تفسير سورة الإسراء

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة :
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات. وآياتها مائة وإحدى عشرة آية. وهذه السورة حافلة بالأخبار والغيبيات والمشاهد. ويأتي في طليعة ذلك كله ما بُدئت به السورة، وهو الحديث عن الإسراء برسول الله ( ص ) من مكة إلى بيت المقدس ليلا، وذلك في قوله سبحانه :( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ). إن هذا الحديث كريم ومبارك، وهو هائل وجلل في مدلوله ومعناه. ذلك يتجلى في الملاحظات التالية :
الملاحظة الأولى : وهي التكريم البالغ لرسول الله ( ص )، هذا النبي الأمي المفضال، سيد الأولين والآخرين، وإمام البشرية في هذه الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. وليس أدل على ذلك من اجتماع الأنبياء في بيت المقدس في هذه الليلة ليؤدوا الصلاة مجتمعين من خلف إمامهم محمد ( ص ). لا جرم أن هذه مكرمة قدسية رفافة، أوتيها نبينا ( ص )، فكان بها في الذروة السامقة من سلم الأطهار الأعاظم، والنبيين الأكارم.
الملاحظة الثانية : أن هذا الحديث الجلل لهو وثيق الصلة بصلب العقيدة الإسلامية نفسها، وهو من مقتضيات الإيمان في دين الإسلام، فهو بذلك حقيقة لا تحتمل التحذلق أو مثقال ذرة من شك أو ريبة، بل ذلك حدث قطعي لا شك فيه، ولا ينكره أو يرتاب فيه أو يتأوله على غير محمله الصحيح الثابت إلا جاحد زنديق، ليس له في حساب التقييم إلا أن يكون في عداد المرتدين المارقين.
الملاحظة الثالثة : في هذا الحدث العجيب الأكبر تتجلى مكانة القدس، قبلة المسلمين الأولى، ومهبط الوحي للعروج من ثم برسول الله ( ص ) إلى السموات العلا، ليرى هنالك من آيات الله الكبرى.
وعلى هذا فإن للقدس منزلة عليا في قلوب المسلمين في كل بقاع الدنيا، في هذا الزمان وفي كل زمان. وهي منزلة كريمة مميزة، ليست لغيرها من المدن إلا ما كان لمكة أو المدينة المنورة.
ولئن كانت الأوطان في تصور الإسلام تحتل أبلغ الاهتمام والتقدير، وتستوجب الجهاد واستعمال القوة دون أي بلد من بلدان الإسلام مهما كلف الثمن، فإن مدينة القدس لهي أسمى وأعظم قداسة من سائر البلدان ؛ فما من عدوان يطرأ عليها متربص دخيل إلا كان عدوانا على عقيدة المسلمين في سائر أوطانهم وديارهم، وفوق ذلك كله : فإن مدينة القدس تحفّ بها البركة والطهر، ولا يسكنها أو يرغب في الإقامة فيها من المسلمين إلا كتب له الأجر العظيم من ربه، وكان في زمرة المرابطين المصابرين.
الملاحظة الرابعة : أن مدينة القدس قد شهدت ألوانا من حملات الطغيان والاعتداءات عليها، سواء بالاحتلال البغيض، أو التقتيل، أو الترهيب، أو تغيير المعالم وكلِّ أوجه الحضارة فيها. وهي حملات واعتداءات ظالمة، أفرزتها طبائع المجرمين الظالمين، الذين ما فتئوا يتآمرون على هذه المدينة الإسلامية، لسلخها من جسم الإسلام والمسلمين.
مؤامرة وخيانات عاتية وتترى، قد اجتمعت عليها قوى الشر، وأساطين الطغيان والكفر، من عتاة البشرية وطواغيتها، ما بين صليبيين، واستعماريين، وماسونيين، وصهيونيين، كل أولئك قد تمالأوا على الإسلام والمسلمين، لاغتصاب فلسطين المسلمة من أهلها، وفي طليعتها القدس.
ولئن أفلح هؤلاء الخصوم العتاة اللّد في اغتصاب فلسطين والقدس ؛ فإن طوفان الإسلام الهادر آت لا محالة، ليطحطح عن هذه الأرض المباركة كابوس الفساد والشر، ولينسف قواعد الكفر والإباحية والعدوان نسفا. وحينئذ تعود البلاد المغتصبة لحظيرة الإسلام والمسلمين، حيث الوضع السليم الذي كتبه الله في قرآنه لفلسطين والقدس.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنيره من آياتنا إنه هو السميع البصير ﴾ ( سبحان )، اسم علم للتسبيح. سبحت الله تسبيحا وسبحانا ؛ فالتسبيح هو المصدر. و ( سبحان ) اسم علم للتسبيح. وسبحان الله، معناه تنزيه الله تعالى من كل سوء١.
قوله :( أسرى بعبده ليلا ) سرى وأسرى، من الإسراء وهو السير ليلا.
والمراد بعبده محمد ( ص ) ؛ فقد أسرى الله به ليلا، بلفظ التنكير، لقلة المدة التي وقع فيها الحدث القدسي الهائل ؛ إذ أسرى الله برسوله الكريم ( ص ) في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، في عرف السابقين من ذلك الزمان وكان ذلك قبل الهجرة بعدة أعوام. وسمي بالأقصى لبعد المسافة بين المسجدين ؛ ولأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد.
وهل وقع الإسراء بالروح وحده، أو بالروح والجسد معا ؟ فقد ذهب معظم العلماء من السلف والخلف من المسلمين إلى أن النبي ( ص ) قد أسري بروحه وجسده معا، وأنه ركب البراق بمكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه، ثم عرج بجسده من ثم إلى السموات. ويدل على ذلك : أن الحدث في ذاته معجزة هائلة. وهي دليل الوقوع بالروح والجسد مجتمعين. ولو كان الإسراء بالروح دون الجسد كالرؤيا في المنام لما كان في ذلك آية ولا معجزة ولما كان مدعاة للدهش والعجب، ولا معنى للبدء بتنزيه الله نفسه بقوله :( سبحان ) لا جرم أن البداية بهذا التعبير يكشف عن خبر مذهل وجلل قد تحقق في عملية الإسراء. ولا يكون ذلك بمجرد الروح.
وهو أمر غير عجيب ولا مثير ؛ بل إن ما حصل كان معجزة ضخمة لا تعني غير الإسراء بالروح والجسد مجتمعين. ويعزز ذلك ويؤيده ما ورد في هذه المسألة من أخبار كثيرة، منها ما أخرجه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) : " لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت٢ وعرفت أن الناس مكذبي، فقعدت معتزلا حزينا فمرّ به أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ فقال رسول الله ( ص ) : " نعم " قال : وما هو ؟ قال : " إني أسري بي الليلة " قال إلى أين ؟ قال : " إلى بيت المقدس " قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : " نعم " فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه. فقال : أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني ؟ فقال رسول الله ( ص ) : " نعم " فقال : يا معشر بني كعب بن لؤي. قال : فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال : حدث قومك بما حدثني. قال رسول الله ( ص ) : " إني أسري بي الليلة " فقالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى بيت المقدس " قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟. قال : " نعم " قال : فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا. قالوا : ونستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ - وفيهم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد- فقال رسول الله ( ص ) : " فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه " فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب فيه.
ويستفاد من شدة تكذيب القوم واستنكارهم أن هذا الحدث العظيم ما كان ليحصل إلا بالروح والجسد ؛ فإنه ما كان لمثل هذا الدهش الذي طغى على المشركين ليكون لو أن حدث الإسراء حصل بالروح دون الجسد ؛ فرؤيا المنام لا مدعاة فيها لعجب أو إثارة ؛ لكن القوم قد أخذهم الذهول أخذا لإدراكهم أن المراد من الإسراء هو تحققه بالروح والجسد معا.
قوله :( الذي باركنا حوله ) والمراد بركات الدين والدنيا. أما الدين : فبيت المقدس متعبد الأنبياء ومهبط الوحي، وقد دفن حوله من الأنبياء والصالحين كثيرون. أما الدنيا : فقد جعل الله البركة لساكنيه في معايشهم وأرزاقهم وحروثهم وثمراتهم.
قوله :( لنريه من آياتنا ) لقد أراه الله في طريقه إلى بيت المقدس وبعد مصيره إليه وصعوده في السماوات من العجائب والمشاهد والعبر ما لا يطيق رؤيته غير أولي العزم من النبيين كرسول الله ( ص ). لقد أراه الله البيت المعمور وسدرة المنتهى، ولقي في صعوده بعض النبيين المرسلين وبعض الملائكة العظام.
قوله :( إنه هو السميع البصير ) الله سميع لما يقوله المشركون والمرتابون والمكذبون من تخريص عن الإسراء. وهو كذلك بصير بأعمالهم وما " يجنونه من منكرات الأفعال كصدهم عن دين الإسلام وإثارتهم من حوله الشبهات والأباطيل.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٤٦ ومختار الصحاح ص ٢٨٢ والموجز في قواعد اللغة العربية للأستاذ سعيد الأفغاني ص ٢٦٠.
٢ - فظعت: أخسست بلفظاعة.
قوله :﴿ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ( ٢ ) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكروا ( ٣ ) ﴾ ١.
عطف بإيتاء موسى الكتاب على الإسراء بمحمد ( ص ) ليلا. وذلك من باب الإخبار عن الغائب ثم الرجوع إلى الخطاب ؛ فيكون معنى الكلام : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وآتى موسى الكتاب وهو التوراة ( وجعلناه هدى لبني إسرائيل ) أي جعلنا التوراة بيانا لبني إسرائيل فيه هداهم ودليلهم الذي يستضيئون به فيمضون على المحجة الصحيحة وفيها من الأحكام والأوامر والعبر ما يحقق لهم السعادة والنجاة ما لم يضلوا أو يزيغوا أو يبتغوا غير سبيل الهداية والاستقامة.
قوله :( ألا تتخذوا من دوني وكيلا ) قيل : أنْ، زائدة ؛ أي : لا تتخذوا من دوني وكيلا : وقيل أنْ، بمعنى أي. فيكون التقدير. أي لا تتخذوا وهو تفسير لقوله :( هدى ). وقيل : لئلا تتخذوا ( من دوني وكيلا ) ٢ أي شريكا أو كفيلا بأمورهم. أو وليا ونصيرا من دوني.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢ وما بعدها. وتفسير الطبري جـ١٥ ص ١٤..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٦..
قوله :( ذرية من حملنا مع نوح ) ( ذرية )، منصوب على البدل من قوله :( وكيلا ) وقيل : منصوب على النداء. وقيل : منصوب بتقدير الفعل أعني١. والمراد بالذرية : جميع أجناس الأمم من عرب وعجم وغيرهم. وذلك أن كل من على الأرض من بني آدم هم من ذرية من حملهم الله مع نوح في السفينة.
والمقصود : تهييج بني إسرائيل وتذكيرهم بنعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم.
قوله :( إنه كان عبدا شكورا ) كان نوح دائم الشكر لله. فكان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله. ومن أجل ذلك سمي عبدا شكورا. روى الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن الله ليرضى على العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها " ٢.
١ - نفس المصدر السابق..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٥ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٤..
قوله تعالى :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( ٤ ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( ٥ ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( ٦ ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( ٧ ) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( ٨ ) ﴾ ( وقضينا ) بمعنى أعلمنا وأخبرنا. أو حكمنا. وذلك بيان من الله لبني إسرائيل أنه أخبرهم وأعلمهم في كتابهم التوراة أنهم سيعيثون في الأرض فسادا مرتين. وذلك بمخالفة أحكام التوراة، فضلا عن تزييف أحكامها ونصوصها بالتغيير والتبديل جريا وراء أهوائهم وطبائعهم السقيمة. إلى غير ذلك من وجوه الإفساد في البلاد كقتل الأنبياء والمصلحين من الناس، وإشاعة الفوضى والقلاقل والحروب بين الأمم، وكذلك تدمير الأديان والقيم والفضائل بما يفضي إلى شيوع الرذائل والإباحية والإلحاد.
قوله :( ولتعلن علوا كبيرا ) لسوف تطغون وتتجبرون وتفجرون على الناس بظلمكم وطغيانكم وتسلطكم، وتثيرون بين الناس الشر والإرهاب.
قوله :( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد ) أي إذا جاء أولى المرتين من
إفسادكم ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد ) أي سلط ربكم عليكم جندا أشداء اولي قوة شديدة وهم أهل بابل بقيادة الملك الطاغية بختنصر. فبسبب طغيان بني إسرائيل وفسادهم هذه المرة، سلك الله عليهم جيش بابل العتاة بقيادة المتجبر العاتي بختنصر، فاستباحوا بيضتهم، وأذلوهم شر إذلال، وقهروهم أفظع قهر، وكذلك أحرقوا التوراة وخرجوا المسجد، وقتلوا أكثرهم وسبوا من بقي منهم. وذلك هو قوله :( فجاسوا خلال الديار ) أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخباري أي يطلبها. جاس، جوساً وجوساناً : تردد. جاس الشيء : طلبه بالاستقصاء، ووطئه وداسه. وجاسوا خلال الديار : ترددوا بينها بالإفساد وطلبوا ما فيها١. والمراد ههنا : أنهم طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين جائين.
قوله :( وكان وعدا مفعولا ) أي كان هذا العقاب من الل قضء كائنا لا محالة.
١ - مختار الصحاح ص ١١٧ ومعجم الوسيط جـ١ ص ١٤٧..
قوله :( ثم رددنا لكم الكرّة عليهم ) أي بعد أن تبتم إلى ربكم وأطعمتموه رددنا لكم الدولة والقوة والرجعة، فأهلكنا أعداءكم، وتحقق لكم ذلك بقتل داود جالوت، أو بقتل بختنصر ( وأمددناكم بأموال وبنين ) أي بعد قتل رجالكم وسبي ذراريكم ونسائكم ونهب اموالكم عاد لكم شأنكم من الكثرة والمنعة ؛ إذ أمدكم الله بالمال والبنين وجعلكم أكثر عددا ونفيرا من عدوكم. والنفير معناه العدد من الرجال ؛ أي أنهم بعد الإفسادة الأولى وما حاق بهم بسببها من عذاب القهر والقتل والسبي صاروا أصلح حالا وأكثر طاعة لربهم.
قوله :( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) أي إن أحسنتم بطاعة ربكم وإصلاحكم أمركم والتزامكم ما شرعه الله لكم ؛ فإن خير ذلك عائد إليكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا : فإن الله يدرأ عنكم الشرور والبلايا ويفتح عليكم أبواب الخيرات والبركات. وفي الآخرة : يكتب الله لكم النجاة والفوز بالجنات ( وإن أسأتم فلها ) إن عصيتم ربكم وأبيتم إلا العتو والضلال والتخريب والفساد في الأرض فما تسيئون بذلك إلا لأنفسكم ؛ لأن في ذلك إغضابا لربكم فيعاقبكم بتسليط أعدائكم عليكم ليقتلوكم ويذلوكم جزاء من ربكم وفاقا.
قوله :( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) إذا جاء وعد المرة الثانية من إفساد بني إسرائيل في الأرض، ليسوء عبادنا أولو البأس وجوههم ؛ إذ يجعلون آثار المساءلة والكآبة والسواد بادية على وجوههم لما يحيق بهم من معاودة السبي والقتل والإذلال على أيدي عبادنا الذين نبعثهم في عقابهم ( وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) أي ليدخلوا بيت المقدس مثل دخولهم فيه المرة الأولى ( وليتبروا ما علوا تتبيرا ) ( ما )، مصدرية ظرفية زمانية. والتقدير : وليتبروا مدة علوهم١. تبر الشيء تبرا ؛ إذا هلك. وتبره ؛ أي أهلكه. وكل شيء جعلته مكسرا مفتتا فقد تبرته. والتبار، بالفتح معناه الهلاك. وتبّره تتبيرا ؛ أي كسّره وأهلكه٢. والمعنى : أنهم يدخلون المسجد ليدمروه ويخربوه أيما تدمير وتخريب، ما ظهروا عليه، أو مدة علوهم وعتوهم وظهورهم بقيادة قيصر ملك الروم، وقيل : بقيادة ملك بابل.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٧..
٢ - مختار الصحاح ص ٧٤ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٦٠..
قوله :( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) أي لعل الله أن يرحمكم بعد ما انتقم منكم بالذين بعثهم عليكم ليسوءوا وجوهكم بتقتيلكم وتدميركم وسبيكم ودخولهم المسجد ثانية مثلما دخلوه أول مرة ليعيثوا فيه الفساد والتخريب. لعله سبحانه يستنفذكم من هذا الكابوس الفظيع، وينتشلكم مما حل بكم من الذل والهوان. وقد تحقق لهم ذلك ؛ إذ رفع عنهم الخساسة والذل، وجعل منهم الأنبياء والملوك وكثّر عددهم تكثيرا.
قوله :( وإن عدتم عدنا ) ذلك وعيد من الله قائم يتهدد به بني إسرائيل على مرّ الزمن. وجملة ذلك : إن عدتم يا بني إسرائيل إلى المعاصي والفساد والتخريب ومخالفة أوامر ربكم واتبعتم الشيطان وما تسوّله لكم أهواؤكم العاتية ( عدنا ) أي عدنا عليكم بتسليط من يجتاحكم ويجوس خلال دياركم فيبادركم القتل وإحلال الذل والصغار. ولقد عادوا فعاد الله عليهم بما توعدهم به من العقاب الأليم ؛ إذ بعث عليهم في كل إفسادة من إفساداتهم الكثيرة، من يسومهم سوء العذاب بقتلهم وإذلالهم وتهجيرهم واستعبادهم.
قال ابن عباس في تأويل قوله :( وإن عدتم عدنا ) : عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد.
وقال الرازي في هذا الصدد : يعني إن بعثنا عليكم من بعثنا ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة ؛ لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية، عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى١.
على أن المراد بعذابهم في الآية، ما كان في الدنيا. أما عذاب الآخرة : فهو شأن آخر ؛ فهم كلما أفسدوا في الأرض وعاثوا في الدنيا تخريبا وتتبيرا ولما ؛ عجل الله لهم العذاب ؛ إذ بعث عليهم من يروم إهلاكهم وقتلهم بالجملة كالذي حصل لهم من تقتيل وإبادة على أيدي الجبابرة من طغاة العالم عبر التاريخ كبختنصر وسحاريب وطاغية مصر، فرعون. وملوك الروم، ثم أقطاب التسلط في العصور الوسطى الذين ساموا اليهود العذاب والهوان والتقتيل، سواء في أوربا أو في غيرها من بلدان العالم. وذلك كله يكشف عن وعيد الله الذي لا يبرح بني إسرائيل. وهو وعيد قائم وماثل، ما فتئ يتهدد يهود بالهلاك والتدمير كلما عادوا للإفساد في الأرض. وأصدق دليل على ذلك قوله سبحانه :( وإن تأذن ربك ليعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) وقد بينا ذلك في سورة الأعراف.
قوله :( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) أي سجنا يحبسون فيه من الحصر وهو الحبس. وبذلك فإن جهنم محيطة بالكافرين من كل الجهات ولا رجاء لهم في التفلت أو الخلاص. وقيل : الحصر، بمعنى الفراش أو البساط ؛ فقد جعل الله جهنم للكافرين فراشا ومهادا. ٢
وبعد هذا البيان المفصل عن إفسادتي بني إسرائيل في الأرض. وتسليط الله الظالمين عليهم ؛ ما ينبغي لأحد أن يستدل من هذه الآيات على ان العقوبة الأخرى جزاء إفسادتهم الثانية لم تقع بعد. والصواب أن الإفسادتين الاثنتين قد وقعتا وقد أحل الله فيهم بسببها سخطه وغضبه فعذبهم بالتقتيل والإهلاك والسبي مرتين على أيدي العتاة المتجبرين من الأمم السابقة. أما الظن بأن العقاب الثاني كائن على أيدي المسلمين : فما نرى هذا إلا زعما خاطئا. ووجه الخطأ فيه : أن الذين توعد الله ببعثهم وهم أولوا البأس الشديد، عتاة ظالمون سيجوسون خلال الديار إهلاكا وتدميرا، فضلا عن دخول المسجد ليعيثوا فيه إفسادا وتخريبا. ويتجلى مثل هذه المعاني في قوله سبحانه :( وليتبروا ما علو تتبيرا ) أي ليدمروا وليخربوا ما غلبوا عليه. ومما هو معلوم من أحكام الحرب في شريعة الإسلام أن المسلمين في قتالهم الكافرين ليسوا أهل تخريب أو إفساد ولا هم كغيرهم من الظالمين الذين يعيثون في البلاد ظلما وإهلاكا بغير حق. وما شأن المسلمين في حرب أعدائهم الكافرين إلا أنهم دعاة خير وسلام وعمران ومرحمة. لا جرم أن المسلمين في كل الأحوال ليسوا إلا أصحاب رسالة سماوية عليا يرومون نشرها في الآفاق بالمودة والحجة والحكمة والصدق. فالمسلمون في ذلك كله أشد الخليقة رحمة بالخليقة. وأعظم الناس تحنانا ورأفة بالعباد.
وما ينبغي التنبيه إليه هنا أن الوعيد من الله الذي يتهدد به يهود، قائم ماثل أبد الدهر ؛ فهو وعيد غير قابل للنسخ أو الزوال، يتجلى في قوله سبحانه :( وإن عدتم عدنا ) أي إن عدتم إلى الفساد والخراب والظلم عدنا لتعذيبكم وكسر شوكتكم وإذلالكم. وكذلك قوله تعالى :( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) فالله يبعث على بني إسرائيل كلما ظلموا وأفسدوا من يسومهم العذاب من متلف الشعوب والأمم ولئن بعث الله عليهم المسلمين ليعذبوا وليظهروا عليهم فما يكون المسلمون مخربين أو مفسدين أو ظالمين عتاة. وما كان شأنهم أن يظلموا الناس فيقتلوا الأطفال والأبرياء من الشيوخ والنساء والضعفاء. أو يعيثوا في البلاد هدما وتحريقا وهتكا. فما مثل هاتيك الفعال المرذولة والمظالم البشعة إلا ديدن الطغاة والمستكبرين والمتجبرين من طواغيت البشرية من أمثال بختنصر وسناريب وهولاكو وجنكيز خان وهتلر وستالين وغيرهم من عتاة الوثنيين والاستعماريين والصليبيين.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٦٠..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٢٤- ٣٠ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٥٤ -١٦٠..
