة في الشدائد، والأخوة والمحبة والمودة. جَنَّاتٍ: هي البساتين الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان التي تستر ما تحتها من الأرض، وقد تقدم مثل هذا كثيرا. جَنَّاتِ عَدْنٍ عدن: اسم لمكان خاص في الجنة كالفردوس مثلا.
904
هكذا أسلوب القرآن يذكر الشيء ثم يردفه بمقابله ليتجلى الفرق ويظهر للعيان بأجلى معانيه، وليعلم المنافقون أنهم ليسوا على شيء من الإيمان إذ صفته ما يذكر هنا من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف... إلخ. أما إيمانهم الظاهر فهو نفاق وخداع لا ينفع أبدا.
المعنى:
المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض بالنصرة والمعونة والمساعدة في السراء والضراء، والوقوف بجانب بعض في الشدائد والمكروه، بعضهم أولياء بعض ولاية أخوة ومودة ومحبة وصداقة، فنبيهم صلّى الله عليه وسلّم
يقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
ويقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»
هذا هو أساس الإيمان وطبعه لا فرق بين ذكر وأنثى وقد كانت النساء في العصر الأول يقمن بالمعونة والنصرة في الحروب وغيرها على قدر طاقتهن مع التجمل بالأدب والحياء ولبس لباس الدين والعفاف.
وانظر يا أخى في وصف المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وفي وصف المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ترى أن المنافقين لا ولاية بينهم ولا أخوة تبلغ درجة الإيثار والنصرة وفّى الحروب، ولكنها أخوة كلام فقط أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [سورة الحشر الآيتان ١١ و ١٢].
فالمنافقون بعضهم يشبه بعضا في الشك والنفاق والارتياب ولكن لا صلة بينهم ولا تآلف، إذ الولاية والصلة والأخوة هي من صفات المؤمنين أصحاب العقائد الراسخة، ولذا يقول الله فيهم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل والكرامة والدعوة إلى الله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبالعكس المنافقون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ولا غرابة فهاتان الصفتان من أبرز صفات المؤمنين.
905
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران آية ١١٠] ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهاتان صفتان في مقابلة وصف المنافقين بأنهم نسوا الله، وبأنهم يقبضون أيديهم.
وإقامة الصلاة: إتيانها مقومة كاملة تامة الأركان والشروط فيها الخضوع الكامل والخشوع لله. ومراقبته وذكره، أما صلاة المنافقين فللرياء وللنفاق إذا قاموا إليها قاموا كسالى، وإتيان الزكاة دليل كمال الإيمان والخشية من الله والأمل في رضائه ورضوانه.
وخص هذان الركنان بالذكر لأنهما علاج الهلع والجزع، والبخل والخور فهذه أمراض تدفع صاحبها إلى الإحجام عن الدفاع عن الحق وإعلاء كلمة الله وتدفعه إلى الشح الصاد عن الإنفاق في سبيل الله، ولذا كان المنافقون أجبن الناس وأبخلهم، انظر إلى قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [سورة المعارج الآيات ١٩- ٢٦].
وقد جعل الله هذه الأربع: الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. أساس النجاح في الدنيا ووسيلة العمران وإقامة الدولة المسلمة الصالحة للتمكين في الأرض الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [سورة الحج آية ٤١] والمؤمنون والمؤمنات من صفاتهم أنهم يطيعون الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب النهى.
أولئك سيرحمهم الله، ويدخلهم في رحمته الواسعة التي كتبها لهم رحمة خالصة من شوائب الكدر والشقاء. إن الله عزيز لا يغلب، حكيم في كل صنع، وهذا تدليل مناسب لهذا العطاء الكبير للمؤمنين.
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات، جزاء لهم، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان وعدهم الله جنات موصوفة بأنها تجرى من تحتها الأنهار فليس فيها تعب ولا مشقة ولا عطش ولا ألم كما أن مياهها طاهرة نظيفة لا تتغير بالمكث، ولا تفسد بالوقوف.
وهم الخالدون فيها إلى ما شاء الله ومقيمون بها إقامة أبدية.
906
ووعدهم مساكن طيبة يتمتعون بها مشتملة على جميع المرافق من أثاث ورياش وزينة ورزق ومتاع هذه المساكن في جنات عدن ومكانها الطيب.
هذا هو المتاع الجسماني في الآخرة، وأما متاع الروح فالرضا والرضوان، ورضوان من الله أكبر من ذلك كله لا يقدر قدره، وقيل: إن الرضوان رؤية الله يوم القيامة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [سورة يونس آية ٢٦].
هذا جزاء الإيمان في مقابلة جزاء النفاق السابق، ألا بئس ما يصنعون، ذلك الذي ذكر من الوعد للمؤمنين والمؤمنات بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم، أما المتاع في الدنيا فعرض زائل مشوب بالألم والتعب والهم والنصب.
أيها المؤمنون: هذه هي الموازين الحقيقية للإيمان وجزائه فانظروا إلى أنفسكم في أى مكان هي!! وحاسبوها قبل أن تحاسبوا.
معاملة النبي للكفار والمنافقين [سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
المفردات:
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الغلظ: الخشونة وعدم الرحمة. وَما نَقَمُوا:
وما كرهوا، وما عابوا.
907
هذا تهديد للمنافقين وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين والكفار على أنواع، منهم المجاهرون المقاتلون وهؤلاء أمر النبي بقتالهم بالسيف، ومنهم غير المحاربين وهم المعاهدون، والمنافقون الذين قال الله فيهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وكان يعاملهم باللطف واللين ولا غرابة في ذلك فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم رحيما كريما ذا خلق عال، ليس فيه غلظة ولا جفوة
يقول في كلامه: «شر الناس من يخاف شره»
والأحاديث الواردة عنه في هذا الباب كثيرة، وقد كان يعامل المنافقين كما يعامل المسلمين تماما مما جرأهم على لمزه وعيبه، والنيل منه بل ورد السلام عليه بقولهم: (السام) حتى كان منهم ما كان وعرفناه في هذه السورة والتي قبلها- ولذلك أمره الله- تعالى- في هذه الآية بالغلظة على الفريقين.
المعنى:
يا أيها النبي جاهد الكفار غير المحاربين والمنافقين واغلظ عليهم لا تعاملهم باللين والبشاشة، ولا تقبل عليهم بوجهك الباسم بل اعبس في وجوههم، وسيأتى قريبا أنهم يمنعون من القتال مع المسلمين، ولا تصل على أحد مات منهم أبدا كما سيأتى، وهذا جهاد لأنه يخالف لين النبي وأدبه ورحمته بالناس، وهذا علاج رباني، فإن المذنب إذا عومل معاملة لينة ربما أطغته وجعلته يتمادى، وبالعكس لو عومل بالشدة نوعا ما كما يقول عمر- رضى الله عنه-: «أذلوهم ولا تظلموهم» كان ذلك أدعى إلى أن يرجع إلى نفسه ويحاسبها حسابا قد ينتج عنه رجوعه إلى الجادة، ولست أرى أشد على المذنب من إنكار الناس عليه، وهذا دواء من حكيم عليم.
وفي التفسير المأثور: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وهذا عذابهم في الدنيا، أما في الآخرة فمأواهم جهنم، وبئس المصير مصيرهم.
ولقد استأنف القرآن بيان سبب هذا حيث أثبت لهم الكذب الصريح واليمين الفاجرة، وهمهم بالفعل الشنيع، وأنهم جعلوا سبب الرضا والشكر سبب النقمة والكفر، ألا ساء ما كانوا يعملون.
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوه
908
ولم يدركوه، وما كرهوا الدين إلا لأن الله أغناهم به، هؤلاء المنافقون قد كفروا بعد إسلامهم، وخاضوا في النبي والقرآن، وهموا بالفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أطلعه الله على ذلك وأنبأه بأنهم سينكرون ذلك، وسيحلفون بالله كذبا ليرضوكم اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً «١» والله تعالى يكذبهم ويثبت بتأكيد القسم أنهم قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم تذكر في القرآن لئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها، ولذلك اختلف الرواة في إثباتها، فبعضهم يقول: إن شخصا اسمه جلاس بن سويد قال: لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلف من المنافقين)، وقيل: إنها نزلت في مقالة قالها عبد الله بن أبىّ ثم أنكرها، وعلى العموم فالآية صريحة في إثبات ذلك وأمثاله لهم.
وقد كفر المنافقون بعد إسلامهم الظاهر،
وروى أن بعضهم هم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم حين منصرفه من غزوة تبوك ثم ردهم الله خاسرين وذلك قوله تعالى وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.
وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول- عليه الصلاة والسلام- شيئا يقتضى الكراهة والكفر والهم بالانتقام إلا إغناء الله إياهم ورسوله بما يقسمه لهم من الغنائم ويعاملهم كالمسلمين، وهذا تعبير بديع، كقول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
يا عجبا كل العجب ما يكون سببا في الخير يكون سببا في الشر!!! ومع هذا فباب التوبة والرحمة مفتوح، فإن يتوبوا يقبل الله منهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة.
وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير، إذ ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، والمنافقون لا ولاية لهم، إذ لا ضمير لهم حتى مع أنفسهم.
(١) سورة المنافقون آية ٢. [.....]
909
قصة ثعلبة بن حاطب [سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
سبب النزول:
روى أنه جاء رجل من الأنصار يسمى ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال:
ادع الله لي يا رسول الله أن يرزقني مالا. فقال- عليه الصلاة والسلام-: «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم عاد ثانيا يطلب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟!! لو شئت أن تسير معى الجبال ذهبا لسارت» فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم فاتخذ غنما فنمت كما تنمى الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر والعصر في جماعة وترك ما سواهما.
ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمى حتى ترك الجمعة أيضا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا ويح ثعلبة» ثم نزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة ١٠٣] فبعث صلّى الله عليه وسلّم رجلين على الصدقة وقال لهما: «مرّا بثعلبة وبفلان- رجل من بنى سليم- فخذا صدقاتهما» فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله، فقال ثعلبة: ما هذه إلا أخت
910
الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم عودا، ولم يعطهما شيئا، ثم أقبلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقة السلمى الذي أعطاهما من خيار ماله، فلما رآهما النبي مقبلين قال: «يا ويح ثعلبة» ثم دعا للسلمى بالبركة، فنزلت الآية الكريمة وحينما بلغت ثعلبة عاد إلى رسول الله ومعه الصدقة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله منعني أن أقبل منك»
وهكذا لحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يقبلها منه ونهج الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان هذه السيرة ومات ثعلبة في خلافة عثمان.
المعنى:
وبعض المنافقين عاهد الله ورسوله لئن أعطاه الله مالا كثيرا ليصّدّقن، ويعطى كل ذي حق حقه. وليكونن من عباد الله الصالحين، فلما آتاه الله مالا وأغناه من فضله، بخل بالمال وشح بالخير، وأمسك فلم يتصدق بشيء، وبدل أن يصلح نفسه وأمته بالإنفاق كما عاهد الله وأقسم على ذلك، أعرض عن ذلك وتولى وهو معرض بكل قواه إعراضا راسخا ثابتا، وهذا طبع في المنافقين لازم لهم راسخ فيهم.
فأعقبهم ذلك البخل وهذا الإعراض نفاقا من النوع العالي الدائم إلى يوم القيامة، ولا غرابة فكل معصية وإن صغرت تحجب شيئا من نور الإيمان حتى إذا كثرت المعاصي حجبت جميع النور فأصبح القلب في ظلمات الفساد والعصيان والنفاق غارقا.
كل هذا بسبب ما أخلفوا الله وعده، كما في قصة ثعلبة وأضرابه من المنافقين، وبما كانوا يكذبون... فآية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان «١». صدق رسول الله.
ألم يعلم هؤلاء أن الله يعلم سرهم ونجواهم، وأن الله علام الغيوب يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟!! فالله يعلم كل هذا، ولكن المنافقين لا يعلمون..
(١) أخرجه البخاري ١/ ٨٣، ٨٤ في الإيمان باب علامات المنافق ومسلم ٥٩ في الإيمان.
911
من أذى المنافقين للمؤمنين وجزاؤهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
المفردات:
يَلْمِزُونَ اللمز: العيب. الْمُطَّوِّعِينَ أى: المتطوعين، والمراد: من يؤدون النفل بعد الواجب. جُهْدَهُمْ: طاقتهم.
