تفسير سورة الزخرف

الدر المصون
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ﴿والكتاب﴾ : إنْ جَعَلْتَ «حم» قَسَماً كانت الواوُ عاطفةً وإنْ لم، كانت الواو للقسم، وقد تقدَّم تحريرُ هذا.
قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ : جوابُ القَسَم، وهذا عندهم من البلاغةِ: وهو كونُ القَسَمِ والمُقْسَمِ عليه مِنْ وادٍ واحد. كقول أبي تمام:
٣٩٨٠ - وثناياك إنها إغريضُ .......................
إنْ أُرِيد بالكتابِ القرآنُ، وإنْ أُريد به جنسُ الكتبِ المنزَّلةِ غيرِ القرآنِ لم يكنْ مِنْ ذلك. والضميرُ في «جَعَلْناه» على الأولِ يعودُ على الكتاب. وعلى الثاني للقرآنِ، وإنْ لم يُصَرَّحْ بذِكْرِه. والجَعْلُ هنا تصييرٌ. ولا يُلْتَفَتُ لخطأ الزمخشريِّ في تجويزه أَنْ يكونَ بمعنى: خَلَقْناه.
قوله: ﴿في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا﴾ : يتعلَّقان بما بعدهما. ولا تَمْنَعُ اللامُ من ذلك. ويجوز أَنْ يكونا حالَيْنِ ممَّا بعدهما لأنَّهما كانا وصفَيْن له في الأصل فيتعلَّقان بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ [يكون] «لدينا» متعلِّقاً بما تعلَّق به الجارُّ قبله إذا جَعَلْناه حالاً مِنْ «لَعَلِيٌّ»، وأَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ فيه، وكذا يجوزُ في الجارِّ أَنْ يتعلَّقَ بما تَعَلَّق/ به الظرفُ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ ضميرِه عند مَنْ يُجَوِّزُ تقديمَها على العاملِ المعنويِّ. ويجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ بدلاً من الجارِّ قبلَه، وأَنْ يكونا حالَيْنِ من «الكتاب» أو من «أُمِّ»، ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ أبو البقاء. وقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لأنَّ الخبرَ لَزِمَ أَنْ يكونَ» عَليٌّ «من أجلِ اللامِ». قلت: وهذا يَمْنَعُ أَنْ تقولَ: إن زيداً كاتبٌ لَشاعرٌ؛ لأنه مَنَع أَنْ يكونَ غيرُ المقترنِ بها خبراً.
قوله: ﴿صَفْحاً﴾ : فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛ لأنه يُقال: ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه، بمعنى أعرض عنه، وصَرَف وجهَه عنه. قال:
٣٩٨١ - اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ
والتقديرُ: أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي: أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي: صافِحين. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ، فيكونَ عاملُه
572
محذوفاً، نحو: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] قاله ابنُ عطية. الرابع: أن يكونَ مفعولاً من أجله. الخامس: أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف. قال الزمخشري: «وصَفْحاً على وجهَيْن: إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه، منتصبٍ على أنَّه مفعولٌ له على معنى: أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ به إعراضاً عنكم. وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم: نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجْهِه. وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى: أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً، فينتصبُ على الظرف نحو: ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً. وتَعْضُدُه قراءةُ» صُفْحاً «بالضم». قلت: يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا «صُفْحاً» بضم الصاد. وفيها احتمالان، أحدهما: ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في المفتوحِ ويكونُ ظرفاً. وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد. والثاني: أنه جمعُ صَفُوح نحو: صَبور وصُبُر. فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب. وقَدَّر الزمخشري على عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي: أنُهمِلُكم فَنَضْرِب. وقد عَرَفْتَ ما فيه غيرَ مرةٍ.
573
قوله: «أنْ كُنتم» قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ، وإسرافُهم كان متحققاً، و «إنْ» إنما تدخلُ على غير المتحقِّق، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ. وأجاب الزمخشريُّ: «أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ والتحقيق لثبوتِه، كقول الأجير:» إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي «وهو عالمٌ بذلك، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له». وقيل: المعنى على المجازاةِ والمعنى: أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي: إنكم غيرُ متروكين من الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقولِه: «وقرئ إنْ بكسرِها على الشرط، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب». والباقون بالفتحِ على العلَّة أي: لأَنْ كنتم، كقول الشاعر:
٣٩٨٢ - أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ ........................
