تفسير سورة إبراهيم

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
مكية وآياتها ٥٢

﴿ كتاب ﴾ هو كتاب، يعني السورة. وقرىء :«ليخرج الناس ». والظلمات والنور : استعارتان للضلال والهدى ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق ﴿ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد ﴾ بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل، كقوله :﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٧٥ ] ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل : إلى أي نور ؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد.
وقوله :﴿ الله ﴾ عطف بيان للعزيز الحميد ؛ لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا. وقرىء بالرفع على :«هو الله ». الويل : نقيض الوأل، وهو النجاة اسم معنى، كالهلاك ؛ إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال : ويلاً له، فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات، فيقال : ويل له، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت : ما وجه اتصال قوله :﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ بالويل ؟ قلت : لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون : يا ويلاه، كقوله :﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٣ ].
﴿ الذين يَسْتَحِبُّونَ ﴾ مبتدأ خبره : أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين، ومنصوباً على الذمّ، أو مرفوعاً على أعني الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون، والاستحباب : الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة ؛ لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إِليه وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن «ويصِدّون »، بضم الياء وكسر الصاد. يقال : صدّه عن كذا، وأصدّه، قال :
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ ***
والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً، لتنقله من غير التعدّي إلى التعدّي. وأما صدّه، فموضوع على التعدية كمنعه، وليست بفصيحة كأوقفه ؛ لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل : ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل ﴿ فِى ضلال بَعِيدٍ ﴾ أي ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت : فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت : هو من الإسناد المجازي، والبعد في الحقيقة للضالّ ؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول : جدّ جدّه، ويجوز أن يراد : في ضلال ذي بعد. أو فيه بعد : لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
﴿ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ أي ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به، كما قال :﴿ وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعاً ﴿ قل يا أَيُّهَا النَّاس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضاً. قلت : لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها - مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربي كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً - لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى ﴿ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ بلغة قومه. وقرئ :«بلسن قومه ». واللسن واللسان : كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ :«بلُسن قومه » بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبيّ بلغة قومه، وليس بصحيح ؛ لأنّ قوله ليبين لهم ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد ﴿ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآء ﴾ كقوله ﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ] لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية : التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان ﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ فلا يغلب على مشيئته ﴿ الحكيم ﴾ فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف.
﴿ أَنْ أَخْرِجْ ﴾ بمعنى أي أخرج ؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل : قولهم أوعز إليه بأن أفعل، فأدخلوا عليها حرف الجر. وكذلك التقدير بأن أخرج قومك ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بأيام الله ﴾ وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم : قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذي قار، ويوم الفجار، ويوم قضة وغيرها، وهو الظاهر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نعماؤه وبلاؤه. فأمّا نعماؤه، فإنه ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى. وفلق لهم البحر. وأمّا بلاؤه فإهلاك القرون ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر وقيل : أراد لكل مؤمن، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيهاً عليهم.
﴿ إِذْ أَنجَاكُمْ ﴾ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب بعليكم ؟ قلت : لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه، ويتبين الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت : نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاماً، ويجوز أن يكون «إذ » بدلا من نعمة الله، أي : اذكروا وقت إنجائكم، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت : في سورة البقرة ﴿ يُذَبّحُونَ ﴾ وفي الأعراف ﴿ يَقْتُلُونَ ﴾ وههنا ﴿ وَيُذَبِّحُونَ ﴾ مع الواو، فما الفرق ؟ قلت : الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر. فإن قلت : كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم ؟ قلت : تمكينهم وإمهالهم، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله. ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً، قال تعالى ﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] وقال زهير :
فَأَبْلاَهُمَا خَيرَ البَلاَءِ الذي يَبْلُوا ***
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ﴾ من جملة ما قال موسى لقومه، وانتصابه للعطف على قوله :﴿ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ] كأنه قيل : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم. ومعنى تأذن ربكم : أذن ربكم. ونظير تأذن وأذن : توعد وأوعد، تفضل وأفضل. ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل : وإذ أذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى : وإذ تأذن ربكم فقال :﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ ﴾ أو أجرى ﴿ تَأَذَّنَ ﴾ مجرى، قال : لأنه ضرب من القول. وفي قراءة ابن مسعود :«وإذ قال ربكم لئن شكرتم »، أي لئن شكرتم يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح ﴿ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم ﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ وغمطتم ما أنعمت به عليكم ﴿ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ ﴾ لمن كفر نعمتي.
