عليه السلام وهي مائة وثلاث وعشرون آية
ﰡ
﴿ أُحْكِمَتْ ءاياته ﴾ نظمت نظما رصينا محكماً لا يقع في نقض ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف. ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة، من «حكم » بضم الكاف، إذا صار حكيماً : أي جعلت حكيمة، كقوله تعالى :﴿ آيات الكتاب الحكيم ﴾ [ يونس : ١ ] وقيل : منعت من الفساد، من قولهم : أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. قال جرير :
أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم ***إنِّي أخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا
وعن قتادة : أُحكمت من الباطل ﴿ ثُمّ فُصّلَتْ ﴾ كما تفصل القلائد بالفرائد، من دلائل التوحيد، والأحكام، والمواعظ، والقصص. أو جعلت فصولاً، سورة سورة، وآية آية. وفرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة. أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد : أي بين ولخص. وقرئ :«أحكمت آياته ثم فصلت » أي أحكمتها أنا ثم فصلتها. وعن عكرمة والضحاك : ثم فصلت، أي فرّقت بين الحق والباطل. فإن قلت : ما معنى ثم ؟ قلت : ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل. وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل، وكتاب : خبر مبتدأ محذوف وأحكمت : صفة له. وقوله :﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ صفة ثانية. ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت، أي : من عنده إحكامها وتفصيلها، وفيه طباق حسن ؛ لأنَّ المعنى : أحكمها حكيم وفصلها : أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ ﴾ مفعول له على معنى : لئلا تعبدوا. أو تكون «أن » مفسرة ؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله.
﴿ وَأَنِ استغفروا ﴾ أي أمركم بالتوحيد والاستغفار. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة. ويدل عليه قوله :﴿ إِنّنى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾ كأنه قال : ترك عبادة غير الله، إنني لكم منه نذير، كقوله تعالى :﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ [ محمد : ٤ ] والضمير في ﴿ مِّنْهُ ﴾ لله عز وجل، أي : إنني لكم نذير وبشير من جهته، كقوله :﴿ رَسُولٌ مّنَ الله ﴾ [ البينة : ٢ ] أو هي صلة لنذير، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. فإن قلت : ما معنى ثم في قوله :﴿ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ﴾ ؟ قلت : معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. أو استغفروا، والاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله :﴿ ثُمَّ استقاموا ﴾ [ الأحقاف : ١٣ ]. ﴿ يُمَتّعْكُمْ ﴾ يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعمة متتابعة ﴿ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ إلى أن يتوفاكم، كقوله :﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] ﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه. أو فضله في الثواب، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات ﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ وإن تتولوا ﴿ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ هو يوم القيامة، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل.
وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء، فكان قادراً على أشدّ ما أراد من عذابهم لا يعجزه. وقرئ :«وإن تولوا » من ولي.
﴿ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾ يزورّون عن الحق وينحرفون عنه ؛ لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ﴿ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ﴾ يعني : ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون - لقود المعنى إلى إضماره - الإضمار في قوله تعالى :﴿ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق ﴾ [ الشعراء : ٦٣ ] معناه فضرب فانفلق. ومعنى ﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾ ويزيدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً، كراهة لاستماع كلام الله تعالى : كقول نوح عليه السلام :﴿ جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم واستغشوا ثِيَابَهُمْ ﴾ [ نوح : ٧ ] ثم قال :﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم، ونفاقهم غير نافق عنده. روي أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته، وهو يضمر خلاف ما يظهر. وقيل : نزلت في المنافقين. وقرئ :«تثنوني صدورهم »، «واثنونى » من الثني، كاحلولى من الحلاوة، وهو بناء مبالغة، قرىء بالتاء والياء. وعن ابن عباس لتثنوني. وقرئ تثنونّ وأصله تثنونن «تفعوعل » من الثن وهو ما هش وضعف من الكلأ، يريد : مطاوعة صدورهم للثني، كما ينثني الهش من النبات. أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. وقرئ :«تثنئن » من اثنأن «افعال » منه، ثم همز كما قيل : ابيأضت، وادهأمت وقرئ :«تثنوي » بوزن ترعوي.
فإن قلت : كيف قال :﴿ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾ بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل ؟ قلت : هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم، رجع التفضل واجباً كنذور العباد. والمتستقرّ : مكانه من الأرض ومسكنه. والمستودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار، من صلب، أو رحم، أو بيضة ﴿ وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها في اللوح، يعني ذكرها مكتوب فيه مبين.
﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء ﴾ أي ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض. وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض. وقيل : وكان الماء على متن الريح، والله أعلم بذلك، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ متعلق بخلق، أي خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم. يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون. فإن قلت : كيف جاز تعليق فعل البلوى ؟ قلت : لما في الاختبار من معنى العلم ؛ لأنه طريق إليه فهو ملابس له، كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن صوتاً ؛ لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم. فإن قلت كيف قيل :﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح ؟ قلت : الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه، وليكون ذلك لطفاً للسامعين، وترغيباً في حيازة فضلهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
" ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " قرىء :«ولئن قلت إنكم مبعثون » بفتح الهمزة. ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق عنك تشتري لنا لحماً، وأنك تشتري بمعنى علك، أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون، بمعنى : توقعوا بعثكم وظنوه، ولا تبتوا القول بإنكاره، لقالوا :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ باتين القول ببطلانه. ويجوز أن تضمن «قلت » معنى «ذكرت » ومعنى قولهم :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أنّ السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر تشبيهاً له به. أو أشاروا بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. وقرىء :«إن هذا إلا ساحر »، يريدون الرسول، والساحر : كاذب مبطل.
﴿ العذاب ﴾ عذاب الآخرة. وقيل عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين ﴿ إلى أُمَّةٍ ﴾ إلى جماعة من الأوقات ﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ ما يمنعه من النزول استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء. و ﴿ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ﴾ منصوب بخبر ليس، ويستدل به من يستجيز تقديم خبر ليس على ليس، وذلك أنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها، كان ذلك دليلاً على جواز تقديم خبرها ؛ إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلا حيث يقع العامل ﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾ وأحاط بهم ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزئون ﴾ العذاب الذي كانوا به يستعجلون. وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون ؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة الاستهزاء. والمعنى : ويحيق بهم إلا أنه جاء على عادة الله في أخباره.
﴿ الإنسان ﴾ للجنس ﴿ رَحْمَةً ﴾ نعمة من صحة وأمن وجدة ﴿ ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ ﴾ ثم سلبنا تلك النعمة ﴿ إنه ليؤوس ﴾ شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة. قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع ﴿ كَفُورٌ ﴾ عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نَسَّاءٌ له.
﴿ ذَهَبَ السيئات عَنّي ﴾ أي المصائب التي ساءتني ﴿ إِنَّهُ لَفَرِحٌ ﴾ أشر بطر ﴿ فَخُورٌ ﴾ على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر.
﴿ إِلاَّ الذين ﴾ آمنوا، فإنّ عادتهم إن نالتهم رحمة أن يشكروا، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا.
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم
﴿ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ ﴾ وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله :
﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ ﴾ أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به
﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ بأن تتلوه عليهم
﴿ أَن يَقُولُواْ ﴾ مخافة أن يقولوا :
﴿ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ ﴾ أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه، ثم قال :
﴿ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ﴾ أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا
﴿ والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ ﴾ يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم. فإن قلت : لم عدل عن ضيق إلى ضائق ؟ قلت : ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً. ومثله قولك : زيد سيد وجواد، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد ونحوه كانوا قوماً عامين في بعض القراءات، وقول السمهري العكلي :
بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِن | بِهَا وَكِرَامُ النّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا |
﴿ أَمْ ﴾ منقطعة. والضمير في ﴿ افتراه ﴾ لما يوحى إليك. تحداهم أوّلا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه : اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال : قد اقتصرت منك على سطر واحد ﴿ مِّثْلِهِ ﴾ بمعنى أمثاله، ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له ﴿ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ صفة لعشر سور لما قالوا : افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله، قاودهم على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال : هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي وأنّ الأمر كما قلتم، فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام. فإن قلت : كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى ؟ قلت : معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى.
فإن قلت : ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله :﴿ لَكُمْ فاعلموا ﴾ بعد قوله :﴿ قُلْ ﴾ ؟ قلت : معناه فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، وقد قال في موضع آخر :﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم ﴾ [ القصص : ٥٠ ] ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله :
فَإنْ شَئْتُ حَرَّمْتُ النْسَاءَ سِوَاكُمُ ***
وووجه آخر : وهو أن يكون الخطاب للمشركين، والضمير في ﴿ لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ ﴾ لمن استطعتم، يعني : فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه ﴿ فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله ﴾ أي أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه ﴿ و ﴾ اعلموا عند ذلك ﴿ و أَن لاَّ إله إِلاَّ ﴾ الله وحده، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة، وهذا وجه حسن مطرد. ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه : فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد. ومعنى ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ فهل أنتم مخلصون ؟
﴿ نُوَفّ إِلَيْهِمْ ﴾ نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق. وقيل : هم أهل الرياء. يقال للقراء منهم : أردت أن يقال : فلان قارىء، فقد قيل ذلك. ولمن وصل الرحم وتصدّق : فعلت حتى يقال، فقيل ولمن قاتل فقتل : قاتلت حتى يقال فلان جريء، فقد قيل : وعن أنس بن مالك : هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلاً أو وصلوا رحماً، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل : هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم. وقرىء :«يوفّ » بالياء على أن الفعل لله عز وجل. وتوفَّ إليهم أعمالهم بالتاء، على البناء للمفعول. وفي قراءة الحسن :«نوفي »، بالتخفيف وإثبات الياء، لأنّ الشرط وقع ماضياً، كقوله :
يَقُولُ لاَ غائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ***
﴿ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا ﴾ وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم، يعني : لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفي إليهم ما أرادوا ﴿ وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي كان عملهم في نفسه باطلاً، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له. وقرئ :«وبطل » على الفعل. وعن عاصم : وباطلا بالنصب، وفيه وجهان : أن تكون ما إبهامية وينتصب بيعملون، ومعناه : وباطلاً، أيّ باطل كانوا يعملون. وأن تكون بمعنى المصدر على : وبطل بطلاناً ما كانوا يعملون.
﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ ﴾ معناه : أمّن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة ﴿ مّن رَّبّهِ ﴾ أي على برهان من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل ﴿ وَيَتْلُوهُ ﴾ ويتبع ذلك البرهان ﴿ شَاهِدٌ مّنْهُ ﴾ أي شاهد يشهد بصحته، وهو القرآن ﴿ مِنْهُ ﴾ من الله، أو شاهد من للقرآن، فقد تقدّم ذكره آنفاً ﴿ وَمِن قَبْلِهِ ﴾ ومن قبل القرآن ﴿ كِتَابُ موسى ﴾ وهو التوراة، أي : ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى. وقرئ :«كتاب موسى » بالنصب، ومعناه : كان على بينة من ربه، وهو الدليل على أنّ القرآن حق، ﴿ وَيَتْلُوهُ ﴾ : ويقرأ القرآن ﴿ شَاهِدٌ مّنْهُ ﴾ شاهد ممن كان على بينة. كقوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسرائيل على مِثْلِه ﴾ [ الأحقاف : ١٠ ]، ﴿ قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ [ الرعد : ٤٣ ]، ﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى ﴾ ويتلو من قبل القرآن والتوراة ﴿ إِمَاماً ﴾ كتاباً مؤتما به في الدين قدوة فيه ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ ونعمة عظيمة على المنزل إليهم ﴿ أولئك ﴾ يعني من كان على بينة ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ يؤمنون بالقرآن ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب ﴾ يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزِّبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ ﴾ وقرئ :«مُرية » بالضم وهما الشك ﴿ مِّنْهُ ﴾ من القرآن أو من الموعد.
﴿ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ ﴾ يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم ﴿ الأشهاد ﴾ من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكاً، ويقال ﴿ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ فواخزياه ووافضيحتاه. والأشهاد : جمع شاهد أو شهيد، كأصحاب أو أشراف.
﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة. أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد، وهم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به.
﴿ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض ﴾ أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم، وهو من كلام الأشهاد ﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب ﴾ وقرئ :«يضعف » ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع ﴾ أراد أنهم لفرط تصامّهم عن استماع الحق وكراهتهم له، كأنهم لا يستطيعون السمع ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان : هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي. ويحتمل أن يريد بقوله :﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ دون الله أَوْلِيَاء ﴾ أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، وولايتها ليست بشيء، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء، ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ فكيف يصلحون للولاية. وقوله :﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب ﴾ اعتراض بوعيد.
﴿ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ﴾ اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم ما لا خسران أعظم منه، وهو أنهم خسروا أنفسهم ﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ من الآلهة وشفاعتها.
﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ فسر في مكان آخر ﴿ هُمُ الأخسرون ﴾ لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم.
﴿ وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ ﴾ واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة. ومنه قولهم للشيء : الدنيء الخبيت. قال :
يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْقَلِيلُ مِنَ الرِّز | قِ وَلاَ يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الْخَبِيتُ |
وقيل : التاء فيه بدل من الثاء.
شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللف والطباق. وفيه معنيان : أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم، أو الذي جمع بين البصر والسمع. على أن تكون الواو في ﴿ والأصم ﴾ وفي ﴿ والسميع ﴾ لعطف الصفة على الصفة، كقوله :
الصَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ ***
﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ ﴾ يعني الفريقين ﴿ مَثَلاً ﴾ تشبيهاً.
أي أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير. ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله :﴿ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ بالكسر، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في ﴿ كَانَ ﴾ والمعنى على الكسر، وهو قولك : إنّ زيداً كالأسد. وقرئ بالكسر على إرادة القول.
﴿ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ﴾ بدل من ﴿ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ ﴾ أي أرسلناه بأن لا تعبدوا ﴿ إِلاَّ الله ﴾ أو تكون «أن » مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه. فإن قلت : فإذا وصف به العذاب ؟ قلت : مجازي مثله، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك : نهارك صائم، وجدّ جدّه.
﴿ الملا ﴾ الأشراف من قولهم : فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقاً له، وقد ملئووا بالأمر ؛ لأنهم ملؤا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون أو لأنهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة ﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ﴾ تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم ؟ ألا ترى إلى قولهم :﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشر. والأراذل جمع الأرذل كقوله :﴿ أكابر مُجْرِمِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ] «أحاسنكم أخلاقاً » وقرئ :«بادي الرأي » بالهمز وغير الهمز، بمعنى : اتبعوك أوّل الرأي أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف، أصله : وقت حدوث أوّل رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا : أن اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله ﴿ مِن فَضْلِ ﴾ من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة، ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين ﴾ فيما تدّعونه.
﴿ أَرَءيْتُمْ ﴾ أخبروني ﴿ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ ﴾ على برهان ﴿ مّن رَّبّى ﴾ وشاهد منه يشهد بصحة دعواي ﴿ وءاتاني رَحْمَةً مِنْ عِندهِ ﴾ بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة : المعجزة، وبالرحمة : النبوّة. فإن قلت : فقوله :﴿ فَعُمّيَتْ ﴾ ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني ؟ وحقه أن يقال فعميتا ؟ قلت : الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة : ومعنى عميت خفيت. وقرىء :«فعميت » بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبي «فعماها عليكم » فإن قلت : فما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. فإن قلت : فما معنى قراءة أبي ؟ قلت : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله :﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون ﴾ يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين ؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً. ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها. ونحوه ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ] ويجوز : فسيكفيك إياهم. وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين ؛ لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر.
والضمير في قوله :﴿ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ راجع إلى قوله لهم :﴿ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله ﴾ [ هود : ٢٥ ]. وقرىء :«وما أنا بطارد الذين آمنوا » بالتنوين على الأصل. فإن قلت : ما معنى قوله :﴿ إنهم ملاقو رَّبُّهُمْ ﴾ ؟ قلت : معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم. أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادىء الرأي من غير نظر وتفكر. وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون. ونحوه ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ الآية [ الأنعام : ٥٢ ]، أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة ﴿ تَجْهَلُونَ ﴾ تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل : من قوله :
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ***
أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم.
﴿ مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله ﴾ من يمنعني من انتقامه ﴿ إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾ وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء.
﴿ أَعْلَمُ الغيب ﴾ معطوف على ﴿ عِندِى خَزَائِنُ الله ﴾ أي لا أقول عندي خزائن الله، ولا أقول : أنا أعلم الغيب.
ومعناه : لا أقول لكم : عندي خزائن الله فأدعي فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلي بقولكم ﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ [ هود : ٢٧ ] ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم ﴿ وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ ﴾ حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولاً على هواكم ﴿ إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين ﴾ إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء : افتعال من زري عليه إذا عابه. وأزرى به : قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.
﴿ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ معناه : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته، كقولك : جاد فلان فأكثر وأطاب ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من العذاب المعجل.
﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله ﴾ أي ليس الإتيان بالعذاب إليّ إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه ﴿ إِن شَاء ﴾ يعني إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم. وقرأ ابن عباس رضي الله عنه. «فأكثرت جدلنا » فإن قلت : ما وجه ترادف هذين الشرطين ؟ قلت : قوله :﴿ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾.
﴿ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ جزاؤه ما دلّ عليه قوله :﴿ لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى ﴾ وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني. فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ ؟ قلت : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواء وإضلالاً، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي فلطف به : سمي إرشاداً وهداية. وقيل :﴿ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ أن يهلككم من غوى الفصيل غوي، إذا بشم فهلك، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي ؟
﴿ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى ﴾ وإجرامي بلفظ المصدر والجمع. كقوله : والله يعلم إسرارهم وأسرارهم. ونحو : جرم وأجرام قفل وأقفال. وينصر الجمع أن فسره الأولون بآثامي والمعنى : إن صح وثبت أني افتريته، فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي. وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني وتتألبوا عليّ ﴿ وَأَنَاْ بَرِىء ﴾ يعني ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه. ومعنى ﴿ مّمَّا تُجْرَمُونَ ﴾ من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.
﴿ لَن يُؤْمِنَ ﴾ إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع
﴿ إِلاَّ مَنْ قَدْ ءَامَنَ ﴾ إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، وقد للتوقع وقد أصابت محزها
﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ ﴾ فلا تحزن حزن بائس مستكين، قال :
مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِس | مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ الْبَالِ |
والمعنى : فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم.
﴿ بِأَعْيُنِنَا ﴾ في موضع الحال، بمعنى : اصنعها محفوظاً، وحقيقته : ملتبساً بأعيننا، كأن لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ووحينا : وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. عن ابن عباس رضي الله عنه : لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر ﴿ وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ ﴾ ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك ﴿ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾ إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضي به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله :﴿ يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾ [ هود : ٧٦ ].
﴿ وَيَصْنَعُ الفلك ﴾ حكاية حال ماضية ﴿ سَخِرُواْ مِنْهُ ﴾ ومن عمله السفينة، وكان يعملها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له : يا نوح، صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً ﴿ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾ يعني في المستقبل ﴿ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ منا الساعة، أي : نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل : إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وروي أنّ نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل : الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط : الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء، وعن الحسن : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة. وقيل : إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال : أتدرون من هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال : هذا كعب بن حام. قال : فضرب الكثيب بعصاه فقال : قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام : هكذا أهلكت ؟ قال لا، مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت. قال : حدثنا عن سفينة نوح. قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات : طبقة للدواب والوحوش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير. ثم قال : له عد بإذن الله كما كنت، فعاد ترابا. ً
﴿ مَن يَأْتِيهِ ﴾ في محل النصب بتعلمون، أي : فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه، ويعني به إياهم، ويريد بالعذاب : عذاب الدنيا وهو الغرق ﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ ﴾ حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه ﴿ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ وهو عذاب الآخرة.
﴿ حتى ﴾ هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن قلت : وقعت غاية لماذا ؟ قلت : لقوله ويصنع الفلك، أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد، فإن قلت : فإذا اتصلت «حتى » بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام ؟ قلت : هو حال من يصنع، كأنه قال : يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه. فإن قلت : فما جواب كلما ؟ قلت : أنت بين أمرين : إما أن تجعل «سخروا » جواباً و «قال » استئنافاً، على تقدير سؤال سائل، أو تجعل «سخروا » بدلاً من «مرّ » أو صفة «لملأ » و «قال » جواباً. ﴿ وَأَهْلَكَ ﴾ عطف على اثنين، وكذلك ﴿ وَمَنْ ءامَنَ ﴾ يعني : واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم. واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه وإرادته به - تعالى الله عن ذلك - قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته ﴿ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كانوا ثمانية : نوح وأهله، وبنوه الثلاثة، ونساؤهم " وعن محمد بن إسحاق : كانوا عشرة : خمسة رجال وخمس نسوة. وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة، وأولاد نوح : سام وحام ويافث، ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون : نصفهم رجال ونصفهم نساء.
ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين ؛ فالكلام الواحد : أن يتصل ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾ ب ( اركبوا ) حالا من الواو، بمعنى : اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم خفوق النجم، ومقدم الحاج. ويجوز أن يراد مكاناً الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾ من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول. والكلامان : أن يكون ﴿ بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ جملة من مبتدأ وخبر مقتضبه، أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال : بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله فرست، ويجوز أن يقحم الاسم، كقوله :
ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا ***
ويراد : بالله إجراؤها وإرساؤها، أي بقدرته وأمره. وقرىء :﴿ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ بفتح الميم، من جرى ورسى، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين. وقرأ مجاهد ﴿ مجريها ومرسيها ﴾ بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله. فإن قلت : ما معنى قولك : جملة مقتضبة ؟ قلت : معناه أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضيه بأن تكون في موضع الحال كقوله :
وَجَاؤُنَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَيَنا ***
فلا تكون كلاماً برأسه، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأوّل، وانتصاب هذه الحال عن ضمير الفلك، كأنه قيل : اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله بمعنى التقدير، كقوله تعالى :﴿ فادخلوها خالدين ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]. ﴿ إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
فإن قلت : بم اتصل قوله :﴿ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ ﴾ ؟ قلت : بمحذوف دل عليه ﴿ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله ﴾ [ هود : ٤١ ] كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون : بسم الله، ﴿ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ ﴾ أي تجري وهم فيها ﴿ فِى مَوْجٍ كالجبال ﴾ يريد موج الطوفان، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها. فإن قلت : الموج : ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض، وكانت الفلك تجري في جوف الماء كما تسبح السمكة، فما معنى جريها في الموج ؟ قلت : كان ذلك قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه : سآوى إلى جبل يعصمني من الماء. قيل : كان اسم ابنه : كنعان. وقيل : يام. وقرأ علي رضي الله عنه : ابنها، والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير : ابنه، بفتح الهاء، يريدان ابنها، فاكتفيا بالفتحة عن الألف، وبه ينصر مذهب الحسن. قال قتادة : سألته فقال : والله ما كان ابنه، فقلت : إن الله حكى عنه إن ابني من أهلي، وأنت تقول : لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، واستدل بقوله :﴿ مّنْ أَهْلِى ﴾ [ هود : ٤٥ ] ولم يقل : مني، ولنسبته إلى أمّه وجهان، أحدهما : أن يكون ربيباً له، كعمر بن أبي سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لغير رشدة، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام. وقرأ السدي «ونادى نوح ابناه » على الندبة والترثي. أي : قال : يا ابناه. والمعزل : مفعل، من عزله عنه إذا نحاه وأبعده، يعني وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين. وقيل : كان في معزل عن دين أبيه ﴿ يابنى ﴾ قرئ بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة، وبالفتح اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك «يا بنيا » أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين ؛ لأنّ الراء بعدهما ساكنة.
﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾ إلا الراحم وهو الله تعالى، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفوراً رحيماً في قوله :﴿ إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ هود : ٤١ ] وذلك أنه لما جعل الجبل عاصماً من الماء قال له : لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة. وقيل لا عاصم، بمعنى : لاذا عصمة إلا من رحمه الله، كقوله :﴿ مَّاء دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٦ ] و ﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] وقيل :«إلا من رحم » استثناء منقطع، كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم، كقوله :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن ﴾ [ النساء : ١٥٧ ] وقرئ «إلا من رُحِم » على البناء للمفعول.
نداء الأرض والسماء بما ينادي به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله :«يا أرض »، «ويا سماء » ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله :«ابلعي ماءك » و «أقلعي » من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا إبطاء. والبلع : عبارة عن النشف. والإقلاع : الإمساك. يقال : أقلع المطر وأقلعت الحمى ﴿ وَغِيضَ الماء ﴾ من غاضه إذا نقصه ﴿ وَقُضِىَ الأمر ﴾ وأنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه ﴿ واستوت ﴾ واستقرّت السفينة ﴿ عَلَى الجودي ﴾ وهو جبل بالموصل ﴿ وَقِيلَ بُعْدًا ﴾ يقال بعد بعدا وبعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره، ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم، لا لتجانس الكلمتين، وهما قوله :«ابلعي » و «أقلعي » وذلك وإن كان لا يخلي الكلام من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور. وعن قتادة : استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء. وروي أنها مرت بالبيت فطافت به سبعاً، وقد أعتقه الله من الغرق. وروي أنّ نوحاً صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكراً لله تعالى.
نداؤه ربه : دعاؤه له، وهو قوله :﴿ رَبّ ﴾ مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله. فإن قلت : فإذا كان النداء هو قوله :«رب » فكيف عطف «قال رب » على «نادى » بالفاء ؟ قلت : أريد بالنداء إرادة النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء، كما جاء قوله :﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَالَ رَبّ ﴾ [ مريم : ٣ ] بغير فاء ﴿ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى ﴾ أي بعض أهلي، لأنه كان ابنه من صلبه، أو كان ريبياً له فهو بعض أهله ﴿ وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق ﴾ وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلي، فما بال ولدي ؟ ﴿ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين ﴾ أي أعلم الحكام وأعدلهم ؛ لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل. ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة، ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر ويجوز أن يكون من الحكمة على أن يبني من الحكمة حاكم بمعنى النسبة كما قيل دارع من الدرع، وحائض وطالق على مذهب الخليل.
﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح ﴾ تعليل لانتفاء كونه من أهله. وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك وخصيصك. ومن لم يكن على دينك - وإن كان أمس أقاربك رحماً - فهو أبعد بعيد منك، وجعلت ذاته عملاً غير صالح، مبالغة في ذمّه، كقولها :
فَإنَّمَا هي إقْبَالٌ وَإدْبَارُ ***
وقيل : الضمير لنداء نوح، أي : إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك - فإن قلت : فهلا قيل : إنه عمل فاسد ؟ قلت : لما نفاه عن أهله، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقي معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك. وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك، كقوله :﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً ﴾ [ التحريم : ١٠ ] وقرئ :«عمل غير صالح » أي عمل عملا غير صالح. وقرئ :«فلا تسئلنّ » بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء، يعني فلا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه. وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. فإن قلت : لم سمي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه ؟ قلت : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.
فإن قلت : قد وعده أن ينجي أهله، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم ديناً، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وسمي سؤاله جهلاً ؟ قلت : إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه.
﴿ أَنْ أَسْأَلَكَ ﴾ من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته، تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك ﴿ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى ﴾ ما فرط مني من ذلك ﴿ وَتَرْحَمْنِى ﴾ بالتوبة عليّ ﴿ أَكُن مّنَ الخاسرين ﴾ أعمالاً.
وقرئ :«يا نوح اهبط » بضم الباء ﴿ بسلام مّنَّا ﴾ مسلماً محفوظاً من جهتنا أو مسلماً عليك مكرّماً ﴿ وبركات عَلَيْكَ ﴾ ومباركاً عليك، والبركات الخيرات النامية. وقرئ :«وبركة » على التوحيد ﴿ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ ﴾ يحتمل أن تكون من للبيان. فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة ؛ لأنهم كانوا جماعات. أو قيل لهم أمم، لأنّ الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لإبتداء الغاية أي : على أمم ناشئة ممن معك، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه. وقوله :﴿ وَأُمَمٌ ﴾ رفع بالابتداء. و ﴿ سَنُمَتّعُهُمْ ﴾ صفة، والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأنّ قوله :﴿ مّمَّن مَّعَكَ ﴾ يدل عليه والمعنى : أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة. وعن محمد بن كعب القرظي : دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر. وعن ابن زيد : هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا، منهم من رحم ومنهم من عذب وقيل : المراد بالأمم الممتعة : قوم هود وصالح ولوط وشعيب.
﴿ تِلْكَ ﴾ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام. ومحلها الرفع على الابتداء، والجمل بعدها أخبار، أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك، مجهولة عندك وعند قومك ﴿ مّن قَبْلِ هذا ﴾ من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها. أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي. أو من قبل هذا الوقت ﴿ فاصبر ﴾ على تبليغ الرسالة وأذى قومك، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه ﴿ إِنَّ العاقبة ﴾ في الفوز والنصر والغلبة ﴿ لّلْمُتَّقِينَ ﴾ وقوله :﴿ وَلاَ قَوْمُكَ ﴾ معناه : إنّ قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده.
﴿ أخاهم ﴾ واحداً منهم، وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحا، و ﴿ هُودًا ﴾ عطف بيان. و ﴿ غَيْرُهُ ﴾ بالرفع : صفة على محل الجار والمجرور. وقرئ :«غيره »، بالجرّ صفة على اللفظ ﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ﴾ تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء. ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول، لأنّ شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله. وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك.
قيل ﴿ استغفروا رَبَّكُمْ ﴾ آمنوا به ﴿ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ﴾ من عبادة غيره، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان، والمدرار : الكثير الدرور، كالمغزار. وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة ؛ لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، حرّاصاً عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مستحرزين بها من العدوّ، مهيبين في كل ناحية. وقيل : أراد القوّة في المال وقيل : القوّة على النكاح وقيل : حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال ولا يولد لي، فعلمني شيئاً لعلّ الله يرزقني ولداً، فقال : عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته ممَّ قال ذلك، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود عليه السلام ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ ﴾ وقول نوح عليه السلام :﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ ﴾ [ نوح : ١٢ ] ﴿ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ ﴾ ولا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأُرغبكم فيه ﴿ مُّجْرِمِينَ ﴾ مصرّين على إجرامكم وآثامكم.
﴿ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ ﴾ كذب منهم وجحود، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أُنزل عليه آية من ربه، مع فوت آياته الحصر ﴿ عَن قَوْلِكَ ﴾ حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك :﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه، إقناطاً له من الإجابة.
﴿ اعتراك ﴾ مفعول نقول، وإلا لغو. والمعنى : ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، أي خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها. مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذي بهذيان المبرسمين. وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنوناً وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك. وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنوناً والمنيب إلى ربه مخبلا، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض، وضب من الزندقة أراد أن يطلع رأسه وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت ولا يلتفتون إلى النصح. ولا تلين شكيمتهم للرشد. وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنصر وتنتقم، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب. من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشا إلى إراقة دمه. يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم. ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه :﴿ ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ ﴾ [ يونس : ٧١ ] أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد، فيقول الرجل : الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه كونوا شهداء على أني لا أفعله. فإن قلت : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم ؟ قلت : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده، وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه. اشهد علي أني لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله.
﴿ مّمَّا تُشْرِكُونَ به مِن دُونِهِ ﴾ من إشراككم آلهة من دونه، أو مما تشركونه من آلهة من دونه، أي أنتم تجعلونها شركاء له، ولم يجعلها هو شركاء. ولم ينزل بذلك سلطاناً ﴿ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ﴾ أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون، من غير إنظار ؛ فإني لا أبالي بكم وبكيدكم، ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم عليّ وأنتم الأقوياء الشداد، فكيف تضرني آلهتكم، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع، وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها، بأن تخبلني وتذهب بعقلي.
ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم. من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه، والأخذ بنواصيها، تمثيل لذلك ﴿ إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ ﴾ يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به.
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ فإن تتولوا. فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط ؟ قلت : معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول ﴿ وَيَسْتَخْلِفُ ﴾ كلام مستأنف، يريد : ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم ﴿ وَلاَ تَضُرُّونَهُ ﴾ بتوليكم ﴿ شَيْئاً ﴾ من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم. وفي قراءة عبد الله ﴿ وَيَسْتَخْلِفُ ﴾ بالجزم وكذلك : ولا تضروه، عطفاً على محل ﴿ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ﴾ والمعنى : إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم ﴿ على كُلّ شَىْء حَفِيظٌ ﴾ أي رقيب عليه مهيمن، فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ، لم يضر مثله مثلكم.
﴿ والذين ءامَنُواْ مَعَهُ ﴾ قيل : كانوا أربعة آلاف. فإن قلت : ما معنى تكرير التنجية ؟ قلت : ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال :﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ على معنى : وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً. وقيل : أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ. وقوله : برحمة منا، يريد : بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له.
﴿ وَتِلْكَ عَادٌ ﴾ إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه قال : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال :﴿ جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ ﴾ لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، ﴿ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ] قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده ﴿ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل. ومعنى اتباع أمرهم : طاعتهم. ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله.
و
﴿ ألا ﴾ وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم، تهويل لأمرهم وتفظيع له، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم. فإن قلت :
﴿ بُعْدًا ﴾ دعاء بالهلاك، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم ؟ قلت : معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له : ألا ترى إلى قوله :
إخْوَتي لاَ تَبْعَدُوا أبدَا | وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا |
﴿ قَوْمِ هُودٍ ﴾ عطف بيان لعاد : فإن قلت : ما الفائدة في هذا البيان والبيان حاصل بدونه ؟ قلت : الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما، وتجعل فيهم أمراً محققاً لا شبهة فيه بوجه من الوجوه، ولأنّ عاداً عادان : الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى إرم.
﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض ﴾ لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره. وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب
﴿ واستعمركم فِيهَا ﴾ وأمركم بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار، وعمروا الأعمار الطوال، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا، فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى إليه : إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي. وعن معاوية بن أبي سفيان أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره، فقيل له، فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
لَيْسَ الفَتَى بِفتَي لاَيسْتَضَاءُ بِه | وَلاَ تَكُونُ لَهُ في الأَرْضِ آثَارُ |
وقيل : استعمركم من العمر، نحو استبقاكم من البقاء، وقد جعل من العمرى. وفيه وجهان، أحدهما : أن يكون استعمر في معنى أعمر، كقولك استهلكه في معنى أهلكه. ومعناه : أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم. والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنما أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره
﴿ قَرِيبٌ ﴾ داني الرحمة سهل المطلب
﴿ مُّجِيبٌ ﴾ لمن دعاه وسأله.
﴿ فِينَا ﴾ فيما بيننا ﴿ مَرْجُوّا ﴾ كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. وعن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدّمك على جميعنا. وقيل : كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه ﴿ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ﴾ حكاية حال ماضية ﴿ مُرِيبٍ ﴾ من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين. أو من «أراب الرجل » إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي.
قيل :﴿ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى ﴾ بحرف الشك وكان على يقين أنه على بينة، لأنّ خطابه للجاحدين، فكأنه قال : قدّروا أني على بينة من ربي، وأني نبيّ على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله ؟ ﴿ فَمَا تَزِيدُونَنِى ﴾ إذن حينئذ ﴿ غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾ يعني تخسرون أعمالي وتبطلونها. أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملونني عليه غير أن أخسركم، أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون.
﴿ ءَايَةً ﴾ نصب على الحال قد عمل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل. فإن قلت : فبم يتعلق ﴿ لَكُمْ ﴾ قلت بآية حالاً منها متقدّمة ؛ لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال ﴿ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ عاجل لا يستأخر عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم.
﴿ تَمَتَّعُواْ ﴾ استمتعوا بالعيش ﴿ فِى دَارِكُمْ ﴾ في بلدكم. وتسمى البلاد الديار ؛ لأنه يدار فيه أي يتصرف. يقال : ديار بكر، لبلادهم. وتقول العرب الذين حوالي مكة : نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. وقيل : في دار الدنيا. وقيل : عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت ﴿ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ غير مكذوب فيه، فاتسع في الظرف بحذف الحرف واجرائه مجرى المفعول به، كقولك : يوم مشهود، من قوله :
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ........... ***
أو على المجاز، كأنه قيل للوعد : نفي بك، فإذا وفى به فقد صدق ولم يكذب. أو وعد غير كذب، على أنّ المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول، وكالمصدوقة بمعنى الصدق.
﴿ وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ ﴾ قرىء مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ، وهو غير متمكن، كقوله :
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ***
فإن قلت : علام عطف ؟ قلت : على نجينا، لأنّ تقديره ونجيناهم من خزي يومئذ، كما قال ﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ هود : ٥٨ ] على : وكانت التنجية من خزي يومئذ، أي من ذله ومهانته وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه يغضب الله وانتقامه. ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة.
وقرئ :«ألا إن ثمود » و «لثمود » كلاهما بالصرف وامتناعه، فالصرف للذهاب إلى الحيّ أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث، بمعنى القبيلة.