ومثله:
574
يُرْوَى بالكسر والفتح، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة، وقرأ زيد بن علي «إذ» بذالٍ عوضَ النونِ، وفيها معنى العلَّة.
575
قوله: ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا﴾ :«كم» خبريةٌ مفعولٌ مقدم. و «من نبيّ» تمييزٌ. و «في الأوَّلين» يتعلَّقُ بالإِرسالِ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل نبي.
قوله: ﴿بَطْشاً﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه تمييزٌ ل «أشدَّ». والثاني: أنه حالٌ مِن الفاعل أي: أهلكناهم باطِشين.
قوله: ﴿خَلَقَهُنَّ العزيز﴾ : كرَّرَ الفعلَ للتوكيد؛ إذ لو جاء «العزيزُ» بغير «خَلَقَهُنَّ» لكان كافياً، كقولِك مَنْ قام؟ فيقال: زيد. وفيها دليلٌ على أنَّ الجلالةَ الكريمةَ مِنْ قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧] مرفوعةٌ بالفاعلية لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتِها. وهذا الجوابُ مطابقٌ للسؤالِ من حيث المعنى، إذ لو جاء على اللفظِ لجيْءَ/ فيه بجملةٍ ابتدائيةٍ كالسؤال.
قوله: ﴿بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ : قرأه العامَّةُ مخفَّفاً. وعيسى وأبو جعفر مثقلاً. وقد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران. وتقدَّم في الأعراف الخلافُ في تُخْرَجُون وتَخْرُجُون.
قوله: ﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ :«ما» موصولةٌ. وعائدُها محذوفٌ أي: ما تَرْكَبونه. و «ركب» بالنسبة إلى الفُلْك يتعدَّى بحرف الجر ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك﴾ [العنكبوت: ٦٥] وفي غيرِه بنفسه قال: ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ [النحل: ٨] فغلَّبَ هنا المتعديَ بنفسه على المتعدي بواسِطة فلذلك حَذَفَ العائدَ.
قوله: ﴿لِتَسْتَوُواْ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ هذه لامَ العلة وهو الظاهرُ، وأن تكونَ للصيرورة، فتُعَلَّقَ في كليهما ب «جَعَل». وجَوَّز ابنُ عطيةَ أَنْ تكونَ للأمر، وفيه بُعْدٌ لقلَّة دخولها على أمر المخاطب. قُرِئ شاذاً «فَلْتَفْرحوا» وفي الحديث: «لِتَأْخُذوا مصافَّكم» وقال:
٣٩٨٣ - أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا ...............................
٣٩٨٤ - لِتَقُمْ أنت يا بنَ خيرِ قُرَيْشٍ فَتُقَضَّى حوائجُ المُسْلمينا
نصَّ النحويون على قلِتَّها، ما عدا أبا القاسِم الزجاجيَّ فإنه جَعَلها لغةً جيدة.
قوله: «على ظُهورِه» الضميرُ يعودُ على لفظِ «ما تَرْكَبون»، فَجَمَعَ الظهورَ باعتبارِ معناها، وأفرد الضميرَ باعتبار لفظِها.
576
قوله: «له مُقْرِنين» «له» متعلق ب «مُقْرِنين» قُدِّمَ للفواصل. والمُقْرِنُ: المُطيق للشيء الضابطُ له، مِنْ أَقْرنه أي: أطاقه. والقَرَن الحَبْلُ. قال ابن هَرْمة:
٣٩٨٥ - وأَقْرَنْتُ ما حَمَّلْتِني ولَقَلَّما يُطاق احتمالُ الصَّدِّ يا دعدُ والهَجْرِ
وقال عمرو بن معد يكرب:
٣٩٨٦ - لقد عَلِمَ القبائلُ ما عُقَيْلٌ لنا في النائباتِ بمُقْرِنينا
وحقيقة أَقْرَنَه: وجده قَرينَه، لأنَّ الصعب لا يكون قرينَةَ الضعيفِ. قال:
٣٩٨٧ - وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ
وقُرِئ «مُقْتَرنين» بالتاء قبل الراء.