قوله تعالى :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( ٩ ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما ( ١٠ ) ﴾ هذه شهادة عليا من الله جل جلاله تفوق كل الشهادات يؤكد فيها سبحانه أن قرآنه الحكيم يدل البشرية ( للتي هي أقوم ) أي للصواب والحق. أو لأقوم الحالات وأسدها، أو لخير الطرق والملل والشرائع. والمراد بذلك دين الإسلام، القائم على الاعتدال والتوازن والوسط الذي يلائم الطبيعة البشرية، ويناسب كل ما بني عليه الإنسان من استعدادات فطرية ومركبات نفسية وروحية وجسدية. فما من ملة ولا شريعة ولا عقيدة ولا نظام يناسب فطرة الإنسان وكل ميوله واستعداداته على خير شاكلة من التكامل والاعتدال سوى الإسلام. هذا الدين القائم على الحق والعدل والسداد، بعيدا عن الشطط، ومجانبا للإفراط والتفريط.
قوله :( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجر كبيرا ) يحمل القرآن البشرى للمؤمنين الموقنين بعقيدة الإسلام والذين يأتمرون بأوامر الله، وينتهون عن نواهيه وزواجره ويلتزمون شرعه وأحكامه أن لهم من الله الجنة. وهي خير ما تدركه الأبصار أو تتصوره الأذهان من جزاء. وذلك لما فيه من بالغ النعيم والهناءة والسعادة والسكينة والراحة.
قوله :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ وفي قبالة البشرى للمؤمنين، يبشر الله الظالمين الذين يكذبون بيوم الدين وهو المعاد إلى اللهب ما أعد لهم من العذاب الأليم وهي جهنم. وقد ذكر الآخرة بالذات تنبيها على أهمية هذا الركن في عقيدة الإسلام. وهو الركن الذي طالما تعثرت عنده مدارك الكثير من البشر. وطالما ارتاب فيه المخالفون والمكابرون والمستكبرون ؛ إذ عتوا في وجوه النبيين والمرسلين عتوّاً وصمهم بالتمرد والجحود.
لا جرم أن الإيمان باليوم الآخر يتفق والفطرة البشرية أكمل اتفاق وينسجم مع قواعد الفكر السليم أوثق انسجام.
قوله تعالى :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ﴾ القياس إثبات الواو في قوله :( ويدع ) إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة ؛ لأنه لا يظهر في اللفظ. والتقدير : ويدعو الإنسان بالشر دعاءً مثل دعائه بالخير١ وذلك إخبار من الله عن الإنسان في حقيقة طبعه المتعجل والذي لا يصطبر على اللأواء ولا يحتمل الشدائد والملمات إلا قليلا. ذلكم هو الإنسان في ضيق صدره وهوان عزمه الذي يتضاءل في وجه الصعاب والبلايا إلا أن يثبته الله فيمده بالهمة والعزيمة والاقتدار. وهذه الحقيقة يكشف عنها مبادرة الإنسان للدعاء على نفسه وماله وولده بالشر ؛ أي بالموت أو الهلاك أو اللعن أو نحو ذلك من وجوه الدعاء الظالم كلما ألمت به مصيبة أو اجتاحه همّ. لكن الله بواسع رحمته وعظيم منه وفضله لا يستجيب لمثل هذا الدعاء ؛ إذ لو استجاب له لأهلكه بدعائه. وذلك هو قوله سبحانه :( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير ) أي يدعو الإنسان عند غضبه وضجره : اللهم أهلكه، اللهم ألعنه. وهو يريد الدعاء بذلك على نفسه. وهو كدعائه ( بالخير ) أي كما لو دعا ربه أن يهبه الرزق والسلامة والعافيه في نفسه وماله وولده. فلو استجيب له في دعائه بالشر كما يستجاب لهم في الخير لهلك. قال ابن عباس في تأويل الآية : يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. فلو يعجّل له ذلك كما يعجل له الخير لهلك. على أن الدعاء على النفس بالشر حرام. والمسلم مدعو في كل الأحوال من المساءات والمسرات أن يسأل الله لنفسه وأهله وماله والمسلمين الخير والرحمة والعافية والستر والمغفرة.
وفي الحديث : " لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها " ٢.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٦٣ والبيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٧..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٦ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ٣٦، ٣٧ والكشاف جـ٢ ص ٤٤٠..
قوله تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ﴾ الليل والنهار آيتان من آيات الله ؛ أي علامتان تدلان على وجوده ووحدانيته وكمال قدرته وبالغ حكمته. والآيات التي تنطق بوجود الله كثيرة تعز على الوصف والعد. لا جرم أن هذا الوجود الهائل المخوف بكل ما فيه من دقائق وحقائق وخفايا وأشياء يشهد على أن الله حق، وأنه الخالق المقتدر، بديع السماوات والأرض.
قوله :( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) محونا، بمعنى طمسنا ؛ أي جعلنا القمر وهو علامة الليل مظلما ليسكن الناس فيه فيجدوا من نعمة الراحة والسبات ما يكفكف عن نفوسهم وأجسادهم شدة الإعياء والنَّصَب. وكذلك جعلنا الشمس وهي علامة النهار ( مبصرة ) أي مضيئة ليستطيع الناس الإبصار فيها، وليسعوا في مناكب الأرض جاهدين منتشرين مبتغين من الله الخير والرزق وليجتهدوا في إعمار الحياة لتفيض بالصلاح والعمران والتعارف والبركة والاستقرار. وهو قوله سبحانه :( لتبتغوا فضلا من ربكم ) والفضل يراد به الرزق وتحصيل المعاش.
قوله :( ولتعلموا عدد السنين والحساب ) فإنه لا يتحقق للناس العلم بالمواقيت كلها إلا باختلاف الجديدين وهما الليل والنهار ؛ فهما باختلافهما تستبين للناس الأوقات والآجال والمواعيد، وتتم لهم بذلك مصالحهم في التجارات والإجارات والمداينات وأوقات الصيام والصلوات وغير ذلك من حساب الآجال ومواسم الأعمال. وبغير الوقوف على كل هذه المواقيت والأحايين ؛ تصير الحياة للناس بالغة العسر، بل ينقلب الواقع البشري بكل جوانبه ومناحيه ركاما من التعثر والتخبط والعشوائية والفوضى.
وبذلك تتعطل المصالح وتبيت الحياة غير ممكنة ولا محتملة.
قوله :( وكل شيء فصلناه تفصيلا ) أي ما من شيء يحتاج إليه العباد في مصالحهم الدينية والدنيوية من الأحكام والأخبار والتعاليم والمواعظ إلا بينه الله تبيينا ظاهرا لا لبس فيه١..
١ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٢٨ وفتح القدير جـ٣ ص ٢١٣..
قوله تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( ١٣ ) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) ﴾ المراد بطائره، عمله، وما كتب له من خير ومن شر ؛ فذلك كله ملازم له لا يبرحه حتى يحاسبه وهو ( في عنقه ) أي لا زم له لزوم القلادة أو الغُل١ للعنق.
قوله :( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) يخرج الله يوم القيامة لكل إنسان كتاب أعماله فيجده أمامه ( منشورا ) أي مفتوحا غير مطوي ليقرأه ويقف على ما حواه من أعماله كلها. وهو يعطاه إما بيمينه إن كان من أهل السعادة والأمان، أو يعطاه بشماله إن كان من أهل الشقاوة والخسران.
١ - الغل، بالضم: طوق من حديد يجعل في العنق، وجمعه أغلال. انظر المصباح المنير جـ١ ص ١٠٥..
قوله :( اقرأ كتابك ) ما من إنسان إلا يبعث يوم القيامة قارئا ليقرأ ما حواه كتابه من أعمال ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) أي يقال له : اقرأ كتاب أعمالك التي أحصيناها عليك في الدنيا فلم نغادر منها شيئا. حسبك اليوم نفسك حاسبا عليك يحصي عليك أعمالك ؛ إذ ليس من شاهد عليك غير نفسك. وإنما يقال له ذلك في أفظع ما يتصوره الخيال من ذعر وإياس وحراجة ؛ إذ يقرأ كتاب نفسه بنفسه، وهو وحده شهيد على ما يلقاه في كتابه المنشور. وفي هذه الساعة المكروبة الرهيبة من التربص والوجل ؛ يبصر المرء كتاب أعماله ليستيقن بعد ذلك أنه من أهل النجاء فينجو ويسعد، أو من أهل الخسران والشقاء ليهوي بعده في النار وبئس القرار. نسأل الله الخلاص من كل كرب ومحنة، والنجاة من كل الأهوال والبلايا١.
١ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٤١ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٢٩..
قوله تعالى :﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ول تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعت رسولا ( ١٥ ) ﴾ من استقام على طريق الهداية والتزم أوامر الله ولم يخالف شرعه ودينه فلا يجازى باستقامته وهدايته غير نفسه أما من زاغ عن سبيل الحق وضل عن منهج الله وقصد غيره من مناهج الضلال والكفر فكذب بنبوة محمد ( ص )، أو ارتاب في شيء من شريعة الإسلام ( فإنما يضل عليها ) أي لا يضر بضلاله وفسقه وزيغه عن الحق غير نفسه.
وجملة القول في ذلك : أنه ما من أحد إلا يحاسب عن نفسه لا عن غيره. فالمهتدي يجزيه الله ثواب اهتدائه، والضال صائر وحده إلى العقاب جزاء ضلاله وفسقه عن أمر الله.
قوله :( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) الوزر معناه الإثم والثقل ؛ أي لا تحمل حاملة حمل أخرى١. قال الرازي في تأويل هذه الآية : إن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره. وأيضا غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه.
قال القرطبي في ذلك : الهاء في قوله :( وازرة ) كناية عن النفس ؛ : أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى حتى أن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة فتقول : يا بني ! ألم يكن حجري لك وطاءً ؟ ألم يكن ثديي لك سقاء ؟ ألم يكن بطني لك وعاء ؟ ! فيقول : بلى يا أمهْ ! فتقول : يا بني، فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبا واحدا ! فيقول : إليك عني يا أمّهْ ! فإني بذنبي عنك اليوم مشغول !
ويستفاد من هذه الآية بعض الأحكام منها : أن الميت لا يعذب ببكاء أهله وهو قول السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) وقال به آخرون من أهل العلم. ودليلهم قوله سبحانه :( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى.
وذهب إلى خلاف ذلك ابن عمر وهو تعذيب الميت ببكاء أهله. واستند في ذلك إلى الخير : " إن الميت ليعذب ببكاء أهله " والصواب أنه لا معارضة بين الآية والحديث ؛ فإن الحديث محملة على ما إذا كان البكاء والنوح من وصية الميت كما كان في الجاهلية. أما إذا لم يوص بشيء من ذلك فلا إثم عليه من بكائهم عليه.
ومنها : الأطفال يموتون صغارا، فإن كان آباؤهم مسلمين ؛ فإنه لا خلاف في أنهم في الجنة. أما إن كان آباؤهم كفارا ففي شأنهم خلاف بين العلماء. وفي ذلك أقوال ثلاثة.
القول الأول : إنهم في الجنة. ودليل ما رواه أحمد عن خنساء عن عمها أن رسول الله ( ص ) قال : " والمولود في الجنة ".
وكذلك ما رواه البخاري عن سمرة بن جندب أن النبي ( ص ) قال في جملة ذلك المقام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان فقال له جبريل : هذا إبراهيم عليه السلام، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين. قالوا : يا رسول الله : وأولاد المشركين ؟ قال : " نعم وأولاد المشركين ".
القول الثاني : إنهم مع آبائهم في النار. ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الله بن أبي قيس أنه سأل السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) عن ذراري الكفار فقال : قال رسول الله ( ص ) : " هم تبع لآبائهم " فقلت : يا رسول الله : بلا أعمال ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين ".
القول الثالث : التوقف في ذلك، استنادا إلى قوله ( ص ) : " الله أعلم بما كانوا عاملين " وهو في الصحيحين عن ابن عباس.
وقيل : إنهم من أصحاب الأعراف وهذا القول مندرج في كونهم من أهل الجنة ؛ لأن أصحاب الأعراف صائرون إلى الجنة.
قوله :( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ذلك من عدل الله المطلق ورحمته الواسعة بعباده ؛ فإنه لا يعذب أحدا إلا بعد أن يقيم عليه الحجة بإرسال الرسول فيبلغه دعوة الله. وهذه المسألة كانت موضع تفصيل وخلاف بين العلماء وهي المسماة بأهل الفترة، وهذه المسألة كانت موضع تفصيل وخلاف بين العلماء وهي المسماة بأهل الفترة، وهي المدة تقع بين زمنين أو نبيين٢ فالذين ماتوا في هذه المدة ولم تبلغهم دعوة رسول لا يسألون ولا يؤاخذون في الدنيا ولا في الآخرة. وهو قول طائفة من العلماء. ويعزز هذا القول، قوله سبحانه :( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ) وبمثل ذلك تقول المعتزلة. وهم يذهبون إلى أن الفعل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحر. وقيل : إن هذا في حكم الدنيا، وهو أن الله لا يعاقب أمه بعذاب إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالدلائل والبينات وهو قول الجمهور. أما في الآخرة : فإن الله ممتحنهم بسؤاله لهم أن يدخلوا النار، فإن أطاعوه ودخلوا نجوا، وإن عصوه ؛ كان جزاؤهم النار، فكانت لهم مع الكافرين القرار. وفي هذا أخرج الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول الله ( ص ) قال : " أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة ؛ فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول ؛ فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " وفي رواية : " فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها " ٣
١ - مختار الصحاح ص ٧١٨..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٨- ٣٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٣١ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٧٣..
٣ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٨-٣٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٣١ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٧٣..
قوله تعالى :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ ( مترفيها )، من الترفه وهي النعمة، والمترف المنعّم١ والمراد بمترفيها : المنعمون الذين بطروا النعمة والعيش الراغد. وقيل : غير ذلك.
والمعنى : إذا أراد الله إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم، أو حان وقت إهلاكهم ؛ أمرهم بطاعته واتباع شرعه واجتناب معصيته، وقيل : أمرنا الجبابرة المتسلطين من الحكام والساسة ( ففسقوا فيها ) أي أبوا إلا أن يفعلوا المعاصي والفواحش والخروج عن دين الله ومنهجه وشرعه، والاستعاضة عن ذلك بشرائع الكفر والباطل ( فحق عليها القول ) أي وجب عليها الوعيد بالعذاب ( فدمّرناها تدميرا ) فأهلكناها إهلاكا.
١ - القاموس المحيط جـ٣ ص ١٢٤..
قوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ﴾ كم، في موضع نصب مفعول للفعل ( أهلكنا ) أي كثيرا أهلكنا منهم. وذلك وعيد من الله تعالى يتهدد به المشركين من العرب الذين كذبوا رسول الله ( ص ) وإخبار منه سبحانه لهم بأنهم إذا لم ينتهوا عن تكذيبهم وعتوهم وباطلهم الذي هم فيه ؛ فإن الله منزل بهم من العقاب ما أنزله بالأمم السابقة كقوم عاد وثمود وغيرهم، أولئك الذين استكبروا وفسقوا عن دين الله وأبوا إلا التمرد والعصيان ؛ فقد أهلك الله أمما كثيرة من بعد نوح حتى زمانكم بسبب جحودكم وتكذيبهم، وأنتم أيها المشركون العرب نظراؤهم في الكفر والضلال، ولستم خيرا منهم. فليس من شيء يحول دون تعذيبكم وإهلاككم كما عذبوا وأهلكوا.
قوله :( وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصير ) الله يعلم ما يفعله العباد من ذنوب، وهو يبصر ما يصدر عنهم من أفعاله ؛ فهو سبحانه عليم بالخوافي والأسرار١.
١ - فتح القدير جـ٣ ص ٢١٤، والكشاف جـ٢ ص ٢٤٢ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ٤٢ -٤٤ والكشاف جـ٢ ص ٤٤٣.
قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ( ١٨ ) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( ١٩ ) ﴾.
في ( العاجلة )، عبّر بالنعت عن المنعوت، والمراد الدار العاجلة ؛ أي دار الدنيا، وهي دار الفناء. والمعنى : من كان يبتغي الدنيا العاجلة الفانية وحدها ولا يسعى ويشقى إلا من أجلها والاستزادة من متاعها وزينتها ( عجلنا له فيها ما نشاء ) أي نعجل له في العطاء منها ما نشاء لا ما يشاء المتعجل ( لمن نريد ) بدل، من قوله :( له ) ١ أي من كانت بغيته الدنيا وحدها أعطى الله منها ما شاء أن يعطيه لمن شاء أن يعطيه من هؤلاء الذين لا يبتغون غير الدنيا وزينتها. وبذلك فإن المعجل قد قُيد بقيدين. القيد الأول : قوله :( ما نشاء ) أي ما يشاء الله تعجيله منها للمريد، لا ما يشاؤه المريد نفسه.
وبذلك فإن كثيرا ممن يريدون الدنيا وحدها لا ينالون منها ما يريدون ويتمنون ؛ لأن الله يعطي الدنيا لمن يشاء من عباده ؛ فالمعطي هو الله..
القيد الثاني : قوله :( لمن نريد ) أي لمن يريد الله أن يعجل له العطاء من هؤلاء الذين يريدون الدنيا. وهو ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
وهذه حقيقة ما ينبغي أن تغيب عن أولي الاعتبار والنباهة وهي أن المرء مهما غالى في الحرص والسعي والاجتهاد في طلب الدنيا ؛ فإنه لا يعطى منها إلا ما أعطاه الله إياه. وهو بإقباله على الدنيا وإدباره عن الآخرة لا يزيد من حظه في الدنيا إلا ما أعطاه ربه فما يحصد من إدباره عن الآخرة وتشبثه المطلق بالدنيا غير الهوان والخسران.
قوله :( ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ) ( يصلاها ) : يدخلها. أصلاه النار وصلاه إياها وفيها وعليها ؛ أي أدخله إياها وأثواه فيها٢، فبسبب عصيانه وإقباله على الدنيا، مدبرا عن الآخرة ؛ فإنه صائر إلى جهنم ( يصلاها مذموما ) أي يدخلها مخزيا ذليلا. والمذموم، إشارة إلى الإهانة والتحقير ( مدحورا ) أي مبعدا من رحمة الله وفضله، موغلا في الخسران والهوان.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٧..
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ٣٣٥..
قوله :﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾ من قصد الدار الآخرة فكانت هي طلبته ومبتغاه، وقدم لها من الطاعات والصالحات ما هو لها كفاء ( وهو مؤمن ) أي مصدق بأركان العقيدة، موقن بوحدانية الله. فالإيمان شرط عظيم في كون الأعمال صحيحة ومقبولة، وإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط وهذا قوله :( كان سعيهم مشكورا ) أي مقبولا غير مردود ؛ فيجزيهم الله بذلك من الحسنات أضعافا كثيرة، وفي هذا الصدد قال بعض السلف : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب١.
١ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٠ وفتح القدير جـ٣ ص ٢١٦ والكشاف جـ٢ ص ٤٤٣..
قوله تعالى :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ( ٢٠ ) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفصيلا ( ٢١ ) لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما ( ٢٢ ) ﴾ ( كلا )، منصوب على أنه مفعول ( نمد ) ( هؤلاء )، بدل من " كل " ومعناه : إنا نرزق المؤمنين والكافرين١ وبيان ذلك أن الله يمد كلا من الفريقين، وهم الذين اتبعوا الحياة الدنيا، والذين ابتغوا الآخرة ( من عطاء ربك ) أي من رزق الله، فالله جل وعلا يرزق من فضله المؤمنين والكافرين في هذه الحياة الدنيا حتى إذا صاروا إلى الممات افترقوا بعد ذلك، فكل فريق يفضي إلى ما قدم. فمريدوا العاجلة يساقون إلى جهنم. ومريدوا الآخرة يساقون إلى النجاة والنعيم ( وما كان عطاء ربك محظورا ) أي ليس رزق الله محبوسا عمن بسطه الله عليه ؛ فإنه لا يمنعه أحد ولا يرده راد.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٨..
قوله :( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ) كيف في موضع نصب بالفعل ( فضلنا ) ١ فضل الله بعض الناس على بعض في الرزق، وفي غيره من مركبات الحياة الدنيا كالقوة والضعف، والصحة والسقم، وطول العمر وقصره ؛ فالناس في ذلك كله متفاوتون مثلما تقتضيه مشيئة الله وحكمته. أما أرزاق العباد ؛ فإنها تتفاوت بينهم بالنظر للتفاوت في القدرات والطاقات. وإنما تتحصل الأرزاق بفعل الجهود والنشاطات المبذولة. وهذه بين الناس متفاوتة تفاوتا ظاهرا ؛ فهم ما بين باذل كادح نشيط، إلى قاعد متخاذل متثاقل. ومن ذكي فطن نبيه إلى غبي بليد أحمق. ومن محترٍّ متحفز غيور، إلى فاتر باهت معزول. وباختلاف هاتيك القدرات والاستعدادات يختلف التحصيل لدى الناس، وكذلك تختلف الأرزاق ليكون الناس بين مقلّ ومُكثر، أو مفتقر وموسر. قال ابن كثير رحمه الله في كيفية التفضيل في الرزق بين العباد في الدنيا : فمنهم الغني والفقير وبين ذلك. والحسن والقبيح وبين ذلك. ومن يموت صغيرا ومن يعمر حتى يبقى شيخا كبيرا، وبين ذلك.
