تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحدادي اليمني
.
ﰡ
﴿ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ﴾ ؛ قد تقدَّم تفسيرُها، وقولهُ تعالى :(كِتَابٌ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ، ويجوز أن يكون خبرَ (ألر) ﴿ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ ؛ أي مِن ظُلماتِ الكفرِ إلى نور الإيمان، ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ بأمرِ ربهم أمَرَك أن تَدعُوَهم إلى الإيمانِ، وتزجُرَهم عن الكفرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ ؛ أي الى دينِ العزيزِ الحميد الذي لا يمكنُ أن يُغلَبَ ويقهرَ، والحميدُ المستحقُ للحمدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ مَن قرأ برفع الهاء فعلى الابتداءِ، وَمن قرأ بالخفضِ جعلَهُ بدَلاً من الحمدِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ ؛ الويلُ كلمةٌ تستعمَلُ في الشدَّة، ويقالُ : هو وادٍ في جهنَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ﴾ ؛ أي يختارُونَها عليها، ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي يُعرِضُونَ عن طاعةِ الله من الصدِّ وهو الإعراضُ، ويجوز أن يكون معناهُ : ويَمنَعُونَ الناسَ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ ؛ أي ويطلبُونَ بدينِ الله العِوَجَ، والعِوَجُ بكسرِ العين في الدِّين، وبفتحِها في العصا، وقولهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ ؛ أي في ذهابٍ عن الحقِّ بعيدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ ؛ أي بلُغَتِهم ليبيِّن لهم ما أُمِرُوا به ونُهوا عنه، فيفهَمُوا ويتعلَّموا، ﴿ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ مَن كان أهْلاً لذلك، ﴿ وَيَهْدِي ﴾ ؛ لدينهِ، ﴿ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ ﴾ ؛ أي بدَلائِلنا وحُجَجِنا التي دلَّت على صحَّة نُبوَّتهِ مثلُ العصا واليدِ وغيرهما، ﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي بنَعِيمِ الله، وَقِيْلَ : بوقائعِ الله في الأيَّام السالفةِ من قوم نُوحٍ وعادٍ وثَمود. وَقِيْلَ : بنَعِيمِ اللهِ ونِقَمِهِ، والمعنى : عِظْهُمْ بالترغيب والترهيب والوعدِ والوعيد.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ ؛ أي إنَّ في ذلك التذكيرِ لدلالاتٍ على قدرةِ الله لكل صبَّارٍ شَكُورٍ على طاعتهِ، وعن معصيتهِ، وشكُورٍ لأَنعُمِ اللهِ، والشُّكرُ هو إظهارُ النعمةِ على جهة الاعتراف بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ ؛ هذه الآيةُ قد سبقَ تفسيرُها في سورةِ البقرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ﴾ ؛ هذه عطفٌ على قولهِ﴿ إِذْ أَنجَاكُمْ ﴾[ابراهيم : ٦] كأنه قالَ : اذكرُوا نعمةَ اللهِ عليكم إذ أنْجَاكُم، وإذ تأذنَ ربُّكم، وهذا إخبارٌ عن ما قالَ موسى لقومهِ ؛ أي أعلَمَكم في الكتاب، ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ ﴾ نعمَتي ﴿ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ نعمةً، ﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ ؛ نِعمَتي، ﴿ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ ؛ لِمَن كفرَ.
قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى الآيَةِ : لَئِنْ وَحَّدْتُمُونِي وَأطَعْتُمُونِي، لأَزيدَنَّكُمْ نِعْمَةً)، قال قتادةُ :(حَقُّ اللهِ أنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، وَيَزِيدَ مَنْ شَكَرَهُ)، وقولهُ تعالى ﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ أي جَحَدتُّم حقِّي وحقَّ نِعْمَتي إنَّ عذابي لشديدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ ؛ بنعمتهِ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ ﴾ ؛ عن طاعَتِكم، لم يأمُرْكم بطاعته لحاجتهِ إليها وهو الـ ﴿ حَمِيدٌ ﴾ ؛ لِمَن وَحَّدَهُ وأطاعَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ ؛ قِيْلَ : إنَّ الخطابَ في هذه الآية لأُمَّة مُحَمَّدٍ ﷺ، وَقِيْلَ : هو خطابُ موسى لقومهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ يعني قومَ شُعيب وغيرهم، ﴿ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ ﴾، لا يعلمُ عددَهم إلاّ الله، ﴿ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـاتِ ﴾ ؛ أي بالدَّلائلِ الواضحاتِ ﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(عَضُّوا أنَامِلَهُمْ غَيْظاً عَلَى الرُّسُلِ فِيْمَا ادَّعَواْ مِنَ النُّبُوَّةِ)، وقال مجاهدُ :(هَذا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَحْدِ وَالتَّكْذِيب). وَقِيْلَ : معناهُ : وضعَ الكفارُ أيدِيَهم على أفواهِ أنبيائهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ ﴾ ؛ بسببٍ من التوحيد، ﴿ مُرِيبٍ ﴾ ؛ ظاهرِ الشكِّ، والرَّيْبُ الشكُّ مع التُّهمَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ﴾ ؛ أي في توحيدِ الله شَكٌ، وهذا إنكارٌ من الرسُل عليهم ؛ أي لا شكَّ في توحيدِ الله، ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي خالِقِهما فكيف يشُكُّون فيه ودلائلُ وحدانيَّته ظاهرةٌ، ﴿ يَدْعُوكُمْ ﴾ ؛ إلى دينهِ، ﴿ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ ؛ في الجاهليَّةِ، ﴿ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّـى ﴾ ؛ منتهَى آجَالِكم، فلا يعذِّبُكم بعذاب الاستئصال.
وأما دخولُ (مِنْ) في قولهِ ﴿ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ فيجوزُ أن تكون للجنسِ، كما في قوله﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾[الحج : ٣٠]، ويجوزُ أن تكون للتبعيضِ ؛ أي ليغفرَ لكم بعضَ ذُنوبكم، فادْعُوا اللهَ وارغَبُوا إليه في مغفرةِ الذُّنوب كلِّها.
قولهُ :﴿ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ ؛ أي قالت الأُمَمُ لرُسُلِهم : هل أنتم إلاّ آدميُّون مثلُنا لا فضلَ لكم علينا، ﴿ تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا ﴾ ؛ تَمْنَعُونَا، ﴿ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ﴾ ؛ من الأصنامِ، ﴿ فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ فَأْتُوا بحجَّة واضحةٍ بيِّنة، يعنون الآياتِ التي كانوا يقتَرحونَها على أنبيائهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ ؛ كما قُلتم، ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ ؛ كما أنعمَ علينا بأن أرسَلَنا، ﴿ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ؛ ولا نملكُ الآيات التي تقتَرحون علينا ونحن بشرٌ مثلكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ ظاهرُ المعنى.
قالَتِ الكفارُ لَهم : فتوَكَّلوا أنتم على اللهِ حتى ترَونَ ما يفعلُ بكم، قالت الرُّسل :﴿ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ﴾ ؛ أي حسبُنا، والهدايةُ من اللهِ هي الدلالةُ على الحقِّ والرشدِ، ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا ﴾ ؛ على أذاكُم، ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ ؛ والتوكُّلُ هو التمسُّكُ بطاعةِ الله مع الرِّضا بقضائهِ وتدبيره.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ ﴾ ؛ أي قالت الكفارُ لرُسُلِهم : لا نُسَاكِنُكم على مخالفتِكم ديننا ﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ وقد ذكرنَا في قصَّة شعيب، ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ﴾، فأوحَى اللهُ إلى الرُّسُلِ :﴿ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾، أي الكفارِ، ﴿ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ ﴾ ؛ أرضَهم وديارهم، ﴿ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ ؛ من بعد هلاكِهم، وهذا نِهايةُ ما في الإنعامِ، فإن هذا جزاءُ مَن توكَّلَ على اللهِ، ﴿ ذلِكَ ﴾ ؛ جزاءٌ، ﴿ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ﴾ ؛ مقامَ العبادِ عندي، ﴿ وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ ؛ وخاف وعيدي بالعقاب ولِمَن عصانِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ ؛ أي سألَتِ الرُّسل ربَّهم أن يحكُمَ بينهم وبين الكفارِ ؛ لأن الفتحَ ها هنا بمعنى الْحُكْمِ، يقال للحاكِم : الفَتَّاحُ، فلما فزِعَتِ الرسلُ إلى ربهم بانجاز الوعد، فتحَ لهم ما طلبوهُ فخابَ كلُّ جبارٍ عنيد.
والجبارُ : هو الطالبُ للخير والعُلُوِّ فوقَ كلِّ عُلُوٍّ، والعنيدُ : هو الدافعُ للحقِّ على جِهةِ الاستنكار، وقال قتادةُ :(الْعَنِيدُ : الْمُعْرِضُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ)، وقال مجاهدُ :(هُوَ الْمُجَانِبُ لِلْحَقِّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ﴾ ؛ معناهُ أمامَ هذا الجبَّارِ بعدَ الموتِ جهنَّمُ، والوراءُ يكون من خَلْفٍ وقُدَّامٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ ﴾ ؛ أي يُسقَى من ماءٍ يَسِيلُ من جُلودِ أهلِ النَّار من القيحِ والدَّمِ، قال ابنُ عبَّاس :(فِي جَهَنَّمَ أوْدِيَةٌ، فِي تِلْكَ الأَوْدِيَةِ صَدِيدُ أهْلِ النَّار وَقَيْحُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ، فَيُسْقَوْنَ مِنْ ذلِكَ الصَّدِيدِ قَدْ نَتَنَ رِيْحُهُ) ﴿ يَتَجَرَّعُهُ ﴾ ؛ شارِبهُ، والملَكُ يضربهُ بالمقامعِ ويقولُ له : اشرب، فيقولُ : لاَ أُطِيقهُ، فيضربهُ حتى يشربَهُ جرعةً جرعةً، ولا يكاد يسيغهُ من نتنه وحرِّه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ ؛ لا يقدرُ أن يبتلعَهُ، والإسَاغَةُ هو دخولُ المشروب في حَلقهِ مع قَبُولِ النفسِ له، وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ :" يُقَرَّبُ إلَيْهِ فَيَكْرَهُهُ، فَإذا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأسِهِ فِيْهِ، فَإذا شَرِبَهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُ، فَتَخْرُجُ أمْعَاؤُهُ مِنَ الْجَانِب الآخَرِ " كما قال تعالى :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾[محمد : ١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ ؛ أي ويأْتيهِ غَمُّ الموتِ من قدامه، ومن كلِّ مكان كان فيه يموتُ بدون ذلك في الدُّنيا، قال ابنُ عبَّاس :(يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ). قِيْلَ : وتأتيهِ النيرانُ من كلِّ جانبٍ، ﴿ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾، فيستريحُ من العذاب، ﴿ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ ؛ أي ومن بعدِ ذلك عذابٌ شديد أشدُّ مما تقدَّمَ لا ينقطعُ ولا يَفْتُرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ ؛ أي مثَلُ أعمالِ الذين كفَرُوا بربهم في انتفاعهِ بها كرمادٍ اشتدَّتْ به الريحُ في يومِ ذي عَاصِفٍ، يقولُ : كما لا يقدرُ أحدٌ على الانتفاعِ على جمعِ ذلك الرَّماد إذا ذرَّتُهُ الريحُ الشديدة، فكذلك هؤلاءِ الكفَّار ؛ ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ﴾ ؛ أي لا يقدرون على الانتفاعِ بشيءٍ من الأعمالِ التي عَمِلُوها على جهةِ البرِّ مثلَ صِلَةِ الرَّحِمِ ونحوِها. وأما الكفرُ والمعاصي فلا يكون كرَمادٍ اشتدَّتْ به الريحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾ ؛ أي ذلك الذي ذُكِرَ هو الذهابُ عن التنفُّعِ البعيدِ عن الحقِّ والهدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ ﴾ ؛ أي ألَم تعلَمْ - يا محمَّدُ - أنَّ اللهَ خلقَ السموات والأرضَ على ما توجِبُ الحكمة وتقتضيه المصلحةُ، والحقُّ هو وضعُ الشيء موضعِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ ؛ أيُّها الكفار ؛ أي يهلِكْكم، ﴿ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ ؛ ويخلُقُ قَوماً آخرين أطوعَ للهِ منكم، ﴿ وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾، أي وليس ذلك على اللهِ بشديدٍ ولا متعذِّر.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً ﴾ ؛ أي إذا كان يومُ القيامةِ بَرَزَ الناسُ من قُبورهم للمُسَائَلَةِ والمحاسبةِ، فيُسأَلون عن أعمالهم ويُجَازَوْنَ عليها، ﴿ فَقَالَ الضُّعَفَاءُ ﴾ ؛ أتباعُ الظَّلَمَةِ والعُصاة، ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ ﴾ ؛ وهم الرؤساءُ والقادة :﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ﴾ ؛ في المعصيةِ والظُّلم في الدُّنيا، ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ ﴾ ؛ دَافِعُونَ، ﴿ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾. فيقولُ لهم رؤساؤهم :﴿ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ أي ما نخلصُ به من هذا العذاب، ﴿ لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ ؛ إليه ؛ أي لا مَطْمَعَ لنا في ذلك، فكيف تطمَعون في مثلهِ من جِهَتنا ؟ ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾ ؛ أي لا حِيلَةَ لنا سواءً أجَزِعْنَا أم صَبَرنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ مِنْ هذا العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ﴾ ؛ هذا إخبارٌ عن خُطبةِ الشيطانِ، وذلك أنه إذا دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، قامَ إبليسُ خَطيبًا على مِنبَرٍ من نارٍ، فقال : يا أهلَ النار إنَّ اللهَ وعدَكم وعداً، وكان حقّاً وعدهُ، ﴿ وَوَعَدتُّكُمْ ﴾، أنا، ﴿ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ الإكراهِ على المعصية، ولا حجَّة على ما قلتُ، ﴿ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ ﴾ ؛ إلى طاعَتي بالوَسْوَسَةِ، ﴿ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ﴾ ؛ بسوءِ اختياركم، ﴿ فَلاَ تَلُومُونِي ﴾ ؛ على ما حَلَّ بكم من العقاب، ﴿ وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ ؛ فإنِّي لَمْ أُجْبرْكُمْ على المعصيةِ، ﴿ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ ﴾ ؛ أي بمُغِيثِكم، ﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ ؛ ولا أنتم بمُغِيثِيَّ، والإصْرَاخُ في اللغة : هو الْمُسْتَغِيثُ إغَاثَةً بهِ. ويُحكى أنَّ أعرابياً أتَى على رجُلٍ يقرأ هذه الآيةَ، فقال : قَاتلَهُ اللهُ مَا أفْصَحَهُ!