577
قوله: ﴿جُزْءًا﴾ : مفعولٌ أولُ للجَعْل، والجَعْلُ تصييرٌ قوليٌّ. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى: سَمَّوا واعتقدوا. وأغربُ ما قيل هنا أنَّ الجُزْء الأنثى. وأنشَدوا:
577
٣٩٨٨ - إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبٌ قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أحياناً
وقال آخر:
٣٩٨٩ - زُوِّجْتُها مِنْ بنات الأَوْسِ مُجْزِئَةً ...................
قال الزمخشري: «وأثرُ الصنعةِ فيهما ظاهرٌ».
578
قوله: ﴿وَأَصْفَاكُم﴾ : يجوزُ أَنْ يكون داخلاً في حَيِّزِ الإِنكار معطوفاً على اتَّخذ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: أم اتَّخذ في هذه الحالةِ و «قد» مقدرةٌ عند الجمهور. وقد تقدَّم نظيرُ:
قَوْلِه: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم﴾. وقرئ هنا «وجهُه مُسْوَدٌّ» برفع «مُسْوَدٌّ» على أنها جملةٌ في موضعِ خبرِ «ظَلَّ». واسمُ «ظَلَّ» ضميرُ الشأن.
قوله: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ﴾ : يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي: أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية. والثاني: أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ، تقديره: أو من يُنَشَّأ جزءٌ
578
أو ولدٌ؛ إذ جعلوه لله جزءاً. وقرأ العامَّةُ «يَنْشَأ» بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ في كذا يَنْشأ فيه. والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً للمفعولِ أي: يُرَبَّى. وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ، أَخَذَه مِنْ أنشأه. والحسن «يُناشَأُ» ك يُقاتَل مبنياً للمفعول. والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء.
قوله: ﴿وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ﴾ الجملةُ حال. و «في الخصام» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده. تقديره: وهو لا يَبين في الخصام. ويجوز أَنْ يتعلَّق ب «مُبين» وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن «غيرَ» بمعنى «لا». وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه وما في المسألةِ من الخلاف.
579
قوله: ﴿عِبَادُ الرحمن﴾ : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» ظرفاً. والباقون «عبادَ» جمع عَبْد، والرسمُ يحتملهما. وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه نصبَ «عبادَ» على إضمارِ فعلٍ: الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه. وقرأ عبدُ الله وكذلك هي في مصحفه «الملائكةَ عبادَ الرحمن». وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/ بالإِفراد. و «إناثاً» هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير القولي. وقرأ زيدُ بنُ علي «أُنُثا» جمعَ الجمع.
579
قوله: «أشَهِدُوا» قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها وبين الواو وسكونِ الشينِ. وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين والقصرِ، يعني بعدمِ الألف. والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة. فنافع أدخل همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [فعلاً] رباعياً مبنيَّاً للمفعول، فسَهَّلَ همزتَه الثانيةَ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما، وتارة لم يُدْخِلْها، اكتفاءً بتسهيل الثانية، وهي أوجهُ. والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على «شهدوا» ثلاثياً، والشهادةُ هنا الحضورُ. ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ بل نَقَله عن علي بن أبي طالب.
وقرأ الزهريُّ «أُشْهِدُوا» رباعياً مبنياً للمفعول. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى، كما تقدَّم في قراءةِ «أعجميٌّ». والثاني: أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل «إناثاً» أي: أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟
قوله: «سَتُكْتَبُ شهادتُهم» قرأ العامَّةُ «سَتُكْتَبُ» بالتاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول، «شهادتُهم» بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل. وقرأ الحسن «شهاداتُهم» بالجمع، والزهري: «سَيَكتب» بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي كالعامَّة. وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ «سنكتبُ» بالنون للعظمة، «شهادتَهم» بالنصب مفعولاً به.
