ﰡ
خَمْسُونَ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
اعْلَمْ أَنَّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ حم اسْمٌ لِلسُّورَةِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ وَتَنْزِيلٌ خَبَرُهُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: تَنْزِيلٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَكِتَابٌ خَبَرُهُ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَنْزِيلٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَنْزِيلٌ/ تَخَصَّصَ بِالصِّفَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَجَازَ وُقُوعُهُ مُبْتَدَأً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بحم بِأَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ تَنْزِيلًا وَالْمُرَادُ الْمُنْزَلُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ هَذَا بِنَاءُ الْأَمِيرِ أَيْ مَبْنِيُّهُ، وَهَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ السُّلْطَانِ أَيْ مَضْرُوبُهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا مَنْزِلًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَحْفَظَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ يَنْزِلَ بِهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبَلِّغَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا حَصَلَ تَفْهِيمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِوَاسِطَةِ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلام سمي لذلك تنزيلا وثانيها: كون ذلك التَّنْزِيلِ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كون ذلك التَّنْزِيلِ نِعْمَةً عَظِيمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَقْرُونَ بِالصِّفَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَكَوْنُهُ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا صفتان
الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: كَوْنُهُمْ مُعْرِضِينَ عَنْهُ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ هِيَ الصِّفَاتُ الْعَشْرَةُ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِهَا، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ تَنْزِيلًا وَمُنْزَلًا وَالْمُنْزَلُ وَالتَّنْزِيلُ مُشْعِرٌ بِالتَّصْيِيرِ مِنْ حَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا الثَّانِي: أَنَّ التَّنْزِيلَ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ بِاتِّفَاقِ النَّحْوِيِّينَ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ إِمَّا الْكِتَابَ وَهُوَ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمَكْتُوبُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ فُصِّلَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُتَصَرِّفًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالتَّفْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقَدِيمِ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّهُ قُرِنَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ بِالْبَعْضِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولَ فَاعِلٍ وَمَجْعُولَ جَاعِلٍ السَّادِسُ: وصفه بكونه عَرَبِيًّا، وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ لِأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِحَسَبِ وَضْعِ الْعَرَبِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ، وَمَا جُعِلَ بِجَعْلِ جَاعِلٍ وَفِعْلِ فَاعِلٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا وَمَخْلُوقًا الْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَائِدَةٌ إِلَى اللُّغَاتِ وَإِلَى الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ، وَهِيَ عِنْدَنَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، إِنَّمَا الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ والله أعلم.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ من سائر اللغات كقوله إِسْتَبْرَقٍ [الكهف: ٣١] وسِجِّيلٍ [هود: ٨٢] فإنهما فارسيان، وقوله كَمِشْكاةٍ [النور: ٣٥] فإنها من لغة الحبشة وقوله بِالْقِسْطاسِ [الْإِسْرَاءِ: ٣٥] فَإِنَّهُ مِنْ لُغَةِ الرُّومِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، وَقَوْلُهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيمَ: ٤].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَفْظُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ أَلْفَاظٌ شَرْعِيَّةٌ لَا لُغَوِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ إِلَى مُسَمَّيَاتٍ أُخْرَى، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ لِلشَّرْعِ تَصَرُّفٌ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا إِلَّا/ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ خَصَّصَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ مُسَمَّيَاتِهَا مَثَلًا، الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ فَخَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ التَّصْدِيقِ، وَالصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّعَاءِ فَخَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الدُّعَاءِ، كَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُرْآناً عَرَبِيًّا، وَقَوْلُهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْضَلُ اللُّغَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ضَبَطْنَا أَقْسَامَ فَضَائِلِ اللُّغَاتِ بِضَابِطٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ حَاصِلَةٌ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، فَنَقُولُ لَا شَكَ أَنَّ الْكَلَامَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُفْرَدَةِ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحُرُوفِ، فَالْكَلِمَةُ لَهَا مَادَّةٌ وَهِيَ الْحُرُوفُ، وَلَهَا صُورَةٌ وَهِيَ تِلْكَ الْهَيْئَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ. فَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِمَّا بِحَسَبِ مَادَّتِهَا أَوْ بِحَسَبِ صُورَتِهَا، أَمَّا الَّتِي بِحَسَبِ مَادَّتِهَا فَهِيَ آحَادُ الْحُرُوفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُرُوفَ عَلَى قِسْمَيْنِ بَعْضُهَا بَيِّنَةُ الْمَخَارِجِ ظَاهِرَةُ الْمَقَاطِعِ وَبَعْضُهَا خَفِيَّةُ الْمَخَارِجِ مُشْتَبِهَةُ الْمَقَاطِعِ، وَحُرُوفُ الْعَرَبِ بِأَسْرِهَا ظَاهِرَةُ الْمَخَارِجِ بَيِّنَةُ الْمَقَاطِعِ، وَلَا يَشْتَبِهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْآخَرِ. وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا حَرْفٌ يَشْتَبِهُ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِكَمَالِ الْفَصَاحَةِ، وَأَيْضًا الْحَرَكَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي سَائِرِ لُغَةِ الْعَرَبِ حَرَكَاتٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَهِيَ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ وَالْجَرُّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ امْتِيَازًا ظَاهِرًا جَلِيًّا، وَأَمَّا الْإِشْمَامُ وَالرَّوْمُ فَيَقِلُّ حُصُولُهُمَا فِي لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ جِنْسِ مَا يُوجِبُ الْفَصَاحَةَ، وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْحَاصِلَةُ بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرُوفَ عَلَى قِسْمَيْنِ مُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ وَمُتَبَاعِدَةُ الْمَخْرَجِ، وَأَيْضًا الْحُرُوفُ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَعْنِي إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَرَبِيًّا لِأَجْلِ أَنْ يَعْلَمُوا الْمُرَادَ مِنْهُ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ، تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ عَرَبِيًّا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ جَائِزٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ قَوْمٌ الْقُرْآنُ كُلُّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ فِيهِ مَا يُعْلَمُ، وَفِيهِ مَا لَا يُعْلَمُ، وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ شَيْءٌ غير معلوم، والدليل عليه قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَعْنِي إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَرَبِيًّا لِيَصِيرَ مَعْلُومًا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ يَقْدَحُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَادِيَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَنَّ الضَّالَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الصِّفَاتِ التِّسْعَةَ الْمَذْكُورَةَ لِلْقُرْآنِ تُوجِبُ قُوَّةَ الِاهْتِمَامِ بِمَعْرِفَتِهِ وَبِالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَهُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ الْإِلَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى أَفْضَلِ الْمَنَافِعِ وَأَجَلِّ الْمَطَالِبِ، وَكَوْنُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا مُفَصَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ، وَكَوْنُهُ بَشِيراً وَنَذِيراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى فَهْمٍ مَا فِيهِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، لِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الثَّوَابِ أَوْ إِلَى الْعِقَابِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوجِبَاتُ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الرَّغْبَةِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِي شِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَهْدِيَّ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَلَا ضَالَّ إِلَّا مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَا يَسْمَعُونَهُ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذِهِ النَّفْرَةِ وَالْمُبَاعَدَةِ وَذَكَرُوا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَأَكِنَّةٌ جَمْعُ كِنَانٍ كَأَغْطِيَةٍ جَمْعِ غِطَاءٍ، وَالْكِنَانُ هُوَ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ السِّهَامُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أَيْ صمم وثقل يمنع مِنِ اسْتِمَاعِ قَوْلِكَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ وَالْحِجَابُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِنْ بَيْنِنا أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ، لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ حِجَابًا حَصَلَ وَسَطَ الْجِهَتَيْنِ، وَأَمَّا بِزِيَادَةِ لَفْظِ (مِنْ) كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحِجَابَ ابْتَدَأَ مِنَّا وَابْتَدَأَ مِنْكَ، فَالْمَسَافَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مُسْتَوْعَبَةٌ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْمَعْرِفَةِ وَسُلْطَانُ الْبَدَنِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُمَا الْآلَتَانِ الْمُعَيَّنَتَانِ لِتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَحْجُوبَةٌ كَانَ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَأَكَّدَتِ النَّفْرَةُ عَنِ الشَّيْءِ صَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ كَلَامًا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَاهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَإِذَا رَآهُ لَمْ تَصِرْ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ سَبَبًا لِلْوُقُوفِ على دقائق أحوالك ذَلِكَ/ الْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ الْمُدْرِكُ وَالشَّاعِرُ هُوَ النَّفْسُ، وَشَدَّةُ نَفْرَةِ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ تَمْنَعُهَا مِنَ التَّدَبُّرِ وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ اسْتِعَارَاتٍ كَامِلَةً فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يُقَرِّبُ مِنْهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَقَالَ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٨٨].
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِعَيْنِهَا فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَقَالَ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَامِ: ٢٥] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا إِنَّهُ لم يقل هاهنا إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ إِنَّمَا الَّذِي ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا إِذَا كُنَّا كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُنَا وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْنَا، وَهَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ قَالُوا فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ وَالْمُرَادُ فَاعْمَلْ عَلَى دِينِكَ إِنَّنَا عَامِلُونَ عَلَى دِينِنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَاعْمَلْ فِي إِبْطَالِ أَمْرِنَا إِنَّنَا عَامِلُونَ فِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ، وَالْحَاصِلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ بَلْ إِنَّمَا أَتَوْا بِالْكُفْرِ وَالْكَلَامِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِمْ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ.
وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ وَبَيَانُ هَذَا الْجَوَابِ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ جَبْرًا وَقَهْرًا فَإِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَا امْتِيَازَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِلَّا بِمُجَرَّدِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَيَّ وَمَا أَوْحَى إِلَيْكُمْ فَأَنَا أُبَلِّغُ هَذَا الْوَحْيَ إِلَيْكُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَرَّفَكُمُ اللَّهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْفِيقِ قَبِلْتُمُوهُ، وَإِنْ خَذَلَكُمْ بِالْحِرْمَانِ رَدَدْتُمُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَبُّوتِي وَرِسَالَتِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ خُلَاصَةَ ذَلِكَ الْوَحْيِ تَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، أَمَّا الْعِلْمُ فَالرَّأْسُ وَالرَّئِيسُ فِيهِ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَرِفَ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَةِ: ٦] وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: ٣٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَامِ: ١٥٣] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَاسْتَقِيمُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ مَعْنَاهُ فَاسْتَقِيمُوا لَهُ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ البعض.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
وَلَمَّا رَغَّبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ أَمَرَ بِالتَّحْذِيرِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعُقُولَ وَالشَّرَائِعَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ خُلَاصَةَ السَّعَادَاتِ مَرْبُوطَةٌ بأمرين التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ، إِمَّا الْخَالِقُ وَإِمَّا الْخَلْقُ، فَأَمَّا الْخَالِقُ فَكَمَالُ السَّعَادَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ أَنْ يُقِرَّ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ يَأْتِي بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى كَوْنِهِ فِي نِهَايَةِ الْعَظَمَةِ فِي اعْتِقَادِنَا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْخَلْقُ فَكَمَالُ السَّعَادَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ أَنْ يَسْعَى فِي دَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ وَفِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنْ أَعْظَمَ الطَّاعَاتِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَفْضَلُ أَبْوَابِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا وَإِذَا كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَشْرَفَهَا كَانَ ضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ أَخَسَّ الْمَرَاتِبِ وَأَرْذَلَهَا، وَلَمَّا كَانَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الزَّكَاةِ أَخَسَّ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهُ ضِدُّ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْوَيْلَ لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا وَهُوَ ضِدُّ التَّوْحِيدِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ مُمْتَنِعًا مِنَ الزَّكَاةِ وَهُوَ ضِدُّ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ مُنْكِرًا لِلْقِيَامَةِ مُسْتَغْرِقًا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي أَنَّهُ لَا زِيَادَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: الْأَمْسُ وَالْيَوْمُ وَالْغَدُ. أَمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَتْ أَحْوَالُ الْأَمْسِ فِي الْأَزَلِ فَهُوَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَزَلِيِّ الْخَالِقِ لِهَذَا الْعَالَمِ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي وُقُوعُ الْأَحْوَالِ فِي الْيَوْمِ الْحَاضِرِ فَهُوَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْعَالَمِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْأَحْوَالِ فِي الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى ضِدِّ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، فَلِهَذَا حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْوَيْلِ، فَقَالَ:
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَهَذَا تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ
أَيْ لَا يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ لَوَثِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: ٧] الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانْتَ تُطْعِمُ الْحَاجَّ، فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِنَاءً عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُشْرِكًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُؤْتِي الزَّكَاةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِعَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُشْرِكَ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي زِيَادَةِ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ هو المطلوب.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، مِنْ قَوْلِكَ مَنَنْتُ الْحَبْلَ، أَيْ قَطَعْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَدْ مَنَّهُ السَّفَرُ، أَيْ قَطَعَهُ، وَقِيلَ لَا يَمُنُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّاهُ أَجْرًا، فَإِذًا الْأَجْرُ لَا يُوجِبُ الْمِنَّةَ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى إِذَا عَجَزُوا عَنِ الطَّاعَةِ كُتِبَ لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
[في قوله تعالى قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: ١١٠] فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: ٦] أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ كَمَالَ قدرته وحكمته في خلق السموات وَالْأَرْضِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، فَمَنْ هَذَا صِفَتُهُ كَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ الْأَصْنَامِ الْخَسِيسَةِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ؟
فَهَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِهَمْزَةٍ وَيَاءٍ بَعْدَهَا خَفِيفَةٍ سَاكِنَةٍ بِلَا مَدٍّ، وَأَمَّا نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ قَالُونَ وأبوا عَمْرٍو فَعَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُمَا يَمُدَّانِ، وَالْبَاقُونَ هَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تعالى: أَإِنَّكُمْ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُمْ شَيْئَيْنِ مُنْكَرَيْنِ أَحَدُهُمَا:
الْكُفْرُ بِاللَّهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَثَانِيهِمَا: إِثْبَاتُ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مُغَايِرًا لِإِثْبَاتِ الْأَنْدَادِ لَهُ، ضَرُورَةَ أن عطف أحدهما على لآخر يُوجِبُ التَّغَايُرَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُفْرِهِمْ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى حَشْرِ الْمَوْتَى، فَلَمَّا نَازَعُوا فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ فَقَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَازِعُونَ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَفِي بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضِيفُونَ إِلَيْهِ الْأَوْلَادَ، وَذَلِكَ أَيْضًا قدح
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ الَّذِي عَلِمْتَ مِنْ صِفَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَمُبْدِعُهُمْ، فَكَيْفَ أَثْبَتُّمْ لَهُ أَنْدَادًا مِنَ الْخَشَبِ وَالْحَجَرِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَى بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصُّنْعِ الْعَجِيبِ وَالْفِعْلِ الْبَدِيعِ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْجِبَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ كَوْنِهَا رَواسِيَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٥]، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ فَوْقِها وَلِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٧] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ [الرَّعْدِ: ٣] قُلْنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ تَحْتِهَا لَأَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسَاطِينَ التَّحْتَانِيَّةَ هِيَ الَّتِي أَمْسَكَتْ هَذِهِ الْأَرْضَ الثَّقِيلَةَ عَنِ النُّزُولِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ خَلَقْتُ هَذِهِ الْجِبَالَ الثِّقَالَ فَوْقَ الْأَرْضِ، لِيَرَى الْإِنْسَانُ بِعَيْنِهِ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أَثْقَالٌ عَلَى أَثْقَالٍ، وَكُلُّهَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُمْسِكٍ وَحَافِظٍ، وَمَا ذَاكَ الْحَافِظُ الْمُدَبِّرُ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ وَبارَكَ فِيها وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَالْخَيْرَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يُحِيطُ بِهِ الشَّرْحُ وَالْبَيَانُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ شَقَّ الْأَنْهَارِ وَخَلْقَ الْجِبَالِ وَخَلْقَ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَخَلْقَ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ وَكُلِّ مَا يحتاج
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَصْلَحَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُخَرَ، وذكر أنه خلق السموات فِي يَوْمَيْنِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، لَكِنَّهُ ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلَزِمَ التَّنَاقُضُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مَعَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَسِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُرِيدُ كِلَا الْمَسَافَتَيْنِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أَعْطَيْتُكَ أَلْفًا فِي شَهْرٍ وَأُلُوفًا فِي شَهْرَيْنِ فَيَدْخُلُ الْأَلْفُ فِي الْأُلُوفِ وَالشَّهْرُ فِي الشَّهْرَيْنِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، فَلَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ وَأَبْعَدَ عَنِ الْغَلَطِ، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا التَّصْرِيحَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُجْمَلَ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ فِيهِ فَائِدَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَالَ خَلَقْتُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي يَوْمَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ خَلَقْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي يومين لم يفد هذا الكلام كون هذين اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل فِي يَوْمَيْنِ مَعَ أَنَّ الْيَوْمَيْنِ مَا كَانَا مُسْتَغْرَقَيْنِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْأَرْضِ وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْأَرْبَعَةَ صَارَتْ مُسْتَغْرَقَةً فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ الْقِرَاءَاتُ فِي قَوْلِهِ سَواءً؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ سَواءً بالحركات الثلاثة الْجَرِّ عَلَى الْوَصْفِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ اسْتَوَتْ سواء أي استواء وَالرَّفْعِ عَلَى هِيَ سَوَاءٌ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءً؟ فَنَقُولُ إِنَّ الْأَيَّامَ قَدْ تَكُونُ مُتَسَاوِيَةَ الْمَقَادِيرِ كَالْأَيَّامِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَمَاكِنِ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَقَدْ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً كَالْأَيَّامِ/ الْمَوْجُودَةِ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْأَرْبَعَةَ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ لِلسَّائِلِينَ؟ الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّجَّاجَ قَالَ قَوْلُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالتَّقْدِيرُ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أيام لأجل.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ مِنْ قَوْلِهِمُ اسْتَوَى إِلَى مَكَانِ كَذَا إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ تَوَجُّهًا لَا يَلْتَفِتُ مَعَهُ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمُ اسْتَقَامَ إِلَيْهِ وَامْتَدَّ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: ٦] وَالْمَعْنَى ثُمَّ دَعَاهُ دَاعِي الْحِكْمَةِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ يَصْرِفُهُ ذَلِكَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْأَثَرِ» أَنَّهُ كَانَ عرش الله على الماء قبل خلق السموات وَالْأَرْضِ فَأَحْدَثَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ سُخُونَةً فَارْتَفَعَ زَبَدٌ وَدُخَانٌ، أَمَّا الزَّبَدُ فَيَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ الْيُبُوسَةَ وَأَحْدَثَ مِنْهُ الْأَرْضَ، وَأَمَّا الدُّخَانُ فَارْتَفَعَ وَعَلَا فَخَلَقَ الله منه السموات.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي يَزْعُمُ الْيَهُودُ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُظْلِمَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا فِي الْمَعْقُولَاتِ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ إِنْسَانٌ فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ وَإِنْسَانٌ آخَرُ فِي الظُّلْمَةِ، فَإِنَّ الَّذِي جَلَسَ فِي الضَّوْءِ لَا يَرَى مَكَانَ الْجَالِسِ فِي الظُّلْمَةِ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا، وَأَمَّا الَّذِي جَلَسَ فِي الظُّلْمَةِ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ الَّذِي كَانَ جَالِسًا فِي الضَّوْءِ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُضِيئًا، وَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ صِفَةً قَائِمَةً بِالْهَوَاءِ لَمَا اخْتَلَفَتِ الْأَحْوَالُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاظِرِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ الظُّلْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النور، فالله سبحانه وتعالى لما خلق الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سموات وَكَوَاكِبَ وَشَمْسًا وَقَمَرًا، وَأَحْدَثَ صِفَةَ الضَّوْءِ فِيهَا فَحِينَئِذٍ صَارَتْ مُسْتَنِيرَةً، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ حِينَ قَصَدَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا السموات وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَانَتْ مُظْلِمَةً، فَصَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالدُّخَانِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلدُّخَانِ إِلَّا أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُتَوَاصِلَةٍ عَدِيمَةَ النُّورِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَخْلِيقَ السَّمَاءِ حَصَلَ بَعْدَ تَخْلِيقِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النَّازِعَاتِ: ٣٠] مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَخْلِيقَ الْأَرْضِ حَصَلَ بَعْدَ تَخْلِيقِ السَّمَاءِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْجَوَابُ الْمَشْهُورُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى/ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَهَا السَّمَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ دَحَا الْأَرْضَ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ: مُشْكِلٌ عِنْدِي مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُهَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً لِأَنَّ خَلْقَ الْجِبَالِ فِيهَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً مُنْبَسِطَةً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبارَكَ فِيها مُفَسَّرٌ بِخَلْقِ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا مُنْبَسِطَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَبَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا مَدْحُوَّةً، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْهَنْدَسِيَّةُ عَلَى أن
فَهَذَا تَمَامُ الْبَحْثِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ الْمَشْهُورِ، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: خلق الله السموات قَبْلَ الْأَرْضِ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، وَقَالَ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ فَأَضْمَرَ فِيهِ كَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُفَ: ٧٧] مَعْنَاهُ إِنْ يَكُنْ سَرَقَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الْأَعْرَافِ: ٤] وَالْمَعْنَى فَكَانَ قَدْ جَاءَهَا، هَذَا مَا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ، وَكَلِمَةَ كَانَ/ تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُفِيدُ التَّنَاقُضَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ «١» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِنَّمَا حَصَلَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ ائْتِيا عَلَى الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، بَقِيَ عَلَى لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً؟ الْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ إظهار كمال القدرة والتقدير: ائتيا شِئْتُمَا ذَلِكَ أَوْ أَبَيْتُمَا، كَمَا يَقُولُ الْجَبَّارُ لِمَنْ تَحْتَ يَدِهِ لَتَفْعَلَنَّ هَذَا شِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ، وَلَتَفْعَلَنَّهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ قالَتا أَتَيْنا عَلَى الطَّوْعِ لَا عَلَى الْكَرْهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ ثُمَّ ذَكَرَ الطوع والكره، فوجب أن يتصرف الطَّوْعُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْكَرْهُ إِلَى الْأَرْضِ بِتَخْصِيصِ السَّمَاءِ بِالطَّوْعِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ فِي دَوَامِ حَرَكَتِهَا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، تُشْبِهُ حَيَوَانًا مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَحْوَالِ، تَارَةً تَكُونُ فِي السُّكُونِ وَأُخْرَى فِي الْحَرَكَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي السَّمَاءِ لَيْسَ لَهَا إِلَّا الطَّاعَةُ، قَالَ تعالى:
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ائْتِيا وَمِنْ قَوْلِهِ أَتَيْنا؟، الْجَوَابُ: الْمُرَادُ ائْتِيَا إِلَى الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧] وَقِيلَ الْمَعْنَى ائْتِيَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَأْتِيَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ وَالْوَصْفِ، أَيْ بِأَرْضٍ مدحوة قرارا ومهادا وأي بسماء مقببة سَقْفًا لَهُمْ، وَمَعْنَى الْإِتْيَانِ الْحُصُولُ وَالْوُقُوعُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ، كَمَا تَقُولُ أَتَى عَمَلُهُ مَرْضِيًّا وَجَاءَ مَقْبُولًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لتأتي كل واحدة منكما صَاحِبَتَهَا الْإِتْيَانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ قَرَارًا لِلسَّمَاءِ وَكَوْنِ السَّمَاءِ سَقْفًا لِلْأَرْضِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلَّا قِيلَ طَائِعِينَ عَلَى اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنهما سموات وأرضون؟ الجواب:
لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ قِيلَ طَائِعِينَ فِي مَوْضِعِ طَائِعَاتٍ نحو قوله ساجِدِينَ [الأعراف: ١٢٠] ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ فِي جَوْفِ الْجَبَلِ الْكَبِيرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَتِ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ الْعَقْلَ وَالْحَيَاةُ غَالِبَةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ، لِإِجْمَاعِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى فَسَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَقَضَاءُ الشَّيْءِ إِنَّمَا هُوَ إِتْمَامُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَقَضاهُنَّ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: طائِعِينَ وَنَحْوُهُ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٧] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مبهما مفسرا بسبع سموات وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْبَيْنِ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَلَى الْحَالِ وَالثَّانِيَ عَلَى التَّمْيِيزِ.
ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وَمَا فِيهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْقِيَامَةُ، فَإِنْ قِيلَ الْيَوْمُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وغروبها، وقبل حدوث السموات وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْيَوْمِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ إِنَّهُ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ مَا لَوْ حَصَلَ هُنَاكَ فَلَكٌ وَشَمْسٌ لَكَانَ الْمِقْدَارُ مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قَالَ مُقَاتِلٌ أَمَرَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بِمَا أَرَادَ، وَقَالَ قَتَادَةُ خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءِ خَلَقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ، قَالَ وَلِلَّهِ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَحُجُّ إِلَيْهِ وَيَطُوفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقَابِلَ الْكَعْبَةِ وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ حَصَاةٌ مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْكَعْبَةِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ تَكْلِيفٌ خَاصٌّ، فَمِنَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ هُوَ في القيام من أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهُمْ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَمِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْفَعُونَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ ذَلِكَ السَّمَاءِ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِالْإِتْيَانِ فَأَطَاعَا وَامْتَثَلَا وَعِنْدَ هَذَا حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَجْرِيَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمَا بِالْإِتْيَانِ فَأَطَاعَاهُ قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْجِبَالَ أَنْ تَنْطِقَ مَعَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فقال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سَبَأٍ: ١٠] وَاللَّهُ تَعَالَى تَجَلَّى لِلْجَبَلِ قَالَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَاللَّهُ تَعَالَى أَنْطَقَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ فَقَالَ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: ٢٤] وإذا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي ذَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَيَاةً وَعَقْلًا وَفَهْمًا، ثُمَّ يُوَجِّهُ الْأَمْرَ وَالتَّكْلِيفَ عَلَيْهِمَا، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَّا إِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، وهاهنا لَا مَانِعَ، فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمَا، فَقَالَ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وَهَذَا الْجَمْعُ جَمْعُ مَا يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ الثَّالِثُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها [الْأَحْزَابِ: ٧٢] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا عَارِفَةً بِاللَّهِ، مَخْصُوصَةً بِتَوْجِيهِ تَكَالِيفِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الْإِتْيَانُ إِلَى الْوُجُودِ وَالْحُدُوثُ وَالْحُصُولُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَحَالَ تَوَجَّهَ هَذَا الْأَمْرُ كَانَتِ السموات وَالْأَرْضُ مَعْدُومَةً، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُقَالَ:
يَا مَوْجُودُ كُنْ مَوْجُودًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَثَبَتَ أَنَّهَا حَالَ تَوَجَّهَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيْهَا كَانَتْ مَعْدُومَةً، وَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً لَمْ تَكُنْ فَاهِمَةً وَلَا عَارِفَةً لِلْخِطَابِ، فَلَمْ يَجُزْ تَوْجِيهُ الْأَمْرِ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عباس أنه قال:
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَوْجِيهَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ تَكْوِينَهُمَا فَلَمْ يَمْتَنِعَا عَلَيْهِ وَوُجِدَتَا كَمَا أَرَادَهُمَا، وَكَانَتَا في ذلك كالمأمور الْمُطِيعِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَمِيرِ الْمُطَاعِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: / قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي؟
قَالَ الْوَتِدُ: اسْأَلْ مَنْ يَدُقُّنِي، فَإِنَّ الْحَجَرَ الَّذِي وَرَائِي مَا خَلَّانِي وَرَائِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِنَّمَا حَصَلَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ فِيهِمَا مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَأْمُورِ فِيهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ على أنه تعالى أسكن هذه السموات الْمَلَائِكَةَ، أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات، أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَسْكَنَهُمْ فِيهَا، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ الشَّرَائِعِ الَّتِي أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِهَا، وَهَذِهِ الْأَسْرَارُ لَا تَلِيقُ بِعُقُولِ الْبَشَرِ، بَلْ هِيَ أَعْلَى مِنْ مَصَاعِدِ أَفْهَامِهِمْ وَمَرَامِي أَوْهَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وهي النيرات التي خلقها في السموات، وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِضَوْءٍ مُعَيَّنٍ، وَسِرٍّ مُعَيَّنٍ، وَطَبِيعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَحِفْظاً يَعْنِي وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، يَعْنِي مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، فَأَعَدَّ لِكُلِّ شَيْطَانٍ نَجْمًا يَرْمِيهِ بِهِ وَلَا يُخْطِئُهُ، فَمِنْهَا مَا يَحْرِقُ، وَمِنْهَا مَا يَقْتُلُ وَمِنْهَا مَا يَجْعَلُهُ مُخَبَّلًا،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالشَّجَرَ فِي يَوْمَيْنِ وَخَلَقَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ- ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ- ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ- قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ- فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: ٣٨].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ، قَالَ: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةٍ كاملة وعلم محيط.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وَبَيَانُ ذَلِكَ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْحُجَّةِ قَدْ تَمَّتْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْجَهْلِ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ عِلَاجٌ فِي حَقِّهِمْ إِلَّا إِنْزَالَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ بِمَعْنَى إِنْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ وَالْإِنْذَارُ هُوَ: التَّخْوِيفُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالصَّاعِقَةُ الثَّائِرَةُ الْمُهْلِكَةُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَقُرِئَ صَعْقَةً مِثْلَ صَعْقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الصَّعْقِ.
ثُمَّ قَالَ: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ الرُّسُلَ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ أَتَوْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَاجْتَهَدُوا بِهِمْ وَأَتَوْا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْحِيَلِ فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُمْ إِلَّا الْعُتُوَّ وَالْإِعْرَاضَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ قَوْلَهُ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الْأَعْرَافِ: ١٧] يَعْنِي لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: اسْتَدَرْتُ بِفُلَانٍ مِنْ كُلِّ/ جَانِبٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ حِيلَتِي فِيهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَعْنَى: أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: الرُّسُلُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ قَبْلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، كَيْفَ يمكن وصفهم بأنهم جاءوهم؟ قلنا: قد جَاءَهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ دَاعِيَيْنِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِمَا وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَكَأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَدْ جَاءُوهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ يَعْنِي أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَمَرُوهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بِمَعْنَى أَيْ أَوْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ أَصْلُهُ بِأَنَّهُ لَا تَعْبُدُوا أَيْ بِأَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ قَوْلُنَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَعْنِي أَنَّهُمْ كَذَّبُوا أُولَئِكَ الرسل، وقالوا الدليل على كونكم كَاذِبِينَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ إِرْسَالَ الرِّسَالَةِ إِلَى الْبَشَرِ لَجَعَلَ رُسُلَهُ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْخَلْقِ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الشبهة قالوا
وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَوْلُهُ أُرْسِلْتُمْ بِهِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُمْ بِكَوْنِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ رُسُلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ حِكَايَةً لِكَلَامِ الرُّسُلِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧].
رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ فِي مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ: الْتَبَسَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ لَنَا رَجُلًا عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالسِّحْرَ وَالْكِهَانَةَ وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ لِمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُنَا؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الرِّيَاسَةَ عَقَدْنَا لَكَ اللِّوَاءَ فَكُنْتَ رَئِيسَنَا، وَإِنْ تَكُنْ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُهُنَّ، أَيَّ بَنَاتِ مَنْ شِئْتَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُرَادَكَ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ، وَرَجَعَ إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلم احْتَبَسَ عَنْهُمْ قَالُوا، لَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَأَ، فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا يَا عُتْبَةُ مَا حَبَسَكَ عَنَّا إِلَّا أَنَّكَ قَدْ صَبَأْتَ: فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا سِحْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَمَّا بَلَغَ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ أَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كُفْرَ قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ عَلَى الْإِجْمَالِ بَيَّنَ خَاصِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا الِاسْتِكْبَارُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِظْهَارُ النَّخْوَةِ وَالْكِبْرِ، وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْغَيْرِ وَالثَّانِي: الِاسْتِعْلَاءُ عَلَى الْغَيْرِ/ وَاسْتِخْدَامُهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وَكَانُوا مَخْصُوصِينَ بِكِبَرِ الْأَجْسَامِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِشِدَّةِ قُوَّتِهِمْ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً يَعْنِي أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ، فَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقُوَّةِ تُوجِبُ كَوْنَ النَّاقِصِ فِي طَاعَةِ الْكَامِلِ، فَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ كَوْنَهُمْ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، خَاضِعِينَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ، فَقَالُوا الْقُوَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُوَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذَّارِيَاتِ: ٥٨] فَإِنْ قِيلَ صِيغَةُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا تَجْرِي بَيْنَ شَيْئَيْنِ لِأَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ نِسْبَةٌ، لَكِنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ وَقُدْرَةَ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ قُلْنَا هَذَا وَرَدَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِنَا اللَّهُ أَكْبَرُ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا كَمَا يَجْحَدُ الْمُوِدَعُ الْوَدِيعَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، وَقَوْلُهُ
وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَجَامِعَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ وَالتَّعْظِيمُ لِلْخَالِقِ، فَقَوْلُهُ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مُضَادٌّ لِلْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ مُضَادٌّ لِلتَّعْظِيمِ لِلْخَالِقِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْهَلَاكِ وَالْإِبْطَالِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، فَلِهَذَا الْمَعْنَى سَلَّطَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وَفِي الصَّرْصَرِ قَوْلَانِ أحدهما: أنها العاصفة التي تصرصر أن تُصَوِّتُ فِي هُبُوبِهَا، وَفِي عِلَّةِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وُجُوهٌ قِيلَ إِنَّ الرِّيَاحَ عِنْدَ اشْتِدَادِ هُبُوبِهَا يُسْمَعُ مِنْهَا صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ الصَّرْصَرِ فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الرِّيَاحُ بِهَذَا الِاسْمِ وَقِيلَ هُوَ مِنْ صَرِيرِ الْبَابِ، وَقِيلَ مِنَ الصَّرَّةِ وَالصَّيْحَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذَّارِيَاتِ: ٢٩] وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الْبَارِدَةُ الَّتِي تُحْرِقُ بِبَرْدِهَا كَمَا تُحْرِقُ النَّارُ بِحَرِّهَا، وَأَصْلُهَا مِنَ الصَّرِّ وهو البرد قال تعالى: مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
[آلِ عِمْرَانَ: ١١٧]
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرِّيَاحُ ثَمَانٍ أَرْبَعٌ مِنْهَا عَذَابٌ الْعَاصِفُ وَالصَّرْصَرُ وَالْعَقِيمُ وَالسَّمُومُ، وَأَرْبَعٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ النَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرَ خَاتَمِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَعَ قِلَّتِهِ أَهْلَكَ الْكُلَّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو نَحِساتٍ بِسُكُونِ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ/ الْحَاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُقَالُ نَحِسَ نَحْسًا نَقِيضَ سَعِدَ سَعْدًا فَهُوَ نَحِسٌ، وَأَمَّا نَحْسٌ فَهُوَ إِمَّا مُخَفَّفُ نَحِسٍ أَوْ صِفَةٌ عَلَى فَعْلٍ أَوْ وَصْفٌ بِمَصْدَرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ الْأَحْكَامِيُّونَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَيَّامِ قَدْ يَكُونُ نَحْسًا وَبَعْضَهَا قَدْ يَكُونُ سَعْدًا، وَقَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنْ قَالُوا أَيَّامٍ نَحِساتٍ أَيْ ذَوَاتِ غُبَارٍ وَتُرَابٍ ثَائِرٍ لَا يَكَادُ يُبْصَرُ فِيهِ وَيُتَصَرَّفُ، وَأَيْضًا قَالُوا مَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَيَّامِ نَحِسَاتٍ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ فِيهَا، أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ الْأَوَّلُ بِأَنَّ النَّحِسَاتِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ هِيَ الْمَشْئُومَاتُ لِأَنَّ السَّعْدَ يُقَابِلُهُ السَّعْدُ، وَالْكَدِرَ يُقَابِلُهُ الصَّافِي، وَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ إِيقَاعِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ النَّحِسَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ تِلْكَ الْأَيَّامِ نَحِسَةً مُغَايِرًا لِذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ عَذَابَ الْهَوَانِ وَالذُّلِّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا، فَقَابَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارَ بِإِيصَالِ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالذُّلِّ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أَيْ أَشَدُّ إِهَانَةً وَخِزْيًا وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ أَنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي الْخِزْيِ الشَّدِيدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ ذَلِكَ الْخِزْيَ عَنْهُمْ.
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ عَادٍ أَتْبَعَهُ بِقِصَّةِ ثَمُودَ فَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ ثَمُودُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ وَالرَّفْعُ أَفْصَحُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ حَرْفِ الِابْتِدَاءِ وَقُرِئَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَقَوْلُهُ فَهَدَيْناهُمْ أي
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» ذَكَرَ فِي تَفْسِيرَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَالَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ قَوْلَهُ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى قَدْ حَصَلَ مَعَ أَنَّ الْإِفْضَاءَ إِلَى الْبُغْيَةِ لَمْ يَحْصُلْ، فَثَبَتَ أَنَّ قَيْدَ كَوْنِهِ مُفْضِيًا إِلَى الْبُغْيَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اسْمِ الْهُدَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ يُشْعِرُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا شَافِيًا فَتَرَكْنَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَنْصِبُ الدَّلَائِلَ وَيُزِيحُ الْأَعْذَارَ وَالْعِلَلَ، إِلَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْعَبْدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَقَوْلَهُ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَتَوْا بِذَلِكَ الْعَمَى فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ يَحْصُلَانِ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَقُولُ بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ، عَلَى أَنَّهُمَا إِنَّمَا يَحْصُلَانِ مِنَ اللَّهِ لَا مِنَ الْعَبْدِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَدَرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَمَى، لِأَنَّهُمْ أَحَبُّوا تَحْصِيلَهُ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي قَلْبِهِمْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ دُونَ مَحَبَّةِ ضِدِّهِ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا لِمُرَجَّحٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْعَبْدَ عَادَ الطَّلَبُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَجِّحُ هُوَ اللَّهَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاسْتَحَبُّوا/ الْعَمى عَلَى الْهُدى وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَحَدًا لَا يُحِبُّ الْعَمَى وَالْجَهْلَ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَمًى وَجَهْلًا، بَلْ مَا لَمْ يَظُنَّ فِي ذَلِكَ الْعَمَى وَالْجَهْلِ كَوْنَهُ تَبْصِرَةً وَعِلْمًا لَا يَرْغَبُ فِيهِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى اخْتِيَارِ ذَلِكَ الْجَهْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِجَهْلٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجَهْلُ الثَّانِي بِاخْتِيَارِهِ أَيْضًا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ يَحْصُلُ فِيهِ لَا بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ كفرهم قال: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ وصاعِقَةُ الْعَذابِ أي داهية العذاب والْهُونِ الْهَوَانُ، وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ مُبَالَغَةً أَوْ أُبْدِلَ مِنْهُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يُرِيدُ مِنْ شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ صَالِحًا وَعَقْرِهِمُ النَّاقَةَ، وَشَرَعَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هاهنا فِي سَفَاهَةٍ عَظِيمَةٍ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى سَعْيًا حَسَنًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ، إِلَّا أَنَّ الْمِسْكِينَ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْمَعَانِي.
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يَعْنِي وَكَانُوا يَتَّقُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانَ يَأْتِي بِهَا قَوْمُ عَادٍ وَثَمُودَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهَ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٣٣]
وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْآفَاتِ
قُلْنَا إِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا كَوْنَهُمْ مُشَارِكِينَ لِعَادٍ وَثَمُودَ فِي اسْتِحْقَاقِ مِثْلِ تِلْكَ الصَّاعِقَةِ جَوَّزُوا حُدُوثَ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْهُمْ وَهَذَا الْقَدْرُ يكفي في التخويف.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ يُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ قَالَ: فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، أَيْ يُوقَفُ سَوَابِقُهُمْ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِمْ تَوَالِيهِمْ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا سَأَلُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الأولى: التقدير حتى إذا جاؤها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَلِمَةُ مَا صِلَةٌ، وَقِيلَ فِيهَا فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ وَهِيَ تَأْكِيدُ أَنَّ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ كَقَوْلِهِ أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [يُونُسَ: ٥١] أَيْ لَا بُدَّ لِوَقْتِ وُقُوعِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ إِيمَانِهِمْ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا رَبَّ الْعِزَّةِ أَلَسْتَ قَدْ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تَظْلِمَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ لَكَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ إِنِّي لَا أَقْبَلُ عَلَى نَفْسِي شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى فِيهِ وَيُنْطِقُ أَعْضَاءَهُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَيْفِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْفَهْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالنُّطْقَ فِيهَا فَتَشْهَدُ كَمَا يَشْهَدُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يَعْرِفُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ الدَّالَّةَ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يُظْهِرَ تِلْكَ الْأَعْضَاءُ أَحْوَالًا تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَتِلْكَ الْأَمَارَاتُ تُسَمَّى/ شَهَادَاتٍ، كَمَا يُقَالُ يَشْهَدُ هَذَا الْعَالَمُ بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِهِ عَلَى حُدُوثِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَعْبَةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ صَعْبٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ لِحُصُولِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ فَاللِّسَانُ مَعَ كَوْنِهِ لِسَانًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، فَإِنْ غَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْبِنْيَةَ وَالصُّورَةَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ لِسَانًا وَجِلْدًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى إِضَافَةِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْجُلُودِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا غَيَّرَ بِنْيَةَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا كونها عاقلة نَاطِقَةً فَاهِمَةً، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ سَبَبًا وَفَائِدَةً، وَأَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ الْحَوَاسَّ خَمْسَةٌ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ آلَةَ اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا مِنَ الْحَوَاسِّ وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللَّمْسُ، وَأَهْمَلَ ذِكْرَ نَوْعَيْنِ وَهُمَا الذَّوْقُ وَالشَّمُّ، لِأَنَّ الذَّوْقَ دَاخِلٌ فِي اللَّمْسِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الذَّوْقِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِأَنْ تَصِيرَ جِلْدَةُ اللِّسَانِ وَالْحَنَكِ مُمَاسَّةً لِجِرْمِ الطَّعَامِ، فَكَانَ هَذَا دَاخِلًا فِيهِ فَبَقِيَ حِسُّ الشَّمِّ وَهُوَ حِسٌّ ضَعِيفٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ تَكْلِيفٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُرَادُ مِنْ شَهَادَةِ الْجُلُودِ شَهَادَةُ الْفُرُوجِ قَالَ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَاتِ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [الْبَقَرَةِ: ٢٣٥] وَأَرَادَ النِّكَاحَ وَقَالَ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ [النِّسَاءِ: ٤٣] وَالْمُرَادُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الْآدَمِيِّ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ»
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَكُونُ هَذِهِ/ الْآيَةُ وَعِيدًا شَدِيدًا فِي الْإِتْيَانِ بِالزِّنَا، لِأَنَّ مُقَدِّمَةَ الزِّنَا إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْكَفِّ، وَنِهَايَةُ الْأَمْرِ فِيهَا إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْفَخِذِ.
ثُمَّ حكى الله تعالى عنهم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْطَاقِكُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى حَالَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ عَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْطَاقِكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ حَالُ القيامة والبعث كيف يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ إِنْطَاقُ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ؟
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَالْمَعْنَى إِثْبَاتُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِتَارَهُمْ مَا كَانَ لِأَجْلِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِتَارَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْأَعْمَالَ الَّتِي يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنْ عِلْمِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَاسِرِينَ، قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ الظَّنُّ قِسْمَانِ ظَنٌّ حَسَنٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَظَنٌّ فَاسِدٌ، أَمَّا الظَّنُّ الْحَسَنُ فَهُوَ أَنْ يَظُنَّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْفَضْلَ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ»،
وَالظَّنُّ الْقَبِيحُ فاسد وهو أن يظن بالله تعالى أَنَّهُ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الظَّنُّ نَوْعَانِ ظَنٌّ مُنْجٍ وَظَنٌّ مرد، فالمنج قَوْلُهُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: ٢٠] وقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦]، وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُرْدِي فَهُوَ قَوْلُهُ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَذلِكُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وظَنُّكُمُ وأَرْداكُمْ خَبَرَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَنُّكُمْ بَدَلًا مِنْ ذلكم وَأَرْدَاكُمُ الْخَبَرَ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ يَعْنِي إِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الِاسْتِغَاثَةِ لِفَرَجٍ يَنْتَظِرُونَهُ لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ وَتَكُونُ النَّارُ مَثْوًى لَهُمْ أَيْ مَقَامًا لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ لَمْ يُعْطَوُا الْعُتْبَى وَلَمْ يُجَابُوا إِلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إِبْرَاهِيمَ: ٢١] وَقُرِئَ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ إِنْ يَسْأَلُوا أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ فَمَا هُمْ فَاعِلُونَ أَيْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلى ذلك.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ فَقَالَ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» : يُقَالُ قَايَضْتُ الرَّجُلَ مُقَايَضَةً أَيْ عَاوَضْتُهُ بِمَتَاعٍ، وَهُمَا قَيِّضَانِ، كما يقال بيعان، وقيض الله فلانا لفلان أَيْ جَاءَهُ بِهِ وَأَتَى بِهِ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ، فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ قَيَّضَ لَهُمْ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ، وَكَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مَتَى قَيَّضَ لَهُمْ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ فَإِنْ يُزَيِّنُوا الْبَاطِلَ لَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يُفْضِي إِلَى أَثَرٍ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْأَثَرِ فثبت
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا وَعَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يُفْضِي إِلَى أَثَرٍ، فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَكُونُ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْأَثَرِ، فَهَهُنَا اللَّهُ تَعَالَى قَيَّضَ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَيَّضَ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِيَ لَكَانُوا بِفِعْلِهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ، قُلْنَا لَوْ كَانَ مَنْ فَعَلَ مَا أَرَادَهُ غَيْرُهُ مُطِيعًا لَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُطِيعًا لِعِبَادِهِ إِذَا فَعَلَ مَا أَرَادُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَهَذَا إِلْزَامٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنْ أَرَدْتَ بِالطَّاعَةِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا أَرَادَ فَهَذَا إِلْزَامٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَدْتَ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ، مِنْ بَيَانِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لا.
المسألة الثالثة: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: زَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَزَيَّنُوا أَنَّ الدُّنْيَا قَدِيمَةٌ، وَأَنَّهُ لَا فَاعِلَ وَلَا صَانِعَ إِلَّا الطَّبَائِعُ وَالْأَفْلَاكُ الثَّانِي: زَيَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَيُشَاهِدُونَهَا وَمَا خلفهم وما يزعمون أنهم يعملونه، وَعَبَّرَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْهُ، فَقَالَ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَسِيسَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ فَقَوْلُهُ فِي أُمَمٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ حَالَ كَوْنِهِمْ كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا لا نقلب هَذَا الْقَوْلُ الْحَقُّ بَاطِلًا وَهَذَا الْعِلْمُ جَهْلًا، وَهَذَا الْخَبَرُ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ ومستلزم المحال، فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَعَدَمَ صُدُورِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فُصِّلَتْ: ٥] فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَاتَّصَلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَالْغَوْا فِيهِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا يُقَالُ لَغَى يَلْغَى وَيَلْغُو وَاللَّغْوُ السَّاقِطُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ كَامِلٌ فِي الْمَعْنَى، وَفِي اللَّفْظِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَهُ وَقَفَ عَلَى جَزَالَةِ أَلْفَاظِهِ، وَأَحَاطَ عَقْلُهُ بِمَعَانِيهِ، وَقَضَى عَقْلُهُ بِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقٌّ وَاجِبُ الْقَبُولِ، فَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا فِي مَنْعِ النَّاسِ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إِذَا قُرِئَ وَتَشَاغَلُوا عِنْدَ قِرَاءَتِهِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَشْعَارِ الْفَاسِدَةِ وَالْكَلِمَاتِ الْبَاطِلَةِ، حَتَّى تُخَلِّطُوا عَلَى الْقَارِئِ/ وَتُشَوِّشُوا عَلَيْهِ وَتَغْلِبُوا عَلَى
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْوَأَ الَّذِي جُعِلَ جَزَاءَ أَعْدَاءِ اللَّهِ هُوَ النَّارُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أَيْ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ النَّارِ دَارُ السَّيِّئَاتِ مُعَيَّنَةً وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ لَهُمْ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أَيْ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَلْغُونَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ جُحُودًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ بَالِغٌ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ خَافُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَهُ النَّاسُ لَآمَنُوا بِهِ فَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الطَّرِيقَةَ الْفَاسِدَةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا إِلَّا أَنَّهُمْ جَحَدُوا لِلْحَسَدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِلْعِقَابِ الشَّدِيدِ مُجَالَسَةُ قُرَنَاءِ السُّوءِ بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَقُولُونَ رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالسَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ جِنِّيٍّ وَإِنْسِيٍّ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَامِ: ١١٢] وَقَالَ: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاسِ: ٥] وَقِيلَ هُمَا إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ لِأَنَّ الْكُفْرَ سُنَّةُ إِبْلِيسَ، وَالْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ سُنَّةُ قَابِيلَ.
وَقُرِئَ أَرْنَا بِسُكُونِ الرَّاءِ لِثِقَلِ الْكَسْرَةِ كَمَا قَالُوا فِي فَخِذٍ فَخْذٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَعْطِنَا الذين أَضَلَّانَا وَحَكَوْا عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتُ أَرِنِي ثَوْبَكَ بِالْكَسْرِ، فَالْمَعْنَى بَصِّرْنِيهِ وَإِذَا قُلْتَهُ بِالسُّكُونِ فَهُوَ اسْتِعْطَاءٌ مَعْنَاهُ أَعْطِنِي ثَوْبَكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا قَالَ مُقَاتِلٌ يَكُونَانِ أَسْفَلَ مِنَّا فِي النَّارِ لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَكُونَا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ بَعْضُ تَلَامِذَتِي مِمَّنْ يَمِيلُ إِلَى الْحِكْمَةِ يَقُولُ الْمُرَادُ بِاللَّذَيْنِ يُضِلَّانِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ فِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] ثُمَّ قَالَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يَعْنِي يَا رَبَّنَا أَعِنَّا حَتَّى نَجْعَلَ الشَّهْوَةَ وَالْغَضَبَ تَحْتَ أَقْدَامِ جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمَا تَحْتَ أَقْدَامِهِ كَوْنُهُمَا مُسَخَّرَيْنِ لِلنَّفْسِ القدسية مطيعين لها، وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
أَنْ لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل، ولا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّشْبِيهِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَأَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَكَذَا فِي الرَّجَاءِ وَالْقُنُوطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ نَحْمِلَ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ مُتَنَاوِلًا لِلْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَيَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا مُتَنَاوِلًا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
ثُمَّ قَالَ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقِيلَ فِي مَوَاقِفَ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ إِلَى الْقِيَامَةِ أَلَّا تَخافُوا أَنْ بِمَعْنَى أَيْ أَوْ بِمُخَفَّفَةٍ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَصْلُهُ بِأَنَّهُ لَا تَخَافُوا وَالْهَاءُ ضَمِيرٌ الشَّأْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ دَفْعُ الْمَضَارِّ وَجَلْبُ الْمَنَافِعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَفْعَ الْمَضَرَّةِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَضَرَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ أو في الحال أو في الماضي، وهاهنا دقيقة عقلية
فَلَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ | وَلَا زَالَ مَا تَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ |
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ فَازِعًا مِنَ الْأَهْوَالِ وَمِنَ الْفَزَعِ الشَّدِيدِ، بَلْ يَكُونُ آمِنَ الْقَلْبِ سَاكِنَ الصَّدْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا يُفِيدُ نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فُصِّلَتْ: ٢٥] وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ تَأْثِيرَاتٍ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، بِالْإِلْهَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمَقَامَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَمَا أَنَّ لِلشَّيَاطِينِ تَأْثِيرَاتٍ فِي الْأَرْوَاحِ بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ فِيهَا وَتَخْيِيلِ الْأَبَاطِيلِ إِلَيْهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ أَوْلِيَاءَ لِلْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ حَاصِلٌ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ مَعْلُومَةٍ لِأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدنيا فَهِيَ تَكُونُ بَاقِيَةً فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ الْعَلَائِقَ ذَاتِيَّةٌ لَازِمَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلزَّوَالِ، بَلْ كَأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَقْوَى وَأَبْقَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَهِيَ كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وَالْقَطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ، وَالتَّعَلُّقَاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إِلَى ملكوت السموات»
فَإِذَا زَالَتِ الْعَلَائِقُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَالتَّدْبِيرَاتُ الْبَدَنِيَّةُ، فَقَدْ زَالَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ، فَيَتَّصِلُ الْأَثَرُ بِالْمُؤَثِّرِ، وَالْقَطْرَةُ بِالْبَحْرِ، وَالشُّعْلَةُ بِالشَّمْسِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
ثُمَّ قَالَ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
أَيْ مَا تَتَمَنَّوْنَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا
[يس: ٥٧] فَإِنَّ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
قُلْنَا: الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَقَوْلَهُ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠].
ثُمَّ قَالَ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وَالنُّزُلُ: رِزْقُ النَّزِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، قَالَ الْعَارِفُونَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى النزل، والكريم إذا أَعْطَى النُّزُلَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَبْعَثَ الْخِلَعَ النَّفِيسَةَ بَعْدَهَا، وَتِلْكَ الْخِلَعُ النَّفِيسَةُ لَيْسَتْ إِلَّا السَّعَادَاتِ الْحَاصِلَةَ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ وَالتَّجَلِّي وَالْكَشْفِ التَّامِّ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا لَهَا أَهْلًا بفضله وكرمه، إنه قريب مجيب.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ حَيْثُ قَالُوا لِلرَّسُولِ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: ٥] وَمُرَادُهُمْ أَلَّا نَقْبَلَ قَوْلَكَ وَلَا نَلْتَفِتَ إِلَى دَلِيلِكَ، ثُمَّ ذَكَرُوا طَرِيقَةً أُخْرَى فِي السَّفَاهَةِ، فَقَالُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: ٢٦] وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية، والبيانات الْكَافِيَةَ فِي دَفْعِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ وَإِزَالَةِ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ أَتَوْا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْفَاسِدَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ تَتَابُعُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالدَّعْوَةِ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ أَكْمَلُ الطَّاعَاتِ وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا وَجْهٌ شَرِيفٌ حَسَنٌ فِي نَظْمِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ اثْنَانِ: التَّامُّ، وَفَوْقَ التَّامِّ، أَمَّا التَّامُّ: فَهُوَ أَنْ يَكْتَسِبَ مِنَ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ مَا لِأَجْلِهَا يَصِيرُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ اشْتَغَلَ بَعْدَهَا بِتَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ وَهُوَ فَوْقَ التَّامِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: ٣٠] إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، وَهِيَ اكْتِسَابُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُفِيدُ كَمَالَ النَّفْسِ فِي جَوْهَرِهَا، فَإِذَا حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَجَبَ الِانْتِقَالُ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الِاشْتِغَالُ بِتَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ فَهَذَا أَيْضًا وَجْهٌ حَسَنٌ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ قَرِيحَةً قَوِيَّةً وَنِصَابًا وَافِيًا مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ الْكَشْفِيَّةِ، عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ أَحْسَنُ وَلَا أَكْمَلُ مِنْ تَرْتِيبِ آيَاتِ الْقُرْآنِ.
فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ رَاجِحَةٌ عَلَى دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الدَّعْوَةِ بِالْحُجَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ الدَّعْوَةِ بِالسَّيْفِ ثَانِيًا، وَقَلَّمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِهِمُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ هُمُ الْمُبْتَدِئُونَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ دَعْوَتَهُمْ عَلَى دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالشَّارِعُ فِي إِحْدَاثِ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ عَلَى طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ أَفْضَلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ نُفُوسَهُمْ أَقْوَى قُوَّةً، وَأَرْوَاحَهُمْ أَصْفَى جَوْهَرًا، فَكَانَتْ تَأْثِيرَاتُهَا فِي إِحْيَاءِ الْقُلُوبِ الْمَيِّتَةِ وَإِشْرَاقِ الْأَرْوَاحِ الْكَدِرَةِ أَكْمَلَ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ أَفْضَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ النُّفُوسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
نَاقِصَةٌ وَكَامِلَةٌ لَا تَقْوَى عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ وَكَامِلَةٌ تَقْوَى عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْعَوَامُّ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسرائيل»
وإذا عرفت هذا فنقول: إن نفوس الأنبياء حصلت لها مزيتان: الْكَمَالُ فِي الذَّاتِ، وَالتَّكْمِيلُ لِلْغَيْرِ، فَكَانَتْ قُوَّتُهُمْ عَلَى الدَّعْوَةِ أَقْوَى، وَكَانَتْ دَرَجَاتُهُمْ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَهُمْ صِفَتَانِ:
الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، أَمَّا الْعُلَمَاءُ، فَهُمْ نُوَّابُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْمُلُوكُ، فَهُمْ نُوَّابُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمُ يُوجِبُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَالْقُدْرَةُ تُوجِبُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْأَجْسَادِ، فَالْعُلَمَاءُ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَالْمُلُوكُ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَادِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ أَكْمَلَ الدَّرَجَاتِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةً الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ بِصِفَاتِ اللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ. أَمَّا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، فَهُمُ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٢٩] وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ أَصْحَابُ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ فَهُمُ الْفُقَهَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ دَرَجَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَأَمَّا الْمُلُوكُ فَهُمْ أَيْضًا يَدْعُونَ إِلَى دِينِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِتَحْصِيلِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ مثل المحاربة مع الكفار، وإما بإبقائه عِنْدَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ، وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُونَ فَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْبَابِ دُخُولًا ضَعِيفًا، أَمَّا دُخُولُهُمْ فِيهِ فَلِأَنَّ ذِكْرَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ دَعْوَةٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ضَعِيفَةً فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُؤَذِّنِ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعَانِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِذِكْرِهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ الشَّرِيفَةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ، فِي مَرَاتِبِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا فَالْوَاجِبُ أَحْسَنُ منه، فثبت أن كل ما كان أحسن الأعمال فهو/ واجب، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُ الْأَعْمَالِ بِمُقَتْضَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ فَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ يَنْتُجُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ، ثُمَّ نَقُولُ الْأَذَانُ دَعْوَةٌ إِلَى اللَّهِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَاجِبَةٌ فَيَنْتُجُ الْأَذَانُ وَاجِبٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذِهِ الآية
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَوْلَى أن يقول الرجل أنا المسلم أَوِ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَنَا مُسْلِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ قَالَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَكَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُعْتَبَرًا فِي كَوْنِهِ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ لَبَطَلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَثَانِيهَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ شَرَحْنَاهَا وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَمِلَ صالِحاً فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلَ الْقُلُوبِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ، أَوْ عَمَلَ الْجَوَارِحِ وَهُوَ سَائِرُ الطَّاعَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ مَوْصُوفًا بِخِصَالٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا: الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالثَّانِي: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِالْجَوَارِحِ وَالثَّالِثُ:
الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ بِالْقَلْبِ وَالرَّابِعُ: الِاشْتِغَالُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَكَمَالُ الدَّرَجَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ ابْتُدِئْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: ٥] فَأَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمِ الْإِصْرَارَ الشَّدِيدَ عَلَى أَدْيَانِهِمُ الْقَدِيمَةِ وَعَدَمَ التَّأَثُّرِ بِدَلَائِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَطْنَبَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وَذَكَرَ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ وَأَرْدَفَهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى وَهِيَ قولهم لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: ٢٦] وَأَجَابَ عَنْهَا أَيْضًا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ إنه تعالى يعد الْإِطْنَابِ فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ رَغَّبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ لَا يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ فَابْتَدَأَ أَوَّلًا بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلَهُمُ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ، فَصَارَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى/ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاقِعًا عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، ثُمَّ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فَقَالَ إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً عَظِيمَةً، إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى سَفَاهَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ شَدِيدٌ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ دَافِعًا لِهَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَى جَهَالَةِ الْكُفَّارِ، وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْجَلَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِمْ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِعْلُكَ حَسَنَةٌ وَفِعْلُهُمْ سَيِّئَةٌ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ تَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلتَّعْظِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى تِلْكَ السَّيِّئَةِ مَانِعًا لَكَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ يَعْنِي إِذَا قَابَلْتَ إِسَاءَتَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، وَأَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ تَرَكُوا أَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ وَانْقَلَبُوا مِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى الْمَحَبَّةِ وَمِنَ الْبِغْضَةِ إِلَى الْمَوَدَّةِ، وَلَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الطَّرِيقِ النَّافِعِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَظَّمَهُ فَقَالَ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ وَمَا يُلَقَّى هَذِهِ الْفِعْلَةَ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعِ الشَّدَائِدِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ.
ثُمَّ قَالَ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فِي الْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِانْتِقَامِ وَالدَّفْعِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ تَأَثُّرِ النَّفْسِ، وَتَأَثُّرُ النَّفْسِ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْخَارِجِيَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ ضَعْفِ النَّفْسِ فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ قَوِيَّةَ الْجَوْهَرِ لَمْ تَتَأَثَّرْ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ تَتَأَثَّرْ مِنْهَا لَمْ تَضْعُفْ وَلَمْ تَتَأَذَّ وَلَمْ تَشْتَغِلْ بِالِانْتِقَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السِّيرَةَ الَّتِي شَرَحْنَاهَا لَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ قُوَّةِ النَّفْسِ وَصَفَاءِ الْجَوْهَرِ وَطَهَارَةِ الذَّاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مَدْحٌ بِفِعْلِ الصَّبْرِ، وَقَوْلُهُ وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَعْدٌ بِأَعْظَمِ الْحَظِّ مِنَ الثَّوَابِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الطَّرِيقَ الْكَامِلَ فِي دَفْعِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ، وَفِي تَرْكِ الْخُصُومَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ طَرِيقًا آخَرَ عَظِيمَ النَّفْعِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ مُفَسَّرَةٌ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» النَّزْغُ وَالنَّسْغُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ شِبْهُ النَّخْسِ/ وَالشَّيْطَانُ يَنْزِغُ الْإِنْسَانَ، كَأَنَّهُ يَنْخُسُهُ بِبَعْثِهِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَجُعِلَ النَّزْغُ نَازِغًا، كَمَا قِيلَ: جَدَّ جِدُّهُ أَوْ أُرِيدَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ نَازِغٌ وَصْفًا لِلشَّيْطَانِ بِالْمَصْدَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ وَإِنْ صَرَفَكَ الشَّيْطَانُ عَمَّا شَرَّعْتُ مِنَ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ، وَامْضِ عَلَى شَأْنِكَ ولا تطعه، والله أعلم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ تَقْرِيرِ الدلائل الدالة
وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُحْدَثَانِ، وَهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ قَالَ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ يَعْنِي أَنَّهُمَا عَبْدَانِ دَلِيلَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَالسَّجْدَةُ عِبَارَةٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ/ فَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ كَانَ أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ، فَقَالَ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لِأَنَّهُمَا عَبْدَانِ مَخْلُوقَانِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الْخَالِقِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَهُنَّ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقَمَرِ، لِأَنَّ حُكْمَ جَمَاعَةِ مَا لَا يَعْقِلُ حُكْمُ الْأُنْثَى أَوِ الْإِنَاثِ، يُقَالُ لِلْأَقْلَامِ بَرَيْتُهَا وَبَرَيْتُهُنَّ، وَلَمَّا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ كُنَّ فِي مَعْنَى الْإِنَاثِ فَقَالَ: خَلَقَهُنَّ وَإِنَّمَا قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لِأَنَّ نَاسًا كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَالصَّابِئِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْكَوَاكِبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِالسُّجُودِ لَهُمَا السُّجُودَ لِلَّهِ فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَسْجُدُوا إِلَّا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِبْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ جَعَلْنَا الشَّمْسَ قِبْلَةً مُعَيَّنَةً عِنْدَ السُّجُودِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، قُلْنَا الشَّمْسُ جَوْهَرٌ مُشْرِقٌ عَظِيمُ الرِّفْعَةِ عَالِي الدَّرَجَةِ، فَلَوْ أَذِنَ الشَّرْعُ فِي جَعْلِهَا قِبْلَةً فِي الصَّلَوَاتِ، فَعِنْدَ اعْتِيَادِ السُّجُودِ إِلَى جَانِبِ الشَّمْسِ رُبَّمَا غَلَبَ عَلَى الْأَوْهَامِ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لِلشَّمْسِ لَا لِلَّهِ، فَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا الْمَحْذُورِ نَهَى الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَنْ جَعْلِ الشَّمْسِ قِبْلَةً لِلسُّجُودِ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِبْلَةِ حَاصِلًا وَالْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ زَائِلًا فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ السُّجُودِ هُوَ قَوْلُهُ تَعْبُدُونَ لِأَجْلِ أَنَّ قَوْلَهُ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالسُّجُودِ قَالَ بَعْدَهُ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَقُولُونَ نَحْنُ أَقَلُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَنَا أَهْلِيَّةُ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّا عَبِيدٌ لِلشَّمْسِ وَهُمَا عَبْدَانِ لِلَّهِ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ هَكَذَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ؟ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِكْبَارِ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْمُرَادُ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي النَّهْيِ عَنِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ فِي إِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ الْمَلِكِ مِنَ الْجُنْدِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يُرَادُ بِهِ قرب المكان. فكذا هاهنا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»
وَيُقَالُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يقتل بالذمي.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قال هاهنا في صفة الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّهُمْ مُوَاظِبُونَ عَلَى التَّسْبِيحِ، لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَاشْتِغَالُهُمْ بِهَذَا الْعَمَلِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ كَكَوْنِهِمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَقَالَ:
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الْحِجْرِ: ٥١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيمِ: ٦] الْجَوَابُ:
إِنَّ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هاهنا بِكَوْنِهِمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى التَّسْبِيحِ أَقْوَامٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْأَشْرَافُ الْأَكَابِرُ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ كَمَالُ الشَّرَفِ وَالْمَنْقَبَةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُشْتَغِلِينَ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِنْ قَالُوا هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَنَفَّسُوا، فَاشْتِغَالُهُمْ بِذَلِكَ التَّنَفُّسِ يَصُدُّهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ التَّسْبِيحِ قُلْنَا كَمَا أَنَّ التَّنَفُّسَ سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْحَيَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَشَرِ فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُنْصِفِ أَنْ يَقِيسَ أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ فِي صَفَاءِ جَوْهَرِهَا وَإِشْرَاقِ ذَوَاتِهَا وَاسْتِغْرَاقِهَا فِي مَعَارِجِ مَعَارِفِ اللَّهِ بِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ الْفَلَكِيَّةَ وَهِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ آيَةٍ أَرْضِيَّةٍ فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً وَالْخُشُوعُ التَّذَلُّلُ وَالتَّصَاغُرُ، وَاسْتُعِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِحَالِ الْأَرْضِ حَالَ خُلُوِّهَا عَنِ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أَيْ تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ، وَرَبَتْ: انْتَفَخَتْ لِأَنَّ النَّبْتَ إِذَا قَرُبَ أَنْ يَظْهَرَ ارْتَفَعَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَانْتَفَخَتْ، ثُمَّ تَصَدَّعَتْ عَنِ النَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى يَعْنِي أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذَا الدَّلِيلِ مِرَارًا لَا حَصْرَ لَهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا هو الدَّلِيلُ الْأَصْلِيُّ وَتَقْرِيرُهُ إِنَّ عَوْدَةَ التَّأْلِيفِ وَالتَّرْكِيبِ إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا أَيْضًا أَمْرٌ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ حَشْرَ الْأَجْسَادِ مُمْكِنٌ لَا امتناع فيه ألبتة، والله أعلم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَهَذَا أَيْضًا تَهْدِيدٌ، وَفِي جَوَابِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ كَسَائِرِ الْأَجْوِبَةِ الْمَحْذُوفَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ يُجَازَوْنَ بِكُفْرِهِمْ أَوْ مَا أَشْبَهَ وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَابَهُ قَوْلُهُ أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَلَمَّا بَالَغَ فِي تَهْدِيدِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وَالْعَزِيزُ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا:
الْغَالِبُ الْقَاهِرُ وَالثَّانِي: الَّذِي لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ، أَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ عَزِيزًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ غَالِبًا، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِقُوَّةِ حُجَّتِهِ غَلَبَ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَزِيزًا بِمَعْنَى عَدِيمِ النَّظِيرِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا تُكَذِّبُهُ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَلَا يَجِيءُ كِتَابٌ مِنْ بَعْدِهِ يُكَذِّبُهُ الثَّانِي: مَا حَكَمَ الْقُرْآنُ بِكَوْنِهِ حَقًّا لَا يَصِيرُ بَاطِلًا، وَمَا حَكَمَ بِكَوْنِهِ بَاطِلًا لَا يَصِيرُ حَقًّا الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنْ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ فَيَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَوْ يُزَادَ فِيهِ فَيَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ خَلْفِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩] فِعْلُ هَذَا الْبَاطِلِ هُوَ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كتاب يمكن جَعْلُهُ مُعَارِضًا لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا تَقَدَّمَ/ كِتَابٌ يَصْلُحُ جَعْلُهُ مُعَارِضًا لَهُ الْخَامِسُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَذَا تَمْثِيلٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجِدُ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ حَتَّى يَتَّصِلَ إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ النَّسْخُ فِيهِ لِأَنَّ النَّسْخَ إِبْطَالٌ فَلَوْ دَخَلَ النَّسْخُ فِيهِ لَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْبَاطِلُ مِنْ خَلْفِهِ وَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أَيْ حَكِيمٍ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، حَمِيدٌ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ نِعَمِهِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] فَاتِحَةَ كَلَامِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ خَاتِمَةَ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: ٧٥].
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: أَأَعْجَمِيٌّ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَدَّةٍ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَمْثَالِهِ، كَقَوْلِهِ أَأَنْذَرْتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: ٦] وَنَحْوِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِهَمْزَتَيْنِ: فَالْهَمْزَةُ الْأُولَى هَمْزَةُ إِنْكَارٍ، وَالْمُرَادُ أَنْكَرُوا وَقَالُوا قُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ، أَوْ مُرْسَلٌ إِلَيْهِ عَرَبِيٌّ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْجَمِيٌّ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِ عَرَبِيٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَقَلُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ لِأَجْلِ التَّعَنُّتِ، قَالُوا لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَعِنْدِي أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِيهَا حَيْفٌ عَظِيمٌ عَلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُرُودَ آيَاتٍ لَا تَعَلُّقَ لِلْبَعْضِ فِيهَا بِالْبَعْضِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ: الطَّعْنِ فَكَيْفَ يَتِمُّ مَعَ الْتِزَامِ مِثْلِ هَذَا الطَّعْنِ ادِّعَاءُ كَوْنِهِ كِتَابًا مُنْتَظِمًا، فَضْلًا عَنِ ادِّعَاءِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا؟ بَلِ الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَلَامٌ وَاحِدٌ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَهَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَجَوَابٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّا لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: كَيْفَ أَرْسَلْتَ الْكَلَامَ الْعَجَمِيَّ إِلَى الْقَوْمِ الْعَرَبِ، وَيَصِحُّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أَيْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ بِلُغَتِكُمْ لَا بِلُغَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْكُمْ، فَلَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِنَّ قُلُوبَنَا فِي أَكِنَّةٍ مِنْهُ بِسَبَبِ جَهْلِنَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ طَبْعًا مَائِلًا إِلَى الْحَقِّ، وَقَلْبًا مَائِلًا إِلَى الصِّدْقِ، وَهِمَّةً تَدْعُوهُ إِلَى بَذْلِ الْجُهْدِ فِي طَلَبِ الدِّينِ، فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَكُونُ فِي حَقِّهِ هُدًى وَشِفَاءً. أَمَّا كَوْنُهُ هُدًى فَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَيُرْشِدُ إِلَى كُلِّ السَّعَادَاتِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شِفَاءً فَإِنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ الِاهْتِدَاءُ فَقَدْ حَصَلَ الْهُدَى، فَذَلِكَ الْهُدَى شِفَاءٌ لَهُ مِنْ مَرَضِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ غَارِقًا فِي بَحْرِ الْخِذْلَانِ، وَتَائِهًا فِي مَفَاوِزِ الْحِرْمَانِ، وَمَشْغُوفًا بِمُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ، كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ فِي آذَانِهِ وَقْرًا، كَمَا قَالَ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: ٥] وَكَانَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ عَمًى كَمَا قَالَ:
وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: ٥]، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحِجَابِ الَّذِي حَالَ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِبَيَانِ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ عَلِمَ أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَلَامًا وَاحِدًا مُنْتَظِمًا مَسُوقًا نَحْوَ غَرَضٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ هَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمٍ عَلَى النَّعْتِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ، كَقَوْلِهِ هُدىً وَشِفاءٌ وكذلك عَمًى هو مَصْدَرٌ مِثْلُهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ هَادٍ وَشَافٍ لَكَانَ الْكَسْرُ فِي عَمًى أَجْوَدَ فَيَكُونُ نَعْتًا مِثْلَهُمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِثْلَ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، وَقِيلَ مَنْ دُعِيَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِنْ سَمِعَ لَمْ يَفْهَمْ، فَكَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَأَقُولُ أَيْضًا إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّا لَمَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ وَرَدَّهُ الْآخَرُونَ، فَكَذَلِكَ آتَيْنَاكَ هَذَا الْكِتَابَ فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُكَ، وَرَدَّهُ الْآخَرُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يَعْنِي فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [الْقَمَرِ: ٤٦] لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يَعْنِي الْمُصَدِّقَ وَالْمُكَذِّبَ بِالْعَذَابِ الْوَاقِعِ بِمَنْ كَذَّبَ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْ صِدْقِكَ وَكِتَابِكَ مُرِيبٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَعْظِمَ اسْتِيحَاشَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يَعْنِي خَفِّفْ عَلَى نَفْسِكَ إِعْرَاضَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا فَنَفْعُ إِيمَانِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَفَرُوا فَضَرَرُ كُفْرِهِمْ يَعُودُ إِلَيْهِمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ مِنَ الجزاء وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٥٤]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: ٣٤] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ قَدْ يَتَعَرَّفُونَ مِنْ طَالِعِ سَنَةِ الْعَالَمِ أَحْوَالًا كَثِيرَةً مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَتَعَرَّفُونَ مِنْ طَوَالِعِ النَّاسِ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وهاهنا شَيْءٌ آخَرُ يُسَمَّى عِلْمَ الرَّمْلِ وَهُوَ كَثِيرُ الْإِصَابَةِ وَأَيْضًا عِلْمُ التَّعْبِيرِ بِالِاتِّفَاقِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى أَحْوَالِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُشَاهَدَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْنَا إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ وَالْجَزْمُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا الْغَايَةُ الْقُصْوَى ادِّعَاءُ ظَنٍّ ضَعِيفٍ وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ عِلْمَهَا لَيْسَ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالْعِلْمُ هُوَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ زَالَتِ المنافاة والمعاندة وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِيَامَةَ أَرْدَفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وهذا الذي ذكره هاهنا شَدِيدُ التَّعَلُّقِ أَيْضًا بِمَا وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شِدَّةَ نُفُورِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِلَى الْبَرَاءَةِ عَنِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [فُصِّلَتْ: ٦] فَذَكَرَ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ وَعِيدَ الْقَائِلِينَ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ فَقَالَ:
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أَيْ بِحَسَبِ زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ قالُوا آذَنَّاكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْمَعْنَاكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ قَالَ: مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَشْهَدُ بِأَنَّ لَكَ شَرِيكًا، فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ يُشَاهِدُهُمْ لِأَنَّهُمْ/ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَضَلَّتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ لَا يُبْصِرُونَهَا فِي سَاعَةِ التَّوْبِيخِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ كَلَامُ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِيهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَقُولُ مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا أَضَافُوا إِلَيْنَا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُمْ فَكَأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ وَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ الْكُفَّارَ ظَنُّوا أَوَّلًا ثُمَّ أَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ وَالْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ ظَنُّوا أَوَّلًا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ ثُمَّ أَيْقَنُوا ذَلِكَ بَعْدَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ عِقَابَهُمْ دَائِمٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا تَبَرَّءُوا عَنْ تِلْكَ الشُّرَكَاءِ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مُتَبَدِّلُ الْأَحْوَالِ مُتَغَيِّرُ الْمَنْهَجِ، فَإِنْ أَحَسَّ بِخَيْرٍ وَقُدْرَةٍ انْتَفَخَ وَتَعَظَّمَ وَإِنْ أَحَسَّ بِبَلَاءٍ وَمِحْنَةٍ ذَبُلَ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: إِنَّ هَذَا كَالْقِرِلَّى، إِنْ رَأَى خَيْرًا تَدَلَّى، وَإِنْ رَأَى شَرًّا تَوَلَّى، فَقَالَ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ يعني أنه في حال الإقبال ومجيء المرادات لا ينتهي قط إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ويطمع بالفوز بها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيسا قانطا، فالانتقال من ذلك الرجاء الذي لا آخر له إلى هذا اليأس الكلي يدل على كونه متبدل الصفة متغير الحال وفي قوله فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ مُبَالَغَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ بِنَاءِ فَعُولٍ وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ التَّكْرِيرِ وَالْيَأْسِ مِنْ صِفَةِ الْقَلْبِ، وَالْقُنُوطُ أَنْ يَظْهَرَ آثَارٌ اليأس فِي الْوَجْهِ وَالْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي صَارَ آيِسًا قَانِطًا لَوْ عَاوَدَتْهُ النِّعْمَةُ وَالدَّوْلَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَأْتِي بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ وَالْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَوَّلَهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ هَذَا لِي وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَقِّي وَصَلَ إِلَيَّ، لِأَنِّي اسْتَوْجَبْتُهُ بِمَا حَصَلَ عِنْدِي مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ وَلَا يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عَارِيًا عَنِ الْفَضَائِلِ، فَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِشَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، فَهِيَ بِأَسْرِهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بفضل الله وإحسانه، وإذا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِشَيْءٍ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ، امْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ تَفَضُّلُهُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعَطِيَّةِ سَبَبًا لِأَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا آخَرَ، فَثَبَتَ بِهَذَا فَسَادُ قَوْلِهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْخَيْرَاتُ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِي وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لِي أَيْ لَا يَزُولُ عَنِّي وَيَبْقَى عَلَيَّ وَعَلَى أَوْلَادِي وَذُرِّيَّتِي.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَقُولَ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً يَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا عَظِيمَ النُّفْرَةِ عَنِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا يَقُولُ إِنَّهَا لِي وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْآخِرَةِ يَقُولُ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَقُولَ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى / يَعْنِي أَنَّ
وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْفَاسِدَةَ قَالَ: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أَيْ نُظْهِرُ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى ضِدِّ مَا اعْتَقَدُوهُ وَعَلَى عَكْسِ مَا تَصَوَّرُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: ٢٣] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى.
وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى أَقْوَالَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْآفَاتِ حَكَى أَفْعَالَهُ أَيْضًا فَقَالَ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عَنِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَنَأى بِجانِبِهِ أَيْ ذَهَبَ بِنَفْسِهِ وَتَكَبَّرَ وَتَعَظَّمَ، ثُمَّ إِنْ مَسَّهُ الضُّرُّ وَالْفَقْرُ أَقْبَلَ عَلَى دَوَامِ الدُّعَاءِ وَأَخَذَ فِي الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْعَرْضُ لِكَثْرَةِ الدِّمَاءِ وَدَوَامِهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ وَيُسْتَعَارُ له الطُّولُ أَيْضًا كَمَا اسْتُعِيرَ الْغِلَظُ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ الْعَظِيمَ على الشرك وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَرْجِعُونَ عَنِ الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الذِّلَّةَ وَالْخُضُوعَ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ جُبِلَ عَلَى التَّبَدُّلِ، فَإِنْ وَجَدَ لِنَفْسِهِ قُوَّةً بَالَغَ فِي التَّكَبُّرِ وَالتَّعَظُّمِ، وَإِنْ أَحَسَّ بِالْفُتُورِ وَالضَّعْفِ بَالَغَ فِي إِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ كَلَامًا آخَرَ يُوجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنْ لَا يُبَالِغُوا فِي إِظْهَارِ النُّفْرَةِ مِنْ قَبُولِ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ لَا يُفْرِطُوا فِي إِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّكُمْ كُلَّمَا سَمِعْتُمْ هَذَا الْقُرْآنَ أَعْرَضْتُمْ عَنْهُ وَمَا تَأَمَّلْتُمْ فِيهِ وَبَالَغْتُمْ فِي النُّفْرَةِ عَنْهُ حَتَّى قُلْتُمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ بَاطِلًا عِلْمًا بَدِيهِيًّا، وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِفَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ عِلْمًا بَدِيهِيًّا، فَقَبْلَ الدَّلِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَأَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا كَانَ إِصْرَارُكُمْ عَلَى دَفْعِهِ مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِقَابِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوا هَذِهِ الثَّغْرَةَ، وَأَنْ تَرْجِعُوا إِلَى النَّظْرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ قَبِلْتُمُوهُ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ تَرَكْتُمُوهُ، فَأَمَّا قَبْلَ الدَّلِيلِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى الدَّفْعِ وَالْإِعْرَاضِ بَعِيدٌ عَنِ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ مِنْكُمْ بيانا لحالهم وَصِفَاتِهِمْ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَجَابَ عَنْ شُبَهَاتِ/ الْمُشْرِكِينَ وَتَمْوِيهَاتِ الضَّالِّينَ قَالَ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَاحِدُ الْآفَاقِ أُفُقٌ وَهُوَ النَّاحِيَةُ من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء نواحيها وَأَطْرَافُهَا، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِ الْآفَاقِ الْآيَاتُ الْفَلَكِيَّةُ وَالْكَوْكَبِيَّةُ وَآيَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآيَاتُ الْأَضْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَالظُّلُمَاتِ وَآيَاتُ عَالَمِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَآيَاتُ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الْمُرَادُ مِنْهَا الدَّلَائِلُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَكَوُّنِ الْأَجِنَّةِ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَحُدُوثِ الْأَعْضَاءِ الْعَجِيبَةِ وَالتَّرْكِيبَاتِ الْغَرِيبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٢١] يَعْنِي نُرِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ تَزُولَ
أَهْلَهَا وَيَصِيرُ أَصْحَابُهُ قَاهِرِينَ لِلْأَعْدَاءِ، فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ وَقَدْ وَقَعَ مُخْبَرُهُ مُطَابِقًا لِخَبَرِهِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا صِدْقًا عَنِ الْغَيْبِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزَةٌ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُسْتَدَلُّ بِحُصُولِ هَذَا الِاسْتِيلَاءِ عَلَى كَوْنِ هَذَا الدِّينِ حَقًّا.
ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَقَوْلُهُ بِرَبِّكَ فِي مَوْضِعِ الرفع على أنه/ فاعل يَكْفِ وأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلٌ مِنْهُ، وَتَقْدِيرُهُ: أو لم يَكْفِهِمْ أَنَّ رَبَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى شَهِيدًا عَلَى الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّلَائِلَ عَلَيْهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: ١٩] وَالْمَعْنَى أَلَمْ تَكْفِهِمْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي أُوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَرَّرَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كُلِّ سُوَرِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ.
ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَيْ إِنَّ الْقَوْمَ فِي شَكٍّ عَظِيمِ وَشُبْهَةٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَقُرِئَ فِي مُرْيَةٍ بِالضَّمِّ.
ثُمَّ قَالَ: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أَيْ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَيَعْلَمُ بَوَاطِنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَظَوَاهِرَهُمْ، وَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ عَلَى فِعْلِهِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عُلُومُهُ مُتَنَاهِيَةً، قُلْنَا قَوْلُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُحِيطًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَنَاهِيًا، لَا كَوْنَ مَجْمُوعِهَا مُتَنَاهِيًا، والله أعلم بالصواب.
تمّ تفسير هذه السورة وقت ظهر الرابع مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ محمد وآله وصحبه وسلّم.