المعنى:
هذا هو موقف المنافقين، وإنه لموقف ريب يدل على تأصل النفاق معهم وأنه لا يرجى منه خير أبدا، فهم لا يقنعون بمنع إنفاقهم في سبيل الله بل ويلمزون من ينفق من المسلمين، ويعيبون على المتطوعين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا ما ينفقونه في سبيل الله. فهو غاية جهدهم، يا عجبا: تعيبون على الغنى المتصدق، وعلى الفقير الباذل قوته لله!! روى عن ابن مسعود- رضى الله- قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل، أى: نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق بها، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله غنى عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء،
فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ يستهزئون بالفقراء احتقارا لما جاءوا به، ويعدونهم من المجانين والحمقى، وقيل: إنهم يلمزون الغنى والفقير، ويسخرون من الجميع سخر الله منهم، وجازاهم بعدله على ذلك العمل جزاء وافيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم.
هؤلاء في أعمالهم التي لا تصدر إلا عن قلوب لا تكاد تعرف الإيمان، ولم يدخلها شعاع الإسلام ولن يدخل أبدا، ويقول الله فيهم لنبيه- عليه السلام-: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، لن يغفر الله لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة. والمراد:
كثرة الاستغفار لا العدد المحض، فلن يغفر الله لهم أبدا.
والظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستغفر لهم رجاء أن يتوبوا ويوفقهم الله للخير فأمر بعدم الاستغفار لهؤلاء المنافقين المعينين الذين حكى الله عنهم هذه الأفعال الخبيثة كالتآمر على الفتك بالنبي والهمّ بقتله، ولمز المتصدقين والعيب عليهم، فهؤلاء هم زعماء المنافقين، ورؤساء الشر الذين لا يرجى منهم خير أبدا ولن يعودوا للحق أبدا، وقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولذلك علل الله هذا بقوله: ذلك بأنهم كفروا بالله وبرسوله وداموا على هذا مداومة طمست بصائرهم فلن يروا خيرا أبدا، فلا تستغفر لهم.
والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى الخير إذ لم يعد لهم استعداد له.
المتخلفون عن الجهاد [سورة التوبة (٩) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
913
المفردات:
فَرِحَ الفرح: شعور النفس بالارتياح والسرور. الْمُخَلَّفُونَ: الذين تركهم رسول الله عند خروجه إلى غزوة تبوك. خِلافَ: مصدر كالمخالفة، وقد يراد به معنى بعد وخلف فيكون ظرفا، ويصح المعنيان هنا.
هذه الآيات في بيان حال المتخلفين عن القتال، وما يجب عن معاملتهم، وقد نزلت في أثناء السفر، ولا نزال في الكلام عن المنافقين، وأعمالهم في غزوة تبوك.
المعنى:
فرح المتخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله عند خروجه إلى غزوة تبوك، وقعدوا في بيوتهم مخالفين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قعدوا لأنهم لا يؤمنون أن الغزو خير، وامتثالا لأمر ربهم ورسوله، وقالوا لإخوانهم: لا تنفروا في الحر وتتركوا مهام أعمالكم ومصالحكم.
قل لهم يا محمد: نار جهنم التي أعدت للمخالفين العصاة أشد حرا، فهي تلفح الوجوه وتنضج الجلود، وتنزعها، ولو كانوا يفقهون ذلك ويعتبرون لما خالفوها وعصوا، وآثروا راحة الجسم راحة قليلة على هذا العذاب الدائم، والنار التي أعدت لهم، وكان وقودها الناس والحجارة.
فليضحكوا قليلا، وليبكوا كثيرا، ليس هذا أمر حقيقيا بل يراد به تهديدهم، وبيان أن هذا هو الأجدر بهم على حسب حالهم وما تستوجبه أعمالهم لو كانوا يفقهون ما فإنهم من أجر، وما سيلاقيهم من عذاب وضير، وهذا جزاء لهم بما كانوا يعملون ويكسبون من الجرائم ويقترحون من الآراء.
914
كيف عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم زعماء النفاق [سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
المفردات:
الْخالِفِينَ المراد: المتخلفون من النساء والصبيان، على أن الخالف قد يستعمل ويراد به من لا خير فيه ولا غناء معه.
هذه الآية الكريمة نزلت في سفره صلّى الله عليه وسلّم وهو راجع من غزوة تبوك، وهي من دقائق القرآن لأن أئمة الحديث ذكروا في الصحيحين أحاديث تتعارض معها وهو حديث صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن أبىّ زعيم المنافقين، ولكن أليس من الخير أن نسير مع القرآن الكريم؟ فإنه أضبط متنا وسندا، بل هو المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١» وقد جمع بعض العلماء في الكتب المطولة بين الحديث والآية.
(١) سورة الحجر آية ٩.
915
المعنى:
قد تخلف المتخلفون عن رسول الله، وفرحوا بمقعدهم مخالفين لأمر الله ورسوله، وكرهوا الجهاد، بل وثبطوا عنه وخذلوا غيرهم بقولهم: لا تنفروا في الحر؟
فرتب على هذا كله ما هنا من المعاملة القاسية الشديدة..
فإن رجعك الله وردك من سفرك إلى طائفة وجماعة خاصة من المتخلفين- تلك الطائفة هم المنافقون الذين سبق ذكرهم- فاستأذنوك للخروج أيا كان نوعه فقل لهم:
لن تخرجوا معى أبدا على أى شكل كان وبأى وضع، ولن تقاتلوا معى عدوا أبدا في المستقبل بأى كيفية كانت!! وذلك لأنكم رضيتم بالقعود أول مرة وتخلفتم بلا عذر وحنثتم في أيمانكم الفاجرة وفرحتم بالقعود بل وثبطتم عن الجهاد.. فاقعدوا مع الخالفين المسيئين الذين لا خير فيهم أبدا. ولن تنالوا شرف الصحبة والجهاد فهذا شرف رفيع، ووسام عال، لا يناله إلا المؤمنون المخلصون.
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا في المستقبل، ولا تقم على قبره أبدا، داعيا له ومستغفرا. وقد سبق قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [سورة التوبة آية ٨٠].
نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة على المنافقين، والقيام على قبورهم وأن يدعو لهم كما كان يفعل إذا مات مؤمن يقول بعد دفنه:
«استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل»
وقد نص الفقهاء على العمل بهذا الحديث.
وهذا يعارض ما نعلمه من أن المنافقين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجرى عليهم أحكام الإسلام العامة، والجواب كما ظهر لي- والله أعلم- أن هذه الآيات نزلت في زعماء النفاق وعدم التوبة، وقد أعلم الله نبيه بهم كما في الحديث، وأما غيرهم فكان يدعو لهم رجاء التوبة والتوفيق وبعضهم آمن وتاب.
قال الواقديّ: أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى مسرّ إليك سرا فلا تذكره لأحد: إنى نهيت أن أصلى على فلان وفلان»
رهط ذوى عدد من المنافقين قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلى على أحد استتبع حذيفة فإن مشى مشى معه وإلا لم يصل عليه، ولعل الحكمة في خصوص هؤلاء أن الله
916
علم أنهم ماتوا على الكفر أو سيموتون عليه فلا تنفعهم شفاعة ولا استغفار ولا صلاة أبدا.
ولذلك كان تعليل النهى (لا تصل على أحد منهم مات) لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون!! ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم، وهم كافرون، وقد تقدم مثل هذا مع فارق هو ذكر لا في الآية السابقة فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وهو يصدق بالنهى عن الإعجاب بكل منهما، وفي الآية هنا حذف لا يفيد الكلام النهى عن الإعجاب بهما مجتمعين، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام يقتضيه الحال، والله أعلم بكتابه.
موقف المنافقين من الجهاد [سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
المفردات:
الطَّوْلِ: الغنى والمقدرة، والمراد: أولو المقدرة على الجهاد المفروض.
ذَرْنا: اتركنا. الْقاعِدِينَ المراد: مع المتخلفين.
المعنى:
هذه عادة المنافقين، ومن في قلوبهم مرض الشك والنفاق، كلمات أنزلت سورة تدعو الناس ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذنك أولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس، استأذنوك في التخلف، منتحلين شتى الأعذار قائلين، اتركنا مع القاعدين من النساء والصبيان والعجزة، هؤلاء رضوا بأن يكونوا مع المتخلفين الذين فسدت نفوسهم ولم يعد فيها ميل إلى الخير، وطبع على قلوبهم فلم يعد يدخل إليها نور العلم والوعظ، والهداية والنور، حتى كأنها قد ختم عليها، ولا غرابة في ذلك فهم قوم لا يفقهون الخير والرشد حتى يهتدوا إليه.
لكن الرسول والذين آمنوا معه بمقتضى إيمانهم الخالص الراسخ في قلوبهم جاهدوا في سبيل الله، وبذلوا النفس والنفيس طيبة قلوبهم مستريحة ضمائرهم، متهللة وجوههم بشرا وسرورا لأنهم وجدوا الفرصة سانحة لاقتناص ثواب الجهاد في سبيل الله.
وأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال لهم الخيرات التي لا يعلمها إلا الله، في الدنيا كشرف النصر، ومحو الكفر والتمتع بالغنيمة والسيادة في الأرض، وأولئك هم المفلحون السعداء أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم..
المتخلفون [سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
918
المفردات:
الْمُعَذِّرُونَ أى: المعتذرون، واللفظ يحتمل المعتذر بعذر حقيقى أو ادعائى.
هذه الآية في نفاق الأعراب سكان البدو بعد بيان نفاق المنافقين من سكان الحضر (المدينة).
الضُّعَفاءِ جمع ضعيف، وهو ضد القوى، والمراد: من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد. حَرَجٌ المراد: ليس عليهم ذنب ولا إثم. نَصَحُوا:
أخلصوا لله ورسوله في القول والعمل. مِنْ سَبِيلٍ: من طريق يسلك لمؤاخذتهم.
المعنى:
وجاء المعتذرون من الأعراب ليأذن لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في التخلف عن النفير العام في غزوة تبوك وهم قوم عامر بن طفيل، جاءوا يقولون: يا رسول الله: إن نحن غزونا تغير علينا أعراب طيئ
فقال لهم رسول الله: «قد أنبأنى الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم»
وقال ابن عباس: هم قوم تخلفوا فأذن لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم والظاهر أن عذرهم كان حقا، والآية تحتمل هذا وذاك.
وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب، وأظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما، وهؤلاء هم المنافقون حقيقة في العقيدة، وقد قعدوا عن القتال بجرأة على الله وعلى رسوله سيصيب الذين كفروا منهم، أى: ممن كذبوا الله
919
ورسوله، ومن المعتذرين بغير عذر شرعي، سيصيب هؤلاء وهؤلاء عذاب أليم غاية الألم!!!...
المعنى:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يطلب منها ما هو فوق طاقتها، وعلى ذلك فكل من عجز عن الشيء سقط عنه، ولا يكلف به لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا، ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه». قالوا: يا رسول الله: وكيف يكون معنا وهم بالمدينة؟
قال: «حبسهم العذر».
ألست معى في أن هذه الآية وأشباهها من القرآن والحديث بينت أنه لا حرج على المعذورين عذرا شرعيا، وهم قوم عرف عذرهم كالشيوخ والعجائز، وأهل الزمانة والهرم، والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون، فكل هؤلاء ليس عليهم ذنب ولا إثم إذا نصحوا لله ورسوله، وأخلصوا لهما النية، وأحسنوا الطوية، وعرفوا الحق- سبحانه وتعالى- وأحبوه، وأحبوا أولياءه، وبغضوا أعداءه، والنصيحة الخالصة لله ولرسوله (في هذه الحال الحربية) هي عمل كل ما فيه المصلحة العامة للأمة من كتمان السر، والحث على البر، وإلهاب الشعور، وتوحيد الصفوف، ومحاربة الخائنين، والقضاء على الطابور الخامس،
روى عن تميم الداري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: الدين النصيحة- ثلاثا- قلنا: لمن يا رسول الله؟ فقال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
قال العلماء: النصيحة لله: إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بكل كمال، وتنزيهه عن كل نقص، وامتثال أمره واجتناب نهيه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته، والتزام طاعته، في أمره ونهيه وحب من أحبه، وحب آل بيته ومن سار بسيرته وإحياء سنته بالمدارسة والنفقة والعمل بها والدفاع عنها، والنصيحة لكتابه وقراءته، والتفقه فيه ومدارسته، والتخلق به والدفاع عنه، والنصيحة لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وتبصيرهم مواضع الزلل وإرشادهم إلى الدين الحق
920
والرأى المعتدل، والإنكار عليهم إن خالفوا الدين بلا شدة وعنف حتى تستقيم أمورهم، والنصح لعامة المسلمين: إرشادهم إلى الطريق الحق، والإرعاء عليهم وحب الخير لهم والسهر على مصالحهم، وكل على قدر طاقته.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ على معنى ليس هناك سبيل يسلكها ناقد على من أحسن العمل وأخلص النية، فكل عمل تعمله وأنت ترضى ربك فأنت محسن، والله يجازى المحسن بأضعاف حسنته، والمسيء بقدر إساءته، فإذا كان هؤلاء المعذورون عذرا شرعيا قد نصحوا لله ورسوله وأخلصوا في أعمالهم فليس لأحد عليهم سبيل ما داموا محسنين أعمالهم، والله غفور رحيم.
