تفسير سورة مريم

الدر المصون
تفسير سورة سورة مريم من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿ذِكْرُ﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍِ. أحدُها: أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر، تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم ذِكْرُ. الثاني: أنه خبرٌ محذوفٌ المبتدأ، تقديرُه: المَتْلُوُّ ذِكْرُ، أو هذا ذِكْرُ. الثالث: أنه خبرُ الحروفِ المتقطعةِ، وهو قولُ يحيى بن زياد. قال أبو البقاء: «وفيه بُعْدٌ؛ لأن الخبرَ هو المبتدأُ في المعنى، وليس في الحروفِ المقطَّعةِ ذِكْرُ الرحمةِ، ولا في ذكرِ الرحمة معناها».
والعامَّةُ على تسكينِ أواخرِ هذه الأحرفِ المقطَّعةِ، وكذلك كان بعضُ القُرِّاءِ يقفُ على كلِّ حرفٍ منها وَقْفَةً يسيرةً مبالغَةً في تمييزِ بعضِها مِنْ بعضٍ.
وقرأ الحسنُ «كافُ» بالضم، كأنه جَعَلها معربةً، ومَنَعها من الصَّرْف للعَلَميَّةِ والتأنيث. وللقُرَّاء خلافٌ في إمالة «يا» و «ها» وتفخيمِهما.
561
وبعضُهم يُعَبِّر عن التفخيم بالضمِّ، كما يُعَبِّر عن الإِمالةِ بالكسرِ، وإنما ذكَرْتُه لأنَّ عبارتَهم في ذلك مُوْهِمَةٌ.
وأظهر دالَ صاد قبل ذال «ذَكْرُ» نافعٌ وابنُ كثير وعاصم لأنه الأصل، وأدغمها فيها الباقون.
والمشهورُ إخفاءُ نونِ «عَيْن» قبل الصاد؛ لأنها تُقاربها، ويشتركان في الفم، وبعضُهم يُظْهِرُها لأنها حروف مقطعة يُقْصَدُ تمييزُ بعضِها [من بعض].
و «ذِكْرُ» مصدرٌ مضافٌ. قيل: إلى مفعولِه وهو الرحمةُ، والرحمةُ في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعلِه، و «عبدَه» مفعولٌ به. والناصبُ له نفسُ الرحمةِ، ويكونُ فاعلُ الذِّكْرِ غيرَ مذكورٍ لفظاً، والتقدير: أَنْ ذَكَرَ اللهُ رحمتَه عبدَه. وقيل: بل «ذِكْرُ» مضافٌ إلى فاعلِه على الاتِّساعِ ويكون «عبدَه» منصوباً بنفسِ الذِّكْر، والتقديرُ: أَنْ ذَكَرَتِ الرحمةُ عبدَه، فَجَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً له مجازاً.
و «زكريَّا» بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ، أو مصنوبٌ بإضمار «أَعْني».
وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريُّ عن الحسنِ - «ذَكَّرَ» فعلاً ماضياً مشدِّدا، و «رحمةَ» بالنصبِ على أنها مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَتْ على
562
الأولِ، وهو «عبدَه» والفاعلُ: إمَّا ضميرُ القرآنِ، أو ضميرُ الباري تعالى. والتقدير: أَنْ ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذَكَّر اللهُ - عَبْدَه رحمتَه، أي: جَعَلَ العبدَ يَذْكرُ رحمتَه. ويجوز على المجازِ المتقدِّمِ أن تكون «رحمةَ ربك» هو المفعولَ الأولَ، والمعنى: أنَّ اللهَ جَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً للعبدِ. وقيل: الأصلُ: ذكَّرَ برحمةٍ، فلمَّا انْتُزِعَ الجارُّ نُصِب مجرورُه، ولا حاجةَ إليه.
وقرأ الكلبيُّ «ذَكَرَ» بالتخفيفِ ماضياً، «رحمةَ» بالنصبِ على المفعول به، «عبدُه» بالرفع فاعلاً بالفعلِ قبلَه، «زكريَّا» بالرفعِ على البيانِ او البدلِ او على إضمارِ مبتدأ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى.
وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدانيُّ - «ذَكَّرْ» فعلَ أمرٍ، «رحمةَ» و «عبدةَ» بالنصب فيهما على أنهما مفعولان، وهما على ما تقدَّم مِنْ كونِ كلِّ واحدٍ يجوز أَنْ يكونَ المفعولَ الأولَ أو الثاني، بالتأويلِ المتقدِّم في جَعْلِ الرحمة ذاكرةً مجازاً.
563
قوله: ﴿إِذْ نادى﴾ : في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍٍ، أحدُها: أنَّه «ذِكْرُ» ولم يذكر الحوفيُّ غيرَه. والثاني: أنَّه «رحمة»، وقد ذكر الوجهين أبو البقاء. والثالث: أنَّه بدلٌ مِنْ «زكريَّا» بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الوقتَ مُشْتملٌ عليه وسيأتي مِثْلُ هذا عند قولِه ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ [مريم: ١٦] ونحوِه.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ﴾ : لا مَحَلَّ لهذهِ الجملةِ لأنها تفسيرٌ
563
لقولِه «نادى ربَّه» وبيانٌ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ بينهما لشدَّة الوَصْلِ.
قوله: «وَهَنَ» العامَّةُ على فتحِ الهاء. وقرأ الأعمشُ بكسرِها. وقُرِئ بضمِّها، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. ووَحَّد العظمَ لإِرادةِ الجنسِ، يعني أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عَمُوْدُ البدنِ، وأشدُّ ما فيه وأَصْلَبُه، قد أصابه الوَهْنُ، ولو جُمع لكان قصداً أخرَ: وهو أنه لم يَهِنْ منه بعضُ عظامه ولكن كلُّها، قاله الزمخشري: وقيل: أُطْلِقَ المفردُ، والمرادُ به الجمعُ كقولِه:
٣٢٠ - ٨- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
أي: جلودُها، ومثلُه:
٣٢٠ - ٩- كُلوا في بعضِ بطنِكُم تَعِفُّوا فإنَّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي: بطونكم.
و «مَنَّي» حالٌ من «العَظْمِ». وفيه رَدُّ على مَنْ يقول: إن الألفَ واللامَ تكونُ عِوَضاً من الضميرِ المضافِ إليه؛ لأنه قد جُمع بينهما هنا وإن كان الأصلُ: وَهَنَ عَظْمِي. ومثلُه في الدَّلالةِ على ذلك ما أنشدوه شاهداً على ما ذَكَرْتُ:
٣٢١ - ٠- رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفْيقَةٌ بجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
قوله: «شَيْباً» في نصبه ثلاثةُ اوجهٍ، احدُها: - وهو المشهورُ- أنه
564
تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصلُ: اشتعلَ شيبُ الرأسِ. قال الزمخشري: «شبَّه الشيبَ بشُواظِ في بياضِه وانتشارِه في الشعر وفُشُوِّه فيه، وأَخْذِه منه كلَّ مَأْخَذٍ باشتعال النار، ثم أخرجه مُخْرَجَ الاستعارةِ، ثم أَسْنَدَ الاشتعالَ إلى مكانِ الشِّعْر ومَنْبَتِه وهو الرأسُ، وأخرج الشَّيْبَ مميَِزاً، ولم يُضِفِ الرأسَ اكتفاءً بعِلْم المخاطب أنه رأسُ زكريا، فمِنْ ثَمَّ / فَصُحَتْ هذه الجملةُ وشُهِد لها بالبلاغةِ». انتهى. وهذا مِنْ استعارةِ محسوسٍ لمحسوسٍ، ووجهُ الجمع: الانبساطُ والانتشارُ.
والثاني: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ، فإنَّ معنى «اشتعلَ الرأسُ» شابَ.
الثالث: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، اي: شائباً أو ذا شيبٍ.
قوله: «بدُعائِك» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ المصدرَ مضافٌ لمفعولِه، أي: بدعائي إياك. والثاني: أنه مضافُ لفاعلِه، أي: لم أكنْ بدعائِك لي إلى الإِيمانِ شَقِيَّا.
565
قوله: ﴿خِفْتُ الموالي﴾ : العامَّةُ على «خَفْتُ» بكسر الحاء وسكونِ الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلم. و «المَوالي» مفعولٌ به بمعنى: أنَّ مَوالِيه كانوا شِرارَ بني إسرائيل، فخافَهم على الدِّين. قاله الزمخشري.
565
قال أبو البقاء: «لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: عَدَمَ المَوالي أو جَوْرَ المَوالي».
وقرأ الزُّهري كذلك، إلا أنه سَكَّن ياءَ «المَواليْ» وقد تَقَدَّم أنَّه قد تُقَدَّر الفتحةُ في الياء والواو، وعليه قراءةُ زيدِ بنِ عليّ ﴿تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩]. وتقدَّم إيضاحُ هذا.
وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن العاص ويحيى بن يعمر وعلي بن الحسين في آخرين: «خَفَّتِ» بفتحِ الخاءِ والفاءِ مشددةً وتاءِ تأنيثٍ، كُسِرَتْ لالتقاءِ السَّاكنين. و «المَوالِيْ» فاعلٌ به، بمعنى دَرَجُوا وانقرضُوا بالموت.
قوله: ﴿مِن وَرَآئِي﴾ هذا متعلِّقٌ في قراءةِ الجُمهورِ بما تضمنَّه المَوالي مِنْ معنى الفِعْلِ، أي: الذين يَلُوْن الأمرَ بعدي. ولا يتعلق ب «خَفْتُ» لفسادِ المعنى، وهذا على أَنْ يُرادَ ب «ورائي» معنى خلفي وبعدي. وأمَّا في قراءةِ «خَفَّتْ» بالتشديد فيتعلَّق الظرفُ بنفسِ الفعل، ويكونُ «ورائي» بمعنى قُدَّامي. والمرادُ: أنهم خفُّوا قدَّامَه ودَرَجُوا، ولم يَبْقَ منهم مَنْ به تَقَوٍّ واعْتِضادٌ. ذكر هذين المعنيين الزمخشري.
566
والمَوالي: بنو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشاعرِ لهم بذلك في قوله:
٣٢١ - ١- مَهْلاً بني عَمَّنا مَهْلاً مَواليَنا لا تَنْبُشوا بَيْنَنا ما كان مَدْفُوْنا
وقال آخر:
٣٢١ - ٢- ومَوْلَىً قد دَفَعْتُ الضَّيْمَ عنهُ وقد أمْسَى بمنزلةِ المَضِيْمِ
والجمهورُ على «ورائي» بالمدِّ. وقرأ ابنُ كثير - في روايةٍ عنه - «وَرايَ» بالقصر، ولا يَبْعُدُ ذلك عنه فإنه قَصَرَ «شُرَكاي» في النحل كما تقدَّم، وسيأتي أنَّه قَرَأ ﴿أَنْ رَاْه اسْتَغْنى﴾ في العَلَق، كأنه كان يُؤْثِرُ القَصْر على المدِّ لخفَّتِهن ولكنه عند البصريين لا يجوزُ سَعَةً.
و ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «هَبْ». ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «وَليَّاً» لأنه في الأصل صفةٌ للنكرةِ فقُدِّمَ عليها.
567
قوله: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ﴾ : قرأ أبو عمروٍ والكسائي بجزمِ الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر إذ تقديرُه: إن يَهَبْ يَرِثْ. والباقون برفِعهما على أنَّهما صفةٌ ل «وليَّاً».
567
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - وابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وقتادة في آخرين: «يَرِثُني» بياء الغيبة والرفع، وأَرثُ «مُسْنداً لضمير المتكلم. قال صاحب» اللوامح «: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقديرُ: يَرِثُ نبوَّتي إن مِتُّ قبلَه وأَرِثُه مالَه إنْ مات قبلي». ونُقِل هذا عن الحسن.
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والجحدري «يَرِثُني وارثٌ» جعلوه اسمَ فاعلٍ، أي: يَرِثُني به وارِثٌ، ويُسَمى هذا «التجريدَ» في علم البيان.
وقرأ مجاهد «أُوَيْرِثٌ» وهو تصغيرُ «وارِث»، والأصلُ وُوَيْرِث بواوين. وَجَبَ قَلْبُ أولاهما همزةً لاجتماعهما متحركتين أولَ كلمةٍ، ونحو «أُوُيْصِل» تصغيرَ «واصل». والواو الثانية بدلٌ عن ألفِ فاعِل. وأُوَيْرِث مصروفٌ. لا يُقال: ينبغي أن يكونَ غيرَ مصروفٍ لأنَّ فيه علتين الوصفيةَ ووزنَ الفعل، فإنه بزنة أُبَيْطِر مضارع بَيْطَر، وهذا مِمَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير. لا يُقال ذلك لأنه غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لأنَّ «أُوَيْرِثاً» وزنُه فُوَيْعِل لا أُفَيْعِل بخلافِ «أُحَيْمِر» تصعير «أَحْمَر».
568
وقرأ الزُّهْري «وارِث» بكسرِ الواو، ويَعْنون بها الإِمالةَ.
قوله: «رَضِيَّا» مفعولٌ ثانٍ، وهو فَعِيْل بمعنى فاعِل، وأصلُه رَضِيْوٌ لأنه مِنَ الرِّضْوان.
569
قوله: ﴿يحيى﴾ : فيه قولان: أحدُهما: أنه سامٌ أعجميٌّ لا اشتقاقَ له، وهذا هو الظاهرُ، ومَنْعُه من الصَّرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمة. وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ كما سَمَّوْا بيَعْمُرَ ويَعيشَ ويَموتَ، وهو يموتُ بنُ المُزَرَّع.
والجملةُ مِنْ قولِه: ﴿اسمه يحيى﴾ في محلِّ جَرٍّ صفةً ل «غُلام» وكذلك ﴿لَمْ نَجْعَل﴾. و «سَمِيَّا» كقوله: «رَضِيَّا» إعراباً وتصريفاً لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أنَّ الاسمَ من السُّمُوِّ، ولو كان من الوَسْم لقيل: وَسِيما.
قوله: ﴿عِتِيّاً﴾ : فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ، فعلى هذا ﴿مِنَ الكبر﴾ يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «بَلَغْتُ»، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِتِيَّا» لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك. الثاني: أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل، لأنَّ / بلوغَ
569
الكِبرَ في معناه. الثالث: أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل «بَلَغْتُ»، أي: عاتياً أو ذاعِتِيّ. الرابع: أنه تمييزٌ. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف «مِنْ» مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ: بزنة فُعُوْل، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو، أي: يَبِس وصَلُب. قال الزمخشري: «وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال: عَتا العُوْدُ وجَسا، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا» يريد بقوله: «أو بَلَغْتُ» أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو، أي: فَسَدَ.
والأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى. وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا، والجمعِ نحو: «عِصِيّ» إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه: «وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً» وقد يُعَلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ، وقد يُصَحَّحُ نحو: «إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة» وقالوا: فُتِيَ وفُتُوّ.
570
وقرا الأخَوان «عِتِيَّا» و «صِلِيَّا» و «بِكِيَّا» و «جِثِيَّا» بكسر الفاء للإِتباع، والباقون بالضمِّ على الأصل.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ «عَتِيَّا» و «صَلِيَّا» جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل.
وقرأ عبد الله ومجاهد «عُسِيَّا» بضم العين وكسر السينِ المهملة. وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها.
571
قوله: ﴿كذلك﴾ : في محلِّ هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه رفعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ كذلك، ويكون الوقف على: «كذلك» ثم يُبْتَدَأ بجملة أخرى. والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، فَقَدَّره أبو البقاء ب «أَفْعَلُ مثلَ ما طلبْتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبِه، فَجَعَلَ ناصبَه مقدَّراً، وظاهرُه أنَّه مفعولٌ به.
وقال الزمخشري:»
أو نصبٌ ب «قال» و «ذلك» إشارةٌ إلى مُبْهم
571
يُفَسِّره ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾، ونحوُه: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ [الحجر: ٦٦]. وقرأ الحسن ﴿وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ ولا يُخَرَّجُ هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يَهُون عليَّ. ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يُشارَ ب «ذلك» إلى ما تقدَّم من وَعْدِ الله، لا إلى قولِ زكريَّا. و «قال» محذوفٌ في كلتا القراءتين. - في كلتا القراءتين: يعني قراءةَ العامة وقراءةَ الحسنِ - أي: قال هو عليَّ هيِّن، قال: وهو عَلَيَّ هَيِّن، وإن شئتَ لم تَنْوِه، لأنَّ اللهَ هو المخاطَبَ، والمعنى أنه قال ذلك، ووَعْدُه وقولُه الحق «.
وفي هذا الكلامِ قَلَقٌ؛ وحاصلُه يَرْجع إلى أنَّ»
قال «الثانيةَ هي الناصبةُ للكاف. وقوله:» وقال محذوفٌ «يعني تفريغاً على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند» قال ربك «ويُبْتَدأ بقولِه: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾. وقوله:» وإنْ شِئْتَ لم تَنْوِه «أي: لم تَنْوِ القولَ المقدَّرَ، لأنَّ اللهَ هو المتكلَّمُ بذلك.
وظاهرُ كلامِ بعضهِم: أنَّ»
قال «الأولى مُسْنَدةٌ إلى ضميرِ المَلَكِ، وقد صَرَّح بذلك ابنُ جريرٍ، وتبعه ابن عطية. قال الطبري:» ومعنى قولِه «قال كذلك»، أي: الأمران اللذان ذكرْتَ مِنَ المرأةِ العاقرِ والكِبَرِ هو كذلك، ولكم قال ربُّكِ، والمعنى عندي: قال المَلَكُ: كذلك، أي: على هذه الحال، قال ربك: هو عليَّ هَيِّنٌ «انتهى.
وقرأ الحسن البصري»
عَلَيِّ «بكسر ياء المتكلم كقوله:
٣٢١ - ٣-
572
عَلَيَّ لعمروٍ نِعْمَةٌ بعد نِعْمةٍ لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقَارِبِ
أنشدوه بالكسر. وقد أَمْنَعْتُ الكلامَ في هذه المسألة في قراءةِ حمزةَ ﴿بِمُصْرِخِيِّ﴾.
قوله: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ﴾ هذه جملة مستأنفة. وقرأ الأخَوان» خَلَقْناك «أسنده إلى الواحدِ المعظِّمِ نفسَه. والباقون» خَلَقْتُكَ «بتاءِ المتكلم.
وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نَفْيِ كونِه شيئاً، أي: شيئاً يُعْتَدُّ به كقوله:
٣٢١ - ٤-............................ إذا رَأَى غيرَ شَيْءٍ ظَنَّه رَجُلاً
وقالوا: عَجِبْتُ مِنْ لا شيء. ويجوز أن يكونَ قال ذلك؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ.
573
قوله: ﴿سَوِيّاً﴾ : حالٌ مِنْ فاعل «تُكَلِّمَ». وعن ابن عباس: أنَّ «سَوِيَّاً» من صفةِ الليالي بمعنى كاملات، فيكونُ نصبُه على النعتِ للظرف. والجمهورُ على نصب ميم «تُكَلَّم» جعلوها الناصبةَ.
وابن أبي عبلة بالرفعِ، جَعَلها المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ شانٍ محذوف، و «لا» فاصلةٌ. وتقدَّم تحقيقُه.
قوله: ﴿أَن سَبِّحُواْ﴾ : يجوز في «أَنْ» أَنْ تكونَ مفسِّرةً لأَوْحى، وأَنْ تكونَ مصدريةًَ مفعولةً بالإِيحاء. و ﴿بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ ظرفا زمانٍ للتسبيح. وانصرفَتْ «بُكْرَة» لأنه لم يُقْصَد بها العَلَمِيَّةُ، فلو قُصِد بها العَلَميةُ امتنعت عن الصرف. وسواءً قُصد بها وقتٌ بعينه نحو: لأسيرنَّ الليلةَ إلى بكرةَ، أم لم يُقصد نحو: بكرةُ وقتٌ نشاط [لأنَّ عَلَمِيَّتها جنسيَّة كأُسامة]، ومثلُها في ذلك كله «غدوة».
وقرأ طلحة «سَبَّحوه» بهاءِ الكناية. وعنه أيضاً: «سَبِّحُنَّ» بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكَّداً بالثقيلة وهو كقولِه: ﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ [هود: ٨] وقد تقدَّم تصريفه.
قوله: ﴿بِقُوَّةٍ﴾ : حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوة. و «صَبِيَّا» حال من هاء «آتيناه».
﴿وَحَنَاناً﴾ : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به نَسَقاً على «الحُكْمَ»، أي: وآتيناهُ تَحَنُّناً. والحنانُ: الرحمةُ واللِّيْن، وأنشد أبو / عبيدة:
574
قال: «وأكثر استعمالِه مثنَّى كقولِهم: حَنَانَيْكَ، وقولِه:
٣٢١ - ٥- تحنَّنْ عليَّ هداك المليكُ فإنَّ لكلِّ مقامٍ مَقالا
٣٢١ - ٦-............................ حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ
وجوَّز فيه أبو البقاء أَنْ يكونَ مصدراً، كأنَّه يريد به المصدرَ الواقعَ في الدعاء نحو: سَقْياً ورَعْياً، فنصبُه بإضمارِ فِعْلٍ كأخواتِه. ويجوز أَنْ يرتفعَ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ نحو: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: ١٨] و ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الاعراف: ٤٦، الرعد: ٢٤، الزمر: ٧٣] في أحد الوجهين: وأنشد سيبويه:
٣٢١ - ٧- وقالَتْ حَنانٌ ما أَتَى بك هَهنا أذو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحَيِّ عارِفُ
وقيل لله تعالى: حَنان، كما يقال له»
رَحيم «قال الزمخشري:» وذلك على سبيل الاستعارة «.
و ﴿مِّن لَّدُنَّا﴾ صفةٌ له.
575
قوله: ﴿وَبَرّاً﴾ : يجوز أن يكون نَسَقاً على خبر «كان»، أي: كان تقيَّاً بَرَّاً. ويجوز أَنْ يكون منصوباً بفعلٍ مقدر، أي: وجَعَلْناه بَرَّاً. وقرأ الحسن «بِرَّاً» بكسر الباء في الموضعين. وتأويلُه واضح كقوله: {
575
ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: ١٧٧] وتقدَّم تأويلُه. و «بِوالِدَيْهِ» متعلِّقٌ ب «بَرَّاً».
و «عَصِيَّا» يجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعُولاً، والأصل: عَصُوْيٌ فَفُعِل فيه ما يُفْعَل في نظائره، وفَعُول للمبالغة كصَبُوْر. ويجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعِيلاً، وهو للمبالغة أيضاً.
576
قوله: ﴿إِذِ انتبذت﴾ : في «إذ» أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ ب «اذكُرْ» على أنها خَرَجَتْ عن الظرفية، إذ يستحيل أنْ تكونَ باقيةً على مُضِيِّها. والعاملُ فيها ما هو نَصٌّ في الاستقبال. الثاني: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم تقديره: واذكر خبرَ مريم، أو نَبَأَها، إذ انْتَبَذَتْ، ف «إذ» منصوبٌ بذلك الخبر أو النبأ. والثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف تقديره: وبَيَّنَ، أي: اللهُ تعالى، فهو كلامُ آخرُ. وهذا كما قال سيبويه في قوله: ﴿انتهوا خَيْراً لَّكُمْ﴾ [النساء: ١٧١] وهو في الظرف أقوى وإنْ كان مفعولاً به. والرابع: أن يكونَ منصوباً على الحال مِنْ ذلك المضافِ المقدَّر، أي: خبر مريم أو نبأ مريم. وفيه بُعْدٌ. قاله أبو البقاء. والخامس: أنه بدلٌ مِنْ «مريمَ» بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: «لأنَّ الأحيانَ مشتملةٌ على ما فيها، وفيه: أنَّ المقصودَ بِذِكْر مريم ذِكْرُ وقتها هذا لوقوع هذه القصةِ العجيبةِ فيه».
قال أبو البقاء: - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجهَ - «وهو
576
بعيدٌ؛ لأنَّ الزمانَ إذا لم يكنْ حالاً من الجثة ولا خبراً عنها ولا صفةً لها لم يكن بَدَلاً منها». وفيه نظرٌ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صحةِ ما ذَكَرَ عَدَمُ صحةِ البدلية، ألا ترى نحو: «سُلِبَ زيدٌ ثوبُه» ف «ثوبُه» لا يَصِحُّ جَعْلُه خبراً عن «زيد» ولا حالاً منه ولا وصفاً له، ومع ذلك فهو بدلٌ اشتمالٍ.
السادس: أنَّ «إذ» بمعنى «أَنْ» المصدرية كقولك: «لا أُكْرِمُك إذ لم تكرِمْني»، أي: لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يَحْسُن بدلُ الاشتمال، أي: واذكر مريمَ انتباذَها. ذكره أبو البقاء.
والانْتِباذُ: افتعالٌ من النَّبْذِ وهو الطَّرْحُ، وقد تقدَّم بيانُه.
577
والجمهورُ على ضَمِّ الراء مِنْ «رُوْحِنا» وهو ما يَحْيَوْن به. وقرأ أبو حيوة وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعباد كقوله: ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ [الواقعة: ٨٩]. وحكى النقاش أنه قد قُرِئ «رُوْحَنَّا» بتشديدِ النون، وقال: هو اسم مَلَكٍ من الملائكة.
قوله: ﴿بَشَراً سَوِيّاً﴾ حالٌ مِنْ فاعل «تَمَثَّلَ». وسَوَّغ وقوعَ الحالِ جامدة وَصْفُها، فلمَّا وُصِفَتِ النكرةُ وقعت حالاً.
وقوله :﴿ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾ [ مريم : ١٨ ] جوابُه محذوفٌ أو متقدم.
قوله: ﴿لأَهَبَ﴾ : قرأ نافع وأبو عمرو «لِيَهَبَ» بالياء
577
والباقون «لأَِهَبَ» بالهمزة. فالأُوْلَى: الظاهرُ فيها أنَّ الضميرَ للربِّ، أي: ليَهَبَ الرَّبُّ. وقيل: الأصلُ: لأَهَبَ بالهمز، وإنما قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ فتتَّفِقُ القراءتان وفيه بُعْدٌ. وأمَّا الثانيةُ فالضميرُ للمتكلم، والمرادُ به المَلَكُ وأسنده لنفسِه لأنه سببٌ فيه. ويجوز أَنْ يكونَ الضمير لله تعالى ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف. ويُقَوِّي الذي قبله أنَّ في بعض المصاحف: أَمَرَني أَنْ أَهَبَ لك.
وقوله: ﴿إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ١٨] جوابُه محذوفٌ أو متقدم.
578
قوله: ﴿بَغِيّاً﴾ : في وزنِه قولان، أحدُهما - وهو قولُ المبردِ - أنَّ وزنَه فُعول، والأصل بَغُوْيٌ فاجتمعت الياء والواو فَفُعِل فيه ما هو معروفٌ. قال أبو البقاء: «ولذلك لم تَلْحَقْ تاءُ التأنيث كما لم تَلْحَقْ في صبور وشكور». ونَقَل الزمخشري عن أبي الفتح أنها فَعِيْل، قال: «ولو كانَتْ فَعُولاً لقيل: بَغُوٌ، كما يقال: فلان نَهُوٌ عن المنكر» ولم يُعْقِبْه بنكير. ومَنْ قال: إنها فَعِيْل فهل هي بمعنى فاعِل او بمعنى مَفعول؟ فإنْ كانَتْ بمعنى فاعِل فينبغي أَنْ تكونَ بتاء التأنيث نحو: امراةٌ قديرةٌ وبَصيرة. وقد أُجيب عن ذلك: بأنها بمعنى النسب كحائِض وطالِق، أي ذات بَغْي. وقال أبو البقاء حين جَعَلَها بمعنى فاعِل: «ولم تَلْحَقِ التاءُ أيضاً لأنها للمبالغة» فجعل العلةَ
578
في عدم اللِّحاق كونَه للمبالغة. وليس بشيءٍ. وإن قيل بأنها بمعنى مَفْعول فَعَدَمُ الياءِ واضحٌ.
579
قوله: ﴿كذلك﴾ : تقدَّم نظيرُه.
قوله: «وَلِنَجْعَلَه» يجوز أن يكونَ علةً، ومُعَلَّلُه محذوفٌ تقديره: لنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك. ويجوز أَنْ يكونَ نَسَقاً على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لِنُبَيِّنَ به قُدْرَتَنا ولنجعَله آيةً. والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم «كان» مضمرٌ فيها، أي: وكان الغلامُ، أي: خَلْقُه وإيجادُه أمراً لا بُدَّ منه/.
قوله: ﴿فانتبذت بِهِ﴾ : الجارُّ والمجرورُ في محل نصب على الحال، أي: انتبذَتْ وهو مصاحبٌ لها، كقولِه:
قوله: ﴿فَأَجَآءَهَا﴾ : الأصلُ في «جاء» أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ كان القياسُ يقتضي تَعَدِّيَه لاثنين. قال الزمخشري: «إلا أنَّ استعمالَه قد تغيَّر بعد النقلِ إلى معنى الإِلْجاء، ألا تراكَ لا تقول: جِئْتُ المكانَ وأَجَاْءَنْيهِ زيدٌ، كما تقول: بَلَغْتُه وأَبْلَغَنِيْه، ونظيرُه» آتى «حيث لم يُستعمل إلا في الإِعطاء ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيه فلان». وقال أبو البقاء: الأصلُ «جاءها» ثم عُدِّيَ بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واسْتُعمل بمعنى أَلْجَأَها «.
579
قال الشيخ:» قوله وقولُ [غيرِه] : إنَّ «أجاءها» بمعنى أَلْجَأَها يحتاج إلى نَقْلِ أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك مِنْ لسانِ العرب. والإِجاءةُ تدلُّ على المُطلق، فَتَصْلُح لِما هو بمعنى الإِلجاءِ ولِما هو بمعنى الاختيار، كما تقول: «أَقَمْتُ زيداً» فإنه يَصْلُحُ أَنْ تكونَ إقامتُك له قَسْراً أو اختياراً. وأمَّا قوله: «ألا ترك لا تقول» إلى آخره فَمَنْ رَأَى أنَّ التعديةَ بالهمزة قياسٌ أجاز ذلك وإنْ لم يُسْمَعْ، ومَنْ منع فقد سُمِع ذلك في «جاء» فيُجيز ذلك. وأمَّا تنظيرُه ذلك ب «آتى» فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناه على أنَّ همزتَه للتعديةِ، وأنَّ أصلَه «أتى»، بل «آتى» ممَّا بُني على أَفْعَل، ولو كان منقولاً مِنْ «آتى» المتعدِّي لواحد لكان ذلك الواحدُ هو المفعولَ الثاني، والفاعلُ هو الأولُ، إذا عَدَّيْتَه بالهمزةِ تقولُ: «أتى المالُ زيداً» و «آتى عمروٌ زيداً المالَ» فيختلف التركيب بالتعدية لأنَّ «زيداً» عند النحويين هو المفعولُ الأول، و «المالُ» هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس، فَدَلَّ على أنَّه ليس على ما قاله، وأيضاً فآتى مُرادِفٌ لأَعْطَى، فهو مخالِفٌ من حيث الدَّلالةُ في المعنى. وقوله: «ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيْه» هذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تقول: «أتيتُ المكانَ» كما تقول: «جئت المكان». وقال الشاعر:
٣٢١ - ٩-
580
أَتَوْا ناري فقلتُ مَنُوَّنَ أنتُمْ... فقالوا: الجنُّ قلتُ عِمُوا ظَلاما
ومَنْ رأى التعديةَ بالهمزةِ قياساً، قال: «آتانيه» وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ معه ظاهرُه الأجوبة، فلا نُطَوِّلُ بذِكْرِها.
وقرأ الجمهورُ «فَأَجَاْءَها»، أي: أَلْجأها وساقَها، ومنه قولُه:
٣٢١ - ٨-........................ تَدْوْسُ بنا الجَماجِمَ والتَّرِيْبا
٣٢٢ - ٠- وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليكم أَجَاْءَتْهُ المَخافةُ والرَّجاءُ
وقرأ حَمَّاد بن سَلَمة «فاجَأَها» بألفٍ بعد الفاء وهمزةٍ بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة قابَلَها. ويقرأ بألفين صريحتين كأنهم خفَّفوا الهمزةَ بعد الجيمِ، وكذلك رُوِيَت بينَ بينَ.
والجمهور على فتحِ الميم من «المَخاض» وهو وَجَعُ الوِلادةِ.
ورُوي عن ابن كثير بكسرِ الميمِ، فقيل: هما بمعنى. وقيل: المفتوح اسمُ مصدرٍ كالعَطاء والسَّلام، والمكسورُ مصدرٌ كالقتال واللِّقاء، والفِعال قد جاء مِنْ واحد كالعِقاب والطَّراق. قاله أبو البقاء. والميمُ أصليةٌ لأنه مِنْ تَمَخَّضَتِ الحامِلُ تتمخَّضُ.
و ﴿إلى جِذْعِ﴾ يتعلقُ في قراءة العامَّة ب «أَجاءها»، أي: ساقَها إليه.
581
وفي قراءةِ حَمَّاد بمحذوفٍ لأنه حالٌ من المفعولِ، أي: فاجَأَها مستندةً إلى جِذْعِ النخلةِ.
قوله: «نَسْيَاً» الجمهورُ على كسرِ النون وسكون السين وبصريح الياء بعدها. وقرأ حمزةُ وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسورُ فِعْلُ بمعنى مَفْعول كالذَّبْح والطَّحْن، ومعناه الشيءُ الحقيرُ الذي مِنْ شأنه أن يُنْسَى كالوَتِدِ والحَبْلِ وخِرْقةِ الطَّمْثِ ونحوِها.
قال ابن الأنباري: «مَنْ كسر فهو اسمٌ لما يُنْسَى كالنَّقْصُ اسمٌ لما يَنْقص، والمفتوحُ مصدرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الوصفِ». وقال الفراء: «هما لغتان كالوَتْر والوِتْر، الكسرُ أحَبُّ إليَّ».
وقرأ محمدُ بن كعب القَرَظيُّ «نِسْئاً» بكسر النون، والهمزةُ بدلُ الياء. ورُوي عنه أيضاً وعن بكر بن حبيب السَّهْمي فتحٌ مع الهمز. قالوا: وهو مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إذا صَبَبْتَ فيه ماءً فاستُهْلِك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيءُ المُسْتَهْلَكُ، والمفتوحُ مصدر كما كان ذلك من النِّسْيان
ونَقَل ابن عطية عن بكر بن حبيب «نَسَا» بفتح النون والسين والقصرِ كعَصَا، كأنه جَعَل فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبَض بمعنى المَقْبُوض.
و «مَنْسِيَّاً» نعتٌ على البمالغةِ، وأصلُه مَنْسُوْي فَأُدْغم. وقرأ أبو جعفر
582
والأعمش «مِنْسِيَّاً» بكسر الميم للإِتباع لكسرةِ السين، ولم يَعْتَدُّوا بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ كقولهم: «مِنْتِن» و «مِنْخِر».
583
قوله: ﴿مِن تَحْتِهَآ﴾ : قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم «مِنْ»، وجَرَّ «تحتِها» على الجار والمجرور. والباقون بفتحها ونصب «تحتَها». فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في «نادَى» مضمراً وفيه تأويلان، أحدهما: هو جبريل ومعنى كونِه ﴿مِن تَحْتِهَآ﴾ أنه في مكانٍ أسفلَ منها. ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس «فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها: فَصَرَّح به. و ﴿مِن تَحْتِهَآ﴾ على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالنداء، أي: جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ. والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها وهو تحتَها.
وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، لأي: فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها. والجارُّ فيه الوجهان: مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ. والثاني أوضح.
والقراءةُ الثانية: تكون فيها»
مَنْ «موصولةً، والظرفُ صلتُها، والمرادُ بالموصولِ: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
قوله: ﴿أَلاَّ تَحْزَنِي﴾ يجوزُ في»
أَنْ «أَنْ تكونَ مفسرةً لتقدُّمِها ما هو بمعنى
583
القول، و» لا «على هذا ناهيةٌ، وحَذْفُ النونِ للجزم؛ وأَنْ تكونَ الناصبةَ و» لا «حينئذٍ نافيةٌ، وحَذْفُ النونِ للنصبِ. ومَحَلُّ» أنْ «: إمَّا نصب أو جرٌّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجر، أي: فناداها بكذا. والضمير في» تحتها «: إمَّا لمريمَ عليها السلام، وإمَّا للنخلةِ، والأولُ أَوْلَى لتوافُقِ الضميرين.
قوله:»
سَرِيَّا «يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً أولَ، و» تحتك «مفعولٌ ثان لأنها بمعنى صَيَّر. ويجوز أن تكون بمعنى خَلَق، فتكون» تحتك «لغواً.
والسَّرِيُّ فيه قولان، أحدهما: أنه الرجلُ المرتفعُ القَدْرِ، مِنْ سَرُوَ يَسْرُو كشَرُف يَشْرُف، فهو سَرِيٌّ. وأصله سَرِيْوٌ، فأُعِلَّ إعلالَ سَيِّد، فلامُه واوٌ. والمرادُ به في الآية عيسى بن مريم عليه السلام، ويُجْمع»
سَرِيُّ «على» سَراة «بفتح السين، وسُرَواء كظُرَفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جَمْعِه» أَسْرِياء «، كغنِيِّ وأَغْنِياء. وقيل: السَّرِيُّ: مِنْ سَرَوْتُ الثوبَ، أي: نَزَعْتُه، وسَرَوْتُ الجُلَّ عن الفَرَس، أي: نَزَعْتُه. كأنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثوبَه، بخلاف المُدَّثِّر والمُتَزَمِّل. قاله الراغب.
والثاني: أنه النهرُ الصغير، ويناسِبُه»
فكُلي واشربي «واشتقاقه مِنْ سَرَى يَسْرِي، لأن الماءَ يَسْري فيه، فلامُه على هذا ياء، وأنشدوا للبيد:
٣٢٢ - ١-
584
585
قوله: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ﴾ : يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في «بِجَذْعِ» زائدةً كهي في قولِه تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] [وقولِه:]
فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا مَسْجورةً مُتَجاوِزاً قُلاَّمُها
٣٢٢ - ٢-........................ ........... لا يَقْرَأْن بالسُّوَر
وأنشد الطبري:
٣٢٢ - ٣- بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ
أي: هُزِّي جِذْعَ النخلةِ. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه: وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة. ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع. وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه:
٣٢٢ - ٤-....................... ... يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي
قال الشيخ:»
وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى: {واضمم إِلَيْكَ
585
جَنَاحَكَ} [القصص: ٣٢] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ، لا يُقالُ: ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني، أي: ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هَزَّ إليه، ولذلك جَعَلَ النحويون «عن» و «على» اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس:
٣٢٢ - ٥- دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ
وقول الآخر:
٣٢٢ - ٦- هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها
وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله:
٣٢٢ - ٧- غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ
وقولِ الآخر:
٣٢٢ - ٨-
586
فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وإمَّا «إلى» فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك «عَنْ» و «على». ثم أجاب: بأنَّ «إليك» في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه: أَعْني إليك «. قال:» كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه: ﴿لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] في أحد الأوجه «.
قلت: وفي ذلك جوابان آخران، أحدهما: أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو:»
دَعْ عنك «» وهَوِّنْ عليك «وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ. والثاني: أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره: هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك.
قوله:»
تُساقِطْ «قرأ حمزة» تَسَاقَطْ «بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف. والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف.
فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص»
تَتَساقط «بتاءين، مضارعَ» تساقَطَ «فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو:» تَنَزَّلٌ «و» تَذَكَّرون «، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن.
وقراءةُ حفص مضارع «ساقَطَ»
.
587
وقرأ الأعمش والبراء بن عازب «يَسَّاقَطْ» كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ، أدغم التاء في السين، إذ الأصلُ: يتساقط فهو مضارع «اسَّاقط» وأصلُه يَتَساقط، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك «ادَّارَأ» في تَدَارَأَ.
ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ: / وافقه مسروقٌ في الأولى، وهي «تُسْقِط» بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط. والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت. الثالثة كذلك إلا أنه رفع «رُطَباً جَنِيَّاً» بالفاعلية.
وقُرِئَ «تَتَساقط» بتاءين مِنْ فوقُ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة. وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف. فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة. ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ: إمَّا للنخلة، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق، وإمَّا للجِذْع. وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث، فهو كقوله:
٣٢٢ - ٩-............................ كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم
وكقراءة «تَلْتَقِطْه بعض السيارة». ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل: للثمر المدلولِ عليه بالسياق.
وأمَّا نَصْبُ «رُطَباً» فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء
588
إلى ما يليق به من القراءات. وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً: وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب «هُزِّيْ» وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
وقرأ طلحة بن سليمان «جَنِيَّاً» بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون.
والرُّطَبُ: اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ «تُخَم» فإنَّع لتُخَمة، والفرق: أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا: هو الرُّطَبُ، وتأنيثَ ذاك فقالوا: هي التُّخَم، فذكَّروا «الرطب» باعتبار الجنس، وأنَّثوا «التُّخَم» باعتبار الجمعية، وهو فرقٌ لطيفٌ. ويُجْمَعُ على «أَرْطاب» شذوذاً كرُبَع وأَرْباع. والرُّطَب: ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ. وأَرْطَبَ النخلُ نحو: أَتْمَرَ وأَجْنَى.
والجَنِيُّ: ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء. وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل: بمعنى فاعِل: أي: طَرِيَّاً، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً: المُجَتَنَى من العَسَلِ، وأَجْنَى الشجرُ: أَدْرَك ثَمَرُه، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها. واسْتُعير من ذلك «جَنَى فلانٌ جنايةً» كما استعير «اجْتَرَم جريمةً».
589
قوله: ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ :«عَيْناً» نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ «قَرِّيْ» أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع.
وقُرِئ بكسرِ القاف، وهي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح
589
العين في الماضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣].
وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ «القُرّ» وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه: «أَسْخَنَ اللهُ عينَه»، وفي الدعاء له: «أقرَّ اللهُ عينَه. وما أَحْلى قولَ أبي تمام:
٣٢٣ - ٠- فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره.
قوله: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ﴾ دخلت»
إنْ «الشرطية على» ما «الزائدة للتوكيد، فَأُدْغِمت فيها، وكُتِبَتْ متصلةً. و» تَرَيْنَ «تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية» تَرَئِنَّ «بهمزة مكسورةٍ بدلَ
590
الياء، وكذلك رُوي عنه» لَتَرَؤُنَّ «بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري:» هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ «- يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين». وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: «هو لحنٌ عند أكثر النحويين».
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة «تَرَيْنَ» بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: «وهي شاذَّةٌ». قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه:
٣٢٣ - ١- إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً. وهذا نظيرُ قولِ الآخر:
٣٢٣ - ٢- لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ
فلم يُعْمِلْ «لم»، وأبقى نونَ الرفعِ.
و «من البشر» حالٌ من «أحداً» لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً. وقال أبو البقاء: «أو مفعول» يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله.
قوله: فَقُولِيْ «بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا
591
تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ / كلامٌ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله» فقُولي «إلى آخره، أنه بالإِشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ.
وقرأ زيد بن علي»
صِياماً «بدل» صوم «، وهما مصدران.
592
قوله: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ :«به» في محلَِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل «أَتَتْ»، أي: أتَتْ مصاحِبَةً له نحو: جاء بثيابِه، أي: ملتبساً بها. ويجوز أَنْ تكونَ الباءُ متعلِّقةً بالإِتيان. وأمَّا تَحَمُّلُه فيجوز أن يكونَ حالاً ثانية مِنْ فاعل «أَتَتْ». ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الهاء في «به». وظاهرُ كلام أبي البقاء أنها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً وفيه نظرٌ.
قوله: «شيئاً» مفعولٌ به، أي: فَعَلْتِ. أو مصدرٌ، أي: نوعاً من المجيء فَرِيَّاً. والفَرِيُّ: العظيم من الأمر، يقالُ في الخير والشرِّ. وقيل: الفَرِيُّ: العجيب. وقيل المُفْتَعَلُ. ومن الأول: الحديثُ في وصفِ عمرَ رضي الله عنه: فلم أرَ عبقَرِيَّاً يَفْرِيْ فَرْيَّة «. والفَرْيُ: قَطْعُ الجِلْدِ للخَرْزِ والإِصلاح. والإِفراء: إفسادُه. وفي المثل: جاء يَفْري الفَرِيَّ، أي: يعمل
592
العملَ العظيم. وقال:
٣٢٣ - ٣- فَلأَنْتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْ ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
وقرأ أبو حيوة فيما نَقَل عنه ابن خالويه» فَرِيْئاً «بالهمز. وفيما نقل ابن عطية» فَرْياً «بسكون الراء.
593
وقرأ عُمَرُ بن لجأ ﴿مَا كَانَ أَباكِ امرؤ سَوْءٍ﴾ جَعَلَ النكرةَ الاسمَ، والمعرفةَ الخبرَ، كقوله:
٣٢٣ - ٤-........................ يكونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ
[وكقوله:]
٣٢٣٥ -................... ولا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاْعا
وهنا أحسنُ بوجودِ الإِضافةِ في الاسم.
قوله تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ﴾ : الإِشارةُ معروفةٌ تكونُ باليد والعين وغير ذلك وألفُها عن ياءٍ. وأنشدوا لكثيِّر:
٣٢٣ - ٠-
593
فقلتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ألا حَبَّذا يا عَزُّ ذاك التَّشايُرُ
قوله: ﴿مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ في «كان» هذه أقوالٌ. أحدُها: أنها زائدةٌ وهو قولُ أبي عبيد، أي: كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهد. و «صَبِيَّا» على هذا نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلةً. وقد رَدَّ أبو بكرٍ هذا القولَ - أعني كونَها زائدةً - بأنها لو كانَتْ زائدةً لَما نَصَبَتِ الخبرَ، وهذه قد نصَبتْ «صَبيَّا». وهذا الردُّ مردودٌ بما ذكرتُه مِنْ نصبِه على الحال لا الخبرِ.
الثاني: أنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد. والتقدير: كيف نكلِّم مَنْ وُجْد صبيَّا، و «صَبِيَّاً» حال من الضمير في «كان».
الثالث: أنها بمعنى صار، أي: كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا، و «صَبِيَّا» على هذا خبرُها، فهو كقوله:
٣٢٣ - ٧-.......................... قَطا الحَزْن قد كانَتْ فِراخاً بُيُوضُها
الرابع: أنها الناقصةُ على بابها مِنْ دلالتِها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للانقطاع كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦]، ولذلك يُعَبِّر عنها بأنها ترادِف «لم تَزَلْ». قال الزمخشري: «كان» لإِيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماضٍ مبهمٍ صالحٍ للقريبِ والبعيد.
594
وهو هنا لقريبِه خاصةً، والدالُّ عليه معنى الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجب. ووجه آخر: وهو أَنْ يكونَ «نُكَلِّمُ» حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي: كيف عُهِد قبل عيسى أَنْ يُكَلِّمَ الناسَ صبيَّا في المهد حتى نُكَلِّمَه نحن «؟
وأمَّا»
مَنْ «فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفة، أي: كيف نُكَلِّم شخصاً أو مولوداً. وجَوَّز الفراء والزجاج فيها أَنْ تكون شرطيةً. و» كان «بمعنى» يكنْ «، وجوابُ الشرطِ: إمَّا متقدِّمٌ وهو» كيف نُكَلِّم «، أو محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، اي: مَنْ يكنْ في المهدِ صبياً فكيف نُكَلِّمه؟ فهي على هذا مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله منصوبتُه ب» نكلِّم «. وإذا قيل بأنَّ» كان «زائدةٌ. هل تتحمَّل ضميراً أم لا؟ فيه خلاف، ومَنْ جَوَّز استدلَّ بقوله:
٣٢٣ - ٨- فكيف إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فرفع بها الواوَ. ومَنْ منع تأوَّل البيتَ بأنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرَها هو»
لنا «قُدِّم عليها، وفُصِل بالجملة بين الصفة والموصوف.
وأبو عمروٍ يُدغم الدالَ في الصاد. والأكثرون على أنه إخفاءٌ.
595
قوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ : هذه شرطيةٌ. وجوابُها: إمَّا محذوفٌ مَدْلولٌ عليه بما تقدَّمَ، أي: أينما كنتُ جَعَلني مباركاً، وإمَّا متقدِّمٌ
595
عند مَنْ يرى ذلك. ولا جائزٌ أن تكونَ استفهاميةً؛ لأنه يلزمُ أَنْ يعملَ فيها ما قبلها، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ، فيتعيَّنُ أن تكونَ شرطيةً لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين.
قوله: «ما دُمْتُ» «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ وتقدُّمُ [ما] على «دام» شرطٌ في إعمالها. والتقدير: مدةَ دوامي حياً. ونقل ابن عطية عن عاصمٍ وجماعة أنهم قرؤوا «دُمْتُ» بضم الدال، وعن ابن كثير وأبي عمرو وأهلِ المدينة «دِمت» بكسرها، وهذا لم نَرَه لغيره وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذة التي بين أيدينا، فيجوز أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصحفٍ غريب. ولا شك أنَّ في «دام» لغتين، يقال: دُمْتَ تَدُوْم، وهي اللغةُ العالية، ودِمْتَ تَدام كخِفْتَ تَخاف، وهذا كما تقدم لك/ في مات يموت وماتَ يَمات.
596
قوله تعالى: ﴿وَبَرّاً﴾ : العامَّةُ بفتحِ الباء، وفيه تأويلان، أحدُهما: أنه منصوبٌ نَسَقاً على «مباركاً»، أي: وجَعَلَنِي بَرَّاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. واخْتِير هذا على الأولِ لأنَّ فيه فَصْلاً كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلِّقِها.
وقُرئ «بِرَّاً» بكسرِ الباءِ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، وإمَّا على المبالغة في جَعْلِه نفسَ المصدر. وقد تقدَّم في البقرة أنه يجوز أن يكونَ وصفاً على
596
فِعْل. وحكى الزهراويُّ وأبو البقاء أنه قُرئ بكسر الباء والراء. وتوجيهُه: أنه نَسَقٌ على «الصلاة»، أي: وأوصاني بالصلاةِ وبالزكاةِ وبالبِرِّ. و «بوالَديَّ» متعلقٌ بالبَرّ أو البِرّ.
597
قوله: ﴿والسلام﴾ : الألفُ واللامُ فيه للعهدِ؛ لأنه قد تقدَّمَ لفظُه في قولِه: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ﴾ [مريم: ١٥]، فهو كقولِه ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٥١٦]، أي: ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوَجَّهٌ إليَّ. وقال الزمخشري- بعد ذِكْرِه ما قدَّمْتُه -: «والصحيحُ أن يكونَ هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متهمي مريمَ عليها السَّلامِ وأعدائِها من اليهود. وتحقيقُه: أنَّ اللامَ للجنسِ، فإذا قال وجنسُ السَّلامِ عليَّ خاصة فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم. وتنظيرُه: ﴿والسلام على مَنِ اتبع الهدى﴾ [طه: ٤٧].
قوله: ﴿يَوْمَ وُلِدْتُّ﴾ منصوبٌ بما تضمنَّه»
عليَّ «من الاستقرار. ولا يجوزُ نَصْبُه ب» السَّلام «للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه. وقرأ زيد بن على» وَلَدَتْ «جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ مريمَ، والتاءُ للتأنيث. و» حَيَّاً «حالٌ مؤكِّدَةٌ.
قوله تعالى: ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق﴾ : يجوز أَنْ
597
يكونَ «عيسى» خبراً ل «ذلك»، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ. و «قولُ الحق» خبره. ويجوز أَنْ يكونَ «قولُ الحق» خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو قولُ: و «ابن مريم» يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً.
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر «قولَ الحق» بالنصبِ والباقون بالرفع. فالرفعُ على ما تقدَّم. قال الزمخشري: «وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ، أو بدلٌ» قال الشيخ: «وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ: وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ».
والنصب: يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك: «هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ، أي: أقولُ قولَ الحق، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه، أي: القول الحق، كقولِه: ﴿وَعْدَ الصدق﴾ [الاحقاف: ١٦]، أي: الوعدَ الصدقَ. ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح، أي: أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى، و» الذي «نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ. وقيل: هو منصوبٌ بإضمار أعني. وقيل: هو منصوبٌ على الحالِ من» عيسى «. ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى.
وقرأ الأعمشُ»
قالُ «برفع اللام، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً. وقرأ
598
الحسن» قُوْلُ «بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر لقال. يقال: قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب. وقال أبو البقاء:» والقال: اسمٌ [للمصدرِ] مثل: القيل، وحُكي «قُولُ الحق» بضمِّ القاف مثل «الرُّوْح» وهي لغةٌ فيه «. قلت: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب.
وقرأ طلحةُ والأعمش»
قالَ الحقُّ «جعل» قال «فعلاً ماضياً، و» الحقُّ «فاعلٌ به، والمرادُ به الباري تعالى. أي: قال اللهُ الحقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قولُه ﴿الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ خبراً لمبتدأ محذوف.
وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما»
تَمْتَرون «بتاء الخطاب. والباقون بياءِ الغَيْبة. وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون: إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ.
599
وتقدَّم الكلامُ على نصبِ «فيكونَ» وما قيل فيه.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الله﴾ : قرأ ابن عامرٍ والكوفيون «وإنَّ» بكسر «إنَّ» على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ ﴿إِنَّ الله﴾ بالكسر دون واو.
599
وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده، والتقدير: ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه، كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾ [الجن: ١٨] والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه. وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه.
الثاني: أنها عطفٌ على «الصلاةِ» والتقدير: وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ. وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه. ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ «وبأنَّ اللهَ ربي» بإظهار الباءِ الجارَّة. وقد استُبْعِد هذا القولُ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفَيْن. وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أَُبَيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام.
الثالث: أَنْ تكونَ «أنَّ» وما بعدها نَسَقاً على «أمراً» المنصوبِ ب «قَضَى» والتقدير: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْم والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على «أمراً» لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ ب «إذا»، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ، بل هو ربُّنا على
600
الإِطلاق. ونسبوا هذا الوهمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها.
الرابع: أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم. ذُكِر ذلك عن الكسائي، ولا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ.
الخامس: أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على «الكتاب» في قولِه «قال: إني عبد الله آتاني الكتابَ» على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام، والقائلُ لهم ذلك عيسى. وعن وَهْب: عَهِدَ إليهم عيسى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. قال هذا القائل: ومَنْ كسرَ الهمزةَ يكون قد عَطَفَ ﴿إِنَّ الله﴾ على قوله «إني عبدُ الله» فهو داخِلٌ في حَيِّز القولِ. وتكون الجملُ من قوله ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ إلى آخرها جملَ اعتراض، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ.
601
قوله تعالى: ﴿مِن مَّشْهِدِ﴾ :«مَشْهد» مَفْعَل: إمَّا من الشهادة، وإمَّا من الشهود وهو الحضورُ. و «مَشْهد: هنا يجوز أن يُراد به الزمانُ أو المكان أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمراد به الزمان، فتقديره: مِنْ وقتِ شهادة. وإن أريد به المكانُ فتقديره: من مكانِ شهادة يوم. وأنْ أريد به المصدرُ فتقديرُه: من شهادةِ ذلك اليومَ، وأَنْ تشهدَ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم والملائكةُ والأنبياءُ. وإذا كان من الشهود وهو الحضورُ فتقديرُه: مِنْ شهود الحساب والجزاء يوم القيامة، أو من مكانِ الشهود فيه وهو الموقفُ
601
أو من وقتِ الشهود؟ وإذا كان مصدراً بحالتيه المتقدمتين فتكون إضافتُه إلى الظرف من بابِ الاتساعِ، كقوله ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤]. ويجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه على أن يُجْعَلَ اليومُ شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة وإمَّا مجازاً.
602
قوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ : هذا لفظُه أمرٌ ومعناه التعجبُ، وأصَحُّ الأعاريبِ فيه كما تقرَّر في علم النحو: أنَّ فاعلَه هو المجرورِ بالباءِ، والباءُ زائدةٌ، وزيادتُها لازمةٌ إصلاحاً للَّفظِ، لأنَّ أَفْعِلْ أمراً لا يكون فاعلُه إلا ضميراً مستتراً، ولا يجوزُ حَذْفُ هذه الباءِ إلا مع أَنْ وأنَّ كقوله:
٣٢٣ - ٩- تَرَدَّدَ فيعا ضَوْءَها وشُعاعُها فَاَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامرِئٍ أن تَسَرْبَلا
أي: بأَنْ تَسَرْبَلَ، فالمجرور مرفوعُ المحلِّ، ولا ضميرِ في أَفْعَلِ. ولنا قولُ ثانٍ: إن الفاعلَ مضمرٌ، والمرادُ به المتكلمُ كأنَّ المتكلمَ يأمر نفسَه بذلك والمجرورُ بعده في محلِّ نصب، ويُعزَى هذا للزجاج.
602
ولنا قول ثالث: أن الفاعلَ ضميرُ المصدرِ، والمجرورَ منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقديرُ: أحسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ. ولشَبَهِ هذه الفاعلِ عند الجمهور بالفَضْلَة لفظاً جاز حَذْفُه للدلالةِ عليه كهذه الآيةِ فإنَّ تقديرَه: وأَبْصِرْ بهم. وفيه أبحاثٌ موضوعُها كتبُ النحو.
وقوله ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ معمولٌ ل «أَبْصِرْ». ولا يجوز أن يكونَ معمولاً ل «أَسْمِعْ» لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه، ولذلك كان الصحيحُ أنه لا يجوزُ أن تكونَ المسألة من التنازع. وقد جَوَّزه بعضُهم ملتزِماً إعمالَ الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإِعمال. وقيل بل هو أمرٌ حقيقةً، والمأمورُ به رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى: أَسْمِعِ الناسَ وأَبْصِرْهم بهم وبحديثهم: ماذا يُصنع بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
وقوله «اليوم» منصوبٌ بما تضمنَّه الجارُّ مِنْ قولِه «في ضلال مبين»، أي: لكن الظالمون استقروا في ضلال مبين اليوم. ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يُخْبَر عن الجثةِ بالزمان بخلافِ قولك: القتال اليوم في دارِ زيدٍ، فإنه يجوز الاعتباران.
603
قوله تعالى: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ : يجوز أن يكونَ منصوباً بالحَسْرَةِ، والمصدرُ المعرَّفُ بأل يعملُ في المفعولِ الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف؟ ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «يوم» فيكون معمولاً ل «أَنْذر» كذا قال أبو البقاء والزمخشري وتبعهما الشيخُ، ولم يَذْكر غيرَ البدل.
603
وهذا لا يجوزُ أن كان الظرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أَنْ يعملَ المستقبل في الماضي، فإن جَعَلْتَ «اليوم» مفعولاً به، أي: خَوِّفْهم نفسَ اليومِ، أي: إنهم يخافون اليومَ نفسَه، صَحَّ ذلك لخروجِ الظرفِ إلى حَيِّزِ المفاعيل الصريحة.
وقوله: ﴿لكن الظالمون﴾ من إيقاعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ.
قوله: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ جملتان حاليتان وفيهما قولان، أحدهما: أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في قولِه ﴿فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، أي: استقرُّوا في ضلالٍ مبين على هاتين الحالتين السَّيئتين. والثاني: أنهما حالان مِنْ مفعولِ «أَنْذِرْهُم» أي: أَنْذِرهم على هذه الحالِ وما بعدَها، وعلى الاولِ يكون قولًُه ﴿وَأَنْذِرْهُم﴾ اعتراضاً.
604
وقرأ العامَّةُ «يُرْجَعون» بالياء من تحت مبنياً للمفعول. والسلمي وابن أبي إسحاق وعيسى مبنياً للفاعل، والأعرج بالتاء مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكونَ التفاتاً وأن لا يكونَ.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لأًبِيهِ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من «إبراهيم» بدلَ اشتمال كما تقدَّم في ﴿إِذِ انتبذت﴾ [مريم: ١٦] وعلى هذا فقد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بقولِه: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾ نحو: رأيت زيداً - ونِعْم الرجلُ - أخاك «. وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلَّقَ «إذ» ب «كان» أو
604
ب «صِدِّيقاً نبيَّاً»، أي: كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين طلب خاطب أباه تلك المخاطباتِ «. ولذلك جَوَّز أبو البقاء أن يعمل فيه ﴿صِدِّيقاً نبيَّاً﴾ أو معناه.
قال الشيخ:»
الإِعرابُ الأولُ - يعني البدليةَ - يقتضي تصرُّفَ «إذ» وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ «كان» في الظرف وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العاملُ مركباً من مجموع لفظَيْنِ بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ. ولا جائز أن يكونَ معمولاً ل «صِدِّيقاً» لأنه قد وُصِفَ، إلا عند الكوفيين. ويَبْعُدُ أن يكونَ معمولاً ل «نبيَّاً» لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَةَ كانت في وقتِ هذه المقالة «.
قلت: العاملُ فيه ما لخَّصه أبو القاسم ونَضَّده بحسنِ صناعتِه من مجموع اللفظين كما رأيتَ في قوله»
أي: كان جامعاً / لخصائصِ الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه «.
605
وقد تَقَدَّمت قراءةُ ابن عامر «يا أبَتِ» وفي مصحف عبد الله «وا أبتِ» ب «وا» التي للنُّدْبة.
قوله تعالى: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ﴾ : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكون «راغبٌ» مبتدأً لاعتمادِه على همزةِ الاستفهام، و «أنت» فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبر. والثاني: أنه خبر مقدمٌ، و «أنت» مبتدأ مؤخر ورُجِّح الأولُ بوجهين،
605
أحدهما: أنه ليس فيه تقديمٌ ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعلِ التأخيرُ عن رافعِه. والثاني أنه لا يلزم فيه الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك لأنَّ ﴿عَنْ آلِهَتِي﴾ متعلقٌ ب «راغِبٌ»، فإذا جُعل «أنت» فاعلاً فقد فُصِل بما هو كالجزءِ من العامل، بخلافِ جَعْلِه خبراً فإنه أجنبي إذ ليس معمولاً ل «راغبٌ».
قوله: «مَلِيَّاً» في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني، أي: زمناً طويلاً، ومنه «المَلَوان» للَّيلِ والنهارِ، وَمَُِلاوةُ الدَّهْر بتثليث الميم قال:
٣٢٤ - ٠- فَعُسْنا بها من الشَّبابِ مَلاوةً فالحجُّ آيات الرسولِ المحبِّبِ
وأنشد السدِّي على ذلك لمهلهل:
٣٢٤ - ١- فتصَدَّعَتْ صُمُّ الجِبالِ لمَوْتِه وبَكَتْ عليه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا
والثاني: أنه منصوبٌ على الحال معناه: سالماً سَويَّاً. كذا فسَّره ابن عباس: فهو حالٌ مِنْ فاعلِ «اهْجُرْني»، وكذلك فَسَّره ابنُ عطيةَ قال: «معناه: مُسْتَبداً، أي: غنيَّاً من قولهم هو مَلِيٌّ بكذا وكذا». قال الزمخشري: «أي: مُطيقاً» والثالث: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: هَجْراً مَلِيَّاً يعني: واسعاً متطاولاً كتطاول الزمان الممتد.
606
وقرأ أبو البرهسم «سَلاماً» بالنصب، وتوجيهُها واضحٌ ممَّا تقدَّم.
قوله تعالى: ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾ :«وكُلاًّ» مفعولٌ مقدم هو الأول، و «نبيَّا» هو الثاني.
قوله تعالى: ﴿نَجِيّاً﴾ : حالٌ مِنْ مفعولِ «قَرَّبْناه» وأصلُه نَجِيْوا، لأنه مِنْ نجا يَنْجو، والأَيْمَن: الظاهر أنه صفةٌ لجانب بدليل أنه تبعه في قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن﴾ [طه: ٨٠]. وقيل: إنه صفةٌ للطور؛ إذ اشتقاقُه من اليُمْن والبركة.
قوله تعالى: ﴿مِن رَّحْمَتِنَآ﴾ : في «مِنْ» هذه وجهان، أحدهما: أنها تعليليةٌ، أي: مِنْ أَجْل رحمتِنا. و «أخاه» على هذا مفعولٌ به، و «هرون» بدلٌ أو عطف بيان، أو منصوبٌ بإضمار أَعْني، و «نَبِيَّاً» حالٌ. والثاني: أنها تبعيضيةٌ، أي: بعض رحمتِنا. قال الزمخشري: «وأخاه على هذا بدلٌ، وهرونَ عطف بيان». قال الشيخ: «الظاهرُ أنَّ» أخاه «مفعولُ» وَهَبْنَا «، ولا تُرادِفُ» مِنْ «بعضً فَتُبْدِلُ» أخاه «منها».
قوله تعالى: ﴿مَرْضِيّاً﴾ : العامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ
607
وأصلُه مَرْضُوْوٌ، بواوين: الأولى زائدةٌ كهي في مَضْروب، والثانية لام الكلمة لأنه من الرِّضْوان، فأُعِلَّ بقلب الواو ياءً وأُدْغِمَتْ الأخيرة ياءً، واجتمعت الياءُ والواو فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغمت ويجوز النطقُ بالأصلِ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصلِ وهو الأكثرُ، ومن الإِعلالِ قولُه:
٣٢٤ - ٢- لقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنني أنا المَرْءُ مَعْدِيَّاً عليه وعادِيا
وقالوا: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ ومَسْنُوَّة، أي: مُسْقاة بالسَّانية.
608
قوله: ﴿مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ﴾ :«مِن» الأولى للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء مُنَعَّمٌ عليهم، فالتبعيضُ مُحالٌ، والثانيةُ للتبعيض، فمجرورُها بدلٌ مما قبلَه بإعادة العاملِ، بدلُ بعضٍ من كل.
قوله: «وإسرائيلَ» عطفٌ على «إبراهيمَ».
قوله: ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا﴾ يحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على ﴿مِّنَ النبيين﴾، وأن يكونَ عطفاً على ﴿مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ﴾.
قوله: ﴿إِذَا تتلى﴾ جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان، أظهرهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها. والثاني: أنها خبرُ «أولئك»، والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإِشارة، وعلى الأول يكون الموصولُ نفسَ الخبر. وقرأ العامَّةُ «تُتلى» بتاءين مِنْ فوقُ. وقرأ عبد الله وشيبةُ وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وورشٌ عن نافع في
608
رواياتٍ شاذة بالياء أولاً مِنْ تحتُ، والتأنيثُ مجازيٌّ فلذلك جاء في الفعلِ الوجهان.
قوله: «سُجَّدا» حالٌ مقدرة. قال الزجاج: «لأنهم وقتَ الخُرورِ ليسوا سُجَّداً».
و «بُكِيَّا» فيه وجهان، أظهرهما: أنه جمع باكٍ، وليس بقياسِه، بل قياسُ جَمْعِه على فُعَلة، كقاضٍ وقُضاة، ولم يُسمع فيه هذا الأصلُ. وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسِران فاءَه على الإِتباع. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعُوْل نحو: جَلَسَ جُلُوْساً، وقَعَدَ قُعوداً. والأصلُ فيه على كِلا القولين بُكُوْي بواوٍ وياء، فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهور في مثله. وقال ابن عطية: «وبكيَّا بكسر [الباء] وهو مصدرٌ لا يحتمل غيرَ ذلك». قال الشيخ: «وليس بسديدٍ بل الإِتباعُ جائزٌ فيه». وهو جمعٌ كقولِهم عُصِيّ ودُليّ، جمع عَصا ودَلْو، وعلى هذا فيكون «بكيَّاً» : إمَّا مصدراً مؤكداً لفعلٍ محذوف، أي: وبَكَوْا بُكِيَّاً، أي: بكاءً، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال، أي: باكين أو ذوي بكاءً، أو جُعِلوا [نفس] البكاءِ مبالغةً.
609
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ﴾ : فيه وجهان، أظهرهما: أنه استثناءٌ متصلٌ. وقال الزجاج: «هو منقطعٌ» وهذا بناءً منه على أنَّ المُضَيِّعَ للصلاة من الكفار.
وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعةٌ «الصلوات» جمعاً. والغَيُّ تقدم.
وقرأ الحسنُ هنا وجميعَ ما في القرآن «يُدْخَلون» مبنياً للمفعول. ونقل الأخفش أنه قُرِئ «يُلَقَّوْن» بضم الياء وفتح اللام وتشديدِ القاف، مِنْ لقَّاه مضعفاً. وستأتي هذه القراءة لبعض السبعة في آخر الفرقان. و «شيئاً»، إمَّا / مصدرٌ، أي: شيئاً من الظلم، وإمَّا مفعولٌ به.
قوله تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ : العامَّةُ على كسر التاء نصباً على أنها بدل مِن «الجنةَ»، وعلى هذه القراءةِ يكون قولُه ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه اعتراضٌ بين البدلِ والمبدلِ منه. الثاني: أنه حالٌ، كذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ: من حيث إن المضارع المنفيِّ ب «لا» كالمُثْبَتِ في أنه لا تباشِرُه واوُ الحالِ.
610
وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمر والأعمش «جناتُ» بالرفع وفيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتد مضمرٍ تقديرُه: تلك، أو هي جناتُ عدنٍ. الثاني: - وبه قال الزمخشري - أنها مبتدأ، يعني ويكون خبرُها ﴿التي وَعَدَ﴾.
وقرأ الحسن بن حيّ وعلي بن صالح والأعمشُ في روايةٍ «جَنَّةَ عَدْنٍ» نصباً مفرداً. واليماني والحسنُ والأزرقُ عن حمزةَ «جنةُ» رفعاً مفرداً، وتخريجُها واضحٌ ممَّا تقدَّم. قال الزمخشري: «لَمَّا كانت مشتملةٌ على جناتِ عدنٍ أبْدِلَتْ منها كقولِك:» أَبْصَرْتُ دارَكَ القاعةَ والعلاليَّ «، و» عَدْنٍ «معرفةٌ علمٌ بمعنى العَدْنِ وهو الإِقامةُ كما جعلوا فينةَ وسحَر وأمسَ - فيمن لم يَصْرِفْه - أعلاماً لمعاني الفنية والسَّحَر والأمس، فجرى مَجْرى العَدْن لذلك، أو هو عَلَمٌ لأرضِ الجنةِ لكونِها دارَ إقامة، ولولا ذلك لَما ساغَ الإِبدالُ لأنَّ النكرةَ لا تُبْدَلُ من المعرفةِ إلاَّ موصوفةً، ولَما ساغ وصفُها بالتي».
قال الشيخ: «وما ذكره متعقِّبٌ: أمَّا دعواه أنَّ عَدْناً، عَلَمٌ لمعنى العَدْنِ
611
فيحتاج إلى تَوْقيفٍ وسَماعٍ من العرب، وكذا دعوى العَلَميةِ الشخصيةِ فيه. وأمَّا قولُه» ولولا ذلك «إلى قوله» موصوفة «فليس مذهبَ البصريين؛ لأنَّ مذهبَهم جوازُ إبدالِ النكرةِ من المعرفةِ وإن لم تكون موصوفةً، وإنما ذلك شيءٌ قاله البغداديون، وهم مَحْجُوْجون بالسَّماعِ على ما بيَّناه، وملازمتُه فاسدةٌ. وأمَّا قولُه» ولَما ساغَ وصفُها ب «التي» فلا يتعيَّن كون «التي» صفةً، وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ إعرابُه بدلاً «.
قلت: الظاهر أنَّ»
التي «صفةٌ، والتمسُّكُ بهذا الظاهرِ كافٍ، وأيضاً فإنَّ الموصولَ في قوةِ المشتقات، وقد نَصُّوا على أنَّ البدلَ بالمشتقِّ ضعيفٌ فكذا ما في معناه.
قوله:»
بالغيبِ «فيه وجهان: أحدهما: أن الباءَ حاليةٌ. وفي صاحب الحالِ احتمالان، أحدُهما: ضميرُ الجنَّة وهو عائدٌ الموصولِ، أي: وعَدَعا، وهي غائبةٌ عنهم لا يُشاهدونها. والثاني: أن يكونَ مِنْ» عبادَة «، أي: وهم غائبون عنها لا يَرَوْنها، إنما آمنوا بمجردِ الإِخبار منه.
والوجه الثاني: أن الباءَ سببيةٌ، أي: بسببِ تصديقِ الغيب، وبسببِ الإِيمان به.
قوله:»
إنه كان «يجوز في هذا الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى يعودُ على الرحمن، أي: إنَّ الرحمن كان موعدُه مَأْتِيَّا.
والثاني: أنه ضميرُ الأمرِ والشأن؛ لأنه مَقامُ تعظيمٍ وتفخيمٍ، وعلى الأول يجوز أَنْ يكونَ في «كان»
ضميرٌ هو اسمُها يعودُ على اللهِ تعالى، و «وعدُه» بدلٌ من ذلك الضميرِ بدلُ اشتمال، و «مَأْتِيَّاً» خبرُها. ويجوز أَنْ لا يكون فيها ضميرُ،
612
بل هي رافعةٌ ل «وَعِدُه» و «مَأْتِيَّاً»، الخبرُ أيضاً، وهو نظير: «إنَّ زيداً كان أبوه منطلقاً».
ومَأْتِيَّاً فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ على بابِهِ، والمرادُ بالوعدِ الجنةُ، أُطْلِقَ عليها المصدرُ أي موعوده نحو: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ. وقيل: الوَعْدُ مصدرٌ على بابه ومَأْتِيَّاً مفعولٌ بمعنى فاعِل ولم يَرْتِضِه الزمخشريُّ فإنه قال: «قيل في» مَأْتِيَّاً «مفعولٌ بمعنى فاعِل. والوجهُ: أنَّ الوعدَ هو الجنة، وهم يَأْتونَها، أو هو مِنْ قولِك: أتى إليه إحساناً، أي: كان وعدُه مفعولاً مُنْجِزاً».
613
قوله: ﴿إِلاَّ سَلاَماً﴾ : أبدى الزمخشريُّ فيه ثلاثةَ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ معناه: إنْ كان تَسْلِيمُ بعضِهم على بعض - أو تسليمُ الملائكة عليهم - لغواً، فلا يسمعون لغواً إلى ذلك فهو مِنْ وادي قولِه:
٣٢٣ - ٤- ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم بهنَّ فُلولٌ من قراعِ الكتائبِ
الثاني: أنهم لا يَسْمعون فيها إلا قولاً يَسْلَمون فيه من العيبِ والنقيصةِ، على الاستثناء المنقطع. الثالث: أنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ، ودارُ السلام هي دارُ السلامةِ، وأهلُها عن الدعاءِ بالسلامةِ أغنياءُ، فكان ظاهرُه من باب اللَّغْوِ وفُضولِ الحديث، لولا ما فيه من فائِدةِ الإكرامِ.
قلت: ظاهرُ هذا أنَّ الاستثناء على الأول وأخر متصلٌ؛ فإنه صَرَّح بالمنقطع في الثاني. أمَّا اتصالُ الثالثِ فواضحٌ، لأنه أَطْلَقَ اللغوَ على السلامِ
613
بالاعتبارِ الذي ذكره، وأمَّا الاتصالُ في الأولِ فَعَسِرٌ؛ إذ لا يُعَدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول، وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قولِه تعالى ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦].
614
قوله: ﴿نُورِثُ﴾ : قرأ الأعمش «نُورِثها» بإبراز عائدِ الموصول. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة «نُوَرِّثُ» بفتحِ الواوِ وتشديد الراء مِنْ «وَرَّثَ» مضعِّفاً.
قوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾ : قال ابن عطية: «الواو عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على أخرى، واصلةٌ بين القولين وإن لم يكن / معناهما واحداً». وقد أغربَ النقاشُ في حكايتِه لقولٍ: وهو أنَّ قولَه ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾، متصلٌ بقولِه ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ﴾ [مريم: ١٩]. وقال أبو البقاء: «وما نَتَنَزَّل، أي: وتقول الملائكةُ» فَجَعَلَه معمولاً لقولٍ مضمر. وقيل: هو من كلامِ أهل الجنة وهو أقربُ ممَّا قبله.
ونَتَنَزَّل مطاوعُ نَزَّل بالتشديدِ ويقتضي العملَ في مُهْلة وقد لا يقتضيها. قال الزمخشري: «التَنَزُّلُ على معنيين: معنى النزولِ على مَهْلٍ، ومعنى
614
النزولِ على الإِطلاق كقوله:
٣٢٤ - ٤- فَلَسْتُ لإِنسيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جوِّ السَّماءِ يصوبُ
لأنه مطاوع نَزَّل، ونزَّل يكون بمعنى أَنْزَلَ، ويكون بمعنى التدريج، واللائقُ بهذا الموضعِ هو النزولُ على مَهْلٍ، والمراد: أنَّ نزولَنا في الأحايين وقتاً غِبَّ وقتٍ». قلت: وقد تقدم أنه يُفَرِّق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضع.
وقرأ العامَّةُ «نَتَنَزَّل» بنون الجمع. وقرأ الأعرج «يَتَنزَّل» بياء الغيبة. وفي الفاعل حينئذ قولان، أحدهما: أنه ضميرُ جبريل. قال ابن عطية: «ويَرُدُّه قولُه» له لما بين أيدينا وما خَلْفَنَا «لأنه يَطَّرِدُ معه، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أنَّ القرآن لا يَتَنَزَّل إلا بأمر الله في الأوقات التي يُقَدَّرها». وقد يُجاب عما قال ابن عطية: بأنَّه على إضمار القول: أي: قائلاً: «له ما بين أيديدنا».
الثاني: أنه يعود على الوَحْي، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل، والضميرُ للوحي، ولا بد من إضمار هذا القولِ الذي ذكرتُه أيضاً.
قوله: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ استدلَّ بعضُ النحاة على أنَّ الأزمنةَ ثلاثةُ:
615
ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ بهذه الآية، وهو كقولِ زهير:
616
قوله: ﴿رَّبُّ السماوات﴾ : فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدها: كونُه بدلاً مِنْ «ربُّك». الثاني: كونُه خبرَ مبتدأ، أي: هو ربُّ. الثالث: كونُه مبتدأً، والخبرُ الجملةُ الأمريةُ بعده وهذا ماشٍ على رَأْي الأخفش: أنه يُجَوِّزُ زيادةَ الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً.
قوله: لعبادتِه «متعلَّقٌ ب» اصْطَبِرْ «وكان مِنْ حَقِّه تعديتُه ب» على «لأنها صلتُه كقولِه: ﴿واصطبر عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٣٢] ولكنه ضُمِّن معنى الثبات، لأنَّ العبادةَ ذاتُ تكاليفَ قَلَّ مَنْ يَثْبُتُ لها فكأنه قيل: واثْبُتْ لها مُصْطَبراً.
قوله:»
هل تعلم «أدغم الأخَوان وهشام وجماعة لام» هل «في التاء، وأنشدوا على ذلك بيت مزاحم العقيلي.
٣٢٤ - ٥- وأعلمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ولكنني عن عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِ
قوله: ﴿أَإِذَا مَا مِتُّ﴾ :«إذا» منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ
616
عليه بقوله تعالى ﴿لَسَوْفَ أُخْرَجُ﴾ تقديرُه: إذا مِتُّ أُبْعَثُ أو أُحيا. ولا يجوز أن يكونَ العاملُ فيه «أُخْرِج» لأنَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها. قال أبو البقاء: «لأنَّ ما بعد اللامِ وسوف لا يَعْمل فيما قبلها كإنَّ» قلت: قد جَعَلَ المانعَ مجموعَ الحرفين: أمَّا اللامُ فمُسَلَّمٌ، وأمَّا حرفُ التنفيسِ فلا مَدْخَلَ له في المنع؛ لأنَّ حرفَ التنفيسِ يَعْمَلُ ما بعده فيما قبله. تقول: زيداً سأضرب، وسوف أضرب، ولكنْ فيه خلافٌ ضعيفٌ، والصحيحُ الجوازُ، وأنشدوا عليه:
٣٢٤ - ٧- فلمَّا رَأَتْع أمُّنا هانَ وَجْدُها... وقالت: أبونا هكذا سوف يَفْعَلُ
ف «هكذا» منصوب ب «يَفْعَل» بعد حرف التنفيس.
وقال ابن عطية: واللامُ في قوله: «لَسَوْف» مجلوبةٌ على الحكاية لكلامٍ تقدَّم بهذا المعنى، كأنَّ قائلاً قال للكافر: إذا مِتَّ يا فلان لسوف تُخْرَجُ حَيَّاً، فقرَّر الكلامَ على الكلام على جهةِ الاستبعادِ، وكرَّر اللامَ حكايةً للقول الأول «.
قال الشيخ:»
ولا يُحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكايةُ لقولٍ تقدَّمَ، بل هو من كلامِ الكافرِ، وهو استفعامٌ فيه معنى الجحدِ والاستبعادِ «.
وقال الزمخشري:»
لامُ الابتداءِ الداخلةُ على المضارع تعطي معنى
617
الحالِ فكيف جامَعَتْ حرفَ الاستقبال؟ قلت: لم تجامِعْها إلا مُخْلِّصَةً للتوكيد كما أَخْلَصَت الهمزةُ في «يا الله» للتعويض، واضمحلَّ عنها معنى التعريف «. قال الشيخ:» وما ذَكَرَ مِنْ أنَّ اللامَ تعطي الحالَ مخالَفٌ فيه، فعلى مذهبِ مَنْ لا يرى ذلك يُسْقط السؤال. وأمَّا قولُه: «كما أَخْلَصَت الهمزة» فليس ذلك إلا على مذهبِ مَنْ يزعم أنَّ أصلَه إلاه، وأمَّا مِنْ يزعم أنَّ أصله: لاه، فلا تكون الهمزةُ فيه للتعويضِ؛ إذ لم يُحْذَفْ منه شيءٌ، ولو قلنا: إن أصلَه إلاه، وحُذِفَتْ فاءُ الكلمة، لم يتعيَّنْ أنَّ الهمزةَ فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانَتْ عوضاً من المحذوف لَثَبَتَتْ دائماً في النداء وغيرِه، ولَمَات جاز حذفُها في النداء، قالوا: «يا الله» بحَذْفِها، وقد نَصُّوا على أن [قطعَ] همزةِ الوصل في النداء شاذ «.
وقرأ الجمهور»
أإذا «بالاستفهامِ وهو استبعادٌ كما تقدَّم. وقرأ ابن ذكوان بخلافٍ عنه وجماعةٌ» إذا «بهمزةٍ واحدة على الخبر، أو للاستفهامِ وحذَف أداتَه للعلمِ بها، ولدلالةِ القراءةِ الأخرى عليها.
وقرأ طلحة بن مصرف»
لَسَأَخْرَجُ «بالسين دون سوف، هذا نَقْلُ الزمخشريِّ عنه، وغيرُه نَقَل عنه» سَأَخْرُج «دونَ لامِ ابتداء، وعلى هذه
618
القراءةِ يكونُ العاملُ في الظرف نفسَ» أُخْرَج «، ولا يمنع حرفُ التنفيسِ على الصحيح.
وقرأ العامَّةُ»
أُخْرَجُ «مبنياً للمفعول. والحسن وأبو حيوة» أَخْرِجُ «مبنياً للفاعل. و» حَيَّاً «حالٌ مؤكِّدة لأنَّ مِنْ لازمِ خروجِه أن يكونَ» حَيَّاً «وهو كقولِه: ﴿أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣].
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وجماعة»
يَذْكُرُ «مخففاً مضارعَ» ذكر «، والباقون بالتشديد مضارعَ تَذَكَّر، والأصل» يتذكَّر «فأُدْغِمَتْ التاءُ في الذال. وقد قرأ بهذا الأصلِ وهو يَتَذَكَّر: أُبَيُّ.
619
والهمزةُ في قوله ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ﴾ مؤخرةٌ عن حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور. وقد رَجَع الزمخشري إلى رأي الجمهورِ هنا فقال: «الواوُ عَطَفَتْ ﴿لاَ يَذْكُرُ﴾ على» يقول «/ ووُسِّطَتْ همزةُ الإِنكار بين المعطوف وحرفِ العطف» ومذهبُه أَنْ يُقَدِّرَ بين حرفِ العطفِ وهمزة الاستفهام جملةً يُعْطَف عليها ما بعدها، وقد فعل هذا - أعني الرجوعَ إلى قولِ الجمهور - في سورة الأعراف كما نبَّهت عليه في موضعِه.
قوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾، أي: مِنْ قبلِ بَعْثه. وقَدَّره الزمخشري «من قبلِ
619
الحالةِ التي هو فيها وهي حالةُ بقائه».
620
قوله: ﴿جِثِيّاً﴾ : حالٌ مقدرةٌ مِنْ مفعولِ «لَنُحْضِرَنَّهُمْ» و «جِثِيّاً» جمعُ جاثٍ جمعٌ على فُعُوْل نحو: قاعِد وقُعود وجالِس وجُلوس. وفي لامِه لغتان، إحداهما الواو، والأخرى الياء يُقال: جثا يَجْثُو جُثُوَّاً، وجَثِيَ يَجْثِي جِثايةً، فعلى التقدير الأول يكون أصلَه «جُثُوْوٌ» بواوين: الأُوْلى زائدةٌ علامةً للجمع، والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُعِلَّتْ إعلالَ عِصِيّ ودُلِيّ، وتقدَّم تحقيقُه في «عِتِيَّاً». وعلى الثاني يكون الأصلُ جُثُوْياً، فَأُعِلَّ إعلالَ هَيِّن ومَيِّت. وعن ابن عباس: أنه بمعنى جماعاتٍ جماعاتٍ جمعَ جُثْوَة، وهو: المجموعُ من التراب والحجارة. وفي صحتِه عنه نظرٌ من حيث إنَّ فُِعْلَة لا يُجمع على فُعُوْل. ويجوز في «جِثِيَّا» أن يكون مصدراً على فُعول، وأصلُه كما تقدَّم في حالِ كونِه جمعاً: إمَّا جُثُوٌّ، وإمَّا جُثُوْيٌ.
وقد تقدَّم «أنَّ الأخوين يكسران فاءَه، والباقون يَضُمونها.
والجُثُوُّ: القُعُودُ على الرُّكَب.
قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ : في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ، أظهرُها
620
عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه: أن «أيُّهم» موصولةٌ بمعنى الذي، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه، لخروجِها عن النظائر، و «أَشَدُّ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم»، و «أيُّهم» وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله «لَنَنْزِعَنَّ».
ول «ايّ» أحوالٌ أربعةٌ، أحدُها: تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها، ومثلُه قولُ الشاعر:
٣٢٤ - ٦- فدَعْ ذا ولكن هَتُّعِيْنُ مُتَيَّماً على ضوءِ بَرْقٍ آخرَ الليلِ ناصِبِ
٣٢٤ - ٨- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ
بضم «أيُّهم» وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ «أيُّهم» هنا مبتدأٌ، و «أشدُّ» خبرُه، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير: لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم: أيُّهم أشدُّ. وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر:
٣٢٤ - ٩- ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ
وقال تقديره: فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ: لا حَرِجٌ ولا محرومُ.
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ، ما بعدها خبرُها كقولِ
621
الخليلِ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل «نَنْزِعَنَّ» فهي في محلِّ نصب، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب، كما يَخُصُّه بها الجمهور.
وقال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على ﴿مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ كقوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ [مريم: ٥٠]، أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا». فجعل «أيُّهم» موصولةً أيضاً، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ «.
قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين»
.
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ ﴿كُلِّ شِيعَةٍ﴾ و «مِنْ» مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ «مِنْ»، و «أيُّ» استفهامٍ «، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.
622
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى» لننزِعَنَّ «لننادِيَنَّ، فعوملَ معامَلَته، فلم يعمل في» أيّ «. قال المهدوي:» ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ، فيعملُ في المعنى، ولا يعملُ في اللفظِ «.
وقال المبرد:»
أيُّهم «متعلِّقٌ ب» شيعةٍ «فلذلك ارتفع، والمعنى: من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا».
ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل «نَنْزِعَنَّ» محذوفاً. وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم. قال النحاس: «وهذا قولٌ حسنٌ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا». قلت: وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكنْ جَعَلَ «أيُّهم» فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ «شيعة» من معنى الفعلِ، قال: «التقدير: لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم، وهي على هذا بمعنى الذي».
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ «أيُّهم» في الآية بمعنى الشرط. والتقدير: إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم، أو لم يَشْتَدَّ، كما تقول: ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ، المعنى: إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا.
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ
623
عن الأعمش «أيُّهم» نصباً. قلت: فعلى هذه القراءة والتي قبلَها: ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها. قال النحاس: «ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه» قال: «وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول:» ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين، هذا أحدُهما «قال» وقد أعرب سيبويه «أيَّاً» وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ، فكيف يبنيها مضافةً «؟ وقال الجرميُّ:» خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول: «لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ» بالضمِّ بل يَنْصِبُ «.
و ﴿عَلَى الرحمن﴾ متعلقٌ ب»
أشدُّ «، و» عِتِيَّاً «منصوبٌ على / التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ، إذ التقديرُ: أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ، التقدير: فَنُلْقِيهِ في العذابِ، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه «. قلت: هما للبيان لا للصلةِ، أو يتعلَّقان ب» أَفْعَل «، أي: عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم:» هو أَشَدُّ على خَصْمه، وهو أَوْلَى بكذا «.
624
قلت: يعني ب» على «قولَه» على الرحمن «، وبالباء قولَه» بالذين هم «. وقوله» بالمصدر «يعني بهما» عِتيَّا «و» صِلِيَّاً «وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه.
وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ»
عِتِيَّاً «و» صِلِيَّاً «في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ.
625
قوله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ﴾ : في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية « ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ «قال الشيخ:» وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب «إنْ» والجوابُ هنا على زَعْمه ب «إنْ» النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا. وقوله: «والواو تَقْتَضِيه» يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: «
625
نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ»، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر:
٣٢٥ - ٠- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ... أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه «.
و»
إنْ «حرفُ نفيٍ، و» منكم «صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: وإنْ أحدٌ منكم. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها. وقد تقدَّم لذلك نظائرُ.
والخطابُ في قولِه»
منكمْ «يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه. قال الزمخشري:» التفاتٌ إلى الإِنسان، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ «وإنْ منهم» أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور «.
626
والحَتْمُ: القضاءُ والوجوبُ. حَتَمَ، أي: أوجب [وحَتَمَه] حتماً، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى:» هذا خَلْقُ الله «و» هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ «. و» على ربِّك «متعلِّقٌ ب» حَتْم «لأنه في معنى اسمِ المفعول، ولذلك وصَفَه ب» مَقْضِيَّاً «.
627
وقرأ العامَّةُ ﴿ثُمَّ نُنَجِّيْ﴾ بضمِّ «ثمَّ» على أنَّها العاطفةُ وقرأ عليٌّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباسٍ وأُبيُّ والجحدريُّ ويعقوبُ «ثَمَّ» بفتحها على أنها الظرفيةُ، ويكون منصوباً بما بعده، أي: هناك نُنَجِّي الذين اتَّقَوا.
وقرأ الجمهور «نُنَجِّيْ» بضم النونِ الأولى وفتحِ الثانية وتشديدِ الجيم، مِنْ «نجَّى» مضعفاً. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن «نُنْجِي» مِنْ أَنْجى. والفعلُ على هاتين مضارعٌ.
وقرأَتْ فِرقةٌ «نُجِّيْ» بنونٍ واحدةٍ مضمومةٍ وجيمٍ مشددة. وهو على هذه القراءةِ ماضٍ مبني للمفعول، وكان مِنْ حق قارئها أن يفتحَ الياءَ، ولكنه سكَّنه تخفيفاً. وتحتمل هذه القراءةُ توجيهاً آخرَ سيأتي في قراءة متواترةٍ آخرَ سورةِ الأنبياء. وقرأ عليُّ بن أبي طالب أيضاً «نُنَجِّي» بحاءٍ مهملة، من التَّنْحِيَة.
627
ومفعول «اتَّقوا» إمَّا محذوفٌ مرادٌ للعلمِ به، أي: اتَّقُوا الشركَ والظلمَ.
قوله: جِثِيَّا «إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كان» نَذَرُ «يتعدَّى لاثنين بمعنى نترك ونُصَيِّر، وإمَّا حالٌ إنْ جَعَلْتَ» نَذَرُ «بمعنى نُخَلِّيْهم. و» جِثِيَّاً «على ما تقدَّم.
و»
فيها «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب» نَذَرُ «، وأَنْ يتعلَّقَ ب» جِثِيَّاً «إنْ كان حالاً، ولا يجوزُ ذلك فيه إنْ كان مصدراً. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ» جِثِيَّاً «لأنه في الأصلِ صفةٌ لنكرةٍ قُدِّم عليها فَنُصِبَ حالاً.
628
قوله: ﴿مَّقَاماً﴾ : قرأ ابن كثير «مُقاماً» بالضم، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو، وهي قراءةُ ابن محيصن. والباقون بالفتح. وفي كلتا القراءتين يحتمل أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو اسمَ مصدر، إمَّا من «قام» ثلاثياً، أو مِنْ «أقام»، أي: خير مكانِ قيامِ أو إقامةٍ.
والنَّدِيُّ: فَعِيل، أصلُه نَدِيْوٌ لأنَّ لامَه واوا، يقال: نَدَوْتُهم أَنْدَوْهم، أي: أَتَيْتُ ناديَهم، والنادي مثلُه. ومنه ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق: ١٧]، أي: أهل نادية. والنَّدِيُّ والنادي: مجلسُ القومِ ومُتَحَدِّثُهم. وقيل: هو مشتقٌ من النَّدى وهو الكَرَمُ؛
628
لأن الكرماء يجتمعون فيه، وانْتَدَيْتُ المكانَ والمُنْتدى كذلك. وقال حاتم:
٣٢٥ - ١- ودُعِيْتُ في أَوْلَى النَّدِيَّ ولم يُنْظَرْ إليَّ بأَعْيُنٍ خُزْرِ
والمصدرُ: النَّدْوُ. و «مَقاماً» و «نَدِيَّا» منصوبان على التمييز من أفْعل.
وقرأ أبو حيوةَ والأعرجُ وابن محيصن «يُتْلَى» بالياء مِنْ تحتُ، والباقون/ بالتاءِ من فوقُ واللامُ في «للذين» يحتمل أَنْ تكونَ للتبليغِ، وهو الظاهر، وأن تكونَ للتعليلِ.
629
قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا﴾ :«كم» مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدرَ الكلامِ لأنها إمَّا: استفهاميةٌ أو خبريةٌ، وهي محمولةٌ على الاستفهاميةِ، و «أَهلَكْنا» مُتَسَلِّطٌ على «كم» أي: كثيراً من القرون أَهْلَكْنا. و «مِنْ قَرنٍ» تمييزٌ ل «كَمْ» مُبَيِّنٌ لها.
قوله: ﴿هُمْ أَحْسَنُ﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: - وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء - أنَّها في محلِّ نصب، صفةً ل «كم». قال الزمخشري: «ألا ترى أنَّك لو أَسْقَطْتَ» هم «لم يكن لك بَدٌّ مِنْ نصبِ» أحسنُ «على الوصفية». وفي هذا نظرٌ لأنَّ النَّحْويين نَصُّوا: على أنَّ «كم»
629
استفهاميةٌ كانت أو خبريةً لا تُوْصَفُ ولا يُوْصَفُ بها. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل «قَرْن» ولا محذورَ في هذا، وإنما جُمِعَ في قوله: «هم» لأنَّ قَرْناً وإن كان لفظُه مفرداً فمعناه جمعٌ، ف «قَرْن» كلفظِ «جميع» و «جميع» يجوز مراعاةُ لفظِه تارةً فيُفْرَدُ كقولِه تعالى: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ [القمر: ٤٤] ومراعاةُ معناه أخرى فيُجمع مالَه كقوله تعالى: ﴿لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٣٢].
قوله: «ورِئْياً» الجمهورُ على «رِئْياً» الجمهورُ على «رِئْيا» بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإِظهارُ اعتباراً بالأصل، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى: وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه.
وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر «ورِيَّا» بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ، فقيل: هي مهموزةُ الأصلِ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ. والرَّأْيُ بالهمز، قيل: مِنْ رُؤْية العَيْن، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول، أي: مَرْئِيٌّ. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر. وقيل: بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ، والمعنى: أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما.
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى «وَرِيْئاً» بياءٍ ساكنةٍ
630
بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ «رِئْياً» في قراءةِ العامَّةِ، ووزنه فِلْعٌ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر:
٣٢٥ - ٢- وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ... مِنَ أجلِكَ: هذا هامةُ اليومِ أوغدِ
وفي القلب من القلبِ ما فيه.
ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ «ورِياء» بياءٍ بعدها ألف، بعدها همزة، وهي من المُراءاة، أي: يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة «وَرِيَاً» بياء فقط مخففةٍ. ولها وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ أصلُها كقراءةِ قالون، ثم خَفَّفَ الكلمةَ بحذفِ إحدى الياءَيْن، وهي الثانيةُ لأنَّ بها حَصَلَ الثِّقَلُ، ولأنَّها لامُ الكلمةِ، والأواخرُ أَحْرَى بالتغيير. والثاني: أن يكونَ أصلُها كقراءةِ حميد «وَرِيْئا» بالقلب، ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الياءِ قبلها، وحَذَفَ الهمزةَ على قاعدةِ تخفيفِ الهمزةِ بالنقل، فصار «وَرِيا» كما ترى. وتجاسَرَ بعضُ الناسِ فجعل هذه القراءة لَحْناً، وليس اللاحنُ غيرَه، لخَفَاءِ توجيهِها عليه.
وقرأ ابن عباس أيضاً وابنُ جُبَيْر وجماعةٌ «وزِيَّا» بزايٍ وياءٍ مشددة، والزَّيُّ: البِزَّة الحسنة والآلاتُ المجتمعة، لأنه مِنْ زَوَى كذا يَزْوِيه، أي: يَجْمعه، والمُتَزَيِّنُ يَجْمع الأشياء التي تُزَيِّنه وتُظْهِرُ زِيَّه.
631
قوله: ﴿مَن كَانَ فِي الضلالة﴾ :«مَنْ» يجوز ان تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في الخبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ مِنْ معنى الشرط. وقولُه: «فَلْيَمْدُدْ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه طَلَبٌ على بابه، ومعناه الدُّعاءُ. والثاني: لفظُه لفظُ الأمرِ، ومعناه الخبر. قال الزمخشري: أي: مَدَّ له الرحمنُ، بمعنى أَمْعَلَه فأُخْرِجَ على لفظِ الأمرِ إيذاناً بوجوبِ ذلك. أو فَمُدَّ له في معنى الدعاء بأن يُمْهِلَه الله ويُنَفِّسَ في مدةِ حياتِه «.
قوله:»
حتى إذا «في» حتى «هذه ما تقدَّمَ في نظائرِها مِنْ كونِها: حرفَ جرٍّ أو حرفَ ابتداءٍ، وإنما الشأنُ فيما هي غايةٌ له على كلا القولين. فقال الزمخشري:» وفي هذه الآيةِ وجهان: أن تكونَ موصولةً، بالآيةِ التي هي رابِعَتُها، والآيتان اعتراضٌ بينهما، أي: قالوا: أيُّ الفريقينِ خيرٌ مقاماً وأَحْسَنُ نَدِيَّاً، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون، أي: لا يَبْرَحون يقولون هذا القولَ ويَتَوَلَّعُون [به] لا يَتَكَافَوْن عنه إلى أن يُشاهدون الموعودَ رأيَ العينِ «وذكر كلاماً حسناً.
ثم قال:»
والثاني: أن تتصلَ بما يليها، والمعنى أنَّ الذينَ في الضلالةِ ممدودٌ لهم «وذكر كلاماً طويلاً. ثم قال:» إلى أَنْ يُعايِنوا نُصْرَةَ / اللهِ للمؤمنين، أو يشاهدوا السَّاعة ومُقَدِّماتها. فإنْ قلت: «حتى» هذه ما هي؟
632
قلت: هي التي تُحْكى بعدها الجملُ، ألا ترى الجملةَ الشرطيةَ واقعةً بعدها، وهي ﴿إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ... فَسَيَعْلَمُونَ﴾.
قال الشيخ: - مُسْتبعداً للوجه الأول- «وهو في غاية البُعْدِ لطولِ الفَصْلِ بين قولِه:» قالوا أيُّ الفريقينِ «وبين الغايةِ، وفيه الفصلُ بجملتيْ اعتراَس ولا يُجيزه أبو علي». وهذا الاستبعادُ قريبٌ. وقال أبو البقاء: «حتى» يُحْكَى ما بعدها ههنا، وليست متعلقةً بفعلٍ «.
قوله: ﴿إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة﴾ قد عَرَفْتَ [ما] في»
إمَّا «: من كونِها حرفَ عطفٍ أولا، ولا خلاف أن أحدَ معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة. و» العذابَ «و» الساعةَ «بدلانِ مِنْ قوله: ﴿مَا يُوعَدُونَ﴾ المنصوبةِ ب» رَأَوْا «و» فَسَيَعْلمون «جوابُ الشرط.
و ﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ يجوز أَنْ تكونَ»
مَنْ «موصولةً بمعنى الذي، وتكونَ مفعولاً ل» يَعْلَمون «. ويجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» هو «مبتدأُ ثانٍ، و» شَرٌّ «خبرُه، والمبتدأُ والخبرُ خبرُ الأول. ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُعَلَّقةً لفعل الرؤيةِ فالجملةُ في محلِّ نصبٍ على التعليق.
633
قوله: ﴿وَيَزِيدُ الله﴾ : في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، فإنها سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقال
633
الزمخشري: «إنها معطوفةٌ على موضعِ» فَلْيَمْدُدْ «لأنه واقعٌ موقعَ الخبر، تقديرُه:» مَنْ كان في الضلالة مَدَّ - أو يَمُدُّ - له الرحمنُ ويَزيدُ «. قال الشيخ: ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ» ويَزيدُ «معطوفاً على» فَلْيَمْدُدْ «سواءً كان دعاءً أم خبراً بصورةِ الأمر؛ لأنه في موضع الخبرِ إنْ كانت» مَنْ «موصولةً، أو في موضعِ الجوابِ إن كانت» مَنْ «شرطيةً، وعلى كلا التقديرين فالجملةُ مِنْ قولِه:» ويزيدُ اللهُ الذين اهتدَوا هدىً عاريةٌ من ضميرٍ يعود على «مَنْ» يَرْبِطُ جملةَ الخبرِ بالمبتدأ، أو جملةَ الشرطِ بالجزاء الذي هو «فَلْيَمْدُدْ» وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّ المعطوفَ على الخبر خبرٌ، والمعطوفَ على جملةِ الجزاءِ جزاءٌ. وإذا كانت اداةُ الشرطِ اسماً لا ظرفاً تَعَيَّنَ أَنْ يكونَ في جملة الجزاءِ ضميرُه أو ما يقوم مَقامه، وكذا في الجملةِ المعطوفةِ عليها «.
قلت: وقد ذكر أبو البقاء أيضاً كما ذكر الزمخشري. وقد يُجاب عمَّا قالاه: بأنَّا نختار على هذا التقدير أَنْ تكونَ»
مَنْ «شرطيةً. قوله:» لا بُدَّ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ غيرِ الظرف «ممنوعٌ لأنَّ فيه خلافاً قدَّمْتُ تحقيقَه وما يُسْتَدَلُّ به عليه في سورة البقرة. فقد يكون الزمخشريُّ وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يُشْتَرَطُ.
634
قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ : عطفٌ بالفاء إيذاناً بإفادةِ التعقيبِ كأنه قيل: أَخْبَرَ أيضاً بقصة هذا الكافر عَقِيْبَ قصةِ أولئك. و «أَرَأَيْتَ» بمعنى أَخْبَرَني كما قد عَرَفْتَه. والموصولُ هو المفعول الأول، والثاني هو الجملةُ
634
الاستفهاميةُ مِنْ قولِه ﴿أَطَّلَعَ الغيب﴾ و «لأُوْتَيَنَّ» جوابُ قسمٍ مضمرٍ، والجملةُ القسميةُ كلُّها في محلِّ نصبٍ بالقول.
وقوله هنا: «وَوَلداً» وفيها ﴿قَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾ [مريم: ٨٨، ٩١]. موضعان. وفي الزخرف ﴿إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ﴾ [الآية: ٨١] وفي نوح ﴿مَالُهُ وَوَلَدُهُ﴾ [الآية: ٢١]. قرأ الأربعةَ الأخَوان بضم الواو وسكونِ اللام. وافقهما ابن كثير وأبو عمرو... على الذي في نوحٍ دون السورتين، والباقون وهم نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ قرؤوا ذلك كلَّه بفتح الواو واللام.
فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحةٌ وهو اسمٌ مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع. وأمَّا قراءةُ الضمِّ والإِسكانِ، فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى، يقال: وَلَدَ ووُلْد، كما يقال: عَرَب وعُرْب، وعَدَمَ وعُدْم. وقيل: بل هي جمع لوَلَد نحو: أَسَد وأُسْد، وأَنْشَدوا على ذلك:
635
وأنشدوا شاهداً على أنَّ الوَلَدَ والوُلْد مترادِفان الآخر:
٣٢٥ - ٣- ولقد رَأَيْتُ معاشراً قد ثَمَّروا مالاً وَوُلْدا
٣٢٥ - ٤- فَلَيْتَ فلاناً كان في بَطْنِ أمِّه وليت فلاناً كان وُلْدَ حمارِ
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر «ووِلْدا» بكسر الواو، وهي لغةٌ في الوَلَد، ولا يَبْعُدُ أَنْ يكون هذا من باب الذَّبْح والرَّعْي، فيكون وِلْدٌ بمعنى مَوْلود، وكذلك في الذي بفتحتين نحو: القَبَض بمعنى المَقْبوض.
636
قوله: ﴿أَطَّلَعَ﴾ : هذه همزةُ استفهامٍ سَقَطَ من أجلها همزةُ الوصل. وقد قُرِئ بسقوطِها دَرْجاً وكَسْرِها ابتداءً على أنَّ همزةَ الاستفهام قد حُذِفَتْ لدلالةِ «أم» عليها كقوله:
٣٢٥ - ٥- لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإن كنتُ دارِيا بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
واطَّلع مِنْ قولِهم: اطَّلَعَ فلانٌ الجبلَ، أي: ارتقى أَعْلاه. قال جرير:
636
ف «الغيبَ»، مفعول به، لا على إسقاط حرف الجر، أي: على الغيبِ، كما زعمه بعضُهم.
637
قوله: ﴿كَلاَّ﴾ : للنحويين في هذه اللفظةِ ستةُ مذاهبَ. أحدها: - وهو مذهبُ جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس - أنها حرفُ رَدْعٍ وزَجْر، وهذا معنىً لائقٌ بها حيث وَقَعَتْ في القرآن، وما أحسنَ ما جاءَتْ في هذه الآيةِ حيث زَجَرَتْ وَرَدَعَتْ ذلك القائلَ/. والثاني: - وهو مذهبُ النَّضْر بن شميل أنها حرفُ تصديقٍ بمعنى نعم، فتكون جواباً، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ أَنْ يتقدَّمَها شيءٌ لفظاً أو تقديراً. وقد تُسْتعمل في القسم. والثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصير بن يوسف وابن واصل - أنها بمعنى حقاً. والرابع - وهو مذهبُ أبي عبد الله محمد بن الباهلي- أنها رَدٌّ لما قبلها وهذا قريبٌ من معنى الرَّدْع. الخامس: أنها صلةٌ في الكلام بمعنى «إي» كذا قيل. وفيه نظرٌ فإنَّ «إي» حرفُ جوابٍ ولكنه مختصٌّ بالقسم. السادس: أنها حرفُ استفتاحٍ وهو قولُ أبي حاتم. ولتقريرِ هذه المواضعِ موضوعٌ هو أليقُ بها قد حققتُها بحمدِ الله تعالى فيه.
637
وقد قُرِئ هنا بالفتح والتنوين في «كَلاَّ» هذه، وتُرْوى عن أبي نُهَيْك. وسيأتي لك ان الزمخشريَّ يحكي هذه القراءةَ ويَعْزِيْها لابن نُهَيْك في قوله: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ﴾ [مريم: ٨٢] ويحكي أيضاً قراءةً بضم الكاف والتنوين، ويَعْزِيْها لابن نهيك أيضاً. فأمَّا قولُه: «ابن نهيك» فليس لهم ابنُ نهيك، إنما لهم ابو نُهَيْك بالكُنْية.
وفي قراءةِ الفتحِ والتنوينِ أربعةُ اوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظها تقديرُه: كَلُّوا كَلاًّ، أي: أَعْيَوْا عن الحق إعْياءً، أو كَلُّوا عن عبادةِ الله لتهاونِهم بها، من قولِ العرب: «كَلَّ السيفُ» إذا نَبا عن الضَّرْب، وكَلَّ زيد، أي: تَعِبَ. وقيل: المعنى: كَلُّوا في دَعْواهم وانقطعوا. والثاني: أنَّه مفعولٌ به بفعلٍ مقدرٍ من معنى الكلام تقديره: حَمَلُوا كَلاَّ، والكَلُّ أيضاً: الثَّقْل. تقول: فلان كَلٌّ على الناس، ومنه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ﴾ [النحل: ٧٦] والثالث: أنَّ التنوينَ بدلٌ مِنْ ألف «كَلاَّ» وهي التي يُراد بها الرَّدْعُ والزَّجْر، فيكونُ صَرْفاً أيضاً.
قال الزمخشري: «ولقائلٍ أَنْ يقول: إنْ صَحَّتْ هذه الروايةُ فهي» كَلاَّ «التي للردع، قَلَبَ الواقفُ عليها ألفَها نوناً كما في قوله: ﴿قَوَارِيرَاْ﴾ [الإِنسان: ١٥]. قال الشيخ:» وهذا ليس بجيد لأنه قال: «التي للرَّدْع» والتي للرَّدْعِ حرفٌ
638
ولا وجهَ لقَلْبِ ألفِها نوناً، وتشبيهُه ب «قواريراً» ليس بجيدٍ لأن «قواريراً» اسمٌ رُجِعَ به إلى أصلِه، فالتنوينُ ليس بدلاً مِنْ ألف بل هو تنوينُ الصَّرْف، وهذا الجمعُ مختلفٌ فيه: أيتحتَّم مَنْعُ صَرْفِه أم يجوز؟ قولان ومنقول أيضاً أنَّ لغةَ بعضِ العرب يصرفون ما لا يَنْصَرِفُ فهذا القولُ: إمَّا على قولِ مَنْ لا يَرَى بالتحتُّم، أو على تلك اللغة «.
والرابع: أنه نعتٌ ل»
آلهة «قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ، إذ ليس المعنى على ذلك. وقد يظهر له وجهٌ: أن يكونَ قد وَصَفَ الآلهة بالكَلِّ الذي هو المصدرُ بمعنى الإِعياءُ والعَجْز، كأنه قيل: آلهةً كالَّيْنَ، أي: عاجِزين منقطعين، ولمَّا وَصَفهم بالمصدر وَحَّده.
639
قوله :﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ [ مريم : ٨٠ ] يجوز في " ما " وجهان ؛ أحدهما : أَنْ تكونَ مفعولاً بها. والضميرُ في " نَرِثُه " منصوبٌ على إسقاط الخافضِ تقديرُه : ونَرِثُ منه ما يقولُه. الثاني : أن تكونَ بدلاً من الضمير في " نَرِثُه " بدلَ الاشتمال. وقدَّر بعضُهم مضافاً قبل الموصولِ، أي : نَرِثُه معنى ما يقول، أو مُسَمَّى ما يقول، وهو المال والولد ؛ لأنَّ نفس القول لا يُورَّث.
و " فَرْداً : حال : إمَّا مقدَّرةٌ نحو :﴿ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ] أو مقارنةِ، وذلك مبنيٌّ على اختلافٍ في معنى الآية مذكور في الكشاف.
والضمير في ﴿ سَيَكْفُرُونَ ﴾ يجوز أن يعودَ على الآلهةِ لأنه أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ الضميرَ في " يكونون " أيضاً عائدٌ عليهم فقط. ومثلُه :﴿ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ ﴾ [ النحل : ٨٦ ] ثم قال :﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾. وقيل : يعود على المشركين ". ومثلُه قولُه :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]. إلا أنَّ فيه عَدَمَ توافقِ الضمائرِ إذ الضميرُ في " يكونون " عائدٌ على الآلهة، و " بعبادتهم " مصدرٌ مضافٌ إلى فاعِلِه إنْ عاد الضميرُ في " عبادتهم " على المشركين العابدين، وإلى المفعولِ إنْ عاد إلى الآلهة.
وقوله :" ضِدَّاً " إنما وَحَّده، وإن كان خبراً عن جَمْع، لأحدِ وجهين : إمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذَكَّرَةٌ، وإمَّا لأنه مفردٌ في معنى الجمع. قال الزمخشري :" والضِّدُّ : العَوْنُ، وُحِّدَ توحيدَ " وهم يَدٌ على مَنْ سواهم " لاتفاق كلمتِهم، وأنَّهم كشيءٍ واحدٍ لفَرْطِ تَضَامَّهم وتوافُقِهم والضِّدُّ : العَوْن والمُعاوَنَة. ويقال : مِنْ أضدادكم، أي : أَعْوانكم ". قيل : وسُمِّي العَوْنُ ضِدَّاً لأنه يُضادُّ مَنْ يُعاديك ويُنافيه بإعانتِك له عليه. وفي التفسير : أنَّ الضدَّ هنا الأعداءُ. وقيل : القِرْن. وقيل : البلاءُ وهذه تناسِبُ معنى الآية.
وروى ابن عطية والدانيُّ وغيرُه عن أبي نهيك أنه قرأ «كُلاَّ» بضم الكافِ والتنوين. وفيها تأويلان، أحدهما: أن ينتصِبَ على الحالِ، أي: سيكفرون جميعاً. كذا قَدَّره أبو البقاء واستبعدَه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، أي: يَرْفُضون أو يَجْحَدون أو يُتْرَكُون كُلاًّ، قاله ابن عطية.
وحكى ابن جرير أنَّ أبا نهيك قرأ «كُلٌّ» بضم الكاف ورفع اللام منونةً على أنَّه مبتدأ، والجملةُ الفعليةُ بعد خبرُه. وظاهرُ عبارةِ هؤلاء أنه لم يُقرأ بذلك إلا في «كُلاَّ» الثانية.
639
وقرأ عليٌّ بن أبي طالب «ونُمِدُّ» مِنْ أمَدَّ. وقد تقدَّم القولُ في مَدَّه وأمدَّه:
قوله: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ [مريم: ٨٠] يجوز في «ما» وجهان؛ أحدهما: أَنْ تكونَ مفعولاً بها. والضميرُ في «نَرِثُه» منصوبٌ على إسقاط الخافضِ تقديرُه: ونَرِثُ منه ما يقولُه. الثاني: أن تكونَ بدلاً من الضمير في «نَرِثُه» بدلَ الاشتمال. وقدَّر بعضُهم مضافاً قبل الموصولِ، أي: نَرِثُه معنى ما يقول، أو مُسَمَّى ما يقول، وهو المال والولد؛ لأنَّ نفس القول لا يُورَّث.
و «فَرْداً: حال: إمَّا مقدَّرةٌ نحو: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] أو مقارنةِ، وذلك مبنيٌّ على اختلافٍ في معنى الآية مذكور في الكشاف.
والضمير في ﴿سَيَكْفُرُونَ﴾ يجوز أن يعودَ على الآلهةِ لأنه أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ الضميرَ في»
يكونون «أيضاً عائدٌ عليهم فقط. ومثلُه: ﴿وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾ [النحل: ٨٦] ثم قال: ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾. وقيل: يعود على المشركين». ومثلُه قولُه: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]. إلا أنَّ فيه عَدَمَ توافقِ الضمائرِ إذ الضميرُ في «يكونون» عائدٌ على الآلهة، و «بعبادتهم» مصدرٌ مضافٌ إلى فاعِلِه إنْ عاد الضميرُ في «عبادتهم» على المشركين العابدين، وإلى المفعولِ إنْ عاد إلى الآلهة.
640
وقوله: «ضِدَّاً» إنما وَحَّده، وإن كان خبراً عن جَمْع، لأحدِ وجهين: إمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذَكَّرَةٌ، وإمَّا لأنه مفردٌ في معنى الجمع. قال الزمخشري: «والضِّدُّ: العَوْنُ، وُحِّدَ توحيدَ» وهم يَدٌ على مَنْ سواهم «لاتفاق كلمتِهم، وأنَّهم كشيءٍ واحدٍ لفَرْطِ تَضَامَّهم وتوافُقِهم والضِّدُّ: العَوْن والمُعاوَنَة. ويقال: مِنْ أضدادكم، أي: أَعْوانكم». قيل: وسُمِّي العَوْنُ ضِدَّاً لأنه يُضادُّ مَنْ يُعاديك ويُنافيه بإعانتِك له عليه. وفي التفسير: أنَّ الضدَّ هنا الأعداءُ. وقيل: القِرْن. وقيل: البلاءُ وهذه تناسِبُ معنى الآية.
641
قوله: ﴿أَزّاً﴾ : مصدر مؤكِّدٌ والأَزُّ والأَزيز والهَزُّ والاستفزاز. قال الزمخشري: «أَخَواتٌ، وهو التَّهِييجُ وشِدَّةُ الإِزعاج». والأزُّ أيضاً: شِدَّة الصوتِ، ومنه «أَزَّ المِرْجَلُ أَزَّاً» وأَزِيْزاً: أي: غلا واشتد غَلَيانُه حتى سُمع له صوتٌ. وفي الحديث: «فكان له أَزِيز»، أي: للجِذْع حين فارقه النبيُّ [صلى الله] عليه وسلم.
قوله: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ﴾ : منصوبٌ ب «سَيَكْفرون» أو ب «يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أو ب» نَعُدُّ «تَضَمَّن معنى المجازاة، أو بقوله:» لا يَمْلكون «الذي بعده، أو بمضمرٍ وهو» اذْكُرْ «أو احْذَرْ. وقيل: هو معمولٌ لجوابِ سؤالٍ مقدرٍ، كأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: يكون
641
يوم يُحْشَرُ. وقيل: / تقديرُه: يوم نَحْشُر ونَسُوق نَفْعَلُ بالفريقين ما لا يٌحيط به الوصفُ.
قوله:» وَفْداً «نصبٌ على الحال، وكذلك» وِرْداً «. والوَفْدُ: الجماعة الوافِدُون. يُقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً وَوُفُوداً ووِفادَةً، أي: قَدِمَ على سبيل التَّكرِمة، فهو في الأصل مصدرٌ ثم أُطْلِق على الأشخاصِ كالصَّفِّ. وقال أبو البقاء:» وَفْدُ جُمعُ وافِد مثلَ راكِب ورَكْب وصاحِب وصَحْب «وهذا الذي قاله ليس مَذهبَ سيبويه لأنَّ فاعِلاً لا يُجْمَعُ على فَعْل عند سيبويه. وأجازه الأخفش. فأمَّا رَكْبٌ وصَحْبٌ فأسماءُ جمعٍ لا جَمْعٌ بدليلِ تصغيرها على ألفاظها، قال:
٣٢٥ - ٧- أَخْشَى رُجَيْلاً ورُكَيْباً غادِيا... فإن قلت: لعلَّ أبا البقاء أراد الجمعَ اللغويَّ. فالجواب: أنَّه قال بعد قوله:»
والوِرْدُ اسمٌ لجمعِ وارِد «فَدَلَّ على أنه قصد الجمعَ صناعةً المقابلَ لاسمِ الجمع.
642
والوِرْدُ: اسمٌ للجماعةِ العِطاشِ الوارِدينَ للماءِ، وهو في الأصلِ أيضاً مصدرٌ أطْلِقَ على الأشخاص يقال: وَرَدَ الماءَ يَرِدُه وِرْداً
642
ووُرُوْداً. قال الشاعر:
٣٢٥ - ٦-........................... لا قَيْتُ مُطَّلَعَ الجِبالِ وُعُوْرا
٣٢٥ - ٨- رِدِي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمَّا كُدْرِيَّةٍ أَعٍجَبَها بَرْدُ المَا
وقال أبو البقاء: «هو اسمٌ لجمعِ وارِد. وقيل: هو بمعنى وارِد. وقيل هو محذوفٌ مِنْ» وارِد «وهو بعيدٌ» يعني أنه يجوز أَنْ يكونَ صفةً على فِعْل.
وقرأ الحسن والجحدريُّ «يُحْشَر المتقون، ويُساق المجرمون» على ما لم يُسَمَّ فاعلُه.
643
قوله: ﴿لاَّ يَمْلِكُونَ﴾ : في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم. وفي هذه الواوِ قولان، أحدهما: أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميراً البتَة، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ «أكلوني البراغيث» والفاعلُ «مِنْ اتَّخَذَ» لأنه في معنى الجمع. قاله الزمخشري. وفيه بُعْدٌ، وكأنه قيل: لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْداً. قال الشيخ: «ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ جَعْلِ الواوِ ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن ابنُ عصفور: إنها لغة ضعيفة».
643
قلت: قد قالوا ذلك في قوله تعالى: ﴿عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣] فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ.
ثم قال الشيخ: «وأيضاً فالألفُ والواوُ والنونُ التي تكون علاماتٍ لا ضمائرَ لا يُحْفَظُ ما يجيءُ بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع وصريحِ التثنية أو العطفِ، أمَّا أنْ يأتيَ بلفظٍ مفردٍ، ويُطلَقَ على جمع أو مثنى، فيُحتاج في إثباتِ مثلِ ذلك إلى نَقْلِ. وأمَّا عُوْدُ الضمائرِ مثناةً أو مجموعةً على مفردٍ في اللفظِ يُراد به المثنى والمجموعُ فمسموعٌ معروفٌ في لسانِ العرب، على أنه يمكنُ قياسُ هذه العلاماتِ على تلك الضمائرِ، ولكن الأَحْوَطَ أن لا يُقال إلا بسماعٍ».
والثاني: أن الواوَ ضميرٌ. وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: انها تعودُ على الخَلْق جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين - المُتَّقين والمجرمين - عليهم، إذ هما قِسْماه. والثاني: أنه يعودُ على المتقين والمجرمين، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلاً لأنَّ هذين القسمين هما الخَلْقُ كله. والثالث: أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط، وهو تَحَكُّمٌ. قوله: ﴿إِلاَّ مَنِ اتخذ﴾ هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ.
وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران: إمَّا على الرفعُ على البدلِ، وإمَّا النصبُ على
644
أصلِ الاستثناء. وإنْ قيل: إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعاً، وفيه حينئذٍ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل.
وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من «الشفاعة» على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: لا يملكونَ الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ، فيكون نصبُه على وَجْهَي البدلِ وأصلِ الاستثناء، نحو: «ما رأيت أحداً إلا زيداً». وقال بعضُهم: إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ: لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْداً، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر:
٣٢٥ - ٩- نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا
أي: ولم يَنْجُ شيءٌ.
وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناءَ متصلاً وإن عاد الضميرُ في ﴿لاَّ يَمْلِكُونَ﴾ على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين. قال الشيخ: «وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ». قلت: ولا بُعْدَ فيه، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه.
645
قوله: ﴿شَيْئاً إِدَّاً﴾ : العامَّةُ على كسر الهمزة مِنْ «إدَّاً»
645
وهو الأمرُ العظيمُ المنكَرُ المتعجَّبُ منه. وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخَرَّجوه على حَذْفِ مضاف، أي: شيئاً أدَّاً، لأنَّ الأدَّ بالفتحِ مصدرٌ يُقال: أدَّه الأمرُ، وأدَّني يَؤُدُّني أدَّاً، أي: أَثْقَلني. وكان الشيخ ذكر أنَّ الأَدَّ والإِدَّ بفتح الهمزةِ وكسرِها هو العَجَبُ. وقيل: هو العظيم المُنْكَر، والإِدَّة: الشِّدَّة/. وعلى قوله: «وإن الإِدَّ والأدَّ بمعنى واحد» ينبغي أَنْ لا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف، إلا أَنْ يريدَ أنه أراد بكونِهما بمعنى العَجَب في المعنى لا في المصدرية وعَدَمِها.
646
قوله: ﴿تَكَادُ﴾ : قرأ نافع والكسائي بالياءِ من تحتُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وهما واضحتان إذ التأنيثُ مجازِيٌّ، وكذلك في سورة الشورى.
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ وحمزةَ «يَنفَطِرْنَ» مضارع انْفَطَرَ. والباقون «يتفطَّرْن» مضارعَ تَفَطَّرَ بالتشديدِ في هذه السورة. وأمَّا التي في الشورى فقرأها حمزة وابنُ عامرٍ بالتاء والياء وتشديد الطاء والباقون على أصولِهم في هذه السورة. فتلَخَّصَ من ذلك أن أبا عمروٍ وأبا بكر يقرآن بالتاء والنون في السورتين، وأن نافعاً وابن كثير والكسائيَّ
646
وحفصاً عن عاصم يقرؤون بالتاء والياء وتشديد الطاء فيهما، وانَّ حمزة وابن عامر في هذه السورةِ بالتاء والنون، وفي الشورى بالتاء والياء وتشديد الطاء.
فالانفِطارُ مِنْ «فَطَرَه» إذا شَقَّه، والتفطُّر مِنْ «فطَّره» إذا شَقَّقَه، وكَرَّر فيه الفعلَ. قال أبو البقاء: «وهو هنا أَشْبَهُ بالمعنى». أي: التشديد. و «يَتَفَطَّرْنَ» في محلِّ نصب خبراً ل «تكادُ» وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإِرادة وأنشد:
٣٢٦ - ٠- كادَتْ وكِدْتُ وتلك خيرُ إرادةٍ لو عادَ مِنْ زمنِ الصَّبابةِ ما مَضَى
قوله: «هَدَّاً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أي: مَهْدُودَةً وذلك على أن يكونَ هذا المصدرُ مِنْ هدَّ زيدٌ الحائطَ يَهُدُّه هَدَّاً، أي: هَدَمه. والثاني: وهو قولُ أبي جعفر أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ لمَّا كان في معناه لأنَّ الخُرورَ السُّقوطُ والهَدْمُ، وهذا على أن يكون مِنْ هَدَّ الحائطُ يَهِدُّ، أي: انهدمَ، فيكون لازماً. والثالث: أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله. قال الزمخشريُّ: «أي: لأنَّها تُهَدُّ».
647
قوله: ﴿أَن دَعَوْا﴾ : في محلِّه خمسةُ اوجه، أحدها: أنه في محلِّ نصبٍ على المفعولِ مِنْ أجله. قاله أبو البقاء والحوفي، ولم يُبَيِّنا: ما العاملُ فيه؟ ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ «تكاد» أو «تَحِزُّ» أو «هَدَّاً» أي: تَهِدُّ لأَنْ دَعَوْا، ولكنَّ شَرْطَ النصبِ فيها مفقودٌ وهو اتِّحادُ الفاعلِ في المفعولِ له والعاملِ فيه، فإن عَنَيَا أنه على إسقاطِ اللامِ - وسقوطُ اللامِ يَطَّرِدُ مع أنْ - فقريبٌ. وقال الزمخشري: «وأَنْ يكونَ منصوباً بتقديرِ سقوطِ اللام وأفضاءِ الفعلِ، أي: هدَّاً لأَنْ دَعَوْا، عَلَّلَ الخرورَ بالهدِّ، والهدِّ بدعاءِ الوَلَدِ للرحمن». فهذا تصريحٌ منه بأنَّه على إسقاطِ الخافضِ، وليس مفعولاً له صريحاً.
الوجه الثاني: أَنْ يكونَ مجروراً بعد إسقاطِ الخافض، كما هو مذهبُ الخليلِ والكسائي.
والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في «مِنْه» كقولِه:
٣٢٦ - ١- على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً على جودِهِ لضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
بجر «حاتم» الأخير بدلاً من الهاء في «جودِه». قال الشيخ: «وهو بعيدٌ لكثرةِ الفصلِ بين البدلِ والمبدلِ منه بجملتين».
648
الوجه الرابع: أَنْ يكونَ مرفوعاً ب «هَدَّاً». قال الزمخشري أي: هَدَّها دعاءُ الولدِ للرحمن «. قال الشيخ:» وفيه بُعْدٌ لأنَّ الظاهرَ في «هَدَّاً» أن يكونَ مصدراً توكيدياً، والمصدرُ التوكيديُّ لا يعملُ، ولو فَرَضْناه غيرَ توكيديّ لم يَعْمَلْ بقياسٍ إلا إنْ كان أمراً أو مستفهماً عنه نحو: «ضَرْباً زيداً» و «أضَرْباً زيداً» على خلافٍ فيه. وأمَّا إنْ كان خبراً، كما قدَّره الزمخشري «أي: هَدَّها دعاءُ الوَلَدِ للرحمن» فلا يَنْقاس، بل ما جاءَ من ذلك هو نادرٌ كقولِ امرِئ القيس:
٣٢٦ - ٢- وُقوفاً بها صَحْبِيْ عليَّ مطيَّهم... يقولون: لا تَهْلَِكَ أَسَىً وتجمَّلِ
أي: وقف صحبي.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: المٌوْجِبُ لذلك دعاؤهم، كذا قَدَّره أبو البقاء.
و «دَعا» يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويجوز جَرُّ ثانيهما بالباءِ. قال الشاعر:
649
وقول الآخر:
٣٢٦ - ٣- دَعَتْنِي أخاها أمُّ عمروٍ ولم أكنْ أخاها ولم أَرْضَعْ بلَبانِ
دَعَتْني أخاها بعد ما كان بينَنا من الفعلِ ما لا يَفْعَلُ الأَخَوانِ
٣٢٦ - ٤- ألا رُبَّ من يُدْعَى نَصيحاً وإنْ يَغِبْ تَجِدْه بغَيْبٍ منكَ غيرَ نَصِيْحِ
وأوَّلُهما في الآية محذوفٌ. قال الزمخشري: «طلباً للعموم والإِحاطة بكلِّ ما يُدْعَى له ولداً. ويجوز أن يكونَ مِنْ» دعا «بمعنى نَسَبَ الذي مُطاوِعُه ما في قولِه عليه السلام» مَنِ ادَّعَى إلى غير مَوالِيه «وقول الشاعر:
٣٢٦ - ٥- إنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعِيْ لأَبٍ عنه ولا هو بالأَبْناءِ يَشْرِيْنا
أي: لا نَنْتَسِبُ إليه.
650
و ﴿يَنبَغِي﴾ : مضارع انْبَغَى. وانْبَغَى مطاوعٌ لبَغَى، أي: طَلَبَ، و ﴿أَن يَتَّخِذَ﴾ فاعلُه. وقد عَدَّ ابن مالك «يَنْبَغي» في الأفعالِ التي لا تَتَصَرَّف. وهو مردودٌ عليه، فإنه قد سُمِعَ فيه في الماضي قالوا: انْبَغَى.
قوله: ﴿مَن فِي السماوات﴾ : يجوز في «مَنْ» أن تكونَ نكرةً موصوفة، وصفتُها الجارُّ بعدها. ولم يذكر أبو البقاء غيرَ ذلك، وكذلك الزمخشري. إلا أنَّ ظاهرَ عبارتِه يقتضي أنه لا يجوز / غيرُ ذلك، فإنه قال: «مَنْ موصوفةٌ؛ فإنها وقعَتْ بعد كل نكرةٍ وقوعَها بعد» رُبَّ «في قولِه:
٣٢٦ - ٦- رُبَّ مَنْ أنضجْتُ غيظاً صدرَه ....................................
انتهى. ويجوز أن تكونَ موصولةً. قال الشيخ:»
أي: ما كلُّ الذي في السماوات، و «كُلٌّ» تدخلُ على «الذي» لأنها تأتي للجنسِ كقولِه تعالى: ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: ٣٣] ونحوه:
٣٢٦ - ٧- وكلُّ الذي حَمَّلْتني أَتَحَمَّلُ ..................................
يعني أنَّه لا بدَّ مِنْ تأويلِ الموصول بالعموم حتى تَصِحَّ إضافةُ «كل» إليه، ومتى أُريد به معهودٌ بعينِه شَخَص واستحال إضافةُ «كل» إليه.
و ﴿آتِي الرحمن﴾ خبرُ «كلُّ» جُعِل مفرداً حَمْلاً على لفظِها ولو جُمع لجاز وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعِ أنها متى أُضيفت لمعرفةٍ جاز الوجهان. وقد
651
تكلَّم السهيليُّ في ذلك فقال: «كُلٌّ» إذا ابْتُدِئَتْ، وكانتْ مضافةً لفظاً - يعني لمعرفةٍ - فلا يَحْسُنُ إلا إفرادُ الخبرِ حَمْلاً على المعنى. تقول: كلُّكم ذاهبٌ، أي: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، هكذا هذه المسألةُ في القرآنِ والحديثِ والكلامِ الفصيح. فإنْ قلت: في قولِه: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ﴾ [مريم: ٩٥] إنما هو حَمْلٌ على اللفظ لأنه اسمٌ مفردٌ. قلنا: بل هو اسم للجمع، واسمُ الجمع لا يُخْبَرُ عنه بإفراد. تقول: «القومُ ذاهبون» ولا تقولُ: ذاهبٌ، وإن كان لفظُ «القوم» لفظَ المفردِ. وإنما حَسُن «كلُّكم ذاهب» لأنهم يقولون: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، فكان الإِفرادُ مراعاةً لهذا المعنى «.
قال الشيخ:»
ويَحتاج «كلُّكم ذاهبون» ونحوُه إلى سَماعٍ ونَقْلٍ عن العرب «. يُقَرِّر ما قاله السهيليُّ. قلت: وتسميةُ الإِفرادِ حَمْلاً على المعنى غيرُ الاصطلاحِ، بل ذلك حَمْلٌ على اللفظ، الجمعُ هو الحَمْلُ على المعنى.
وقال أبو البقاء:»
وَوُحِّدَ «آتِيْ» حَمْلاً على لفظ «كل» وقد جُمِعَ في موضعٍ آخرَ حَمْلاً على معناها «. قلت: قوله في موضعٍ آخرَ إنْ عَنَى في القرآن فلم يأتِ الجمعُ إلا» وكلٌّ «مقطوعةٌ عن الإِضافة نحو: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧] وإنْ عَنَى في غيرِه فيَحْتاج إلى سماعٍ عن العرب كما تقدَّم.
652
والجمهورُ على إضافة» آتِي «إلى» الرحمن «. وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصبِ» الرحمن «.
وانتصبَ»
عَبْداً «و» فَرْداً «على الحال.
653
فإنْ قلت : في قولِه :﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ ﴾ [ مريم : ٩٥ ] إنما هو حَمْلٌ على اللفظ لأنه اسمٌ مفردٌ. قلنا : بل هو اسم للجمع، واسمُ الجمع لا يُخْبَرُ عنه بإفراد. تقول :" القومُ ذاهبون " ولا تقولُ : ذاهبٌ، وإن كان لفظُ " القوم " لفظَ المفردِ. وإنما حَسُن " كلُّكم ذاهب " لأنهم يقولون : كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، فكان الإِفرادُ مراعاةً لهذا المعنى ".
قال الشيخ :" ويَحتاج " كلُّكم ذاهبون " ونحوُه إلى سَماعٍ ونَقْلٍ عن العرب ". يُقَرِّر ما قاله السهيليُّ. قلت : وتسميةُ الإِفرادِ حَمْلاً على المعنى غيرُ الاصطلاحِ، بل ذلك حَمْلٌ على اللفظ، الجمعُ هو الحَمْلُ على المعنى.
وقال أبو البقاء :" وَوُحِّدَ " آتِيْ " حَمْلاً على لفظ " كل " وقد جُمِعَ في موضعٍ آخرَ حَمْلاً على معناها ". قلت : قوله في موضعٍ آخرَ إنْ عَنَى في القرآن فلم يأتِ الجمعُ إلا " وكلٌّ " مقطوعةٌ عن الإِضافة نحو :﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٣ ] ﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [ النمل : ٨٧ ] وإنْ عَنَى في غيرِه فيَحْتاج إلى سماعٍ عن العرب كما تقدَّم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والجمهورُ على إضافة " آتِي " إلى " الرحمن ". وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصبِ " الرحمن ".
وانتصبَ " عَبْداً " و " فَرْداً " على الحال.

قوله: ﴿وُدّاً﴾ : العامَّةُ على ضمِّ الواوِ. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن حبيش بكسرِها، فَيُحتمل أَنْ يكونَ المفتوحُ مصدراً، والمضمومُ والمكسورُ اسمين.
قوله: ﴿بِلِسَانِكَ﴾ : يجوز أن يكونَ متعلِّقاًَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ. واللِّسان هنا: اللغةُ، أي: نَزَّلناه كائِناً بلسانِكَ. وقيل: هي بمعنى على، وهذا لا حاجةَ إليه بل لا يظهرُ له معنى.
و «لُدَّاً» جمع أَلَدّ «وهو الشديدُ الخصومةِ كالحُمْر جمعَ أَحْمر.
وقرأ الناسُ «تُحِسُّ» بضمِّ التاء وكسرِ الحاء مِنْ أَحَسَّ. وقرأ أبو حيوةَ وأبو جعفرٍ وابن أبي عبلة «تَحُسُّ» بفتح التاء وضم الحاء. وقرأ بعضُهم «تَحِسُّ» بالفتح والكسر، من حَسَّه، أي: شَعَرَ به، ومنه «الحواسُّ الخَمس».
و «منهم» حالٌ مِنْ «أحد» إذ هو في الأصلِ صفةٌ له، و «مِنْ أحدٍ» مفعولٌ زِيْدَتْ فيه «مِنْ».
653
وقرأ حنظلةُ «تُسْمَعُ» مضمومَ التاء، مفتوحَ الميمِ مبنياً للمفعولِ، و «رِكْزاً» مفعولٌ على كلتا القراءتين إلا أنه مفعولٌ ثانٍ في القراءة الشاذة. والرِّكْزُ الصوت الخفي دونَ نطقٍ بحروفٍ ولا فمٍ، ومنه «رَكَزَ الرمحَ»، أي: غَيَّبَ طَرَفَه في الأرضِ وأَخفاه، ومنه الرِّكازُ، وهو المال المدفونُ لخفائِه واستتارِه. وأنشدوا:
654
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٣٢٦ - ٨- فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الأنيسِ فَرَاعَها عن ظهر غَيْبٍ، والأَنِيْسُ سَقامُها