قوله :( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) ( درجات )، منصوب على التمييز. وكذلك تفضيلا٢، وذلك تأكيد على أن التفاوت في الآخرة بين العباد أكبر مما في الدنيا. فمن الناس يوم القيامة من يكون في عليين. ومنهم من يكون أسفل سافلين. حتى أهل الدرجات في الجنة يتفاوتون في منازلهم، فمنهم الأعلون في الفردوس، ومنهم دون ذلك، وإن كانوا جميعا في درجات النعيم. وكذلك أهل الدركات في النار تتفاوت أحوالهم في العذاب بين شديد حارق، أو أشد احترارا وتحريقا. فكلا الفريقين متفاوتون.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٨..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٨..
قوله :﴿ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ﴾ المخاطب رسول الله ( ص )، والمراد بذلك أمته ؛ أي لا تتخذ أيها المكلف مع الله معبودا آخر فيكون شريكا مع الله ( فتقعد مذموما ) أي فتصير موضعا للذم والتحقير والإهانة ( مخذولا ) أي ليس لك ناصر ولا معين. وبذلك يكلك الله إلى الذين عبدتهم مع الله أو من دونه من الآلهة المصطنعة كالأصنام أو الملوك أو الساسة وغيرهم من مختلف الآلهة١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٤ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٠..
قوله تعالى :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( ٢٣ ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( ٢٤ ) ﴾.
( وقضى ) بمعنى أوجب وألزم، وذلك أمر من الله لعباده المؤمنين بألا يعبدوا سواه، وأن يحسنوا بالوالدين إحسانا.
ووجوه الإحسان للوالدين كثيرة. فمنها : التقدير والتكريم والتعظيم وبالغ التواضع لهما، والاحترام. وفي اقتران الأمر بالإحسان للوالدين بعبادة الله وحده تظهر الأهمية الكبرى لطاعة الوالدين في تصور الإسلام. لا جرم أن تكريمهما وطاعتهما في نظر الإسلام أمر بالغ الدرجة، عظيم الأهمية بما ليس له في الشرائع والملل والأديان نظير. إنه ليس من ديانة ولا نظام ولا فلسفة ولا عقيدة كالإسلام في مبلغ التكريم المميز الذي قرره هذا الدين للوالدين، والأم خصوصا. وعلى هذا فإن عقوق الوالدين أو أحدهما من أفظع المعاصي والكبائر التي تورد العاقين جهنم. وهذه حقيقة تكشف عنها الأخبار المروية عن رسول الله ( ص ) وتكشف عن مدى الاهتمام الأكبر الذي فرضه الإسلام لكلا الأبوين ؛ فقد روى البخاري عن عبد الله قال : سألت النبي ( ص ) : أي العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال : " الصلاة على وقتها " قال : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " قال : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " وبذلك فإن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم الأعمال في دين الإسلام.
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) قال : " رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة ".
وروى أحمد أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة ".
وروى أحمد كذلك عن مالك بن ربيعة الساعدي قال : فبينما أنا جالس عند رسول الله ( ص ) إذ جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله هل بقي علي من برّ أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال : " نعم ؛ خصال أربع : الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ؛ فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما ".
وروى البزار في مسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأله النبي ( ص ) هل أديتُ حقها ؟ قال : " لا، ولا بزفرة واحدة ".
ومن البر بالوالدين وعدم عقوقهما ألا يكون الولد سببا يفضي إلى سبهما أو شتمهما. وذلك من جملة التفريط بهما والإساءة الكبيرة لهما ؛ فقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( ص ) قال : " إن من الكبائر شتم الرجل والديه " قالوا : يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : " نعم يسبُّ الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسبُ أمه فيسب أمه ".
ومن الإحسان إلى الوالدين والبر بهما : ألا ينبغي الجهاد في حق الولد إلا بإذن والديه ما لم يكن الجهاد فرض عين، فإن كان وجوبه على التعيين لزم الخروج للجهاد جميع المسلمين. أما في الوجوب على الكفاية ؛ فإنه يلزم استئذان الوالدين للخروج ؛ فإن لم يأذنا لم يخرج الولد ؛ فطاعتهما واجبة على التعيين. وذلك في مقابلة الجهاد إن كان مفروضا على الكفاية ؛ فقد روي في الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي ( ص ) يستأذنه في الجهاد فقال : " أحيِّ والداك ؟ " قال : نعم. قال : " ففيهما فجاهد ". وفي غير صحيح مسلم قال : نعم، وتركتهما يبكيان. قال : " اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما ".
ومن عقوق الوالدين : مخالفتهما فيما يرغبانه ؛ فإن من البر موافقتهما في ذلك ما لم يكن معصية. أما ما كان غير معصية فطاعتهما فيه واجبة، وإن كان المأمور به من المباح أو المندوب ؛ فقد روى الترمذي عن ابن عمر قال : كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها فأبيت. فذكرت ذلك للنبي ( ص ) فقال : " يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك " حديث حسن صحيح.
وما ينبغي تخصيص البر بالوالدين بكونهما مسلمين ؛ بل إن كانا غير مسلمين فإنه يجب الإحسان إليهما وبرهما وطاعتهما في غير معصية الله. ودليل ذلك قوله تعالى :( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ) وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم ؛ إذ عاهدوا النبي ( ص ) مع أبيها فاستفتيت النبي ( ص ) فقلت : إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : " نعم صلي أمك " والمراد بقولها : وهي راغبة ؛ أي راغبة في برها وصلتها أو راغبة عن الإسلام١.
على أن الظاهر من الأخبار عن رسول الله ( ص ) رجحان الاهتمام بالأم على الأب ؛ فقد أوصى النبي ( ص ) بالأم أعظم مما أوصى بالأب. وذلك لبالغ الجهد والعناء والنصب الذي يواجه الأم في تربية الأولاد. لا جرم أن عناءها لهو أشد من عناء الأب في ذلك، ومن أجل ذلك أوصى النبي ( ص ) بالأمهات كثيرا.
وذلك هو شأن الإسلام مع المرأة الأم ؛ إذ جعل لها من هائل التكريم وكامل الطاعة والرعاية والبر ما يفوق كل تصورات البشر من مشرعين أو متفلسفين أو مصلحين على اختلاف مسمياتهم ؛ فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي ( ص ) فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي٢، قال : " أمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أمك " قال : ثمن من ؟ قال : " ثم أبوك " ويدل هذا الحديث على أن الشفقة على الأم والاهتمام بها ينبغي أن يكون ثلاثة أمثال الشفقة والاهتمام بالأب لذكر النبي ( ص ) الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. وقد روي عن الإمام مالك أن رجلا قال له : إن أبي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له : أطع أباك ولا تعص أمك. وقد سئل الليث بن سعد عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم وزعم ان لها ثلثي البر. وحديث أبي هريرة يدل على أن للأم ثلاثة أرباع البر. وقيل : إنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع.
على أن الأجداد فيما سبق من تفصيل كالآباء. وكذلك الجدات فإنهن أمهات. فلا يغزوا الأولاد بإذنهم. وليس ذلك لأحد من الأقارب سوى الأصول وهم الآباء والأمهات وإن علوا٣.
قوله :( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) ( إما )، هي، إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا لها. ولذا دخلت نون التوكيد في الفعل، ولو أفردت إن الشرطية لم يصح دخولها ( أحدهما ) فاعل ( يبلغن ). ( كلاهما )، معطوف على ( أحدهما ).
وقد ذكر الكبر لما يصيب الآباء والأمهات في هذه السن من ضعف في الجسم وفي العقل بل في البنية الشخصية كلها. وفي هذه الحال من الضعف والهرم يكون المرء محتاجا لغيره كيما يعينه ويسعفه ويرأف به فيمد له يد المساعدة. ومن المعلوم بداهة أن الآباء والأمهات كانوا أحرص الخلق على ولدهم في صغره. فما كانت تقضهم أو تثنيهم أوساخه وأقذاره وعبثه عن الاهتمام به والحدب عليه ليظل نظيفا معافى سليما من الأدران أو العبث أو السفه. فإذا ما كبر الآباء والأمهات وانقلبت به الحال من القوة إلى هوان الجسد والأعصاب ؛ لزم الولد أن يبر بهما، ويسعى جاهدا حريصا لخدمتهما والسهر عليهما، ودفع الأذى والمكاره عنهما دون تخاذل في ذلك أو تثاقل أو استكبار. وأيما تخلف دون خدمتهما وطاعتهما ؛ فهو سقوط في العصيان الفظيع المفضي إلى جهنم.
قوله :( فلا تقل لهما أف ) ( أف )، اسم من أسماء الأفعال ؛ فهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين٤.
والأف معناه الضجر. وقيل : معناه النتن ؛ أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تتغوط وتبول. والصواب النهي عن إسماع الوالدين أيما إساءة وإن تكن في بساطتها أن يقول الولد لهما أو لأحدهما ( أف ) وهذه أهون مراتب التضجر أو التبرم ؛ فإن ذلك حرام. وهذا يدل على تحريم سائر أنواع الإيذاء استنادا إلى القياس الجلي وهو إذا نصّ الشارع على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى، وكان ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أظهر من ثبوته في محل الذكر ؛ فإن محل السكوت عندئذ أولى بالحكم كالضرب أو التعنيف والشتم أولى بالتحريم من التأفيف ؛ أي أن المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى٥.
قوله :( ولا تنهرهما ) نهره وانتهره، بمعنى زجره٦ ؛ أي لا تزجرهما بما يسيء إليهما في تنغيص أو إغضاب أو تنفير ( وقل لهما قولا كريما ) وهو أن يكلمهما في لين وسهولة وأدب بما يشير إلى تعظيمهما واحترامهما، وألا يخاطبهما بصوت مرتفع من غير حاجة.
١ - تفسير القرطبي (٣) في الهامش جـ ١٠ ص ٢٣٩..
٢ - صحابتي، أو صحبتي بالضم، مصدر صحب. انظر مختار الصحاح ص ٣٥٦..
٣ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٣٨ -٢٤١ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٥..
٤ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٨..
٥ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٠، ١٩١..
٦ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٥ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٤٢ – ٢٤٦ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٣..
قوله :( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) أما ( الذل ) فالمراد به ههنا السهولة وفرط اللين ؛ أي ابسط لهما جناحك الذليل من فرط رحمتك بهما وعطفك عليهما. والمقصود من ذلك كله المبالغة في التواضع للوالدين، والشفقة عليهما، والترفق بهما.
قوله :( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) لم يقتصر على إيجاب البر بالوالدين والإحسان إليهما والنهي عن الإساءة إليهما بأدنى مراتب الإساءة كالتأفيف ؛ بل أمر الوالد أن يدعو لهما في الحياة وفي الممات بالرحمة. وهو قوله :( ارحمهما ) ولفظ الرحمة جامع لكل أصناف الخير والفضيلة ؛ فالولد مأمور أن يترحم على أبويه وأن يدعو لهما بالخير والغفران والرحمة في حياتها وبعد موتهما. وذلك جزاء ترحمهما وترفقهما به وحدبهما عليه وهو صغير ؛ إذ ربياه في صغره، وكابدا من صنوف التعب والنصب والإرهاق ما يبدد العافية والأعصاب تبديدا، وذلك من أجله كيما يكبر ويترعرع فيصير في عداد الأقوياء والنشطاء والمعافين١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٥ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٤٢ – ٢٤٦ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٣..
قوله تعالى :﴿ ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ﴾ الله عليم بما في ضمائركم من قصد الإحسان إلى والديكم والنية في البر بهما وبذل الخدمة والطاعة لهما.
قوله :( إن تكونوا صالحين ) أي صادقين في قصد البر بهم ثم فرطت منكم في حال من التعجل والغضب بادرة أو فلتة فيها إيذاء لهما، ثم رجعتم إلى الله تائبين نادمين ( فإنه كان للأوابين غفورا ). المراد بالأوابين : الرجاعون إلى الله. من الإياب والأوب والمآب وهو الرجوع١ والأواب : هو الذي إذا تلبس بذنب أو خطيئة بادر التوبة دون وناء ؛ فهو من شأنه وديدنه الرجوع إلى ربه تائبا نادما على ما بدر منه من إثم أو خطيئة. وروي عن سعيد بن المسيب قال : الأواب الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب٢. وهكذا لا يبرح المؤمن الأوبة إلى ربه في كل حال ليبادر التوبة كلما تعثرت فيه جارحة من جوارحه بإثم صغيرا أو كبيرا. والله جل شأنه غفار للتائبين النادمين الآيبين. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ( ص ) كان إذا رجع من سفر قال : " آبيون تائبون عابدون لربنا حامدون ".
١ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٣٢ والمصباح المنير جـ١ ص ٣٤..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٥١..
قوله تعالى :﴿ وآت ذا القربى حقه والمساكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ( ٢٦ ) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ( ٢٧ ) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ( ٢٨ ) ﴾ بعد الأمر ببر الوالدين وطاعتهما عطف بذكر الإحسان إلى أولي القربى والمساكين وأبناء السبيل. والظاهر أن الخطاب لعامة المسلمين ليضطلعوا بما يناط بهم من واجب الإنفاق على من تجب لهم النفقة فقال :( وآت ذا القربى حقه ) فتجب النفقة على المقتدر لمحارمه الأقارب إن كانوا محتاجين. فما تبرأ ذمة المكلف من واجب الإنفاق على المحاويج من أقاربه المحارم حتى يؤدي لهم النفقة. وفي ذلك من سدّ لخلتهم ومواساة لهم وتأليف لقلوبهم واستدرار مودتهم ما لا يخفى.
وكذلك المسكين. وقد تقدم الكلام في معناه سابقا. وجملة ذلك : أن المسكين من لا شيء له يكفي عياله. وقيل : الفقير القاعد في بيته لا يسأل الناس، والمسكين الذي يسأل. وقيل : الفقير الذي له بعض ما يقيمه، والمسكين أسوأ حالا من الفقير. وهو قول الجمهور من العلماء١ ؛ فإنه يدفع إليه ما يفي بقوته وقوت عياله.
وكذلك ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع به، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به٢، وهذا يستوجب أن يعطى من المال ما يعنته على سفره حتى يبلغ مقصده.
قوله :( ولا تبذر تبذيرا ) التبذير معناه الإنفاق في غير الحق وهو الإسراف. وقيل : النفقة في معصية الله وفي غير الحق وفي الفساد. أما من أنفق في الشهوات، هل هو مبذر ؟ فيجاب عن ذلك بأن من أنفق ماله في الشهوات زائدا على الحاجات وعرّضه بذلك للنفاذ فهو مبذر. وإذا لم يعرضه للنفاد فليس بمبذر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر يحجر عليه، ولا يحجر عليه ببذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد.
١ - تاج العروس جـ٩ ص ٢٣٧..
٢ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٤١٥..
قوله :( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) المراد بهم الذين ينفقون أموالهم في معصية الله أو في غير حق ؛ فهؤلاء هم ( إخوان الشياطين ) أي في حكمهم ؛ فهم موافقون للشياطين في الصفة والفعل ؛ إذ المبذر ينفق ماله في الفساد والحرام.
قوله :( وكان الشيطان لربه كفروا ) الشيطان خبيث وعات ومتمرد وهو شديد الجحود لربه فاحذروا التشبه به في الفساد وفعل الحرام.
قوله :﴿ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ﴾ إما، اسم مركب من، إن الشرطية وما الإبهامية ( ابتغاء )، منصوب ؛ لأنه مصدر في موضع الحال. وتقديره : وإما تعرضنّ عنهم مبتغيا رحمة من ربك ترجوها. وترجوها، جملة فعلية في موضع نصب الحال١. والمعنى : إن أعرضت عن ذي القربى والمساكين وابن السبيل حياءً من ردهم وأنت ترجو من الله الرزق والخير فتعطيهم منه ( فقل لهم قولا ميسورا ) أي سهلا لينا. وذلك أن تدعو الله لهم بالخير والتيسير وسعة الرزق. وذلك في رفق وسهولة ورحمة. وقد كان النبي ( ص ) إذا سئل وليس عنده ما يعطي قال : " يرزقنا الله وإياكم من فضله ".
قال الرازي في ذلك : والمعنى : أن عند حصول الفقر و القلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن ؛ بل تعهدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال. أو تقول لهم : اله يسهل.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٩..
قوله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( ٢٩ ) إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( ٣٠ ) ﴾ بعد أن أمر الله بالإنفاق على أولي القربى والمساكين وابن السبيل، بيّن كيفية الإنفاق. وجملة ذلك : مجانبة الإفراط والتفريط، أو التقتير والتبذير. وكلا الأمرين في تصور الإسلام بغيض ومحظور. فهما مما نهى الله عنهما ورسوله. لا جرم أن الإسلام دين الاعتدال والتوازن والوسط ؛ فهو يندد بالتقتير تنديده بالتبذير. وكذلك يندد بالإفراط كتنديده بالتفريط. وتلك هي المحجة المستقيمة التي رسخها الإسلام بعيدا عن كل ظواهر الزيغ والاعوجاج. ويكشف عن هذه الحقيقة قوله في سورة الفرقان :( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) وقال سبحانه ههنا :( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) هذا من باب المجاز، عبّر به عن البخيل الممتنع من الإنفاق والذي لا يعطي من ماله شيئا ؛ فهو كالذي تشد يده إلى عنقه فلا يقدر على التصرف بها لا أخذا ولا إعطاء. والمراد النهي عن الإمساك والشح ؛ فإن الشح بغيض إلى الله بغيض إلى عباده.
قوله :( ولا تبسطها كل البسط ) ( كل )، منصوب على المصدر لإضافته إليه. وهذا مثل آخر ضربه في المبذر المسرف. ذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها، وهو كناية عن البخل. أما بسطها : فإنه يُُذهب ما فيها وهو كناية عن التبذير، وكلا النقيضين، البخل : والتبذير، محظور.
قوله :( فتقعد ملوما محسورا ) ( ملوما )، أي يلوم نفسه على ما فاته من ماله ؛ فقد ضيّع ماله بالكلية ولم يُبق لنفسه وأهله وولده منه شيئا. وكذلك يلومه الناس لعدم إعطائهم منه شيئا. و ( محسورا )، أي نادما على ما فرط منه، أو منقطعا به لا شيء عنده. والمقصود : تشبيه حال من أنفق كل ماله بمن انقطع في سفره١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٦ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٣ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١١٩٢..
قوله :( إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) الله هو الرازق الباسط، وهو القابض المانع ؛ وهو يغني من يشاء ويضيّق على من يشاء لحكمة لا يعلمها إلا هو. ذلك أن الناس في تفاوت جبلاتهم واختلاف طبائعهم ليسوا على نسق واحد في مدى التأثر بالمال وسعة الرزق ؛ فمنهم من لا يزداد بكثرة ذلك إلا تعسفا وبطرا ليتيه بعد ذلك على وجهه اختيالا واستكبارا وقد أعماه البطر والغرور عن شكر النعمة. ومنهم من يبادر الشكر لله فينفق جل ماله في وجوه البر والخير، فالله سبحانه يعلم من يصلحه الغنى والسعة، ومن يفسده ذلك. وهو قوله سبحانه :( إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) ١.
١ - تفسير الرازي جـ ٢٠ ص ١٩٦، ١٩٧ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٤٩-٢٥١ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٣..
قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا ﴾ كان العرب يقتلون البنات لعجزهن عن الكسب ولقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة. وكانوا أيضا يخشون إنكاح البنات من غير الأكفاء إن كن معسرات. وذلك في تصورهم عار شديد ؛ ومن أجل ذلك يحذر الله عباده أعظم تحذير، ويخوفهم بالغ التخويف من فظاعة الإقدام على قتل البنات بسبب الفقر أو الإحساس السقيم بالعار بسببهن فقال :( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) أي خشية فقر ( نحن نرزقكم وإياكم ) فإن الله لهو رازق الجميع، فما رزق الأولاد إلا على ربهم وهو سبحانه ضمين بذلك.
قوله :( إن قتلهم كان خطأ كبيرا ) أي إثما كبيرا. نقول : خطأ يخطأ بالكسر. مثل : أثم يأثم إثما فالخِطء بالكسر مصدر ومعناه الذنب. والاسم الخطيئة. والجمع : الخطايا. والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. أما أخطأ يخطئ خطأك إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد. والاسم الخطأ بالفتح١.
وجملة ذلك : التنديد البالغ بقتل الأولاد خشية الفقر بسبب الإنفاق عليهن. ولا يجترئ على هذا المنكر الفظيع إلا ظلوم أثيم ؛ فإن قراءة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية ؛ فهي بذلك من أعظم البواعث للمحبة والشفقة. فمن ذا الخاطئ الكنود الذي يفعل مثل هذه الفعلة النكراء إلا من أفرغ قلبه من كل معالم الرحمة والشفقة. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت : يا رسول الله، أي ذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت : " ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزني بحليلة جارك ".
١ - مختار الصحاح ص ١٨٠ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٨..
قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ الزنا، ذميمة مستقذرة ومشينة ؛ بل هو قاذورة من القاذورات التي تتدنس بها أشخاص الزناة والزواني.
ولقد شدد الإسلام النكير على الزنا ؛ لأنه خلق الفاسدين والآسنين من الناس الذين يرتعون في مستنقع الفحش والقذر. والذين لا يستمرئون النكاح الطاهر المشروع بل يروق لهم الغوص في وحل الرذيلة ودهاليز الخنا لينتكسوا بذلك إلى حظيرة البهائم العجماوات التي لا يحكمها عرف ولا نظام. على أن الزنا رذيلة بالغة الفحش لأنه سبب لخلط المياه وتزييف النسل والأنساب ؛ فهو بذلك سبيل يفضي إلى الفحش والخيانة في الذرية والأولاد. وذلك هو ديدن الحضارة المادية في هذا الزمان، الحضارة التي تسخر من القيم والفضائل وتستند في أساسها إلى الشهوات والأهواء والغرائز، أو ما تميل إليه النفوس من حق أو باطل، فما تعبأ الحضارة المادية في هذا الزمان بغير مقتضيات الغريزة، بغض النظر عن مبادئ الدين أو ظواهر الخلق والفضيلة. ولعل ظاهرة الزنا الفاحش المستشري، أكثر شيوعا في المجتمعات المادية الجاحدة التي سوّل لها شياطين الإنس فعل المنكرات والمعاصي التي اتفقت على تحريمها الأديان السماوية ومن أظهرها الزنا. لقد سولت الشياطين البشرية أن ذلك معقول ولا ضير في فعله أو الإغراق فيه ما لم يكن غصبا. هكذا سوّل المضلون الأشقياء من أمثال فرويد ودارون ودوركايم وأتباعه ومريديهم من الضالين والمخدوعين في كل مكان ؛ لقد سولوا للبشرية المخدوعة المضللة أن الزنا ممارسة جنسية لا غبار عليها وهو كغيره من المطالب الفطرية التي يستوي فيها الأحياء من بشر وبهائم ؛ فليس من عيب أو بأس أو مخالفة في فعله. فاستجابت البشرية المضللة لمثل هذه الأصوات الشيطانية حتى غاصت في وحل القاذورات وانتكست إلى حمأة الدنس انتكاس السادرين التائهين الحيارى.
لكن الإسلام الذي يقيم الحياة على لاطهر والصفاء والنظافة ؛ ويبني مجتمعه على الصراحة والاستقامة والوضوح، بعيدا عن فوضى البهائم الصًّم، وعن مفاسد العهر الفاضح- قد حرم الزنا أشد تحريم بقدر تحضيضه وتحريضه على النكاح الطاهر المبارك. النكاح المبرأ السليم، القائم على المودة المستديمة والانسجام المترابط الوثيق. فقال سبحانه :( ولا تقربوا الزنى ) نهى عن مجرد القرب من الزنا. وهو يدل على تحريم كل أسباب الزان ودواعيه وبواعثه التي تفضي إليه كالتقبيل والخلوة والنظرات المكرورة المريبة، والاختلاط الفاجر المغالي ؛ لما في ذلك من مدعاة يخشى معها الوقوع في الفاحشة.
ثم علل النهي عن الزنا والدنو منه بقوله :( إنه كان فاحشة ) أي معصية مجاوزة لحد الشرع والعقول. فكل شيء جاوز حده فهو فاحش١.
قوله :( وساء سبيلا ) أي وساء طريق الزنا طريقا ؛ لأنه طريق الخراب والفحش والرذيلة وفساد الأفراد والمجتمعات٢.
١ - مختار الصحاح ص ٤٩٢..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٥٨ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٣ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٨-١٩٩..
قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ﴾.
ذلك نهي غليظ عن معصية فظيعة كبرى وهي قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق. وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان أو تقتل قودا بنفس، وفي ذلك ورد في الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
والأصل في قتل النفس التحريم. وإزهاق النفس بغير حق جريمة فظيعة لا يفوقها في البشاعة والنكر غير الإشراك بالله. وفي الحديث : " لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم " والنفس المؤمنة ذات شأن وقدر عظيمين في ميزان الله. والله جل وعلا يجب أن يُعبد في الأرض حق العبادة. ومن عبدته المؤمنون من البشر الذين يؤمنون به إيمانا ويسبحون بحمده في كل آن، ويذكرونه قياما وقعودا وفي كل الأحوال.
ذلكم هو الإنسان المؤمن الذي كتب الله أن يصان دمه فلا يُعتدى عليه أيما اعتداء. وما الاعتداء على المسلم بالقتل إلا ذروة العدوان الصارخ وقمة المعاصي والموبقات التي تودي بالمجرمين القتلة إلى جهنم وبئس المصير.
قوله :( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) ( قتل مظلوما ). أي قتل دون حق. وذلك بغير ما تبين من أسباب وهي القتل والزنا والردة. والولي من الولْي، بسكون اللام، ومعناه القرب. والمقصود ههنا : النسب الذي هو البعضية ؛ فكل من ينتسب إليه بنوع من أنواع البعضية فهو ولي.
واختلف العلماء في المراد بالولي ؛ فقد قيل : يراد به الوارث مطلقا ؛ فكل من ورث القتيل فهو وليه. واختلفوا في دخول النساء في الدم ؛ فقد قيل بدخولهن لعموم الآية. وقيل : بعدم دخولهن.
قوله :( سلطانا ) معناه حجة، يجوز له بمقتضاها قتل القاتل ؛ فهو بذلك إن شاء قتل، وإن شاء عفا على الدية، وإن شاء عفا مطلقا ؛ أي من غير دية ؛ وذلك لما صح عن رسول الله ( ص ) قال يوم فتح مكة : " ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : بين أن يقتل، أو يأخذ الدية " على أن تشريع السلطنة لولي القتيل المظلوم على هذه الكيفية لهو أنف وأصلح للناس انسجاما مع فلسفة الإسلام المراعية للفطرة البشرية المختلفة لدى الناس. وهم ما بين راغب في انتقام لنفسه من الجاني، أو راغب في ماله يأخذه دية عن قتيله وكفى، أو راغب في عفو مطلقا. لكن التوراة لم تقرر غير القتل تشريعا لجناية القتل العمد. وعلى النقيض منها الإنجيل ؛ إذ لم يقرر القصاص ولا الدية. وإنما أوجب العفو مطلقا. فكل من الكتابين إنما يراعي صنفا من البشر دون الأصناف الأخرى. لكن شريعة الإسلام قد راعت كل أصناف البشر على اختلاف رغباتهم وطبائعهم وأهوائهم.
قوله :( فلا يسرف في القتل ) أي لا يقتل غير قاتله ؛ فقد كان أهل الجاهلية إذ قتل رجل رجلا، عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه وترك القاتل ؛ فنهى الله عن ذلك ؛ لأنه إسراف في القتل. وقيل : لا يقتل بدل وليه اثنين، كما كانت العرب تفعله.
وقيل : لا يمثل بالقاتل. وقيل : كل ذلك إسراف منهي عنه.
قوله :( إنه كان منصورا ) الهاء، عائدة على القتل. وقيل : على الولي. وقيل : على المقتول. ١ والراجح أنها عائدة على الولي ؛ لأنه أقرب مذكور، ولأنه ولي دم المقتول، وقد سلطه الله على القاتل الظالم، فليكتف بهذا القدر فإنه يكون فيه منصورا ولا ينبغي أن يطمع فيما هو أكثر٢.
١ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ٩٠..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٨ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١١٩٦، ١١٩٧ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٠٥..
قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ( ٣٤ ) وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( ٣٥ ) ﴾ قضى الله أن لا يقرب الناس مال اليتيم بغير حق أو على سبيل الطمع، كأكله إسرافا وبدارا قبل أن يبلغوا الرشد ؛ بل أمرهم أن يقربوه بالتي هي أحسن. وذلك أن يتصرفوا فيه بقصد الإصلاح والتثمير. وقيل : لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ( ص ) فكانوا لا يخالطونهم في طعام أو أكل ولا غيره، فأنزل الله تعالى :( وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ) فكانت هذه لهم فيها رخصة.
قوله :( حتى يبلغ أشده ) الأشد، بمعنى القوى في البدن والعقل والتجربة، وصلاح حاله في دينه وسلوكه. وعندئذ تزول عن اليتيم ولاية غيره.
قوله :( وأوفوا بالعهد ) العهد يشمل كل عقد من العقود فيما بين الناس، سواء في البيوع أو الإجارات أو الشركات أو الأيمان النذور أو عقود الصلح والأنكحة أو ما يجري من تعاقد بين المسلمين وأهل الحرب كالصلح ونحوه ؛ فكل ذلك عهد يجب الوفاء به.
قوله :( إن العهد كان مسؤولا ) الله سائلكم عن نقض العهود فلا تنقضوها ؛ فإنه لا ينقض العهود والمواثيق أو يخفرها إلا الغادرون الخائنون. لا جرم أن المسلمين أصدق الناس حديثا وأوفاهم عهدا وأبعدهم عن مواطن الخداع والخيانة والدغل١.
١ - الدغل: بفتحتين يعني الفساد. انظر مختار الصحاح ص ٢٠٦..
قوله :( وأوفوا الكيل إذا كلتم ) أي أتموا الكيل ولا تبخسوا الناس من حقوقهم شيئا ( وزنوا بالقسطاس المستقيم ) القسطاس بمعنى الميزان. وهو مأخوذ من القسط ومعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين١ ؛ أي إذا وزنتم الناس فزنوهم بالميزان المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا ميل ولا غش. كقوله سبحانه :( ألا تطغوا في الميزان ) أي لا تجاوزوا الحد لا بزيادة ولا بنقصان.
قوله :( ذلك خير وأحسن تأويلا ) الإشارة عائدة إلى الوفاء في الكيل، والوزن بالعدل. وذلك كله خير لكم ؛ إذ تنتزعون من الناس محبتهم وثقتهم وكمال إقبالهم عليكم بيعا وشراء فتكسبون وترزقون. وهو كذلك أحسن تأويلا ؛ أي أحسن عاقبة لكم وذلك في الآخرة إذ يكتب الله لكم حسن المثوبة والجزاء٢.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ١٦١..
٢ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٠٥-٢٠٧ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١١٩٦ – ١١٩٩..
قوله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ ( تقف )، تتبع. قفا أثره ؛ أي اتبعه، واقتفى أثره وتقفاه بمعنى تبعه. وقافية كل شيء آخره. ومنه اسم النبي ( ص ) المقفّى ؛ لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائف الذي يتبع أثر الشبه١. والمعنى : لا تقل ما ليس لك به علم، أو لا تقل رأيت ولم تر. وسمعت ولم تسمع. وعلمت ولم تعلم ؛ فإن الله سائلك عن كل ذلك، وبذلك نهى الله عن القول بالظن أو بغير علم. وفي الحديث : " اجتنبوا الظن ؛ فإن الظن أكذب الحديث " ومن شأن المؤمن أن لا يفلت للسانه العنان فيتحدث بكل ما يظن أو يهوى وهو لا يحفزه إلى كثرة الحديث المظنون إلا رغبة سقيمة في الثرثرة واللغط وهو ما يفضي في الغالب إلى التعثر والوقوع في الزلات والتلبس بالخطل.
قوله :( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) الله جل وعلا يسأل جوارح الإنسان يوم القيامة فتنطق بما أحست أو شاهدت، فيسأل السمع عما سمع، والبصر عما رأى، والفؤاد عما اعتقد ؛ فكل عضو من هذه الأعضاء مسؤول أمام الله عن الإنسان ليلقى ما يستوجبه من الجزاء.
١ - مختار الصحاح ص ٥٤٧ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١١٩٩..
قوله تعالى :﴿ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( ٣٧ ) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( ٣٨ ) ﴾ ذلك نهي من الله لعباده عن المشي مرحا. و ( مرحا )، منصوب على الحال. والمرح معناه التكبر والبطر وشدة الخيلاء والتبختر في المشية١، وكل هذه الأوصاف لا ينبغي أن يتلبس بها خلق المسلم لكونها ذميمة يبغضها الله. وما يحب الله لعبده إلا أن يتسم بشيمة التواضع في مشيه وحديثه وسلوكه كله ؛ ليكون عند الله مرضيا مكرما. وفي الحديث : " من تواضع لله رفعه الله ؛ فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير. ومن استكبر وضعه الله ؛ فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير ". والاستكبار والخيلاء والبطر من أسوأ الأوضار الشخصية التي تشين الإنسان وتجعله في عداد المبغوضين والمقبوحين الذين تطوقهم اللعنة ويشتد عليهم من الله الغضب. لا جرم أن المستكبرين المتبخترين البطريين صائرون إلى أوخم العواقب من التعس والمقت في الدنيا والآخرة ؛ فهم في الدنيا تحيط بهم الكراهية والاستخفاف من الناس، وفي الآخرة يصيرون إلى مثواهم المنتظر في جهنم.
وفي التنديد بالمتكبر المختال يقول الرسول ( ص ) : " بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما ؛ إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل٢ فيها إلى يوم القيامة ".
قوله :( إنك لن تخرق الأرض ) لن تستطيع أن تنقب الأرض أو تجعل فيها خرقا بدوسك لها ووطئك عليها ( ولن تبلغ الجبال طولا ) ( طولا )، منصوب على المصدر في موضع الحال ؛ أي لن تساوي الجبال بطولك وقدرتك، وأنت تتيه في مشيتك بطرا وخيلاء. ولكنك في حقيقتك عبد ضعيف تحيط بك ظواهر الضعف من كل جانب. فما ينبغي لإنسان هذا شأنه أن يستكبر أو يختال في الأرض مرحا وغرورا.
١ - القاموس المحيط جـ١ ص ٢٥٧..
٢ - يتجلجل في الأرض: يسيخ فيها. انظر مختار الصحاح ص ١٠٨..
قوله :﴿ كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها ﴾ ( سيئة )، سيئ مضاف، والضمير مضاف إليه ( كل ذلك )، مبتدأ. و ( ذلك ) إشارة إلى المذكور المتقدم من قوله :( وقضى ربك ) إلى هذا الموضع. و ( سيئة ) مرفوع بكان. و ( مكروها ) خبر كان، منصوب. والمعنى : كل هذا الذي ذكره الله مما نهى عنه وحذر منه تحذيرا مثل عقوق الوالدين وقتل الأولاد والزنا وقتل النفس ظلما واتباع ما ليس للإنسان به علم والمشي في الأرض تكبرا ومرحا، كل أولئك مقبوح وهو عند الله بغيض ومكروه١.
١ - أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٠٠، ١٢٠١ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٠..
قوله تعالى :﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ﴾ الإشارة، إلى ما تقدم ذكره من الآيات بداء بقوله :( ولا تجعل مع الله إلها آخر ) حتى هنا. وقد سمى ذلك حكمة ؛ لأنه كلام كريم ومحكم لا مدخل فيه للفساد أو النقص بحال. وهي في جملتها تنهى عن الشرك وتدعو إلى التوحيد الخالص لله وما يقتضيه هذا الأصل من مختلف الطاعات والعبادات.
قوله :( ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ) الخطاب لرسول الله ( ص ). والمراد به كل الناس ؛ إذ يحذرهم من فظاعة الشرك. لا جرم أن الشرك ظلم عظيم ؛ فهو يودي بالمشركين في جهنم ملومين مدحورين ؛ أي تلومون أنفسكم ويلومكم الخلق فيحيط بكم التعس والحسرة والندامة من كل جانب فلا يغني عنكم ذلك من العذاب شيئا. والمدحور، معناه المبعد من كل خير ورحمة.
قوله تعالى :﴿ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ﴾ ذلك تنديد غليظ من الله جل وعلا بالمشركين السفهاء الذين قالوا : الملائكة بنات الله. وهذه المقالة وحدها بالغة الفظاعة والنكر ؛ فهم بذلك متلبسون بالشرك غاية التلبس مع أنهم لا يرضون البنات لأنفسهم ؛ إذ كانوا ينتغصون من ولادتهن ويتحجرون من جيئتهن تحرجهم المخزي ؛ بل كانوا لا يتورعون عن وأدهن في الثرى. فقال الله لهم موبخا :( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ؛ إذ يقول لهم الله مستنكرا : أتجعلون لأنفسكم ما تحبون، ولله ما تبغضون ؟ أفترضون لله ما لا ترضون لأنفسكم ؟ !
إنكم بقيلكم الظالم هذا إنما تفترون على الله أفظع افتراء، وتكذبون عليه أشد الكذب.
قوله تعالى :﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ﴾ التصريف في اللغة معناه صرف الشيء من جهة إلى جهة ؛ كتصريف الرياح، وتصريف الأمور. ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين ؛ لأن من يبتغي أن يبيّن كلامه ويوضحه ؛ فإنه يصرفه من نوع إلى نوع آخر، ومن مثال إلى مثال آخر ؛ كأن يجعله وعدا ووعيدا، وأمرا ونهي، وأخبارا وأمثالا، ومواعظ وحكما. وذلك ليكتمل الإيضاح والبيان، ويظهر فيه الحجة والبرهان على أتم ما يكون عليه التبيان. وقيل :( في ) زائدة كقوله :( وأصلح لي في ذريتي ) أي أصلح لي ذريتي.
قوله :( ليذكروا ) أي ليعتبروا ويتدبروا ما بيناه من الأدلة والحجج، فيبينوا إلى ربهم طائعين مذعنين ( وما يزيدهم إلا نفورا ) أي لا يزيد المشركين ما بيناه لهم من المواعظ والدلائل والعبر إلا إدبارا عن الحق وإمعانا في الضلال والباطل. وذلك هو ديدن الظالمين التائهين، أولي القلوب الغُلْف، والطبائع السقيمة ؛ فإنهم لا يزيدهم التذكير والتحذير والزجر إلا عتوا واستكبارا١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢١٥ -٢١٧ والكشاف جـ٢٠ ص ٤٥٠ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ٦٤ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٠، ٤١..
قوله تعالى :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( ٤٣ ) ﴾ أي قل لهؤلاء المشركين الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى كالأصنام : لو كان مع الله آلهة- كما تفترون وتصطنعون- لكانت هذه الآلهة المزعومة قد التمست التقرب من الله بعبادته والإذعان له ؛ فعليكم بعد ذلك أن تتبينوا وتوقنوا أن أصنامكم هذه التي تزعمون أنها تقربكم إلى الله ليست غير آلهة موهومة مصطنعة.
قوله :﴿ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ﴾ ينزه الله نفسه عما لا يليق به وعما وصفه به المشركون ؛ إذ جعلوا معه آلهة غيره وقالوا : إن الملائكة بنات الله تعالى الله عن كل ما يتقوله هؤلاء الضالون ويفترونه تعاليا كبيرا.
قوله تعالى :﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ﴾ ذلك بين من الله جل جلاله على أن السماوات السبع على سعتهن وعظمتهن التي تفوق تصور البشر وخيالهم، وكذا الأرض، ( ومن فيهن )، من الملائكة والإنس والجن من المؤمنين ؛ كل أولئك ينزهون الله عما وصفه به المشركون إجلالا له وتعظيما. ثم انتقل من التخصيص إلى التعميم فقال :( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) أي وما من شيء من المخلوقات في السماوات أو في الأرض إلا يسبح بحمد الله فيقول : سبحان الله وبحمده ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ؛ لأن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ؛ فهي تسبح بخلاف لغات البشر. وإنما تسبح بلغتها التي لا يعلمها إلا هو سبحانه. روى الإمام أحمد عن أنس ( رضي الله عنه ) عن رسول الله ( ص ) أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم رواحل فقال لهم : " اركبوها سالمة، ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ؛ فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه ".
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله ( ص ) عن قتل الضفدع وقال : " نقيقها تسبيح ".
واختلفوا في تخصيص العموم في قوله :( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) فقيل : ليس مخصوصا. والمراد به تسبيح الدلالة ؛ أي أن كل محدث يشهد على نفسه بأن الله هو الخالق القادر. وقيل : هذا التسبيح على حقيقته. فما من شيء في الكون إلا ويسبح الله تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهونه. وقيل : المراد به الخصوص في كل حي ؛ فالشجرة حال إثمارها واخضرارها، تسبح بحمد الله. وإذا أصبحت خوانا، فإنها لا تسبح. والخوان، بكسر الخاء ؛ أي الذي يؤكل عليه. وهو معرب١.
والمراد بالخوان، المائدة من الخشب. ويستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله ( ص ) مرّ بقبرين فقال : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ؛ أما أحدهما : فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة ثم قال : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ".
ويستفاد من ذلك أيضا أن قراءة القرآن تخفف من عذاب أهل القبور. قال القرطبي في ذلك : وإذا خُفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن.
والذي أجده أصوب القول بالعموم. فما من شيء، حيا كان أو جمادا، أخضر أو يابسا، إلا يسبح بحمد الله ؛ إذ يقول : سبحان الله وبحمده. ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه ابن ماجه في سننه ومالك في الموطأ عن أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) أن النبي قال : " لايسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء ؛ إلا شهد له يوم القيامة ".
١ - مختار الصحاح ص ١٩٣..
قوله تعالى :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( ٤٥ ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدبارهم نفورا ( ٤٦ ) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( ٤٧ ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( ٤٨ ) ﴾.
أي إذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم ( حجابا مستورا ) أي مانعا يحول دون رؤيتهم إياك أو وصولهم إليك. و ( مستورا ) بمعنى ساتر. وفي ذلك قال الحافظ أبو يعلى عن أسماء بنت أبي بكر ( رضي الله تعالى عنها ) قالت : لما نزلت سورة ( تبت يدا أبي لهب وتب ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر١ وهي تقول :
مذمّما عصينا *** وأمره أبينا *** ودينه قلينا
والنبي ( ص ) قاعد في المسجد، ومعه أبو بكر ( رضي الله عنه ). فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. قال رسول الله ( ص ) : " إنها لن تراني " وقرأ قرآنا فاعتصم به منها. وقرأ :( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ) فوقفت على أبي بكر ( رضي الله عنه ) ولم تر رسول الله ( ص ) فقالت : يا أبا بكر أُخبِرْت أن صاحبك هجاني. فقال : لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال : فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
ويزاد إلى هذه الآية أول سورة " يس " ؛ فإن ذلك يعصم قارئ هذه الآيات من كيد الظالمين وشرهم. فقد جاء في السيرة عن هجرة النبي ( ص ) ومُقَام علي ( رضي الله عنه ) في فراشه أن رسول الله ( ص ) أخذ لدى خروجه حفنة من تراب في يده، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه ؛ فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس ( يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم ) إلى قوله :( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) حتى فرغ رسول الله ( ص ) من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا. ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب٢.
١ - الفهر: بالكسر، الحجر قدر ما يدق به الجوز أو ما يملأ الكف. وجمعه أفهار. انظر القاموس المحيط جـ٢ ص ١١٦..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٣ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٦٩..
قوله :( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ) ( أكنة )، جمع كنان وهو ما يستر الشيء ؛ فقد جعل الله على قلوب الظالمين الجاحدين أغشية كثافا لئلا يفهموا القرآن أو يدركوه ويعوا ما فيه من عظيم المعاني ( وفي آذانهم وقرا ) جعل الله في آذانهم صمما وثقلا كيلا تسمع هذا القرآن سماعا يفضي إلى هدايتهم ؛ فهم بفطرهم الزائغة وقلوبهم الغُلف لا يطيقون سماع هذا الكلام العجيب وما حواه من كريم المعاني والأفكار.
قوله :( إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدبارهم نفورا ) ( وحده )، مصدر سد مسد الحال. وأصله وحد يحد وحدا. ووحده بمعنى واحدا. والمعنى : أن المشركين لفرط حقدهم وكراهيتهم للإسلام لا يطيقون سماع الحق الماثل في شهادة لا إله إلا الله. فإذا قلت وأنت تتلو القرآن : لا إله إلا الله ( ولو على أدبارهم نفورا ) أدبروا نافرين نفورا ؛ أي خرجوا مبغضين قالين١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٢٤ وتفسير القرطبي جـ ١٠ ص ٢٧١..
قوله :( نحن أعلم يما يستمعون به إذ يستمعون إليك ) ( به )، في موضع الحال ؛ أي نحن أعلم يا محمد بالحال أو الطريقة التي يستمعون بها القرآن وهي السخرية والتهكم والتكذيب ( إذ يسمعون إليك ) في موضع نصب بأعلم ؛ أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون إليك.
قوله :( وإذ هم نجوى ) وأعلم بما يتناجون به في أمرك ؛ إذ قالوا فيما بهم إنه ساحر. وإنه مجنون. وإنه كاهن. وإنه شاعر. وغير ذلك من أباطيل المشركين.
قوله :( إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) وهو قول الكبراء والسادة من المشركين ؛ إذ قالوا للناس : إنكم لا تتبعون إلا رجلا قد خبله السحر فاختلط عليه عقله. وذلك ليشيعوا من حوله الشكوك والأباطيل فينفر عنه الناس نفورا.
قوله :( انظر كيف ضربوا لك الأمثال ) الأمر للتعجب ؛ إذ يعجّب الله نبيه ( ص ) من سلوك المشركين الخبيث ومن فساد صنعهم وفرط كراهيتهم لهذا الدين المبارك ؛ فقد افتروا الكذب والأباطيل على رسول الله ( ص ) ؛ إذ قالوا عنه : كاهن وساحر وشاعر ومجنون ( فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) أي زاغوا عن المحجة المستقيمة البيضاء، محجة الإسلام المشرق الوضاء سادرين تائهين حيارى لا يهتدون إلى حق ولا صواب١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٢٤، ٢٢٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٣١٦ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٣١..
قوله تعالى :﴿ وقالوا أإذا كنا عظاما ورزقنا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٤٩ ) قل كونوا حجارة أو حديدا ( ٥٠ ) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( ٥١ ) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ( ٥٢ ) ﴾ الاستفهام للإنكار ؛ فقد قال الكافرون في تكذيب وجحود ( أإنا كنا عظاما ورزقنا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ) ( خلقا )، منصوب على الحال ؛ أي مخلوقين مجددا. والمعنى : أإذا كنا في القبور عظاما وحطاما وقد أتى علينا البلى، هل نبعث من جديد يوم القيامة. وذلك إنكار منهم للبعث والمعاد، ولا يحفزهم للنطق بهذه المقالة إلا هو أن أحلامهم وفرط كراهيتهم للإسلام ورسوله الأمين.
قوله :﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ﴾ وهذا أمر تعجيز ؛ إذ يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) بالقول للمشركين ( كونوا حجارة أو حديدا ) فهما أشد امتناعا وأعظم صلابة من العظام والرفات وهو الحطام.
( أو خلقا مما يكبر في صدوركم ) أي السماوات والأرض والجبال ؛ فهي خلائق عظيمة في نفوسهم يهابونها أشد المهابة. والمراد : أنكم تستعبدون وتكذبون أن يجدد الله خلقكم فيردكم إلى حال الحياة بعد ما أصبحتم عظاما نخرة، فكونوا ما شئتم إن استطعتم ؛ فإن الله محييكم وباعثكم خلقا جديدا يوم القيامة. قوله :( فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ) سيقول المشركون المكذبون : من ذا الذي يعيدنا خلقا جديدا بعد أن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا ؟ فقل لهم يا محمد : يعيدكم الذي فطركم أول مرة ؛ إذ لم تكونوا شيئا ؛ فالله الخالق القادر لا يعز عليه أن يصنع ما يشاء.
قوله :( فسينغضون إليك رؤوسهم ) أي يحركون رؤوسهم استهزاء مما سمعوه منك. أنغض رأسه ؛ أي حركه كالمتعجب من الشيء١. أنغض رأسه ينغضه إنغاضا. والإنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل. وذلك هو ديدن المرتابين الغواة في كل زمان. فدأبهم وديدنهم التكذيب مبادرين من غير روية ولا استبصار ولا إمعان. فما يلبثون أن يسمعوا كلمة الحق تصدر عن دعوة الإسلام حتى يبادروا التكذيب والصد وهم ينغضون رؤوسهم تهكما واستهزاءً. أولئك هم الضالون المضلون في كل زمان الذين أبوا إلا السقوط في الشقوة والتعس والعمه ليصيروا في الآخرة إلى جهنم.
قوله :( ويقولون متى هو ) يسأل المشركون، مرتابين مستبعدين قيام الساعة : متى البعث والمعاد ( قل عسى أن يكون قريبا ) أي يوم الساعة آت لا محالة. وكل ما هو آت قريب.
١ - مختار الصحاح ص ٦٧٠..
قوله :( يوم يدعوكم فتستجيون بحمده ) ( يوم )، منصوب بفعل مقدر، والتقدير : اذكروا يوم يدعوكم. وقيل : منصوب على أنه ظرف. والتقدير : نعيدكم يوم يدعوكم١.
والمعنى على التقدير الأول : اذكروا أيها الناس يوم يدعوكم ربكم إلى الخروج من قبوركم يوم القيامة حيث الحساب والجزاء فتستجيبون لله بأمره وندائه لكم إلى المحشر وأنتم تقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. ( وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ) أي يوم تقومون من قبوركم تحسبون أنكم لم تمكثوا في الدنيا إلا زمانا قليلا. أو لم تمكثوا في القبر إلا قليلا. وذلك بعد معاينة القيامة بأهوالها الجسام وقوارعها المزلزلة العظام. وإذ ذاك يستصغر الظالمون الحياة الدنيا ويعلمون أنها قصيرة ومهينة٢.
١ - البن لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٢..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٧٠ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٧..
قوله تعالى :﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ﴾ يأمر الله عباده المؤمنين بحسن المحاورة والخطاب فيما بينهم. وخليق بالمؤمنين في محادثاتهم ومجادلاتهم أن يتخاطبوا بالكلمة الطيبة، وأن يتجلى فيهم الأسلوب الأحسن. فما ينبغي أن يحدث بعضهم بعضا بالغليظ من الكلام والبذيّ من اللسان لما في ذلك من تنفير للقلوب وشحنها بالكراهية والاضطغان بدلا من الوئام والمودة والتحنان.
والإنسان بطبعه تؤزّه فظاظة الحديث وبذاءة اللسان. فما يتلقى الإنسان من خصمه فاحش القول حتى يستشيط كراهية ونفورا وامتعضا. وذلك يفضي في الغالب إلى اشتداد الخصام والشقاق بين المسلمين، وتدمير الأخوة والعلائق الودية فيما بينهم. وهذا ما يبتغيه الشيطان للعباد. وهو قوله سبحانه :( إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ) ( ينزغ ) بمعنى يفسد١ ؛ فالشيطان كائن شرير، قد جبل على الشقاوة والشر، وهو عدو لآدم وذريته. وهو بطبعه يركم في أعماقه الحقد والضغينة والرغبة المستديمة في الانتقام من البشر بإيرادهم موارد الشر والمكاره والخسران. فما من فرصة أو فسحة إلا ويتدسس من خلالها الشيطان من أجل الوقيعة بين الناس ؛ فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح ؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار ".
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢٦٨..
قوله تعالى :﴿ ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا ( ٥٤ ) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض وآتينا داود زبورا ( ٥٥ ) ﴾ الله عليم بمن يستحق التوفيق والرحمة من عباده فيهديه لدينه. وهو أيضا عليم بمن يستحق الخذلان فيضله ويعذبه. فما يكون من رحمة ولا عذاب إلا بمشيئة الله. وأنه لا يندّ عن مشيئته وإرادته شيء. قوله :( وما أرسلناك عليهم وكيلا ) أي ما أرسلناك للناس لتكون عليهم رقيبا، وإنما أرسلناك إليهم لتبلغهم دعوة الله وتحذرهم الوقوع في الشرك والعصيان.
قوله :( وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ) الله عليم بخلقه الذين حفلت بهم السماوات والأرض ؛ فهم في كفرة أعدادهم واختلاف أنواعهم وأجناسهم وألوانهم وطبائعهم لا يعلمهم إلا الله. وقد خلق الله عباده مختلفين متفاوتين فيما بينهم في القدرات والطاعات والفطر. والله عليم بمن يستحق الرحمة والتوفيق والهداية ليكون من أهل الفلاح والنجاء، وهو سبحانه عليم أيضا بمن يستحق الخذلان ليكون من أهل التعس والشقاء.
قوله :( ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض ) هذه سنة الله في عباده أن جعلهم مختلفين في أقدارهم ومنازلهم، متفاوتين في درجاتهم ومراتبهم. وهذه الحقيقة في المفاضلة تنسحب على عموم النبيين والمرسلين ولا خلاف أن المرسلين أفضل من النبيين غير المرسلين. وكذلك فإن أولي العزم من الرسل أفضل من بقيتهم. وأولوا العزم من الرسل خمسة، وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. ويستفاد من ذلك قوله :( وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) ومن الثابت أن محمد أفضل النبيين والمرسلين، ومن بعده إبراهيم الخليل، ثم موسى، ثم عيسى. وذلك هو تقدير الله في الخلق لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
قوله :( وآتينا داود زبورا ) ذلك تنبهي على فضل هذا النبي الكريم ؛ فقد آتاه الله الزبور. وهو كتاب سماوي مقدس يتكون من مجموعة من الخطب والدعاء كان داود يخاطب بذلك ربه كلما دخل بيت العبادة. وبذلك فإن الزبور ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود. وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. وقد روي عن أنس قوله في ذلك : " الزبور ثناء على الله، ودعاء وتسبيح " ١.
١ - فتح القدير جـ٣ ص ٢٣٦ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٧٨ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٥، ٤٦..
قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ( ٥٦ ) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( ٥٧ ) ﴾ ( أولئك )، مبتدأ. و ( الذين )، صفته. و ( يدعون ) صلة الموصول. و ( الذين ) وصلته في موضع رفع صفة للمبتدأ. و ( يبتغون )، خبر المبتدأ. و ( أيهم ) مبتدأ، ( أقرب )، خبره١ والمعنى : أن الله يأمر نبيه محمدا ( ص ) بالقول للمشركين الذين يعبدون من دونه الأصنام والأنداد : ادعوا الذين تعبدون من دون الله وتزعمون أنهم آلهة. ادعوهم أن يكشفوا عنكم ما يحيق بكم من الضر والبلاء، ثم انظروا ليستبين لكم أنهم لا يستطيعون دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم. وإنما القادر على دفع الضر والبلاء عنكم أو تحويله إلى غيركم لهو الله وحده دون أحد من خلقه.
لا جرم أن يكون في ذلك درس للمسلمين في كل زمان ليعوه ويتدبروه فيستيقنوا أن كاشف الضر عنهم إنما هو الله وحده. فما ينبغي لهم بحال أن يعتمدوا على العباد كالرؤساء والكبراء والعظماء من الناس. ما ينبغي للمسلمين في كل الأحوال أن يركنوا إلى المخاليق في كشف ما يحيق بهم من النوائب والملمات. وإنما يركنوا إلى الله وحده بعد أن يتخذوا لذلك ما استطاعوا من الاستعداد والأسباب.
١ - البين لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٢..
قوله :( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ) سبق إعرابه، وقد ذكر أن نفرا من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون. والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فنزلت هذه الآية. والمعنى : أن أولئك الذين تعبدونهم ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ) أي يطلبون من الله الزلفة والقربة وهم يتضرعون إلى الله بالعبادة والطاعة ( أيهم أقرب ) ( أيهم )، بدل من واو و ( يبتغون ). أي يبتغي من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله ( ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) أي يرومون من الله الرحمة بعبادتهم إياه وطاعتهم له. ويخافون عذابه كما يخاف غيرهم من عباد الله، فكيف تزعمون أنهم آلهة.
قوله :( إن عذاب ربك كان محذورا ) عذاب الله وجيع وواصب. وهو لا تطيقه الكائنات حتى الرواسي الشامخات لو وضعت فيه لانماعت ؛ وذلك لفظاعة لهيبه وشدة احتراره ؛ فهو بذلك حقيق أن يحذره كل أحد١.
١ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٨ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ٧١، ٧٢..
قوله تعالى :﴿ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( ٥٨ ) وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( ٥٩ ) ﴾.
( وإن )، حرف نفي بمعنى ما. و ( من )، تفيد الاستغراق. وهذا إخبار من الله سبحانه بأنه ما من أهل قرية من قرى الكافرين الضالين إلا سيهلكهم الله إما بموت، وإما بعذابهم استئصالا، وذلك بمختلف وجوه العذاب والبلاء. وقيل : المراد سائر الأمم من مؤمنين ومجرمين ؛ فالمؤمنون يهلكهم الله بالموت وهو ما لا مندوحة عنه. وأما المجرمون فيهلكهم بالعذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة. ذلك أن ينتقم من المجرمين الأشرار ومن سائر الطغاة والعصاة بما يصيبهم من البلاء بتعدد أشكاله وصوره كالأسقام والزلازل والقحط والحروب والويلات الاجتماعية والعلل الشخصية، الفردية والجماعية. كل ذلك يصيب الله به عباده التائهين والناكبين عن دينه وصراطه المستقيم في هذه الدنيا ( قبل يوم القيامة ) وفي هذا اليوم الحافل الموعود يشتد الهول والبلاء، وتحيط بالمجرمين النار فلا يجدون عنها ملاذا ولا موئلا ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) ( الكتاب )، اللوح المحفوظ، وفيه علم الأولين والآخرين. وما من شيء من أخبار الدنيا والآخرة إلا هو مسطور فيه أي مكتوب. من السطر، بسكون الطاء، وهو الخط والكتابة وجمعه أسطر وسطور. واستطر ؛ أي كتب١. والمعنى : أن هذا الإهلاك أو التعذيب بالاستئصال مكتوب في اللوح المحفوظ.
١ - مختار الصحاح ص ٢٩٨..
قوله :( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ) في سبب نزول هذه الآية روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي ( ص ) : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال : " وتفعلون ؟ " قالوا : نعم. قال : فدعا، فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة، والرحمة فقال : " بل باب التوبة، والرحمة " وروي غير ذلك مما يشبهه١.
و ( أن )، الأولى في موضع النصب مفعول ثان للفعل ( منعنا ) و ( أن ) الثانية في موضع الرفع لأنها فاعل ( منعنا ) والتقدير : وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بمثلها٢.
والمعنى : أن تكذيب الأولين كان سببا لهلاكهم، فلو أرسلنا بالآيات إلى قريش فكذبوها لأهلكناهم كما أهلكنا السابقين المكذبين.
قوله :( وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) لما سألت ثمود نبيهم صالحا أن يخرج لهم ناقة من صخرة عينوها لتكون لهم آية على نبوته، دعا صالح ربه أن يخرج لهم ما سألوه فأخرجها الله لهم مثلما سألوا. وهو قوله :( وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) أي أخرجناها لتكون لهم آية بينة مضيئة تشهد بصدق صالح عليه السلام ( فظلموا بها ) أي كفروا بها ؛ إذ قتلوها وعقروها فكان ظلمهم بقتلها وعقرها، أو أنهم ظلموا بتكذيب هذه المعجزة.
قوله :( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) المراد بالآيات مختلف الدلائل والعبر والمعجزات وأصناف البلايا والانتقام. كل ذلك يرسله الله للعباد على سبيل التخويف لهم ؛ فهو سبحانه يتهدد الناس بمثل هذه الآيات لكي ينثنوا عن فعل المعاصي وينيبوا إلى ربهم طائعين مخبتين٣.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٧ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٩٤..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٣..
٣ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٨ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٨١..
قوله تعالى :﴿ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ﴾ هذا تخصيص من الله لنبيه محمد ( ص ) على تبليغ رسالة الإسلام فيمضي بها إلى الأمام قدما غير هيّاب في ذلك ولا متردد. وفي الآية أيضا إعلام من الله أنه سيمنعه من الناس فلا ينفذون إليه بأذى أو مكروه ؛ لأنه عاصمه من كل سوء وهو سبحانه قد ( أحاط بالناس ) أي أحاطت قدرته بهم فهم في قبضته وسيطرته ولا يستطيعون الخروج من مشيئته وإحاطته. فلا تعبأ بهم يا محمد ولا يثنوك عما أمرك الله به من تبليغ دعوة الإسلام للناس.
قوله :( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ) المراد بالرؤيا، ما رأيه النبي ( ص ) ليلة أسري به إلى بيت المقدس ( والشجرة الملعونة ) هي شجرة الزقوم ؛ فقد أخبر النبي ( ص ) عقب إيابه من المعراج أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم. فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل : هاتوا لنا تمرا وزبدا وجعل يأكل من هذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا.
وفي الآية تقديم وتأخير ؛ أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. والفتنة ارتداد بعض المسلمين ضعفة الإيمان حين سمعوا بإسراء النبي ( ص ) ؛ إذ لم تتصور عقولهم ذلك فأنكروا. وكذلك الشجرة الملعونة. وفتنتها أنهم لما خوفهم الله بكونها طعاما للجاحدين المكذبين قال أبو جهل كلمته الظالمة اللئيمة استهزاء وتهكما : هل تدرون ما هذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد ( ص ) ؟ قالوا : لا. قال : الثريد بالزبد. أما والله لئن أمكننا منها لنتزقمنها تزقما١. والشجرة في ذاتها لا تقع عليها اللعنة ؛ بل لعن الله الكافرين الذين يأكلون منها في النار. والمعنى : والشجرة الملعون آكلوها في القرآن.
قوله :( ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) أي يخوف الله الناس بمخاوف الدنيا مما حوته من الآلام والأرزاء والنوائب، وكذلك يخوفهم بقواصم الآخرة وما فيها من البلايا وعظائم الأمور. فما يزيدهم كل هذا التخويف إلا تماديا في البطل وإغراقا في الفساد والطغيان٢.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٩٥..
٢ - تفسير القرطبي جأ ١٠ ص ٢٨٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٣٢٠..
قوله تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( ٦١ ) قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( ٦٢ ) ﴾ هذا إخبار آخر عن قصة إبليس في عتوه واستكباره وإيغاله في الطغيان والتمرد ؛ إذ أمر الله ملائكته بالسجود تكريما لآدم فأخبتوا لله مذعنين ( إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ) والاستفهام للإنكار ؛ فقد أجاب إبليس ربه في غاية الاجتراء المتوقع وأقصى ما يكون عليه العتوّ واللؤم والاستكبار.
واللعين يرى في تصوره الخاطئ السقيم أن جوهره من النار أشرف من جوهر الطين الذي خلق منه آدم. لاجرم أن هذا إيغال في الوهم وإغراق في الشذوذ وسقم التفكير. وإنما يفضل الخلق بعضهم بعضا بسلامة الطبع والفطرة وصفاء النية والمقصود وحسن التوجه إلى الله الواحد وكفى. وقوله :( طينا ) منصوب على أنه تمييز أو حال١.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٤..
قوله :( قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) الكاف للخطاب، وهذا في موضع نصب مفعول به. والمعنى : أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته وأنا خير منه ؛ فقد خلقتني من نار وخلقته من طين. وهذا لون آخر من ألوان التمرد الفاجر يجترئ به إبليس على ربه وهو يسأله هذا السؤال الظالم.
قوله :( لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته ) يتوعد إبليس ذرية آدم بالإضلال والإغواء وهو يقول لربه في اجتراء لئيم : لئن أخّرت إهلاكي إلى يوم القيامة لأستولينّ على ذرية آدم فلأضلنهم ولأطغينهم فيزيغوا عن ملة التوحيد ويجنحوا للشرك والمعاصي ( إلا قليلا ) وهم المعصومون من الفتنة الناجون من الضلال، الذين يستقيمون على المحجة الصحيحة وهي الإسلام. جعلنا الله من زمرتهم١.
١ - فتح القدجير جـ٣ ص ٢٤١ والكشاف جـ٢ ص ٤٥٦..
قوله تعالى :﴿ قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( ٦٣ ) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( ٦٤ ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( ٦٥ ) ﴾ يأمر الله إبليس أمر إهانة وتحقير بقوله له ( اذهب ) أي امض لما اخترته من شر وعصيان وإفساد، فقد أخرنا إهلاكك إلى يوم القيامة ( فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ) أي فمن أطاعك من ذرية آدم وسار على طريقك في الكفر والمعصية ؛ فإن جهنم لهي مآلكم الذي تصيرون إليه ( جزاؤكم موفورا ) جزاء منصوب على المصدر ؛ أي جزاء وافرا مكثورا.
قوله :( واستفزز من استطعت منهم بصوتك ) استفز ؛ أي استخف. أفزه الخوف واستفزه ؛ أي أزعجه واستخفه١. والمراد بصوت إبليس : الغناء والمزامير واللهو. وقيل : وسوسته. وقيل : دعاؤه إلى معصية الله. والصواب عموم ذلك ؛ فإن إبليس يجهد بالغ جهده لإضلال البشرية بكل الأساليب والأسباب المستطاعة من أجل الإطغاء والإغواء والإلهاء عن دين الله.
وفي هذه الآية يأمر الله إبليس أمر إهانة وتهديد بقوله : استزل واستخف من استطعت أن تستخفه بوسوستك ودعائك إياهم إلى الفسق والعصيان ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) ( وأجلب ) من الجلب والجلبة ؛ أي الأصوات. وقيل : الجمع. أي اجمع عليهم كل ما تقدر عليه ( بخيلك ورجلك ) الباء زائدة، ورجل جمع راجل ؛ أي كل راكب وماش. والمعنى : احمل عليهم بجنودك من مشاة وخيّالة..
قوله :( وشاركهم في الأموال والأولاد ) م مشاركتهم في الأموال : يعني إنفاق أموالهم في المعاصي. وقيل : ما كانوا يحرّمونه من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل : ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. وقيل : المراد عموم ذلك.
أما مشاركتهم في الأولاد : فالمراد بذلك أولاد الزنا. وقيل : تمجيس الأولاد وتهويدهم وتنصيرهم. وقيل : المراد عموم ذلك هو الأظهر. قوله :( وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) أي عدهم بالأماني الكاذبة كشفاعة الآلهة لهم وأنه ليس من بعث ولا حساب ( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) أي ما يعدهم الشيطان أو يمينهم به إلا الباطل والتغرير.
١ - مختار الصحاح ص ٥٠٢ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ٦، ٧..
قوله :( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) عباد الله الصالحون ليس للشيطان عليهم حجة ولا طاقة له في إضلالهم وإغوائهم ( وكفى بربك وكيلا ) أي كفى بالله حفيظا ونصيرا، يثبت المؤمنين المخلصين على الحق وينجيهم من كيد الشيطان ومن مكره ووساوسه١.
١ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٨٨-٢٩٠ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٢١..
قوله تعالى :﴿ ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ( ٦٦ ) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( ٦٧ ) ﴾.
( يزجى )، أي يدفع بلين أو يسوق سوقا١. ويبين الله ههنا واحدة من آلائه على العباد وهي جريان الفلك ( السفن ) على سطح الماء ؛ فإن الله يزجي هذه في البحر ؛ أي تدفعها الريح بلين فتسوقها سوقا من مكان إلى آخر.
على أن عملية الدفع اللين بالريح، والسوق من موضع إلى آخر إنما يتم ذلك كله بتقدير الله وصنعه ؛ إذ جعل في الطبيعة والأشياء خواصها وقوانينها لتستقيم الحياة والأحياء. ومن جملة ذلك : جريان السفن فوق الماء وهي تنقل على متونها الراكبين والأغراض والمعايش الخفاف والثقال ( لتبتغوا من فضله ) أي لتطلبوا الرزق والمكاسب عن طريق التجارة. وذلك من فضل الله عليكم ورحمته بكم.
١ - مختار الصحاح ص ٢٦٩..
قوله :( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) المراد بالضر هنا الخوف من البحر ؛ فإن الله يبين للناس أنهم إذا ركبوا متن البحر وساروا فيه بفلكهم آمنين ؛ ثم أصابهم شيء من الخوف أو الشدة لسبب من الأسباب كتعاظم الأمواج في بحر هائج مضطرب، أو اشتداد الرياح العاصفة، أحس الراكبون ببالغ الوجل والذعر فخوت فيهم القلوب، وغشيتهم موجة من الإياس والخواء. حينئذ ( ضل من تدعون إلا إياه ) أي غاب عنكم أولياؤكم وأعوانكم من المخاليق وتبددت في نفوسكم الآمال في الآلهة الموهومة المزعومة من أصنام وأنداد وكبراء كنتم تستندون إليهم وترمون منهم كل نُصرة ومدد. لكنكم في مثل هذه الساعات من الحرج البالغ والإياس الشديد، توقنون أنه لا منجاة لكم إلا من عند الله ؛ فقد ذهب عنكم الشركاء والأنداد من المعبودين المكذوبين وليس لكم من أحد ترجونه وتجأرون إليه بالدعاء لينصركم ويدرأ عنكم الخطر النازل سوى الله. وقد اتفق مثل ذلك لعكرمة ابن أبي جهل لما ذهب فارا من رسول الله ( ص ) حين فتح مكة فذهب هاربا فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريح عاصفة فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده. فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره اللهم لك عليّ عهد لئن أخرجتني منه لأذهبنّ فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفا رحيما. فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله ( ص ) فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.
قوله :( فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ) بعد أن دعوتم الله فأذهب عنكم الضر وكشف عنكم هذا البأس الداهم ونجاكم من هول ما أصابكم من ذعر ( أعرضتم ) عن الإخلاص لله وعن الإلحاح في الجأر إلى الله بالدعاء. لقد أعرضتم عن كامل الالتجاء إليه سبحانه بعد أن أنجاكم وأذهب عنكم الخطر المحدق الداهم. ذلكم هو شأن الإنسان في الغالب ؛ فإنه فخور يؤوس كفور ؛ فهو إن أصابته شدة أو ناله بأس وهوان أو أحاطت به الكروب والصعاب ؛ لجّ إلى ربه بالدعاء والاستقامة حتى إذا كشف عنه ما أصابه، انقلب كفورا جاحدا للنعمة، ناسيا ما لله عليه من عظيم الأيادي. وهو قوله :( وكان الإنسان كفورا ).
قوله تعالى :﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( ٦٨ ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( ٦٩ ) ﴾ الهمزة في ( أفأمنتم ) للاستفهام الإنكاري، والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنجوتم فأمنتم ثم أعرضتم. وذلك بلاغ إنكاري من الله لأولئك الذين يخشون ربهم في البحر كلما دهمهم خوف من الغرق فيلجون بالدعاء إلى الله لينجيهم. حتى إذا نجاهم إلى البر وبلغوا السلامة والأمان نسوا خوفهم ودعاءهم وزهدوا في التذلل والتضرع إلى الله، فيبين الله لهؤلاء مستنكرا وهو قوله : أفتحسبون بعد خروجكم إلى البر حيث السلامة والنجاة أنكم آمنون من عذاب الله ( أن يخسف بكم جانب البر ) الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء. خسف المكان خسفا أو خسوفا ؛ أي غار في الأرض. خسفت عين الماء ؛ غارت١. ويخسف بكم جانب البر ؛ أي يغيبكم في جانب البر وهو الأرض ؛ فالله قادر على تغييبكم في البحر. وهو كذلك قادر على تغييبكم في البر. فالغرق تغييب تحت الماء، وكذا الخسف تغييب تحت التراب.
والمراد أنكم إن أمنتم من هول البحر فما ينبغي أن تأمنوا من هول البر ؛ فالله لا يعز عليه أن يسلط عليكم البلاء والتدمير حيثما كنتم فلا مناص لكم من قدر الله ولا ملجأ.
قوله :( أو يرسل عليكم حاصبا ) الحاصب هي الريح التي ترمي الحصباء، وهي صغار الحصى. فإذا لم يخسف الله بكم الأرض يرسل عليكم ريحا شديدة ترميكم بالحصباء فتبددكم وتستأصلكم كما فعل بقوم لوط ؛ إذ أمطرهم الله بحجارة أهلكتهم إهلاكا. وليس لكم حينئذ من دون الله أيما نصير أو مجير يرد عنكم بأس الله. وهو قوله عز من قائل :( ثم لا تجدوا لكم وكيلا ) أي ناصرا وحافظا.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ١٨٢ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٢..
قوله :( أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ) أم أمنتم بعد ما جأرتم إلينا بالدعاء فأنجيناكم من الغرق ثم أعرضتم ونسيتم، أن يعيدكم الله إلى البحر مرة ثانية فتعاينوا الهول من جديد ؛ إذ يرسل عليكم هذه المرة ( قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ) القاصف من الريح، التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، أو هو الكاسر ؛ قصفت الريح السفينة ؛ أي كسرتها لشدتها. وريح قاصف ؛ أي شديد.
والمراد هنا الريح الشديدة التي تكسر الفلك فتغرقها بمن فيها وهو مقتضى قوله :( فيغرقكم بما كفرتم ) أي فيغرقكم بسبب جحودكم وكفرانكم النعم من ربكم ( ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ) تبيع، بمعنى تابع ؛ أي لا تجدون بعد إغراقكم وإهلاككم من يثأر لكم أو يطالب بالانتقام لكم١.
١ - تفسير الرازي جـ٢١ ص ١٢، جـ ٢ ص ٣٢٢..
قوله تعالى :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾ الإنسان كائن مفضل مكرم ؛ فقد كرمه الله تكريما. كرّمه بمختلف وجوه التشريف والاحترام، ومن جملة وجوه التكريم الكاثرة : حسن الهيئة والصورة ؛ إذ جعله الله منتصب القامة، مستوي الخلقة والمظهر. وأظهر دليل على ذلك مشيه على رجلين بما يفوق المشي لدى عامة الخلائق حسنا وجمالا. يضاف إلى ذلك جمال الأعضاء والأجزاء والأطراف التي يكمل بعضها بعضا.
ومن أعظم ظواهر التكريم والتفضيل للإنسان خصوصيته النطق والكلام. لا جرم أن هذه سمة عجيبة بارزة تتجلى في الإنسان لتجعل منه الكائن المميز المفضال. وهي سمة خص الله بها بني آدم دون غيرهم من كائنات الدنيا.
ويأتي فوق ذلك كله تلكم الخصيصة الفضلى التي تفوق كل الخصائص، وهي العقل. لا جرم أن العقل مزية هائلة وكبرى، امتنّ الله بها على الإنسان ليكون سيد الكائنات، ولتتسخر له كل الكائنات في الأرض والسماوات.
فالإنسان بطبيعته مفكر، وهو بفطرته قد داخلته الإشراقات الروحية العليا أجمل مداخلة فصار بذلك، الإنسان العابد الذي يهفو في شغف حرور لعبادة الله إذا ما أتيحت له أسباب التربية السليمة الصحيحة كيلا تتناوشه شياطين البشر فتصده عن ملة الحق والتوحيد صدا. وفي ذلك روى مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله ( ص ) قال : " يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
وإذا اجتمع العقل والروح معا في كيان الإنسان، جاء الإنسان على خير مثال من نداوة الطبع والفطرة وجمال السلوك والخلق بما يفيض على الواقع خير الخصال والخلال.
قوله :( وحملناهم في البر والبحر ) سخر الله لبني آدم المراكب في البر والبحر، ففي البر مختلف الوسائل والأسباب لحمل الإنسان فتنقله من موضع إلى آخر. كالدواب بمختلف أنواعها وأجناسها. ولئن كانت الأنعام ومختلف المواشي وسائل البشرية طيلة الزمان الفائت ؛ فإن الوسائل المتطورة في العصر الراهن والمسخرة لركوب الإنسان لهي من نعمة الله على الناس، إذ مكنهم من صنع ذلك بما آتاهم من قدرة على الاختراع والتدبير.
وكذلك في البحر قد سخر الله لنبي آدم الركوب في الفلك التي تطفو على سطح الماء فلا تغرق. وذلك بما جعله الله من خاصية في الطبيعة والكائنات لتتحقق ظاهرة الطفو فوق الماء إذا كانت كثافة المحمول دون كثافة الحامل وهو الماء.
قوله :( ورزقناهم من الطيبات ) رزق الله الإنسان صنوف الثمرات والزروع وأنواع المطعومات والمشروبات مما لذّ له وطاب. ورزقه مختلف الأشكال والألوان من الملبوسات الحسنة التي يزدان بها ليكون على خير صورة ومظهر.
قوله :( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) فضل الله بني آدم على سائر الكائنات والأحياء بمزايا العقل والإرادة وحسن الصورة والمظهر وغير ذلك من جميل المزايا. أما تفضيل المؤمنين على الملائكة أو العكس فهو موضع اختلاف ؛ فقد ذهب كثير من أهل العلم وفيهم المعتزلة إلى أن الملائكة أو العكس فهو موضع من الإنسان المؤمن. ومما استندوا إليه، ظاهر هذه الآية ؛ فقد فضل الله بني آدم على كثير من الخلق. فالمستثنى من المفضولين إذن هم الملائكة ؛ فهم أفضل من الناس. وقيل : إن النبيين من البشر أفضل من الملائكة وهو قول المتكلمين استنادا إلى أن الكثير في هذه الآية يعني الجميع١.
١ - الكشاف جـ٢ ص ٤٥٨ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٦، ١٧..
قوله تعالى :﴿ يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( ٧١ ) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( ٧٢ ) ﴾ ( يوم )، منصوب على الظرف. والباء في قوله :( بإمامهم ) للحال. وتقدير ذلك، يوم ندعو كل أناس مختلطين بإمامهم١ يوم القيامة حيث الحساب ؛ إذ الناس واقفون وجلون ينتظرون مصائرهم، إما إلى الجنة وإما إلى النار، هنالك ينادي كل إنسان بإمامه. وفي تأويل الإمام خلاف. فقد قيل : المراد به نبيه ومن كان يقتدي به في الدنيا ويأتم. إذ يقال : هاتوا متبعي إبراهيم. هاتوا متبعي موسى. هاتوا متبعي عيسى. هاتوا متبعي الشيطان. هاتوا متبعي الأصنام. هاتوا متبعي الطغاة والخاسرين من الساسة والملوك.
وقيل : المراد به كتاب أعمالهم. ويعزز ذلك قوله تعالى :( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ).
قوله :( فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ) أي فمن أعطي كتاب أعماله بيمينه فإنه يقرأ كتابه ليقف على ما فيه ( ولا يظلمون فتيلا ) أي لا ينقصون من أجورهم مقدار فتيل. والفتيل ما يكون في شق بطن النواة. وقيل : هوما يفتل بين الإصبعين من الوسخ٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٤..
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ٢٨..
قوله :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ ( هذه )، أي الدنيا. فمن كان في دنياه أعمى عما عاين من الحجج والأدلة وما أبصره من البراهين والعجائب من خلق الله والآيات التي تكشف عن قدرته وبالغ عظمته وإحاطته ؛ فلم يهتد للحق بل ظل سادرا في كفره وضلاله ؛ فهو في أمر الآخرة التي لم يعانيها ولم يرها أعمى ( وضل سبيلا ) أي أكبر ضلالا مما كان عليه في الدنيا١.
١ -تفسير الطبري جـ١٥ ص ٨٦، ٨٧ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٥٢..
قوله تعالى :﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ( ٧٣ ) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( ٧٤ ) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ( ٧٥ ) وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( ٧٦ ) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ( ٧٧ ) ﴾.
قال ابن عباس في سبب نزوله قوله :( وإن كادوا ليفتنونك ) قال : نزلت في وفد ثقيف أتوا رسول الله ( ص ) فسألوا شططا وقالوا : متعنا باللات سنة وحرّم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله ( ص ) ولم يجبهم فأقبلوا يكثرون مسألتهم وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم ؛ فهمّ رسول الله ( ص ) أن يعطيهم ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال سعيد بن جبير : قال المشركون للنبي ( ص ) : لا نكف عنك إلا بأن تلمّ بآلهتنا ولو بطرف أصابعك. فقال النبي ( ص ) : " ما عليّ لو فعلت والله يعلم أني بار " فأنزل الله ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) ١ ( إن )، مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف واللام، للتأكيد، وهي فارقة بين إن المخففة، وإنْ النافية. يعني : إنْ الشأن أنهم قاربوا أن يفتنوك ؛ أي يخدعوك فاتنين من الفتنة. وهي في الأصل بمعنى الاختبار ثم استعمل في كل ما أزل الشيء عن حده وجهته فقوله :( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحيناه إليك وهو القرآن. والمراد عما فيه من أوامر وزواجر وأحكام ومواعظ ( لتفترى علينا غيره ) أي لتتقول علينا غير الذي قلناه لك. أي تختلق لهم ما اقترحوه وما سألوه من افتراء على الله.
قوله :( وإذا لاتخذوك خليلا ) ( إذا )، حرف جواب وجزاء٢.
والخليل، الصديق، وجمعه أخلاء، من الخلة بالضم وهي الصداقة٣ ؛ أي لو فعلت ما سألوه من فتنتك عن الحق لاتخذوك لهم صديقا وأظهروا للناس أنك موال لهم وراض بشركهم وضلالهم.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٩٦..
٢ - الموجز في قواعد اللغة العربية للأستاذ سعيد الأفغاني ص ٣٩٢..
٣ - المصباح المنير جـ١ ص ١٩٤..
قوله :( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) أي لولا تثبيتنا لك وعصمتنا إياك من كيدهم وفتنتهم لقاربت أن تنجح إلى كيدهم وفتنتهم ركونا قليلا. ولما نزلت هذه الآية قال النبي ( ص ) : " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ".
قوله :( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) الضعف : أن يضم الشيء إلى مثله. وضعف الشيء ؛ مثله مرتين. والتضعيف : أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثلين أو أكثر. وقد يكون الضعف بمعنى النصيب أو المثل١. والمعنى : لو ركنت إلى المشركين واتبعت مُرامهم وما سألوه لأذقناك مثلي عذاب الدنيا ومثل عذاب الآخرة وذلك غاية التوعد المخوف من الله لنبيه ( ص ). والسبب في مضاعفة العذاب هنا هو علو الدرجة. فكلما عظمت درجات الناس تضاعفت مؤاخذتهم وكبرت مسؤولياتهم والنبي ( ص ) عظيم المنزلة والشرف ؛ فكانت مؤاخذته بالذنب أعظم.
قوله :( ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) إذ أذقناك العذاب المضاعف فلن تجد لك من دوننا من يعينك أو ينقذك من عقابنا.
١ - مختار الصحاح ص ٣٨١ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ٢٢..
قوله :( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) نزلت هذه الآية في كفار قريش ؛ إذ هموا بإخراج رسول الله ( ص ) من بين أظهرهم فتوعدهم الله بهذه الآية. وهو أنهم لو أخرجوه من مكة لما لبثوا بعده فيها إلا يسيرا. وذلك الذي وقع ؛ فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد اشتداد أذاهم له إلا سنة ونصف سنة حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد فأمكنه الله منهم ونصره عليهم، فقتل أشرافهم، وكسر شوكتهم، وأعادهم إلى مكة منتكسين مقهورين١. و ( يستفزونك )، يعني يستخفونك ويخرجونك. وذلك من الاستفزاز وهو الإزعاج٢ فقد همّ المشركون بإخراج النبي ( ص ) من مكة ولو أخرجوه لما أمهلوا. لكن الله أمره بالهجرة فخرج ؛ أي أن النبي ( ص ) ما خرج بسبب إخراج المشركين إياه ؛ بل خرج بأمر من الله.
قوله :( وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) أي لو أخرجوك فسوف لا يمكثون بعد إخراجك إلا زمنا يسيرا. وقد كان ذلك ؛ فإنهم لم يلبثوا بعد خروج النبي ( ص ) من مكة إلا مدة يسيرة ؛ إذ أخرجهم الله ليلاقوا مصارعهم يوم بدر.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٥٣ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٩٧..
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ١٩٣..
قوله :( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ) ( سنة )، منصوب على المصدر المؤكد لما قبله. والتقدير : أهلكناهم إهلاكا مثل سنة من قد أرسلنا قبلك. فحذف المصدر وصفته وأقيم ما أضيف إليه الصفة مقامه١. أو سننا ذلك سنة فيمن قد
أرسلنا قبلك. والمراد : أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ظلما وعدوانا فسنة الله أن يهلكهم.
قوله :( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ذلك هو شأن الله في عقاب المجرمين الذين يخرجون أنبياء الله من أوطانهم ظلما. وشأن الله في ذلك لا يتغير ولا يتبدل٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٥..
٢ - تفسير الراوي جـ٢١ ص ٢٣-٢٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٢٤ وتفسير البيضاوي ص ٣٨١..
قوله تعالى :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( ٧٨ ) ومن الليل فتجهد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( ٧٩ ) ﴾ ذلك بيان من الله لأشرف الطاعات وأرفعها قدرا وأجلها تعظيما وهي الصلاة ؛ فقد أمر الله المسلمين أن يقيموا هذه الفريضة العظيمة على خير وجه من الصحة وتمام الأداء، وأن يحافظوا عليها في كل الأحوال، وأن لا يفرطوا فيها أيما تفريط. وقد بيّن الله أوقات الصلوات المفروضة جميعها في هذه الآية، وبهذا الأسلوب الجامع العجيب في كلمات معدودة مصطفاة على أكمل ما يكون عليه الترابط والانسجام بما ينطق بروعة هذا القرآن وإعجازه فقال :( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) اختلف العلماء في معنى الدلوك هنا على قولين : أحدهما : أنه غروب الشمس. وهو قول ابن مسعود وأبي بن كعب وهو رواية عن ابن عباس.
ثانيهما : أنه زوال الشمس عن كبد السماء. وهو قول أكثر أهل العلم. وقال به عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس والشعبي وعطاء وقتادة وآخرون غيرهم. وهو القول الراجح ؛ فقد قال أهل اللغة : معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، وبذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار : دالكة، وقيل لها إذا أفلت : دالكة ؛ لأنها في الحالتين زائلة. قال الأزهري : والقول عندي أن دلوك الشمس زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس. والمعنى، والله أعلم : أقم الصلاة يا محمد ؛ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل ؛ فيدخل فيها الأولى والعصر، وصلاتا غسق الليل هما العشاءان، فهذه أربع صلوات، والخامسة قوله :( وقرآن الفجر ). والمعنى : وأقم صلاة الفجر، فهذه خمس صلوات فرضها الله تعالى على نبيه ( ص ) وعلى أمته١.
قوله :( إلى غسق الليل ) وغسق الليل : اجتماع ظلمته، أو هو ظلمة أول الليل. وأغسق الليل : اشتدت ظلمته. والغسوق والإغساق بمعنى الإظلام. والغاسق : القمر أو الليل إذا غاب الشفق٢. والمراد به هنا وقت صلاة العشاء الآخرة ؛ لأن غسق الليل معناه إقبال الليل وظلامه، ولا يكون ذلك إلا بعد مغيب الشفق وذلك عند تراكم الظلمة واشتدادها، فإذا حملنا الغسق على هذا المعنى ؛ دخلت الصلوات الأربع فيه وهي : الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قوله :( وقرآن الفجر ) ( قرآن )، منصوب لكونه معطوفا على الصلاة، وتقديره : أقم الصلاة وقرآن الفجر. وقيل : منصوب بفعل مقدر، وتقديره : واقرأوا قرآن الفجر٣ وذلك على سبيل الإغراء والتحضيض. والمراد : صلاة الفجر، وعبر عنها بالقرآن دون غيرها من الصلوات ؛ لأن القرآن أعظم ما فيها، وقراءة القرآن فيها طويلة ومجهورة ؛ فإنه يستحب إطالة القراءة في صلاة الصبح على أن لا يضر القارئ بمن خلفه. ويلي هذه في الإطالة صلاة كل من الظهر والعصر، وتخفيف القراءة في المغرب، وتوسطها في العصر والعشاء ؛ فلا ينبغي التطويل فيهما ؛ فقد ورد في الصحيح عن النبي ( ص ) أنه قال : " أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليخفف ؛ فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة ". على أن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة للإمام والفذ. وهو قول الجمهور، واستدلوا بالخبر : " لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب ". وكذلك قوله ( ص ) : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج " وروي عن مالك قوله : إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته. وقيل : إنها تجزي في ركعة واحدة. وهو قول الحسن البصري وآخرين. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن فاتحة الكتاب غير واجبة في الصلاة ؛ بل الواجب مطلق القراءة. فأيما آية قرأها فإنها تجزي. وحدّ أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين. ودليل الحنفية في ذلك ظاهر قوله تعالى :( فاقرءوا ما تيسر منه ) وقوله ( ص ) : " ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " ٤.
قوله :( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) في قوله :( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال : " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ".
١ - لسان العرب جـ١٠ ص ٤٢٨ وانظر تفسير الطبري جـ١٥ ص ٩٢، ٩٣..
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ٢٨١..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٥..
٤ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٠٦ وبداية المجتهد جـ١ ص ١٠٩ والمهذب للشيرازي جـ١ ص ٧٢..
قوله :( ومن الليل فتجهد به نافلة لك ) ( من ) للتبعيض. والضمير في : قوله :( به ) يعود على القرآن ؛ أي بالقرآن. والتهجد من الهجود وهو من الأضداد ومعناه النوم والسهر. والتهجد، القيام إلى الصلاة بعد رقود ؛ أي بعد نوم. والمعنى : قم بعض الليل ( فتهجد به نافلة لك ) النفل معناه الزيادة ؛ فهي زيادة على فرض النبي خاصة دون أمته وهي في حق أمته مستحبة.
قوله :( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) عسى من الله واجبة، ووجه الوجوب : أن الله تعاهد ذلك فلزمه. و ( مقاما )، منصوب على الظرف. أما المراد بالمقام المحمود : ففيه أقوال أصحها أنه الشفاعة للناس يوم القيامة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثا ( جماعات ) كل أمة تتبع نبيها تقول : يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعات إلى النبي ( ص ). فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) في قوله :( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) سئل عنها قال : " هي الشفاعة " ١.
١ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٠٤-٣١١ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٥٠-٢٥٣ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٠٧-١٢١٠..
قوله تعالى :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( ٨٠ ) وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( ٨١ ) ﴾.
روى الترمذي عن ابن عباس قال : كان النبي ( ص ) بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطان نصيرا ) وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله ( ص ) ليتلوه أو يطردوه أو يوثقوه فأراد الله قتال أهل مكة، أمره أن يخرج إلى المدينة ؛ فهو الذي قال الله عز وجل :( وقل رب أدخلني مدخل صدق ) الآية. والمدخل والمخرج، بضم الميم، بمعنى الإدخال والإخراج، كقوله :( أنزلني منزلا مباركا ) أي إنزالا مباركا ليس فيه مكروه. وكذلك أخرجني إخراجا مباركا ليس فيه مكروه. وعلى هذا، قوله :( أدخلني مدخل صدق ) يعني المدينة ( وأخرجني مخرج صدق ) يعني مكة. وقيل : أدخلني مدخل صدق، يعني الموت. وأخرجني مخرج صدق، يعني الحياة بعد الموت. وقيل : الآية عامة في كل الأمور، من أعمال وأسفار وغير ذلك من التصرفات فالمراد بذلك، الدعاء. وهو يعني : أصلح لي شأني كله حيثما دخلت أو خرجت.
قوله :( واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) قال الحسن البصري في تفسير هذه الآية : وعده ربه لينزعن ملك فارس وعزّ فارس وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم. وإن نبي الله ( ص ) علم أنه لا طاقة بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله، لحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله ؛ فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهُر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير الطبري عن هذا : إنه الأرجح ؛ لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه. وفي الخبر : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد والتهديد والتخويف والتحذير.
قوله :( وقل جاء الحق وزهق الباطل ) المراد بالحق، الإسلام، بكل ما فيه من الخير والرحمة والنعمة للبشر، وما حواه من هائل الأحكام والمعاني في كل مناحي الحياة، وهو منهج الله القويم أنزله للناس ليستضيئوا بنوره الساطع، وليهتدوا به في دنياهم ؛ فيحيوا حياتهم هذه آمنين سعداء، وقد أظلتهم أفياء المودة والأخوة والأمان.
ذلك هو الحق الذي هتف به الرسول الأمين ( ص ) لما أمره ربه أن يتلو على الناس ( وقل جاء الحق وزهق الباطل ) ( زهق )، بمعنى اضمحل وبطل ؛ أي ظهر الإسلام. واضمحل وزال ماعداه، فما عداه باطل ( إن الباطل كان زهوقا ) والباطل يتناول كل وجوه الكفر على اختلاف صوره ومسمياته. ومن طبيعة ذلك كله الزهوق وهو البطلان والزوال لا محالة. فأيما باطل فإنه زاهق ؛ إذ هو في ذاته باطل ؛ لأنه بني على الفساد والأثرة والهوى والإدبار الكامل عن منهج الله. فهو لا محالة صائر إلى الزهوق، وهو البطلان المحقق والانهيار الشامل الكامل. وهذه حقيقة لا ينكرها إلا تائه مخدوع أو سقيم النفس، سادر في الجهالة والوهم. وبذلك أيما محجة أو طريقة أو أسلوب مغاير لمنهج الله وهو الإسلام، فإن مصيره التدمير والزوال والخسران في هذه الدنيا، قبل الخسران الأكبر يوم القيامة.
وفي هذا الصدد أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي ( ص ) مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب. وفي رواية : صنم، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول :( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ( جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) ١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٥٩ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٠٧-١٢١٠ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٩٧..
قوله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾ ( من )، ليست للتبعيض بل هي للجنس ؛ أي وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء ؛ فجميع القرآن شفاء للمؤمنين.
والقرآن شفاء للبشرية بما حواه من المعاني والأحكام والتصورات والعبر ؛ فكل ذلك مزيل للشبهات والشكوك والعلل التي تنتاب العقول فتشينها شينا وتسكب فيها ألوانا من ضلالات الفكر الباطل، والمعارف الكاذبة المفتراة التي تعلن الحرب على منهج الله في اجتراء لئيم ووقح، فلا يروق لها بذلك إلا أن تكيد لدين الله كيدا.
إن القرآن شفاء لهذه العقول من كل ضلالات ومفاسدها وانحرافاتها، والقرآن شفاء للبشرية من كل الأدران والأوضار التي تأتي على النفس فتسومها المرض والعطب وكل ألوان الزيغ والشذوذ، وتلكم أمراض بغيضة وممضة ومختلفة تصيب النفس البشرية فتثير فيها ألوانا شتى من الأسقام كالقلق والكمد والاغتمام والهلع والإحساس المستديم بالضيق والكآبة. إلى غير ذلك من صور الأمراض النفسية التي تكابدها البشرية في كل العصور.
لكن القرآن بعقيدته الراسخة السمحة، ومعانيه الكريمة الشفيفة وتشريعه الشامل المتكامل، يبدد كل ألوان المرض بكل صوره وأشكاله، سواء في ذلك ما أصاب الذهن أو الجهاز النفسي والروحي للإنسان. إن القرآن بمعانيه المعجزة الفذة شفاء للإنسان من كل هاتيك الأسقام والعلل التي تقضّ الأفراد والمجتمعات قضّاً والتي تسوم الإنسان الأوجاع والآلام.
وكذلك فإن القرآن رحمة للمؤمنين ؛ لأنهم يتبعون أحكامه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويهتدون بنوره الساطع المشعشع، ويستلهمون من عقيدته ومعانيه الإيمان والهداية والتوفيق، فيتجلى في طبائعهم وسماتهم وسلوكهم كل معالم الخير من حميد الخصال وعظيم الخلال وحسن الأعمال والأفعال. وبذلك تستقيم أحوال الفرد والجماعة فتنعم البشرية بنعيم الأمن والاستقرار والمودة والتعارف. وتترسخ في الدنيا ظواهر العدل والرحمة والتعاون والفضيلة.
قوله :( ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) لا يزداد الكافرون بسماع القرآن إلا هلاكا فوق هلاكهم ؛ لأنهم كلما سمعوا بشيء منه جديد كذبوا وجحدوا فازدادوا بذلك إيغالا في الخسران، والتعس والرجس١.
١ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٠٣ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣١٥- ٣٢٠.
.

قوله تعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا ( ٨٣ ) قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( ٨٤ ) ﴾ ذلك هو الجاحد من الناس، الذي لم يلج الإيمان قلبه ولم تستمرئ دخائله الوجدانية والروحية حلاوة العقيدة والتقوى، فلم يعبأ بغير أهوائه وحاجاته الدنيوية ؛ فإنه إذا أفاض الله عليه بجزيل من نعم المال والعافية والتمكين والسلامة، وإذهاب الضّر والشر ( أعرض ) أي أدبر عن شكر الله والإلحاح في الدعاء لله والرجاء منه، في أحوال الشدة ( ونأى بجانبه ) نأى ينأى نأيا ؛ أي بعد. وتناءوا ؛ تباعدوا. والنأي ؛ البعد١. والنأي بالجانب ؛ أي يلوي النائي عطفه ويولي ظهره على سبيل الاستكبار. ونأى بجانبه ؛ يعني ابتعد عن الله وولى مستكبرا.
قوله :( وإذا مسه الشر كان يؤوسا ) يعني إذا أصابه البلاء والشدة كالفقر والمرض والبؤس، انقلب قانطا مستيئسا من فضل الله ورحمته.
١ - مختار الصحاح ص ٦٤٢..
قوله :( قل كل يعمل على شاكلته ) الشاكلة، بمعنى الناحية والنية والطريقة والمذهب. وهي من الشكل ومعناه المثل، وجمعه أشكال. يقال : هذا أشكل بكذا ؛ أي أشبه١. والمعنى : أن كل إنسان يعمل على طريقته التي سار عليها وارتضاها لنفسه محجة ومنهاجا ( فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) الله أعلم بكم وبما أنتم عليه من صواب وخطل، أو حق وباطل. الله يعلم المؤمن المهتدي من الجاحد الضال.
١ - القاموس المحيط جـ٣ ص ٤١٢ ومختار الصحاح ص ٣٤٤..
قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : بينا أنا أمشي مع النبي ( ص ) في حرث وهو متوكئ على عسيب ؛ إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح. فقالوا : ما رابكم إليه ؟ - أي ما الذي دعاكم إلى مثل هذا السؤال ؟ فقد يجيبكم بما يسوءكم- فقالوا : سلوه، فسألوه عن الروح. فأمسك النبي ( ص ) فلم يرد عليهم شيئا. فعلمت انه يوحى إليه. فلما نزل الوحي قال :( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) ويفهم من ذلك أن هذه الآية مدنية ؛ فإن اليهود قد سألوا النبي ( ص ) عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية. والجواب عن هذا : أن هذه الآية ربما نزلت على الرسول ( ص ) بالمدينة مرة ثانية. كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك١ وقد اختلف العلماء في المراد بالروح المسؤول عنه ؛ فقد قيل : إنه جبريل عليه السلام. وهو الوحي الأمين، والملك الهائل العظيم. وقيل : هو عيسى، المسيح ابن مريم، نفخة من روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول. وقيل : إنه القرآن ؛ فهو كلام الله العجيب الذي ليس له في الكلام نظير. وهو روح يسري في كيان الإنسان فيؤزه إلى الإيمان وعمل الصالحات والطاعات أزّاً. وقيل : المراد بالروح هنا : ما به حياة الإنسان. وهو الراجح والمختار ؛ فقد سألوا رسول الله ( ص ) عن ماهية الروح التي تعمر الإنسان وتنتشر في كيانه كله. والروح بهذا المعنى هو قول أكثر العلماء. فالروح سر الحياة وسببها الذي يعز على الذهن الوقوف على حقيقته وجوهره ولا ندري عن حقيقة الروح شيئا إلا ما نحسه من آثار وظواهر تدل على وجود هذا الكائن المبهم. ولذلك قال سبحانه :( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الأمر، هنا معناه الفعل ؛ أي قل لهم : إن الروح من فعل الله، وهي واقعة حادة وبتخليق الله وتكوينه، وهي من الأمر الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه دونكم ؛ فأنتم لا تعلمون ذلك.
قوله :( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) المراد جميع الخلق وليس طائفة خاصة من البشر ؛ فالناس جميعا لم يؤتوا من العلم إلا قليلا من كثير مما في علم الله. فعلمه واسع وشامل وقديم لا يدركه أو يحيط به من المخاليق أحد. وإنما يعلم الله وحده٢.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٩٧ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٦٠..
٢ - تفسير الرازي جـ٢١ ص ٣٩ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ١٠٥، ١٠٦..
قوله تعالى :﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( ٨٦ ) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبير ( ٨٧ ) ﴾ اللام الأولى في قوله :( ولئن ) موطئة للقسم. وجوابه ( لنذهبن ) وهو ناب مناب جواب الشرط. والمراد بالذي أوحينا إليك، القرآن. وقد عبر عنه بالاسم الموصول على سبيل التفخيم والتعظيم لشأنه. والمراد بالذهاب به : محوه وإزالته من القلوب والمصاحف. ثم لا تجد بعد ذلك متعهدا يلتزم استرداده بعد زواله كما يلتزم الوكيل فيما وكل به.
قوله :( إلا رحمة من ربك ) ( رحمة )، استثناء منقطع. وهي تتقدر بلكن الاستدراكية. أو بل. وقيل : استثناء متصل، لاندراجها في قوله :( وكيلا ).
قوله :( إن فضله كان عليك كبيرا ) وهذه حقيقة ماثلة للعيان والذهن. حقيقة ساطعة كبرى تحكى فضل الله العظيم على رسول الله محمد ( ص ) ؛ فقد اصطفاه الله للنبوة والرسالة. وكان كل رسول من قبله يبعث في أمة من الأمم. لكن رسول الله ( ص ) بعث للعالمين كافة وطوال الزمان. ثم أنزل الله عليه قرآنه الحكيم، الكتاب الحافل المعجز. ثم آتاه الله المقام المحمود يوم القيامة، وهي الشفاعة الكبرى. وهذه خصائص كبريات ما أوتيها نبي مقرّب ولا رسول عظيم من قبل١.
١ - روح المعاني جـ٨ ص ١٦٤، ١٦٥..
قوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ ذلك إعلان من الله قاطع على أن القرآن معجزة الرسول ( ص ). والمراد بمعجزته ما أعجز به الخصم عن التحدي. والهاء للمبالغة١، والإعجاز معناه الخروج عن المألوف مع الاقتران بالتحدي وعدم المعارضة من أحد. وذلك هو شأن القرآن الذي جيء به من عند الله بلاغا للناس، وإنقاذا للعالمين من الضلال في هذه الدنيا وتنجية لهم من الخسران والعذاب في الآخرة.
ولقد جيء بالقرآن على صفته البالغة من الإعجاز ليتحدى الله به العالمين أن يأتوا بمثله. وكان ذلك في زمان كان العرب فيه في أوج نبوغهم من فصاحة الكلم وبراعة اللسان فما استطاعوا أن يأتوا بمثله.
ولقد بينا فيما مضى أن القرآن الكريم تتجلى فيه خصائص شتى من عجيب الصفات، سواء في اللفظ والعبارة، أو المعنى والمضمون. والقرآن في ذلك كله يأتي في غاية الكمال والجمال بما ليس له في النظم نظير. وهو في آياته وألفاظه ومقاطعه وعباراته معجز، لفرط بلاغته الراقية، وأسلوبه العجيب المميز، وإيقاعه المؤثر الشجي، وروعته التي تأخذ بالقلوب والألباب، وتبهر النفس والوجدان أيما بهر.
وهو كذلك في معانيه ومضامينه معجز. وذلك بما حواه من هائل المعاني والأخبار والمواعظ، وجليل المشاهد والحكم والقصص، ومختلف الأوامر والزواجر والأحكام من حلال وحرام وتحذير وتنذير إلى غير ذلك من الحجج والدلائل والبراهين الساطعة في الحياة والطبيعة والإنسان.
ومن أعجب العجب أن يأتي ذلك كله في كتاب ذي حجم متوسط. ولو تكلف البشر أن يأتوا بكل هذه المعاني والمضامين لاستنفد ذلك منهم آلاف الكتب. ولو جهدوا أن يجعلوا كل ذلك في كتاب واحد ذي حجم متوسط كحجم القرآن ؛ لجاء كلامهم في غاية التكلف المصنوع والتنافر الثقيل المستقبح. لكن القرآن بتعدد ضروبه في المعاني، وهائل علومه الكريمة العظام، وواسع شموله الذي غشي الأولين والآخرين، وشمل الدنيا والآخرة، قد جاء في حجمه على غاية الإيجاز لكنه مع ذلك كان في الذروة السامقة من الإعجاز.
فالقرآن بخصائصه العجيبة هذه ومزاياه غير ذات النظير، قائم يتحدى العالمين ان يأتوا بمثله ؛ إذ لم يستطيعوا. وهو قوله سبحانه :( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ) يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) بإبلاغ الناس على وجه التأكيد أنه لو اتفقت الإنس والجن- متعاونين فيما بينهم- على الإتيان بمثل القرآن المعجز ( لا يأتون بمثله ) ( لا يأتون )، جواب للقسم الموطأ له باللام. وقيل : جواب للشرط٢.
والمعنى، أنهم عاجزون عن الإتيان بمثل هذا الكتاب الحكيم ؛ إذ لا يستطيعون مضاهاته البتة. ولو علموا من أنفسهم الاقتدار على الإتيان بمثله أو شيء منه لبادروا دون إبطاء أو وناء مبتغين بذلك إحراج النبي ( ص ) والتشكيك في قرآن الله، بدلا من الاستعداد لهذه المهمة بالحرب كي يواجهوا الإسلام والمسلمين فتزهق بذلك أرواح رجالهم وتفنى أموالهم. وذلك يكشف عن عجزهم الكامل عن محاكاة القرآن أو معارضته، فضلا عن الإتيان بمثله. ( ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) والظهير، معناه المعين٣ ؛ أي لو تكلفوا كل الأسباب والجهود من أجل الإتيان بمثل القرآن- وهم يعين بعضهم بعضا- لعجزوا بالغ العجز، ولصاروا إلى الخذلان والخسران.
ومن أظهر الأدلة على ذلك، تلك المحاولات التاعسة المخزية التي انزلق فيها نفر من الأشقياء والمغرورين والمخدوعين من أمثال الكذاب مسيلمة ؛ ذلك الجهول الغاشم الذي تولى كِبْره في الأرض، سادرا في حماقته، واغتراره، وهو يزدرد من الكلمات ما هو فاضح وسقيم ومكذوب. فما كان هذا الدجال المأفون إلا مفتريا على الله الباطل من الكلام المضطرب المهين زاعما أنه من عند الله افتراء عليه، حتى استطار زيفه وشاعت في الآفاق حماقته وبات على الدوام مدعاة للعن اللاعنين وسخرية المستسخرين٤.
١ - القاموس المحيط ص ٦٦٣..
٢ - الدر المصون جـ٧ ص ٤٠٦..
٣ - القاموس المحيط ص ٥٥٧..
٤ - روح المعاني ص ٨ ص ١٦٦، ١٦٧..
قوله تعالى :﴿ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ﴾ ( صرفنا )، مفعوله محذوف. و ( من ) في قوله :( من كل مثل ) زائدة، وهو المفعول به و ( صرفنا )، أي أجرينا ورددنا. صرف الحديث بسكون الراء ؛ أي أن يزاد فيه ويحسن. والمعنى : أن الله جل وعلا أجرى القرآن على أساليب مختلفة تقتضي زيادة في البرهنة والتدليل لأهل مكة ( في هذا القرآن من كل مثل ) أي ردد للناس في كتابه الحكيم من مختلف المعاني والمشاهد والعبر، ما يبيّن لهم وللبشرية كافة أن هذا الكلام معجز، وأنه منزل من لدن حكيم حميد١.
ومن الظواهر المتجلية في القرآن أنه تتزاحم فيه المعاني المختلفة بتعدد مجالاتها وضروبها وأساليبها ليتذكر السامعون وتستيقن قلوبهم، وليعلموا أن ما جاءهم به رسول الله ( ص ) لهو الحق والصدق.
قوله :( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) ( كفورا )، مفعول به للفعل أبى، وهو استثناء مفرغ ؛ أي لم يفعلوا إلا الكفور، بضم الكاف. والمراد بأكثر الناس، الكافرون في زمن النبوة من المشركين وأهل الكتاب ؛ فقد أبوا إلا أن يجحدوا الحق وهو القرآن إذ كذبوا به واستيقنته أنفسهم من الداخل.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٤٠٨..
قوله تعالى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٩٢ ) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان رب هل كنت إلا بشرا رسولا ( ٩٣ ) ﴾.
كذب المشركون بالقرآن وهو الكلام الرباني المعجز، وما جحدوه إلا لفرط عنادهم وشدة مكابرتهم واستكبارهم. وبالرغم من روعة القرآن في عجيب نظمه وبديع أسلوبه وكمال معناه ؛ إلا أنهم غاروا في الكفران والحماقة، ولجوا في التحدي السقيم وهم يسألون النبي ( ص ) جملة من الأسئلة غير المعقولة، والتي لا تلبس بها إلا الفارغون الأشرون، أو الضالون الموغلون في الجهاد والعناد. ويكشف عن بالغ ضلالهم وغيّهم فيما سألوه، قوله عز من قائل :( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) ( الينبوع )، معناه العين تفور من الأرض ولا ينضب ماؤها ؛ فقد سأل المشركون رسول الله ( ص ) – لكي يصدقوه- أن يفجر لهم من الأرض عينا يتدفق منها الماء فيشربون ويزرعون ؛ وذلك أن مكة بلد قفر ممحل لا ماء فيه. فناسب أن يسألوه مثل هذا السؤال.
قوله :﴿ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ﴾ وهذا مطلب ثان سأله المشركون وهو أن تكون لرسول الله ( ص ) جنة ؛ أي بستان فيه نخيل وعنب بثماره المستطابة وظلها المتفيء، وأن تتفجر الأنهار في كل مكان من أرض هذه الجنة.
قوله :( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) وهذا مطلب ثالث سأله المشركون. وهو أنك يا محمد تزعم أنك نبي، وأن الله يسقط على المكذبين كسفا من السماء فأسقطها علينا. وكسفا أي قطعا، جمع كسفة وهي القطعة.
قوله :( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) وهذا مطلب رابع سأله المشركون ليبلغوا بذلك غاية الجهالة والضلال. فقد سألوا أن يروا الله والملائكة معاينة. وقيل : قبيلا أي جماعة ؛ فهي بذلك حال من الملائكة١.
فالمعنى بذلك : أن تأتينا يا محمد بالملائكة فوجا بعد فوج. وهو قول ابن عباس.
١ - الدر المصون جـ ٧ ص ٤١١..
قوله :( أو يكون لك بيت من زخرف ) وهذا مطلب خامس سأله المشركون على سبيل المكابرة والمعاندة والتحدي ؛ فقد سألوا رسول الله ( ص ) أن يكون له بيت من ذهب فيؤمنوا.
قوله :( أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه ) ( ترقى )، فعل مضارع منصوب تقديرا ؛ لكونه معطوفا على ( فتفجر ) والرقي، معناه الصعود١ وهذا مطلب سادس تلغط به أفواه المشركين المكذبين وهم يسألون النبي ( ص ) أن يصعد في معارج السماء. ومع ذلك لم يؤمنوا من أجل صعوده وحده إلا أن ينزل عليهم كتابا يقرأونه بلغتهم فيشهد له بالصدق.
قولهم ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) يأمر الله نبيه ( ص ) أن يقول لهؤلاء المكذبين تعجيبا من فرط جهالتهم وعتوهم ( سبحان ربي ) ذلك تنزيه لله عما لا يليق به من مثل هذه الاقتراحات. ويضاف إلى ذلك التنديد بمطالبهم الفاسدة السقيمة ؛ فإن رسول الله ( ص ) غير قادر أن يأتيهم ما سألوه ؛ فهو ليس إلا بشرا أرسله الله للناس شاهدا ومبلغا ونذيرا٢.
١ - نفس المصدر السابق..
٢ - رواح المعاني جـ٨ ص ١٦٧-١٦٩ والدر المصون جـ٧ ص ٤٠٨-٤١٢..
قوله تعالى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( ٩٦ ) ﴾ ( أن يؤمنوا )، مفعول ثان للفعل ( منع ) أي : ما منعهم إيمانهم أو من إيمانهم. والفاعل ( أن قالوا ) أي قولهم. ( إذ )، ظرف للفعل منع. والتقدير : وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى إياهم إلا قولهم : أبعث الله١.
والمعنى : أن هؤلاء المشركين الذين ظهرت أباطيلهم والذين لجوا في العتو والاستكبار والحسد، ما منعهم من الإيمان بدين الله وكتابه الحكيم، وقت نزول الوحي بالمعجزة الكبرى وهي القرآن حيث الهداية والخير والنور ( إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ) وهو استفهام إنكار وجحود ؛ فقد كذبوا أن يبعث الله إليهم رسولا من جنس البشر. وهذا التصور خاطئ وضال ؛ فإن من الحق والمنطق السليم أن يبعث الله بالرسل لعباده من جنسهم ؛ لأن الجنس إلى الجنس أميل. ولو بعثهم الله من غير جنس المبعوث إليهم لوقع بينهم التنافر، لاختلاف الخلقة والطبائع. وإنما يستأنس المخلوق بنظيره من المخاليق من بني جنسه وليس من جنس مغاير مختلف، وبذلك فإن قولهم إن الرسول ينبغي أن يكون من الملائكة، ليس إلا محض تحكم يؤز إليه الهوى المجرد. وهذا هو مقتضى قوله :( أبعث الله بشرا رسولا ).
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٤١٢..
قوله :﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ﴾ ( كان )، هنا تامة ؛ أي وجد وحصل ( يمشون )، صفة الملائكة، ( مطمئنين )، حال من فاعل ( يمشون ). ويجوز أن تكون ناقصة١.
وفي هذه الآية يأمر الله نبيه محمد ( ص ) أن يقول لهؤلاء المكذبين الناكفين : لو وجد في الأرض بدل البشر ملائكة طبائعهم كطبائع البشر فيمشون مثلهم ( مطمئنين ) أي ساكنين. ومنه الطمن، بالفتح والسكون ؛ أي الساكن٢ ؛ يعني يمشون ساكنين مستقرين ( لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) وذلك ليمكنه الاجتماع بهم فيستطيعوا التعلم والتلقي منه ؛ لأنه من جنسهم. أما البشر فلا يتيسر لهم ذلك لما بين الجنسين من كبير البون نظرا لاختلاف الأصل والخلقة فيما بينهم ؛ فلا يعقل إذن أن يبعث الله رسله للناس من الملائكة. ولكن يبعثهم إلى من يصطفيهم من المرسلين الأخيار ؛ لأن هؤلاء أولو نفوس زكية مصطفاة وهم على الغاية القصوى من مراتب السمو الروحي فيستطيعون بذلك أن يتلقوا من الملائكة لما بين جنس النبيين والملائكة من عظيم الطابع الروحي وبالغ الشفافية والطهر.
١ - نفس المصدر السابق..
٢ - القاموس المحيط ص ١٥٦٥..
قوله :( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ) بعد أن ذكر النبي ( ص ) للمشركين وجه الاحتجاج عليهم بما بينه لهم من دليل، أمره الله أن يقول لهم :( كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ) الله خير شهيدا على كوني صادقا فيما بينته لكم وفيما دعوتكم إليه وما احتججت لكم به، ومن يكن الله له شهيدا فلا جرم أنه على الحق واليقين. و ( شهيدا )، منصوب على الحال، أو التمييز.
قوله :( إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) الله جل وعل محيط علمه بكل شيء فما تخفى عليه في الكون خافية. وهو سبحانه عليم بظواهر القوم وبواطنهم، ويعلم ما يخفونه في نفوسهم من الاستكبار والحسد فلم يؤمنوا. وفي ذلك من التهديد والوعيد لهم، والتسلية لرسول الله ( ص ) ما لا يخفى١.
١ - روح المعاني جـ٨ ص ١٧٤ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ٦١..
قوله تعالى :﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ﴾ ذلك كلام مبتدأ من الله وفيه تسلية لرسول الله ( ص ). والمعنى : أن المهتدي من أوتي سلامة الفطرة وحُسْن الاستعداد ؛ فإنه يهتدي بتوفيق الله للحق. وأما الضال : فهو ذو استعداد قبيح وطبيعة سيئة متلبسة بالزيغ والعوج، فما يختار هذا إلا الكفر والعصيان والإدبار عن منهج الله وطاعته.
وهؤلاء الضالون الزائغون عن الحق ليس لهم من أحد يهديهم وهو قوله سبحانه :( فلن تجد لهم أولياء من دونه ) أي لن يكون لهؤلاء الجاحدين أنصارا أو أعوانا ينقذونهم من الضلالة والخسران إن كان الله قد علم أنهم لا يبتغون إلا الضلال، فأضلهم.
قوله :( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) ( على وجوههم )، في موضع نصب على الحال من المفعول ؛ أي كائنين مسحوبين على وجوههم. و ( عميا )، حال ثانية١، والبكم، من البكم بالتحريك بمعنى الخرس. والبكم جمع أبكم وهو الأخرس، أو الذي يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر٢. يتوعد الله هؤلاء المشركين الجاحدين ويتهددهم بأهوال يوم القيامة حيث الدواهي والشدائد بدءا بعذاب القبر. ومرورا بالذعر والإياس والزحام والاصطلاء الشديد تحت الشمس. وفي وصف ذلك يقول سبحانه :( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) أي يساقون بعد قيامهم من قبورهم إلى المحشر ؛ إذ يزحفون على وجوههم زحفا، وهم عمي لا يرون، وخرس لا ينطقون، وصم لا يسمعون. فياله من منظر فظيع، وصورة مريعة بئيسة تستبين من خلالها حال المجرمين الخاسرين يوم القيامة.
وفي حال الكافرين الخاسرين يوم القيامة وما يحيط بهم حينئذ من عظائم الأمور أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم " قيل : يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم ؟ قال : " إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ".
وأخرج أحمد والنسائي والترمذي عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله ( ص ) : " إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم ". وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن أبي ذر قال : حدثني الصادق المصدوق ( ص ) : " إن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج، فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم ".
قوله :( مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ) خبت النار تخبو، أي سكن لهيبها أو طفئ. ٣ والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين الناكبين عن منهج الله مستقرهم جهنم، بلهيبها المتأجج المستعر. وهي ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) أي كلما سكن لهيبها بأن فنيت جلودهم وأبدانهم من الحريق ولم يبق منها ما تحرقه النار، أعادهم الله على ما كانوا عليه ؛ لتتوقد بهم النار وتستعر٤.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤١٤..
٢ - القاموس المحيط ص ١٣٩٧..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٤١٥..
٤ - روح المعاني جـ٨ ص ١٧٦..
قوله تعالى :﴿ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٩٨ ) أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا ( ٩٩ ) قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ( ١٠٠ ) ﴾.
( ذلك جزاؤهم )، مبتدأ وخبره. ( بأنهم )، متعلق بالجزاء ؛ أي ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنهم كفروا١. والمعنى : أن هذا العذاب الذي جازيناهم به من بعثهم عميا وبكما وصما، جزاء تكذيبهم وكفرهم.
قوله :( وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ) جحد المشركون البعث عقب الممات بعد أن يستحيلوا إلى عظام وحطام ؛ فقد أنكروا ذلك أيما إنكار. وهو ما يكشف عن بالغ ضلالهم وإدبارهم عن الحق ؛ إذ قالوا مستسخرين ( أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ) الاستفهام للإنكار ( خلقا ) اسم مصدر أو حال ؛ أي مخلوقين. فبسبب كفرهم وتكذيبهم بالمعاد بعد الموت جعل الله جهنم مأواهم.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٤١٦..
قوله :( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم ) ذلك احتجاج بالغ عليهم ؛ إذ حجهم الله بخلق السماوات والأرض ؛ فإن خلْقهما عظيم يدل على بالغ قدرة الله. أفلا يعلم هؤلاء المشركون الجاحدون أن الذي خلق ذلك لقادر على ما هو أدون وهو بعثهم من قبورهم من جديد.
قوله :( وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ) المراد بالأجل، الموت، أو يوم القيامة ؛ فهو آتيهم لا محالة ليلاقوا بعد ذلك سوء الحساب.
قوله :( فأبى الظالمون إلا كفورا ) أبى المشركون الخاسرون إلا الجحود بكل الدلائل والبينات والعبر.
قوله :( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق ) ( أنتم )، مرفوع بفعل مقدر يفسره ( تملكون ) والتقدير : لو تملكون. و ( خشية )، منصوب على أنه مفعول له١ والمراد بخزائن رحمة ربي، الأموال والأرزاق وسائر نعم الله ؛ أي قل لهؤلاء المشركين الجاحدين لو أنكم أيها الناس تملكون خزائن النعم والأرزاق ( إذا لأمسكتم خشية الإنفاق ) أي لبخلتم بهذه الأموال فلم تعطوا منها أحدا شيئا خشية الفقر والفاقة، أو لبخلتم خشية أن يفني الإنفاق أموالكم ؛ وذلك لفرط ما يركب طبع البشر من ذميمة الشح والإمساك، والضن بالبذل والسخاء. لذلك قال :( وكان الإنسان قتورا ) أي بخيلا. يقال قتر يقتر قترا وأقتر إقتارا وقتر، بالتشديد، تقتيرا. والمراد أن الإنسان بني على التقتير وهو الشح والإمساك خشية على المال أن يفنى٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٧..
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٢٦١ والكشاف جـ٢ ص ٤٦٧..
قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ( ١٠١ ) قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ( ١٠٢ ) فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا ( ١٠٣ ) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا لكم لفيفا ( ١٠٤ ) ﴾ أرسل الله رسوله موسى إلى فرعون ومثله بتسع آيات ؛ أي تسع دلائل أو حجج ظاهرة تشهد بصدقه وأنه مرسل من رب العالمين. والآيات التسع : هي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وهذه علامات تسع تحمل أولي الطبائع السوية والعقول السليمة على التصديق والاستيقان ( فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ) وهو سؤال استشهاد ؛ أي سلهم حين جاءهم موسى بالبينات ليظهر لهم أنك صادق فيما جئتهم به فيطمئنوا ويزدادوا يقينا. على أن نبي الله موسى قد أوتي آيات أخريات غير التسع، وذلك كضرب البحر بالعصا لينبجس منه الماء، وتظليل بني إسرائيل بالغمام، وإنزال المن والسلوى، ووقوف الماء كالطود العظيم من جانبي كل طريق مرّ به بنو إسرائيل في البحر. وغير ذلك من الآيات المعجزة. أما هذه الآيات التسع ؛ فهي التي شهدها فرعون وملؤه من أهل مصر.
قوله :( فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ) دعا موسى فرعون إلى توحيد الله، والكف عما أحاط به نفسه من الكبرياء والغرور وبالغ الكفران. وقد أراه الله جملة من آيات الله لعله يتذكر أو يخشى. لكن هذا الطاغوت قد كذّب وجحد واستكبر فقال قولته لنبي الله موسى ( وإني لأظنك يا موسى مسحورا ) أي ما جئتنا به فهو مما أصابك من السحر حتى صرت مسحورا فتخبط عقلك. وقيل : مسحورا ؛ أي ساحرا بعجيب ما جئتنا به.
قوله :( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) خاطب موسى فرعون له : لقد علمت يا فرعون أن هذه الآيات التسع التي احتججت بها لهي بصائر ؛ أي دلائل وبينات قد أوجدها الله ؛ فهي شاهدة لي على صدق رسالتي وصحة ما أقوله لكم.
وقد قرأ بعضهم ( علمتُ ) بضم التاء. والصحيح فتحها ؛ أي ان فرعون قد علم أن موسى مرسل من ربه وأن ما جاءهم به حق فهو موقن بذلك في قلبه تمام اليقين لكنه مكذب معاند في الظاهر، كقوله سبحانه :( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ).
قوله :( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) من الثبور وهو الهلاك والخسران١.
والمعنى : إنني متحقق من أنك يا فرعون هالك وأنك صائر إلى الخسران.
١ - مختار الصحاح ص ٨٢..
قوله :( فأراد أن يستفزهم من الأرض ) أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر، أو أن يقتلهم ظلما وعدوان. لكن الله انتقم منه أشد انتقاما فحال بينه وبين ما أراد، وهو قوله :( فأغرقناه ومن معه جميعا ) لقد سبق فرعون وجنوده إلى البحر ولما وجد فرعون فيه طريق يبسا أمرهم أن يلحقوا ببني إسرائيل، فلما دخلوا البحر أطبق عليهم إطباقا فكانوا من المغرقين، فأهلكهم الله بذلك وقطع دابرهم، وردّ مكرهم وكيدهم عن بني إسرائيل.
قوله :( وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ) المراد بالأرض هي مصر التي أراد فرعون أن يخرجهم منها قسرا وظلما، فأورثهم الله بلاد فرعون وما فيها من أموال وخيرات وكنوز وثمرات ( فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) اللفيف، ما اجتمع من الناس من قبائل شتى ( فإذا جاء وعد الآخرة ) أي القيامة جئنا بكم مجتمعين. مختلطين١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٦٧ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٦٣ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢١٣.
قوله تعالى :﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق زل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( ١٠٥ ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( ١٠٦ ) ﴾ أنزل الله قرآنه بكل معاني الحق، كالعدل والرحمة والصدق والتعاون والبر وكل وجوه الخير والمعروف، والنهي عن الشر والمنكر وكل ضروب الباطل ( وبالحق نزل ) وهذا تأكيد على إنزال القرآن بالحق.
قوله :( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) لقد أرسل الله رسوله للبشرية يدعوها للحق والصواب، وليبشر الذين يطيعونه ويتبعون النور الذي أنزل معه بخير الجزاء وحسن المصير. ولينذر الذين يعصون الله ويخالفون عن أمره بسوء المصير في الدنيا والآخرة.
قوله :( وقرآنا فرقناه ) ( قرآنا )، منصوب بفعل مقدر، يفسره ( فرقناه ) ١ و ( فرقناه )، بتخفيف الراء ؛ أي فصلناه وبيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقيل : بتشديد الراء، فيكون المعنى : أنزلنا شيئا بعد شيء وآية بعد آية، لا جملة واحدة ؛ أي أن الله أنزل القرآن آية آية وسورة سورة. قال ابن عباس : أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وقيل أكثر. ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفرقا منجما على الوقائع إلى رسول الله ( ص ) في ثلاث وعشرين سنة.
قوله :( لتقرأه على الناس على مكث ) أي على مَهَلٍ وترسّل وتؤدة. قوله :( ونزلناه تنزيلا ) أي أنزلناه مفرقا منجما.
١ - البيان لابن الأنبا ري جـ٢ ص ٩٧..
قوله تعالى :﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ( ١٠٧ ) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ( ١٠٨ ) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( ١٠٩ ) ﴾ يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) أن يقول لهؤلاء المشركين المكذبين على سبيل التقريع والتهديد : سواء آمنتم بالقرآن أم لم تؤمنوا ؛ فإن القرآن في ذاته حق لا شك فيه وقد ذكره الله في كتبه المنزلة على الأمم السابقة فقال :( إن الذين أوتوا العلم من قبله ) المراد بهم المؤمنون من أهل الكتاب ( إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ) إذا يتلى عليهم القرآن يقعون على أذقانهم ساجدين. والأذقان جمع ذقن. وذقن الإنسان مجمع لحييه. ١وقد ذكر الأذقان ؛ لأنها أول ما يحاذي الأرض عند السجود. والمعنى : أنهم يبادرون السقوط على وجوههم ساجدين
١ - مختار الصحاح ص ٢٢..
( ويقولون سبحان ربنا ) أي يعظمون الله في سجودهم وينزهونه عن كل عيب ونقيصه ( إن كان وعد ربنا لمفعولا ) ( إن )، المخففة من الثقيلة، وهي بمعنى إنه، وهي للتأكيد ؛ أي إنه كان وعد ربنا حقا ويقينا وذلك بإنزال القرآن وبعث محمد ( ص ).
قوله :﴿ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ﴾ إذا تلي القرآن على مؤمني أهل الكتاب ؛ فإنهم يستحوذ عليهم الاعتبار فيجهشون في البكاء من شدة التأثر ويزيدهم ما في القرآن من عظيم المواعظ والمعاني خشوعا.
قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( ١١٠ ) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ( ١١١ ) ﴾ ذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية ( قل ادعوا الله ) تهجد رسول الله ( ص ) ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده : يا رحمن، يا رحيم. فقال المشركون : كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعو إلهين اثنين : الله والرحمن. ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله تعالى هذه الآية١. وفيها بيان بأن الله والرحمن اسمان لمسمى واحد فلا فرق يبن دعائكم أيها الناس باسم الله أو باسم الرحمن ؛ فإن الله ذو الأسماء الحسنى، ومن جملتها الله والرحمن.
وذلك قوله :( أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) ( أيا )، منصوب بالفعل ( تدعو ). و ( مّا ) زائدة للتأكيد. و ( تدعوا )، مجزوم بأي الشرطية. والفاء في قوله فله، جواب الشرط٢.
قوله :( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ورسول الله ( ص ) متوار بمكة ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به. فقال الله تعالى لنبيه ( ص ) :( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن ( ولا تخافت بها ) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك.
وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : كان رسول الله ( ص ) إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه ؛ فكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله ( ص ) بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ؛ ذهب خشية أذاهم فلم يسمع، فإن خفض صوته ( ص ) لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا فأنزل الله ( ولا تجهر بصلاتك ) فيتفرقوا عنك ( ولا تخافت بها ) فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم ؛ فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به٣.
قوله :( وابتغ بين ذلك سبيلا ) أي ابتغ سبيلا وسطا بين الجهر والمخافتة. والمخافتة معناها السكون وخفض الصوت.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٠..
٢ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ٩٨..
٣ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٠ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٦٨، ٦٩..
قوله :( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ) يأمر الله نبيه ( ص ) أن يفيض لسانه على الدوام بهذه الكلمات العظيمات التي تتضمن كريم الدعاء والإنابة والإخبات لله رب العالمين. وهي قوله :( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ) الثناء والتمجيد لله الذي لم تكن له صاحبة ولم يتخذ ولدا ؛ لأنه منزه عن نقائض الآدميين وعيوبهم ؛ فالله سبحانه واحد لا شريك له ول ولد وليس له كفوا أحد.
قوله :( ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ) ليس لله في ملكه شريك، وإن من شيء إلا هو مملوك له سبحانه. وليس له من أحد ينصره أو يجيره من الذل ؛ بل الله الناصر العزيز المجير المتكبر.
قوله :( وكبره تكبيرا ) أي عظّمه أبغ تعظيم، وأجلّه أكمل إجلال، ونزّهه عما يفتريه الظالمون والمشركون١.
١ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٤٤، ٣٤٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٣١ والبيضاوي ص ٣٣٠..
Icon