﴿ وَقَالَ موسى ﴾ إن كفرتم أنتم يا بني إسرائيل والناس كلهم، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج، والله غني عن شكركم ﴿ حَمِيدٌ ﴾ مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه، وإن لم يحمده الحامدون.
﴿ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله ﴾ جملة من مبتدأ وخبر، وقعت اعتراضاً : أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح. و ﴿ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله ﴾ اعتراض. والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون، يعني أنهم يدّعون علم الأنساب، وقد نفي الله علمها عن العباد ﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ ﴾ فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل، كقوله :﴿ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ ﴾ [ آل عمران : ١١٩ ] أو ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم ﴿ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾ أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطاً لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله :﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾ وهذا قول قوي. أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء : أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل : الأيدي، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادي، أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها [ إلى حيثُ جاءت ] منه على طريق المثل ﴿ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ ﴾ من الإيمان بالله. وقرىء :«تدعونا » بإدغام النون ﴿ مُرِيبٍ ﴾ موقع في الريبة أو ذي ريبة، من أرابه، وأراب الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
﴿ أَفِى الله شَكٌّ ﴾ أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه ﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ أي يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله : دعوته لينصرني، ودعوته ليأكل معي، وقال :
دَعَوْتُ لِمَا نَابنِي مِسْوَرا فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
فإن قلت : ما معنى التبعيض في قوله : من ذنوبكم ؟ قلت : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله :﴿ واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ نوح : ٣ - ٤ ]، ﴿ يا قومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذنوبكم ﴾ [ الأحقاف : ٣١ ] وقال في خطاب المؤمنين :﴿ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الصف : ١٠ ] إلى أن قال ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [ الصف : ١٢ ] وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد، وقيل : أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها ﴿ وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره، يبلغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ﴿ إِنْ أَنتُمْ ﴾ ما أنتم ﴿ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ﴾ لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوّة دوننا، ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة ﴿ بسلطان مُّبِينٍ ﴾ بحجة بينة، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجاً.
﴿ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ﴾ تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم، واقتصروا على قولهم ﴿ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ بالنبوّة، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استؤثروا بها على أبناء جنسهم ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله ﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمروها به، كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجري علينا منكم.
ألا ترى إلى قوله :﴿ وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله ﴾ ومعناه : وأيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه ﴿ وَقَدْ هَدَانَا ﴾ وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين، فإن قلت : كيف كرّر الأمر بالتوكل ؟ قلت : الأول لاستحداث التوكل، وقوله :﴿ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون ﴾ معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم.
﴿ لَنُخْرِجَنَّكُمْ ﴾، ﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ ﴾ ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم إما عودكم حالفين على ذلك. فإن قلت : كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها. قلت : معاذ الله، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون صار، ولكن عاد، ما عدت أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد ﴿ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين ﴾ حكاية تقتضي إضمار القول، أو إجراء الإيجاء مجرى القول، لأنه ضرب منه. وقرأ أبو حيوة :«ليهلكنّ »«وليسكننكم » بالياء اعتباراً لأوحى.
«وليسكننكم » بالياء اعتباراً لأوحى، وأن لفظه لفظ الغيبة، ونحوه قولك : أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن. والمراد بالأرض. أرض الظالمين وديارهم، ونحوه ﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ]، ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم ﴾ [ الأحزاب : ٢٧ ]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من آذى جاره ورثه الله داره " ولقد عاينت هذا في مدة قريبة : كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدّثتهم به، وسجدنا شكراً لله ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم، أي ذلك الأمر حق ﴿ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى ﴾ موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل : خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين، كقوله :﴿ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ].
﴿ واستفتحوا ﴾ واستنصروا الله على أعدائهم ﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح ﴾ [ الأنفال : ١٩ ] أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] وهو معطوف على ﴿ أوحي إليهم ﴾ وقرئ :«واستفتحوا » بلفظ الأمر. وعطفه على ﴿ لتهلكنّ ﴾ أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا ﴿ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا، وخاب كل جبار عنيد، وهم قومهم. وقيل : واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه.
﴿ مِّن وَرَآئِهِ ﴾ من بين يديه. قال :
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ
وهذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف، فإن قلت : علام عطف ﴿ ويسقى ﴾ ؟ قلت : على محذوف تقديره : من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقي من ماء صديد، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله :﴿ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ﴾. فإن قلت : ما وجه قوله تعالى ﴿ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ ﴾ ؟ قلت : صديد عطف بيان لماء، قال :﴿ ويسقى مِن مَّآءٍ ﴾ فأبهمه إبهاماً ثم بينه بقوله ﴿ صَدِيدٍ ﴾ وهو ما يسيل من جلود أهل النار.
﴿ يَتَجَرَّعُهُ ﴾ يتكلف جرعه ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ دخل كاد للمبالغة. يعني : ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله :﴿ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ [ النور : ٤٠ ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ﴿ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعاً لما يصيبه من الآلام. وقيل :﴿ مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل : من أصل كل شعرة ﴿ وَمِن وَرَآئِهِ ﴾ ومن بين يديه ﴿ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا - والفتح المطر - في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار. واستفتحوا - على هذا التفسير - : كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم.
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه، تقديره : وفيما يقص عليك ﴿ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ ﴾ والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله :﴿ أعمالهم كَرَمَادٍ ﴾ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم ؟ فقيل : أعمالهم كرماد. ويجوز أن يكون المعنى : مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبراً للمبتدأ، أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وما له مبذول، أو يكون أعمالهم بدلاً من ﴿ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ ﴾ على تقدير : مثل أعمالهم، وكرماد : الخبر وقرىء :«الرياح » ﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك : يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها وقرئ :«في يوم عاصف »، بالإضافة وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجازة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه : برماد طيرته الريح العاصف ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ ﴾ يوم القيامة ﴿ مِمَّا كَسَبُواْ ﴾ من أعمالهم ﴿ على شَىْءٍ ﴾ أي لا يرون له أثراً من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء ﴿ ذلك هُوَ الضلال البعيد ﴾ إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب ﴿ بالحق ﴾ بالحكمة والغرض الصحيح والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة.
وقرئ :«خالق السموات والأرض » ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم، إعلاماً منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم، يقدر على الشيء وجنس ضده.
﴿ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ بمتعذر، بل هو هين عليه يسير، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف، تكوّن من غير توقف : كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف، وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد، ويخاف عقابه ويرجى ثوابه في دار الجزاء.
﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ ﴾ ويبرزون يوم القيامة. وإنما جيء به بلفظ الماضي، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد، ونحوه :﴿ وَنَادَى أصحاب الجنة ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ]، ﴿ ونادى أصحاب النار ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ] ونظائر له. ومعنى بروزهم لله - والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له - أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية. أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. فإن قلت : لما كتب ﴿ الضعفؤا ﴾ بواو قبل الهمزة ؟ قلت : كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره ﴿ علمؤا بَنِى إسرائيل ﴾ [ الشعراء : ١٩٧ ] والضعفاء : الأتباع والعوام والذين استكبروا : ساداتهم وكبراؤهم، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم ﴿ تَبَعًا ﴾ تابعين : جمع تابع على تبع، كقولهم : خادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع. والتبع : الأتباع، يقال : تبعه تبعاً. فإن قلت : أي فرق بين من في ﴿ مّنْ عَذَابِ الله ﴾ وبينه في ﴿ مِن شَىْء ﴾ ؟ قلت : الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله. ويجوز أن تكونا للتبعيض معاً، بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، أي : بعض بعض عذاب الله فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ ؟ قلت : الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم وعتاباً على استتباعهم واستغوائهم. وقولهم :﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا ﴾ من باب التبكيت ؛ لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم : بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم، إما موركين الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله، كما حكى الله عنهم وقالوا ﴿ لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ]، ﴿ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء ﴾ [ النحل : ٣٥ ] يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا. ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء ﴾ [ المجادلة : ١٨ ]. وإما أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وقيل : معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم، أي : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة ﴿ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ﴾ مستويان علينا الجزع والصبر. والهمزة وأم للتسوية. ونحوه :﴿ فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم ﴾ [ الطور : ١٦ ] وروي أنهم يقولون : تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون : تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك ثم يقولون : سواء علينا.