580
قوله: ﴿على أُمَّةٍ﴾ : العامَّةُ على ضم الهمزة، بمعنى الطريقة والدين. قال قيس بن الخطيم:
٣٩٩٠ - كُنَّا على أمةِ آبائِنا ويَقْتدي بالأولِ الآخِرُ
أي: على طريقتهم. وقال آخر:
٣٩٩١ - وهل يَسْتوي ذو أُمَّةٍ وكَفورُ .......................
أي: ذو دين. وقرأ مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز بالكسر قال الجوهري: «هي الطريقةُ الحسنةُ لغةً في أُمَّة بالضم». وابن عباس بالفتح، وهي المَرَّةُ من الأَمّ، والمرادُ بها القصدُ والحال.
قوله: ﴿قال﴾ : قرأ ابن عامر وحفصٌ «قال» ماضياً مكان «قل» أمراً أي: قال النذير، أو الرسول وهو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. والأمر في «قل» يجوز أَنْ يكونَ للنذير أو للرسول وهو الظاهر. وقرأ أبو جعفر وشيبة «جِئْناكم» بنون المتكلمين.
قوله: ﴿بَرَآءٌ﴾ : العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد
581
الراء. وهو مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى «براء» ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب. والزعفراني وابن المنادي عن نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام. يقال: طَويل وطُوال وبَريء وبُراء. وقرأ الأعمش «إنِّي» بنونٍ واحدة.
582
قوله: ﴿إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾ : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط. والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه.
الثالث: أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ «ما» الموصولة في قولِه: «ممَّا تعبدُون» قاله الزمخشريُّ. ورَدَّه الشيخ: بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه قال: «وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ». قلت: قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى: ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ﴾ [التوبة: ٣٢] ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب، ولكن لَمَّا كان «يأبى» بمعنى: لا يفعلُ، وإنها لكبيرة بمعنى: لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك، فهذا مثلُه.
582
الرابع: أَنْ تكونَ «إلاَّ» صفةً بمعنى «غير» على أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ: «وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ» إلاَّ «بمعنى» غير «لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة» وفيها خلافٌ. فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً و «إلاَّ» بمعنى «غير» صفةً لها.
583
قوله: ﴿وَجَعَلَهَا﴾ : الضميرُ المرفوعُ لإِبراهيمَ عليه السلام - وهو الظاهرُ - أو لله. والمنصوبُ لكلمة التوحيد المفهومةِ مِنْ قولِه: «إنني بَراءٌ» إلى آخره، أو لأنَّها بمنزلةِ الكلمة، فعاد الضمير على ذلك اللفظِ لأجل المَعْنِيِّ به.
وقرئ «في عَقْبِه» بسكون القافِ. وقُرِئ «في عاقِبه» أي: وارِثه. وحميد بن قيس «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام.
والجمهورُ على «مَتَّعْتُ» بتاء المتكلم. وقتادةُ/ والأعمشُ بفتحِها للمخاطبِ، خاطبَ إبراهيمُ أو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ربَّه تعالى بذلك. وبها قرأ نافعٌ في روايةِ يعقوبَ. والأعمشُ أيضاً «بل مَتَّعْنا» بنون العظمة.
قوله: ﴿مِّنَ القريتين﴾ : فيه حَذْفُ مضافٍ فقدَّره بعضُهم: من رَجُلَيْ القريَتَيْن. وقيل: من إحدى القريَتَيْن. والرجلان: الوليد ابن المغيرة وكان بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي، وكان بالطائف. وقيل: كان يتردَّدُ بين القريتين فنُسب إلى كلتيهما. وقُرئ «رَجْل» بسكون العين وهي تميمةٌ.
وقد مضى الكلامُ في «سُخْرِيَّا» في المؤمنين. وقرأ بالكسر هنا عمرو بن ميمون وابن محيصن وأبو رجاء وابن أبي ليلى والوليد بن مسلم وخلائق، بمعنى المشهورة، وهو الاستخدام. ويَبْعُدُ قولُ بعضِهم: إنه استهزاء الغني بالفقير.