روى أن بنى مقرن كانوا سبعة إخوة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد هاجروا، وأتوا رسول الله في غزوة تبوك ليحملهم فلم يجد ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون!! وهذه الآية هي التي نزلت في شأنهم وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ.
ولعل الحكمة في التعبير بالإتيان لأجل الحمل والاعتذار عنه بعدم وجدان ما يحمل عليه من دابة أو غيرها: هي إفادة العموم ليشمل الدابة والسيارة والطيارة وغيرها- والله أعلم.
921
فهرست
الموضوع صفحة الإهداء ٣ مقدمة ٥ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ٨ سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع ٩ سورة البقرة ١٢ المتقون وجزاؤهم ١٤ الكافرون وجزاؤهم ١٥ المنافقون وصفاتهم ١٧ ضرب الأمثال لهم ٢٠ وحدة الإله اعجاز القرآن. صدق الرسول ٢٢ من أمن بالقرآن وجزاؤهم ٢٥ الأمثال في القرآن وموقف الناس منها ٢٦ مظاهر قدرة الله ٢٨ قصة خلق الإنسان وتكريمه بالخلافة وسجود الملائكة له ٢٩ طبيعة الإنسان وموقف الشيطان منه ٣٢ بنو إسرائيل وما طلب منهم ٣٣ علماء اليهود وأحوالهم ٣٥ نعم الله على اليهود ٣٧ بعض قبائح اليهود وما لحقهم ٤١ من جنايات اليهود ٤٣ قصة ذبح البقرة ٤٥ قسوة قلوبهم واستبعاد الإيمان النهم ٤٧ كذب أخبار اليهود وافتراؤهم على الله ٤٩ ميثاق بنى إسرائيل ٥١ مواقفهم من الرسل والكيف ٥٤ كذبهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة ٥٦ اليهود وحرصهم على الحياة ٥٧ موقفهم من الملائكة الأطهار ٥٨ من قبائحهم أيضا ٦٠ أدب وتوجيه ٦٣ آيات النسخ ٦٤ موقفهم من المؤمنين ٦٦
922
موقف كل من اليهود والنصارى بالنسبة للآخر ٦٧ تخريب المساجد ٦٨ مفتريات أهل الكتاب والمشركين ٦٩ تحذير الرسول من أتباع اليهود والنصارى ٧١ إبراهيم عليه السلام وبيت الله الحرام ٧٢ ملة إبراهيم مع المخالفين لها والمهتدين بها ٧٥ لكل ما كسب ٧٦ الله ربنا وربكم ٧٨ مقدمات تحويل القبلة ٨٠ تحويل القبلة ٨٣ حول تحويل القبلة ٨٥ الصابرون والمقاتلون في سبيل الله ٨٧ بعض شعائر الحج وجزاء من يكتم آيات الله ٨٩ إثبات وحدانيته ورحمته ونفى الشركاء عنه ٩٢ العلاج الناجح ٩٥ موقف أهل الكتاب من القرآن والنبي ٩٨ حقيقة البر ١٠٠ حق الله في المال ١٠٢ القصاص وأثره ١٠٣ الوصية ١٠٥ الصيام وفرضه ١٠٦ بعض أحكام تتصل بالصيام ١٠٩ الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ١١١ اختلاف أشكال القمر ١١٢ القتال في سبيل الله ١١٤ الحج وبعض أحكامه ١١٧ بعض أحكام الحج ١٢٠ من علامات النفاق أيضا ١٢٣ من لا يتبع جميع أحكام الدين وجزاؤه ١٢٥ الحاجة إلى الرسل ١٢٧ ما يلاقيه الرسول والمؤمنون في دعوتهم ١٢٨ النفقة وأحق الناس بها ١٢٩ حول القتال في الإسلام ١٣٠ الخمر والميسر وحكمهما ١٣٣ الولاية على مال اليتيم ١٣٦ زواج المسلم بغير المسلمة ١٣٧ الحيض وحكمه ١٣٩
923
الحلف بالله ١٤٠ الإيلاء وحكمه ١٤١ براءة الرحم في الطلاق وبعض أحكامه ١٤٢ النساء وحقوقهن في الزوجية ١٤٣ بعض أحكام الطلاق ١٤٥ آداب الطلاق ومعاملة المطلقة ١٤٨ بعض أحكام الرضاع ١٥٠ عدة المتوفى عنها زوجها ١٥٢ خطبة المتوفى وزوجها وآدابها ١٥٣ المطلقة قبل الدخول وما يجب لها ١٥٥ المحافظة على الصلاة ١٥٦ حق المتوفى عنها زوجها ١٥٧ كيف تحيا الأمم ١٥٨ قصة طالوت وجالوت ١٦٠ درجات الأنبياء وطبيعة الناس في أتباعهم ١٦٥ في الحث على الإنفاق ١٦٧ آية الكرسي ١٦٩ الدخول في الدين والولاية على الناس ١٧٠ من غرور الكافرين بالله أو قصة نمرود ١٧٢ قصة العزيز وإيمانه ١٧٤ وهذا مثال من آيات الله ١٧٥ الانفاق في سبيل الله وآدابه ١٧٧ مثل من ينفعه للرحمن والذي ينفعه للشيطان ١٨٠ نوع ما ينفق فيه ووصفه ١٨٢ الشيطان والانفاق ١٨٣ بعض أحكام الانفاق ١٨٤ لمن تعطى الصدقة وبعض أحكامها ١٨٦ الربا وخطره ١٨٩ آية الدين والسر في طولها ١٩٤ جواز الرهن ١٩٨ احاطة علمه وتمام ملكه وقدرته ١٩٩ سورة آل عمران ٢٠٤ المحكم والمتشابه في القرآن ٢٠٦ عاقبة الغرور بالمال والولد ٢٠٩ الإنسان وشهواته في الدنيا ٢١١ ما هو خير من الدنيا وما فيها ٢١٣ الشهادة بالوحدانية والعدل وأن الدين الإسلام ٢١٥
924
جزاء قتل الأنبياء ومن يأمر بالمعروف ٢١٧ الاعراض عن حكم الله مع الغرور ٢١٨ من مظاهر قدرة الله وعظمته ٢٢٠ مولاة المؤمنين للكافرين ٢٢٢ محبة الله باتباع رسوله وطاعته ٢٢٤ اصطفاء الأنبياء وسلالتهم ٢٢٥ قصة زكريا ويحيى ٢٢٨ مريم وفضل الله عليها ٢٣٠ قصة عيسى عليه السلام ٢٣١ قصة عيسى مع قومه ٢٣٥ الرد على ألوهيته عيسى وقصة المباهلة ٢٣٧ كلمة الوحيد وملة إبراهيم ٢٣٩ من مواقف أهل الكتاب ٢٤١ الأمانة والوفاء بالعهد عند اليهود ٢٤٣ من كذبهم وافترائهم على الله أيضا ٢٤٥ الرد على أهل الكتاب في اشراكهم بالله ٢٤٦ الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب ٢٤٧ إيمان المؤمنين بكل الأنبياء ٢٤٩ حكم الكفر بعد الإيمان ٢٥٠ اصناف الكفار ٢٥١ الإنفاق أيضا ٢٥٢ فرية اليهود في تحريم بعض المعلومات ٢٥٣ شرف بيت الله الحرام والحج ٢٥٥ أهل الكتاب وعنادهم وما يضمرونه للإسلام ٢٥٧ توجيهات وعظات ٢٥٨ فضل الأمة الإسلامية على غيرها ٢٦٤ المؤمنين من أهل الكتاب ٢٦٧ الكافرون وأعمالهم يوم القيامة ٢٦٩ صداقة المؤمنين للكافرين وخطرها ٢٧٠ غزوة بدر ٢٧٢ غزوة أحد ٢٧٣ ما نزل من القرآن في غزوتى بدر وأحد ٢٧٦ إرشادات المؤمنين وجزاؤهم ٢٨٠ سنة الله في الخلق والعاقبة للمتقين ٢٨٤ دروس لمن شهد غزوة أحد ٢٨٧ ما أصاب المسلمين في أحد وسببه ٢٩٣ بث الروح التضحية والجهاد ٢٩٨
925
بعض أخلاق صلّى الله عليه وسلّم ٣٠٠ بعض قبائح المنافقين وأعمالهم ٣٠٤ المستشهدون والمجاهدون في سبيل الله وجزاؤهم ٣٠٧ تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان
بعض الأحكام ٣١١ البخل شر يوم القيامة ٣١٣ نهاية كل حي والابتلاء في الدنيا ٣١٧ بعض قبائح أهل الكتاب ٣١٩ ذكر الله والتفكر في خلقه وآثرهما ٣٢٢ المؤمنون والكافرون وجزاء كل ٣٢٦ سورة النساء ٣٣١ اجتماع الناس في أصل واحد ٣٣١ اليتامى ومعاملتهم في أموالهم ٣٣٣ تعدد الزوجات والعدل معهن ٣٣٤ تعدد الزوجات ٣٣٦ متى نعطى أموال اليتامى لهم؟ ٣٣٨ تشريع حقوق اليتامى والنساء ٣٤٠ آيات المواريث ٣٤٢ الفاحشة وجزاؤها ٣٤٢ متى يقبل الله التوبة ٣٤٨ كيف نعامل نساءنا؟ ٣٥٠ من يحرم الزواج بهن ٣٥٣ من أحكام الزواج ٣٥٧ متى تنكح الأمة. وما جزاؤها على الفاحشة ٣٥٩ حكم عامة للأحكام السابقة ٣٦٢ حدود ومعالم ٣٦٣ تنظيم الحياة الزوجية ٣٦٩ وعظ وإرشاد ٣٧٢ ترغيب وتحذير ٣٧٥ بعض شروط الصلاة. مع بيان رخصة التيمم ٣٧٧ اليهود وأعمالهم ٣٨٠ تهديد ووعيد لأهل الكتاب ٣٨٢ أهل الكتاب وجزاؤهم على أعمالهم ٣٨٤ جزاء الكفر. وثواب الإيمان ٣٨٧ السياسة العامة للحكومة الإسلامية ٣٨٨ هؤلاء هم المنافقون. وهذه أعمالهم ٣٩١ إرشادات وآداب للسلم والحرب ٣٩٣ السياسة الحربية في الإسلام ٣٩٦
926
بعض ضعاف النفوس ٣٩٩ الطاعة لله ولرسوله ٤٠١ القرآن من عند الله ٤٠٢ الرقابة على الأخبار ٤٠٤ الحث على الجهاد ٤٠٥ من أدب القرآن ٤٠٦ المنافقون وكيف نعاملهم ٤٠٨ قتل المؤمن وجزاؤه ٤١١ التسرع في الحكم ٤١٤ الجهاد في سبيل الله والمتخلفون عنها ٤١٦ كيفية الصلاة في السفر والحرب ٤١٩ في الحث على القتال ٤٢٣ حفظ الحقوق وعدم المحاباة في الأحكام ٤٢٤ إرشادات ٤٢٨ الشرك وخطره والشيطان وأثره ٤٢٩ الأمانى وعاقبتها. والعمل وجزاؤه ٤٣٢ حقوق الضعفاء وعلاج المشاكل الزوجية ٤٣٤ كمال القدرة ٤٣٨ العدل والشهادة لله والإيمان به وبكتبه ٤٤٠ المنافقون وصفاتهم ٤٤٢ موالاة الكافرين وجزاء المنافقين ٤٤٥ الجهر بالسوء ٤٤٩ الكفر والإيمان وعاقبة كل ٤٥٠ من قبائح اليهود وأفعالهم ٤٥٢ بعض قبائحهم أيضا وجزاؤهم عليها ٤٥٨ وحدة الوحى وحكمة إرسال الرسل جميعا ٤٦٠ جزاء الكافرين ٤٦٤ المسيح ابن مريم في نظر القرآن ٤٦٥ الدعوة العامة ٤٦٩ حق الأخوة في الميراث ٤٧١ سورة المائدة ٤٧٣ الوفاء بالعهود ٤٧٣ المحرمات من المطعومات ٤٧٦ الحلال من المطعومات ٤٨١ الوضوء والغسل والتيمم ٤٨٤ إتقان العمل والشهادة بالقسط ٤٨٨ كيف نقض اليهود والنصارى والمواثيق ٤٩٠
927
القرآن وما يخفيه أهل الكتاب ٤٩٤ مناقشة النصارى في عقائدهم ٤٩٥ من مواقف اليهود مع موسى (ع. م) ٥٠٠ قصة أول قتيل في الوجود ٥٠٣ حكم قطاع الطريق ٥٠٦ أناس الفلاح في الآخرة ٥٠٩ السارق وجزاؤه ٥١١ اليهود ومواقفهم من أحكام التوراة ٥١٣ في التوراة حكم الله ٥١٧ الحكم بكتاب الله ودستور القرآن ٥٢٠ موالاة اليهود والنصارى وعاقبتها ٥٢٤ المرتدون المحاربون لهم ٥٢٦ النهى عن موالاة الكفار ٥٢٩ من سيئات اليهود ٥٣٣ تبليغ الرسول للدين ٥٣٦ من قبائح اليهود أيضا ٥٣٨ الإله عند المسيحيين ٥٤٠ خلاصة نظرية القرآن في المسيح ٥٤٢ السبب في استشراء الفساد فيهم ٥٤٥ اليهود والنصارى وعلاقتهم بالمؤمنين ٥٤٩ التشدد في الدين ٥٥٢ الإيمان وكفارتها ٥٥٤ الخمر والميسر آفات اجتماعية ٥٥٧ الصيد في الإحرام وجزاؤه ٥٦٢ البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما ٥٦٥ ترغيب وترهيب ٥٦٧ السؤال الضار ٥٦٨ نوع من ضلال الجاهلية ٥٧٠ في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ٥٧١ الشهادة على الوصية حتى الموت وأحكامها ٥٧٣ من مواقف يوم القيامة ٥٧٦ من معجزات عيسى عليه السلام ٥٧٧ قصة المائدة ٥٧٩ تخلص عيسى مما ادعته عليه النصارى ٥٨١ سورة الأنعام- دلائل على الوحدانية والبعث ٥٨٤ سبب كفرهم وشبهاتهم والرد عليها ٥٨٧ تسليته للنبي ٥٩١