﴿ أَرْسَلْنَا ﴾ يريد الملائكة. عن ابن عباس : جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه. وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل : كانوا تسعة. وعن السدي : أحد عشر
﴿ بالبشرى ﴾ هي البشارة بالولد، وقيل : بهلاك قوم لوط، والظاهر الولد
﴿ سلاما ﴾ سلمنا عليك سلاماً
﴿ سلاما ﴾ أمركم سلام. وقرىء :
«فقالوا سلما قال سلم » بمعنى السلام. وقيل : سلم وسلام، كحرم وحرام، وأنشد :
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَت | كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ |
﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء ﴾ فما لبث في المجيء به، بل عجل فيه، أو فما لبث مجيئه. والعجل : ولد البقرة، ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام البقر
﴿ حنيذ ﴾ مشويّ بالرضف في أخدود. وقيل
﴿ حَنِيذٍ ﴾ يقطر دسمه، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقاً، ويدل عليه
﴿ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٦ ].
يقال : نكره وأنكره واستنكره، ومنكور قليل في كلامهم، وكذلك : أنا أنكرك، ولكن منكر ومستنكر، وأنكرك. قال الأعشى :
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَت | ... مِنَ الْحَوَادِثِ إلاّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا |
قيل : كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروهاً. وقيل : كانت عادتهم أنه إذامسّ من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه، والظاهر أنه أحسّ بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه، ألا ترى إلى قولهم :
﴿ لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا
﴿ فَأَوْجَسَ ﴾ فأضمر. وإنما قالوا :
﴿ لاَ تَخَفْ ﴾ لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه. أو عرفوه بتعريف الله. أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب.
﴿ وامرأته قَآئِمَةٌ ﴾ قيل : كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم. وقيل : كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم. وفي مصحف عبد الله : وامرأته قائمة وهو قاعد
﴿ فَضَحِكَتْ ﴾ سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث. أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد أظلهم العذاب. وقيل : كانت تقول لإبراهيم : اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، فضحكت سروراً لما أتى الأمر على ما توهمت. وقيل ضحكت فحاضت. وقرأ محمد بن زياد الأعرابي
«فضحكت » بفتح الحاء
﴿ يَعْقُوبَ ﴾ رفع بالابتداء، كأنه قيل : ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود، أي من بعده. وقيل الوراء : ولد الولد. وعن الشعبي أنه قيل له : أهذا ابنك ؟ فقال نعم، من الوراء، وكان ولد ولده. وقرىء :
«يعقوب » بالنصب، كأنه قيل. ووهبنا لها إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله :
...... لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً | وَلاَ نَاعِبٍ............ |
الألف في ﴿ يا ويلتا ﴾ مبدلة من ياء الإضافة، وكذلك في «يالهفاً » و «ياعجباً » وقرأ الحسن :«يا ويلتي » بالياء على الأصل.
و ﴿ شَيْخًا ﴾ نصب بما دلّ عليه اسم الإشارة. وقرىء :«شيخ » على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : هذا بعلي هو شيخ. أو بعلي : بدل من المبتدأ، وشيخ : خبر، أو يكونان معاً خبرين. قيل : بشرت ولها ثمان وتسعون سنة، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة ﴿ إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ ﴾ أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله. وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف.
﴿ قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم :﴿ رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ ﴾ أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب. وأمر الله : قدرته وحكمته : وقوله :﴿ رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ ﴾ كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل : إياك والتعجب، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل : الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بني إسرائيل، لأنّ الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم ﴿ حَمِيدٌ ﴾ فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده ﴿ مَّجِيدٌ ﴾ كريم كثير الإحسان إليهم. وأهل البيت : نصب على النداء أو على الاختصاص لأن ﴿ أَهْلَ البيت ﴾ مدح لهم ؛ إذ المراد : أهل بيت خليل الرحمن.
﴿ الروع ﴾ ما أوجس من الخيفة. حين نكر أضيافه. والمعنى : أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملىء سروراً بسبب البشرى بدل الغم، فرغ للمجادلة، فإن قلت : أين جواب لما ؟ قلت : هو محذوف كما حذف قوله :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ ﴾ [ يوسف : ١٥ ] وقوله :﴿ يجادلنا ﴾ كلام مستأنف دال على الجواب. وتقديره : اجترأ على خطابنا، أو فطن لمجادلتنا، أو قال : كيت وكيت : ثم ابتدأ فقال :﴿ يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ وقيل في ﴿ يجادلنا ﴾ : هو جواب لما، وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال : وقيل إن «لما » ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما ترد «إن » الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل : معناه أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. والمعنى : يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا :﴿ إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذه القرية ﴾ [ العنكبوت : ٣١ ] فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها ؟ قالوا : لا، قال : فأربعون ؟ قالوا : لا، قال : فثلاثون ؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة. قالوا : لا. قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا، فعند ذلك قال :﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطاً ﴾ [ العنكبوت : ٣٢ ] ﴿ قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ [ العنكبوت : ٣٢ ]. ﴿ فِى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ في معناهم. وعن ابن عباس : قالوا له : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. وعن قتادة : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير. وقيل : كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان.
﴿ إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ ﴾ غير عجول على كل من أساء إليه ﴿ أواه ﴾ كثير التأوّه من الذنوب ﴿ مُّنِيبٌ ﴾ تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى. وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب. ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه.
﴿ ياإبراهيم ﴾ على إرادة القول : أي قالت له الملائكة ﴿ أَعْرِضْ عَنْ هاذآ ﴾ الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك، فلا فائدة فيه ﴿ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾ وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة، والعذاب نازل بالقوم لا محالة، لا مردّ له بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
كانت مساءة لوط وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. روي أنّ الله تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية ؟ قالوا : وما أمرهم ؟ قال : أشهد بالله إنها لشرقرية في الأرض عملاً، يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها. يقال : يوم عصيب، وعصوصب، إذا كان شديداً من قولك : عصبه، إذا شدّه.
﴿ يُهْرَعُونَ ﴾ يسرعون كأنما يدفعون دفعاً ﴿ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات ﴾ ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاؤا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل معناه : وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك ﴿ هؤلاءآء بَنَاتِى ﴾ أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وأراد : هؤلاء بناتي فتزوّجوهنّ وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً، كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن وائل قبل الوحي وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما ابنتيه وقرأ ابن مروان «هنّ أطهر لكم » بالنصب، وضعفه سيبويه وقال : احتبى ابن مروان في لحنه. وعن أبي عمرو بن العلاء : من قرأ ﴿ هُنَّ أَطْهَرُ ﴾ بالنصب فقد تربع في لحنه، وذلك أنّ انتصابه على أن يجعل حالا قد عمل فيها ما في هؤلاء من معنى الفعل، كقوله :﴿ هذا بَعْلِى شَيْخًا ﴾ [ هود : ٧٢ ] أو ينصب هؤلاء بفعل مضمر، كأنه قيل : خذوا هؤلاء، وبناتي : بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال، و «هنّ » فصل، وهذا لا يجوز لأنّ الفصل مختص بالوقوع بين جزأي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال، وقد خرّج له وجه لا يكون ﴿ هؤلاء ﴾ فيه فصلا، وذلك أن يكون هؤلاء مبتدأ و ﴿ بَنَاتِى هُنَّ ﴾ جملة في موضع خبر المبتدأ، كقولك : هذا أخي هو، ويكون ﴿ أَطْهَرُ ﴾ حالاً ﴿ فاتقوا الله ﴾ بإيثارهن عليهم ﴿ وَلاَ تخزوني ﴾ ولا تهينوني ولا تفضحوني، من الخزي، أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء ﴿ فِى ضَيْفِى ﴾ في حق ضيوفي فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة ﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾ رجل واحد يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء. وقرىء :«ولا تخزون » بطرح الياء. ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدّة امتعاضه مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم.
ومن ثمّ ﴿ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ مستشهدين بعلمه ﴿ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ ﴾ لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض سابري. وقيل : لما تخذوا إتيان الذكران مذهباً وديناً لتواطؤهم عليه، كان عندهم أنه هو الحق، وأنّ نكاح الإناث من الباطل، فلذلك قالوا : ما لنا في بناتك من حق قط ؛ لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الذي نحن عليه. ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة، والغرض نفي الشهوة ﴿ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾ عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة.
جواب «لو » محذوف، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال ﴾ [ الرعد : ٣١ ] يعني لو أنّ لي بكم قوّة لفعلت بكم وصنعت. يقال : ما لي به قوّة، وما لي به طاقة. ونحوه ﴿ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ﴾ [ النمل : ٢٧ ] وما لي به يدان ؛ لأنه في معنى لا أضطلع به ولا أستقلّ به. والمعنى لو قويت عليكم بنفسي، أو أويت إلى قويّ أستند إليه وأتمنع به فيحميني منكم. فشبه القويّ العزيز بالركن من الجبل في شدّته ومنعته، ولذلك قالت الملائكة - وقد وجدت عليه - : إنّ ركنك لشديد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحم الله أخي لوطاً، كان يأوي إلى ركن شديد " وقرىء :«أو آوى » بالنصب بإضمار «أن » كأنه قيل لو أن لي بكم قوّة أو أويا، كقولها :
للَبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ***
وقرئ :«إلى ركن » بضمتين. وروي أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادّهم ما حكى الله عنه ويجادلهم، فتسوّروا الجدار.
فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالوا : يا لوط، إن ركنك لشديد ﴿ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ﴾ فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه - وله جناحان وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا - فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال الله تعالى :﴿ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ﴾ [ القمر : ٣٧ ] فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا وهم يقولون : النجاء النجاء، فإن في بيت لوط قوماً سحرة ﴿ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ﴾ جملة موضحة للتي قبلها ؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره. قرىء :﴿ فَأَسْرِ ﴾ بالقطع والوصل. و ﴿ إِلاَّ امرأتك ﴾ بالرفع والنصب. وروي أنه قال لهم : متى موعد هلاكهم ؟ قالوا : الصبح. فقال : أريد أسرع من ذلك. فقالوا :﴿ أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ ﴾ وقرئ :﴿ الصبح ﴾ بضمتين. فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ ﴿ إِلاَّ امرأتك ﴾ بالنصب ؟ قلت : استثناها من قوله :﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾ والدليل عليه قراءة عبد الله :«فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ». ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل، أعني قراءة من قرأ بالرفع، فأبدلها عن أحد. وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها. وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم، فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.
﴿ جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا ﴾ جعل جبريل جناحه في أسفلها، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السما نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم ﴿ مّن سِجّيلٍ ﴾ قيل هي كلمة معربة من سنككل، بدليل قوله :﴿ حِجَارَةً ﴾ من طين وقيل : هي من أسجله ؛ إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين. ويدل عليه قوله :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ] وقيل : مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان ﴿ مَّنْضُودٍ ﴾ نضد في السماء نضداً معدّاً للعذاب. وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعاً.
﴿ مُّسَوَّمَةً ﴾ معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياض وحمرة وقيل عليها سيماً يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض. وقيل : مكتوب على كل واحد اسم من يرمي به ﴿ وَمَا هِىَ ﴾ من كل ظالم ببعيد. وفيه وعيد لأهل مكة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنه سأل جبريل عليه السلام ؟ فقال : يعني ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة ». وقيل الضمير للقرى، أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم ﴿ بِبَعِيدٍ ﴾ بشيء بعيد. ويجوز أن يراد : وما هي بمكان بعيد ؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى، فكأنها بمكان قريب منه.
﴿ إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ﴾ يريد : بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه، كقول مؤمن آل فرعون :﴿ يَا ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا ﴾ [ غافر : ٢٩ ] ﴿ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴾ مهلك من قوله :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] وأصله من إحاطة العدوّ. فإن قلت : وصف العذاب بالإحاطة أبلغ، أم وصف اليوم بها ؟ قلت : بل وصف اليوم بها، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
فإن قلت : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله : أوفوا ؟ قلت : نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي. وتعييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، وجيء به مقيداً بالقسط : أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمراً بما هو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوي بالوفاء بالقسط ؛ لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد.
البخس : الهضم والنقص. ويقال للمكس : البخس. قال زهير :
وفى كُلِّ مَا بَاعَ آمْرؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ ***
وروي : مكس درهم، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. والعثي في الأرض نحو السرقه والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض.
﴿ بَقِيَّتُ الله ﴾ ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت : بقية الله خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف، فلم شرط الإيمان ؟ قلت لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر. وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد : إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير لكم، كقوله :﴿ والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ﴾ [ الكهف : ٤٦ ] وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه. وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقاً، وإذا أريد به الطاعة فكما تقول : طاعة الله. وقرئ :«تقية الله » بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح ﴿ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها، وإنما بعثت مبلغاً ومنبهاً على الخير وناصحاً، وقد أعذرت حين أنذرت.
كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم :﴿ أصلواتك تَأْمُرُكَ ﴾ السخرية والهزء - والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] وأن يقال : إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف، كما يقال : تدعو إليه وتبعث عليه - إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعي عقل، ولا يأمرك به آمر فطنة، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال. ومعنى تأمرك ﴿ أَن نَّتْرُكَ ﴾ تأمرك بتكليف أن نترك ﴿ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ﴾ لحذف المضاف الذي هو التكليف، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقرىء ﴿ أصلاتك ﴾ بالتوحيد. وقرأ ابن أبي عبلة «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء » بتاء الخطاب فيهما، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير. وقيل : كان ينهاهم عن حذف الدراهم والدنانير وتقطيمها، وأرادوا بقولهم :﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد ﴾ نسبته إلى غاية السفه والغيّ، فعكسوا ليتهكموا به، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبضّ حجره، فيقال له : لو أبصرك حاتم لسجد لك. وقيل : معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أنّ ما تأمر به لا يطابق حالك وما شهرت به.
﴿ وَرَزَقَنِى مِنْهُ ﴾ أي من لدنه ﴿ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ وهو ما رزقه من النبوّة والحكمة. وقيل ﴿ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ حلالاً طيباً من غير بخس ولا تطفيف. فإن قلت : أين جواب ﴿ أَرَءيْتُمْ ﴾ وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوح ولوط ؟ قلت : جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادي عليه. والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك يقال : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولي عنه وأنت قاصده. ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه ؟ فيقول : خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً. ومنه قوله تعالى :﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ ﴾ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها، لأستبد بها دونكم ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح ﴾ ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر ﴿ مَا استطعت ﴾ ظرف، أي : مدّة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهداً. أو بدل من الإصلاح، أي : المقدار الذي استطعته منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك : إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت. أو مفعول له كقوله :
ضَعِيفُ النِّكَايةِ أَعْدَاءَهُ ***
أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم ﴿ وَمَا توفيقى إِلاَّ بالله ﴾ وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتي وأذر، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده والمعنى : أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه.
«جرم » مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين تقول : جرم ذنباً وكسبه، وجرمته ذنباً وكسبته إياه، قال :
جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا ***
ومنه قوله تعالى :﴿ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم ﴾ أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب. وقرأ ابن كثير بضم الياء، من أجرمته ذنباً، إذا جعلته جارماً له، أي كاسباً، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، كما نقل : أكسبه المال، من كسب المال. وكما لا فرق بين كسبته ما لا وأكسبته إياه، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه. والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما. إلا أن المشهورة أفصح لفظاً، كما إن كسبته ما لا أفصح من أكسبته. والمراد بالفصاحة : أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور، وهم له أكثر استعمالاً. وقرأ أبو حيوة، ورويت عن نافع :﴿ مّثْلُ مَا أَصَابَ ﴾، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله :
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْب مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ***
﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ يعني أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم. أو لا يبعدون منكم في الكفر والمساوي وما يستحق به الهلاك. فإن قلت : ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه ؟ قلت : إما أن يراد : وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد، وقليل وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما.
﴿ رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ عظيم الرحمة للتائبين، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه، من الإحسان والإجمال.
﴿ مَا نَفْقَهُ ﴾ ما نفهم ﴿ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ ﴾ لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له، كقوله :﴿ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ]. أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً، لا ينفعهم كثير منه، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء، وقيل : كان ألثغ ﴿ فِينَا ضَعِيفًا ﴾ لا قوة لك ولا عز فيما بيننا، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً. وعن الحسن ﴿ ضَعِيفاً ﴾ مهيناً. وقيل :﴿ ضَعِيفاً ﴾ أعمى. وحمير تسمى المكفوف : ضعيفاً، كما يسمى ضريراً، وليس بسديد ؛ لأنّ ﴿ فِينَا ﴾ يأباه. ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى، لم يكن كلاماً ؛ لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطاً. والرهط : من الثلاثة إلى العشرة. وقيل : إلى السبعة. وإنما قالوا : ولولاهم، احتراماً لهم واعتداداً بهم ؛ لأنهم كانوا على ملتهم، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم ﴿ لرجمناك ﴾ لقتلناك شرّ قتلة ﴿ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ أي لا تعزّ علينا ولا تكرم، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم. وإنما يعزّ علينا رهطك، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل، كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزة علينا.
ولذلك قال في جوابهم :﴿ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله ﴾ ولو قيل : وما عززت علينا، لم يصح هذا الجواب. فإن قلت : فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله :﴿ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله ﴾ قلت : تهاونهم به - وهو نبيّ الله - تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله ﴾ [ النساء : ٨٠ ]، ﴿ واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ﴾ ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، والظهريّ : منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس : أمسي ﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ قد أحاط بأعمالكم علماً، فلا يخفى عليه شيء منها.
﴿ على مَكَانَتِكُمْ ﴾ لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال : مكان ومكانة، ومقام ومقامة. أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى : اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي. أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها ﴿ إِنّى عامل ﴾ على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني ﴿ مَن يَأْتِيهِ ﴾ يجوز أن تكون ﴿ مَن ﴾ استفهامية، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها ؛ كأنه قيل : سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل : سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب.
فإن قلت : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في ﴿ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؟ قلت : إدخال الفاء : وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها : وصل خفي تقديريّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا : فماذا يكون إن عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت ؟ فقال : سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه ﴿ وارتقبوا ﴾ وانتظروا العاقبة وما أقول لكم ﴿ إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾ أي منتظر. والرقيب بمعنى الراقب، من رقبه، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب، كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت : قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان القياس أن يقول : من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق. حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم، قلت : القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال :﴿ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ﴾ يعني في زعمكم ودعواكم، تجهيلا لهم. فإن قلت : ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسطيان بالفاء ؟ قلت قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد، وذلك قوله :﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح ﴾ [ هود : ٨١ ]، ﴿ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ] فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب، كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت. وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة. وإنما وقعتا مبتدأتين، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة.
الجاثم : اللازم لمكانه لا يريم، كاللابد يعني أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا.
﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ ﴾ كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين. البعد : بمعنى البعد وهو الهلاك، كالرشد بمعنى الرشد. ألا ترى إلى قوله :﴿ كَمَا بَعِدَتْ ﴾ ؟ وقرأ السلمي «بعدت » بضم العين، والمعنى في البناءين واحد، وهو نقيض القرب، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا : وعد وأوعد، وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتباراً لمعنى البعد من غير تخصيص، كما يقال : ذهب فلان ومضى، في معنى الموت. وقيل : معناه بعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها.
﴿ بآياتنا وسلطان مُّبِينٍ ﴾ فيه وجهان : أن يراد أنّ هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوّته، وأن يراد بالسلطان المبين : العصا ؛ لأنها أبهرها.
﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل، وذلك أنه ادّعى الإلهية وهو بشر مثلهم، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد، ومثله بمعزل من الإلهية ذاتاً وأفعالاً، فاتبعوه وسلموا له دعواه، وتتابعوا على طاعته. والأمر الرشيد : الذي فيه رشد أي : وما في أمره رشد إنما هو غيّ صريح وضلال ظاهر مكشوف، وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم، لا من يضلهم ويغويهم. وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام، وعلموا أن معه الرشد والحق، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط.
﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ ﴾ أي كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدّمهم إلى النار وهم يتبعونه. ويجوز أن يريد بقوله :﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ وما أمره بصالح حميد العاقبة. ويكون قوله :﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ ﴾ تفسيراً لذلك وإيضاحاً. أيّ : كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. والرشد مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، كما استعمل الغيّ في كل ما يذم ويتسخط. ويقال : قدمه بمعنى تقدّمه. ومنه : قادمة الرحل، كما يقال : قدمه بمعنى تقدّمه، ومنه مقدّمة الجيش. وأقدم بمعنى تقدّم. ومنه مقدّم العين. فإن قلت : هلا قيل : يقدم قومه فيوردهم ؟ ولم جيء بلفظ الماضي ؟ قلت : لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به، فكأنه قيل : يقدّمهم فيوردهم النار لا محالة. و ﴿ الورد ﴾ المورود. و ﴿ المورود ﴾ الذي وردوه شبه بالفارط الذي يتقدّم الواردة إلى الماء. وشبه أتباعه بالواردة، ثم قيل : بئس الورد الذي يردونه النار ؛ لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنار ضدّه.
﴿ وَأُتْبِعُواْ فِى هذه ﴾ في هذه الدنيا ﴿ لَّعْنَةُ ﴾ أي يلعنون في الدنيا، ويلعنون في الآخرة ﴿ بِئْسَ الرفد المرفود ﴾ رفدهم. أي : بئس العون المعان. وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة، وقيل : بئس العطاء المعطى.
﴿ ذلك ﴾ مبتدأ ﴿ مِنْ أَنْبَاء القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ﴾ خبر بعد خبر، أي : ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك ﴿ مِنْهَا ﴾ الضمير للقرى، أي : بعضها باق وبعضها عافي الأثر، كالزرع القائم على ساقه والذي حصد. فإن قلت : ما محمل هذه الجملة ؟ قلت : هي مستأنفة لا محل لها.
﴿ وَمَا ظلمناهم ﴾ بإهلاكنا إياهم ﴿ ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بارتكاب ما به أهلكوا ﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ ﴾ فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله ﴿ يَدْعُونَ ﴾ يعبدون وهي حكاية حال ماضية. و ﴿ لَّمَّا ﴾ منصوب بما أغنت ﴿ أَمْرُ رَبّكَ ﴾ عذابه ونقمته ﴿ تَتْبِيبٍ ﴾ تخسير. يقال تبّ إذا خسر. وتببه غيره، إذا أوقعه في الخسران.
محل الكاف الرفع، تقديره : ومثل ذلك الأخذ ﴿ أَخْذُ رَبّكَ ﴾ والنصب فيمن قرأ : وكذلك أخذ ربك، بلفظ الفعل. وقرىء :«إذ أخذ القرى » ﴿ وَهِىَ ظالمة ﴾ حال من القرى ﴿ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ وجيع صعب على المأخوذ. وهذا تحذير من وخامة عاقبه الظلم لكل أهل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه. فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم ﴿ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ ﴾ لعبرة له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى. ونحوه :﴿ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى ﴾ [ النازعات : ٢٦ ] ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى يوم القيامة، لأنّ عذاب الآخرة دلّ عليه. و ﴿ الناس ﴾ رفع باسم المفعول الذي هو مجموع كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس. فإن قلت لأي فائدة أوأثر اسم المفعول على فعله ؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بدّ من أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع الناس له، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس، وأنهم لا ينفكون منه، ونظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ﴾ [ التغابن : ٩ ] تعثر على صحة ما قلت لك. ومعنى يجمعون له : يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب ﴿ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ مشهود فيه، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، كقوله :
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعامِراً ***
أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد. والمراد بالمشهود : الذي كثر شاهدوه ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور. قال :
في مَحْفَلٍ مِنْ نَوَاصِي النَّاسِ مَشْهُود ِ***
فإن قلت : فما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه دون أن تجعله مشهوداً فيه، كما قال الله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] ؟ قلت : الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام، فإن جعلته مشهوداً في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها، ولكن يجعل مشهوداً فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها، ولم يجز أن يكون مشهوداً في نفسه ؛ لأنّ سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده، وكذلك قوله :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] الشهر منتصب ظرفاً لا مفعولا به، وكذلك الضمير في ﴿ فَلْيَصُمْهُ ﴾ والمعنى : فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه، يعني : فمن كان منكم مقيماً حاضراً لوطنه في شهر رمضان فليصم فيه، ولو نصبته مفعولاً فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر، لا يشهده المقيم، ويغيب عنه المسافر :
الأجل : يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها، فيقولون : انتهى الأجل، وبلغ الأجل آخره، ويقولون : حل الأجل ﴿ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] يراد آخر مدة التأجيل، والعدّ إنما هو للمدّة لا لغايتها ومنتهاها، فمعنى قوله :﴿ وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾ إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف. وقرىء :«وما يؤخره » بالياء.
قرىء :«يوم يأت » بغير ياء. ونحوه قولهم : لا أدر، حكاه الخليل وسيبويه. وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت : فاعل يأتي ما هو ؟ قلت : الله عز وجل، كقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ]، ﴿ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٨ ]، ﴿ وَجَاء رَبُّكَ ﴾ [ الفجر : ٢٢ ] وتعضده قراءة :«وما يؤخر » بالياء. وقوله :﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم، كقوله تعالى :﴿ أو تَأْتِيَهُمُ الساعة ﴾ [ يوسف : ١٠٧ ]. فإن قلت : بما انتصب الظرف ؟ قلت : إمّا أن ينتصب بلا تكلم. وإما بإضمار «اذكر » وإمّا بالانتهاء المحذوف في قوله :﴿ إِلا لأجل معدود ﴾ [ هود : ١٠٤ ] أي ينتهي الأجل يوم يأتي، فإن قلت : فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت : المراد إتيان هوله وشدائده ﴿ لاَ تَكَلَّمُ ﴾ لا تتكلم، وهو نظير قوله :﴿ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن ﴾ [ النبأ : ٣٨ ]. فإن قلت : كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا ﴾ [ النحل : ١١١ ] وقوله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٦ ]، قلت : ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها : يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم ﴿ فَمِنْهُمْ ﴾ الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا ؛ لأنّ ذلك معلوم، ولأنّ قوله :﴿ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ ﴾ يدل عليه، وقد مرّ ذكر الناس في قوله :﴿ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس ﴾ [ هود : ١٠٣ ] والشقى الذي وجبت له النار لإساءته، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه.
قراءة العامّة بفتح الشين. وعن الحسن «شقوا » بالضم، كما قرىء :«سعدوا » والزفير : إخراج النفس. والشهيق : ردّه. قال الشماخ :
بَعِيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِه ِ*** زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ
﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾ فيه وجهان، أحدهما : أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد. والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ] وقوله :﴿ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم : إمّا سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء. والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع. كقول العرب : ما دام تعار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد. فإن قلت : فما معنى الاستثناء في قوله :﴿ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ﴾ وقدثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء ؟ قلت : هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة : وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم. وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم، وهو رضوان الله، كما قال :﴿ وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ورضوان مّنَ الله ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء. والدليل عليه قوله :﴿ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] ومعنى قوله في مقابلته :﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ ﴾ أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، فتأمّله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة. إنّ المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإنّ الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم. وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ؛ وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار. وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيهاً على أن نعقل عنه، ولئن صح هذا عن ابن العاص، فمعناه أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها، وأقول : ما كان لابن عمرو في سيفيه، ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ما يشغله عن تسيير هذا الحديث.
﴿ غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ غير مقطوع، ولكنه ممتدّ إلى غير نهاية، كقوله :﴿ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [ فصلت : ٨ ] لما قصّ قصص عبدة الأوثان، وذكر ما أحلّ بهم من نقمه، وما أعدّ لهم من عذابه.
قال :﴿ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء ﴾ أي : فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذ القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرّضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال :﴿ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابآؤهُم ﴾ يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلنّ بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية. و «ما » في مما، وكما : يجوز أن تكون مصدرية وموصولة، أي : من عبادتهم، وكعبادتهم. أو مما يعبدون من الأوثان، ومثل ما يعبدون منها ﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ أي حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم. فإن قلت : كيف نصب ﴿ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾ حالاً عن النصيب الموفى ؟ قلت : يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول. وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملاً وناقصاً.
﴿ فاختلف فِيهِ ﴾ آمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف في القرآن ﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ ﴾ يعني كلمة الإنظار إلى يوم القيامة ﴿ لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ ﴾ بين قوم موسى أو قومك. وهذه من جملة التسلية أيضاً.
﴿ وَإِنَّ كُلاًّ ﴾ التنوين عوض من المضاف إليه، يعني : وإنّ كلهم، وإنَّ جميع المختلفين فيه ﴿ لَيُوَفّيَنَّهُمْ ﴾ جواب قسم محذوف. واللام في ﴿ لَّمَّا ﴾ موطئة للقسم، و ﴿ مَا ﴾ مزيدة والمعنى : وإنّ جميعهم والله ليوفينهم ﴿ رَبُّكَ أعمالهم ﴾ من حسن وقبيح وإيمان وجحود. وقرىء :«وإن كلا » بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة، اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل. وقرأ أبيّ :«وإن كل لما ليوفينهم » على أنّ إن نافية. ولما بمعنى إلا. وقراءة عبد الله مفسرة لها. وإن كل إلا ليوفينهم، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم «وإن كلا لما ليوفينهم » بالتنوين، كقوله :﴿ أَكْلاً لَّمّاً ﴾ [ الفجر : ١٩ ] والمعنى : وإن كلا ملمومين، بمعنى مجموعين، كأنه قيل : وإنّ كلا جميعاً، كقوله :﴿ فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ [ الحجر : ٣٠ ].
﴿ فاستقم كَمآ أُمِرْتَ ﴾ فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق، غير عادل عنها ﴿ وَمَن تَابَ مَعَكَ ﴾ معطوف على المستتر في استقم. وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. والمعنى : فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك ﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ ﴾ ولا تخرجوا عن حدود الله ﴿ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ عالم فهو مجازيكم به، فاتقوه. وعن ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية. ولهذا قال :«شيبتني هود والواقعة وأخواتهما » وروي أنّ أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب. فقال :«شيبتني هود » وعن بعضهم : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له : روي عنك أنك قلت : شيبتني هود. فقال : نعم. فقلت : ما الذي شيبك منها ؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم ؟ قال : لا، ولكن قوله :﴿ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ ﴾. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه ﴿ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ ﴾ قال : افتقرْ إلى الله بصحة العزم.
قرىء :«ولا تركنوا »، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء. وعن أبي عمرو : بكسر التاء وفتح الكاف، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب علم يعلم. ونحوه قراءة من قرأ ﴿ فَتَمَسَّكُمُ النار ﴾ بكسر التاء. وقرأ ابن أبي عبلة :«ولا تُركِنوا »، على البناء للمفعول، من أركنه إذا أماله، والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدّ العين إلى زهرتهم. وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله :﴿ وَلاَ تركنوا ﴾ فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله :﴿ إِلَى الذين ظَلَمُواْ ﴾ أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين. وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم. وعن الحسن رحمه الله : جعل الله الدين بين لاءين :﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ ﴾ [ هود : ١١٢ ]، ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ ﴾ ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك : أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه ﴿ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ] واعلم أنّ أيسر ما ارتكب وأخفّ ما احتملت : أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوّك ممن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يُدخلون الشكّ بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فيما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ﴾ [ مريم : ٥٩ ] فإنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم، وهيىء زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام. وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة، أحسن من قارىء على باب هؤلاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه "
ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا، فقيل له : يموت ؟ فقال : دعه يموت. ﴿ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء ﴾ حال من قوله :﴿ فَتَمَسَّكُمُ ﴾ أي : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال. ومعناه : وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه، لا يقدر على منعكم من غيره ﴿ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ﴾ ثم لا ينصركم هو، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت : فما معنى ثم ؟ قلت : معناها الاستبعاد، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له.
﴿ طَرَفَىِ النهار ﴾ غدوة وعشية ﴿ وَزُلَفاً مِّنَ اليل ﴾ وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه، وصلاة الغدوة : الفجر، وصلاة العشية : الظهر والعصر ؛ لأنّ ما بعد الزوال عشيّ. وصلاة الزلف : المغرب والعشاء. وانتصاب طرفي النهار على الظرف، لأنهما مضافان إلى الوقت، كقولك : أقمت عنده جميع النهار، وأتيته نصف النهار وأوله وآخره، تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. ونحوه ﴿ وَأَطْرَافَ النهار ﴾ [ طه : ١٣٠ ] وقرىء :«وزُلُفا »، بضمتين. وزلفا، بسكون اللام. وزلفى : بوزن قربى. فالزلف : جمع زلفة، كظلم في ظلمة. والزلف بالسكون : نحو بسرة وبسر. والزلف بضمتين نحو بسر في بسر. والزلفى بمعنى الزلفة، كما أن القربى بمعنى القربة : وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل. وقيل : وزلفا من الليل : وقربا من الليل، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي : أقم الصلاة طرفي النهار، وأقم زلفا من الليل، على معنى : وأقم صلاة تتقرّب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل ﴿ إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ﴾ فيه وجهان، أحدهما : أن يراد تكفير الصغائر بالطاعات، وفي الحديث : " إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر " والثاني : إن الحسنات يذهبن السيئات، بأن يكن لطفاً في تركها، كقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] وقيل : نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها : إن في البيت أجود من هذا التمر. فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له : اتق الله، فتركها وندم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل، فقال صلى الله عليه وسلم : " أنتظر أمر ربي، فلما صلى صلاة العصر نزلت، فقال : نعم، اذهب فإنها كفارة لما عملت " وروي أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال : استر على نفسك وتب إلى الله، فأتى عمر رضي الله عنه فقال له مثل ذلك، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، فقال عمر : أهذا له خاصة أم للناس عامة ؟ فقال : بل للناس عامة وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " توضأ وضوءاً حسناً وصل ركعتين ﴿ إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ﴾ " ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى قوله ﴿ فاستقم ﴾ فما بعده ﴿ ذكرى لِلذكِرِينَ ﴾ عظة للمتعظين.
ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله، كأنه قال : وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، فلا يتم شيء منه إلا به ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾ جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون ﴾ فهلا كان وقد حكوا عن الخليل : كل «لولا » في القرآن فمعناها «هلا » إلا التي في الصافات، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات ﴿ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بالعراء ﴾ [ القلم : ٤٩ ]، ﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ﴾ [ الفتح : ٢٥ ]، ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ﴾ [ الإسراء : ٧٤ ]، ﴿ أُوْلُواْ بَقِيَّتُ ﴾ أولو فضل وخير. وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلاً في الجودة والفضل. ويقال : فلان من بقية القوم، أي من خيارهم. وبه فسر بيت الحماسة :
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ***
ومنه قولهم : في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى، أي : فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه، وقرىء :«أولو بقية »، بوزن لقية، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه :«بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم » والبقية المرّة من مصدره. والمعنى : فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ استثناء منقطع، معناه : ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي. و ﴿ مِنْ ﴾ في ﴿ مّمَّنْ أَنجَيْنَا ﴾ حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض ؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله تعالى :﴿ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ الأعراف : ١٦٥ ]. فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه ؟ قلت : إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام، كان المعنى فاسداً ؛ لأنه يكون تخصيصاً لأولى البقية على النهي عن الفساد، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل : ماكان من القرون أولو بقية إلا قليلاً، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحاً، وكان انتصابه على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل ﴿ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ ﴾ أراد بالذين ظلموا : تاركي النهي عن المنكرات، أي : لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرياسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، «واتبع الذين ظلموا »، يعني : واتبعوا جزاء ما أترفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة : أنهم اتبعوا جزاء إترافهم. وهذا معنى قويّ لتقدم الإنجاء، كأنه قيل : إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وهلك السائر.
فإن قلت : علام عطف قوله :﴿ واتبع الذين ظَلَمُواْ ﴾ ؟ قلت : إن كان معناه : واتبعوا الشهوات، كان معطوفاً على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فإن قلت : فقوله ﴿ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ ؟ قلت : على أترفوا أي : اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين ؛ لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر. أو على اتبعوا، أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون.
﴿ كَانَ ﴾ بمعنى صح واستقام. واللام لتأكيد النفي. و ﴿ بِظُلْمٍ ﴾ حال من الفاعل. والمعنى : واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها ﴿ وَأَهْلُهَا ﴾ قوم ﴿ مُصْلِحُونَ ﴾ تنزيهاً لذاته عن الظلم، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل : الظلم الشرك، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر.
﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أي ملة واحدة وهي ملة الإسلام، كقوله :﴿ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الأنبياء : ٩٢ ] وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا، فلذلك قال :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾.
﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه ﴿ ولذلك خَلَقَهُمْ ﴾ ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأوّل وتضمنه، يعني : ولذلك من التمكن والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ﴾ وهي قوله للملائكة ﴿ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ لعلمه بكثرة من يختار الباطل.
﴿ وَكُلاًّ ﴾ التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل. وكل نبأ ﴿ نَقُصُّ عَلَيْكَ ﴾ و ﴿ مِنْ أَنْبَاء الرسل ﴾ بيان لكل. ﴿ وَمَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ بدل من كلا. ويجوز أن يكون المعنى :[ و ] كل واقتصاص نقصّ عليك، على معنى : وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك، يعني : على الأساليب المختلفة، و ﴿ مَا نُثَبّتُ بِهِ ﴾ مفعول نقصّ. ومعنى تثبيت فؤاده : زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم ﴿ وَجَاءكَ فِى هذه الحق ﴾ أي في هذه السورة. أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق ﴿ وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾
﴿ وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ من أهل مكة وغيرهم ﴿ اعملوا ﴾ على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها﴿ إِنَّا عَامِلُونَ وانتظروا ﴾
﴿ وانتظروا ﴾بنا الدوائر ﴿ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.
﴿ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض ﴾ لا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ ﴾ فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم ﴿ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ فإنه كافيك وكافلك ﴿ وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ وقرىء :«تعملون » بالتاء : أي أنت وهم على تغليب المخاطب.