فإن قلت : كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله ؟ اتصاله من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعاً مما هم فيه، فقالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ. أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا :﴿ مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾ أي منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا، ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً، كأنه قيل : قالوا جميعاً سواء علينا، كقوله :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أخنه ﴾ [ يوسف : ٥٢ ] والمحيص يكون مصدراً كالمغيب والمشيب. ومكاناً كالمبيت والمصيف. ويقال : حاص عنه وجاض، بمعنى واحد.
﴿ لَمَّا قُضِىَ الأمر ﴾ لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار. وروي أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك ﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق ﴾ وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ﴿ وَوَعَدتُّكُمْ ﴾ خلاف ذلك ﴿ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان ﴾ من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها ﴿ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ ﴾ إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولك : ما تحيتهم إلا الضرب. ﴿ فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. فإن قلت : قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به. قلت : لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام : ألا ترى إلى قوله :﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ كيف أتى فيه بالحق والصدق، وفي قوله :﴿ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان ﴾ وهو مثل قول الله تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]، ﴿ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ ﴾ لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه. والإصراخ : الإغاثة. وقرىء :«بمصرخي » بكسر الياء وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول :
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَاتَا في قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِي
وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء ؟ فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحرّكت بالكسر على الأصل. قلت : هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات. «ما » في ﴿ بِمَا أشركتموني ﴾ مصدرية، و ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ متعلقة بأشركتموني، يعني : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي في الدنيا، كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ﴾ [ فاطر : ١٤ ] ومعنى كفره بإشراكهم إياه : تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى :﴿ إِنَّا بُرَءاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] وقيل :﴿ مِن قَبْلُ ﴾ يتعلق بكفرت. وما موصولة، أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل، تقول : شركت زيداً، فإذا نقلت بالهمزة قلت : أشركنيه فلان، أي : جعلني له شريكاً. ونحو «ما » هذه «ما » في قولهم : سبحان ما سخركنّ لنا. ومعنى إشراكهم الشيطان بالله : طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها، وهذا آخر قول إبليس، وقوله :﴿ إِنَّ الظالمين ﴾ قول الله عزّ وجلّ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجهم. وقرىء :«فلا يلوموني »، بالياء على طريقة الالتفات، كقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد :«وأدخل الذين آمنوا » على فعل المتكلم، بمعنى : وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله، لا من قول إبليس ﴿ بِإِذْنِ رَبّهِمْ ﴾ متعلق بأدخل، أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. فإن قلت : فبم يتعلق في القراءة الأخرى، وقولك : وأدخلهم أنا بإذن ربهم، كلام غير ملتئم ؟ قلت : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله :﴿ بِإِذْنِ رَبّهِمْ ﴾ بما بعده، أي ﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام ﴾ بإذن ربهم، يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.
قرئ :«ألم تر » ساكنة الراء، كما قرئ :«من يتق »، وفيه ضعف ﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً ﴾ اعتمد مثلاً ووضعه. و ﴿ كَلِمَةً طَيّبَةً ﴾ نصب بمضمر، أي : جعل كلمة طيبة ﴿ كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ﴾ وهو تفسير لقوله :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً ﴾ كقولك : شرّف الأمير زيداً : كساه حلة، وحمله على فرس. ويجوز أن ينتصب ﴿ مثل الذين ﴾ و ﴿ كَلِمةًَ ﴾ بضرب، أي : ضرب كلمة طيبة مثلاً، بمعنى جعلها مثلاً ثم قال :﴿ كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ﴾ على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى هي كشجرة طيبة ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها ﴿ وَفَرْعُهَا ﴾ وأعلاها ورأسها ﴿ فِى السماء ﴾ ويجوز أن يريد : وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس. وقرأ أنس بن مالك «كشجرة طيبة ثابت » أصلها فإن قلت : أيّ فرق بين القراءتين ؟ قلت : قراءة الجماعة أقوى معنى ؛ لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة، وإذا قلت : مررت برجل أبوه قائم، فهو أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه ؛ لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل. والكلمة الطيبة : كلمة التوحيد. وقيل : كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : " إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي " فوقع الناس في شجر البوادي، وكنت صبياً، فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم. وروي : فمنعني مكان عمر واستحييت، فقال لي عمر : يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إنها النخلة "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : شجرة في الجنة وقوله :﴿ فِى السماء ﴾ معناه في جهة العلوّ والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل : طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه.
﴿ تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ﴾ تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها ﴿ بِإِذْنِ رَبّهَا ﴾ بتيسير خالقها وتكوينه ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني.
﴿ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ كمثل شجرة خبيثة، أي : صفتها كصفتها. وقرئ :«ومثل كلمة » بالنصب، عطفاً على كلمة طيبة، والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك. وقيل : كل كلمة قبيحة. وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث ونحو ذلك. وقوله :﴿ اجتثت مِن فَوْقِ الأرض ﴾ في مقابلة قوله :﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ [ إبراهيم : ٢٤ ] ومعنى ﴿ اجتثت ﴾ استؤصلت، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها ﴿ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ أي استقرار. يقال : قرّ الشيء قراراً، كقولك : ثبت ثباتاً شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إنما يضمحل عن قريب لبطلانه، من قولهم : الباطل لجلج. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في كلمة خبيثة ؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة.
﴿ القول الثابت ﴾ الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه، وتثبيتهم به في الدنيا : أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر. وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذكر قبض روح المؤمن فقال «ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله :» يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت «﴿ وَيُضِلُّ الله الظالمين ﴾ الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا :﴿ إِنَّا وَجَدْنآ ءابآءَنَا ﴾ [ الزخرف : ٢٢ - ٢٣ ] وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء، وهم في الآخرة أضل وأذل ﴿ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآء ﴾ أي ما توجبه الحكمة ؛ لأن مشيئة الله تابعة للحكمة، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم.
﴿ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله ﴾ أي شكر نعمة الله ﴿ كُفْراً ﴾ لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً، ونحوه :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٢ ] أي شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه. ووجه آخر : وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة. وهم أهل مكة : أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوّام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم، وعن عمر رضي الله عنه : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل : هم متنصرة العرب : جبلة بن الأيهم وأصحابه ﴿ وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ ﴾ ممن تابعهم على الكفر ﴿ دَارَ البوار ﴾ دار الهلاك.
وعطف ﴿ جَهَنَّمَ ﴾ على دار البوار عطف بيان قرئ :«ليضلوا » بفتح الياء وضمها. فإن قلت : الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد فما معنى اللام قلت : لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك : جئتك لتكرمني، نتيجة المجيء، دخلته اللام وإن لم يكن غرضاً، على طريق التشبيه والتقريب.
﴿ تَمَتَّعُواْ ﴾ إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه، وهو أمر الشهوة. والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة ﴿ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار ﴾ ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه ﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار ﴾ [ الزمر : ٨ ].
المقول محذوف، لأن جواب ﴿ قُل ﴾ يدل عليه، وتقديره ﴿ قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ ﴾ أقيموا الصلاة وأنفقوا ﴿ يُقِيمُواْ الصلاوة وَيُنْفِقُواْ ﴾ وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا، بمعنى : ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول، قالوا : وإنما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الذي هو ﴿ قُل ﴾ عوض منه، ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز فإن قلت : علام انتصب ﴿ سِرّا وَعَلاَنِيَةً ﴾ ؟ قلت : على الحال، أي : ذوي سرّ وعلانية، بمعنى : مسرين ومعلنين. أو على الظرف، أي وقتي سر وعلانية، أو على المصدر، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية، [ و ] المعنى : إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب. والخلال : المخالة. فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه ﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال ﴾ قلت : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيراً منها. وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله تعالى :﴿ وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تَجْزِى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى ﴾ [ الليل : ١٩-٢٠ ] فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله، وقرئ :«لا بيع فيه ولا خلالُ » بالرفع.
﴿ الله ﴾ مبتدأ، و ﴿ الذى خَلَقَ ﴾ خبره، و ﴿ مِنَ الثمرات ﴾ بيان للرزق، أي : أخرج به رزقاً هو ثمرات. ويجوز أن يكون ﴿ مِنَ الثمرات ﴾ مفعول أخرج، و ﴿ رِزْقاً ﴾ حالاً من المفعول، أو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق ﴿ بِأَمْرِهِ ﴾ بقوله كن.
﴿ دآئِبَينَ ﴾ يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الَّيْلَ والنَّهَارَ ﴾ يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم.
﴿ وءاتاكم مِّن كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ﴾ من للتبعيض، أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم. وقرئ :«من كلّ » بالتنوين، وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ﴿ مَا ﴾ موصولة، على : وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ﴿ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال. وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله ﴿ لَظَلُومٌ ﴾ يظلم النعمة بإغفال شكرها ﴿ كَفَّارٌ ﴾ شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.
﴿ هذا البلد ﴾ يعني البلد الحرام، زاده الله أمناً، وكفاه كل باغ وظالم، وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام ﴿ ءَامِناً ﴾ ذا أمن. فإن قلت : أي فرق بين قوله :﴿ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] وبين قوله :﴿ اجعل هذا البلد ءَامِنًا ﴾ ؟ قلت : قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال : هو بلد مخوف، فاجعله آمناً ﴿ واجنبنى ﴾ وقرئ :«وأجنبني »، وفيه ثلاث لغات : جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه ؛ فأهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد جنبني وأجنبني، والمعنى : ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها ﴿ وَبَنِىَّ ﴾ أراد بنيه من صلبه وسئل ابن عيينة : كيف عبدت العرب الأصنام ؟ فقال : ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً، واحتج بقوله :﴿ واجنبني وبني ﴾ ﴿ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا : البيت حجر، فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال : طاف بالبيت، ولا يقال : دار بالبيت.
﴿ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس ﴾ فأعوذ بك أن تعصمني وبنيَّ من ذلك، وإنما جعلن مضلات ؛ لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ، فكأنهنّ أضللنهم، كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها ﴿ فَمَن تَبِعَنِى ﴾ على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي ﴿ فَإِنَّهُ مِنِّى ﴾ أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي، وكذلك قوله : " من غشنا فليس منا " أي ليس بعض المؤمنين، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم ﴿ وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي. وقيل : معناه ومن عصاني فيما دون الشرك.
﴿ مِن ذُرّيَّتِى ﴾ بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه ﴿ بِوَادٍ ﴾ هو وادي مكة ﴿ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ ﴾ لا يكون فيه شيء من زرع قط، كقوله :﴿ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ﴾ [ الزمر : ٢٨ ] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة لا غير. وقيل للبيت المحرم، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرماً لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار، كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها، أو لأنه حرّم على الطوفان أي منع منه، كما سُمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ﴿ لِيُقِيمُواْ الصلاة ﴾ اللام متعلقة بأسكنت، أي : ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع، مستسعدين بجوارك الكريم، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك، والطواف به، والركوع والسجود حوله، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك ﴿ أَفْئِدَةً مِّنَ الناس ﴾ أفئدة من أفئدة الناس، ومن للتبعيض، ويدل عليه ما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم، وقيل : لو لم يقل ﴿ مِّنَ ﴾ لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند ويجوز أن يكون ﴿ مِّنَ ﴾ للابتداء، كقولك : القلب مني سقيم، تريد قلبي، فكأنه قيل : أفئدة ناس، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة. وقرئ :«آفدة »، بوزن عاقدة. وفيه وجهان، أحدهما : أن يكون من القلب كقولك : آدر، في أدؤر. والثاني : أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت، أي جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم. وقرئ :«أفدة »، وفيه وجهان : أن تطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين. وأن يكون من أفد ﴿ تَهْوِى إِلَيْهِمْ ﴾ تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً من قوله :
يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ ***
وقرئ :«تُهْوَى إليهم »، على البناء للمفعول، من هوى إليه وأهواه غيره. وتهوى إليهم، من هوى يهوي إذا أحب، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته ﴿ وارزقهم مّنَ الثمرات ﴾ مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها، بأن تجلب إليهم من البلاد ﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرماً آمناً تجبى إليه. ثمرات كل شيء رزقاً من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب، متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام، ورزقنا طرفاً من سلامة ذلك القلب السليم.
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى ﴿ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ ﴾ تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك، وتخشعاً لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقاراً إلى ما عندك، واستعجالاً لنيل أياديك، وولهاً إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، رغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة. وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل : ما تخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق، وما نعلن : يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله أكلكم. قالت : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم. قالت : إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف ﴿ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْءٍ ﴾ من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام، كقوله :﴿ وكذلك يَفْعَلُونَ ﴾ [ النمل : ٣٤ ] أو من كلام إبراهيم، يعني : وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. «ومن » للاستغراق، كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما.
﴿ عَلَى ﴾ في قوله :﴿ عَلَى الكبر ﴾ بمعنى مع كقوله :
إنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ
وهو في موضع الحال، معناه : وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة، وقد روي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم ﴿ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء ﴾ كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال : رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت : الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه. قلت : هو من قولك : سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه : سمع الله لمن حمده وفي الحديث. " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن " فإن قلت : ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء ؟ قلت : إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك : هذا ضروب زيداً، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أموراً، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي. والمراد سماع الله.
﴿ وَمِن ذُرّيَّتِى ﴾ وبعض ذرّيتي، عطفاً على المنصوب في اجعلني، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله :﴿ اَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]. ﴿ وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ أي عبادتي ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ مريم : ٤٨ ].
في قراءة أبيّ «ولأبويّ ». وقرأ سعيد بن جبير :«ولوالدي »، على الإفراد، يعني أباه، وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما :«ولولديّ » يعني إسماعيل وإسحاق. وقرىء :«لولدي » بضم الواو. والولد بمعنى الولد، كالعدم والعدم. وقيل : جمع ولد، كأسد في أسد. وفي بعض المصاحف : ولذرّيتي. فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين ؟ قلت : هو من مجوّزات العقل لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء وقيل : بشرط الإسلام. ويأباه قوله ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحاً لا مقال فيه، فكيف يستثني الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الحساب ﴾ أي يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم : قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم : ترجلت الشمس : إذا أشرقت وثبت ضوؤها، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً، أو يكون مثل ﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] وعن مجاهد : قد استجاب الله له فيما سأل، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته، وجعل البلد آمناً، ورزق أهله من الثمرات. وجعله إماماً، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة، وأراه مناسكه، وتاب عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم ﴿ ربنا إني أسكنت ﴾ الآية [ إبراهيم : ٣٧ ]، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم.
فإن قلت : يتعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلاً حتى قيل ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا ﴾ ؟ قلت : إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان. أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً، كقوله :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ﴾ [ الأنعام : ١٤ ]، ﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٣ ]، كما جاء في الأمر ﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] والثاني : أنّ المراد بالنهي عن حسبانه غافلاً، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله :﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] يريد الوعيد. ويجوز أن يراد : ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، المحاسب على النقير والقطمير، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً، لجهله بصفاته، فلا سؤال فيه، وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له من قال هذا ؟ فغضب وقال : إنما قاله من علمه وقرىء :«يؤخرهم » بالنون والياء ﴿ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾ أي أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى.
﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ مسرعين إلى الداعي. وقيل : الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف ﴿ مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ ﴾ رافعيها ﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أي : لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل : قلب فلان هواء إذا كان جباناً لا قوّة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضاً : قلبه هواء. قال زهير :
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ ***
لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان :
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ ***
وعن ابن جريج ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوآءُ ﴾ صفر من الخير خاوية منه، وقال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم.
﴿ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب ﴾ مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى ﴿ أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم : يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله :﴿ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ﴾ [ المنافقون : ١٠ ] ﴿ أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ ﴾ على إرادة القول، وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بطرا وأشراً، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنووا شديداً وأمّلوا بعيداً و ﴿ مَا لَكُمْ ﴾ جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله ﴿ أَقْسَمْتُمْ ﴾ ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما لنا ﴿ مّن زَوَالٍ ﴾ والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء، وقيل : لا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرهم بالبعث، كقوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ].
يقال : سكن الدار وسكن فيها. ومنه قوله تعالى :﴿ وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعدّيه بفي، كقولك : قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : سكن الدار كما قيل : تبوأها وأوطنها. ويجوز أن يكون : سكنوا من السكون، أي : قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدّثونها بما لقي الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا ﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ ﴾ بالإخبار والمشاهدة ﴿ كَيْفَ ﴾ أهلكناهم وانتقمنا منهم. وقرىء :«ونبين لكم »، بالنون ﴿ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال ﴾ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم.
﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ ﴾ أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ﴿ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ ﴾ لا يخلو إمّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأوّل، على معنى : ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى :﴿ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ ﴾ الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون ﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال ﴾ وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته، أي : وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال، معداً لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً.
وتنصره قراءة ابن مسعود :«وما كان مكرهم ». وقرىء :«لتزول »، بلام الابتداء، على :﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ ﴾ من الشدّة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها. وقرأ علي وعمر رضي الله عنهما :«وإن كاد مكرهم » ﴿ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ يعني قوله :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ﴾ [ غافر : ٥١ ]، ﴿ كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ﴾ [ المجادلة : ٢١ ].
فإن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده ؟ ولم قدم المعفول الثاني على الأول ؟ قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً، كقوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد ﴾ [ آل عمران : ٩ ] ثم قال :﴿ رُسُلَهُ ﴾ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً - وليس من شأنه إخلاف المواعيد - كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته ؟ وقرئ :«مخلف وعدَه رسلهِ »، بحرّ الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ ﴿ قَتْلَ أولادهم شُرَكَائِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٧ ]. ﴿ العزيز ﴾ غالب لا يماكر ﴿ ذُو انتقام ﴾ لأوليائه من أعدائه.
﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض ﴾ انتصابه على البدل من يوم يأتيهم. أو على الظرف للانتقام. والمعنى : يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وكذلك السموات. والتبديل : التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك : بدّلت الدراهم دنانير ومنه ﴿ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ [ النساء : ٥٦ ] و ﴿ بدّلناهم بجنتيهم جنتين ﴾ [ سبأ : ١٦ ] وفي الأوصاف، كقولك : بذلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً، فنقلتها من شكل إلى شكل، ومنه قوله تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ] واختلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل : تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها. وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وعن ابن عباس : هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد :
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ عَهِدْتَهُم وَلاَ الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِي كُنْتَ تَعْلَم
وتبدّل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها، وكونها أبواباً. وقيل : يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة. وعن علي رضي الله عنه تبدّل أرضاً من فضة، وسموات من ذهب. وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وقرىء :«يوم نبدّل الأرض »، بالنون. فإن قلت : كيف قال ﴿ الواحد القهار ﴾ ؟ قلت : هو كقوله ﴿ لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار ﴾ [ غافر : ١٦ ] لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة.
﴿ مُقْرِنِينَ ﴾ قرن بعضهم مع بعض. أو مع الشياطين. أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين. وقوله :﴿ فِى الأصفاد ﴾ إمّا أن يتعلق بمقرّنين، أي : يقرنون في الأصفاد. وإمّا أن لا يتعلق به، فيكون المعنى : مقرّنين مصفدين. والأصفاد : القيود وقيل الأغلال، وأنشد لسلامة بن جندل :
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لاَقَى صِفَادا يَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ
القطران : فيه ثلاث لغات : قطران، وقطران وقطران : بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ، فتهنأ به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته، والجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف، ومن شأنه أن يسرع في اشتغال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران. وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه، وقرىء :«من قطران » والقطر : النحاس أو الصفر المذاب. والآني : المتناهي حرّه ﴿ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار ﴾ كقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب ﴾ [ الزمر : ٢٤ ]، ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ [ القمر : ٤٨ ] لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه، كالقلب في باطنه، ولذلك قال :﴿ تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة ﴾ [ الهمزة : ٧ ] وقرىء :«وتغشى وجوههم »، بمعنى تتغشى : أي يفعل بالمجرمين ما يفعل.
﴿ لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ ﴾ مجرمة ﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم.
﴿ هذا بلاغ لّلنَّاسِ ﴾ كفاية في التذكير والموعظة، يعني بهذا ما وصفه من قوله ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ إلى قوله :﴿ سَرِيعُ الحساب ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ]. ﴿ وَلِيُنذَرُواْ ﴾ معطوف على محذوف، أي لينصحوا ولينذروا ﴿ بِهِ ﴾ بهذا البلاغ. وقرىء :«ولينذروا » بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعدّ له ﴿ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾ لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد، لأنّ الخشية أمّ الخير كله.
Icon