قوله: ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ : بدلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ. واللامان للاختصاص. وقال ابنُ عطية: الأُوْلى للمِلْك، والثانية للتخصيص. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ الثاني بدلٌ فيُشترط أَنْ يكونَ الحرفُ متحدَ المعنى لا مختلفَه. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونا بمنزلة اللامَيْن في قولك:» وَهَبْتُ له ثوباً لقميصِه «. قال الشيخ» ولا أدري ما أراد بقولِه هذا «؟ قلت:
584
أراد بذلك أن اللامَيْن للعلة أي: كانت الهِبَةُ لأجلك لأجلِ قميصِك، ف» لقميصك «بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ بعينه، وقد نُقِلَ أنَّ قولَه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ [الأنعام: ٨٤] أنها للعلة.
قوله:»
سُقُفا «قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وسكون القاف بالإِفراد على إرادةِ الجنسِ. والباقون بضمتين على الجمعِ كرُهُن في جمع رَهْن. وفي» رُهُن «تأويلٌ لا يمكنُ هنا: وهو أَنْ يكونَ جَمْعَ» رِهان «جَمْعَ رَهْن؛ لأنه لم يُسْمَعْ سِقاف جمع سَقْف. وعن الفراء أنه جمع سقيفة فيكون كصحيفة وصُحُف. وقُرئ» سَقَفاً «بفتحتين لغةً في سَقْف، وسُقوفاً بزنة فَلْس وفُلوس. وأبو رجاء بضمة وسكون.
و»
مِنْ فِضَّة «يجوز أن يتعلَّق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف صفة لسُقُف. وقرأ العامَّة» معارِجَ «جمع مَعْرَج وهو السُّلَّم. وطلحة» معاريج «جمع مِعْراج، وهذا كمفاتِح لمَفْتَح، ومفاتيح لمفتاح.
585
قوله: ﴿وَسُرُراً﴾ : جمع سَرير. والعامَّةُ على ضم الراء. وقُرئ بفتحها وهي لغةُ بعض تميم وكلب. وقد تقدَّم أنَّ فعيلاً المضعَّفَ تفتحُ عينُه إذا كان اسماً أو صفةً نحو: ثوب جَديد وثياب جُدَد، وفيه كلامٌ للنحاة. وهل قوله: «مِنْ فضة» شاملٌ للمعارج والأبواب والسُّرُر؟ فقال
585
الزمخشري: نعم، كأنه يرى تشريكَ المعطوف مع المعطوف عليه في قيودِه. و «عليها يَتَّكئون» و «عليها يَظْهَرون» صفتان لِما قَبْلَهما.
586
قوله: ﴿وَزُخْرُفاً﴾ : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي: وجَعَلْنا لهم زخرفا. وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ «مِنْ فضة» كأنه قيل: سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي: بعضُها كذا، وبعضها كذا.
وقد تقدَّم الخلافُ في «لَمَّا» تخفيفاً وتشديداً في سورة هود، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوةَ «لِما» بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على «ما» الموصولة وحُذِفَ عائدُها، وإنْ لم تَطُل الصلةُ. والأصل: الذي هو متاعٌ كقولِه: ﴿تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] برفع النون. و «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلة، و «كل» مبتدأ، والجارُّ بعده خبرُه أي: وإن كل ما تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة لعدم إعمالِها، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما حَذَفها الشاعرُ في قوله:
قوله: ﴿وَمَن يَعْشُ﴾ : العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي: يتعامى ويتجاهل. وقتادة ويحيى بن سلام «يَعْشَ» بفتحها
586
بمعنى يَعْمَ. وزيد بن علي «يَعْشو» بإثبات الواو. قال الزمخشري: «على أنّ» مَنْ «موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع». قال الشيخ: «ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين: إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة، وقد حكاها الأخفش لغةً، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب» مَنْ «الموصولة تشبيهاً لها ب» مَنْ «الشرطيةِ». قال: «وإذا كانوا قد جَزَموا ب» الذي «، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ. وأنشد:
٣٩٩٢ - أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ
٣٩٩٣ - ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ
كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ
قال:» وهو مذهبُ الكوفيين، وله وَجْهٌ من القياسِ: وهو أنَّ «الذي» أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً. إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه، وهذا لا ينقاسُ «.
ويقال: عَشا يَعْشُو، وعَشِي يَعْشَى. فبعضُهم جعلهما بمعنىً، وبعضُهم فَرَّقَ: بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي: تفاعَل ذلك. ونَظَرَ نَظَرَ
587
العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه، كما قالوا: عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان. قال الشاعر:
٣٩٩٤ - أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ
أي: أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي. وقال آخر:
٣٩٩٥ - متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ
أي: تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ. وفَرَّق بعضُهم: بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل: وقال الفراء:» عَشا يَعْشى يُعْرِض، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ «. إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال:» لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء: أَعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ «.
وقرأ العامَّةُ»
نُقَيِّضْ «بنونِ العظمةِ. وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما» يُقَيِّضْ «بالياء من تحت
588
أي: يُقَيِّض الرحمنُ. و» شيطاناً «نصبٌ في القراءتين. وابن عباس» يُقَيَّضْ «مبنياً للمفعول،» شيطانٌ «بالرفع، قائمٌ مقامَ الفاعلِ.
589
قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ : الظاهرُ أنَّ ضميرَيْ النصبِ عائدان على «مَنْ» مِنْ حيث معناها، راعى لفظَها أولاً فأفردَ في «له» و «له»، ثم راعى معناها، فجَمع في قولِه: «وإنَّهم ليَصُدُّوْنَهم». والضميرُ المرفوعُ على الشيطان؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ، ولأنَّ كلَّ كافرٍ معه قَرِيْنٌ. وقال ابن عطية: «إنَّ الضميرَ الأولَ للشياطين، والثاني للكفار. التقدير: وإنَّ الشياطين ليَصُدُّوْنَ الكفارَ العابثين».
قوله: ﴿إِذَا جَآءَنَا﴾ : قرأ أبو عمروٍ والأخوان وحفصٌ «جاءنا» بإسنادِ الفعلِ إلى ضميرٍ مفردٍ يعودُ على لفظ «مَنْ» وهو العاشي، وحينئذٍ يكونُ هذا ممَّا حُمِل فيه على اللفظ ثم على المعنى، ثم على اللفظ، فإنَّه حُمِلَ أولاً على لفظِها في قوله: «نُقَيِّضْ له» «فهو له»، ثم جُمِع على معناها في قوله: «وإنَّهم ليَصُدُّونهم» و «يَحْسَبون أنهم»، ثم رَجَعَ إلى لفظِها في قوله: «جاءنا»، والباقون «جاءانا» مُسْنداً إلى ضميرِ تثنيةٍ، وهما العاشي وقَرينُه.
قوله: «بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ» قيل: أراد المشرقَ والمغربَ، فغلَّبَ كالعُمَرَيْن والقَمَرَيْن. وقيل: أراد بمَشْرِقَيْ الشمسِ مَشْرِقَها في أقصرِ يومٍ ومَشْرِقَها في أطولِ يومٍ. وقيل: بُعْدَ المَشْرِقَيْن من المَغْرِبَيْن.
589
قوله: «فبِئْسَ القَرينُ» مخصوصُه محذوفٌ أي: أنت.
590
قوله: ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ﴾ : في فاعلِه قولان، أحدهما: أنه ملفوظٌ به، وهو «أنَّكم» وما في حَيِّزِها. التقدير: ولن يَنْفَعَكم اشتراكُكم في العذاب بالتأسِّي، كما يَنْفَعُ الاشتراكُ في مصائب الدنيا فيتأسَّى المُصاب بمثلِه. ومنه قولُ الخنساء:
٣٩٩٦ - ولولا كَثْرَةُ الباكِيْنَ حَوْلي على إخوانِهم لقَتَلْتُ نَفْسي
وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكنْ أُعَزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي
والثاني: أنّه مضمرٌ. فقدَّره بعضُهم ضميرَ التمنِّي المدلولَ عليه بقوله: ﴿ياليت بَيْنِي﴾ أي: لن يَنْفَعكم تَمَنِّيْكم البُعْدَ. وبعضُهم: لن ينفَعَكم اجتماعُكم. وبعضُهم: ظُلْمُكم وجَحْدُكم. وعبارةُ مَنْ عَبَّر بأنَّ الفاعلَ محذوفٌ مقصودُه الإِضمارُ المذكورُ لا الحذفُ؛ إذ الفاعلُ لا يُحْذَفُ إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها، وعلى هذا الوجهِ يكونُ قوله: «أنَّكم» تعليلاً أي: لأنَّكم، فحذفَ الخافضَ فجرى في مَحَلِّها الخلافُ: أهو نصبٌ أم جرٌّ؟ ويؤيِّد إضمارَ الفاعلِ، لا أنَّه هو «أنَّكم»، قراءةُ «إنكم» بالكسرِ فإنَّه/ استئنافٌ مفيدٌ للتعليلِ.
قوله: «إذْ ظَلَمْتُمْ» قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ. ووجهُه: أنَّ قولَه «
590
اليومَ» ظرفٌ حالِيٌّ، و «إذ» ظرفٌ ماضٍ، و «يَنْفَعَكم» مستقبلٌ؛ لاقترانِه ب «لن» التي لنفي المستقبلِ. والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ. فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك. قال تعالى: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآن﴾ [الجن: ٩] وقال الشاعر:
٣٩٩٧ -......................... سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها
وهو إقناعيٌّ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً. وأمَّا قولُه: «إذ» ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ. قال ابن جني: «راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه: أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه، ف» إذ «بدلٌ من» اليوم «حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال:» وإذْ بدلٌ من اليوم «وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى: إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين. ونظيرُه:
591
٣٩٩٨ - إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ .......................
أي: تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ». وقال الشيخ: «ولا يجوزُ البدلُ ما دامت» إذ «على موضوعِها من المُضِيِّ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز». قلت: لم يُعْهَدْ في «إذ» أنها تكونُ لمطلقِ الزمان، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: بعد إذ ظَلَمْتُمْ.
الثالث: أنها للتعليلِ. وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام. الرابعُ: أنَّ العاملَ في «إذ» هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه. والتقدير: ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم. الخامس: أنَّ العاملَ في «إذ» ما دَلَّ عليه المعنى. كأنه قال: ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ. قاله الحوفي، ثم قال: «وفاعلُ» يَنْفَعَكم «الاشتراكُ» انتهى. فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ. ومنع أَنْ تكونَ «إذ» بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة. وفي كتاب أبي البقاء «وقيل: إذْ بمعنى» أَنْ «أي: أَنْ ظَلَمْتُم». ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر، ولكن قال الشيخ: «وقيل: إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى» أَنْ «يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه» أنْ «للتعليل مجازٌ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي: لأَنْ، فلمصاحبتِها لها، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها
592
باسمِها. ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ.
وقُرِئ» إنكم «بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ. وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة.
593
قوله: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ﴾ : قد تقدَّم الكلامُ عليه قريباً.
وقُرئ «نُرِيَنْكَ» : بالنونِ الخفيفة. والعامَّةُ على ﴿أُوحِيَ﴾ [الزخرف: ٤٣] مبنيًّا للمفعولِ مفتوحَ الياء، وبعضُ قرَّاء الشام سَكَّنها تخفيفاً. والضحاك «أَوْحَى» مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى.
والعامَّةُ على ﴿ أُوحِيَ ﴾ [ الزخرف : ٤٣ ] مبنيًّا للمفعولِ مفتوحَ الياء، وبعضُ قرَّاء الشام سَكَّنها تخفيفاً. والضحاك " أَوْحَى " مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى.
قوله: ﴿مَنْ أَرْسَلْنَا﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّ «مَنْ» موصولة، وهي مفعولةٌ للسؤالِ. كأنه قيل: واسأل الذي أرْسَلْناه مِنْ قَبْلِك عَمَّا أُرْسِلوا به، فإنَّهم لم يُرْسَلوا إلاَّ بالتوحيد. الثاني: أنَّه على حَذْفِ حَرْفِ الجرِّ على أنه المسؤولُ عنه. والمسؤولُ الذي هو المفعولُ الأولُ محذوفٌ، تقديرُه: واسْأَلْنا عن مَنْ أَرْسَلْناه. الثالث: أنَّ «مَنْ» استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء، و «أَرْسَلَ» خبرُه. والجملةُ مُعَلِّقَةٌ للسؤالِ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ، وهذا ليس بظاهرٍ، بل الظاهرُ أنَّ المُعَلِّقَ للسