تفسير سورة مريم

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة مريم من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ كهيعص ﴾. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. كقوله هنا :﴿ كهيعص ﴾ في سورة هود فأغنى عن إعادته هنا.
وقوله ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ﴾ خبر مبتدأ محذوف. أي هذا ذكر رحمة ربك. وقيل : مبتدأ خبره محذوف، وتقديره : فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، والأول أظهر. والقول بأنه خبر عن قوله «كهيعص » ظاهر السقوط لعدم ربط بينهما. وقوله :﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ﴾ لفظة «ذكر » مصدر مضاف إلى مفعوله. ولفظة «رحمة » مصدر مضاف إلى فَاعله وهو «ربك ». وقوله ﴿ عَبْدِهِ ﴾ مفعول به للمصدر الذي هو «رحمة » المضاف إلى فاعله، على حد قوله في الخلاصة :
وبعد جره الذي أضيف له كمل بنصب أو برفع عمله
وقوله «زكريا » بدل من قوله «عبده » أو عطف بيان عليه.
قوله تعالى :﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية : أن هذا الذي يتلى في أول هذه السورة الكريمة هو ذكر الله رحمته التي رحم بها عبده زكريا حين ناداه نداء خفياً أي دعاء في سر وخفية. وثناؤه جل وعلا عليه بكون دعائه خفياً يدل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحاً به في قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾. وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. فقول من قال : إن سبب إخفائه دعاءه أنه خوفه من قومه أن يلوموه على طلب الولد، في حالة لا يمكن فيها الولد عادة لكبر سنه وسن امرأته، وكونها عاقراً. وقول من قال : إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي، فإن أجاب الله دعاءه فيه نال ما كان يريد. وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأقوال، كل ذلك ليس بالأظهر. والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. ودعاء زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة «آل عمران » في قوله :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يشاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ٣٧ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ الآية. فقوله «هنالك » أي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم. وقال بعضهم :«هنالك » أي في ذلك الوقت، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان.
وقوله في دعائه هذا :﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾ أي ضعف. والوهن : الضعف. وإنما ذكر ضعف العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن، لأنه أشد ما فيه وأصلبه، فوهنه يستلزم وهن غيره من البدن.
وقوله :﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾ الألف واللام في «الرأس » قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد : واشتعل رأسي شيبا. والمراد باشتعال الرأس شيباً : انتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزاً، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم الخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مراراً : أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر :
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا وما أرعويت وشيباً رأسي اشتعلا
ومن هذا القبيل قول ابن دريد في مقصورته.
واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضا
وقوله «شيباً » تمييز محول عن الفاعل في أظهر الأعاريب. خلافاً لمن زعم أنه ما ناب عن المطلق من قوله «واشتعل » لأنه اشتعل بمعنى شاب، فيكون «شيباً » مصدراً منه في المعنى ومن زعم أيضاً أنه مصدر منكر في موضع الحال.
وهذا الذي ذكره الله هنا عن زكريا في دعائه من إظهار الضعف والكبر جاء في مواضع أخر. كقوله هنا :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ٨ ﴾، وقوله في «آل عمران » :﴿ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ ﴾ الآية. وهذا الذي ذكره هنا من إظهار الضعف يدل على أنه ينبغي للداعي إظهار الضعف والخشية والخشوع في دعائه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ٤ ﴾ أي لم أكن بدعائي إياك شقيا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، يعني أنك عودتني الإجابة فيما مضى. والعرب تقول : شقى بذلك إذا تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وربما أطلقت الشقاء. على التعب، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ١١٧ ﴾ وأكثر ما يستعمل في ضد السعادة. ولا شك أن إجابة الدعاء من السعادة، فيكون عدم إجابته من الشقاء.
قوله تعالى عن زكريا :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ٥ ﴾.
معنى قوله :﴿ خِفْتُ الْمَوَالِيَ ﴾ أي خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي : أن يضيعوا الدين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام، فأرزقني ولداً يقوم بعدي بالدين حق القيام. وبهذا التفسير تعلم أن معنى قومه «يرثني » أنه إرث وعلم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال.
«يرثني » أنه إرث وعلم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران :
أحدهما قوله ﴿ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لا نورث، ما تركنا صدقه ». ومن ذلك أيضاً ما رواه الشيخان أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير وسعد، وعلي، والعباس، رضي الله عنهم : أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا نورث ما تركنا صدقة »، قالوا : نعم. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن. فقالت عائشة : أليس قال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«ما تركنا صدقة ». ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا تقتسم ورثتي ديناراً، ما تركتُ بعد نَفَقَة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقةٌ » وفي لفظ عند أحمد :«لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ». ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه. عن أبي هريرة : أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه : من يرثك إذا مت ؟ قال : ولدي وأهلي. قالت : فما لنا لا نرث النَّبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول :«إن النَّبي لا يورث » ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين. فإن قيل : هذا مختص به صلى الله عليه وسلم. لأن قوله «لا نورث » يعني به نفسه. كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفاً : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا نورث ما تركنا صدقة » يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقال الرهط : قد قال ذلك الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال : إن مراد النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله «لا نورث » نفسه، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال ؟ فالجواب من أوجه :
الأول أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة. وقول عمر لا يصح تخصيص نص نص من السنة به. لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني أن قول عمر «يريد صلى الله عليه وسلم نفسه » لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضاً.
الوجه الثالث ما جاء من الأحاديث صريحاً في عموم عدم الإرث المال في جميع الأنبياء. وسنذكر طرفاً من ذلك هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث » فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ «نحن » لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ «إنا معاشر الأنبياء لا نورث. » الحديث وأخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور. وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور. وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانئ عن فاطمة رضي الله عنها، عن أبي بكر الصديق بلفظ «إن الأنبياء لا يورثون » انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر. وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء. وقد قال ابن حجر : إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ «نحن » هذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها. وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحاً في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه «لا نورث » أنه يعني نفسه. كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك. قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان :
تصيير مشكل من الجلي وهو واجب على النَّبي
إذا أريد فهمه وهو بما من الدليل مطلقا يجلو العما
وبهذا الذي قررنا تعلم : أن قوله هنا ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ يعني وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾. فتلك الوراثة أيضاً وراثة علم ودين. والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين، كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾، وقوله :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ١٤ ﴾، وقوله :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«العلماء ورثة الأنبياء » وهو في المسند والسنن قال صاحب ( تمييز الطيب من الخبيث، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ) : رواه أحمد أبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم » وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما انتهى منه بلفظه. وقال صاحب ( كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ) :«العلماء ورثة الأنبياء » رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم.. » الحديث، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد. ولذا قال الحافظ : له طرق يعرف بها أن الحديث أصلاً، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة ا ه محل الغرض منه. والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض. فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال : الأول هو ما ذكرنا. والثاني أنها وراثة مال، والثالث : أنها وبالنسبة لآل يعقوب في قوله ﴿ ويرث من آل يعقوب ﴾ وراثة علم ودين.
وهذا اختيار ابن جرير الطبري. وقد ذكر من قال : إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال :«رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته » أي ما يضره إرث ورثته لماله. ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين ؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه. قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ﴾ وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ؛ ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك ؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ؛ فإن النبي أعظم منزلة، وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم وهذا وجه.
الثاني أنه لم يذكر أنه كان ذا مال ؛ بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه. ومثل هذا لا يجمع مالاً، ولاسيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا نورث ما تركنا صدقة » وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث » وعلى هذا فتعين حمل قوله ﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ٥ يَرِثُنِي ﴾ على ميراث النبوة. ولهذا قال ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ كقوله :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة. إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل : أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث :«نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا فهو صدقة »ا ه محل الغرض من كلام ابن كثير، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له «يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله » الحديث. ثم قال في أسانيده : وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح.
واعلم أن لفظ «نحن معاشر الأنبياء » ولفظ «إنا معاشر الأنبياء » مؤداهما واحد. إلا أن «إن » دخلت على «نحن » فأبدلت لفظة «نحن » التي هي المبتدأ بلفظة «نا » الصالحة للنصب، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت. «إن » كما لا يخفى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ٥ ﴾ يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء. بدليل قوله تعالى في القصة نفسها ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ الآية، وأشار إلى أنه الولد أيضاً بقوله ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ٨٩ ﴾ فقوله ﴿ لا تذرني فرداً ﴾ أي واحداً بلا ولد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن زكريا :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ﴾ أي من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين. وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ﴾ الآية. والمولى في لغة العرب : يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب بواليك وتواليه به. وكثيراً ما يطلق في اللغة على ابن العم ؛ لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية. ومنه قول طرفة بن العبد :
واعلم علماً ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل. وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :
مهلا ابن عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ﴾ ظاهر في أنها كانت عاقراً في زمن شبابها. والعاقر : هي ال
قوله تعالى :﴿ يا زَكَرِيّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ٧ ﴾.
في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه، وتقديره : فأجاب الله دعاءه فنودي ﴿ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾ الآية. وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة. وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب. وذلك قوله تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي في الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ٣٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ قال بعض العلماء : أطلق الملائكة وأراد جبريل. ومثل به بعض علماء الأصول العالم المراد به الخصوص قائلاً : إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل، وإسناد الفعل للمجموع مراداً بعضه قد بينا فيما مضى مراراً.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ اسْمُهُ يَحْيَى ﴾ يدل على أن الله هو الذي سماه، ولم يكل تسميته إلى أبيه. وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ٧ ﴾ اعلم أولاً أن السمى يطلق في اللغة العربية إطلاقين : الأول قولهم : فلان سمى فلان أي مسمى باسمه. فمن كان اسمهما واحداً فكلاهما سمى الآخر أي مسمى باسمه.
والثاني إطلاق السمي يعني المسامي أي المماثل في السمو والرفعة والشرف، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل. كالقعيد والجليس بمعنى المقاعد والمجالس. والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب، وكذلك السمى بمعنى المسامي أي المماثل في السمو. فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله هنا ﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ٧ ﴾ أي لم نجعل من قبله أحداً يتسمى باسمه. فهو أول من كان اسمه يحيى. وقول من قال : إن معناه لم نجعل له سمياً أي نظيراً في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح، فالقول الأول هو الصواب. وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم. ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضاً. وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله ﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ٧ ﴾ أي لم نسم أحداً باسمه قبله فاعلم أن قوله ﴿ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ٦٥ ﴾ معناه : أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق. وقال بعض العلماء : وهو مروي عن ابن عباس ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ٦٥ ﴾ هل تعلم أحداً يسمى باسمه الرحمن جل وعلا. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ٨ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا لما بشر بيحيى قال ﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ٨ ﴾ وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضاً في «آل عمران » في قوله ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾. وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ٨ ﴾ قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «عتياً » بكسر العين اتباعاً للكسرة التي بعدها، ومجانسة للياء وقرأه الباقون «عتياً » أنه بلغ غاية الكبر في السن. حتى نحل عظمه ويبس. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية : يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها. يقال منه للعود اليابس : عودعات وعاس. وقد عتا يعتو عتواً وعتياً. وعسا يعسو عسياً وعسوا. وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس.
تنبيه
فإن قيل : ما وجه استفهام زكريا في قوله ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ﴾ مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء.
فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب ) في سورة «آل عمران » وواحد منها فيه بعد وإن روى عن عكرمة والسدي وغيرهما.
الأول أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام. لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجة العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة. أو يأمره بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين ؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلمها. ولا إشكال في هذا، وهو أظهرها.
الثاني أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى.
الثالث وهو الذي ذكرنا أن فيه بعداً هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي : من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى، قال له الشيطان : ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان، فقال عند الله الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله :﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ﴾ ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله :﴿ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً ﴾ الآية. وإنما قلنا : إن هذا القول فيه بعد لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان.
وقوله في هذه الآية الكريمة «عتياً » أصله عتوا، فأبدلت الواو ياء. ومن إطلاق العتى الكبر المتناهي قول الشاعر :
إنما يعذر الوليد ولا يع ذر من كان في الزمان عتيا
وقراءة «عسياً » بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها. وقال القرطبي : وبها قرأ ابن عباس، وهي كذلك في مصحف أبي.
قوله تعالى :﴿ قَالَ كَذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ٩ ﴾.
هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضاً في «آل عمران » في قوله :﴿ قَالَ كَذلك اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ٤٠ ﴾. وقوله في هذه الآية الكريمة «كذلك » للعلماء في إعرابه أوجه :
الأول أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره، الأمر كذلك، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور. وقيل، الأمر كذلك أنت كبير في السن، وامرأتك عاقر. وعلى هذا فقوله ﴿ قَالَ رَبُّكِ ﴾ ابتداء كلام :
الوجه الثاني أن «كذلك » في محل نصب ب«قال » وعليه فالإشارة بقوله «ذلك » إلى مبهم يفسره قوله :﴿ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ﴾ ونظيره على هذا القول قوله تعالى :﴿ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ٦٦ ﴾. وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا. وقوله ﴿ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ ﴾ أي يسير سهل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ٩ ﴾ أي ومن خلقك ولم تك شيئاً فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى. وهذا الذي قاله هنا لزكريا : من أنه خلقه ولم يك شيئاً أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر. كقوله :﴿ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ٦٧ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ١ ﴾.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ٩ ﴾ دليل على أن المعدوم ليس بشيء. ونظيره قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾، وهذا هو الصواب. خلافاً للمعتزلة القائلين : إن المعدوم الممكن وجوده شيء، مستدلين لذلك بقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ قالوا : قد سماه الله شيئاً قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده. ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : لأن المعدوم ليس بشيء. أو ليس شيئاً يعتد به. كقولهم : عجبت من لا شيء. وقول الشاعر :
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
لأن مراده بقوله : غير شيء، أي إذا رأى شيئاً تافهاً لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلاً، لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه. والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن : من أن المعدوم ليس بشيء ؟ والجواب عن استدلالهم بالآية : أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، كقوله ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾، وقوله :﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ﴾، وقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيء بِالنَّبِيِّيْنَ ﴾ الآية، وقوله ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، وقوله ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ ﴾، وأمثال ذلك. كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى أطلقت مراداً بها المستقبل، لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل. وكذلك وكذلك تسميته شيئاً قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ﴾ قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي «خلقتك » بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم. وقرأه حمزة والكسائي «وقد خلقناك » بنون بعدها ألف، وصيغة الجمع فيها للتعظيم.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ١٠ ﴾.
المراد بالآية هنا العلامة، أي اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد. قال بعض أهل العلم : طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به. ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم :﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾. وقيل : أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته، لأن الحمل في أول زمنه يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ١٠ ﴾ أي علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس، أي أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سوياً، أي سوى الخلق، سليم الجوارح، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة، كما قدمنا في «آل عمران ». أما ذكر الله فليس ممنوعاً منه بدليل قوله في «آل عمران » :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِ وَالإِبْكَارِ ٤١ ﴾. وقول من قال : إن معنى قوله تعالى. ﴿ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ١٠ ﴾ أي ثلاث ليال متتابعات غير صواب، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به. ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا «ثلاث ليال » ولم يذكر معها أيامها، ولكنه ذكر الأيام في «آل عمران »، في قوله ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ﴾. فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن.
وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ﴾ يعني إلا بالإشارة أو الكتابة، كما دل عليه قوله هنا :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ١١ ﴾، وقوله في «آل عمران » :﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ﴾. لأن الرمز : الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب.
والإيحاء في قوله :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ ﴾، قال بعض العلماء : هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله «إلا رمزاً » كما تقدم آنفاً. وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة : قتادة، والكلبي، وابن منبه، والعتبي، كما نقله عنهم القرطبي وغيره. وعن مجاهد، والسدي «فأوحى إليهم » أي كتب لهم في الأرض. وعن عكرمة : كتب لهم في كتاب. والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء. ولذلك أطلق على الإلهام، كما في قوله تعالى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ الآية. وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ ﴾ الآية. ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة. وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :
فمدافع الريان عرى رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
فقوله «الوحي » بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء، جمع وحي بمعنى الكتابة. وقول عنترة :
كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي
وقول ذي الرمة :
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائف
وقول جرير :
كأن أخا الكتاب يخط وحيا بكاف في منازلها ولام
قوله تعالى :﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ١١ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم، أو كتب لهم : أن سبحوا الله أول النهار وآخره. فالبكرة أول النهار، والعشي آخره. وقد بين تعالى في «آل عمران » أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشياً أن الله أمر زكرياء به أيضاً، وذلك في قوله :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ٤١ ﴾. والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي في الْمِحْرَابِ ﴾. قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : والمحراب : أرفع المواضع، وأشرف المجالس. وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا ه. وقال الجوهري في صحاحه : قال الفراء المحاريب : صدور المجالس، ومنه سمي محراب المسجد، والمحراب : الغرفة. قال وضاح اليمن :
ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما
ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾ الآية.
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة. لأن المحراب موضع صلاة زكريا، كما دل عليه قومه «وهو قائم يصلي في المحراب ». والمحراب أرفع من غيره، فدل ذلك على ما ذكر. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره : هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعاً عندهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره، متمسكاً بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير. وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت : وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان. فأخذ أبو مسعود بقميصه فحبذه. فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا، أو ينهى عن ذلك ؟ قال بلى، ذكرت ذلك حين مددتني. وروي أيضاً عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة. فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إذا أم للرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم » أو نحو ذلك ؟ فقال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر. فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه : أن فيه عملاً زائداً في الصلاة وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من الكبر. لأن كثيراً من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم. ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيراً، والله أعلم. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه : سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل.
أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال : ثنا يعلى ثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، إلى آخر الحديث. ثم قال أبو داود رحمه الله : حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. إلى آخر الحديث. ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف، لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يُدرى من هو كما ترى. وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد، وروى مرفوعاً صريحاً. قال ابن حجر في ( التلخيص ) في الكلام على الأثر والحديث المذكورين : ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك ؟ قال بلى. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة، وهو مرفوع لكن فيه مجهول. والأول أقوى، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه. ا ه من التلخيص. وقال النووي في ( شرح المهذب ) في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور : رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي. ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم، وإسناده صحيح. ويقال جذب وجبذ، لغتان مشهورتان ا ه منه. وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي، وقال : إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم فهي حديث سهل بن سعد : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال :«أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي » متفق عليه. أما أقوال الأئمة في هذه المسألة : فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم. وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم، وكارتفاع المأموم ليبلغ غير من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور.
قال النووي في ( شرح المهذب ) : هذا مذهبنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، وعنه رواية. أنه يكره الارتفاع مطلقاً، وبه قال مالك والأوزاعي. وحكي الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي : أنه قال تبطل به الصلاة.
وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه. فعلو المأموم جائز عنده. وقد رجع إلى كراهته. وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه. وعلو الإمام لا يعجبه. وفي المدونة قال مالك : لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد. ثم كرهه. وأخذ ابن القاسم بقوله الأول. انتهى بواسطة نقل الموق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفاً على ما يجوز. وعلو مأموم ولو بسطح. وفي المدونة أيضاً قال مالك : إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني. انتهى بواسطة نقل المواق أيضاً. وقوله «يعجبني » ظاهر في الكراهة. وحمله بعضهم على المنع. وفي وجوب إعادة الصلاة قولان. ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التَّكَبُّر على الناس، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماماً كان أو مأموماً. وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله : وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكثير ا ه. وقوله «إلا بكشبر » يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر، ونحو المنبر عظم الذراع عندهم. ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر. فقوله «إلا بكشبر » مستثنى من قوله «لا عكسه » لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقاً : قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة : كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه. قال ابن القاسم : فإن فعل أعادوا أبداً، لأنهم يعيشون إلا أن يكون ذلك دكاناً يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة. قال أبو محمد : مثل الشبر وعظم الذراع إلى أن قال : وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصداً إلى التكبر عن مساواة الإمام. قال ابن بشير : صلاته أيضاً باطلة. ا ه محل الغرض منه. وقول ابن القاسم «لأنهم يعبثون » يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطباً لقومه عاد :﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُون ١٢٨ َوَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله : وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد. هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة.
وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة : فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه. وقال الطحاوي : لا يكره علو المأموم على الإمام. ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير، ولا كراهة عندهم في اليسير : وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة، ولا بأس بما دونها، ذكره الطحاوي، وهو مروي عن أبي يوسف : وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز. وقيل : مقدر بقدر ذراع اعتباراً بالسترة. قال صاحب ( تبيين الحقائق ). وعليه الاعتماد. وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم انتهى بمعناه ( تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ).
وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم، فيكره على المشهور من مذهب أحمد. وبين علو المأموم الإمام فيجوز. قال ابن قدامة في المغني : المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من
قوله تعالى :﴿ يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ١٢ ﴾.
اعلم أولاً أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر، فإنا نبينها. وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا فإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى، وقد ذكر شيئاً من صفاته أيضاً في غير هذا الموضع. وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا، والمذكور في غير هذا الموضع.
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له ﴿ يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ ووصفه بقوله ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ﴾ إلى قوله ﴿ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ١٥ ﴾. فقوله ﴿ يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ ﴾ مقول قول محذوف. أي وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة. والكتاب : التوراة. أي خذ التوراة بقوة. أي بجد واجتهاد، وذلك بتفهم المعنى أولاً حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به. وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا : التوراة. وحكى غير واحد عليه الإجماع. وقيل : هو كتاب أنزل على يحيى، وقيل : هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة. وقيل : هو صحف إبراهيم. والأظهر قول الجمهور : إنه التوراة كما قدمنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ﴾ أي أعطيناه الحكم، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة، مرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب. أي إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبياً. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية :﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ١٢ ﴾ أي الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث. قال عبد الله بن المبارك قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب، فقال : ما للعب خلقنا ! فلهذا أنزل الله ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ١٢ ﴾. وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ١٢ ﴾ يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال. وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية ﴿ وآتيناه الحكم صبياً ﴾ قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى : اذهب بنا نلعب. فقال : ما للعب خلقنا، فأنزل الله ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ١٢ ﴾ وقال الزمخشري في الكشاف ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ﴾ أي الحكمة، ومنه قول نابغة ذبيان :
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية : والحكم النبوة، أو حكم الكتاب، أو الحكمة، أو
العلم بالأحكام. أو اللب وهو العقل، أو آداب الخدمة، أو الفراسة الصادقة. أقوال :
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهماً صحيحاً، والعمل به حقاً، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة. وأصل معنى «الحكم » المنع، والعلم النافع. والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان.
وقوله تعالى :﴿ صَبِيّاً ﴾ أي لم يبلغ، وهو الظاهر. وقيل : صبياً أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة ذكره أبو حيان وغيره، والظاهر الأول. قيل ابن ثلاث سنين، وقيل ابن سبع، وقيل ابن سنتين. والله أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَحَنَانًا ﴾ معطوف على ﴿ الْحُكْمُ ﴾ أي وآتيناه حناناً من لدنا. والحنان : هو ما جبل عليه من الرحمة، والعطف والشفقة. وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب، ومنه قولهم : حنانك وحنانيك يا رب، بمعنى رحمتك. ومن هذا المعنى قول امرئ القيس :
أبنت الحارث الملك بن عمرو *** له ملك العراق إلى عمان
ويمنحها بنو شمجي بن جرم *** معيزهم حنانك ذا الحنان
يعني رحمتك يا رحمن ؛ وقول طرفة بن العبد :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقول منذر بن درهم الكلبي :
وأحدث عهد من أمينة نظرة *** على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك ها هنا *** أذو نسب أم أنت بالحي عارف
فقوله «حنان » أي أمري حنان ؛ أي رحمة لك، وعطف وشفقة عليك وقول الحطيئة أو غيره :
تحنن على هداك المليك *** فإن لكل مقام مقالا
وقوله تعالى :﴿ مّن لَّدُنَّا ﴾ أي من عندنا، وأصح التفسيرات في قوله «وزكاةً » أنه معطوف على ما قبله أي أو أعطيناه زكاة، أي طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة، والتقرب إلى الله بما يرضيه : وقد قدمنا في سورة «الكهف » الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية «وزكاةً » الزكاة : التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير. أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم. وقيل المعنى : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنساناً. وقيل «زكاةً » صدقة على أبويه. قاله ابن قتيبة انتهى كلام القرطبي. وهو خلاف التحقيق في معنى الآية. والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا، من أن المعنى : وأعطيناه زكاة أي طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى. وقول من قال من العلماء : بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح، راجع إلى ما ذكرنا لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكَانَ تَقِيّا ﴾ أي ممتثلاً لأوامر ربه مجتنباً كل ما نهى عنه. ولذا لم يعمل خطيئة قط، ولم يلم بها، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره. وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعاً، إما بانقطاع، وإما بعنعنة مدلس : وإما بضعف راو، كما أشار له ابن كثير وغيره. وقد قدمنا معنى «التقوى » مراراً وأصل مادتها في اللغة العربية.
وقوله تعالى :﴿ وَبَرّا بِوالِدَيْهِ ﴾ البر بالفتح هو فاعل البر بالكسر كثيراً أي وجعلناه كثير البر بوالديه، أي محسناً إليهما، لطيفاً بهما، لين الجانب لهما. وقوله «وبراً » معطوف على قوله «تقياً »، وقوله «ولم يكن جباراً عصياً » أي لم يكن مستكبراً عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان مطيعاً لله، متواضعاً لوالديه، قاله ابن جرير. والجبار : هو كثير الجبر، أي القهر للناس، والظلم لهم. وكل متكبر على الناس يظلمهم : فهو جبار. وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ١٣٠ ﴾ وعلى من يتكرر منه القتل في قوله :﴿ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً في الأرْضِ ﴾ الآية. والظاهر أن قوله :«عصياً » فعول قبلت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة : التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله :
إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبن مدغما وشذ معطى غير ما قد رسما
فأصل «عصياً » على هذا «عصوياً » كصبور، أي كثير العصيان. ويحتمل أن يكون أصله فعيلاً وهي من صيغ المبالغة أيضاً، قاله أبو حيان في البحر.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ١٥ ﴾ قال ابن جرير : وسلام عليه أي أمان له. وقال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية، ومرجع القولين إلى شيء واحد، لأن معنى سلام، التحية، الأمان، والسلامة مما يكره. وقول من قال : هو الأمان. يعني أن ذلك الأمان من الله. والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره. والظاهر المتبادر أن قوله ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ﴾ تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة. وقوله :﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ﴾ مبتدأ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته، ووقت موته، ووقت بعثه، في قوله ﴿ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ﴾ الآية، لأنها أوحش من غيرها. قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم. ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها. رواه عنه ابن جرير وغيره. وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال : إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي، أنت خير مني. فقال الآخر : استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى : أنت خير مني، سلمت على نفسي وسلم الله عليك. وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى. ثم قال : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه، قال ابن عطية : ولكل وجه. انتهى كلام القرطبي. والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ ﴾ الآية أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله :﴿ وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ٣٣ ﴾ كما هو ظاهر.
تنبيه
الفتحة في قوله :﴿ يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ﴾ يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصباً على الظرفية. ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك، والأجود أن تكون فتحة «يوم ولد » فتحة بناء، وفتحة ﴿ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ ﴾ فتحة نصب، لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع، والجملة الاسمية أجود عن بنائه، كما عقده في الخلاصة بقوله :
وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا
وقبل فعل معرب أو مبتدا أعرب ومن بنى فلن يفندا
والأحوال في مثل هذا أربعة : الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصلياً وهو الماضي، كقول نابغة ذبيان :
على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود، وإعرابه جائز.
الثاني أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عارضاً، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة. كقول الآخر :
لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم
وحكم هذا كما قبله.
الثالث أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب. كقول أبي صخر الهذلي :
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
فإعراب مثل هذا أجود، وبناؤه جائز.
الرابع أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية. كقول الشاعر :
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني كريم على حين الكرام قليل
وقول الآخر :
تذكر ما تذكر من سليمى على حين التواصل غير دان
وحكم هذا كما قبله. واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي. وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى، كقوله :﴿ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ ﴾ فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية. فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع. وأجاز ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية قبله، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ وقول سواد بن قارب :
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب
لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ١٥ ﴾ قال أبو حيان : فيه تنبيه على كونه من الشهداء، لقوله تعالى فيهم :﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ١٦٩ ﴾.
قال مقيده عفا الله عنه : وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها، وصف لصاحبها. وعليه فبعثه مقيد بكونه حياً، وتلك حياة الشهداء، وليس بظاهر كل الظهور. والله تعالى أعلم.
هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات يحيى، وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع، كقوله في «آل عمران » :﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي في الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ٣٩ ﴾ ومعنى كونه ﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ أنه مصدق بعيسى، وإنما قيل لعيسى كلمة لأن الله أوجده بكلمة هي قوله «كن » فكان، كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ الآية. وقال :﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ﴾ الآية. وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى :﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ وقيل : المراد بكلمة الكتاب، أي مصدقاً بكتاب الله. والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد، كقوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى ﴾، وقوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾، وقوله :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ إلى غير ذلك من الآيات، وباقي الأقوال : تركناه لظهور ضعفه. والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا. وقوله «وسيداً » وزن السيد بالميزان الصرفي فيعل وأصل مادته ( س و د ) سكنت ياء الفعيل الزائدة قبل الواو التي هي في موضع العين، فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :
* إن يسكن السابق من واو ويا *
البيتين المتقدمين آنفاً. وأصله من السواد وهو الخلق الكثير. فالسيد من يطعيه، ويتبعه سواد كثير من الناس. والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه : ساد يسود بالواو، وتقول سودوه إذا جعلوه سيداً. والتضعيف يرد العين إلى أصلها، ومنه قول عامر بن الطفيل العامري :
وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وقال الآخر :
وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد
وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه. والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما «إن ابني هذا سيد » الحديث. وأنه صلى الله عليه وسلم : لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم :«قوموا لسيدكم » والتحقيق في معنى قوله «حصوراً » أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلاً منه، وانقطاعاً لعبادة الله. وكان ذلك جائزاً في شرعه. وأما سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج وعدم التبتل. أما قول من قال : إن الحصور فعول بمعنى مفعول، وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن فليس بصحيح، لأن العنة عيب ونقص في الرجال، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها. فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، واختاره غير واحد من العلماء. وقول من قال : إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
قول ليس بالصواب في معنى الآية. بل معناها هو ما ذكرنا وإن كان إطلاق الحصور على ذلك صحيحاً لغة. وقوله «ونبياً » على قراءة نافع بالهمزة معناه واضح، وهو فعيل بمعنى مفعول، من النبأ وهو الخبر الذي له شأن، لأن الوحي خبر لهشأن يخبره الله به. وعلى قراءة بالياء المشددة فقال بعض العلماء : معناه كمعنى قراءة نافع، إلا أن الهمزة أبدلت ياء وأدغمت فيها للياء التي قبلها. وعلى هذا فهو كالقراءتين السبعيتين في قوله ﴿ إِنَّمَا النَّسِيء زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ ﴾ بالهمزة وتشديد الياء. وقال بعض العلماء : هو على قراءة الجمهور من النبوة بمعنى الارتفاع لرفعة النَّبي وشرفه. والصالحون : هم الذين صلحت عقائدهم، وأعمالهم. وأقوالهم، ونياتهم، والصلاح ضد الفساد. وقد وصف الله تعالى يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة «الأنعام » في قوله :﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ٨٥ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ١٦ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يذكر في الكتاب وهو القرآن «مريم » حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. وقوله «انتبذت » أي تنحَّت عنهم واعتزلتهم منفردة عنهم. وقوله ﴿ مَكَاناً شَرْقِياً ١٦ ﴾ أي مما يلي شرقي بيت المقدس. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة «إذ » «مريم » بدل اشتمال، لأن الأحيان مشتملة على ما فيها اشتمال الظرف على مظروفه. قاله الزمخشري في الكشاف واعترضه عليه أبو البقاء وأبو حيان : والظاهر سقوط اعتراضهما، وأن الصواب معه، والله تعالى أعلم. ولم يذكر هنا شيئاً عن نسب «مريم » ولا عن قصة ولادتها. وبين في غير هذا الموضع أنها ابنة عمران، وأن أمها نذرت ما في بطنها محرراً، تعني لخدمة بيت المقدس، تظن أنها ستلد ذكراً «فولدت مريم ». قال في بيان كونها ابنة عمران :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ الآية. وذكر قصة ولادتها في «آل عمران » في قوله :﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ٣٥ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم ٣٦ ِفَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٣٧ ﴾. وقوله «مكاناً » منصوب لأنه ظرف.
قوله تعالى :﴿ فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ﴾.
أظهر الأقوال أن المراد بقوله «روحنا » جبريل.
ويدل لذلك قوله :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ١٩٣ ﴾ الآية، وقوله :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ الآية، وإضافته إلى الله إضافة تشريف وتكريم. قوله تعالى :﴿ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ١٧ ﴾.
تمثله لها بشراً سوياً المذكور في الآية يدل على أنه ملك وليس بآدمي. وهذا المدلول صرح به تعالى في قوله :﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ الآية. وهذا الذي بشرها به هو الذي قال لها هنا ﴿ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ١٩ ﴾. وقوله ﴿ بَشَراً سَوِيّاً ١٧ ﴾ حالان من ضمير الفاعل في قوله «تمثل لها ».
قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ١٩ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك الروح الذي هو جبريل قال لها إنه رسول ربها ليهب لها، أي ليعطيها غلاماً أي ولداً زكياً، أي طاهراً من الذنوب والمعاصي، كثير البركات. وبين في غير هذا الموضع كثيراً من صفات هذا الغلام الموهوب لها، وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين َ٤٥ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ٤٦ ﴾ وقوله :﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل ٤٨ َوَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئ الأكْمَهَ والأبرص وَأُحْيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على صفات هذا الغلام. وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وورش عن نافع وقالون عنه أيضاً بخلف عنه «ليهب » بالياء المفتوحة بعد اللام أي ليهب لك هو، أي ربك غلاماً زكياً. وقرأ الباقون «لأهب » بهمزة المتكلم أي لأهب لك هو أنا أيها الرسول من ربك غلاماً زكياً. وفي معنى إسناده الهبة إلى نفسه على قراءة الجمهور خلاف معروف بين العلماء. وأظهر الأقوال في ذلك عندي : أن المراد بقول جبريل لها ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ١٩ ﴾ أي لأكون سبباً في هبة الغلام بالنفخ في الدرع الذي وصل إلى الفرج، فصار بسببه حملها عيسى. وبين تعالى في سورة «التحريم » أن هذا النفخ في فرجها في قوله تعالى :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ الآية. والضمير في قوله «فيه » راجع إلى فرجها ولا ينافي ذلك قوله تعالى في «الأنبياء » :﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ﴾ لأن النفخ وصل إلى الفرج فكان منه حمل عيسى، وبهذا فسر الزمخشري في الكشاف الآية.
وقال بعض العلماء : قول جبريل ﴿ رَبِّكِ لأًهَبَ لَكِ ﴾ حكاية منه لقول الله جل وعلا. وعليه فالمعنى : إنما أنا رسول ربك، وقد قال لي أرسلتك لأهب غلاماً. والأول أظهر. وفي الثاني بعد عن ظاهر اللفظ. وقال بعض العلماء : جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وبهذا صدر القرطبي في تفسيره. وأظهرها الأول : والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ٢٠ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم لما بشرها جبريل بالغلام الزكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قالت :﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ﴾ أي كيف ألد غلاماً والحال أني لم يمسسني بشر. تعني لم يجامعني زوج بنكاح، ﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ٢٠ ﴾، أي لم أك زانية. وإذا انتفى عنها مسيس الرجال حلالاً وحراماً فكيف تحمل. والظاهر أن استفهامها استخبار واستعلام عن الكيفية التي يكون فيها حمل الغلام المذكور، لأنها مع عدم مسيس الرجال لم تتضح لها الكيفية. ويحتمل أن يكون استفهامها تعجب من كمال قدرة الله تعالى، وهذا الذي ذكر الله جل وعلا عنها : أنها قالته هنا ذكره عنها أيضاً في سورة «آل عمران » في قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ٤٥ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ٤٦ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾. واقتصارها في آية «آل عمران » على قولها ﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ يدل على أن مسيس البشر المنفي عنها شامل للمسيس بنكاح والمسيس بزنى. كما هو الظاهر. وعليه فقولها في سورة «مريم » :﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ٢٠ ﴾ يظهر فيه أن قولها «ولم أك بغياً » : تخصيص بعد تعميم. لأن مسيس البشر يشمل الحلال والحرام. وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى هنا ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ٤٧ ﴾ : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه. كقوله تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾. ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ والزنى ليس كذلك، إنما يقال فيه : فجر بها، وخبث بها وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعي فيه الكنايات والآداب ا ه.
والأظهر الأول. وآية آل عمران تدل عليه. ويؤيده أن لفظة «بشر » نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر : فينتفي مسيس كل بشر كائناً من كان، والبغي : المجاهرة المشتهر بالزنى. ووزنه فعول عند المبرد، اجتمعت فيه واو وياء سبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصى ودلى جمع عصا ودلو. كما قدمنا هذا مراراً. والقائل بأن أصلي البغي فعول، يقول : لو كان أصله فعيلاً للحقته هام التأنيث، لأنها لازمة في فعيل بمعنى فاعل. وقال ابن جني في كتاب التمام : أصل البغي على وزن فعيل، ولو كان فعولاً لقيل بغو ؛ كما قيل : فلان نهو عن المنكر. وعلى هذا القول فقد يجاب عن عدم لحوق تاء التأنيث : بأن البغي وصف مختص بالإناث. والرجل يقال فيه باغ لا بغي. كما قاله أبو حيان في البحر. والأوصاف المختصة بالإناث لا تحتاج إلى تاء الفرق بين الذكر والأنثى كحائض. كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله :
وما من الصفات بالأنثى يخص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
قوله تعالى :﴿ قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ ﴾.
قد قدمنا تفسير هذه الآية مستوفى في قصة زكريا، فأغنى عن إعادته هنا. وقول جبريل لمريم في هذه الآية :﴿ كَذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ ﴾ أي وستلدين ذلك الغلام المبشر به من غير أن يمسك بشر، وقد أشار تعالى إلى معنى هذه الآية في سورة «آل عمران » في قوله :﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ٤٧ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ٢١ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس. أي علامة دالة على كمال قدرته. وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف يشاء : إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى. وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء. كما نص على ذلك في قوله :﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ أي خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء. وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معاً كما فعل بآدم. وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم. فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ؟ وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج أشار له أيضاً في «الأنبياء » بقوله :﴿ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ٩١ ﴾، وفي «الفلاح » بقوله :﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا ﴾ الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ فيه حذف دل المقام عليه. قال الزمخشري في الكشاف :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ تعليل معلله محذوف. أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أي لنبيِّن به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه ﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾، وقوله :﴿ وَكَذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ ﴾ ا ه.
وقوله في هذه الآية ﴿ وَرَحْمَةً مّنَّا ﴾ أي لمن آمن به. ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ١٠٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذلك ﴾ أي وكان وجود ذلك الغلام منك أمراً مقضياً، أي مقدراً في الأزل، مسطوراً في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه، فهو واقع لا محالة.
قوله تعالى :﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً ٢٢ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى. فقوله ﴿ حَمَلَتْهُ ﴾ أي عيسى ﴿ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ﴾ : أي تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها ﴿ مَكَاناً قَصِيّاً ٢٢ ﴾ أي في مكانها بعيد : والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم. وفيه أقوال أخر غير ذلك.
وقوله :﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ﴾ أي ألجأها الطلق إلى جذع النخلة، أي جذع نخلة في ذلك المكان. والعرب تقول : جاء فلان، وأجاءه غيره : إذا حمله على المجيء، ومنه قول زهير :
وجار سار معتمداً إلينا *** أجاءته المخافة والرجاء
وقول حسان رضي الله عنه :
إذ شددنا شدة صادقة *** فأجأناكم إلى سفح الجبل
والمخاض : الطلق، وهو وجع الولادة، وسمي مخاضاً من المخض، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج.
وقوله :﴿ قَالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ٢٣ ﴾ تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئاً يذكر. فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك، وكانت نسياً منسياً : وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى وقعت فيه أو سلمت منه. ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك، كما قال :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ وقال ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ﴾ الآية. والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله :﴿ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ١٩ ﴾ كما تقدم. ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله ﴿ فَنَفَخْنَا ﴾ لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ. فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمر تعالى، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا منه إلا بمشيئته جل وعلا أسنده إلى نفسه والله تعالى أعلم.
وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه، ولكن الله برأها، وذلك كقوله عنهم :﴿ قَالُواْ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾ يعنون الفاحشة، وقوله عنهم، ﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ٢٨ ﴾ يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ١٥٦ ﴾.
وقوله :﴿ مَكَاناً قَصِيّاً ﴾ القصي، البعيد، ومنه قول الراجز :
لتقعدن مقعد القصي *** مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي *** أني أبو ذيالك الصبي
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله :﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ٥٠ ﴾. وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ﴾ أي انتبذت وهو في بطنها. والإشارة في قوله هذا إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع.
وقوله في هذه الآية الكريمة عنها :﴿ وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ﴾ النسي والنِّسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته، كخرق الحيض، وكالوتد والعصا، ونحو ذلك. ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم جمع نسي ؟ أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد. ونحو ذلك. فقولها «وكنت نسياً » أي شيئاً تافهاً حقيراً من حقه أن يترك وينسى عادة. وقولها «منسياً » تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :
اتجعلنا جسرا لكلب قضاعة *** ولست بنسي في معد ولا دخل
فقوله «بنسي » أي شيء تافه منسي، وقول الشنفرى :
كان لها في الأرض نسياً تقصه *** على أمها وإن تحدثك تبلت
فقوله «نسياً » أي شيء تركته ونسيته. وقوله «تبلت » بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث أي تقطع كلامها من الحياء. والبلت في اللغة : القطع. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «يا ليتني مت » بكسر الميم. وقرأ الباقون «مت » بضم الميم. وقرأ حفص عن عاصم وحمزة، «وكنت نسياً » بفتح النون. والباقون بكسرها، وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان صحيحتان.
تنبيه
قراءة «مت » بكسر الميم كثيراً ما يخفى على طلبة العلم وجهها. لأن لغة مات يموت » لا يصح منها «مت » بكسر الميم. ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات، كخاف يخاف. لا من مات يموت. كقال يقول : فلفظ «مات » فيها لغتان عربيتان فصيحتان. الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفاً على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :
من ياء أو واو بتحريك أصل *** ألفا إبدل بعد فتح متصل
إن حرك الثاني.. الخ ومضارع هذه المفتوحة «يموت » بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين، والحركة المناسبة للواو هي الضمة، فتقول «مت » بضم الميم، ولا يجوز غير ذلك.
الثانية أنها «موت » بكسر الواو، أبدلت الواو ألفاً للقاعدة المذكورة آنفاً. ومضارع هذه «يمات » بالفتح، لأن فعل بكسر العين ينقاس في مضارعها بفعل بفتح العين، كما قال ابن مالك في اللامية :
* وافتح موضع الكسر في المبنى من فعلا *
ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها. والمقرر في فن الصرف : أن كل فعل ثلاثي أجوف أعني معتل العين إذا كان على وزن فعل بكسر العين، أو فعل بضمها فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين، وتضم إن كان من فعل بضمها. مثال الأول «مت » من مات يمات، لأن أصلها «موت » بالكسر وكذلك خاف يخاف، ونام ينام، فإنك تقول فيها «مت » بكسر الميم، و«نمت » بكسر للنون، «وخفت » بكسر الخاء. لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة. ومثاله في الضم «طال » فأوصلها «طول » بضم الواو فتقول فيها «طلت » بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء. أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت، وقال يقول، فإن العين تسقط بالاعتدال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فيضم الفاء إن كانت العين الساقطة واواً كمات يموت، وقال يقول : فتقول مت وقلت. بالضم وتكسر الفاء إن كانت العين الساقطة ياء، كباع وسار، فتقول : بعت وسرت بالكسر فيهما. وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله :
وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين *** إذا اعتلت وكان بنا الإضمار متصلاً
أو نونه وإذا فتحا يكون منه *** اعتض مجانس تلك العين منتفلا
واعلم أن مات يمات، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة، ومنها قول الراجز :
بنيتي سيدة البنات *** عيشي ولا نأمن أن تماتي
وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة. وقد أشار إلى اللغات الثلاث الفصيحتين والردية بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله :
من منعت زوجته منه بالمبيت *** مات يموت ويمات ويميت
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها، لعدم دليل على شيء منها. وأظهرها : أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقاً للعادة، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ٢٤ ﴾.
اعلم أولاً : أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين : قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا ﴾ بكسر الميم على أن «من » حرف جر، وخفض تاء تحتها، لأن الظرف مجرور ب«من » على أنه اسم موصول هو فاعل نادى، أن ناداها الذي تحتها. وفتح «تحتها » فعلى القراءة ففاعل النداء ضمير محذوف. وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو «من ».
وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى. وقال بعض العلماء : هو جبريل. وممن قال : إن الذي نادى مريم هو جبريل ابن عباس، وعمرو بن ميمون الأودي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه. وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
وممن قال إن الذي ناداها هو عسيى عندما وضعته أبي، ومجاهد، والحسن، ووهب بن منبه، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها، لأنها على ربوة مرتفعة، وقد ناداها من مكان منخفض عنها، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة. والظاهر الأول على هذا القول. وعلى قراءة «فناداها من تحتها » بفتح الميم وتاء «تحتها » عند أهل هذا القول. فالمعنى فناداها الذي هو تحتها أي في مكان أسفل من مكانها، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا، أي وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول «فناداها » هو أي جبريل من تحتها. وعلى القراءة الثانية «فنادها من تحتها » أي الذي تحتها وهو جبريل. وأما على القول بأن المنادى هو عيسى، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو أي المولود الذي وضعته من تحتها. لأنه كان تحتها عند الوضع. وعلى القراءة الثانية :«فناداها من تحتها » أي الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع. وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : ابن جرير الطبري في تفسيره، واستظهره أبو حيان في البحر، واستظهر القرطبي أنه جبريل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل. لأن الله قال ﴿ * فَحَمَلَتْهُ ﴾ يعني عيسى ﴿ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ﴾ أي بعيسى.
ثم قال بعده «فناداها » فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى. والقرينة الثانية أنها لما جاءت به قومها تحمله، وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه. كما قال تعالى عنها :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ في الْمَهْدِ صَبِيّاً ٢٩ ﴾ وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته. وبهذه القرينة الأخيرة استدل سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه على أنه عيسى. كما نقله عنه غير واحد. و«أن » في قوله «ألا تحزني » هي المفسرة، فهي بمعنى أي. وضابط «أن » المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا. فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة : أن الكلام الذي بعدها هو معنى ما قبلها. فالنداء المذكور قبلها هو : لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا.
واختلف العلماء في المراد بالسري هنا. فقال بعض العلماء : هو الجدول وهو النهر الصغير. لأن الله أجرى لها تحتها نهراً. وعليه فقوله تعالى :﴿ فَكُلِي ﴾ أي من الرطب المذكور في قوله ﴿ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّا ٢٥ ًوَاشْرَبِي ﴾ أي من النهر المذكور في قوله ﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ٢٤ ﴾ وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب. ومنه قول لبيد في معلقته :
فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاوراً نلامها
وقول لبيد أيضاً يصف نخلاً نابتاً على ماء النهر :
سحق يمتعها الصفا وسريه عم نواعم بينهن كروم
وقول الآخر :
سهل الخليفة ما جد ذو فائل مثل السري تمده الأنهار
فقوله «سريه ». وقولهما «السري » بمعنى الجدول. وكذلك قول الراجز :
سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا
وقال بعض أهل العلم : السري هو عيسى. والسري هو الرجل الذي له شرف ومروءة. يقال في فعله سرو بالضم. وسرا بالفتح يسرو سروا فيهما. وسري بالكسر يسري سري وسراء وسروا إذا شرف. ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس، وسرواء وسراة بالفتح. وعن سيبويه أن السراة بالفتح اسم جمع لا جمع. ومنه قول الأفوه الأودي :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ويجمع السراة على سروات ؛ ومنه قول قيس بن الخطيم :
وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر :
تلقى السري من الرجال بنفسه وابن السري إذا سرى أسراهما
وقوله «أسراهما » أي أشرفهما. قاله في اللسان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر الصغير، والدليل على ذلك أمران :
أحدهما القرينة من القرآن، فقوله تعالى :﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي ﴾ قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله :﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ٢٤ ﴾، وقوله ﴿ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا ٢٥ ﴾، وكذلك قوله تعالى :﴿ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ٥٠ ﴾ لأن المعين : الماء الجاري. والظاهر أن الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية. والله تعالى أعلم.
الأمر الثاني حديث جاء بذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد جاء بذلك حديث مرفوع، قال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت عكرمة مولى ابن عباس، سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن السري الذي قال الله لمريم :﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ٢٤ ﴾، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه » وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى، قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف. وقال أبو زرعة : منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث انتهى كلام ابن كثير. وقال ابن حجر رحمه الله في «الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف » في الحديث المذكور : أخرجه الطبراني في الصغير، وابن عدي من رواية أبي سنان سعيد بن سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ٢٤ ﴾ قال :«السري النهر ». قال الطبراني : لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو سنان، رواه عنه يحيى بن معاوية وهو ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق عن البراء موقوفاً. وكذا ذكره البخاري تعليقاً عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. ورواه ابن مردويه من طريق آدم، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفاً. وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :«إن السري الذي قاله لمريم نهر أخرجه الله لتشرب منه ». أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر، ورواية عن عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة انتهى.
فهذا الحديث المرفوع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه. وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر : ابن جرير في تفسيره، وبه قال البراء بن عازب، وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعمرو بن ميمون، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والسدي، ووهب بن منبه وغيرهم. وممن قال إنه عيسى : الحسن، والربيع بن أنس، ومحمد بن عباد بن جعفر. وهو إحدى الروايتين عن قتادة. وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قاله ابن كثير وغيره.
قوله تعالى :﴿ وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ٢٥ ﴾.
لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه. ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو «الرطب الجني » المذكور. والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه «بالسري » كما تقدم هذا هو الظاهر.
وقال بعض العلماء : إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جزعاً يابساً ؛ فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني. وقال بعض العلماء : كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطباً جنياً. وقال بعض العلماء : كانت النخلة مثمرة، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجوداً. والذي يفهم من سياق القرآن : أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة. ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك، سواء قلنا إن الجذع كان يابساً أو نخلة غير مثمرة، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطباً جنياً. ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى :﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ﴾ يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة ؛ لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به. فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر، وإنبات الرطب، وكلام المولود تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الربية، وبذلك يكون قرة عين لها ؛ لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسياً منسياً لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر. وخرق الله لها العادة بتفجير الماء، وإنبات الرطب، وكلام المولود لا غرابة فيه. وقد نص الله جل وعلا في «آل عمران » على خرقه لها العادة في قوله ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾. قال العلماء : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة «آل عمران ».
مسألة
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ الآية أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا. وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة. أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ؛ لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه. فهو متوكل على الله، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر. ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف.
ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ١٩ ﴾ الآية. فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجَّزأ إلى معان مختلفة، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رماداً من حرها في الوقت الذي هي كائنة برداً وسلاماً على إبراهيم. فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
ومن أوضح الأدلة في ذلك أنه ربما جعل الشيء سبباً لشيء آخر مع أنه مناف له : كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سبباً لحياته، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته. إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ؟ وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، ولا يقع تأثير البتة إلا بمشيئته جل وعلا.
ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن يعقوب :﴿ وَقَالَ يا بَنِيَّّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب، وتسبب في ذلك بالأمر به، لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلاً أبناء رجل واحد، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام. فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطياً للسبب في السلامة من إصابة العين ؛ كما قال غير واحد من علماء السلف. ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه :﴿ وَقَالَ يا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ٦٧ ﴾. فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ﴾ وبين التوكل على الله في قوله :﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ٦٧ ﴾ وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته. والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع. وقد قال بعضهم في ذلك :
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن كل شيء له سبب
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب، قالوا : لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى، قاله الربيع بن خيثم وغيره. والباء في قوله ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ مزيدة للتوكيد، لأن فعل الهز يتعدى بنفسه، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله هنا ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ لأن المتبادر من اللغة أن الأصل : وهزي إليك جذع النخلة، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، وقوله :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ﴾. وقوله :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ٥ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ٦ ﴾ الآية، وقوله :﴿ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع أنبت الرباعي، لأن الرباعي الذي هو أنبت ينبت بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة. ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
إذ يسقون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
لأن الأصل يسقون الدقيق فزيدت الباء للتوكيد. وقول الراعي :
هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المعاجر لا يقرأن بالسور
فالأصل : لا يقرأن السور، فزيدت الباء لما ذكر. وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره :
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
فالأصل : وأسفله المارح ؛ أي وينبت أسفله المرخ، فزيدت الباء لما ذكر وقول الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجودا
فالأصل ضمنت رزق عيالنا. وقول الراجز :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي نرجو الفرج. وقول امرئ القيس :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فالأصل : هصرت غصنا ؛ لأن هصر تتعدى بنفسها. وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب.
وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :«تساقط » تسع قراءات، ثلاث منها سبعية. وست شاذة. أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة «تساقط » بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف، وأصله : تتساقط ؛ فحذفت إحدى التاءين. وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً » تمييز محول عن الفاعل. وقرأه حفص وحده عن عاصم «تساقط » بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين، ومضارع ساقطت تساقط. وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً » مفعول به الفعل الذي هو «تساقط » هي أي النخلة رطباً. وقرأه بقية السبعة «تساقط » بفتح التاء والقاف وتشديد السين، أصله : تتساقط ؛ فأدغمت إحدى التاءين في السين. وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله «رطباً » تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة وغير هذا من القراءات شاذ.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ رُطَباً جَنِيّاً ٢٥ ﴾ الجني : هو ما طلب وصلح لأن يجنى فيؤكل. وعن أبي عمرو بن العلاء : أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس، ولم يبعد عن يدي متناوله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:قوله تعالى :﴿ وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ٢٥ ﴾.
لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه. ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو «الرطب الجني » المذكور. والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه «بالسري » كما تقدم هذا هو الظاهر.
وقال بعض العلماء : إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جزعاً يابساً ؛ فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني. وقال بعض العلماء : كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطباً جنياً. وقال بعض العلماء : كانت النخلة مثمرة، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجوداً. والذي يفهم من سياق القرآن : أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة. ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك، سواء قلنا إن الجذع كان يابساً أو نخلة غير مثمرة، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطباً جنياً. ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى :﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ﴾ يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة ؛ لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به. فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر، وإنبات الرطب، وكلام المولود تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الربية، وبذلك يكون قرة عين لها ؛ لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسياً منسياً لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر. وخرق الله لها العادة بتفجير الماء، وإنبات الرطب، وكلام المولود لا غرابة فيه. وقد نص الله جل وعلا في «آل عمران » على خرقه لها العادة في قوله ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾. قال العلماء : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة «آل عمران ».
مسألة
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ الآية أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا. وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة. أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ؛ لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه. فهو متوكل على الله، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر. ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف.
ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ١٩ ﴾ الآية. فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجَّزأ إلى معان مختلفة، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رماداً من حرها في الوقت الذي هي كائنة برداً وسلاماً على إبراهيم. فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
ومن أوضح الأدلة في ذلك أنه ربما جعل الشيء سبباً لشيء آخر مع أنه مناف له : كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سبباً لحياته، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته. إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ؟ وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، ولا يقع تأثير البتة إلا بمشيئته جل وعلا.
ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن يعقوب :﴿ وَقَالَ يا بَنِيَّّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب، وتسبب في ذلك بالأمر به، لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلاً أبناء رجل واحد، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام. فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطياً للسبب في السلامة من إصابة العين ؛ كما قال غير واحد من علماء السلف. ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه :﴿ وَقَالَ يا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ٦٧ ﴾. فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ﴾ وبين التوكل على الله في قوله :﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ٦٧ ﴾ وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته. والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع. وقد قال بعضهم في ذلك :
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن كل شيء له سبب
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب، قالوا : لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى، قاله الربيع بن خيثم وغيره. والباء في قوله ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ مزيدة للتوكيد، لأن فعل الهز يتعدى بنفسه، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله هنا ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ لأن المتبادر من اللغة أن الأصل : وهزي إليك جذع النخلة، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، وقوله :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ﴾. وقوله :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ٥ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ٦ ﴾ الآية، وقوله :﴿ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع أنبت الرباعي، لأن الرباعي الذي هو أنبت ينبت بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة. ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
إذ يسقون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
لأن الأصل يسقون الدقيق فزيدت الباء للتوكيد. وقول الراعي :
هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المعاجر لا يقرأن بالسور
فالأصل : لا يقرأن السور، فزيدت الباء لما ذكر. وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره :
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
فالأصل : وأسفله المارح ؛ أي وينبت أسفله المرخ، فزيدت الباء لما ذكر وقول الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجودا
فالأصل ضمنت رزق عيالنا. وقول الراجز :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي نرجو الفرج. وقول امرئ القيس :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فالأصل : هصرت غصنا ؛ لأن هصر تتعدى بنفسها. وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب.
وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :«تساقط » تسع قراءات، ثلاث منها سبعية. وست شاذة. أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة «تساقط » بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف، وأصله : تتساقط ؛ فحذفت إحدى التاءين. وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً » تمييز محول عن الفاعل. وقرأه حفص وحده عن عاصم «تساقط » بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين، ومضارع ساقطت تساقط. وعلى هذه القراءة فقوله «رطباً » مفعول به الفعل الذي هو «تساقط » هي أي النخلة رطباً. وقرأه بقية السبعة «تساقط » بفتح التاء والقاف وتشديد السين، أصله : تتساقط ؛ فأدغمت إحدى التاءين في السين. وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله «رطباً » تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة وغير هذا من القراءات شاذ.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ رُطَباً جَنِيّاً ٢٥ ﴾ الجني : هو ما طلب وصلح لأن يجنى فيؤكل. وعن أبي عمرو بن العلاء : أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس، ولم يبعد عن يدي متناوله.


قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ٢٦ ﴾.
قائل هذا الكلام لمريم : هو الذي ناداها من تحتها ألا تحزني. وقد قدمنا الخلاف فيه ؛ هل هو عيسى، أو جبريل، وما يظهر رجحانه عندنا من ذلك.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً ﴾ قيل أمرت أن تقول ذلك باللفظ. وقيل أمرت أن تقوله بالإشارة. وكونها أمرت أن تقوله باللفظ هو مذهب الجمهور ؛ كما قاله القرطبي وأبو حيان، وهو ظاهر الآية الكريمة ؛ لأن ظاهر القول في قوله تعالى :﴿ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ ﴾ أنه قول باللسان. واستدل من قال : إنها أمرت أن تقول ذلك بالإشارة بأنها لو قالته باللفظ أفسدت نذرها الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسياً، فإذا قالت لإنسي بلسانها إني نذرت للرحمن صوماً فقد كلمت ذلك الإنسي فأفسدت نذرها. واختار هذا القول الأخير لدلالة الآية عليه ابن كثير رحمه الله، قال في تفسير هذه الآية ﴿ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ٢٦ ﴾. وأجاب المخالفون عن هذا بأن المعنى ﴿ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ٢٦ ﴾ قوله :﴿ إني نذرت للرحمن صوما ﴾ فقد رأيت كلام العلماء في الآية. وإن القول الأول يدل عليه ظاهر السياق. وإن الثاني يدل عليه قوله :﴿ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ٢٦ ﴾ لأنه يدل على نفي الكلام للإنسي مطلقاً. قال أبو حيان في البحر : وقوله «إنسياً » لأنها كانت تكلم الملائكة. ومعنى كلامه أن قوله «إنسياً » له مفهوم مخالفة، أي بخلاف غير الإنسي كالملائكة فإني أكلمه. والذي يظهر لي أنه لم يرد في الكلام إخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وإنما المراد شمول نفي الكلام كل إنسان كائناً من كان.
مسألة
اعلم أنه على هذا القول الذي اختاره ابن كثير أن المراد بقوله ﴿ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً ﴾ أي قولي ذلك بالإشارة يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، لأنها في هذه الآية سميت قولاً على هذا الوجه من التفسير. وسمع في كلام العرب كثيراً إطلاق الكلام على الإشارة، كقوله :
إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر
وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى ما يدل من النصوص على أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة الكلام، وما يدل من النصوص على أنها ليست كالكلام، وأقوال العلماء في ذلك.
اعلم أنه دلت أدلة على قيام الإشارة المفهمة مقام الكلام، وجاءت أدلة أخرى يفهم منها خلاف ذلك. فمن الأدلة الدالة على قيام الإشارة مقام الكلام قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أين الله » ؟ فأشارت إلى السماء. فقال صلى الله عليه وسلم :«أعتقها فإنها مؤمنة » فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات. وهو الذي يعصم به الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجي به من النار. والقصة المشهورة مروية عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عباس، ومعاوية بن الحكم السلمي، والشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنهم. وفي بعض رواياتهم : أنها أشارت إلى السماء. قال أبو داود في سننه : حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ثنا يزيد بن هارون، قال أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة : أن رجلاً أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال : يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة ؟ فقال لها :«أين الله » ؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها :«فمن أنا » ؟ فأشارت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، يعني أنت رسول الله. فقال :«اعتقها فإنها مؤمنة ». والظاهر حمل الروايات التي فيها أنه لما قال لها أين الله قالت في السماء من غير ذكر الإشارة، على أنها قالت ذلك بالإشارة. لأن القصة واحدة والروايات يفسر بعضها بعضاً. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في سورة «آل عمران » في الكلام على قوله تعالى ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ﴾ ما نصه : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات ما حكم به النَّبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها :«أين الله » ؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقال :«اعتقها فإنها مؤمنة » فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديان الذي يحرز به الدم والمال، وتستحق به الجنة وينجي به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء.
وروى ابن القاسم عن مالك : أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه : فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهذا باطل، وليس ذلك بقياس، وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل، لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته انتهى محل الغرض من كلام القرطبي رحمه الله. وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على قيام الإشارة مقام الكلام في أشياء متعددة، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال :«الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين » هذا لفظ مسلم في صحيحه وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً، وقد يكون ثلاثين منزلة نطقه بذلك. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث : وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا. وحديث ابن عمر هذا أورده البخاري في باب ( اللعان ) مستدلاً به على أن الإشارة كاللفظ. وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أحاديث كثيرة تدل على جعل الإشارة كالنطق، قال رحمه الله تعالى :( باب الإشارة في الطلاق والأمور ) وقال ابن عمر قال النَّبي صلى الله عليه وسلم، «لا يعذب الله بدمع العين ولكن يعذب بهذا » فأشار إلى لسانه، وقال كعب بن مالك : أشار النَّبي صلى الله عليه وسلم إليَّ أي خُذِ النصف. وقالت أسماء : صلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. فقلت لعائشة : ما شأن الناس وهي تصلي ؟ فأومأت برأسها إلى الشمس. فقلت : آية ؟ فأومأت برأسها أن نعم. وقال أنس : أومأ النَّبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم. وقال ابن عباس : أومأ النَّبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج. وقال أبو قتادة : قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمحرم :«آحدكم أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ » قالوا لا. قال :«فكلوا » حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير، وكان كلما أتى على الركن أشار إليه وكبر. وقالت زينب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه » وعقد تسعين حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم :«في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه » وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. قلنا : يزهدها : وقال الأويسي : حدثنا إبراهيم بن سعد عن شعبة بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال : عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحاً كانت عليها، ورضخ رأسها. فأتى به أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من قتلك ؟ فلان » لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا. قال : فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا. فقال :«فلان » ؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين. حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول ؟ «الفتنة من هنا » وأشار إلى المشرق. حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن أبي إسحاق الشيباني ؟ عن عبد الله بن أبي أوهم قال : كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم » فلما غربت الشمس قال لرجل ؟ «أنزل فاجدح لي » قال ؟ يا رسول الله، لو أمسيت ؟ ثم قال. أنزل فاجدح » قال ؟ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو أمسيت إن عليك نهاراً، ثم قال ؟ «أنزل فاجدح » فنزل فجدح له في الثالثة فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أومأ بيده إلى المشرق فقال :«إذا رأيتم قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم ». حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ؟ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«لا يمنعن أحداً منكم نداء بلال » أو قال أذانه من سحوره ؟ فإنما ينادي أو قال يؤذن ليرجع قائمكم وليس أن يقول كأنه يعني الصبح أو الفجر، وأظهر يزيد يديه ثم مد إحداهما من الأخرى. وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما. فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفو أثره. وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها، فهو يوسعها فلا تتسع » ويشير بأصبعه إلى حلقه. انتهى من صحيح البخاري.
فهذه أحاديث دالة، على قيام الإشارة مقام النطق في أمور متعددة. وقال ابن حجر في الفتح في هذا الباب : ذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة أولها قوله : وقال ابن عمر : هو طرف من حديث تقدم موصولاً في الجنائز، وفيه قصة لسعد بن عبادة، وفيها :«ولكن الله يعذب بهذا » وأشار إلى لسانه. ثانيها وقال كعب بن مالك ؟ هو أيضاً طرف من حديث تقدم موصولاً في الملازمة ؟ وفيها وأشار إلى أن خذ النصف. ثالثها «وقالت أسماء » هي بنت أبي بكر. صلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. الحديث تقدم موصولاً في كتاب الإيمان بلفظ : فأشارت إلى السماء، وفيه. فأشارت برأسها أي نعم. وفي صلاة الكسوف بمعناه. وفي صلاة السهو باختصار إلى آخر كلامه. وبالجملة فجميع الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب المذكور كلها ثابتة في الصحيح موصولة. أما ما جاء منها موصولاً في الباب المذكور فأمره واضح. وأما ما جاء منها معلقاً في الباب المذكور فقد جاء موصولاً في محل آخر من البخاري.
والحديث الأول دل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جعل إشارته إلى اللسان أن الله يعذب به كنطقه بذلك.
والحديث الثاني جعل فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى كعب بن مالك أن يسقط نصف ديته عن ابن أبي حدود ويأخذ النصف ال
قوله تعالى :﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾.
لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفاً أتت به ( أي بعيسى ) قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون، فقالوا لها :﴿ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾ ! قال مجاهد وقتادة وغير واحد :«فرياً » أي عظيماً. وقال سعيد بن مسعدة :«فرياً » أي مختلفاً مفتعلاً. وقال أبو عبيدة والأخفش :«فريا » أي عجيباً نادراً.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم ﴿ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾ أي منكراً عظيماً، لأن الفري فعيل من الفرية، يعنون به الزنى، لأن ولد الزنى كالشيء المفتري المختلق، لأن الزانية تدعى إلحاقه بمن ليس أباه. ويدل على أن مرادهم بقولهم «فريا » الزنى قوله تعالى :﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ١٥٦ ﴾ لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى ( حاشاها وحاشاه من ذلك ) هو المراد بقولهم لها :﴿ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾. ويدل لذلك قوله تعالى بعده :﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ٢٨ ﴾ والبغي الزانية كما تقدم. يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة، فمالك أنت ترتكبينها ! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفتري قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ قال بعض العلماء : معنى قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ أي ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية. وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغة، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر :
وقد أطمعتني دقلا حوليا مسوساً مدوداً حجريا
قد كنت تفرين به الفريا ..............
يعني تعملين به العمل العظيم. والظاهر أنه يقصد أنها تأكله أكلاً لما عظيماً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:قوله تعالى :﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾.
لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفاً أتت به ( أي بعيسى ) قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون، فقالوا لها :﴿ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾ ! قال مجاهد وقتادة وغير واحد :«فرياً » أي عظيماً. وقال سعيد بن مسعدة :«فرياً » أي مختلفاً مفتعلاً. وقال أبو عبيدة والأخفش :«فريا » أي عجيباً نادراً.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم ﴿ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾ أي منكراً عظيماً، لأن الفري فعيل من الفرية، يعنون به الزنى، لأن ولد الزنى كالشيء المفتري المختلق، لأن الزانية تدعى إلحاقه بمن ليس أباه. ويدل على أن مرادهم بقولهم «فريا » الزنى قوله تعالى :﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ١٥٦ ﴾ لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى ( حاشاها وحاشاه من ذلك ) هو المراد بقولهم لها :﴿ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾. ويدل لذلك قوله تعالى بعده :﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ٢٨ ﴾ والبغي الزانية كما تقدم. يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة، فمالك أنت ترتكبينها ! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفتري قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ قال بعض العلماء : معنى قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ أي ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية. وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغة، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر :
وقد أطمعتني دقلا حوليا مسوساً مدوداً حجريا
قد كنت تفرين به الفريا ..............
يعني تعملين به العمل العظيم. والظاهر أنه يقصد أنها تأكله أكلاً لما عظيماً.


وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ ﴾ ليس المراد به هارون بن عمران أخا موسى كما يظنه بعض الجهلة. وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون. والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو سعيد الأشج، ومحمد بن المثنى العنزي. واللفظ لابن نمير قالوا : حدثنا ابن إدريس عن أبيه، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرؤون ﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ ﴾ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال :«إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم » ا ه، هذا لفظ مسلم في الصحيح. وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل. وقال ابن حجر في ( الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ) في قول الزمخشري : إنما عنوا هارون النَّبي ما نصه : لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند، ورواه الطبري عن السدي قوله وليس بصحيح. فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي : أرأيتم شيئاً يقرؤونه «يا أخت هارون » وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين، فلم أدر ما أجيبهم ؟ فقال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم :«هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم » وروى الطبري من طريق ابن سيرين : نبئت أن كعباً قال : إن قوله تعالى ﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ ﴾ ليس بهارون أخي موسى، فقالت له عائشة : كذبت ؟ فقال لها : يا أم المؤمنين، إن كان النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم، وإلا فأني أجد بينهما ستمائة سنة انتهى كلام ابن حجر.
وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى ﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ ﴾ : أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد وعبد بن حميد، ومسلم والترمذي والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن حبان والطبراني، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران.. إلى آخر الحديث كما تقدم آنفاً. وبهذا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه تعلم أن قول من قال : إن المراد هارون أخو موسى باطل سواء قيل إنها أخته، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته، كما يقال للرجال : يا أخا تميم، والمراد يا أخا بني تميم، لأنه من ذرية تميم. ومن هذا القبيل قوله :﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ ﴾، لأن هوداً إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته، فهو أخو بني عاد، وهم المراد بعاد في الآية لأن المراد بها القبيلة لا الجد. وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هارون أخي موسى، فاعلم أن بعض العلماء : قال : إن لها أخاً اسمه هارون. وبعضهم يقول : إن هاروت المذكور رجل من قومها مشهور بالصلاح، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبه في العبادة والتقوى. وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى :﴿ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ الآية، وقوله تعالى ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ٢٠٢ ﴾، ومنه في كلام العرب قوله :
وكل أخ يفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
فجعل الفرقدين أخوين.
وكثيراً ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن : أخا الحرب لباسا إليها جلالها *** وليس بولاج الخوالف أعقلا
فقوله :«أخا الحرب » يعني صاحبها. ومنه قول الراعي وقيل لأبي ذؤيب :
عشية سعدى لو تراءت لراهب *** بدومة تجر دونه وحجيج
قلى دينه واهتاج للشوق إنها *** على النأي إخوان العزاء هيوج
فقوله «إخوان العزاء » يعني أصحاب الصبر.
قوله تعالى :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾.
معنى إشارتها إليه : أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر. والدليل على أن هذا هو مرادها بإشارتها إليه قوله تعالى بعده :﴿ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ في الْمَهْدِ صَبِيّاً ٢٩ ﴾ فالفعل الماضي الذي هو «كان » بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال كما يدل عليه السياق. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أول كلمة نطق لهم بها عيسى وهو صبي في مهده أنه عبد الله، وفي ذلك أعظم زجر للنصارى عن دعواهم أنه الله، أو ابنه أو إله معها وهذه الكلمة التي نطق بها عيسى في أول خطابه لهم ذكرها الله جل وعلا عنه في مواضع أخر. كقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّي وَرَبَّكُمْ ﴾ وقوله في «آل عمران » :﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٥١ ﴾، وقوله في «الزخرف » ﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ٦٣ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٦٤ ﴾، وقوله هنا في سورة «مريم » :﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٣٦ ﴾، وقوله :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾. إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ٣٠ ﴾ التحقيق فيه إن شاء الله : أنه عبر بالماضي عما سيقع في المستقبل تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع. ونظائره في القرآن كثيرة. كقوله تعالى :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَنُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ مَن في السَّمَاوَاتِ وَمَن في الأرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ٦٨ وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيء بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِي بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُ ونَ ٦٩ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾ إلى قوله ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ ﴾.
فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل. تنزيلاً لتحقق وقوعه منزلة الوقوع بالفعل، ونظائرها كثيرة في القرآن. وهذا الذي ذكرنا من أن الأفعال الماضية في قوله تعالى :﴿ آتَانِي الْكِتَابَ ﴾ الخ بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله. خلافاً لمن زعم أنه نبئ وأوتي الكتاب في حال صباه لظاهر اللفظ.
وقوله ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً ﴾ أي كثير البركات. لأنه يعلم الخير ويدعو إلى الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية ﴿ مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ﴾ : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاعاً حيث كنت. وقال ابن حجر في ( الكافي الشاف ) : أخرجه أبو نعيم ( في الحلية ) في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي هريرة بهذا وأتم. وقال : تفرد به هشيم عن يونس، وعنه شعيب بن محمد الكوفي، ورواه ابن مردويه عن هذا الوجه ا ه.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ﴾ قال الحوفي وأبو البقاء : هو معطوف على قوله ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً ﴾. وقال أبو حيان ( في البحر ) : وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي «أوصاني » ومتعلقها. والأولى أنه منصوب بفعل مضمر. أي وجعلني برأ بوالدتي. ولما قال بوالدتي ولم يقل بوالدي علم أنه أمر من قبل الله. كما ذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد قدمنا معنى «الجبار والشقي ». وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية :«شقياً » أي خائباً من الخير. ابن عباس : وقيل عاصياً لربه. وقيل : لم يجعلني تاركاً لأمره فأشقى كما شقي إبليس ا ه كلام القرطبي.
تنبيه
احتج مالك رحمه الله بهذه الآية على القدرية. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر. أخبر عيسى عليه السلام بما قضى من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت ا ه.
وقوله تعالى :﴿ ذلك عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذي فِيهِ يَمْتُرُونَ ٣٤ ﴾.
اعلم أن هذا الحرف فيه قراءتان سبعيتان : قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ﴿ قَوْلَ الْحَقِّ ﴾ بضم اللام. وقرأه ابن عامر وعاصم ﴿ قَوْلَ الْحَقِّ ﴾ بالنصب. والإشارة في قوله «ذلك » راجعة إلى المولود المذكور في الآيات المذكورة قبل هذا. وقوله «ذلك » مبتدأ، «وعيسى »، خبره، و«ابن مريم » نعت ل«عيسى » وقيل بدل منه. وقيل خبر بعد خبر.
وقوله ﴿ قَوْلَ الْحَقِّ ﴾ على قراءة النصب مصدر مؤكد لمضمون الجملة. وإلى نحوه أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة :
* والثاني كابني أنت حقاً صرفاً *
وقيل منصوب على المدح : وأما على قراءة الجمهور بالرفع «فقول الحق » خبر مبتدأ محذوف. أي هو أي نسبته إلى أمه فقط قول الحق. قاله أبو حيان. وقال الزمخشري : وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : اعلم أن لفظة «الحق » في قوله هنا «قول الحق » فيها للعلماء وجهان :
الأول أن المراد بالحق ضد الباطل بمعنى الصدق والثبوت. كقوله :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ وعلى هذا القول فإعراب قوله «قول الحق » على قراءة النصب أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كما تقدم. وعلى قراءة الرفع فهو خبر مبتدأ محذوف كما تقدم. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في «آل عمران » في القصة بعينها :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ ٦٠ ﴾.
الوجه الثاني أن المراد بالحق في الآية الله جل وعلا. لأن من أسمائه «الحق » كقوله :﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ٢٥ ﴾، وقوله ﴿ ذلك بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ الآية. وعلى هذا القول فإعراب قوله تعالى ﴿ قَوْلَ الْحَقِّ ﴾ على قراءة النصب أنه منصوب على المدح. وعلى قراءة الرفع فهو بدل من «عيسى » أو خبر، وعلى هذا الوجه ف«قول الحق »، هو «عيسى » كما سماء الله كلمة في قوله :﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ﴾ الآية. وإنما سمى «عيسى » كلمة لأن الله أوجده بكلمته التي هي «كن » فكان. كما قال :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ﴾. والقول والكلمة على هذا الوجه من التفسير بمعنى واحد.
وقوله :﴿ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ ٣٤ ﴾ أي يشكون. فالامتراء افتعال من المرية وهي الشك. وهذا الشك الذي وقع للكفار نهى الله عنه المسلمين على لسان نبيهم في قوله تعالى ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ٥٩ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ ٦٠ ﴾ وهذا القول الحق الذي أوضح الله به حقيقة الأمر في شأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد نزوله على نبينا صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يدعو من حاجه في شأن عيسى إلى المباهلة ؛ ثم أخبره أن ما قص عليه من خبر عيسى هو القصص الحق، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ٦١ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾ الآية. ولما نزلت ودعا للنبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة خافوا الهلاك وأدوا كما هو مشهور.
قوله تعالى ﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ٣٥ ﴾.
اعلم أولاً أن لفظ «ما كان » يدل على النفي، فتارة يدل ذلك النفي من جهة المعنى على الزجر والردع، كقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ ﴾ الآية. وتارة يدل على التعجيز، كقوله تعالى :﴿ ءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ٥٩ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾ الآية. وتارة يدل على التنزيه، كقوله هنا :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ وقد أعقبه بقوله ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ أي تنزيهاً له عن اتخاذ الولد وكل ما لا يليق بكماله وجلاله. فقوله ﴿ مَا كَانَ للَّهِ ﴾ بمعنى ما يصح ولا يتأتى ولا يتصور في حقه جل وعلا أن يتخذ ولداً، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. والآية كقوله تعالى :﴿ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ٩٢ ﴾. وفي هذه الآية الرد البالغ على النصارى الذين زعموا المحال في قولهم «عيسى ابن الله » وما نزه عنه جل وعلا نفسه هنا من الولد المزعوم كذباً كعيسى نزه عنه نفسه في مواضع أخر، كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ إلى قوله ﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ الآية. والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة، كقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ٨٨ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا ٨٩ ًتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ٩٠ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ٩١ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ٩٢ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة «الكهف ».
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ أي أراد قضاءه، بدليل قوله :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٤٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ٨٢ ﴾ وحذف فعل الإرادة لدلالة المقام عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ﴾ الآية، أي إذا أردتم القيام إليها، وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ٩٨ ﴾ أي إذا أردت قراءة القرآن، كما تقدم مستوفى.
وقوله تعالى في الآية التي نحن بصددها :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ زيدت فيه لفظة «من » قبل المفعول به لتأكيد العموم. وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة «من » لتوكيد العموم كانت نصاً صريحاً في العموم، وتطرد زيادتها للتوكيد المذكور قبل النكرة في سياق النفي في ثلاثة مواضع : قبل الفاعل كقوله تعالى :﴿ مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ ﴾، وقبل المفعول كهذه الآية، وكقوله ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ ﴾ الآية : وقبل المبتدأ كقوله ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾.
قوله تعالى :﴿ فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٣٧ ﴾.
أظهر الأقوال في «الأحزاب » المذكورة في هذه الآية أنهم فرق اليهود والنصارى الذين اختلفوا في شأن عيسى. فقالت طائفة : هو ابن زنى. وقالت طائفة : هو ابن الله. وقالت طائفة : هو الله. وقالت طائفة : هو إله مع الله. ثم إن الله توعد الذين كفروا منهم بالويل لهم من شهود يوم القيامة. وذلك يشمل من كفر بالتفريط في عيسى كالذي قال إنه ابن زنى. ومن كفر بالإفراط فيه كالذين قالوا إنه الله أو ابنه. وقوله «ويل » كلمة عذاب. فهو مصدر لا فعل له من لفظه. وسوغ الابتداء به وهو نكرة كونه في معنى الدعاء. والظاهر أن المشهد في الآية مصدر ميمي. أي فويل لهم من شهود ذلك اليوم أي حضوره لما سيلاقونه فيه من العذاب. خلافاً لمن زعم أن المشهد في الآية اسم مكان. أي فويل لهم من ذلك المكان الذي يشهدون فيه تلك الأهوال والعذاب. والأول هو الظاهر وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة «الزخرف » في قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ٦٣ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٦٤ فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ٦٥ ﴾ وما أشار إليه في الآيتين : من أن الذين كفروا بالإفراط أو التفريط في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه لم يعاجلهم بالعذاب، وأنه يؤخر عذابهم إلى الوقت المحدد لذلك أشار له في مواضع أخر. كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ٤٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأجَلٍ مَّعْدُودٍ ١٠٤ ﴾، وقوله :﴿ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٥٣ ﴾. وبالجملة فالله تعالى يمهل الظالم إلى وقت عذابه، ولكنه لا يهمله. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَكَذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ١٠٢ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ ٤٨ ﴾.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ﴾ قال أبو حيان في ( البحر ) : ومعنى قوله «من بينهم » أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين انتهى محل الغرض منه.
قوله تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ٣٨ ﴾.
قوله ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ صيغتنا تعجب. ومعنى الآية الكريمة : أن الكفار يوم القيامة يسمعون ويبصرون الحقائق التي أخبرتهم بها الرسل سمعاً وإبصاراً عجيبين، وأنهم في دار الدنيا في ضلال وغفلة لا يسمعون الحق ولا يبصرونه. وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية الكريمة بينه في مواضع أخر. كقوله في سمعهم وإبصارهم يوم القيامة :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ١٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ لَّقَدْ كُنتَ في غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ٢٢ ﴾، وكقوله في غفلتهم في الدنيا وعدم إبصارهم وسمعهم :﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ١ ﴾، وقوله :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ٧ ﴾، وقوله :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌّ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ١٨ ﴾، وقوله :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ الآية. والمراد بالأعمى والأصم : الكفار. والآيات بمثل هذا كثيرة. واعلم أن صيغة التعجب إذا كانت على وزن أفعل به فهي فعل عند الجمهور، وأكثرهم يقولون إنه فعل ماض جاء على صورة الأمر. وبعضهم يقول : إنه فعل أمر لإنشاء التعجب، وهو الظاهر من الصيغة، ويؤيده دخول نون التوكيد عليه. كقول الشاعر :
ومستبدل من بعد غضيباً صريمة فأحربه من طول فقر وأحريا
لأن الألف في قوله «وأحريا » مبدلة من نون التوكيد الخفيفة على حد قوله في الخلاصة :
وأبدلتها بعد فتح ألفا وقفاً كما تقول في قفن قفا
والجمهور أيضاً على أن صيغة التعجب الأخرى التي هي ما أفعله فعل ماض. خلافاً لجماعة من الكوفيين في قولهم : إنها اسم بدليل تصغيرها في قول العرجي :
يا ما أميليح غزلاناً شدن لنا من هؤلياتكن الضال السمر
قالوا والتصغير لا يكون إلا في الأسماء. وأجاب من خالفهم بأن تصغيرها في البيت المذكور شاذ يحفظ ولا يقاس عليه.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ في غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٣٩ ﴾.
الحسرة : أشد الندم والتلف على الشيء الذي فات ولا يمكن تداركه. والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد. أي أنذر الناس يوم القيامة. وقيل له يوم الحسرة لشدة ندم الكفار فيه على التفريط. وقد يندم فيه المؤمنون على ما كان منهم من التقصير وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾ الآية، وقوله ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ٤٦ ﴾.
وأشار إلى ما يحصل فيه من الحسرة في مواضع أخر. كقوله :﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ اللَّهِ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ الآية، وقوله :﴿ كَذلك يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ١٦٧ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَهُمْ في غَفْلَةٍ ﴾ أي في غفلة الدنيا معرضون عن الآخرة. وجملة «وهم في غفلة » حالية، والعامل فيها «أنذرهم » أي أنذرهم في حال غفلتهم غير مؤمنين. خلافاً لمن قال : إن العامل في الجملة الحالية قوله قبل هذا «في ضلال مبين ». وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أن المراد بقوله هنا «إذ قضي الأمر » أي ذبح الموت. قال البخاري رحمه الله في صحيحه :( باب قوله عز وجل :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾ حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يؤتى بالموت كالهيئة كبش أملح فينادي مناد : يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. ثم ينادى يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت » ثم قرأ ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِي الأمْرُ وَهُمْ في غَفْلَةٍ ﴾ وهؤلاء في غفلة الدنيا وهم لا يؤمنون » انتهى منه صحيح البخاري.
والحديث مشهور متفق عليه وقراءة النَّبي صلى الله عليه وسلم الآية بعد ذكره ذبح الموت تدل على أن المراد بقوله «إذ قضي الأمر » أي ذبح الموت. وفي معناه أقوال أخر غير هذا تركناها لدلالة الحديث الصحيح على المعنى الذي ذكرنا.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٤٠ ﴾.
معنى قوله جل وعلا في هذه الآية : أنه يرث الأرض ومن عليها : أنه يميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض، ويبقى هو جل وعلا لأنه الحي الذي لا يموت، ثم يرجعون إليه يوم القيامة. وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ٢٦ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ ٢٧ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ٢٣ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً ٤١ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه «محمداً » صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يذكر في الكتاب الذي هو القرآن العظيم المنزل إليه من الله «إبراهيم » عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويتلو على الناس في القرآن نبأه مع قومه ودعوته لهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر. وكرر هذا المعنى المذكور في هذه الآيات في آيات أخر من كتابه جل وعلا. فهذا الذي أمر به نبيه هنا من ذكره في الكتاب إبراهيم ﴿ إِذْ قَالَ لأبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ﴾ الآية أوضحه في سورة «الشعراء » في قوله :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ٦٩ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ٧٠ ﴾. فقوله هنا ﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ ﴾ هو معنى قوله :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ٦٩ ﴾ وزاد في «الشعراء » أن هذا الذي قاله لأبيه من النهي عن عبادة الأوثان قاله أيضاً لسائر قومه.
وكرر تعالى الإخبار عنه بهذا النهي لأبيه وقومه عن عبادة الأوثان في مواضع أخر. كقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ٧٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُون ٧٠ َقَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين ٧١ َقَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ٧٢ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون ٧٣ َقَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون ٧٤ َقَالَ أَفَرَأيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُون ٧٥ َأَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقدَمُون ٧٦ َفَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ٧٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ٥١ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُون ٥٢ َقَالُواْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ٥٣ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلَالٍ مُّبِين ٍ٥٣ قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ٥٥ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذلكمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ ٥٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُون٢٦ َإِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ٢٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ٨٣ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٤ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ٨٥ أَإفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُون٨٦ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ٨٧ ﴾ وقوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية :﴿ إِذْ قَالَ لأبِيهِ ﴾ الظرف الذي هو «إذ » يدل اشتمال من «إبراهيم » في قوله :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ كما تقدم نظيره في قوله :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ ﴾. وقد قدمنا هناك إنكار بعضهم لهذا الإعراب. وجملة ﴿ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً ٤١ ﴾ معترضة بين البدل والمبدل منه على الإعراب المذكور. والصديق صيغة مبالغة من الصدق. لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه وصدق لهجته، كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ٣٧ ﴾، وقوله :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾.
ومن صدقه في معاملته ربه : رضاه بأن يذبح ولده، وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه. مع أن الولد فلذة من الكبد.
لكنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
قال تعالى :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين ١٠٣ ِوَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْرَاهِيم ١٠٤ ُقَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾ الآية.
ومن صدقه في معاملته مع ربه : صبره على الإلقاء في النار. كما قال تعالى :﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ ﴾، وقال :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ الآية.
وذكر علماء التفسير في قصته أنهم لما رموه إلى النار لقيه جبريل فسأله : هل لك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ! وأما إلى الله فنعم. فقال له : لم لا تسأله ؟ فقال : علمه بحالي كاف عن سؤالي ؟ ؟
ومن صدقه في معاملته ربه : صبره على مفارقة الأهل والوطن فراراً لدينه. كما قال تعالى :﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ وقد هاجر من سواد العرق إلى دمشق : وقد بين جل وعلا في مواضع أخر أنه لم يكتف بنهيهم عن عبادة الأوثان وبيان أنها لا تنفع ولا تضر، بل زاد على ذلك أنه كسرها وجعلها جذاذاً وترك الكبير من الأصنام، ولما سألوه هل هو الذي كسرها قال لهم : إن الذي فعل ذلك كبير الأصنام، وأمرهم بسؤال الأصنام إن كانت تنطق. كما قال تعالى عنه :﴿ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ٥٧ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون٥٨ َقَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ٥٩ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم ٦٠ ُقَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُون ٦١ َقَالُواْ أأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيم ٦٢ ُقَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُون ٦٣ فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ٦٤ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُون ٦٥ َقَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُم ٦٦ ْأُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٧ ﴾، وقال تعالى :﴿ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ٩١ مَا لَكُمْ لاَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ٩٣ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّون ٩٤ َقَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ٩٥ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ٩٦ ﴾. فقوله ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ٩٣ ﴾ أي مال إلى الأصنام يضربها ضرباً بيمنه حتى جعلها جذاذاً، أي قطاعاً متكسرة من قولهم : جذه إذا قطعه وكسره.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً ﴾ أي كثير الصدق يعرف منه أن الكذبات الثلاث المذكورة في الحديث عن إبراهيم كلها في الله تعالى، وأنها في الحقيقة من الصدق لا من الكذب بمعناه الحقيقي، وسيأتي إن شاء الله زيادة إيضاح لهذا في سورة «الأنبياء » :
وقوله تعالى عن إبراهيم ﴿ يا أَبَتِ ﴾ التاء فيه عوض عن ياء المتكلم، فالأصل يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وفي النداء أبت أمت عرض واكسر أو افتح ومن اليا التا عوض
وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ لِمَ تَعْبُدُ ﴾ أصله «ما » الاستفهامية، فدخل عليها حرف الجر الذي هو «اللام » فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة :
وما في الاستفهام إن جرت حذف ألفها وأولها الها إن تقف
ومعلوم أن القراءة سنة متبعة لا تجوز بالقياس. ولذا يوقف على «لم » بسكون الميم لإبهاء السكت كما في البيت. ومعنى عبادته للشيطان في قوله ﴿ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ﴾ طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي. فذلك الشرك شرك طاعة، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين ٦٠ ٌوَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٦١ ﴾ كما تقدم هذا المبحث مستوفي في سورة «الإسراء » وغيرها.
والآية تدل على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان. لقوله هنا ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ٤٥ ﴾ والآيات الدالة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة، وقد قدمنا كثيراً من ذلك في سورة الكهف وغيرها، كقوله تعالى :﴿ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّمَا ذلكمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾، أي يخوفكم أولياءه. وقوله :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم. وكل من كان الشيطان يزين له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان. كما قال تعالى :﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣ ﴾ ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ﴾ يعني ما علمه الله من الوحي وما ألهمه وهو صغير، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ٥١ ﴾ ومحاجة إبراهيم لقومه كما ذكرنا بعض الآيات الدالة عليها أثنى الله بها على إبراهيم، وبين أنها حجة الله آتاها نبيه إبراهيم. كما قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ﴾ الآية، وقال تعالى :﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي في اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ﴾، وكون الآيات المذكورة واردة في محاجته لهم المذكورة في سورة «الأنعام » لا ينافي ما ذكرنا. لأن أصل المحاجة في شيء واحد وهو توحيد الله جل وعلا، وإقامة الحجة القاطعة على أنه لا معبود إلا هو وحده جل وعلا في سورة «الأنعام » وفي غيرها. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ٤٦ ﴾.
بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر. ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان خاطبه هذا الخطاب العنيف، وسماه باسمه ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت. وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان أي معرض عنها لا يريدها. لأنه لا يعبد إلا الله وحده جل وعلا. وهدده جل وعلا. وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه ( قيل بالحجارة وقيل باللسان شتماً ) والأول أظهر. ثم أمره بهجره ملياً أي زماناً طويلاً، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضاً جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله :﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ الآية. وخطاب إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم، كما قال تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ٦٣ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ٥٥ ﴾ وما ذكره تعالى هنا من أن إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة، قابله أبوه بالعنف والشدة بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجؤوا إلى استعمال القوة، كقوله تعالى عن إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ ٦٥ ﴾ قال ﴿ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٧ ﴾ فلما أفحمهم بهذه الحجة لجؤوا إلى القوة، كما قال تعالى عنهم :﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ ﴾. ونظيره قوله تعالى عن قوم إبراهيم :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ الآية، وقوله عن قوم لوط لما أفحمهم بالحجة :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله :﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ يعني لا ينالك مني أذى ولا مكروه، بل ستسلم مني فلا أوذيك. وقوله :﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له، وقد وفى بذلك الوعد، كما قال تعالى عنه :﴿ وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ٨٦ ﴾، وكما قال تعالى عنه :﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ٤١ ﴾.
ولكن الله بين له أنه عدو لله تبرأ منه، ولم يستغفر له بعد ذلك، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ١١٤ ﴾، وقد قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ والموعدة المذكورة هي قوله هنا ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ الآية. ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين، واستغفر النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أنزل الله فيهم ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾. ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ ﴾ الآية. وبين في سورة «الممتحنة » أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الإسوة بإبراهيم، والإسوة الإقتداء، وذلك في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا ﴾ إلى قوله ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ الآية، أي فلا أسوة لكم في إبراهيم في ذلك. ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ الآية بيَّن الله تعالى أنهم معذورون في ذلك. لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله، وذلك في قوله :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾.
وقوله في هذه الآية :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ﴾ يجوز فيه أن يكون «راغب » خبراً مقدماً، و«أنت » مبتدأ مؤخراً، وأن يكون «أراغب » مبتدأ و«أنت » فاعل سد مسد الخبر. ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين : الأول أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير. والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم. الوجه الثاني هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو «أراغب » وبين معمولة الذي هو «عن آلهتي » بما ليس بمعمول للعامل. لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ، بخلاف كون «أنت » فاعلاً. فإنه معمول «أراغب » فلم يفصل بين «أراغب » وبين «عن آلهتي » بأجنبي، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره. والرغبة عن الشيء : تركه عمداً المزهد فيه، وعدم الحاجة إليه، وقد قدمنا في سورة «النساء » الفرق بين قولهم : رغب عنه، وقولهم : رغب فيه في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ الآية. والتحقيق في قوله «ملياً » أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
وأصله واوي اللام. لأنه من الملاوة وهي مدة العيش. ومن ذلك قيل الليل والنهار. الملوان : ومنه قول ابن مقبل :
ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلي الملوان
وقول الآخر :
نهار وليل دائم ملواهما على كل حال المرء يختلفان
وقيل الملوان في بيت ابن مقبل : طرفا النهار. وقوله ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ٤٧ ﴾ أي لطيفاً بي. كثير الإحسان إلي. وجملة ﴿ وَاهْجُرْنِي ﴾ عطف على جملة ﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾ وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :
وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
فجملة «وإن شفائي » خبرية، وجملة «وهل عند رسم » الخ إنشائية معطوفة عليها. وقول الآخر أيضاً :
تناغى غزالا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه. وقال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت : علام عطف ﴿ وَاهْجُرْنِي ﴾ قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه «لأرجمنك » أي فاحذرني واهجرني. لأن ﴿ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾ تهديد وتقريع ا ه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٦:قوله تعالى :﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ٤٦ ﴾.
بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر. ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان خاطبه هذا الخطاب العنيف، وسماه باسمه ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت. وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان أي معرض عنها لا يريدها. لأنه لا يعبد إلا الله وحده جل وعلا. وهدده جل وعلا. وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه ( قيل بالحجارة وقيل باللسان شتماً ) والأول أظهر. ثم أمره بهجره ملياً أي زماناً طويلاً، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضاً جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله :﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ الآية. وخطاب إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم، كما قال تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ٦٣ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ٥٥ ﴾ وما ذكره تعالى هنا من أن إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة، قابله أبوه بالعنف والشدة بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجؤوا إلى استعمال القوة، كقوله تعالى عن إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ ٦٥ ﴾ قال ﴿ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٧ ﴾ فلما أفحمهم بهذه الحجة لجؤوا إلى القوة، كما قال تعالى عنهم :﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ ﴾. ونظيره قوله تعالى عن قوم إبراهيم :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ الآية، وقوله عن قوم لوط لما أفحمهم بالحجة :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله :﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ يعني لا ينالك مني أذى ولا مكروه، بل ستسلم مني فلا أوذيك. وقوله :﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له، وقد وفى بذلك الوعد، كما قال تعالى عنه :﴿ وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ٨٦ ﴾، وكما قال تعالى عنه :﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ٤١ ﴾.
ولكن الله بين له أنه عدو لله تبرأ منه، ولم يستغفر له بعد ذلك، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ١١٤ ﴾، وقد قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ والموعدة المذكورة هي قوله هنا ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ الآية. ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين، واستغفر النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أنزل الله فيهم ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾. ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ ﴾ الآية. وبين في سورة «الممتحنة » أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الإسوة بإبراهيم، والإسوة الإقتداء، وذلك في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا ﴾ إلى قوله ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ الآية، أي فلا أسوة لكم في إبراهيم في ذلك. ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ الآية بيَّن الله تعالى أنهم معذورون في ذلك. لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله، وذلك في قوله :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾.
وقوله في هذه الآية :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ﴾ يجوز فيه أن يكون «راغب » خبراً مقدماً، و«أنت » مبتدأ مؤخراً، وأن يكون «أراغب » مبتدأ و«أنت » فاعل سد مسد الخبر. ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين : الأول أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير. والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم. الوجه الثاني هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو «أراغب » وبين معمولة الذي هو «عن آلهتي » بما ليس بمعمول للعامل. لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ، بخلاف كون «أنت » فاعلاً. فإنه معمول «أراغب » فلم يفصل بين «أراغب » وبين «عن آلهتي » بأجنبي، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره. والرغبة عن الشيء : تركه عمداً المزهد فيه، وعدم الحاجة إليه، وقد قدمنا في سورة «النساء » الفرق بين قولهم : رغب عنه، وقولهم : رغب فيه في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ الآية. والتحقيق في قوله «ملياً » أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
وأصله واوي اللام. لأنه من الملاوة وهي مدة العيش. ومن ذلك قيل الليل والنهار. الملوان : ومنه قول ابن مقبل :
ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلي الملوان

وقول الآخر :
نهار وليل دائم ملواهما على كل حال المرء يختلفان
وقيل الملوان في بيت ابن مقبل : طرفا النهار. وقوله ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ٤٧ ﴾ أي لطيفاً بي. كثير الإحسان إلي. وجملة ﴿ وَاهْجُرْنِي ﴾ عطف على جملة ﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾ وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :
وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
فجملة «وإن شفائي » خبرية، وجملة «وهل عند رسم » الخ إنشائية معطوفة عليها. وقول الآخر أيضاً :
تناغى غزالا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه. وقال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت : علام عطف ﴿ وَاهْجُرْنِي ﴾ قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه «لأرجمنك » أي فاحذرني واهجرني. لأن ﴿ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾ تهديد وتقريع ا ه.

قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ٥١ ﴾.
اعلم أن في قوله «مخلصاً » قراءتين سبعيتين : قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام بصيغة اسم المفعول، والمعنى على هذه القراءة أن الله استخلصه واصطفاه : ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ قَالَ يا مُوسَى إِنْي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾ الآية. ومما يماثل هذه القراءة في القرآن قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ٤٦ ﴾ فالذين أخلصهم الله هم المخلصون بفتح اللام، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «مخلصاً » بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل. كقوله تعالى :﴿ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي ١٤ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ٥٢ ﴾.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : يقول تعالى ذكره : ونادينا موسى من ناحية الجبل. ويعني بالأيمن يمين موسى. لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، وإنما ذلك كما يقال : قام عن يمين القبلة وعن شمالها، وهذه القصة جاءت مبينة في مواضع متعددة من كتاب الله تعالى. وذلك أن موسى لما قضى الأجل الذي بينه وبين صهره، وسار بأهله راجعاً من مدين إلى مصر آنس من جانب الطور ناراً، فذهب إلى تلك النار ليجد عندها من يدله على الطريق، وليأتي بجذوة منها ليوقد بها النار لأهله ليصطلوا بها. فناداه الله وأرسله إلى فرعون، وشفعه في أخيه هارون فأرسله معه، وأراه في ذلك الوقت معجزة العصا واليد ليستأنس بذلك قبل حضوره عند فرعون. لأنه لما رأى العصا في المرة الأولى صارت ثعباناً ولى مدبراً ولم يعقب. فلو فعل ذلك عندما انقلبت ثعباناً لما طالبه فرعون وقومه بآية لكان غير ذلك لائق، ولأجل هذا مرن عليها في أول مرة ليكون مستأنساً غير خائف منها حين تصير ثعباناً مبيناً قال تعالى في سورة «طه » :﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ٩ إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ١٠ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِي يا مُوسَى ١١ إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ١٢ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَا إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِى ١٤ ﴾، وقوله :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ ﴾ هو معنى قوله في «طه » :﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يا مُوسَى ١١ إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ ﴾.
وقوله ﴿ بِقَبَسٍ ﴾ أي شهاب. بدليل قوله في «النمل » :﴿ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ٧ ﴾ وذلك هو المراد بالجذوة في قوله :﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ ﴾، وقوله :﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ١٠ ﴾ أي من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. لأنهم كانوا ضلوا الطريق، والزمن زمن برد، وقوله :﴿ آنَسْتُ نَاراً ﴾ أي أبصرتها. وقوله :﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾ قال بعض العلماء : لأنهما كانتا من جلد حمار غير ذكي، ويروى هذا عن كعب وعكرمة وقتادة، نقله عنهم القرطبي وغيره. وروي أيضاً عن علي والحسن والزهري كما رواه عنهم صاحب الدر المنثور، ونقله ابن كثير عن علي وأبي أيوب وغير واحد من السلف. ويروى هذا القول عن غير من ذكر. وجاء فيه حديث مرفوع من حديث عبد الله بن مسعود رواه الترمذي وغيره ولا يصح. وفيه أقوال أخر للعلماء غير ذلك. وأظهرها عندي والله تعالى أعلم : أن الله أمره بخلع نعليه أن نزعهما من قدميه ليعلمه التواضع لربه حين ناداه، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم، يستوجب من العبد كمال التواضع والخضوع. والله تعالى أعلم. وقول من قال : إنه أمر بخلعهما احتراماً للبقعة يدل له أنه أتبع أمره بخلعهما بقوله :﴿ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ١٢ ﴾ وقد تقرر في ( مسك الإيماء والتنبيه ) : أن «إن » من حروف التعليل. وأظهر الأقوال في قوله «طوى » : أنه اسم للوادي، فهو يدل من الوادي أو عطف بيان. وفيه أقوال أخر غير ذلك. وقوله :﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ﴾ أي اصطفيتك برسالتي، كقوله :﴿ إِنْي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾ ومعنى الاستعلاء في قوله :﴿ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ ﴾ أن المصطلين بالنار يستعلون المكان القريب منها. ونظير ذلك من كلام العرب قول الأعشى :
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
قال تعالى في سورة «النمل » :﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم ٦ ٍإِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ٧ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِي أَن بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ٨ يا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٩ ﴾. فقوله في «النمل » :﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِي ﴾ هو معنى قوله في «مريم » :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ ﴾. وقوله في «طه » :﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يا مُوسَى ١١ ﴾ الآية، وقوله :﴿ سآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ هو معنى قوله في «طه » :﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ١٠ ﴾ أي من يدلني على الطريق فيخبرني عنها فآتيكم بخبره عنها. وقال تعالى في سورة «القصص » :﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ٢٩ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئ الْوَادِ الأَيْمَنِ في الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾. فالنداء في هذه الآية هو المذكورة في «مريم »، وطه. والنمل » وقد بيَّن هنا أنه نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة. فدلت الآيات على أن الشجرة التي رأى فيها النار عن يمين الجبل الذي هو الطور، وفي يمين الوادي المقدس الذي هو طوى على القول بأن طوى اسم له. وقد قدمنا قول ابن جرير : أن المراد يمين موسى. لأن الجبل ومثله الوادي لا يمين له ولا شمال. وقال ابن كثير في قوله ﴿ نُودِي مِن شَاطِئ الْوَادِ الأَيْمَنِ ﴾ أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب. كما قال تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِي إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ﴾ فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة والجبل الغربي عن يمينه ا ه منه وهو معنى قوله :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ الآية.
والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة نداء الله له. فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق، ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة ؛ إذ لا يمكن أن يقول غير الله :﴿ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٩ ﴾، ولا أن يقول :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي ﴾ ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله، كقول فرعون ﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى ٢٤ ﴾ على سبيل فرض المحال فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب.
فقوله :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي ﴾، وقوله :﴿ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٩ ﴾ صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك. كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام.
وقوله تعالى :﴿ مِن شَاطِئ الْوَادِ الأَيْمَنِ في الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ قال الزمخشري في الكشاف :«من » الأولى والثانية لابتداء الغاية. أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة و﴿ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ بدل من قوله ﴿ مِن شَاطِئ الْوَادِ ﴾ بدل اشتمال. لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ. كقوله :﴿ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ ﴾.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى :﴿ نُودِي مِن شَاطِئ الْوَادِ الأَيْمَنِ ﴾ الآية : قال المهدوي : وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء انتهى منه. وشاطئ الوادي جانبه. وقال بعض أهل العلم : معنى «الأيمن » في قوله :﴿ مِن شَاطِئ الْوَادِ الأَيْمَنِ ﴾. وقوله :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ ﴾ من اليمن وهو البركة. لأن تلك البلاد بارك الله فيها. وأكثر أهل العلم على أن النار التي رآها موسى «نور » وهو يظنها ناراً. وفي قصته أنه رأى النار تشتعل فيها وهي لا تزداد إلا خضرة وحسناً. قيل هي شجرة عوسج. وقيل شجرة عليق. وقيل شجرة عناب. وقيل سمرة. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في سورة «النمل » :﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِي أَن بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ اختلفت عبارات المفسرين في المراد ب ﴿ مَن في النَّارِ ﴾ في هذه الآية في سورة «النمل » فقال بعضهم : هو الله جل وعلا، وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب قالوا :«بورك من في النار » أي تقدس الله وتعالى. وقالوا : كان نور رب العالمين في الشجرة. واستدل من قال بهذا القول بحديث أبي موسى الثابت في الصحيح : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. حجا به النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ».
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول بعيد من ظاهر القرآن. ولا ينبغي أن يطلق على الله أنه في النار التي في الشجرة. سواء قلنا : إنها نار أو نور، سبحانه جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلالها وتأويل ذلك ب ﴿ مَن في النَّارِ ﴾ سلطانه وقدرته لا يصح. لأن صرف كتاب الله عن ظاهره المتبادر منه لا يجوز إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبه تعلم أن قول أبي حيان في «البحر المحيط » : قال ابن عباس، وابن جبير، والحسن وغيرهم : أراد بمن في النار ذاته. وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا أثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف. أي بورك من قدرته وسلطانه في النار ا ه أنه أصاب في تنزيهه لله عن تلك العبارات، ولم يصب فيما ذكر من التأويل. والله أعلم. وقال بعضهم : إن معنى ﴿ بُورِكَ مَن في النَّارِ ﴾ أي بوركت النار لأنها نور. وبعده عن ظاهر القرآن واضح كما ترى. وقال بعضهم : أن ﴿ بُورِكَ مَن في النَّارِ ﴾ أي بوركت الشجرة التي تتقد فيها النار. وبعده عن ظاهر القرآن أيضاً واضح كما ترى. وإطلاق لفظة «من » على الشجرة وعلى ما في النار من أمر الله غير مستقيم في لغة العرب التي نزل بها القرآن العظيم كما ترى.
وأقرب الأقوال في معنى الآية إلى ظاهر القرآن العظيم قول من قال : إن في النار التي هي نور ملائكة وحولها ملائكة وموسى. وأن معنى ﴿ بُورِكَ مَن في النَّارِ ﴾ أي الملائكة الذين هم في ذلك النور ومن حولها ؛ أي وبورك الملائكة الذين هم حولها، وبورك موسى لأنه حولها معهم. وممن يروى عنه هذا : السدي. وقال الزمخشري ( في الكشاف ) : ومعنى أن ﴿ بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها البقعة التي حصلت فيها، وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى :{ أَتَاهَا نُودِي
قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ٥٣ ﴾.
معنى الآية الكريمة : أن الله وهب لموسى نبوة هارون. والمعنى أنه سأله ذلك فآتاه سؤله. وهذا المعنى أوضحه تعالى في آيات أخر، كقوله في سورة «طه » عنه :﴿ وَاجْعَل لي وَزِيراً مِّنْ أهلي ٢٩ هَارُونَ أخي ٣٠ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ٣١ وَأَشْرِكْهُ في أمري ٣٢ ﴾ إلى قوله ﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى ٣٦ ﴾، وقوله في «القصص » :﴿ قَالَ رَبِّ إني قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ٣٣ وأخي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ معي رِدْءاً يصدقني إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ٣٤ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ٣٥ ﴾، وقوله في سورة «الشعراء » :﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِين ١٠ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُون ١١ قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ١٢ وَيَضِيقُ صدري وَلاَ يَنطَلِقُ لساني فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ١٣ وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُون ١٤ ِقَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بآياتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ ١٥ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦ ﴾ فهذه الآيات تبين أنه سأل ربه أن يرسل معه أخاه، فأجاب ربه جل وعلا سؤاله في ذلك. وذلك يبين أن الهبة في قوله :﴿ وَوَهَبْنَا ﴾ هي في الحقيقة واقعة على رسالته لا على نفس هارون، لأن هارون أكبر من موسى، كما قاله أهل التاريخ.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّا ٥٤ً ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يذكر في الكتاب وهو هذا القرآن العظيم ( جده إسماعيل )، وأثنى عليه أعني إسماعيل بأنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً. ومما يبين من القرآن شدتة صدقه في وعده : أنه وعد أباه بصبره له على ذبحه ثم وفى بهذا الوعد. ومن وفى بوعده في تسليم نفسه للذبح فإن ذلك من أعظم الأدلة على عظيم صدقه في وعده ؛ قال تعالى :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْي قَالَ يا بني إني أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ١٠٢ ﴾ فهذا وعده. وقد بين تعالى وفاءه به في قوله :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ١٠٣ ﴾. والتحقيق أن الذبيح هو إسماعيل. وقد دلت على ذلك آيتان من كتاب الله تعالى دلالة واضحة لا لبس فيها. وسنوضح ذلك إن شاء الله غاية الإيضاح في سورة «الصافات ». وثناؤه جل وعلا في هذه الآية الكريمة على نبيه إسماعيل بصدق الوعد يفهم من دليل خطابه أعني مفهوم مخالفته أن إخلاف الوعد مذموم. وهذا المفهوم قد جاء مبيناً في مواضع أخر من كتاب الله تعالى. كقوله تعالى :﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً في قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ ﴾ وقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ٣ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث :«آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ».
وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ﴾، قد بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك الذي أثنى الله به على جده إسماعيل، كقوله تعالى :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ الآية. ومعلوم أنه امتثل هذا الأمر. وكقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ الآية. ويدخل في ذلك أمرهم أهليهم بالصلاة والزكاة. إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد. فقال بعضهم : يلزم الوفاء به مطلقاً. وقال بعضهم : لا يلزم مطلقاً. وقال بعضهم : إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله ما لو قال له : تزوج. فقال له : ليس عندي ما أصدق به الزوجة. فقال : تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك، فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق. واحتج من قال يلزمه : بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث. فالآيات كقوله تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ الآية، وقوله هنا :﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ﴾ الآية، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث كحديث «العدة دين » فجعلها ديناً دليل على لزومها. قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس :«العدة دين، رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ قال : لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«العدة دين » ورواه أبو نعيم عنه بلفظ : إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكره بلفظ «عطية » ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفاً، ورواه الطبراني والديلمي عن علي مرفوعاً بلفظ : العدة دين. ويل لمن وعد ثم أخلف. ويل له.. » ثلاثاً. ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط. والديلمي أيضاً بلفظ :«الوعد بالعدة مثل الدين أو أشد » أي وعد الواعد. وفي لفظ له «عدة المؤمن دين. وعدة المؤمن كالأخذ باليد ». وللطبراني في الأوسط عن قياث بن أشيم الليثي مرفوعاً :«العدة عطية ». وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلاً : أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلم تجد عنده، فقالت : عدني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن العدة عطية » وهو في مراسيل أبي داود. وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«العدة عطية ». وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال : سأل رجل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال :«ما عندي ما أعطيك » قال : في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه : وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء انتهى منه. وقد علم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.
وقال شارحه المناوي : وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي : لا يعرف ا ه. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة. وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقياث بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة، دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال : بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع على أن من وعد رجلاً بمال إذا فلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر. كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة. وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم. وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها. فقد أضر به. وليس للمسلم أن يضر بأخيه، الحديث «لا ضرر ولا ضرار ».
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال مالك : إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه، قال مالك : ولو كان ذلك في قضاءه دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء إن العدة لا يلزم منها شيء، لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ﴾ وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندى، قال البخاري : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع ا ه كلام القرطبي. وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه، هو قوله في آخر الكتاب «الشهادات » : باب من أمر بإنجاز الوعد، وفعله الحسن وذكر في إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة : سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهراً له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبد الله : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع : حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله : أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان : أن هرقل قال له : سألتك ماذا يأمركم. فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال : وهذه صفة نبي. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف ». حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : لما مات النَّبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر : من كان له على النَّبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر : فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر : فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة. حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير : قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال : قضى أكثرهما وأطيبهما. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل انتهى من صحيح البخاري. وقوله في ترجمة الباب المذكور «وفعله الحسن » يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية ﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ﴾ أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله، فلا يجوز. وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع، كما قاله ابن حجر في «الفتح ». والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. وصهر النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافراً، وقد وعده برد ابنته زينب إليه وردها إليه. خلافاً لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه. وقد ذكر البخاري في الباب المذكور أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور. ووجه الدلالة منه في قوله :«فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة » فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة. وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب.
الثاني حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله «وإذا وعد أخلف » فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.
الثالث حديث جابر في قصته مع أبي بكر. ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال : من كان له على النَّبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبلة عدة.. الحديث. فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده النَّبي صلى الله عليه وسلم من المال : فدل ذلك على الوجوب.
الرابع حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى : ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا. وفي الاستدلال بهذه الأح
قوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ٥٩ ﴾.
الضمير في قوله «من بعدهم » راجع إلى النَّبيين المذكورين في قوله تعالى :﴿ أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾. أي فخلف من بعد أولئك النَّبيين خلف، أي أولاد سوء. قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة «الأعراف » قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد، الواحد والجمع فيه سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غريباً. وقال ابن والأعرابي : الخلف بالفتح الصالح. وبالسكون : الطالح. قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف. ومنه المثل السائر «سكت ألفاً ونطق خلفاً ». فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم :«يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له » وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقال آخر :
إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى خلف، أي ردم انتهى منه. والردم : الضراط.
ومعنى الآية الكريمة : أن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النَّبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة : أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. واختلف أهل العلم في المراد بإضاعتهم الصلاة، فقال بعضهم : المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها. وممن يروى عنه هذا القول ابن مسعود، والنخعي، والقاسم بن مخيمرة، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن هذا القول هو الصحيح. وقال بعضهم : إضاعتها الإخلال بشروطها، وممن اختار هذا القول الزجاج، وقال بعضهم : المراد بإضاعتها جحد وجوبها. ويروى هذا القول وما قبله عن محمد بن كعب القرظي، وقيل : إضاعتها في غير الجماعات. وقيل : إضاعتها تعطيل المساجد، والاشتغال بالصنائع والأسباب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وكل هذه الأقوال تدخل في الآية. لأن تأخيرها عن وقتها، وعدم إقامتها في الجماعة، والإخلال بشروطها، وجحد وجوبها، وتعطيل المساجد منها كل ذلك إضاعة لها، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت، واختلف العلماء أيضاً في الخلف المذكورين من هم ؟ فقيل : هم اليهود. ويروى عن ابن عباس ومقاتل. وقيل : هم اليهود والنصارى، ويروى عن السدي. وقيل : هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون عند ذهاب الصالحين منها، يركب بعضهم بعضاً في الأزقة زنى. ويروى عن مجاهد وعطاء وقتادة ومحمد بن كعب القرظي. وقيل : إنهم البربر، وقيل : إنهم أهل الغرب. وفيهم أقوال أخر.
قال مقيده عفا الله عنه : وكونهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس بوجيه عندي. لأن قوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى. والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية، فأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية، واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن علي رضي الله عنه : من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور فهو ممن اتبع الشهوات.
وقوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ٥٩ ﴾.
اعلم أولاً أن العرب تطلق الغي على كل شر. والرشاد على كل خير. قال المرقش الأصغر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
فقوله «ومن يغو » يعني ومن يقع في شر. والإطلاق المشهور هو أن الغي الضلال. وفي المراد بقوله «غيا » في الآية أقوال متقاربة، منها أن الكلام على حذف مضاف، أي فسوف يلقون جزاء غي، ولا شك أنهم سيلقون جزاء ضلالهم. وممن قال بهذا القول : الزجاج. ونظير هذا التفسير قوله تعالى :﴿ يَلْقَ أَثَاماً ٦٨ ﴾ عند من يقول إن معناه يلق مجازاة أثامه في الدنيا، ويشبه هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾، وقوله :﴿ أُولَائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ﴾. فأطلق النار على ما أكلوا في بطونهم في الدنيا من المال الحرام لأنها جزاؤه. كما أطلق الغي والأثام على العذاب لأنه جزاؤهما. ومنها أن الغي في الآية الخسران والحصول في الورطات. وممن روى عنه هذا القول : ابن عباس، وابن زيد. وروي عن ابن زيد أيضاً «غيا » أي شراً أو ضلالاً أو خيبة. وقال بعضهم : إن المراد بقوله «غيا » في الآية : واد في جهنم من قيح، لأنه يسيل فيه قيح أهل النار وصديدهم، وهو بعيد القعر خبيث الطعم. وممن قال بهذا ابن مسعود، والبراء بن عازب. وروي عن عائشة، وشفي بن ماتع.
وجاء حديث مرفوع بمقتضى هذا القول من حديث أبي أمامة وابن عباس فيه : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن غياً واد في جنهم » كما في حديث ابن عباس. وفي حديث أبي أمامة : أن غيا، وأثاما : نهران في أسفل جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار. والظاهر أنه لم يصح في ذلك شيء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي الذي أشرنا له آنفاً، ثم قال : هذا حديث غريب ورفعه منكر. وقيل : إن المعنى فسوف يلقون غياً أي ضلالاً في الآخرة عن طريق الجنة، ذكره الزمخشري. وفيه أقوال أخر، ومدار جميع الأقوال في ذلك على شيء واحد، وهو : أن أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سوف يلقون يوم القيامة عذاباً عظيماً.
فإذا عرفت كلام العلماء في هذه الآية الكريمة، وأن الله تعالى توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي الذي هو الشر العظيم والعذاب الأليم.
فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في ذم الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٤ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ٥ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ٦ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ٧ ﴾، وقوله في ذم المنافقين :﴿ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٤٢ ﴾، وقوله فيهم أيضاً :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ٥٤ ﴾. وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات وتهديدهم، كقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ١٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُون ٤٦ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ٤٧ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتبعون الشهوات، وقد أشار تعالى إلى هذا في مواضع من كتابه. كقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ١ َالَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ ﴾ إلى قوله ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُون ٩ َأُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ١٠ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. وكقوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ٤٠ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِي الْمَأْوَى ٤١ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :
المسألة الأولى أجمع العلماء على أن تارك الصلاة، الجاحد لوجوبها كافر، وأنه يقتل كفراً ما لم يتب. والظاهر أن ترك ما لا تصح الصلاة دونه كالوضوء وغسل الجنابة كتركها. وجحد وجوبه كجحد وجوبها.
المسألة الثانية اختلف العلماء في تارك صلاة عمداً تهاوناً وتكاسلاً مع اعترافه بوجوبها، هل هو كافر أو مسلم. وهل يقتل كفراً أو حداً أو لا يقتل. فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كافراً مرتد يستتاب، فإن تاب فذلك. وإن لم يتب قتل كفراً. وممن قال بهذا : الإمام أحمد رحمه الله في أصح الروايتين. وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وبه قال ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، ومنصور الفقيه من الشافعية. ويروى أيضاً عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية. وهو رواية ضعيفة عن مالك. واحتج أهل هذا القول بأدلة، منها قوله تعالى :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ الآية. ويفهم من مفهوم الآية : أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من أخوان المؤمنين، ومن انتفت عنهم إخوة المؤمنين فهم من الكافرين، لأن الله يقول :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ الآية. ومنها حديث جابر الثابت في صحيح مسلم عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من طريقين. لفظ المتن في الأولى منهما : سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول :«إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ». ولفظ المتن في الأخرى : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة » انتهى منه. وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر، لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافراً. ومنها حديث أم سلمة، وحديث عوف بن مالك الآتيين الدالين على قتال الأمراء إذا لم يصلوا، وهما في صحيح مسلم مع حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه قال : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا تنازع الأمر أهله. قال :«ألا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ».
فدل مجموع الأحاديث المذكورة أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان. وقد قدمنا هذه الأحاديث المذكورة في سورة «البقرة ». وهذا من أقوى أدلة أهل هذا القول. ومنها حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر » أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان والحاكم. وقال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) في هذا الحديث : صححه النسائي، والعراقي. وقال النووي في شرح ( المهذب ) : رواه الترمذي والنسائي، قال الترمذي : حديث حسن صحيح. وقال الحاكم في المستدرك بعد أن ساق هذا الحديث بإسناده : هذا حديث صحيح الإسناد، لا تعرف له علة بوجه من الوجوه. فقد احتجا جميعاً بعبد الله بن بريدة عن أبيه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:قوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ٥٩ ﴾.
الضمير في قوله «من بعدهم » راجع إلى النَّبيين المذكورين في قوله تعالى :﴿ أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾. أي فخلف من بعد أولئك النَّبيين خلف، أي أولاد سوء. قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة «الأعراف » قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد، الواحد والجمع فيه سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غريباً. وقال ابن والأعرابي : الخلف بالفتح الصالح. وبالسكون : الطالح. قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف. ومنه المثل السائر «سكت ألفاً ونطق خلفاً ». فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم :«يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له » وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع

وقال آخر :
إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى خلف، أي ردم انتهى منه. والردم : الضراط.
ومعنى الآية الكريمة : أن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النَّبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة : أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. واختلف أهل العلم في المراد بإضاعتهم الصلاة، فقال بعضهم : المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها. وممن يروى عنه هذا القول ابن مسعود، والنخعي، والقاسم بن مخيمرة، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن هذا القول هو الصحيح. وقال بعضهم : إضاعتها الإخلال بشروطها، وممن اختار هذا القول الزجاج، وقال بعضهم : المراد بإضاعتها جحد وجوبها. ويروى هذا القول وما قبله عن محمد بن كعب القرظي، وقيل : إضاعتها في غير الجماعات. وقيل : إضاعتها تعطيل المساجد، والاشتغال بالصنائع والأسباب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وكل هذه الأقوال تدخل في الآية. لأن تأخيرها عن وقتها، وعدم إقامتها في الجماعة، والإخلال بشروطها، وجحد وجوبها، وتعطيل المساجد منها كل ذلك إضاعة لها، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت، واختلف العلماء أيضاً في الخلف المذكورين من هم ؟ فقيل : هم اليهود. ويروى عن ابن عباس ومقاتل. وقيل : هم اليهود والنصارى، ويروى عن السدي. وقيل : هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون عند ذهاب الصالحين منها، يركب بعضهم بعضاً في الأزقة زنى. ويروى عن مجاهد وعطاء وقتادة ومحمد بن كعب القرظي. وقيل : إنهم البربر، وقيل : إنهم أهل الغرب. وفيهم أقوال أخر.
قال مقيده عفا الله عنه : وكونهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس بوجيه عندي. لأن قوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى. والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية، فأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية، واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن علي رضي الله عنه : من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور فهو ممن اتبع الشهوات.
وقوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ٥٩ ﴾.
اعلم أولاً أن العرب تطلق الغي على كل شر. والرشاد على كل خير. قال المرقش الأصغر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
فقوله «ومن يغو » يعني ومن يقع في شر. والإطلاق المشهور هو أن الغي الضلال. وفي المراد بقوله «غيا » في الآية أقوال متقاربة، منها أن الكلام على حذف مضاف، أي فسوف يلقون جزاء غي، ولا شك أنهم سيلقون جزاء ضلالهم. وممن قال بهذا القول : الزجاج. ونظير هذا التفسير قوله تعالى :﴿ يَلْقَ أَثَاماً ٦٨ ﴾ عند من يقول إن معناه يلق مجازاة أثامه في الدنيا، ويشبه هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾، وقوله :﴿ أُولَائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ﴾. فأطلق النار على ما أكلوا في بطونهم في الدنيا من المال الحرام لأنها جزاؤه. كما أطلق الغي والأثام على العذاب لأنه جزاؤهما. ومنها أن الغي في الآية الخسران والحصول في الورطات. وممن روى عنه هذا القول : ابن عباس، وابن زيد. وروي عن ابن زيد أيضاً «غيا » أي شراً أو ضلالاً أو خيبة. وقال بعضهم : إن المراد بقوله «غيا » في الآية : واد في جهنم من قيح، لأنه يسيل فيه قيح أهل النار وصديدهم، وهو بعيد القعر خبيث الطعم. وممن قال بهذا ابن مسعود، والبراء بن عازب. وروي عن عائشة، وشفي بن ماتع.
وجاء حديث مرفوع بمقتضى هذا القول من حديث أبي أمامة وابن عباس فيه : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن غياً واد في جنهم » كما في حديث ابن عباس. وفي حديث أبي أمامة : أن غيا، وأثاما : نهران في أسفل جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار. والظاهر أنه لم يصح في ذلك شيء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي الذي أشرنا له آنفاً، ثم قال : هذا حديث غريب ورفعه منكر. وقيل : إن المعنى فسوف يلقون غياً أي ضلالاً في الآخرة عن طريق الجنة، ذكره الزمخشري. وفيه أقوال أخر، ومدار جميع الأقوال في ذلك على شيء واحد، وهو : أن أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سوف يلقون يوم القيامة عذاباً عظيماً.
فإذا عرفت كلام العلماء في هذه الآية الكريمة، وأن الله تعالى توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي الذي هو الشر العظيم والعذاب الأليم.
فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في ذم الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٤ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ٥ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ٦ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ٧ ﴾، وقوله في ذم المنافقين :﴿ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٤٢ ﴾، وقوله فيهم أيضاً :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ٥٤ ﴾. وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات وتهديدهم، كقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ١٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُون ٤٦ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ٤٧ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتبعون الشهوات، وقد أشار تعالى إلى هذا في مواضع من كتابه. كقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ١ َالَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ ﴾ إلى قوله ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُون ٩ َأُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ١٠ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. وكقوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ٤٠ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِي الْمَأْوَى ٤١ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :

المسألة الأولى أجمع العلماء على أن تارك الصلاة، الجاحد لوجوبها كافر، وأنه يقتل كفراً ما لم يتب. والظاهر أن ترك ما لا تصح الصلاة دونه كالوضوء وغسل الجنابة كتركها. وجحد وجوبه كجحد وجوبها.
المسألة الثانية اختلف العلماء في تارك صلاة عمداً تهاوناً وتكاسلاً مع اعترافه بوجوبها، هل هو كافر أو مسلم. وهل يقتل كفراً أو حداً أو لا يقتل. فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كافراً مرتد يستتاب، فإن تاب فذلك. وإن لم يتب قتل كفراً. وممن قال بهذا : الإمام أحمد رحمه الله في أصح الروايتين. وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وبه قال ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، ومنصور الفقيه من الشافعية. ويروى أيضاً عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية. وهو رواية ضعيفة عن مالك. واحتج أهل هذا القول بأدلة، منها قوله تعالى :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ الآية. ويفهم من مفهوم الآية : أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من أخوان المؤمنين، ومن انتفت عنهم إخوة المؤمنين فهم من الكافرين، لأن الله يقول :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ الآية. ومنها حديث جابر الثابت في صحيح مسلم عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من طريقين. لفظ المتن في الأولى منهما : سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول :«إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ». ولفظ المتن في الأخرى : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة » انتهى منه. وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر، لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافراً. ومنها حديث أم سلمة، وحديث عوف بن مالك الآتيين الدالين على قتال الأمراء إذا لم يصلوا، وهما في صحيح مسلم مع حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه قال : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا تنازع الأمر أهله. قال :«ألا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ».
فدل مجموع الأحاديث المذكورة أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان. وقد قدمنا هذه الأحاديث المذكورة في سورة «البقرة ». وهذا من أقوى أدلة أهل هذا القول. ومنها حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر » أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان والحاكم. وقال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) في هذا الحديث : صححه النسائي، والعراقي. وقال النووي في شرح ( المهذب ) : رواه الترمذي والنسائي، قال الترمذي : حديث حسن صحيح. وقال الحاكم في المستدرك بعد أن ساق هذا الحديث بإسناده : هذا حديث صحيح الإسناد، لا تعرف له علة بوجه من الوجوه. فقد احتجا جميعاً بعبد الله بن بريدة عن أبيه

قوله تعالى :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ٦١ ﴾. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه وعد عباده المؤمنين المطيعين جنات عدن. ثم بين أن وعده مأتي. بمعنى أنهم يأتونه وينالون ما عدوا به. لأنه جل وعلا لا يخلف الميعاد. وأشار لهذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ الآية ؛ وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ٣١ ﴾، وقوله ﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ١٩٤ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأذقان سُجَّدًا ١٠٧ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ ربنا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ١٧ السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ١٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ التي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جزاء وَمَصِيراً ١٥ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ١٦ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله :﴿ مَأْتِيّاً ﴾ اسم مفعول أتاه إذا جاءه. والمعنى : أنهم لا بد أن يأتون ما وعدوا به. خلافاً لمن زعم أن ﴿ مَأْتِيّاً ﴾ صيغة مفعول أريد بها الفاعل. أي كان وعده آتياً، إذ لا داعي لهذا مع وضوح ظاهر الآية.
تنبيه
مثل بعض علماء البلاغة بهذه الآية لنوع من أنواع البدل. وهو بدل الكل من البعض، قالوا :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ بدل من الجنة في قوله :﴿ أُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ بدل كل من بعض.
قالوا : ومن أمثلة بدل الكل من البعض قوله :
رحم الله أعظماً دفنوها بسجستان طلحة الطلحات
«فطلحة » بدل من قوله «أعظماً » بدل كل من بعض. وعليه فأقسام البدل ستة : بدل الشيء من الشيء. وبدل البعض من الكل. وبدل الكل من البعض. وبدل الاشتمال. وبدل البداء. وبدل الغلط.
قال مقيده عفا الله عنه : ولا يتعين عندي في الآية والبيت كون البدل بدل كل من بعض، بل يجوز أن يكون بدل الشيء من الشيء، لأن الألف واللام في قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ للجنس، وإذا كان للجنس جاز أن يراد بها جميع الجنات، فيكون قوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ بدلاً من ﴿ الْجَنَّةِ ﴾ بدل الشيء من الشيء، لأن المراد بالأول الجمع كما تقدم كثير من أمثلة ذلك. والأعظم في البيت كناية عن الشخص، «فطلحة » بدل منه بدل الشيء من الشيء، لأنهم لم يدفنوا الأعظم وحدها بل دفنوا الشخص المذكور جميعه، أعظمه وغيرها من بدنه، وعبر هو عنه بالأعظم.
قوله تعالى :﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ٦٢ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المؤمنين إذا أدخلهم ربهم جنات عدن التي وعدهم ﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا ﴾ أي في الجنات المذكورة ﴿ لَغْواً ﴾ أي كلاماً تافهاً ساقطاً كما يسمع في الدنيا. واللغو : هو فضول الكلام، وما لا طائل تحته. ويدخل فيه فحش الكلام وباطله، ومنه قول رؤبة وقيل العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم *** عن اللّغا ورفث التكلم
كما تقدم في سورة «المائدة ».
والظاهر أن قوله ﴿ إِلاَّ سَلَاماً ﴾ استثناء منقطع، أي لكن يسمعون فيها سلاماً، لأنهم يسلم بعضهم على بعض، وتسلم عليهم الملائكة، كما يدل على ذلك قوله تعالى :﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ٢٣ ﴾، وقوله :﴿ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ ٢٣ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ الآية. كما تقد بمستوفى.
وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء في غير هذا الموضع أيضاً كقوله في «الواقعة » :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ٢٥ إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ٢٦ ﴾ وقد جاء الاستثناء المنقطع في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى :﴿ مَّا لَهُمْ مّنَ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ﴾ الآية : وقوله :﴿ وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ١٩ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى ٢٠ ﴾، وقوله :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأولى ﴾، وكقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات. فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة. ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان :
وقفت فيها أصيلاً لا أسائلها *** عيت جواباً وما بالربّع من أحد
إلا الأواري لأباً ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
«فالأواري » التي هي مرابط الخيل ليست من جنس «الأحد ». وقول الفرزدق :
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن *** لها خاطب إلا السنان وعامله
وقول جران العود :
وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس
«فالسنان » ليس من جنس «الخاطب » و«اليعافير والعيس » ليس واحد منهما من جنس «الأنيس ». وقول ضرار بن الأزور :
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة *** ولله بالعبد المجاهد أعلم
عشية لا تغني الرماح مكانها *** ولا النل إلا المشرفيّ المصمم
وبهذا الذي ذكرنا تعلم صحة وقوع الاستثناء المنقطع كما عليه جماهير الأصوليين خلافاً للإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية القائلين : بأن الاستثناء المنقطع لا يصح، لأن الاستثناء إخراج ما دخل في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه لم يدخل في اللفظ أصلاً حتى يخرج بالاستثناء.
تنبيهات
الأول اعلم أن تحقيق الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع يحصل بأمرين يتحقق بوجودهما أن الاستثناء متصل. وإن اختل واحد منهما فهو منقطع : الأول أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، نحو : جاء القوم إلا زيداً. فإن كان من غير جنسه فهو منقطع، نحو : جاء القوم إلا حماراً. والثاني أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. ومعلوم أن نقيض الإثبات النفي كالعكس. ومن هنا كان الاستثناء من النفي إثباتاً، ومن الإثبات نفياً. فإن كان الحكم على المستثنى ليس نقيض الحكم على المستثنى منه فهو منقطع ولو كان المستثنى من جنس المستثنى منه. فقوله تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأولى ﴾ استثناء منقطع على التحقيق، مع أن المستثنى من جنس المستثنى منه. وكذلك قوله :﴿ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾ وإنما كان منقطعاً في الآيتين لأنه لم يحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. فنقيض :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ ﴾ : هو يذوقون فيها الموت. وهذا النقيض الذي هو ذوق الموت في الآخرة لم يحكم به على المستثنى بل حكم بالذوق في الدنيا. ونقيض ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ كلوها بالباطل ولم يحكم به في المستثنى.
فتحصل أن انقطاع الاستثناء قسمان : أحدهما بالحكم على غير جنس المستثنى منه. كقولك : رأيت أخويك إلا ثوباً. الثاني : بالحكم بغير النقيض. نحو : رأيت أخويك إلا زيداً لم يسافر.
التنبيه الثاني
اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية. فلو أقر رجل لآخر فقال له : علي ألف دينار إلا ثوباً. فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله «إلا ثوباً » لغواً وتلزمه الألف كاملة. وعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع لا يلغى قوله «إلا ثوباً » وتسقط قيمة الثوب من الألف. والذين قالوا تسقط قيمته اختلفوا في توجيهه على قولين : أحدهما أنه مجاز، وأنه أطلق الثوب وأراد قيمته. والثاني : أن فيه إضماراً. أي حذف مضاف، يعني : إلا قيمة ثوب. فمن قال يقدم المجاز على الإضمار قال «إلا ثوباً » مجاز، أطلق الثوب وأراد القيمة. كإطلاق الدم على الدية. ومن قال يقدم الإضمار على المجاز قال «إلا ثوباً » أي إلا قيمة ثوب. واعتمد صاحب مراقي السعود تقديم المجاز على الإضمار في قوله :
وبعد تخصيص مجاز قبلي *** الإضمار فالنقل على المعول
ومعنى البيت : أن المقدم عندهم التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل. مثال تقديم التخصيص على المجاز إذا احتمل اللفظ كل واحد منهما قوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يحتمل التخصيص، لأن بعض المشركين كالذميين والمعاهدين أخرجهم دليل مخصص لعموم المشركين. ويحتمل عند القائلين بالمجاز أنه مجاز مرسل، أطلق فيه الكل وأراد البعض. فيقدم التخصيص لأمرين : أحدهما أن اللفظ يبقى حقيقة فيما لم يخرجه المخصص، والحقيقة مقدمة على المجاز الثاني أن اللفظ يبقى مستصحباً في الأفراد الباقية بعد التخصيص من غير احتياج إلى قرينة. ومثال تقديم المجاز على الإضمار عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سناً : أنت أبي، يحتمل أنه مجاز مرسل، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. أي أنت عتيق. لأن الأبوة يلزمها العتق. ويحتمل الإضمار. أي أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم. فعلى الأول يعتق. وعلى الثاني لا يعتق. ومن أمثلته المسألة التي نحن بصددها. ومثال تقديم الإضمار على النقل عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما قوله تعالى :﴿ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ يحتمل الإضمار. أي أخذ الربا وهو الزيادة في بيع درهم بدرهمين مثلاً. وعلى هذا لو حذف الدرهم الزائد لصح البيع في الدرهم بالدرهم. ويحتمل نقل الربا إلى معنى العقد. فيمتنع عقد بيع الدرهم بالدرهمين. ولو حذف الزائد فلا بد من عقد جديد مطلقاً.
قال مقيده عفا الله عنه : وعلى هذين الوجهين اللذين ذكروهما في «له علي ألف دينارٍ إلا ثوباً » وهما الإضمار والنقل يرجع الاستثناء إلى كونه متصلاً، لأن قيمة الثوب من جنس الألف التي أقر بها. سواء قلنا إن القيمة مضمرة، أو قلنا إنها مُعبر عنها بلفظ الثوب.
التنبيه الثالث
اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي. لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية، وإنما قالوا : إنه ليس من الاستثناء الحقيقي، لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى لكن، فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاستثناء. وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول : إن الثوب في المثال المتقدم لغو، ويعد ندماً من المقر بالألف. والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به قيل إنها نسبة تواطؤ. وقيل : إنها من قبيل الاشتراك. وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود بقوله :
والحكم بالنقيض للحكم حصل *** لما عليه الحكم قبل متصل
وغيره منقطع ورجحا *** جوازه وهو مجاز أوضحا
فلتنم ثوباً بعد ألف درهم *** الحذف والمجاز أو للندم
وقيل بالحذف لدى الإقرار *** والعقد معنى الواو فيه جار
بشركة وبالتواطي قالا *** بعض وأوجب فيه الاتصالا
وما ذكرنا من أن الاستثناء في قوله تعالى :﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً ﴾ منقطع هو الظاهر. وقيل : هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول نابغة ذبيان :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
وقول الآخر :
فما يك في من عيب فإني *** جبان الكلب مهزول الفصيل
وعلى هذا القول فالآية كقوله :﴿ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ونحو ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة «براءة ».
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ٦٢ ﴾ فيه سؤال معروف، وهو أن يقال : ما وجه ذكر البكرة والعشي، مع أن الجنة ضياء دائم ولا دليل فيها. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة :
الأول أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن، كقوله :﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ أي قدر شهر. وروي معنى هذا عن ابن عباس، وابن جريج وغيرهما.
الجواب الثاني أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداءً وعشاءً فذلك الناعم، فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان في الجنة أكثر من ذلك. ويروى هذا عن قتادة، والحسن، ويحيى بن أبي كثير.
الجواب الثالث أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي، والمساء والصباح، كما يقول الرجل :
أنا عند فلان صباحاً ومساءً، وبكرة وعشياً. يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين.
الجواب الرابع أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم. والعشي : هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم، لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال. وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول.
الجواب الخامس هو ما رواه الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا : قال رجل : يا رسول الله، هل في الجنة من ليل ؟ قال :«وما يهيجك على هذا » ؟ قال : سمعت الله تعالى يذكر ﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ٦٢ ﴾ فقلت : الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ليس هناك ليل، إنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرّواح والرّواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة » انتهى بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره. وقال القرطبي بعد أن نقل هذا : وهذا في غاية البيان لمعنى الآية. وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) ثم قال : وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار، وإنما هم في نور أبداً، إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب، وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب، وفتح الأبواب. ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغير
قوله تعالى :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ٦٣ ﴾.
الإشارة في قوله «تلك » إلى ما تقدم من قوله. ﴿ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ٦٠ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ﴾ الآية. وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يورث المتقين من عباده جنته. وقد بين هذا المعنى أيضاً في مواضع أخر، كقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ١ الَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ ﴾ إلى قوله ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ١٠ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١ ﴾، وقوله :﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ١٣٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً ﴾ الآية، وقوله ﴿ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. ومعنى إيراثهم الجنة : الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكمل نعيم وسرور. قال الزمخشري في ( الكشاف ) : نورث أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم، وثمرتها باقية وهي الجنة. فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. وقال بعض أهل العلم : معنى إيراثهم الجنة أن الله تعالى خلق لكل نفس منزلاً في الجنة. ومنزلاً في النار. فإذا دخل أهل الجنة الجنة ؛ أراهم منازلهم في النار لو كفروا وعصوا الله ليزداد سرورهم وغبطتهم ؛ وعند ذلك يقولون ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ الآية. وكذلك يرى أهل النار منازلهم في الجنة لو آمنوا واتقوا الله لتزداد ندامتهم وحسرتهم، وعند ذلك يقول الواحد منهم :﴿ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ٥٧ ﴾. ثم إنه تعالى يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة فيرثون منازل أهل النار في الجنة. وهذا هو معنى الإيراث المذكور على هذا القول.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد جاء حديث يدل لما ذُكر من أن لكل أحد منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب، لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم لمعدة لهم بأعمالهم وتقواهم، كما قد قال تعالى :﴿ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣ ﴾ ونحوها من الآيات. ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار والواقع بخلاف ذلك كما ترى. والحديث المذكور هو ما رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني فيكون له شكر. وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لولا أن الله هداني فيكون عليه حسرة » ا ه. وعلم في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة. وقال شارحه المناوي : قال الحاكم صحيح على شرطهما وأقره الذهبي.
وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح ا ه قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّا ٦٦ ﴾.
قال بعض أهل العلم : نزلت هذه الآية في أبي بن خلف، وجد عظاماً بالية ففتتها بيده وقال : زعم محمد أنا نبعث بعد الموت ؟ قاله الكلبي، وذكره الواحدي والثعلبي. وقال المهدوي : نزلت في الوليد بن المغيرة، وأصحابه، وهو قول ابن عباس. وقيل : نزلت في العاص بن وائل. وقيل : في أبي جهل، وعلى كل واحد من هذه الأقوال فقد أسند تعالى هذا القول لجنس الإنسان وهو صادر من بعض أفراد الجنس، لأن من أساليب العربية إسناد الفعل إلى المجموع، مع أن فاعله بعضهم لا جميعهم. ومن أظهر الأدلة القرآنية في ذلك قراءة حمزة والكسائي ﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ من القتل في الفعلين، أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر كما تقدم مراراً. ومن أظهر الشواهد العربية في ذلك قول الفرزدق :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
فقد أسند الضرب إلى بني عبس، مع أنه صرح بأن الضارب الذي بيده السيف هو ورقاء وهو ابن زهير بن جذيمة العبسي. وخالد هو ابن جعفر الكلابي. وقصة قتله لزهير المذكور مشهورة.
وقد بين في هذه الآية : أي هذا الإنسان الكافر يقول منكراً البعث : أئذا مت لسوف أخرج حياً، زعماً منه أنه إذا مات لا يمكن أن يحيا بعد الموت. وقد رد الله عليه مقالته هذه بقوله :﴿ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ٦٧ ﴾ يعني : أيقول الإنسان مقالته هذه في إنكار البعث، ولا يذكر أنا أوجدناه الإيجاد الأول ولم يك شيئاً، بل كان عدماً فأوجدناه، وإيجادنا له المرة الأولى دليل قاطع على قدرتنا على إيجاده بالبعث مرة أخرى.
وهذا البرهان الذي أشار له هنا قد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة «البقرة والنحل » وغيرهما، كقوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أنشأها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ٧٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأول بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ١٥ ﴾، وقوله :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ٦٢ ﴾، وقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ الآية وقوله :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ الآية. وقوله تعالى :﴿ كَمَا بدأنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ١٠٤ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه صلى الله عليه وسلم عن ربه :«يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني. أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ؛ وليس أول الخلق أهون علي من آخره. وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ». فإن قيل : أين العامل في الظرف الذي هو ﴿ إِذَا ﴾ فالجواب : أنه منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط ؛ وتقديره : أأخرج حياً إذا ما مت أي حين يتمكّن في الموت والهلاك أخرج حياً. يعني لا يمكن ذلك. فإن قيل : لم لا تقول بأنه منصوب ب﴿ أَخْرَجَ ﴾ المذكور في قوله ﴿ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ﴾ على العادة المعروفة، من أن العامل في ﴿ إِذَا ﴾ هو جزاؤِها ؟ فالجواب : أن لام الابتداء في قوله :﴿ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ﴾ مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها كما هو معلوم في علم العربية. فلا يجوز أن تقول : اليوم لزيْدٌ قائم ؛ تعني لزيد قائم اليوم. وما زعمه بعضهم من أن حرف التنفيس الذي هو سوف مانع من عمل ما بعده فيما قبله أيضاً، حتى إنه على قراءة طلحة بن مصرف ﴿ أإذا ما مت سأخرج حَياً ﴾ بدون اللام يمتنع نصب ﴿ إِذَا ﴾ ب ﴿ أَخْرَجَ ﴾ المذكورة ؛ فهو خلاف التحقيق.
والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله. ودليله وجوده في كلام العرب ؛ كقول الشاعر :
فلما رأته آمنا هان وجدها وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
فقوله «هكذا » منصوب بقوله «يفعل » كما أوضحه أبو حيان في البحر. وعليه فعلى قراءة طلحة بن مصرف فقوله :﴿ إِذَا ﴾ منصوب بقوله ﴿ أَخْرَجَ ﴾ لعدم وجود اللام فيها وعدم منع حرف التنفيس من عمل ما بعده فيما قبله.
تنبيه
فإن قلت : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف التنفيس الدال على الاستقبال ؟ فالجواب : أن اللام هنا جرِّدت من معنى الحال، وأخلصت لمعنى التوكيد فقط. ولذلك جامعت حرف الاستقبال كما بينه الزمحشري في الكشاف، وتعقبه أبو حيان في البحر المحيط بأن من علماء العربية من يمنع أن اللام المذكورة تعطي معنى الحال، وعلى قوله يسقط الإشكال من أصله. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ٦٨ ﴾.
لما أقام الله جل وعلا البرهان على البعث بقوله :﴿ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ٦٧ ﴾ أقسم جل وعلا بنفسه الكريمة، أنه يحشرهم أي الكافرين المنكرين للبعث وغيرهم من الناس، ويحشرهم معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا، وأنه يحضرهم حول جهنم جثياً. وهذان الأمران اللذان ذكرهما في هذه الآية الكريمة أشار إليهما في غير هذا الموضع. أما حشره لهم ولشياطينهم فقد أشار إليه في قوله :﴿ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٢٢ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ٢٣ ﴾ على أحد التفسيرات. وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ٣٨ ﴾.
وأما إحضارهم حول جهنم جثياً فقد أشار له في قوله :﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٨ ﴾، وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ جِثِيّاً ﴾ جمع جاث. والجاثي اسم فاعل جثا يجثو جثواً. وجثى يجثي جثياً : إذا جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه. والعادة عند العرب : أنهم إذا كانوا في موقف ضَنكٍ وأمر شديد، جثواْ على ركَبِهم، ومنه قول بعضهم :
فمن للحماةِ ومن للكماة إذا ما الكماةُ جثواْ للرُّكَبْ
إذا قيل مات أبو مالك فتى المكرمات قريع العربْ
وكون معنى قوله ﴿ جِثِيّاً ﴾ في هذه الآية، وقوله ﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ الآية أنه جثيهم على ركبهم وهو الظاهر، وهو قول الأكثر، وهو الإطلاق المشهور في اللغة ؛ ومنه قول الكميت :
هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرّنينا
وعن ابن عباس في قوله في هذه الآية الكريمة ﴿ جِثِيّاً ﴾ أن معناه جماعات. وعن مقاتل ﴿ جِثِيّاً ﴾ : أي جمعاً جمعاً، وهو على هذا القول جمع «جثوة » مثلثة الجيم، وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع. فأهل الخمر يحضرون حول جهنم على حدة، وأهل الزِّنى على حدة ؛ وأهل السرقة على حدة.. ؛ وهكذا. ومن هذا المعنى قول طرفة بن العبد في معلقته :
ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صمّ من صفيح منضد
هكذا قال بعض أهل العلم : ولكنه يرد عليه أن فعلة كجثوة لم يعهد جمعها على فعول كجثى. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص ﴿ جِثِيّاً ﴾ بكسر الجيم إتباعاً للكسرة بعده وقرأ الباقون ﴿ جِثِيّاً ﴾ بضم الجيم على الأصل.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيّاً ٦٩ ﴾.
قوله في هذه الآية ﴿ لَنَنزِعَنَّ ﴾ أي لنستخرجن ﴿ مِن كُلّ شِيعَةٍ ﴾ أي من كل أمة أهل دين واحد. وأصل الشيعة فعلة كفرقة، وهي الطّائفة التي شاعت غيرها أي تبعته في هدى أو ضلال ؛ تقول العرب : شاعه شياعاً : إذا تبعه.
وقوله تعالى :﴿ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيّاً ٦٩ ﴾.
أي لنستخرجن ولنميزن من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم، فيبدأ بتعذيبه وإدخاله النار على حسب مراتبهم في الكفر، والإضلال والضلال. وهذا هو الظاهر في معنى الآية الكريمة : أن الرؤساء القادة في الكفر يعذبون قبل غيرهم ويشدد عليهم العذاب لضلالهم وإضلالهم.
وقد جاءت آيات من كتاب الله تعالى تدل على هذا، كقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ٨٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ١٣ ﴾، وقوله :﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ ساء مَا يَزِرُونَ ٢٥ ﴾ ولأجل هذا كان في أمم النار أولى وأخرى. فالأولى : التي يبدأ بعذابها وبدخولها النار. والأخرى التي تدخل بعدها على حسب تفاوتهم في أنواع الكفر والضلال، كما قال تعالى :﴿ قَالَ ادْخُلُواْ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ في النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ٣٨ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ٣٩ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ٧٠ ﴾ يعني : أنه جل وعلا أعلم بمن يستحق منهم أن يصلى النار، ومن هو أولى بذلك. وقد بين الرؤساء والمرؤوسين كلهم ممن يستحق ذلك في قوله ﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ والصلى مصدر صلى النار كرضى يصلاها صلياً ( بالضم والكسر ) إذا قاسى ألمها، وباشر حرها.
واختلف العلماء في وجه رفع «أي » مع أنه منصوب ؛ لأنه مفعول ﴿ لَنَنزِعَنَّ ﴾ فذهب سيبويه ومن تبعه إلى أن لفظة «أي » موصولة، وأنها مبنية على الضم إذا كانت مضافة وصدر صلتها ضمير محذوف كما هنا. وعقده ابن مالك في الخلاصة بقوله :
أي كما وأعربت ما لم تُضف وصدر وصلها ضمير انحذف
وبعضهم أعرب مطلقاً.. الخ.
ويدل على صحة قول سيبويه رحمه الله قول غسان بن وعلة :
إذا ما لقِيت بني مالك فسلم على أيهم أفْضَل
والرواية بضم ﴿ أَيُّهُم ﴾ وخالف الخليل ويونس وغيرهما سيبويه في «أي » المذكورة. فقال الخليل : إنها في الآية استفهامية محكية بقول مقدر والتقدير : ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال فيه أيهم أشد ؛ وأنشد الخليل لهذا المعنى الذي ذهب إليه قول الشاعر :
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له : لا هو حرج ولا محروم. وأما يونس فذهب إلى أنها استفهامية أيضاً ؛ لكنه حكم بتعليق الفعل قبلها بالاستفهام لأن التعليق عنده لا يختص بأفعال القلوب، واحتج لسيبويه على الخليل ويونس ومن تبعهما ببيت غسان بن وعلة المذكور آنفاً، لأن الرواية فيه بضم ﴿ أَيُّهُم ﴾ مع أن حروف الجر، لا يضمر بينها وبين معمولها قول ولا تعلق على الأصوب، وإن خالف فيه بعضهم ببعض التأويلات. ومما ذكرنا تعلم أن ما ذكره بعضهم من أن جميع النحويين غلطوا سيبويه في قوله هذا في «أي » في هذه الآية الكريمة خلاف التحقيق. والعلم عند الله تعالى. وقرأه حمزة والكسائي وحفص ﴿ عِتِيّاً ﴾ بكسر العين. و﴿ صِلِيّاً ﴾ بكسر الصاد للإتباع. وقرأ الباقون بالضم فيهما على الأصل.
قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ٧١ ﴾.
اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال :
الأول : أن المراد بالورود الدُّخول، ولكن الله يصرفُ أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول.
الثاني : أن المراد بورود النار المذكور : الجواز على الصراط، لأنه جسر منصوب على متن جهنم.
الثالث : أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها.
الرابع : أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية. وقد قدمنا أمثلة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك.
وإيضاحه أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كل واحدة منها الدخول. فاستدل بذلك ابن عباس على أن «الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول »، لدلالة الآيات الأخرى على ذلك، كقوله تعالى :﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ٩٨ ﴾ قال : فهذا ورود دخول، وكقوله :﴿ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ٩٩ ﴾ فهو ورود دخول أيضاً، وكقوله :﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ٨٦ ﴾ وقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ٩٨ ﴾ وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في «أن الورود الدخول ».
واحتج من قال بأن الورود : الإشراف والمقاربة بقوله تعالى :﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ الآية. قال : فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه. وكذا قوله تعالى :﴿ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ ﴾. ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
فلما وردن الماء زرقاً جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
قالوا : والعرب تقول : وردت القافلة البلد وإن لم تدخله، ولكن قربت منه. واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها ليس نفس الدخول بقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ١٠١ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ في مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ١٠٢ ﴾ قالوا : إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها ؛ فالورود غير الدخول.
واحتج من قال : بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين حر الحمى في دار الدنيا بحديث «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء » وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهم. ورواه البخاري أيضاً مرفوعاً عن ابن عباس :
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة : الأول هو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. الدليل الثاني هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ٧١ ﴾ بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ﴾ أي نترك الظالمين فيها دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل : ونذر الظالمين فيها. بل يقول : ونُدخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى وكذلك قوله :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾ دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ قوله :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾.
الدليل الثالث ما روي من ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة : أخرج أحمد وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم : يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فذكرت له ذلك فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها : فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فِيها جثياً » ا ه. وقال ابن حجر في ( الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ) في هذا الحديث : رواه أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد قالوا : حدثنا سليمان بن حرب، وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى، والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكم في النوادر، كلهم من طريق سليمان قال : حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فسألنا جابراً فذكر الحديث أتم من اللفظ الذي ذكره الزمخشري. وخالفهم كلهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الإسناد فقال عن منية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة بدل أبي سمية عن جابر ا ه. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد البرساني، عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم : يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت : إنا اختلفنا في الورود فقال : يدخلونها جميعاً. ثم ذكر الحديث المتقدم. ثم قال ابن كثير رحمه الله : غريب ولم يخرجوه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن الإسناد المذكور لا يقل عن درجة الحسن لأن طبقته الأولى : سليمان بن حرب، وهو ثقة إمام حافظ مشهور. وطبقته الثانية : أبو صالح أو أبو سلمة غالب بن سليمان العتكي الجهضمي الخراساني أصله من البصرة، وهو ثقة. وطبقته الثالثة : كثير بن زياد أبو سهل البرساني بصري نزل بلخ، وهو ثقة. وطبقته الرابعة : أبو سمية وقد ذكره ابن حبان في الثقات، قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب : وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث، لأن غيره من رجال هذا الإسناد ثقات معروفون، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس وآثار جاءت عن علماء السلف رضي الله عنهم كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وذكره هو وابن جرير عن أبي ميسرة، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، كلهم يقولون : إنه ورود دخول. وأجاب من قال : بأن الورود في الآية الدخول عن قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ١٠١ ﴾ بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها. فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها كما أوضحناه في كتابنا﴿ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ﴾ في الكلام على هذه الآية الكريمة.
وأجابوا عن الاستدلال بحديث «الحمى من فيح جهنم » بالقول بموجبه، قالوا : الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع، لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا، لأن أول الكلام قوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ٦٨ ﴾ إلى أن قال ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى. والقراءة في قوله :﴿ جِثِيّاً ﴾ كما قدمنا في قوله ﴿ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ٦٨ ﴾. وقوله :﴿ ثُمَّ نُنَجّي ﴾ قراءة الكسائي بإسكان النون الثانية وتخفيف الجيم، وقرأه الباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم. وقد ذكرنا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) أن جماعة رووا عن ابن مسعود :«أن ورود النار المذكور في الآية هو المرور عليها، لأن الناس تمر على الصراط وهو جسر منصوب على متن جهنم » وأن الحسن وقتادة روي عنهما نحو ذلك أيضاً. وروي عن ابن مسعود أيضاً مرفوعاً :«أنهم يردونها جميعاً ويصدون عنها بحسب أعمالهم ». وعنه أيضاً تفسير «الورود بالوقوف عليها ». والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في الآية الكريمة :﴿ كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ٧١ ﴾ يعني أن ورودهم النار المذكور كان حتماً على ربك مقضياً، أي أمراً واجباً مفعولاً لا محالة، والحتم : الواجب الذي لا محيد عنه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
عبادك يخطئون وأنت رب يكفيك المنايا والحتوم
فقوله :«والحتوم » جمع حتم، يعني الأمور الواجبة التي لا بد من وقوعها. وما ذكره جماعة من أهل العلم من أن المراد بقوله :﴿ حتماً مقضياً ﴾ قسماً واجباً »، كما روي عن عكرمة وابن مسعود ومجاهد وقتادة وغيرهم لا يظهر كل الظهور.
واستدل من قال : إن في الآية قسماً بحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين. قال البخاري في صحيحه : حدثنا علي، حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يموت لمسلم ثلاثة من الولدِ فيلج النار إلا تحلة القسم » قال أبو عبد الله :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ ا ه. وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثةٌ من الولدِ فتمسه النار إلا تحلة القسم ». حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب قالوا. حدثنا سفيان بن عيينة ( ح ) وحدثنا عبد بن حميد، وابن رافع، عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري بإسناد مالك، وبمعنى حديثه إلا أن في حديث سفيان «فيلج النار إلا تحلة القسم » ا ه. قالوا. المراد بالقسم المذكور في هذا الحديث الصحيح هو قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ٧١ ﴾ وهو معنى ما ذكرنا عن البخاري في قوله : قال أبو عبد الله ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾. والذين استدلوا بالحديث المذكور على أن الآية الكريمة قسماً اختلفوا في موضع القسم من الآية، فقال بعضهم : هو مقدر دل عليه الحديث المذكور، أي والله وإن منكم إلا واردها. وقال بعضهم : هو معطوف على القسم قبله، والمعطوف على القسم قسم، والمعنى : فوربِّك لنحشرنهم والشياطين وربك إن منكم إلا واردها، وقال بعضهم : القسم المذكور مستفاد من قوله :{ كَانَ عَل
قوله تعالى ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ٧٣ ﴾.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ خَيْرٌ مَّقَاماً ﴾ قرأه ابن كثير بضم الميم. والباقون بفتحها. وقوله :﴿ ورئْياً ﴾ قرأه قالون وابن ذكوان «ورياً » بتشديد الياء من غير همز. وقرأه الباقون بهمزة ساكنة بعد الراء وبعدها ياء مخففة.
ومعنى الآية الكريمة : أن كفار قريش كانوا إذا يتلوا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه آيات هذا القرآن، في حال كونها بينات أي مرتلات الألفاظ، واضحات المعاني، بينات المقاصد، إما محكمات جاءت واضحة، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً، أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها أو حججا وبراهين.
والظاهر أن قوله :﴿ بَيّنَاتٍ ﴾ حال مؤكدة. لأن آيات الله لا تكون إلا كذلك. ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا ﴾ أي إذا تتلى عليهم آيات الله في حال كونها متصفة بما ذكرنا عارضوها واحتجوا على بطلانها، وأن الحق معهم لا مع من يتلوها بشبهة ساقطة لا يحتج بها إلا من لا عقل له. ومضمون شبهتهم المذكورة : أنهم يقولون لهم : نحن أوفر منكم حظاً في الدنيا، فنحن أحسن منكم منازل، وأحسن منكم متاعاً، وأحسن منكم منظراً، فلولا أننا أفضل عند الله منكم لما آثرنا عليكم في الحياة الدنيا، وأعطانا من نعيمها وزينتها ما لم يعطكم.
فقوله :﴿ أي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً ﴾ أي نحن وأنتم أينا خير مقاماً. والمقام على قراءة ابن كثير بضم الميم محل الإقامة، وهو المنازل والأمكنة التي يسكنونها. وعلى قراءة الجمهور فالمقام بفتح الميم مكان القيام وهو موضع قيامهم وهو مساكنهم ومنازلهم. وقيل : وهو موضع القيام بالأمور الجليلة، والأول هو الصواب.
وقوله :﴿ وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾ أي مجلساً ومجتمعاً. والاستفهام في قوله :﴿ أي الْفَرِيقَيْنِ ﴾ الظاهر أنه استفهام تقرير. ليحملوا به ضعفاء المسلمين الذين هم في تقشف ورثاثة هيئة على أن يقولوا أنتم خير مقاماً وأحسن ندياً منا. وعلى كل حال فلا خلاف أن مقصودهم بالاستفهام المذكور أنهم أي كفار قريش خير مقاماً وأحسن ندياً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو دليلهم على أنهم على الحق، وأنهم أكرم على الله من المسلمين. وما في التلخيص وشروحه من أن السؤال ب«أي » في الآية التي نحن بصددها سؤال بها عما يميز أحد المشتركين في أمر يعمُّهما كالعادة في أي غلط منهم. لأنهم فسروا الآية الكريمة بغير معناها الصحيح. والصواب ما ذكرناه إن شاء الله تعالى. واستدلالهم هذا بحظهم في الحياة الدنيا على حظهم يوم القيامة، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده، واستحقاقهم لذلك القيامة، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده، واستحقاقهم لذلك لسخافة عقولهم ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه. كقوله تعالى عنهم :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ١١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَكَذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ٥٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين ٥٥ َنُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ٥٦ ﴾، وقوله ﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ٧٧ ﴾، وقوله ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً ٣٥ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ٣٦ ﴾، وقوله :﴿ وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. فكل هذه الآيات دالة على أنهم لجهلهم يظنون أن الله لم يعطهم نصيباً من الدنيا إلا لرضاه عنهم، ومكانتهم عنده، وأن الأمر في الآخرة سيكون كذلك.
وقد أبطل الله تعالى دعواهم هذه في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ٧٤ ﴾ والمعنى : أهلكنا قرونا كثيرة، أي أمماً كانت قبلهم وهم أكثر نصيباً في الدنيا منهم، فما معهم ما كان عندهم من زينة الدنيا ومتاعها من إهلاك الله إياهم لما عصوا وكذبوا رسله، فلو كان الحظ والنصيب في الدنيا يدل على رضا الله والمكانة عنده لما أهلك الذين من قبلكم، الذين هم أحسن أثاثاً ورئياً منكم.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكَمْ ﴾ هي الخبرية، ومعناها الإخبار بعدد كثير، وهي في حمل نصب على المفعول به لأهلكنا، أي أهلكنا كثيراً. ﴿ وَمِنْ ﴾ مبينة ل﴿ كَمْ ﴾ وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. قيل : سموا قرناً لاقترانهم في الوجود. والأثاث : متاع البيت. وقيل هو الجديد من الفرش. وغير الجديد منها يسمى «الخرثي » بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة. وأنشد لهذا التفصيل الحسن بن علي الطُّوسي قول الشاعر :
تقادم العهد من أم الوليد بنا دهراً وصار أثاث البيت خرثيا
والإطلاق المشهور في العربية هو إطلاق الأثاث على متاع البيت مطلقاً. قال الفراء : لا واحد له. ويطلق الأثاث على المال أجمع : الإبل، والغنم، والعبيد، والمتاع. والواحد أثاثة. وتأثث فلان : إذا أصاب رياشاً، قاله الجوهري عن أبي زيد. وقوله ﴿ ورئْياً ﴾ على قراءة الجمهور مهموزاً، أي أحسن منظراً وهيئة، وهو فعل بمعنى مفعول من رأى البصرية. والمراد به الذي تراه العين من هيأتهم الحسنة ومتاعهم الحسن. وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله :
أشافتك الظغائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
وعلى قراءة قالون وابن ذكوان بتشديد الياء من غير همز. فقال بعض العلماء : معناه معنى القراءة الأولى، إلا أن الهمزة أبدلت ياءً فأدغمت في الياء. وقال بعضهم : لا همز على قراءتهما أصلاً بل عليها فهو من الري الذي هو النعمة والترفه، من قولهم : هو ريان من النعيم، وهي رياً منه. وعلى هذا فالمعنى أحسن نعمة وترفها. والأول أظهر عندي. والله تعالى أعلم.
والآيات التي أبطل الله بها دعواهم هذه كثيرة. كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ١٧٨ ﴾، وقوله :﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جزاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ في الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ٣٧ ﴾. وقوله :﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ٤٤ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ٤٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ٤٤ ﴾. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وقد قدمنا شيئاً من ذلك.
وقول الكفار الذي حكاه الله عنهم في هذه الآية الكريمة ﴿ أي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ٧٣ ﴾ الظاهر فيه أن وجه ذكرهم للمقام والندي : أن المقام هو محل السكنى الخاص لكل واحد منهم. والندي محل اجتماع بعضهم ببعض، فإذا كان كل منهما للكفار أحسن من نظيره عند المسلمين دل ذلك على أن نصيبهم في الدنيا أوفر من نصيب أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
يومان يوم مقاماتٍ وأندية ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب
والمقامات : جمع مقامة بمعنى المقام. والأندية : جمع نادٍ بمعنى الندى وهو مجلس القوم، ومنه قوله تعالى :﴿ وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ فالنادي والندي يطلقان على المجلس، وعلى القوم الجالسين فيه. وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين، ومن إطلاق الندي على المكان قول الفرزدق :
وما قام منا قائم في ندينا فينطق إلا بالتي هي أعرفُ
وقوله تعالى هنا :﴿ وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾. ومن إطلاقه على القوم قوله :﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ١٧ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ١٨ ﴾. ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة :
لهم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها وعبيدها
والجملة في قوله :﴿ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ٧٤ ﴾ : قال الزمخشري : هي في محل نصب صفة لقوله :﴿ كَمْ ﴾ ألا ترى أنك لو تركت لفظة ﴿ هُمْ ﴾ لم يكن لك بد من نصب ﴿ أَحْسَنُ ﴾ على الوصفية ا ه وتابع الزمخشري أبو البقاء على ذلك. وتعقبه أبو حيان في البحر بأن بعض علماء النحو نصوا على أن «كم » سواءً كانت استفهامية أو خبرية لا توصف ولا يوصف بها. قال : وعلى هذا يكون ﴿ هُمْ أَحْسَنُ ﴾ في موضع الصفة ل﴿ قَرْنٍ ﴾ وجمع نعت القرن اعتباراً لمعنى القرن، وهذا هو الصواب عندي لا ما ذكره الزمخشري وأبو البقاء. وصيغة التفضيل في قوله :﴿ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ٧٤ ﴾ تلزمها «من » لتجردها من الإضافة والتعريف، إلا أنها محذوفة لدلالة المقام عليها. والتقدير : هم أحسن أثاثاً ورئِياً منهم، على حد قوله في الخلاصة :
وأفعل التفضيل صِله أبدا تقديراً أو لفظاً بِمن إن جردا
فإن قيل : أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية ؟ فالجواب أنه راجع إلى الكفار المذكورين في قوله :﴿ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ٧٢ ﴾ قاله القرطبي. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ في الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً ٧٥ ﴾.
في معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، وكلاهما يشهد له قرآن :
الأول أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول هذه الكلمات كدعاء المباهلة بينه وبين المشركين. وإيضاح معناه : قل يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين الذين ادعوا أنهم خير منكم، وأن الدليل على ذلك أنهم خير منكم مقاماً وأحسن منكم ندياً من كان منا ومنكم في الضلالة أي الكفر والضلال عن طريق الحق فليمدد له الرحمن مداً، أي فأمهله الرحمن إمهالاً فيما هو فيه حتى يستدرجه بالإمهال ويموت على ذلك ولا يرجع عنه، بل يستمر على ذلك حتى يرى ما يوعده الله، وهو : إما عذاب في الدنيا بأيدي المسلمين، كقوله ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ أو بغير ذلك. وإما عذاب الآخرة إن ماتوا وهم على ذلك الكفر. وعلى ذلك التفسير فصيغة الطلب المدلول عليها باللام في قوله ﴿ فَلْيَمْدُدْ ﴾ على بابها. وعليه فهي لام الدعاء بالإمهال في الضلال على الضال من الفريقين، حتى يرى ما يوعده من الشر وهو على أقبح حال من الكفر والضلال. واقتصر على هذا التفسير ابن كثير وابن جرير، وهو الظاهر من صيغة الطلب في قوله ﴿ فَلْيَمْدُدْ ﴾ ونظير هذا المعنى في القرآن قوله تعالى :﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أبناءنا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ٦١ ﴾ لأنه على ذلك التفسير يكون في كلتا الآيتين دعاء بالشر على الضال من الطائفتين. وكذلك قوله تعالى في اليهود :﴿ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في «البقرة والجمعة » عند من يقول : إن المراد بالتمني الدعاء بالموت على الكاذبين من الطائفتين، وهو اختيار ابن كثير. وظاهر الآية لا يساعد عليه.
الوجه الثاني أن صيغة الطلب في قوله ﴿ فَلْيَمْدُدْ ﴾ يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين. وعليه فالمعنى : أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه بذلك حتى يرى ما يوعده، وهو في غفلة وكفر وضلال.
وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة، كقوله :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ﴾ الآية، وقوله :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ الآية، كما قدمنا قريباً بعض الآيات الدالة عليه.
ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال : في حرف أبي :«قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة » ا ه قاله صاحب الدر المنثور. ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة. فإن قيل على هذا الوجه. ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر ؟ فالجواب أن الزمخشري أجاب في كشافه عن ذلك. قال في تفسير قوله تعالى :﴿ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً ﴾ أي مد له الرحمن، يعني أمهله وأملى له في العمر. فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾ ا ه محل الغرض منه. وأظهر الأقوال عندي في قوله :﴿ قُلْ مَن كَانَ في الضَّلَالَةِ ﴾ أنه متعلق بما قبله يليه، والمعنى : فليمدد له الرحمن مداً حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظن. وقال الزمخشري : إن ﴿ حَتَّى ﴾ في هذه الآية هي التي تحكي بعدها الجمل. واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها.
وقوله ﴿ مَا يُوعَدُونَ ﴾ لفظة ﴿ مَا ﴾ مفعول به ل﴿ وأوا ﴾. وقوله. ﴿ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ﴾ بدل من المفعول به الذي هو ﴿ مَا ﴾ ولفظة ﴿ منْ ﴾ ن قوله ﴿ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ ﴾ الآية، قال بعض العلماء : هي موصولة في محل نصب على المفعول به ليعلمون. وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد. وقال بعض أهل العلم :﴿ منْ ﴾ استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام. وهذا أظهر عندي.
وقوله :﴿ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً ٧٥ ﴾ في مقابلة قولهم :﴿ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ٧٣ ﴾ لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم. والندي : المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند هم الأنصار والأعوان، فالمقابلة المذكورة ظاهرة. وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق ﴿ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾. والمراد اتصاف الشخص بالشر لا المكان. وهو قوله تعالى :﴿ * قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ في نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ فتفضيل المكان في الشر ها هنا الظاهر أن المراد به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان. اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي : أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآيات المذكورة مقاماً، وندِياً، وأثاثاً، ومكاناً وجُنداً كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً كأنت أعلى منزلا
قوله تعالى :﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاِّقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ٧٦ ﴾.
قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة :﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ﴾ دليل على رجحان القول الثَّاني في الآية المتقدمة. وأن المعنى : أن من كان في الضلالة زاده الله ضلالة، ومن اهتدى زاده الله هدى. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله في الضلال ﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾، وقوله :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾، وقوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ الآية، كما قدمنا كثيراً من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وقال في الهدى :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ١٧ ﴾، وقال :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾، وقال :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ الآية : وقد جمع بينهما في آيات أخر. كقوله :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ٨٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ١٢٥ ﴾ كما تقدم إيضاحه.
وقوله :﴿ وَالْبَّاِقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ٧٦ ﴾ إيضاحه في سورة «الكهف ».
فإن قيل : ظاهر الآية أن لفظة ﴿ خَيْرٌ ﴾ في قوله :﴿ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ٧٦ ﴾ صيغة تفضيل، والظاهر أن المفضل عليه هو جزاء الكافرين. ويدل لذلك ما قاله صاحب الدر المنثور، قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً ﴾. يعني خير جزاء من جزاء المشركين. ﴿ وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ﴾ يعني مرجحاً من مرجعهم إلى النار. والمعروف في العربية أن صيغة التفضيل تقتضي مشاركة المفضل عليه. والخيرية منفية بتاتاً عن جزاء المشركين وعن مردهم، فلم يشاركوا في ذلك المسلمين حتى يفضلوا عليهم.
فالجواب أن الزمخشري في كشَّافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله : أنه كأنه قيل ثوابهم النار، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم :
غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصّيلم
فقوله :«أعتبوا بالصيلم » يعني أرضوا بالسيف، أي لا رضى لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به. ونظيره قول عمرو بن معدي كرب :
وخيلٍ قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجميع
أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع. وقول الآخر :
شجعاء جرتها الذميل تلوكه أصلاً إذا راح المطيّ غراثا
يعني أن هذه الناقة لا جرة لها تخرجها من كرشها فتمضغها إلا السير، وعلى هذا المعنى فالمراد : لا ثواب لهم إلا النار. وباعتبار جعلها ثواباً بهذا المعنى فضل عليها ثواب المؤمنين. هذا هو حاصل جواب الزمخشري مع إيضاحنا له.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ويظهر لي في الآية جواب آخر أقرب من هذا، وهو أنا قدمنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا على أن الكافر مجازى بعمله الصالح في الدنيا، فإذا بر والديه ونفس عن المكروب، وقرى الضيف، ووصل الرحم مثلاً يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يثيبه في الدنيا، كما قدمنا دلالة الآيات عليه، وحديث أنس عند مسلم. فثوابه هذا الراجع إليه من عمله في الدنيا، هو الذي فضل الله عليه في الآية ثواب المؤمنين. وهذا واضح لا إشكال فيه. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ٧٧ ﴾.
أخرج الشيخان وغيرهما من غير وجه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال :«جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقاً لي عنده. فقال : لا أعطيك حتى تكفُر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم. فقلت : لا ؟ حتى تموت ثُمَّ تبعث. قال : وإني لميت ثم مبعوث ؟ ؟ قلت نعم. قال : إن لي هناك مالاً فأقضيك. فنزلت هذه الآية :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ٧٧ ﴾ ». وقال بعض أهل العلم : إن مراده بقوله :﴿ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ٧٧ ﴾ الاستهزاء بالدين وبخباب بن الأرت رضي الله عنه، والظاهر أنه زعم أنه يؤْتى مالا وولداً قياساً منه للآخرة على الدنيا، كما بينا الآيات الدالة على ذلك. كقوله :﴿ وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾، وقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي ﴿ وَوَلَدًا ﴾ بضم الواو الثانية وسكون اللام. وقرأه الباقون بفتح الواو واللام معاً، وهما لغتان معناهما واحد كالعرب والعرب، والعدم والعدم. ومن إطلاق العرب الولد بضم الواو وسكون اللام كقراءة حمزة والكسائي قول الحارث بن حلزة :
ولقد رأيت معاشرا *** قد ثمروا مالاً وولدا
وقول رؤبة :
الحمد لله العزيز فردا *** لم يتخذ من ولد شيءٍ ولدا
وزعم بعض علماء العربية : أن الولد بفتح الواو واللام مفرد. وأن الولد بضم الواو وسكون اللام جمع له. كأسد بالفتح يجمع على أسْد بضم فسكون. والظاهر عدم صحة هذا.
ومما يدل على أن «الولد » بالضم ليس يجمع قول الشاعر :
فليت فلاناً كان في بطن أمه *** وليت فلاناً كان ولد حمار
لأن «الولد » في هذا البيت بضم الواو وسكون اللام، وهو مفرد قطعاً كما ترى.
قوله تعالى :﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً ٧٨ ﴾.
اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي قوله : إنه يؤتى يوم القيامة مالا وولداً، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد، وعند الأصوليين بالسير والتقسيم. وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل.
وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين : أحدهما حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين.
والثاني هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى. وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين «بالسبر »، وعند الجدليين «بالترديد »، وعند المنطقيين، بالاستثناء في الشرطي المنفصل. والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث. وبذلك يتمم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه : أنه توتى يوم القيامة مالاً وولداً.
أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول : قولك إنك تؤتي مالاً وولداً يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء :
الأول أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني أن يكون الله أعطاك عهداً بذلك، فإنه إن أعطاك عهداً لن يخلفه.
الثالث أن تكون قلت ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله :﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً ٧٨ ﴾ مبطلاً لهما بأداة الإنكار. ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل. لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب. ولم يتخذ عند الرحمن عهدا. فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراءً على الله. وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله، ﴿ كَلاَّ ﴾ أي لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك، لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً، بل قال ذلك افتراءً على الله، لأنه لو كان أحدهما حاصلاً لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى. وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود : أنهم لن تمسَّهم النار إلا أياماً معدودة في سورة «البقرة »، وصرح في ذلك بالقسم الذي هو الحق، وهو أنهم قالوا ذلك كذباً من غير علم. وحذف في «البقرة » قسم اطلاع للغيب المذكور في «مريم » لدلالة ذكره في «مريم » على قصده في «البقرة » كما أن كذبهم الذي صرح به في «البقرة » لم يصرح به في «مريم » لأن ما في «البقرة » يبين ما في «مريم » لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضاً. وذلك في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٨٠ ﴾ فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في «مريم » كما أوضحنا، وما حذل منها يدل عليه ذكره في «مريم » فاتخاذ العهد ذكره في «البقرة ومريم » معاً والكذب في ذلك على الله صرح به في «البقرة » بقوله :﴿ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٨٠ ﴾ وأشار له في «مريم » بحرف الزجر الذي هو ﴿ كَلاَّ ﴾ واطلاع الغيب صرح به في «مريم » وحذفه في «البقرة » لدلالة ما في «مريم » على المقصود في «البقرة » كما أوضحنا.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى
اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في «البقرة » والثاني في «مريم » كما أوضحناه آنفاً. وذكر السيوطي في الإتقان في كلامه على جدل القرآن مثالاً واحداً للسبر والتقسيم، ومضمون المثال الذي ذكره باختصار، هو ما تضمنه قوله تعالى :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ الآيتين، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها : لا يخلو تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللاً بعلة معقولة أو تعبدياً. وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة، ومن الذكور الذكورة. أو تكون العلة فيهما معاً التخلق في الرحم، واشتمالها عليهما، هذه هي الأقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها. ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة. أي اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح، لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطراد. وكون العلة الأنوثة يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله. وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم الجمع. وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله :﴿ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ ﴾ أي فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر. ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى. ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع. وكون ذلك تعبدياً يقتضي أن الله وصاكم به بلا واسطة. إذ لم يأتكم منه رسول بذلك. فدل ذلك على أنه باطل أيضاً، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا ﴾ لم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم، وأنه كذب مفتري وإضلال بقوله :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ١٤٤ ﴾ ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله :﴿ قُل لاَ أَجِدُ في مَا أُوْحِي إِلَيَّّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾.
والحاصل أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا. ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ٣٥ ﴾ فكأنه تعالى يقول : لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح. الأولى أن يكونوا خُلقوا من غير شيء أي بدون خالق أصلاً. الثانية أن يكونوا خلقوا أنفسهم. الثالثة أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم. ولا شك أن القسمين الأولين باطلان، وبطلانهما ضروري كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه. والثالث هو الحق الذي لا شك فيه، وهو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا.
واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين.
المسألة الثانية
اعلم أن مقصود الجدليين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع، وهو عندهم يتركب من أمرين : الأول حصر أوصاف المحل. والثاني إبطال الباطل منها وتصحيح الصحيح مطلقاً، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها، كآية ﴿ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ ﴾ المتقدمة. وقد يكون بعضها باطلاً وبعضها صحيحاً : كآية «مريم والبقرة، والطور » التي قدمنا إيضاح هذا الدليل في كل واحدة منها. وهذا الدليل أعم نفعاً، وأكثر فائدة على طريق الجدليين منه على طريق الأصوليين والمنطقيين.
المسألة الثالثة
اعلم أن السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيءٍ خاص، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم. وضابط هذا الملك عند الأصوليين أمران : الأول هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى. والثاني إبطال ما ليس صالحاً للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضاً بعضها إن شاء الله تعالى. وزاد بعضهم أمراً ثالثاً وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير، والحاصل أن هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين. الأول حصر أوصاف المحل. والثاني إبطال ما ليس صالحاً للعلة، فإن كان الحصر والإبطال معاً قطعيين فهو دليل قطعي، وإن كانا ظنيين أو أحدهما ظنياً فهو دليل ظني. ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطيعين قوله تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ٣٥ ﴾ لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه، لأنهم إما إن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم. ولا رابع البتة. وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه : فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه. وقد حذف في الآية لظهوره. فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين، لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم، والقطعي منه لا يمكن الاختلاف فيه. وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل. وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه. والنّورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم : هذا وصف يصح إبطاله، ويقول الآخر : هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلاً في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلاً المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلاً، أما أن يكون علة تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أو هماً وغلبة العيش به أو المالية والملكية يقول المالكي غير الاقتيات والادخار باطل، ويدعى أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض. ويقول الحنفي والحنبلي غير الكيل من تلك الأوصاف باطل، والكيل هو العلة هي مناط الحكم، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا. وكذلك كل ما يكال أو يوزن وبالحديث الصحيح الذي فيه. وكذلك الميزان كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا. ويقول الشافعي غير الطعم باطل، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله عند مسلم «الطعام بالطعام مثلاً بمثل » الحديث كما تقدم إيضاحه أيضاً في البقرة. وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله :
وإن يكن لعلتين اختلفا تركب الأصل لدي من سلفا
وأشار إلى مركب الوصف بقوله :
مركب الوصف إذا الخصم منع وجود ذا الوصف في الأصل المتبع
والقياس المركب بنوعه المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافاً لبعض الجدليين. وإلى كون رده بالنسبة للخصم
قوله تعالى :﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ٧٩ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه سيكتب ما قاله ذلك الكافر افتراء عليه. من أنه يوم القيامة يؤتي مالاً وولداً مع كفره بالله، وأنه يمد له من العذاب مداً. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى :﴿ يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ : أي يزيده عذاباً فوق عذاب. وقال الزمخشري في الكشاف :﴿ يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ أي نطول له من العذاب ما يستأهله. ويعذبه بالنوع الذي يعذب به المستهزئون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد، يقال : مده وأمده بمعنى. وتدل عليه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ﴿ وتمد لَهُ ﴾ بالضم وأكد ذلك بالمصدر. وذلك من فرط غضب الله. نعوذ به من التعرض لما يستوجب غضبه ا ه.
وأصل المدد لغة : الزيادة، ويدل لذلك المعنى قوله تعالى في أكابر الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله :﴿ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ٨٨ ﴾، وقوله في الأتباع والمتبوعين :﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ٣٨ ﴾.
وقوله في هذه الآية :﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ أي ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من مال وولد، أي نسلبه منه في الدنيا ما أعطيناه من المال والولد بإهلاكنا إياه. وقيل : نحرمه ما تمناه من المال والولد في الآخرة، ونجعله للمسلمين. ويدل للمعنى الأول قوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٤٠ ﴾، وقوله :﴿ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ٢٣ ﴾ كما تقدم إيضاحه في هذه السورة الكريمة.
وقوله :﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ٨٠ ﴾ أي منفرداً لا مال له ولا ولد ولا خدم ولا غير ذلك، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ الآية، وقال تعالى :﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ٩٥ ﴾ كما تقدم إيضاحه.
فإن قيل : كيف عبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بحرف التنفيس الدال على الاستقبال في قوله ﴿ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ ﴾ مع أن ما يقوله الكافر يكتب بلا تأخير. بدليل قوله تعالى :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ ؟
فالجواب أن الزمخشري في كشافه تعرض للجواب عن هذا السؤال بما فصه : قلت فيه وجهان : أحدهما : سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله، على طريقة قول زائد بن صعصعة الفقعسي :
إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا
أي تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة. والثاني أن المتوعّد يقول للجاني : سوف أنتقم منك. يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجردها هنا لمعنى الوعيد ا ه منه بلفظه. إلا أنا زدنا اسم قائل البيت وتكلمته.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أنه يكتب ما يقول هذا الكافر ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتابه، كقوله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ٢١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ٨٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ ١٩ ﴾. وقوله تعالى :﴿ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ١٨١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ٩ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ١٠ كِرَاماً كَاتِبِين ١١ َيَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ١٢ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَا لهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ١٣ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ١٤ ﴾ : إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ٨١ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار المتقدم ذكرهم في قوله :﴿ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ٧٢ ﴾ اتخذوا من دون الله آلهة أي معبوداتٍ من أصنام وغيرها يعبدونها من دون الله، وأنهم عبدوهم لأجل أن يكونوا لهم عزاً أي أنصاراً وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله. كما أوضح تعالى مرادهم ذلك في قوله :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أولياء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ فتقريبهم إياهم إلى الله زلفى في زعمهم هو عزهم الذي أملوه بهم. وكقوله تعالى عنهم :﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ﴾ الآية. فالشفاعة عند الله عز لهم بهم يزعمونه كذباً وافتراءً على الله. كما بينه بقوله تعالى :﴿ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ كَلاَّ ﴾ زجر وردع لهم عن ذلك الظن الفاسد الباطل. أي ليس الأمر كذلك ! لا تكون المعبودات التي عبدتم من دون الله عزاً لكم، بل تكون بعكس ذلك. فيكون عليكم ضِداً، أي أعواناً عليكم في خصومتكم وتكذيبكم والتبرؤ منكم. وأقوال العلماء في الآية تدور حول هذا الذي ذكرنا. كقول ابن عباس ﴿ ضِدّاً ﴾ أي أعواناً » وقول الضحاك ﴿ ضِدّاً ﴾ أي أعداء.. وقول قتادة ﴿ ضِدّاً ﴾ أي قرناه في النار يلعن بعضهم بعضاً، وكقول ابن عطية ﴿ ضِدّاً ﴾ يجيئهم منهم خلاف ما أملوه فيؤول بهم ذلك إلى الذل والهوان، ضد ما أملوه من العز.
وهذا المعنى الذي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : بينه أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ١٣ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ١٤ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وضمير الفاعل في قوله :﴿ سَيَكْفُرُونَ ﴾ فيه وجهان للعلماء، وكلاهما يشهد له قرآن. إلا أن لأحدهما قرينة ترجحه على الآخر.
الأول أن واو الفاعل في قوله :﴿ سَيَكْفُرُونَ ﴾ راجعة إلى المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله. أما العاقل منها فلا إشكال فيه. وأما غير العاقل بالله قادر على أن يخلق له إدراكاً يخاطب به من من عبده ويكفر به بعبادته إياه. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى عنهم :﴿ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ٦٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شركاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ٨٦ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُون ٢٨ َفَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ٢٩ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن العابدين هم الذين يكفرون بعبادتهم شركاءهم وينكرونها ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٢٣ ﴾، وقوله عنهم :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٢٣ ﴾، وقوله عنهم :﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والقرينة المرجحة للوجه الأول أن الضمير في قوله ﴿ وَيَكُونُونَ ﴾ راجع للمعبودات. وعليه فرجوع الضمير في ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾ للمعبودات أظهر. لانسجام الضمائر بعضها مع بعض.
أما على القول الثاني فإنه يكون ضمير ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾ للعابدين، وضمير ﴿ يَكُونُونَ ﴾ للمعبودين، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر. والعلم عند الله تعالى.
وقوله من قال من العلماء. إن ﴿ كَلاَّ ﴾ في هذه الآية متعلقة بما بعدها لا بما قبلها، وأن المعنى : كلا سيكفرون أي حقاً سيكفرون بعبادتهم محتمل، ولكن الأول أظهر منه وأرجح، وقائله أكثر. والعلم عند الله تعالى، وفي قوله ﴿ كَلاَّ ﴾ قراءات شاذة تركنا الكلام عليها لشذوذها.
وقوله في هذه الآية :﴿ لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ٨١ ﴾ أفرد فيه العز مع أن المراد الجمع. لأن أصله مصدر على حد قوله في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثير *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا
والإخبار بالمصدر يجري على حكم النعت به. وقوله ﴿ ضِدّاً ﴾ مفرداً أيضاً أريد به الجمع. قال ابن عطية : لأنه مصدر في الأصل. حكاه عنه أبو حيان في البحر. وقال الزمخشري : الضد العون، وحد توحيد قوله عليه السلام، «هم يد على من سواهم » لاتفاق كلمتهم، وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ٨٣ ﴾.
قوله :﴿ أرسلنا الشيطان ﴾ الآية : أي سلطانهم عليهم وقيضناهم لهم ؛ وهذا هو الصواب. خلافاً لمن زعم أن معنى ﴿ أرسلنا الشيطان ﴾ الآية : أي خلينا بينهم وبينهم، ولم نعصمهم من شرهم. يقال : أرسلت البعير أي خليته.
وقوله :﴿ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ٨٣ ﴾ : الأز والهز والاستفزاز بمعنى، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج. فقوله ﴿ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ٨٣ ﴾ أي تهيجهم وتزعجهم إلى الكفر والمعاصي.
وأقوال أهل العلم في الآية راجعة إلى ما ذكرنا : كقول ابن عباس ﴿ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ٨٣ ﴾ : أي تغريهم إغْراءً ». وكقول مجاهد ﴿ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ٨٣ ﴾ : أي تشليهم إشلاءً. وكقول قتادة ﴿ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ٨٣ ﴾ أي تزعجهم إزعاجاً.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه سلط الشياطين على الكافرين، وقيضهم لهم يضلونهم عن الحق بينه في مواضع أخر من كتابه. كقوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ٣٦ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ٢٠٢ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ٨٤ ﴾.
قوله :﴿ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي لا تستعجل وقوع العذاب بهم فإن الله حدد له أجلاً معيناً معدوداً. فإذا انتهى ذلك الأجل جاءهم العذاب. فقوله :﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ٨٤ ﴾ أي نعد الأعوام والشهور والأيام التي دون وقت هلاكهم، فإذا جاء الوقت المحدد لذلك أهلكناهم. والعرب تقول : عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه.
وفما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن هلاك الكفار حدد له أجل معدود ذكره في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأجَلٍ مَّعْدُودٍ ١٠٤ ﴾، وقوله :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ٤٢ ﴾، قوله تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ٢٤ ﴾، وقوله :﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ١٧ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وروي أن المأمون قرأ هذه السورة الكريمة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء ؛ فأشار إلى ابن السماك أن يعظه. فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
والأظهر في الآية هو ما ذكرنا من أن العد المذكور عد الأعوام والأيام والشهور من الأجل المحدد.
وقال بعض أهل العلم. هو عد أنفاسهم. كما أشار إليه ابن السماك في موعظته للمأمون التي ذكرنا إن صح ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد : فراق أهلك، آخر العدد : دخول قبرك ».
وقال بعض أهل العلم ﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ٨٤ ﴾ أي نعد أعمالهم لنجازيهم عليها.
والظّاهر هو ما قدمنا. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يتقونه في دار الدنيا بامتثال أمره واجتناب نهيه يحشرون إليه يوم القيامة في حال كونهم وفداً. والوفد على التحقيق : جمع وافد كصاحب وصحب، وراكب وركب. وقدمنا في سورة «النحل » أن التحقيق أن الفعل بفتح فسكون من صيغ جموع الكثرة للفاعل وصفاً، وبينا شواهد ذلك من العربية، وإن أغفله الصرفيّون. والوافد : من يأتي إلى الملك مثلاً إلى أمر له شأن. وجمهور المفسرين على أن معنى قوله ﴿ وَفْداً ﴾ أي ركباناً. وبعض العلماء يقول : هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة. وبعضهم يقول : يحشرون ركباناً على صور من أعمالهم الصالحة في الدنيا في غاية الحسن وطيب الرائحة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ ﴾ قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك، وحسن وجهك، فيقول : أنا عملك الصالح، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني. فذلك قوله ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ ﴾ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ ﴾ قال : ركباناً ». وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى، حدثني ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة «﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ ﴾ قال : على الإبل :». وقال ابن جريج : هل النجائب. وقال الثوري : على الإبل النوق. وقال قتادة ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ ﴾ قال : إلى الجنة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سويد بن سعيد، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق، حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ﴾ قال : والله ما على أرجلهم يحشرون. ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم يرَ الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ! ! » وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به، وزاد عليها :«رحائل من ذهب، وأزمتها الزبرجد.. » »، والباقي مثله. وروى ابن أبي حاتم هنا حديثاً غريباً جداً مرفوعاً عن علي قال : حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا سلمة بن جعفر البجلي، سمعت أبا معاذ البصري يقول : إن علياً كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ ﴾ فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«وَالذي نفسي بيده، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيضٍ لها أَجنحة وعليها رحائل الذهب، شرك نعالهم نور يتلألأ، كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرةٍ ينبعُ من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم في دنس، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبداً، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت حمراء على صفائح الذهب. فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي. فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها ليفتح له فإذا رآه خر له ( قال سلمة : أراه قال ساجداً ) فيقول ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك، فيتبعه ويقفوا أثره فتستخف الحوراء العجلة فنخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه.. » إلى آخر الحديث بطوله. وفي آخر السياق : هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعاً. وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه، وهو أشبه بالصحة. والله أعلم ا ه. وركوبهم المذكور إنما يكون من المحشر إلى الجنة، أما من القبر فالظاهر أنهم يحشرون مشاة. بدليل حديث ابن عباس الدال على أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً. هذا هو الظاهر وجزم به القرطبي. والله تعالى أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ٨٦ ﴾ السوق معروف. والمجرمون : جمع تصحيح للمجرم، وهو اسم فاعل الإجرام. والإجرام : ارتكاب الجريمة، وهي الذنب الذي يستحق صاحبه به النكال والعذاب. ولم يأت الإجرام في القرآن إلا من أَجرم الرباعي على وزن أَفعل. ويجوز إتيانه في اللغة بصيغة الثلاثي فتقول : جَرم يجْرمُ كضرب يضرِب. والفاعل منه جارم، والمفعول مجْروم، كما هو ظاهر، ومنه قول عمرو بن البراقة النّهمي :
وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجروم عليه وجارمُ
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وِرْداً ﴾ أي عطاشاً. وأصل الورد : الإتيان إلى الماء، ولما كان الإتيان إلى الماء لا يكون إلا من العطش أطلق هنا اسم الورد على الجماعة العطاش، أعاذنا الله والمسلمين من العطش في الآخرة والدنيا. ومن إطلاق الورد على المسير إلى الماء قول الراجز يخاطب ناقته :
ردي ردي ورد قطاة صما كدرية أعجبها برد الماء
واختلف العلماء في العامل الناصب لقوله ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ ﴾ فقيل منصوب ب﴿ يَمْلِكُونَ ﴾ بعده. أي لا يملكون الشفاعة يوم نحشر المتقين. واختاره أبو حيان في البحر. وقيل : منصوب ب«اذكر » أو احذر مقدراً. وفيه أقوال غير ذلك.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة «الزمر » :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ٧٢ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ٧٣ ﴾.
قوله تعالى :﴿ لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً ٨٧ ﴾.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في الآية وجهان أو أوجه من التفسير كلها حق، وكل واحد منها يشهد له قرآن فإنا نذكر الجميع وأدلته من كتاب الله تعالى لأنه كله حق، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة من ذلك النوع. قال بعض أهل العلم : الواو في قوله ﴿ لاَّ يَمْلِكُونَ ﴾ راجعة إلى ﴿ الْمُجْرِمِينَ ﴾ المذكورين في قوله ﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾ أي لا يملك المجرمون الشَّفاعة، أي لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب.
وهذا الوجه من التفسير تشهد له آيات من كتاب الله. كقوله تعالى :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ٤٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ١٠٠ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ١٠١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ١٨ ﴾ الآية. وقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ مع قوله :﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا الوجه يفهم منه بالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم، لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى. وعلى كون الواو في ﴿ لاَّ يَمْلِكُونَ ﴾ راجعة إلى ﴿ الْمُجْرِمِينَ ﴾ فالاستثناء منقطع و«من » في محل نصب.
والمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يملكون الشفاعة، أي بتمليك الله إياهم وإذنه لهم فيها. فيملكون الشافعون بما ذكرنا ويستحقها به المشفوع لهم، قال تعالى :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾، وقال :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ﴾، وقال :﴿ * وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ٢٦ ﴾.
وقال بعض أهل العلم : الواو في قوله ﴿ لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ﴾ راجعة إلى «المتقين والمجرمين » جميعاً المذكورين في قوله ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً ٨٥ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ٨٦ ﴾ وعليه فالاستثناء في قوله ﴿ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً ٨٧ ﴾ : متصل. و﴿ مِنْ ﴾ من بدل من الواو في «لا يملكون » أي لا يملك من جميعهم أحد الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً وهم المؤمنون. والعهد : العمل الصالح. والقول بأنه لا إله إلا الله وغيره من الأقوال يدخل في ذلك. أي إلا المؤمنون فإنهم يشفع بعضهم في بعض، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ١٠٩ ﴾. وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك، وهو قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ ﴾ الآية : أي لكن من شهد بالحق يشفع بإذن الله له في ذلك. وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ١٢ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾ الآية. والأحاديث في الشفاعة وأنواعها كثيرة معروفة. والعلم عند الله تعالى.
وفي إعراب جملة ﴿ لاَّ يَمْلِكُونَ ﴾ وجهان : الأول أنها حالية. أي نسوق المجرمين إلى جهنم في حال كونهم لا يملكون الشفاعة. أو نحشر المتقين ونسوق المجرمين في حال كونهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ منهم عند الرحمن عهداً. والثاني أنها مستأنفة للإخبار، حكاه أبو حيان في البحر. ومن أقوال العلماء في العهد المذكور في الآية : أنه المحافظة على الصلوات الخمس، واستدل من قال ذلك بحديث عبادة بن الصامت الذي قدمنا الكلام على قوله تعالى ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ الآية.
وقال بعضهم : العهد المذكور : هو أن يقول العبد كل صباح ومساء. اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، فلا تكلني إلى نفسي. فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر، وإني لا أثق إلا برحمتك. فاجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعاً ووضعها تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : أين الذين لهم عند الله عهد ؟ فيقوم فيدخل الجنة انتهى. ذكره القرطبي بهذا اللفظ مرفوعاً عن ابن مسعود. وذكر صاحب الدر المنثور أنه أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود موقوفاً عليه، وليس فيه قوله : فإذا قال ذلك الخ. وذكر صاحب الدر المنثور أيضاً : أن الحكيم الترمذي أخرج نحوه مرفوعاً عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والظاهر أن المرفوع لا يصح. والذي يظهر لي أن العهد في الآية يشمل الإيمان بالله وامتثال أمره واجتناب نهيه. خلافاً لمن زعم أن العهد في الآية كقول العرب : عهد الأمير إلى فلان بكذا. أي أمره به. أي لا يشفع إلا من أمره الله بالشفاعة. فهذا القول ليس صحيحاً في المراد بالآية وإن كان صحيحاً في نفسه. وقد دلت على صحته آيات من كتاب الله. كقوله تعالى :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾، وقوله ﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ٢٦ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾، وقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ ﴾ الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً ٨٨ ﴾.
قد تكلمنا عليها وعلى الآيات التي بمعناها في القرآن في مواضع متعددة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً ٩٦ ﴾.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر في القرآن لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أنه جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكر أنه سيعجل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات وداً. أي محبة في قلوب عباده. وقد صرح في موضع آخر بدخول نبيه موسى عليه وعلى نبينا والسلام في هذا العموم، وذلك في قوله ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى ﴾ الآية. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه. قال : فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال : فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل، فقال يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال : فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال : فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض » ا ه.
قوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ٩٧ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه إنما يسر هذا القرآن بلسان هذا النبيِّ العربي الكريم، ليبشر به المتقين، وينذر به الخُصوم الأَلداء، وهم الكفرة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في مواضع أخر. أما ما ذكر فيها من تيسير هذا القرآن العظيم فقد أوضحه في مواضع أخر، كقوله في سورة «القمر » مكرراً لذلك :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ١٧ ﴾، وقوله في آخر «الدخان » :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٥٨ ﴾ وأما ما ذكر فيها من كونه بلسان هذا النَّبي العربي الكريم فقد ذكره في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين ١٩٢ َنَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاٌّمِينُ ١٩٣ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين ١٩٤ َبِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ١٩٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ١ إِنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ حم ١ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ١٠٣ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ﴾ الآية قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة «الكهف » وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وأظهر الأقوال في قوله :﴿ لُّدّاً ﴾ أنه جمع الأَلد، وهو شديد الخصومة. ومنه قوله تعالى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ٢٠٤ ﴾، وقول الشاعر :
أبيت نجيا للهموم كأنني أُخاصم أقواماً ذوي جدل لدا
قوله تعالى :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ٩٨ ﴾.
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ في هذه الآية الكريمة هي الخيرية، وهي في محل نصب لأنها مفعول ﴿ أَهْلَكْنَا ﴾. و﴿ مِنْ ﴾ هي المبينة ل ﴿ كَمْ ﴾ كما تقدم إيضاحه.
وقوله :﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ أي هل ترى أحداً منهم، أو تشعر به، أو تجده ﴿ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ٩٨ ﴾ أي صوتاً. وأصل الركز : الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح : إذا غيب طرفه وأخفاه في الأرض. ومنه الركاز : وهو دفن جاهلي مغيب بالدفن في الأرض. ومن إطلاق الركز على الصوت قول لبيد في معلقته :
فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقول طرفة في معلقته :
وصادقتا سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مندد
وقول ذي الرمة :
إذا توجس ركزاً مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
والاستفهام في قوله ﴿ هَلُ ﴾ يراد به النفي. والمعنى : أهلكنا كثيراً من الأمم الماضية فما ترى منهم أحد ولا تسمع لهم صوتاً. وما ذكره في هذه الآية من عدم رؤية أشخاصهم، وعدم سماع أصواتهم ذكر بعضه في غير هذا الموضع. كقوله في عاد :﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ٨ ﴾، وقوله فيهم :﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾، وقوله :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِي ظَالِمَةٌ فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ٤٥ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
Icon