928
أسلوب آخر في إثبات الوحدانية والبعث ٥٩٢ من مظاهر القدرة وشهادة الله النبي صلّى الله عليه وسلّم ٥٩٥ كتمان الشهادة والافتراء على الله ٥٩٧ بعض أعمال المشركين ٥٩٩ من مواقف المشركين يوم القيامة ٦٠١ تسلية الله لنبيه وسنة الله في خلقه ٦٠٤ من دلائل قدرة الله وكمال علمه ٦٠٧ إلى الله وحده يلجأ العبد في الشدائد ٦٠٩ من أدلة التوحيد أيضا ٦١١ مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام ٦١٣ من مظاهر رحمة الله بخلقه ٦١٦ موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من المشركين ٦١٨ كمال علمه سبحانه وتعالى ٦٢٠ من مظاهر القدرة والرحمة ٦٢٢ المستهزئون بالقرآن وجزاؤهم ٦٢٥ الإسلام والشرك ٦٢٨ كيف ترك إبراهيم الشرك ٦٣٠ محاجة إبراهيم لقومه ٦٣٣ إبراهيم أبو الأنبياء ومكانته ٦٣٦ إثبات رسالة الرسل وأثرها ٦٣٨ الكذب على الله وعاقبته ٦٤٠ من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة ٦٤٢ من كذبهم على الله والرد عليهم ٦٤٦ حقائق تتعلق بالرسالة ٦٤٧ النهى عن سب الذين يدعون من دون الله ٦٤٩ الرد على طلب المشركين الشهادة على الرسالة ٦٥١ الشهادة للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق وللقرآن بالحق ٦٥٣ عقائد المشركين وذبائحهم ٦٥٥ مثل المؤمن والكفار ٦٥٨ غرورة المشركين وعاقبته ٦٥٩ سنة الله في الخلق ودينه الحق ٦٦١ من سنن الله في الكون ٦٦٣ تهديد وإنذار ٦٦٥ صور من جاهلية العرب ٦٦٧ قدرة الله ونعمه والرد على المشركين ٦٧١ ما حرمه القرآن وما حرمته التوراة ٦٧٤ شبهة واهدة ٦٧٧
929
أصول المحرمات والفضائل ٦٧٩ القرآن مع من يؤمن به
ويكفر ٦٨٤ تهديد وإنذار ٦٨٦ عاقبة الاختلاف والجزاء على العمل ٦٨٨ التوحيد والإخلاص في العقيدة ٦٨٩ سنة الله في الخلق ٦٩١ سورة الأعراف ٦٩٣ القرآن وعاقبة المكذبين به ٦٩٣ نعم الله على بنى آدم وتكريمه ٦٩٧ قصة سكنى آدم الجنة وخروجه منها ٧٠٠ من نعم الله وفضله ٧٠٣ شبهات المشركين وأعذارهم الواهية ٧٠٥ توجيهات في الملبس والمطعم ٧٠٧ ما حرمه الله على عباده ٧٠٩ مهمة الرسل وعاقبة العمل ٧١١ جزاء الكافرين ٧١٣ جزاء المؤمنين ٧١٤ حوار بين أهل الجنة والنار وأصحاب الأعراف ٧١٦ حوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار ٧١٧ من مناظر يوم القيامة ٧١٨ الكفار وما يلاقونه وأمانيهم ٧١٩ وحدانية الله ودعاؤه ٧٢١ من أدلة البعث ٧٢٤ قصة نوح عليه السلام ٧٢٥ قصة هود عليه السلام ٧٢٧ قصة صالح مع قومه عليه السلام ٧٣١ قصة لوط عليه السلام ٧٣٤ قصة شعيب عليه السلام- وحاله مع قومه ٧٣٦- ٧٣٨ مآل الكافرين ٧٤٠ من سنة الله مع الأمم ٧٤٣ قصة موسى عليه السلام ٧٤٥ السحرة مع موسى وفرعون ٧٤٩ ما كان من أمر فرعون وملئه مع موسى وقومه ٧٥١ جزاة العصاة في الدنيا ٧٥٣ عاقبة الكفر وخلف الوعد ٧٥٥ من نعم الله على بنى إسرائيل ٧٥٧ نعم الله على بنى إسرائيل وما قابلوها به ٧٥٨
930
رؤية الله ونزول التوراة ٧٦٠ السبب الحقيقي للكفر غالبا ٧٦٣ قصة عبادتهم العجل وموقف موسى ٧٦٤ ما حصل لموسى أثناء المناجاة ٧٦٩ محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته والمؤمنون به ٧٧١ من نعم الله على بنى إسرائيل ٧٧٥ عاقبة المخالفين وفوز الآمرين بالمعروف ٧٧٨ هكذا اليهود في الدنيا ٧٨٠ الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم ٧٨٢ مثل المكذبين الضالين ٧٨٤ صفة أهل النار ٧٨٦ أسماء الله الحسنى ٧٨٨ المهتدون والضالون ٧٨٩ علم الساعة عند ربي ٧٩٢ الرسول إنسان لا يملك شيء بل هو نذير وبشير ٧٩٣ هكذا الإنسان ٧٩٤ حقيقة الأصنام والأوثان ٧٩٦ من خلق القرآن في معاملة الناس والشيطان ٧٩٨ من أدب استماع القرآن والذكر ٨٠١ سورة الأنفال ٨٠٣ مقدمات لغزوة بدر الكبرى ٨٠٦ توجيهات حربية للمؤمنين ٨١٢ تحذير من مخالفة لدين ٨١٥ الاستجابة لداعي القرآن ٨١٧ الخيانة من صفات المنافقين ٨١٩ تقوى الله وأثرها ٨٢١ عداوتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولدينه ٨٢٢ صورة من حماقة العرب وجاهليتها ٨٢٤ عاقبة إنفاقهم للصد عن سبيل الله ٨٢٦ من فضل الله على الناس ٨٢٨ كيف تقسم الغنائم؟ ٨٢٩ امتنان الله على المؤمنين بالنصر على عدوهم ٨٣١ نصائح حربية ٨٣٣ كيف يتخلص الشيطان ٨٣٥ ما حل بهم بسبب أعمالهم ٨٣٦ كيف حال من نقض العهد ٨٣٨ الاعداد الحربي للأعداء ٨٤٠
931
الميل إلى السلام، وتقوية الروح المعنوية في الجيش ٨٤١ التشريع ينزل وفقا لرأى عمر ٨٤٤ الرابطة الإسلامية أقوى الروابط ٨٤٦ سورة التوبة ٨٥١ إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم ٨٥٢ وجود قتال المشركين ٨٥٥ سماحة الإسلام في معاملة الكفار ٨٥٦ سبب البراءة من عهودهم ٨٥٧ كيف نعامل هؤلاء الكفار ٨٥٩ تحريض على قتال المشركين ٨٦٠ اختبار المسلمين وتمحيصهم ٨٦١ عمارة المسجد للمسلمين لا للمشركين ٨٦٢ فضل الإيمان والجهاد ٨٦٤ ولاء المؤمنين للكفارين وخطرها ٨٦٧ وهل النصر إلا من عند الله؟ ٨٧٠ المشركون لا يدخلون المسجد الحرام ٨٧٢ قتال أهل الكتاب وغايتهم ٨٧٣ أهل الكتاب لا يعبدون الله حقا ٨٧٥ سلوك رجال الدين من أهل الكتاب ٨٧٨ بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء ٨٨٠ في الحث على الجهاد والتحذير من تركه ٨٨٣ التجنيد العام ٨٨٦ المنافقون وما صدر عنهم ٨٨٧ أنفقوا طوعا وكرها ٨٩٢ إلى من تعطى الصدقة الواجبة ٨٩٥ أذى المنافقين للنبي صلّى الله عليه وسلّم والرد عليهم ٨٩٧ المؤمنون وصفاتهم وجزاؤهم ٩٠٤ معاملة النبي للكفار المنافقين ٩٠٧ قصة ثعلبة بن حاطب ٩١٠ من أذى المنافقين للمؤمنين وجزاؤهم ٩١٢ المتخلفون عن الجهاد ٩١٣ كيف عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم زعماء النفاق ٩١٥ موقف المنافقين من الجهاد ٩١٨ المتخلفون ٩١٨
932

[الجزء الثاني]

[تتمة سورة التوبة]
المتخلفون بغير عذر وموقف المسلمين منهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٣ الى ٩٦]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
المفردات:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم انْقَلَبْتُمْ رجعتم إليهم ووصلتم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عنهم صفح رضا رِجْسٌ أي: قذارة يجب الإعراض عنهم.
روى أن هذه الآيات- يعتذرون إليكم- نزلت في الجد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين المتخلفين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين إذا رجعوا إلى المدينة ألا يجالسوهم ولا يكلموهم.
3
المعنى:
ما على المحسنين من سبيل، ولا على الذين أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم معتذرين بأعذار حقيقية، وقد تولوا، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا لأنهم لم يجدوا ما ينفقون، ولم يستطيعوا الذهاب معه إلى القتال. وليس على هؤلاء وأولئك جناح.
إنما السبيل والذنب، والجناح والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن القتال وهم أغنياء موسرون، يستطيعون القتال ويجدون الزاد والراحلة، ولكن ما بال هؤلاء يستأذنون وهم أغنياء؟! فأجيب بأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف الذين لا خير فيهم، كالنساء والصبيان، والعجزة والمرضى، ورضوا بأن يكونوا مع الذين شأنهم الضعة والدناءة، وكان من أسباب تخلفهم زيادة على رضائهم بالقعود مع الخوالف أن طبع الله على قلوبهم، وختمها حتى لا يصل إليها خير، ولا يدخلها نور، وهكذا أصحاب المعاصي تصدأ قلوبهم وتقسو حتى تصير كالحجارة أو أشد، فهم لا يعلمون الخير حتى يتوجهوا إليه، وهم بسبب ذلك لا يعلمون عاقبة ما فعلوا في الدنيا والآخرة.
هذا كلام مستأنف مسوق لبيان ما صدر من المتخلفين عند رجوع المؤمنين لهم.
يعتذرون إليكم أيها المؤمنون عن جميع سيئاتهم وأهمها التخلف عن القتال بغير عذر مقبول- والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، لأنهم كانوا يعتذرون إليهم جميعا- إذا رجعتم من الغزوة إليهم، قل لهم أيها الرسول: لا تعتذروا، وكأن سائلا سأل منهم لماذا لا نعتذر بما يبرر عملنا؟ فقيل لهم: لأنا لا نصدقكم أبدا فيكون اعتذاركم عبثا لا يترتب عليه ما تطلبون منه، والذي حملنا على هذا أن الله- سبحانه وتعالى- قد نبأنا من أخباركم، وأطلعنا على بعض نواياكم، وما تكنه سرائركم وخبر الله هو الحق، وقوله الصدق، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل بحال، وسيرى الله عملكم ورسوله بعد الآن، فلم يعد لكلامكم وظواهر حالكم قيمة عند الله وعند رسوله، فإن تبتم وأنبتم، وعملتم صالحا من الأعمال فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وإن أصررتم على النفاق والكفر فسيعلمكم الرسول بما أمره الله به في هذه السورة من جهادكم والإغلاظ عليكم، ومنعكم من الخروج معه.
4
ثم تردون بعد هذا كله إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم السر وأخفى، فينبئكم ويجازيكم على أعمالكم وسرائركم.
والنفاق أخو الكذب. لذلك تراهم يؤكدون اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا رجعتم إليهم، يفعلون هذا لتعرضوا عنهم، وتصفحوا فلا توبخوهم، ولا تؤنبوهم على قعودهم مع الخوالف من النساء والصبيان فأعرضوا عنهم إعراض إهانة واحتقار، لا إعراض صفح وأعذار وذلك لأنهم رجس وقذارة، وأعمالهم دنس ووساخة، ومأواهم جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون.
وهم لجهلهم بحقيقة أنفسهم وما عملوا، ولعدم إدراكهم الأمور على وجهها الصحيح لم يقنعوا بالإعراض عنهم، بل يحلفون لكم أحرج الأيمان لترضوا عنهم، وتعاملوهم كما كنتم أولا، كان جل همهم معاملتكم أنتم يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
«١» ولقد صدق الله لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ «٢» ولو كان هؤلاء مؤمنين حقا لكان منتهى همهم إرضاء الله ورسوله، وإذا كان هذا شأنهم فإن ترضوا عنهم فرضا وقد أعلمكم الله حالهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين عن أمره الخارجين عن دينه، وهؤلاء قد خرجوا عن أمره ودينه فاستحقوا هذا الجزاء من الله.
كيف كان الأعراب [سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
(١) سورة النساء الآية ١٠٨.
(٢) سورة الحشر الآية ١٣.
5
المفردات:
الْأَعْرابُ اسم جنس للعرب الذين يسكنون البوادي أى: الصحارى، والعرب: اسم جنس لسكان البدو والحضر وَأَجْدَرُ أى: أحق مَغْرَماً غرامة خسرانا لازما الدَّوائِرَ جمع دائرة وهي ما تحيط بالإنسان والمراد بها ما لا محيص عنه من مصائب الدهر دائِرَةُ السَّوْءِ أى: دائرة الضر والشر والمراد الدائرة السوءى.
هذا بيان لحال المنافقين من سكان البوادي بعد بيان حالهم من سكان المدن والحضر.
المعنى:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا من غيرهم سكان المدينة لأنهم أغلظ طبعا وأقسى قلبا، وهذا طبع سكان الصحارى من الأمم لكثرة اختلاطهم بالحيوان، ورعيهم للأنعام، وهذا حكم مسلم.
وهم أجدر وأحق من سكان المدن ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من آيات بينات، إذ لم يباشروا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يطبق النظريات القرآنية العلمية بعمله وشرحه وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «١» وليس هذا طعنا في ملكتهم اللغوية أو مقدرتهم العقلية ولكنه نقص في التطبيق العملي والله عليم بخلقه، حكيم في حكمه وشرعه- سبحانه وتعالى-.
ومن الأعراب من يتخذ لنفسه ويختار ما ينفقه على أنه مغرم وغرامة لازمة، لا يرجون ثوابا ولا يأملون خيرا بل ينفقون للرياء والسمعة وطمعا في التقرب من المسلمين
(١) سورة النحل الآية ٤٤.
6
واتقاء شرهم، روى أنهم بنو أسد وغطفان، وهم يتربصون بكم مصائب الدهر التي تدور بالناس وتحيط بهم، وذلك أنهم لما يئسوا من غلبة المشركين من كفار قريش ويهود المدينة أخذوا يتربصون بالمسلمين وينتظرون بهم حوادث الأيام كموت النبي صلّى الله عليه وسلم والقضاء على الدعوة الإسلامية وهكذا شأن الضعفاء والجبناء.
عليهم الدائرة السوءى وهذا دعاء من الله عليهم محقق الوقوع قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [سورة التوبة الآية ٥٢] والله سميع عليم لا يخفى عليه شيء.
وليس هذا شأن الأعراب كلهم بل منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا كاملا- قيل: هم بنو أسلم، وغفار، وجهينة، ومزينة، وقيل: هم بنو مقرن- ويتخذ لنفسه ويختار أن ما ينفقه لأمرين: أحدهما قربات عند الله وزلفى، والثاني: أنه سبب في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يدعو للمتصدق بالبركة، ويستغفر له، ودعاؤه صلّى الله عليه وسلّم أمنيتهم المحبوبة.
وقد بين الله جزاء هؤلاء الأعراب فقال: ألا إنها قربة لهم عظيمة ودرجة رفيعة أنا أعلم بها، وسيدخلهم الله في رحمته ورضوانه إن الله غفور رحيم.
الناس أنواع [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٢]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
7
المفردات:
مَرَدُوا مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية القصوى فيه.
المعنى:
مما أكرم الله به النبي صلّى الله عليه وسلّم أن جعل أمته وسطا عدولا خيارا شهداء على الناس يوم القيامة، وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله حقا، وكان خيارها أصحابه- رضي الله عنهم- وأعلاهم في الشرف السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
أما السابقون من المهاجرين وهم الذين صلوا إلى القبلتين [إلى الكعبة وإلى بيت المقدس] وقيل: هم المهاجرون قبل صلح الحديبية، لأن المشركين قبل ذلك كانوا يضطهدون المؤمنين ويعذبونهم أشد العذاب، ويحاربونهم في عقر دارهم فكان الفرار منهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة أعظم دليل على صدق الإيمان وأكبر تضحية للإنسان، وقيل: هم أهل بدر، وإذا كان السبق في الإيمان والهجرة والجهاد والبذل والنصرة، كان أفضل السابقين الخلفاء الأربعة على الترتيب ثم باقى العشرة المبشرين بالجنة، وليس كل سابق أفضل من مسبوق.
وأما السابقون من الأنصار فهم الذين أسلموا قبل أن يكون للمسلمين قوة مرهوبة الجانب، وقيل: هم أصحاب البيعة الأولى وكانوا سبعة أو أصحاب البيعة الثانية وكانوا سبعين رجلا وامرأتين، أما بعد أن صار للمسلمين دولة فقد ظهر النفاق في المدينة وما حولها، وأما الذين اتبعوهم بإحسان في الهجرة والنصرة وصدق الإيمان، فهم الذين
8
دخلوا في الدين بعد ذلك واتبعوا السابقين بإحسان، وقلدوهم في الأفعال والأقوال وحسن الاقتداء.
وهذا الوصف للتابعين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ يتضمن الشهادة من الله- سبحانه وتعالى- للسابقين بكمال الإحسان، وعلو الإيمان، فهم المتبوعون، وفي المثل العليا والإحسان هم المقلدون، أما من اتبعوهم في ظاهر الإسلام فقط أو في بعض الأعمال فالآيات الآتية بينت حالهم.
هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار والتابعين- رضى الله عنهم- وقبل طاعتهم وتجاوز عن سيئاتهم وأعز بهم الإسلام كل ذلك بسبب أعمالهم.
ورضوا عنه لما وفقهم إلى الخير، وهداهم إلى الحق وأفاض عليهم من النعم الدينية والدنيوية، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا: وذلك هو الفوز العظيم.
وهنا سؤال: ما المراد بالتابعين؟ هل هم كما فسرنا أولا وهم الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وفتح مكة؟ أم هم التابعون الذين اجتمعوا بالصحابة ولم يشرفوا بصحبة النبي؟ أم هم الداخلون في الدين المهاجرون ما نهى الله عنه، الناصرون لدين الله باللسان والسنان، والقوة والبيان إلى يوم القيامة الله أعلم بكتابه وإن كان الظاهر من قوله اتبعوهم أنهم الصحابة المتأخرون في الإيمان، وأما التابعون المجتمعون بالصحابة كالفقهاء السبعة (سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير.. إلخ). فهذا اصطلاح خاص بعد نزول القرآن.
بعد أن بين الله- سبحانه- مكانة المؤمنين بين مردة المنافقين من أهل البدو والحضر: أن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون. قال بعضهم: هم من قبيلة مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار كانت منازل هؤلاء حول المدينة والمراد أن بعضهم منافقون، وبعضهم مؤمنون صادقون يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويتخذون ما ينفقون قربات وزلفى إلى الله، والرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا لهم بخير وبركة.
وإنه لمن أهل المدينة نفسها منافقون من الأوس والخزرج واليهود غير من تعرفهم- أيها الرسول- بما صدر عنهم من أقوال وأفعال منافية للإيمان.
9
هؤلاء مردوا على النفاق ومرنوا عليه مرونا جعلهم متأصلين فيه، قد بلغوا غاية إتقانه، بحيث لا يعرفهم أحد، فهم حريصون جدا لا يصدر منهم ما يتنافى مع ظاهر إيمانهم، ولذلك لا تعرفهم أنت مع بعد نظرك، ودقة فراستك، التي تنظر فيها بنور الله وذلك لأنهم أجادوا النفاق، وتجنبوا الشبهات، وانظر إلى نفى العلم عن ذواتهم لا عن نفاقهم، والله يعلمهم لأنه يعلم السر وأخفى، ولو شاء لاطلعك عليهم كما أطلعك على غيرهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [سورة محمد الآيتان ٢٩ و ٣٠].
هؤلاء سنعذبهم مرتين: مرة في الدنيا بفضيحتهم وهتك سترهم وتكليفهم بتكاليف الإسلام من جهاد وزكاة، والحال أن أعمالهم كسراب بقيعة لا تنفعهم بشيء.. ومرة في الآخرة بالعذاب الشديد والجزاء المناسب لجرم عملهم وسوء صنيعهم ثم يردون إلى عذاب عظيم.
نعود إلى القول المختار من هذه الآيات نزلت في بيان حال الناس أيام النبي صلّى الله عليه وسلم فمنهم السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم من المهاجرين والأنصار، ومنهم التابعون لهم بإحسان الذين جاءوا من بعدهم وهاجروا وجاهدوا معهم فأولئك منهم. لهم جميعا الرضوان وذلك هو الفوز العظيم.
ومن الناس المنافقون من سكان البدو والحضر خصوصا المدينة وهؤلاء تأصل فيهم النفاق، عليهم غضب الله وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا.
ومن الناس قوم تخلفوا ولم ينافقوا فليسوا من السابقين ولا من التابعين ولا من المنافقين هؤلاء نزل فيهم قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية.. والمعنى: وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة أناس آخرون اعترفوا بذنوبهم ولم ينكروها قد خلطوا عملا صالحا وهو الاعتراف بالذنب والتوبة والرجوع إلى الله، والجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك، وآخر سيئا وهو التخلف بغير عذر، فلم يكونوا من المؤمنين الخلص، ولا من المنافقين الفاسقين،
روى أنهم ربطوا أنفسهم في سوارى المسجد وأقسموا لا يحلنهم إلا رسول الله. فلما قدم رسول الله وعلم بخبرهم أقسم لا يحلنهم حتى ينزل
10
فيهم قرآن وهم أبو لبابة وأصحابه، هؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم ويقبل عذرهم، والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات إنه هو الغفور الرحيم.
ولعلك تقول: ما فائدة هذا التقسيم؟ قلت: فائدته أنك تعرف أن من يخلط العمل الصالح والآخر الفاسد يجب ألا يقنط من رحمة الله بل عليه بالإسراع إلى التوبة وهذا الصنف كثير جدا وهو في كل زمان، وأن للتابعين لنا أن يتوسعوا في مدلوله حتى يشمل كل عصر فما دمنا نتبع الصحابة في الجهاد والنصرة ونسير على منوالهم ونهتدي بعملهم فنحن داخلون معهم في هذا الجزاء الواسع والفضل العميم.
وأما السابقون السابقون فهذا مقام لا يدانيه مقام
ولقد صدق الرسول «أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثّل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
صدق رسول الله..
الصدقة والتوبة والعمل [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
المفردات:
سَكَنٌ السكن ما تسكن إليه النفوس وتطمئن من أهل ومال ومتاع، والمراد:
11
اطمئنانهم بقبول توبتهم، ورضا الله عنهم الْغَيْبِ ما غاب والشهادة: ما حضر صَدَقَةً قال القرطبي: مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صحة إيمانه وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات.
روى عن ابن عباس قال: لما أطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا لبابة وأصحابه انطلق أبو لبابة وأصحابه بأموالهم فأتوا بها رسول الله فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق بها عنا، وصل علينا أى: استغفر لنا وطهرنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا آخذ منها شيئا حتّى أومر» فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ الآية.
المعنى:
يا محمد- وكذا كل إمام للمسلمين وحاكم- خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وربطوا أنفسهم في سارية المسجد وحلفوا لا يفكهم إلا رسول الله، ولما أطلقهم أحضروا أموالهم للنبي قائلين: هذه أموالنا التي منعتنا عن الجهاد معك فتصرف فيها بما شئت، وليس المراد من أموال هؤلاء فقط، بل من أموال المسلمين جميعا، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم من دنس البخل، وشح النفس ولؤم الطبع، وقسوة القلب، وتزكيهم بها حتى تنمو نفوسهم على حب الخير، وتزرع في قلوبهم شجر العطف على الفقير والضعيف والمحتاج، بهذا تنمو النفس وترتفع.
وصل عليهم، فالصلاة منك دعاء لهم بالخير، وسكن لنفوسهم من الاضطراب عقب الذنب الذي وقع بالمخالفة، والمعنى: ادع أيها الرسول للمتصدقين بالخير والبركات واستغفر الله لهم فدعاؤك واستغفارك سكن لهم واطمئنان لقلوبهم، وارتياح إلى قبول توبتهم والله سميع لكل قول ومجاز عليه، عليم بكل قصد ونية، وبما فيه الخير والمصلحة.
الصدقة مطهرة للنفس، مرضاة للرب، وحصن للمال، وتقوية للسناد، والتوبة تغسل الذنب وتمحوه، وتجدد العهد وتقويه ولذلك جاءت بعد الأمر بأخذ الصدقة لبيان السبب في الجملة.
12
ألم يعلم المؤمنون جميعا أو التائبون فقط أو من كان معهم ولم يتب أن السر في هذا كله هو التوبة، وأن الله يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده، ويأخذ الصدقات ويثيب عليها ويضاعف أجرها،
وقد ورد في الحديث: «إنّ الله يربى الصّدقة كما يربى أحدكم فلوّه»
أى: ولد فرسه وهذا تمثيل لزيادة الأجر، وأن الله هو التواب الرحيم.
وليس هذا الإيمان بالتمني، ولا التوبة باللسان فقط بل بما وقر في القلب وصدقه العمل، فالعمل هو المهم، وهو المعول عليه.
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله وسيجازيكم عليه جزاء الغنى القادر الكريم الواسع الفضل.
وسيرى العمل رسوله والمؤمنون فيؤدون لكم حقوقكم في الدنيا، وأما في الآخرة فستردون إلى عالم الغيب الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الشهادة وما حضر، وسيجازيكم على أعمالكم كلها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
صنف آخر من المتخلفين [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
المفردات:
مُرْجَوْنَ مأخوذ من أرجيته إذا أخرته أو من أرجأته بمعنى أخرته ومنه قيل:
المرجئة. لأنهم أخروا العمل..
المعنى:
من تخلف عن غزوة تبوك: منهم المنافقون الذين اعتذروا بغير عذر، والذين لم
يعتذروا، ومنهم المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا، وقدموا أموالهم كفارة عما فرط منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم، ومنهم فريق حاروا في أمرهم وشق عليهم تخلفهم بغير عذر فأرجئوا توبتهم، ولم يفعلوا ما فعل أبو لبابة وأصحابه من ربط أنفسهم بسواري المسجد فأرجأ الله توبتهم حتى نزلت آيتا التوبة فيهم (١١٧- ١١٨) من هذه السورة.
وآخرون من المتخلفين مرجون لأمر الله، ومؤخرون لحكمه، فحالهم غامضة عند الناس، لا يدرون ما ينزل في شأنهم؟ هل يخلصون في التوبة فيتوب الله عليهم ويقبل منهم توبتهم؟ أم لا؟ فيعذبهم ويحكم عليهم كما حكم على المنافقين، والترديد إنما هو بالنسبة للناس لا بالنسبة إلى الله. ولعل الحكمة في ذلك أن بقي الرسول والمؤمنون على حالهم فلا يكلمونهم ولا يخالطونهم، تربية لهم وتهذيبا لنفوسهم، وبيانا لجرم التخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإيثار الراحة والدعة عن الجهاد ونصر الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وهؤلاء المرجون لأمر الله هم الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة ابن الربيع.
والله عليم بهم وبعباده كلهم وما به تصلح نفوسهم، وحكيم في تشريعه، وقد كان إرجاء قبول توبتهم لحكمة الله يعلمها!!.
مسجد الضرار ولم بنى؟ وموقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم منه [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
14
المفردات:
ضِراراً الضرر: الذي لك به منفعة وعلى غيرك مضرة، والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة، وعلى هذا خرج الحديث: «لا ضرر ولا ضرار». وقيل: هما بمعنى واحد والجمع بينهما للتأكيد وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا أُسِّسَ التأسيس وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء شَفا الشفا الحرف والحد جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه الذي يحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط هارٍ الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط رِيبَةً شكا وحيرة.
سبب النزول:
هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ونزل قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بنى عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس، وقباء هذه قرية على ميلين جنوب المدينة، وأقام بها رسول الله الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسس مسجد قباء: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.
وقد اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبنى مسجدا ونبعث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيصلى لنا فيه كما صلّى في مسجد إخواننا، ويصلى فيه أبو عامر الراهب
15
إذا قدم من الشام وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة، والليلة المطيرة، ونحب أن تصلى لنا فيه وتدعو بالبركة إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّى على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلّينا لكم فيه»
: فلما انصرف من تبوك وهم بالذهاب إلى مسجد الضرار نزلت هذه الآيات. فدعا النبي مالك بن الدخشم وغيره
فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدموه وأحرقوه».
وقد تم ذلك، والذين بنوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر منافقا من الأوس والخزرج.
المعنى:
والذين اتخذوا مسجدا لأغراض ستأتى جزاؤهم معروف، إذ كان غرضهم بالبناء ما سجله القرآن عليهم وهو:
(أ) أنهم اتخذوه محاولين إيقاع الضرر بالمؤمنين (الذين بنى لهم رسول الله مسجد قباء قبل دخوله المدينة) وهؤلاء بنوا مسجدهم بجوارهم لإيقاع الضرر بهم والفتنة لهم.
(ب) واتخذوه للكفر وتقويته والاجتماع لتدبير ما يكرهه الله ورسوله. فكان عش الفتنة، وبيت النفاق، ويقول المنافق: صليت فيه وما صلى، والكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.
(ج) وبنوه للتفريق كذلك بين المؤمنين فإنهم كانوا يصلون في مسجد واحد، فأصبحوا متفرقين في مكانين.
(د) واتخذوه إرصادا وانتظارا لقدوم من حارب الله ورسوله حتى إذا قدم وجد المكان مهيأ ووجد أصحابه مستعدين لمحاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقد اتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد هو أبو عامر الراهب من الخزرج، وحكموا أنه كان رجلا تنصر في الجاهلية وعلم علم أهل الكتاب وكانت له مكانة في قومه- فلما قدم النبي المدينة، واجتمع المسلمون حوله وأصبح للإسلام كلمة- أكل الحسد قلب الرجل، وأعلن الحرب على النبي صلّى الله عليه وسلم، وأقسم ليحاربنه مع كل من يحاربه، وقد حاربه في أحد وحنين، ولما رأى نور الإسلام يرتفع ارتفاع
16
الشمس في الضحى فر إلى الشام وأرسل للمنافقين من قومه أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا فإنى سآتى لكل بجند قيصر لمحاربة محمد وأصحابه، ولقد صدق المنافقون قوله وبنوا المسجد للضرر وللكفر وللتفريق بين المؤمنين، ولانتظار أبى عامر الراهب ليحارب الله ورسوله.
وليقسمن بعد ذلك كله: ما أرادوا إلا الحسنى وأنهم بنوه للضرورة والحاجة التي تلم بالضعفاء، وأنهم بنوه رفقا بالمسلمين وتيسيرا لصلاة الجماعة على الضعفاء والمعذورين الذين يحبسهم المطر في الليلة المطيرة، كذبوا!! والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعائهم، منافقون في أعمالهم!! أما أنت أيها الرسول فلا تقم فيه أبدا على معنى لا تصل فيه أبدا، والنهى عن القيام يفسر بالنهى عن الصلاة كما روى عن ابن عباس، وانظر إلى التقييد بقوله أبدا وهو ظرف يستغرق الزمن المستقبل كله، ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم يشمل المؤمنين كذلك.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أى: والله لمسجد كان أساسه والغرض من بنائه من أول يوم بنى هو تقوى الله بإخلاص العبادة فيه، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله والعمل على وحدة الإسلام، والتعاون على البر والتقوى لمسجد هذا وصفه أحق بالقيام فيه من غيره خصوصا مسجد هؤلاء المنافقين الذين بنوه لغرض حقير كشف الله سترهم فيه، وبين مقصودهم منه.
وهل هذا المسجد هو مسجد قباء أو مسجد الرسول في المدينة أو الكلام يشمل الاثنين؟ والله أعلم وإن كان الظاهر أن الكلام يشمل الاثنين لوجود الوصف فيهما، هذا المسجد فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف والصلاة مخلصين لله قانتين، يحبون أن يتطهروا من دنس المعاصي، ورجس العبودية، وقذارة النجاسة فالمتطهرون طهارة حسية ومعنوية.
والله يحب المتطهرين المبالغين في الطهارة القلبية والروحية، والجسدية والمعنوية وهؤلاء هم الكاملون في الإنسانية، أما محبة الله لهم فهذا شيء هو أعلم به إلا أنا نعرف من الحديث أن الله يحب من عباده الصالحين الموفقين إلى الخير
«لا يزال عبدى يتقرّب إلىّ بالنّوافل حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به وبصره الّذى يبصر به»
إلى أخر الحديث الشريف.
17
وقد ضرب الله المثل للمنافقين وأعمالهم المنهارة، وللمؤمنين وأعمالهم المؤسسة على الأساس المكين بطريق الإيجاز المحكم فقال ما معناه:
أفمن كان مؤمنا صادقا لا يقصد بعمله إلا وجه الله، ويتقى الله في كل عمل، كمن هو منافق مرتاب مراء كذاب لا يبغى بعمله إلا الشيطان والهوى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «١» ؟ فالمنافق يفضحه الله وينال جزاءه السيئ في الدنيا والآخرة، والمؤمن ينال جزاءه الحسن في الدنيا والآخرة.
أفمن أسس بنيانه على أساس التقوى، والإيمان والإخلاص، وهو أساس قوى متين نافع في الدنيا والآخرة، كمن أسس بنيانه على أساس ضعيف منهار! فالأول مثل المؤمن والثاني مثل للمنافق، وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق وما يتبعه من العمل المثمر النافع كالبناء المتين المؤسس الذي يقي صاحبه عوادي الزمان.
وأن النفاق وما يستلزم من العمل الفاسد هو الباطل الزاهق وهو كالبناء الذي يبنى على الجرف المنهار لا ينفع صاحبه ولا يقيه سوءا، بل يضره ضررا بليغا حيث ألهاه عن العمل المثمر النافع.
والله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم ولغيرهم.
لا يزال بنيانهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم، يملؤها شكا ونفاقا وحسرة وألما وخوفا من الفضيحة وهتك الستر، فهم دائما في ريبة وشك يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ «٢».
لا يزال كذلك ولا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم إلا أن تقطع قلوبهم قطعا، تتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة فهم في ريبة وشك والله عليم بخلقه حكيم في صنعه.
(١) سورة السجدة آية ١٨.
(٢) سورة التوبة آية ٦٤.
18
من هم المؤمنون الكاملون؟ [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
روى القرطبي وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في البيعة الثانية- بيعة العقبة الكبرى- وكان فيها الأنصار نيفا وسبعين، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند العقبة فقال عبد الله بن رواحة للنبي: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنّة.
قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل»
فنزلت الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ.
وهذه الآية وأمثالها تمثيل، حيث عبر عن إثابة الله المؤمنين الباذلين أنفسهم وأموالهم في سبيله بأن لهم الجنة: عبر عن ذلك بالشراء والمعاوضة وهذا تفضل منه وكرم، وترغيبا في الجهاد ببيان فضله إثر بيان حال المتخلفين عنه وهم المنافقون.
19
المعنى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها بأن لهم الجنة الثابتة لهم الخاصة بهم، إنه بيع الله مربح للمؤمنين، وكأن سائلا سأل وقال: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله باذلين النفس والنفيس من المال وغيره فيكون منهم أحد أمرين، إما قتل للأعداء، وإما استشهاد في سبيل الله فلا فرق بين القاتل والمقتول ما دام القتال لله وحده.
وعدهم ربهم بذلك وعدا حقا مؤكدا أوجبه على نفسه، وجعله حقا ثابتا لهم في التوراة والإنجيل والقرآن، وليس لك أن تقول أين هذا في التوراة والإنجيل؟ بعد ما ثبت أن الموجود منها سوف ومبدل، وأنهم نسوا حظا منه، وأوتوا نصيبا منه كما في القرآن. راجع سورة المائدة آية: ١٣، ١٤.
ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق قيلا منه، وهو القادر على كل شيء الحكيم الخبير بعباده.
وإذا كان كذلك فاستبشروا وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة مثوبة من الله وفضلا على بيعكم أنفسكم وأموالكم لله، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه.
والمؤمنون الباذلون هم التائبون توبة خالصة كريمة صادقة من كل ذنب جل أو صغر، العابدون الله ربهم المخلصون له في جميع عبادتهم ومعاملتهم لا يخشون إلا هو، ولا يرجون إلا هو، ولا يستعينون إلا به إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة آية ٥].
الحامدون الله ربهم في السراء والضراء إذ كل ما يصيب المسلم فهو بقضاء الله وقدره لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ «١» وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب، السائحون في الأرض يجوبونها لغرض شريف ومعنى كريم كالجهاد في سبيل الله أو طلب العلم، أو التجارة أو الكسب الحلال، أو لاكتشاف ما في الملكوت من معاني عظمة الله وقدرته والوقوف على أحوال الناس للعبرة والعظة، وقيل المراد بالسياحة: الصوم
لقوله صلّى الله عليه وسلم «سياحة أمّتى الصّوم».
(١) سورة الحديد آية ٢٣.
20
الراكعون الساجدون في الصلاة، والآمرون بالمعروف شرعا والناهون عن المنكر، وهاتان الصفتان من لوازم الجماعات وقوامها.
والحافظون لحدود الله كلها، وحدود الله هي شرائعه وأحكامه التي تشمل ما يجب على الفرد والجماعة وجوبا عينيا أو كفائيا، ولعل ذكر هذا الوصف بالواو وحده لأنه جماع الأصناف كلها وكأن ما مضى كله نوع وهو وحده نوع.
ها هي صفات المؤمنين الكاملة، وثوابهم الكامل، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أى: أن الآية عامة في كل مجاهد في سبيل الله موصوف بهذه الصفات إلى يوم القيامة.
الاستغفار للمشركين ومتى يؤاخذ الله على الذنب؟ [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
21
روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية فقال: يا عم. قل: لا إله إلا الله.
كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ولم يزل يكرر رسول الله: ولكن الله لم يوفق أبا طالب وقال، هو على ملة عبد المطلب.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فنزلت الآية.
ولا تنس موقف أبى طالب مع النبي ونصرته له، وفي روايات أخرى أنها نزلت في استغفار بعض الصحابة لأقاربهم. وفي ظني أن الرواية الأولى ضعيفة لأن سورة التوبة من آخر القرآن نزولا.
المعنى:
ما كان من شأن النبي والمؤمنين أى: ما يصح أن يصدر من النبي من حيث كونه نبيا ومن حيث كونهم مؤمنين لا يصح منهم أن يدعو الله طالبين المغفرة للمشركين بعد قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [سورة النساء آية ٤٨] وبعد قوله في سورة البراءة: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وبعد قوله- تعالى-:
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ [سورة الممتحنة الآية ٤] وهذا نفى، والمراد منه النهى وهو أبلغ لأن نفى الشأن أبلغ من نفى الشيء نفسه.
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين مطلقا ولو كانوا أولى قربى، وعند عدمها من باب أولى، هذا الحكم يسرى من بعد ما تبين لهم أنهم أعداء الله وذلك بعد الموت، أما قبله فإن كان الاستغفار بمعنى طلب الهداية والتوفيق للإسلام فجائز. وإن كان بمعنى المغفرة بلا إسلام فغير جائز، وإنما يظهر أن الكافر من أصحاب الجحيم وأنه عدو لله بموته على الشرك أو بوحي من الله.
وكان استغفار إبراهيم لأبيه آزر بقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «١» بمعنى وفقه للإسلام كما يفهم من تعليله إنه كان من الضالين وما كان استغفار إبراهيم إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله لأستغفرن لك ربي وهذه الموعدة مبنية على عدم تبين أمره فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وعلى هذا فمن استغفر لحى يرجو إيمانه يقصد سؤال الله له الهداية فلا بأس.
(١) سورة الشعراء آية ٨٦.
22
قال ابن عباس: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات وتبين له أنه عدو لله وأنه من أصحاب الجحيم تبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له كما هو مقتضى الإيمان.
إن إبراهيم لأواه كثير التأوه والتحسر، والخشوع، والدعاء لله، حليم لا يستفزه غضب ولا جهل ولا طيش به هو صبور عطوف صفوح، وهذا تذيل يفيد اتصاف إبراهيم بما ذكر، وأنه يأتسى به في ذلك.
لما نزل المنع من الاستغفار خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم قبل البيان وقد مات جماعة منهم قبل النهى فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً.. الآية.
وما كان الله ليقضى على قوم بالضلال ويحكم عليهم بذلك. بعد إذ هداهم ووفقهم للإيمان الكامل بمجرد قول أو عمل صدر عنهم خطأ في الاجتهاد حتى يتبين لهم ما يتقون الله به بيانا شافيا واضحا، إن الله بكل شيء عليم، فالله لا يؤاخذهم إلا بعد أن يبين لهم شريعته ويوقفهم على حكمه.
واعلموا أن الله له ملك السموات والأرض بيده الأمر كله، يحيى يميت. لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. فلا تهمنكم القرابة والصلة ولا تخشوا إلا الله، وما لكم ولى ولا نصير من غيره- سبحانه وتعالى-.
التوبة وشروطها، والصدق وفضله [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
23
المفردات:
ساعَةِ الْعُسْرَةِ المراد: وقت العسرة أى: الشدة يَزِيغُ يميل عن الصراط المستقيم خُلِّفُوا أخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب الله عليهم بعد ذلك، فهم قد خلفوا عن أبى لبابة وأصحابه في قبول التوبة بِما رَحُبَتْ أي: برحبها وسعتها.
المعنى:
للتوبة معنيان: أولهما العطف والرضا عن العباد وعن أعلاهما. ثانيهما: قبول التوبة منهم بعد توفيقهم إليها، وكانت توبة الله على النبي صلّى الله عليه وسلم من النوع الأول.
وقد فسر البعض توبة الله على النبي صلّى الله عليه وسلم حيث أذن لبعض المنافقين وكان الأولى الانتظار عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا.. الآية وأما المهاجرون والأنصار فقد كانت غزوة تبوك في ساعة العسرة والشدة، وقد تجاوز الله عن هفواتهم وتثاقلهم عن المسير (وهذا كله من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين).
وفي الكشاف هذه الآية مثل قوله- تعالى-: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «١» وهذا حث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إليها حتى النبي المعصوم والمهاجرين والأنصار، وفي ذلك إبانة لفضلها ومقدارها عند الله، وأنها صفة الأنبياء والسابقين، وهذا كلام حسن وتخريج جميل.
(١) سورة الفتح آية ٢.
24
لقد تاب الله على النبي صلّى الله عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار مما ألم به بعضهم، وذلك لأنهم اتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلم ساعة العسرة والشدة، ولبوا نداء الرسول صلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
وكانت عسرة في الزاد حتى اقتسم بعضهم التمرة، وفي بعض الروايات كانوا يمتصونها وقد تزود بعضهم بحفنة شعير مسوس وتمر فيه دود، وكانت عسرة في الماء حتى أنهم نحروا البعير وعصروا كرشه ليبلوا به ألسنتهم، وكانت عسرة في الظهر حتى كان العشرة يعتقبون بعيرا واحدا، وعسرة في الزمن إذ كان الوقت في نهاية الصيف حيث يشتد الحر ويكثر القيظ والعطش، وفي أخبار السير الشيء الكثير عن الشدة التي كانوا فيها.
أولئك اتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلم من بعد ما قرب أن يزيغ قلوب فريق منهم عن صراط الإسلام بعصيان الرسول، والتخلف بغير عذر مقبول، والظاهر والله أعلم أنهم المتخلفون بغير عذر، ولا نفاق معهم وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم فتاب الله عليهم. إنه بهم رءوف رحيم.
أما الثلاثة الذين خلفوا أى: أرجئوا حتى ينزل فيهم قرآن وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. فقد تاب الله عليهم بعد أن أرجئوا خمسين يوما بعد مجيء الرسول إلى المدينة، وخير ما يبين لنا هذه الآية وما بعدها حديث كعب ابن مالك المروي في كتب الحديث وأشهر كتب التفسير وخلاصته:
روى الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال- أى عبد الله-: سمعت عن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله في غزوة تبوك.
قال كعب ما معناه: لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أنى تخلفت في بدر، ولم يعاتب أحد عن التخلف عنها لخروج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى العير إلخ ما هو معروف.. تخلفت عن غزوة تبوك ولم يكن أحد أقوى منى ولا أيسر، وكانت عندي راحلتان وكان رسول الله قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها إلا هذه فكانت في حر شديد وسفر بعيد، ومع عدو كثير فجلا للمسلمين أمرهم ليأخذوا حذرهم، ويتأهبوا لغزوهم، وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين الثمار والظلال وأنا إليها أصعر (أى أميل) وتجهز معه المسلمون: وطفقت أعدو لكي أتجهز فأرجع ولا أقضى، فأقول أنا قادر على ذلك إن أردت!! فلم يزل ذلك يتمادى حتى استمر
25
بالناس الجد، فأصبح رسول الله غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا، وعللت نفسي بأنى سألحق بعد يوم أو يومين، ولم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أنى فعلت، ثم لم يقدر لي ذلك، فطفقت وقد خرج الناس يحزنني أنى لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق (مطعونا عليه في دينه) أو معذورا من ضعيف أو مريض.
قال كعب: ولما بلغني أن رسول الله قفل راجعا حضرني بثي وحزنى فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأى من أهلى فلما قيل لي إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل حتى عرفت أنى لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وكان إذا جاء من سفره ركع ركعتين في المسجد ثم جلس للناس. فلما فعل جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، وقال لي: «ما خلفك؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قال: قلت يا رسول الله: إنى والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا (فصاحة وقوة في البيان) ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن يسخطك على. ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه (تغضب على فيه) إنى لأرجو فيه عقبى الله. يا رسول الله: ما كان لي عذر. والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك. فقال رسول الله: «أمّا هذا فقد صدق فقم حتّى يقضى الله فيك» فقمت وأنبنى ناس لسلوكى هذا المسلك، ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحد؟
قالوا: نعم لقيه معك مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا له رجلين صالحين قد شهدا بدرا.
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه.
قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا كنت أخرج إلى الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟!.
26
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم بعد الأربعين أرسل لهم من يبلغهم باجتناب نسائهم ففعلوا واستأذنت امرأة هلال في خدمته فأذن لها لكبره وضعفه قال كعب بن مالك: فقلت لزوجي: الحقي بأهلك. ومكثت عشر ليال على ذلك وبينما أنا في صلاة الفجر وإذا بالبشرى تزف إلى من كل جانب: أن الله قد تاب علينا وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوننى بالتوبة.
وهكذا التوبة الصادقة، التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه فلم يعد للسرور مكان فيها، وأن يعتقد ألا ملجأ من الله وعذابه إلا إليه، وما يتبع ذلك من الندم والعزم على عدم الرجوع إلى الذنب أبدا، ورد المظالم إلى أهلها إن كانت.
ثم تاب الله عليهم ووفقهم للتوبة المقبولة ليتوبوا ويرجعوا إليه رجوعا خالصا إن الله هو التواب الرحيم.
وقد كان للصدق أثر كبير في قبول توبة هؤلاء الثلاثة، ولذا أردف الله توبتهم بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ المخلصين.
وإنى أختم الكلام على هذه الآية الكريمة
بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالصّدق فإنّ الصّدق يهدى إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدى إلى الجنة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا»
والكذب على ضد ذلك
ففي الحديث: «إيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدى إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا».
وجوب الجهاد مع رسول الله وجزاؤه [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
27
المفردات:
ظَمَأٌ عطش نَصَبٌ تعب ومشقة مَخْمَصَةٌ جوع وادِياً مسيل الماء في متعرجات الجبال وأغوار الآكام.
المعنى:
الجهاد في سبيل الله أعلى شعبة في الإيمان، وأقدس عمل يقوم به الفرد ليرد عادية العدو عن وطنه وليرسى قواعد الحق والعدل، والجهاد مع رسول الله شرف كبير، وسمو عظيم ما كان يصح ولا ينبغي لأحد أن يتخلف عنه خاصة أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب كبعض أفراد قبيلة مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، نعم ما كان يصح لهؤلاء وهم سكان عاصمة الإسلام وجيران الرسول والمتمتعون بصحبته أن يتخلفوا عنه، ويرغبوا بمتاع أنفسهم وراحتهم، عن بذلها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة من الجهاد وتحمل المشاق في سبيل الله وكيف يكون ذلك منهم؟ وفي الحديث «لا يكمل إيمان المرء حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله».
وللزمخشري عبارة جميلة في تفسير هذه الآية بكشافه.. وهذا النفي يفيد النهى عن التخلف ووجوب الجهاد مع رسول الله، ذلك الوجوب بسبب أن لهم فيه أجرا عظيما، فلا يصيبهم ظمأ ولا تعب، ولا مشقة من جوع وألم، في سبيل الله، إلا كان لهم بذلك صدقة، ولا يطئون موطئا من أرض الكفر يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو
28
نيلا من قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة إلا كتب لهم بذلك كله عمل صالح، وثواب جزيل يكافئ ما قدموه وزيادة، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!! ولا ينفقون نفقة صغيرة مهما كانت، ولا كبيرة مهما عظمت، ولا يقطعون واديا بالسير فيه إلى العدو إلا كتب لهم به الجزاء الأوفى ليجزيهم الله أحسن الجزاء على ما كانوا يعملون. فإن الجهاد في الله فريضة تحفظ الإيمان ووطن الإسلام، وليست هناك أمة تترك الجهاد إلا ذلت واستعبدت.
طلب العلم فريضة [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
المفردات:
طائِفَةٌ جماعة لِيَتَفَقَّهُوا ليتعلموا الفقه والأحكام الشرعية.
لما تعرض القرآن الكريم للمتخلفين عن الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلم وناقشهم نقاشا عنيفا كشف فيه أستار النفاق، ولام من تثاقل عن الغزو من المؤمنين ووبخهم على التخلف، صار المسلمون إذا أرسل النبي سرية من السرايا خرجوا جميعا وتركوا النبي وحده بالمدينة. فنزلت الآية ترتب أمورهم وتنظم جماعتهم، قال ابن عباس هذه الآية مخصوصة بالسرايا التي يرسلها الرسول، وما قبلها كقوله تعالى مثلا: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مخصوصة بحالة النفير العام إذا ما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم للقتال.
29
المعنى:
وما كان ينبغي للمؤمنين من حيث هذا الوصف أن يخرجوا للقتال جميعا [وهذا في غير النفير العام كما سبق] أى: في السرايا فإن الخروج فيها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
فلولا نفر وخرج للقتال من كل فرقة كبيرة كالقبيلة أو البلد جماعة قليلة يقدر عددها بقدر الظروف والملابسات، وذلك ليتأتى للمؤمنين في جملتهم التفقه في الدين والوقف على أسرار التنزيل، فيكون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة يتعلمون منه الأحكام، ويأخذون عنه القرآن حتى إذا ما رجع المجاهدون من الميدان بلغوهم ما نزل من القرآن وأوقفوهم على ما جد من الأحكام، وذلك كله رجاء أن يحذروا عقاب الله ويخافوا بطشه.
ومن هنا نعلم أن الآيات تشير إلى وجوب الجهاد العام إذا ما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم وكذا الحاكم العام للغزو أى: في حالة التغير العام وهذه تقدر بظروفها أما في غيرها فيخرج للجهاد بعض الشعب لا كله.
وتشير الآية إلى أن تعلم العلم أمر واجب على الأمة جميعا وجوبا لا يقل عن وجوب الجهاد والدفاع عن الوطن واجب مقدس، فإن الوطن يحتاج إلى من يناضل عنه بالسيف وإلى من يناضل عنه بالحجة والبرهان، بل إن تقوية الروح المعنوية، وغرس الوطنية وحب التضحية، وخلق جيل يرى أن حب الوطن من الإيمان، وأن الدفاع عنه واجب مقدس. هذا أساس بناء الأمة، ودعامة استقلالها.
وتشير الآية الكريمة إلى أن غاية طلب العلم هو التفقه في الدين، وفهم أسراره فهما تصلح به نفس العالم حتى يكون ربانيا وقرآنيا، وأن أثر ذلك في الخارج هو الدعوة إلى الله وإنذار قومك إذا رجعت إليهم، فتعلمهم، وتثقفهم، وتهديهم، وتربيهم على حب الخير، وعلى حب العمل والجد، وأن الله يحب المؤمن القوى في نفسه وعقله وخلقه وعلمه وبدنه، وهذه هي مهمة الرسل الكرام.
وإن وضع الآية التي تشير إلى العلم والتعلم في وسط آيات الجهاد والقتال لمن المعجزات التي كشف عنها هذا العصر. فإن الحروب اليوم تعتمد على العلم والفقه الحربي أكثر مما تعتمد على السلاح.
30
توجيهات في قتال الكفار [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
المفردات:
يَلُونَكُمْ يتصلون بكم بالجوار وقرب الديار غِلْظَةً شدة وخشونة.
المعنى:
يا أيها المؤمنون قاتلوا الكفار الذين يدنون منكم، وتتصل بلادهم ببلادكم فإن القتال شرع في الإسلام لتأمين حرية الدعوة إليه، وتأمين سلامة دولته مع الحرية في الدين، وأنه لا إكراه فيه أبدا، وجبران المسلمين من الروم والفرس والقبائل العربية الخاضعة لهم كثيرا ما كانت تغير على أطراف الدولة الإسلامية، وتؤلب القبائل ضد الدعوة المحمدية، ولا تنسى ما فعله اليهود في خيبر وغيرها، والدعوة الإسلامية أساسها الدعوة إلى الأقرب فالأقرب، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فهي وإن كانت دعوة عامة، وأرسل النبي إلى الناس كافة وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أى: لأنذر العرب به ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سار هو وأصحابه من بعده على دعوة الأقرب فالأقرب وقتال الأقرب فالأقرب، ولهذا حكم سياسية واقتصادية وحربية يعرفها أصحاب الحروب والدعوات.
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة وشدة ويقابلوا فيكم قوما أولى بأس وعزيمة حتى تنخلع قلوبهم. وتضطرب نفوسهم فترجع إلى هدى القرآن تتفهمه.
واعلموا أن الله مع المتقين يعينهم معونة نصر ومساعدة، والمتقون الله هم المؤمنون
العاملون المخلصون، العابدون الحامدون، المحافظون على حدود الله الحاكمون بقوانين الإسلام.
المنافقون واستقبالهم القرآن [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
المفردات:
إِيماناً الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس المصحوب بالعمل يَسْتَبْشِرُونَ من البشرى وهي السرور والفرح مَرَضٌ شك ونفاق رِجْساً كفرا ونفاقا يُفْتَنُونَ الفتنة الاختبار والابتلاء.
المعنى:
النفاق مرض خبيث يدفع صاحبه إلى العمل الرديء وهكذا كان المنافقون أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا ما أنزلت سورة من القرآن وبلغتهم، فمنهم من يقول لأصحابه من المنافقين
32
أو لضعفة المؤمنين، أيكم زادته هذه إيمانا بأن القرآن من عند الله وتصديقا بأن محمدا صادق في دعواه؟ ولا شك أن الإيمان بمعنى التصديق الجازم المقرون بإذعان النفس يزيد بنزول القرآن، وبسماعه وتلاوته خاصة من النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال الله- تعالى- جوابا لسؤالهم، فأما الذين آمنوا حقا بالله ورسوله، وحل نور الإسلام في قلوبهم. فزادتهم هذه السورة بل الآية الواحدة إيمانا على إيمانهم ويقينا على يقينهم، واطمئنانا على اطمئنانهم، والحال أنهم يستبشرون ويفرحون. وأما الذين في قلوبهم مرض وشك ونفاق دعاهم إلى إظهار الإسلام وإبطال الكفر، فهذه السورة أو غيرها زادتهم رجسا على رجسهم. وكفرا على كفرهم، ونفاقا على نفاقهم حتى استحوذ عليهم الرجس والكفر والنفاق وماتوا وهم كافرون.
أيجهلون هذا ويغفلون عن حالهم؟ وقد توالت عليهم الاختبارات، وحلت بهم الإنذارات تلو الإنذارات، التي يظهر بها الإيمان من النفاق، ويتميز بها الحق من الباطل، هذه الفتن والاختبارات كانت بالآيات التي هي دالة على صدق الرسول فيما يبلغه عن ربه، وهذه الآيات التي نصحتهم وكشفت سرهم، وأبانت حقيقتهم، أليست هذه نذرا كافية في أنهم يرتدعون عن نفاقهم الباطل؟
ثم بعد هذا كله لا يتوبون ولا هم يتعظون.
وإذا ما أنزلت سورة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم جلوس في مجلسه نظر بعضهم إلى بعض نظر لؤم وخبث، وأخذوا يتغامزون بالعيون وذلك لفساد قلوبهم وسوء سريرتهم.
ينظرون إلى بعض ثم يقولون: هل يراكم من أحد إذا نحن انصرفنا ثم انصرفوا وخرجوا لواذا متسللين، تبا لهم ثم تبا.
صرف الله قلوبهم عن الخير والنور، وذلك بأنهم قوم لا يفقهون. نعم لا يفقهون الدعوة وسرها، وما فيها لأن قلوبهم في أكنة لا يصل إليها نور أبدا، فهم معرضون يجعلون أصابعهم في آذانهم، من شدة الحقد، وفساد الطبع وخبث الطوية، ألا قاتلهم الله أنى يؤفكون، وهنا فرق بين من يحاول الفهم والحكم الصحيح، وبين من يعرض ولا يقبل النظر في الآيات أبدا، والمنافقون من النوع الثاني. أما المؤمنون فإذا تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم، وخضعت أعناقهم، وغابت نفوسهم عن كل ما حولهم فلا يسمعون إلا القرآن!!
33
الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونفسه الكريمة [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
المفردات:
عَزِيزٌ عَلَيْهِ يقال: عز على فلان الأمر واشتد عليه ما عَنِتُّمْ العنت المشقة ولقاء المكروه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ الحرص شدة الرغبة في الحصول على المفقود وشدة العناية بحفظ الموجود رَؤُفٌ الرأفة أخص من الرحمة، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة ولذا قالوا: رأف بولده وترأف به. وأما الرحمة فعامة تشمل الجميع، وقيل: هما بمعنى واحد.
المعنى:
أيها العرب ما لكم لا تسرعون في الدخول إلى الدين أفواجا والتصديق بذلك النبي العربي الأمى؟! فأنتم أولى الناس به. ولذا اختار جمهور المفسرين أن يكون الخطاب في الآية للعرب إذ المنة عليهم أعظم، والحجة عليهم ألزم.
تالله لقد جاءكم أيها العرب رسول منكم تعرفون لغته وخلقه، وتعلمون من شأنه ما لا يعلمه غيركم، هذا النبي الكريم موصوف بصفات كلها تدعو إلى تصديقه واتباعه خاصة من العرب، وهذا لا يمنع أنه أرسل للكل قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف الآية ١٥٨] وهو رحمة للناس بشيرا ونذيرا.
وصفاته صلّى الله عليه وسلّم التي أثبتها له القرآن في هذه الآية:
34
(أ) عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، شديد على طبعه الكريم عنتكم ومشقتكم في الدنيا والآخرة إذ هو منكم يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم.
(ب) حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ. نعم كان صلّى الله عليه وسلّم حريصا على إيمان الناس جميعا خاصة العرب لأن إيمان العرب مدعاة لإيمان غيرهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ «١». فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «٢».
(ج) بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وكيف لا يكون كذلك وكل تعاليمه ونصائحه تهدى إلى الخير، وترنو إلى الإصلاح والرشاد للأمة الإسلامية في العاجل والآجل، وانظر يا أخى وفقك الله إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «٣» وإلى قوله هنا: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ولذا قال الحسين ابن الفضل: لم يجمع الله- سبحانه- لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا النبي صلّى الله عليه وسلم.
فإن تولوا واعرضوا عنك بعد هذا كله فقل حسبي الله وحده لا إله إلا هو، عليه وحده توكلت، واعتمدت، وفوضت أمرى إليه، وكيف لا يكون ذلك؟ وهو رب العرش العظيم- سبحانه وتعالى-.
(١) سورة النحل آية ٣٧.
(٢) سورة الكهف آية ٦.
(٣) سورة البقرة آية ١٤٣.
35
Icon