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ إخبارٌ عن كلامِ إبليس، ومعناهُ : إنِّي كفرتُ من قَبْلُ بالذي أشرَكتُمونِ به في الطاعةِ من قبلِ أن أشركتُمونِي به ؛ أي كفرتُ برَبي من قبلِ ما عدلتُموني بهِ. ويقال : معناهُ : إنِّي كفرتُ الآنَ بما كان من إشرَاكِكُمْ إيَّاي في الطاعةِ إذا أطعتُمونِي وجعلتُمونِي كأنِّي ربٌّ، فصيَّرتُمونِي شَريكاً لربكُم، وأنا أكفرُ اليومَ بشِركِكُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ أي قَالَ اللهُ تَعَالَى : إن الظالِمين من إبليسَ وغيرهِ لهم عذابٌ وَجِيعٌ يخلصُ وجعهُ إلى قُلوبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ؛ أي في جنَّات تجرِي من تحت قُصورِها وأشجارها الأنْهارُ، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ ؛ أي يُحَيِّي بعضُهم بعضاً بالسَّلام، ويرسلُ اللهَ الملائكة إليهم بالسَّلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ ؛ أي ألَم تعلَمْ يا مُحَمَّدُ كيف وصفَ اللهُ شبهاً كلمةً طيِّبةً وهي كلمةُ التوحيدِ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ والإقرَارُ بالنبُوَّة ؛ كشجرةٍ طيِّبةِ الثمرِ، وهي النخلةُ التي لا شيءَ أحلىَ من ثَمرِها وهو الرُّطَبُ، كما لا كلامَ أحسنَ من كلمةِ الرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ﴾ ؛ فيه شَبَّهَ ثباتَ الإيمان وما فيهِ من الأدلَّة، بقَرَارِ النخلةِ التي أصلُها ثابتٌ على نِهاية الثباتِ في تَمَكُّنِ فرعها في الأرضِ، بل المعرفةُ في قلب المؤمن أثبتُ من عروقِ النخلة ؛ لأن النخلةَ تُقلَعُ، ومعرفةُ العارفِ لا يقدر أحدٌ من الناسِ أن يُخرِجَها من قلبهِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ﴾ ؛ تُؤتِي أكُلَها، فيه تشبيهُ أعمالِ المخلِصين التي هي فروعُ الإيمان في أنَها ترتفعُ وتعلُو إلى جانب السَّماء ؛ لأن الأعمالَ لا تصلحُ إلا بالإيمانِ، والأصلُ هو الإيمانُ، والفروعُ هو الأعمالُ الصالحة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ﴾ ؛ فيه تشبيهُ ما يحصلُ من الثواب الدائم الذي لا منْزلةَ أعلىَ منه، وقولهُ تعالى :﴿ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ ؛ أي بعِلْمِهِ وقُدرتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ﴾ ؛ أي يُبَيِّنُ اللهُ الأشياءَ للناسِ في صفة التوحيدِ والدين، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ لكي يتَّعِظُوا ويؤمنوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ ؛ يعني كلمةَ الشِّرك، ﴿ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ ؛ يعني شجرةَ الْحَنْظَلِ ليس فيها حلاوةٌ ولا منفعة ولا رائحة طيِّبة، بل تضرُّ مَن تناولَها، فكذلك كلمةُ الكفرِ تضرُّ صاحبَها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ ﴾ ؛ أي اقتُلِعَتْ، معناهُ : كما أنه ليس لشجرةِ الحنظل أصلٌ تثبتُ عليه وتَقَرُّ، ولكن تُقلع وتؤخذ حبَّتهُ من أصلهِ، فكذلك الكفرُ يُبْطِلُهُ الله ويستأصلُ أهلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ ؛ فإن الريحَ تقلَعُها وتذهبُ، كذلك ليس لكلمةِ الكفر حجَّة يحتجُّ بها صاحبها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ ؛ أي يُثَبتُ اللهُ الذين آمَنوا بقولٍ ثابت وهو : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ في الحياةِ الدُّنيا، وفي الآخرةِ يعني القبرَ، كما روُي عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" إنَّ الْمُؤْمِنَ إذا دَخَلَ قَبْرَهُ وَأتَاهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ وَقَالاَ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ وَمَا دِينُكَ ؟ وَمَنْ نَبيُّكَ ؟ فَيُثَبتُهُ اللهُ فَيَقُولُ : اللهُ رَبي ؛ وَالإسْلاَمُ دِينِي ؛ وَمُحَمْدٌ نَبيِّي. فَيَقُولاَنِ : صَدَقْتَ هَكَذا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّار، فَيَقُولاَنِ لَهُ : هذا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ كَفَرْتَ برَبكَ، فَإذا آمَنْتَ برَبكَ فَهَذا مَنْزِلُكَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَيُفْتَحُ لَهُ فِي قَبْرِه.
وَإنْ كَانَ كَافِراً أوْ مُنَافِقاً فَيَقُولاَنِ لَهُ : مَا تَقُولُ لِهَذا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ : لاَ أدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ كَذا وَكَذا. فَيَقُولاَنِ لَهُ : لاَ دَرَيْتَ وَلاَ اهْتَدَيْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذا لَكَ لَوْ آمَنْتَ، فَأَمَّا إذا كَفَرْتَ فَإنَّ اللهَ بَدَّلَكَ بهِ هَذا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ بالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ، فَلاَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ شَيْءٌ إلاَّ لَعَنَهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ ريحِهَا وَسَمُومِهَا، وَيُقَالُ لَهُ : نَمْ نَوْمَةَ اللَّدِيغِ، ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ أضْلاَعُهُ " فَذلِكَ قولهُ ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ ؛ ﴿ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي ويهلِكُهم، ﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ ﴾ ؛ من التَّثبيتِ والإضلالِ، لا مانعَ له مما يفعلهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً ﴾ ؛ فيه تعجيبٌ للنبيِّ ﷺ من صُنعِ المشركين، فإنَّهم بدَّلوا نعمةَ الله بالكُفرِ، ثم لم يقتَصِروا على هذا في أنفسهم حتى أضَلُّوا قومَهم، ﴿ وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ ؛ أي دارَ الهلاكِ وهي :﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ﴾ ؛ أي يدخُلونَها يومَ القيامةِ، ﴿ وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ ؛ قرارُ من يكون قرارهُ النار، وقوله تعالى :﴿ جَهَنَّمَ ﴾ بنَصب (يَصْلَوْنَهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ ؛ أي أمْثَالاً ونُظرَاءَ، ﴿ لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ ؛ أي كان عاقبَتُهم الضلالَ عن دينِ الله، ﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ ﴾ ؛ قَليلاً في الدنيا، ﴿ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ في الآية أمرٌ للنبيِّ ﷺ بأن يأمُرَ المؤمنين بما يؤدِّيهم إلى النعيم المقيم، وقولهُ تعالى :﴿ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ أي يُؤدُّونَها لمواقيتها بشَرائِطها.
واختلَفُوا في جزمِ ﴿ يُقِيمُواْ ﴾ قِيْلَ : لأنه جوابُ الأمرِ، وقال بعضُهم : تقديره : قُل لعباديَ الذين آمَنوا أقِيمُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً ﴾ ؛ من الأموالِ في وجه البرِّ من الفرائضِ والنوافل، سِرّاً في النوافلِ، وعلانيةٌ في الفرائضِ، ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾ ؛ يومَ لا يُقبَلُ البدلُ للتخلُّصِ من النار، ﴿ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ ؛ أي ولا مَوَدَّةٌ يكون فيها تخليصُ أحدهما للآخرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً ﴾ ؛ يعني المطرَ، ﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ ؛ أي من الثمارِ ما تنتفعون به. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ﴾ ؛ أي السُّفُنَ، ﴿ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ﴾، وتجرِي حيث تشاؤُون، ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ ﴾ ؛ أي سخَّرَها لكم إلى يومِ القيامة، ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ ﴾ ؛ بأن أتَى بهما متعاقِبَين لينصرفَ الناسُ في معايشهم بالنهار ويهدأوا بالليلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ ؛ من العاقبةِ وغير ذلك، ومَن قرأ (مِنْ كُلٍّ) بالتنوين فالمعنى : أعطاكُم من كلِّ ما تقدَّمَ ذِكرهُ من النِّعَمِ، ثم قالَ (مَا سَأَلْتُمُوهُ) أي لَم تسألوهُ، بلِ ابتدأكم بذلك تفضُّلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ ؛ أي إنعَامهِ، والنِّعمةُ ها هنا اسمٌ أُقيمَ مقامَ المصدر، ولذلك لم يُجمع، (لاَ تُحْصُوهَا) أي تَأْتُوا على جميعِها بالعدِّ. وَقِيْلَ : لا تحفَظُوها ولا تطيقوا عدَّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ ؛ معناهُ : إن الإنسانَ مع هذه النِّعَمِ لظلومٌ لنفسهِ كفَّارٌ لنِعَمِ ربهِ. والإنسانُ : اسمُ جنسٍ لكن يُقصد به في هذا الموضعِ الكافرُ خاصَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً ﴾ ؛ أي واذْكُرْ إذ قالَ إبراهيمُ بعدَ ما بَنَى البيتَ : رب اجعل مكَّة آمِناً يأمَنُ فيها الناسُ والوحش، فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ حتى اجتمعَ فيه الناسُ مع شدَّة العداوةِ بينهم، وتَدْنُوا الوحوشُ فيه من الناسِ فتأمَنُ منهم. وإنما عَرَّفَ البلدَ في هذه الآيةِ ونَكَّرَها في البقرةِ ؛ لأن النَّكِرَةَ إذا أُعيدت تعرَّفت.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ ؛ أي وَالْطُفْ بي وَبَنِيَّ لُطفاً نتجنَّبُ به عبادةَ الأصنامِ، ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ﴾ ؛ يعني الأصنامَ، وأضافَ الإضلالَ إلى الأصنامِ، وإنْ لم تكن تفعلُ شيئاً ؛ لأنَّهم ضَلُّوا بعبادتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ أي فمَن تَبعَنِي على دِيني فإنه منِّي ومعي، ﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾ ؛ خالَفَني في دِيني، ﴿ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ أي غفورٌ لذُنوبهم، رحيمٌ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ ؛ أي قالَ إبراهيمُ : إنِّي أسكنْتُ بعضَ ذُرِّيَتي، وهو إسماعيلُ مع أُمِّه هَاجَرَ، بوادٍ جَدْبٍ لا يُنبتُ شيئاً، وأرادَ به وادِي مكَّة وهو الأَبْطَحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ ؛ أي عندَ المسجدِ الحرام، سَمَّاهُ الْمُحَرَّمَ لأنه لا يستطيعُ أحدٌ الوصولَ إلا بالإحرامِ. وَقِيْلَ : أرادَ به حُرمَةَ الاصطيادِ والقتلِ، كما رُوي في الخبرِ :" أنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ لاَ يُخْتَلَي خَلاَؤُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ".
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ أي أسْكنتُهم عندَ بيتكَ الْمُحَرَّمِ ليُقِيمُوا الصلاةَ بحرَمِ مكَّة، ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي تُسرِعُ إليهم، قال مجاهدُ :(لَوْ قَالَ إيْرَاهِيمُ : أفْئِدَةَ النَّاسِ، لَزَاحَمَتْهُمُ الرُّومُ وَفَارِسُ، وَلَكِنْ قَالَ : أفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ)، وقال ابنُ جُبير :(لَوْ قاَلَ إبْرَاهِيمُ : أفْئِدَةَ النَّاسِ، لَحَجَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : أفِئَدَةً مِنَ النَّاسِ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ).
وقُرئ (تَهْوَى) بنصب الواو من هَوَى يَهْوَى إذا أحبَّ، إلاَّ أن القراءةَ المعروفة بالكسرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ ؛ أي ما تُسِرُّ أنفسُنا وما تُظهِرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ ﴾ ؛ يحتملُ أن يكون من كلامِ إبراهيمَ، ويحتملُ أن يكون قَولاً من اللهِ معترضٌ بين الكلامَين، كأنه صدَّقَ إبراهيمَ فإنه لا يخفَى على اللهِ من شيءٍ.
ثم رجعَ إلى قولِ إبراهيمَ :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ ؛ رُوي أنَّ إبراهيمَ كان ابن مائة سَنة يومَ وُلد له إسحاق، وكانت سارةُ يومئذٍ بنتَ تسع وتسعين سَنةً، وكان إسماعيلُ أكبرَ من إسحق بثلاثةِ عشرة سَنة. وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ ﴾ ؛ أي قابلُ للدُّعاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ ﴾، أي مُدَاوِماً على إقامةِ الصَّلاة، وَاجعل ؛ ﴿ وَمِن ذُرِّيَتِي ﴾ ؛ مَن يقيمُ الصلاةَ، ﴿ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ ﴾ ؛ أي أجِبْ دُعائِي، ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ﴾ ؛ قال بعضُهم : أرادَ آدمَ وحوَّاء ؛ لأن اللهَ تعالى كان نَهَاهُ عن الاستغفارِ لأبيه من بعدِ ما تبيَّن له أنَّهُ عدُوُّ للهِ.
وقال بعضُهم : أرادَ أبوَيه الأدنَيَين، فكان إبراهيم يستغفرُ لأبَويه عن مَوعِدَةٍ وعدَ بها إياه. وقرأ بعضُهم (وَلِوَالِدَتِي) لأن أُمَّهُ كانت مسلمةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ ؛ أي يومَ يحاسَبُ الخلقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ أي لا تظُنَّنَّ اللهَ يا مُحَمَّدُ غافلاً عن أعمال الظَّالمين ومجازَاتِهم على ما يعملون، ﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(إذا سِيقُوا إلَى النَّار شَخَصَتْ أبْصَارُهُمْ إلَيْهَا)، وقال الحسنُ :(تَشْخَصُ أبْصَارُهُمْ إلَى إجَابَةِ الدَّاعِي حِينَ يَدْعَوهُمْ مِنْ قُبُورهِمْ، لاَ يُغْمِضُونَ أعْيُنَهُمْ مِنْ هَوْلِ ذلِكَ الْيَوْمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ ؛ أي مُسرِعين نحوَ البلاءِ الذي ينْزِلُ بهم، والإهْطَاعُ : الإسْرَاعُ، وقال مجاهدُ :(مُهْطِعينَ ؛ أيْ مُدِيْمِينَ النَّظَرَ)، قال الخليلُ :(الْمُهْطِعُ : الَّذِي قَدْ أقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ بنَظَرِهِ وَلاَ يَرْفَعُ عَيْنَيْهِ عَنْهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ أي رَافِعي رؤوسِهم إلى يَرَون في السَّماء من الانفطار، وانتشار الكواكب، وتكويرِ الشَّمس ونحوِ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾ ؛ أي لا يُغمِضُونَ أعْيُنهم من الهولِ والفزَعِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾ أي قلوبُهم خاليةٌ من خيرٍ، وَقِيْلَ : مجوَّفَةٌ لا عقولَ فيها، قال السديُّ :(هَوَتْ أفْئِدَتُهُمْ بَيْنَ مَوْضِعِهَا وَبَيْنَ الْحِنْجَرَةِ، فَلاَ هِيَ عَائِدَةٌ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلاَ هِيَ خَارجَةٌ مِنْهَا).
ثم عادَ إلى خطاب النبيِّ ﷺ فقال :﴿ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ﴾ أي أعلِمْهُم بموضعِ المخافة يوم يأتيهم العذابُ وهو يومُ القيامةِ ؛ ﴿ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ ؛ أي الكفارُ :﴿ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ ؛ أعِدْنَا إلى حالِ التكليف، ﴿ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾ ؛ واستَمْهَلوا مدَّةً يسيرةً كي يُجيبوا الدعوةَ ويتَّبعُوا الرسُلَ، فقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ ؛ أي حَلَفْتُمْ مِن قبلِ هذا في الدُّنيا، ﴿ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ ؛ من الدُّنيا الى الآخرةِ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾[النحل : ٣٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ ؛ أي سكَنتُم في مساكنِ عادٍ وثَمودَ، ﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ﴾ ؛ أي ظهرَ لكم كيفَ كفَرُوا باللهِ ورسُلهِ، وكيف عاقَبَهم اللهُ، والمعنى : كان ينبغِي أن يَنْزَجِرُوا أو يَرْتَدِعُوا الكفرَ اعتباراً بمساكنِهم بعدَ ما تبيَّن لكم كيف فعلنا بهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ﴾ ؛ أي وبَيَّنَّا لكم الأمثالَ في القرآنِ الْمُنَبهِ على التفكُّرِ، فلم يعتَبروا تلكَ الأمثالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ ﴾ ؛ أي قد مكَرت الأُمَمُ الماضيةُ بأنبيائِهم ما أمكنَهم من المكرِ، واللهُ تعالى عالِمٌ بمكرِهم، ﴿ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ﴾ ؛ جزاءُ، ﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ ؛ مَن قرأ (لِتَزُولَ) بكسر اللام فالمعنى : وإنْ كان مكرُهم قصداً منهم إلى أن تزولَ منه الجبالُ، ثم لا تزولُ منه الجبال، فكيف يزولُ منه الدِّينُ الذي هو أثبتُ من الجبالِ.
وَقِيْلَ : معناه الجحدُ، كأنه قال : وما كان مكرُهم ليزولَ منه دينُ الإسلام وثُبوته كثُبوتِ الجبالِ، واستحقرَ مكْرَهم. ومن قرأ (لَتَزُول) بفتح اللامِ فمعناهُ : وإنَّ مكرَهم قد بلغَ منتهاهُ حتى تزولَ منه الجبالُ، فلا يضرُّ ذلك أنبياءَ الله ورسُلَهُ، فإن اللهَ وعدَ رسُلَهُ النصرَ، لقولهِ :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾[الفتح : ٢٢٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ ؛ أي لا تَظْنَّنَّ اللهَ يا مُحَمَّدُ مُخْلِفَ رُسُلِهِ ما وعدَهم من النصرِ وإظهار الدِّين، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ ؛ لا يعجزهُ شيْءٌ، ﴿ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ ؛ ذو نِقْمَةٍ ممن عصاهُ وكفرَ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾ ؛ تبديلُها أنْ يُزادَ فيها وينقصَ منها، وتستوِي جبالُها وأوديتها، وتُمَدَّ الأدِيْم العُكَاظِيِِّ أرضاً بيضاءَ كالفِضَّة، وتبديلُ السَّموات انفطارُها وانتشارُ كواكبها وتكويرُ شَمسِها وخسوفُ قمَرِها.
وذهب بعضُهم : إلى أنَّ الآيةَ على ظاهرِها، وأن هذه الأرضَ تُبَدَّلُ يومئذٍ بأرضٍ أُخرى، كما رُوي عن عائشةَ : أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَرَأ عَلَيَّ هَذِهِ الآيَةَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ فَأَيْنَ تَكُونَ النَّاسُ ؟ قَالَ :" عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ " يعني الصِّراطَ، وأما السمواتُ على هذا القولِ، فإنَّها تُطْوَى وتبدَّلُ سماءً أُخرى، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾[الأنبياء : ١٠٤]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ ؛ أي وبرَزُوا من قبورِهم للمحاسَبة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ ؛ أي وترَى يا مُحَمَّد الذين أجرَمُوا يومَ القيامةِ (مُقَرَّنِينَ) أي مجمُوعِين مع الشياطين ﴿ فِي الأَصْفَادِ ﴾ أي في الأغلالِ والسَّلاسلِ، كما رُوي في الخبرِ :" أَنَّهُ يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي غِلٍّ مِنْ حَدِيدٍ وَقَيْدٍ مِنْ مِنْ حَدِيدٍ " والأصفادُ الأغلال، واحدها صِفْدٌ وصِفَادٌ. وَقِيْلَ : الأصفادُ الأغلال والقيُودُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ﴾ ؛ أي قَميصُهم من نارٍ سَوداء كالْقَطْرَانِ، وهو الذي تُهْنَأٌ به الإبل، ومَن قرأ (مِنْ قِطْرٍ) فالمعنى : من نُحاسٍ مُذابٍ قد بلغَ النهاية في الحمايةِ. وتحتملُ أنَّهم يُسَرْبَلُونَ سَرْباً ؛ لأن أحدَهما من القِطْرِ، والاخر من القِطْرَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ﴾ ؛ أي يعلُو وجوهَهُم النارُ، وذلك أنَّ بين الكافر وشَيطانهِ حَجَراً من الكبريتِ يشتعلُ في وجههِ، ﴿ لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ ؛ ليجزِيَ الذين أسَاؤُا بما عمِلُوا، ويجزي الذين أحسَنُوا بالْحُسْنَى، ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ ؛ إذا حاسب فحسابه سريعٌ ؛ لأنه لا يحاسِبُ بعقدٍ وإشارة، ولا يتكلَّمُ بلسانٍ، وإنه يكَلِّمُ الجميعَ في وقتٍ واحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَـاذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾ ؛ أي هذا القرآنُ ذِكْرٌ بالغٌ وموعظة كافيةٌ للناسِ، وليُخَوَّفوا بذكرِ العقاب، ﴿ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ ؛ أي ليَتَّعِظَ ذوُو العقولِ من الناسِ، فيوصلَهم ذلك إلى الجنةِ، ويخلِّصَهم من النارِ.
عن أُبَيِّ بن كعبٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ إبْرَاهِيمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بعَدَدٍ مَنْ عَبَدَ الأَصْنَامَ، وَبعَدَدِ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا ".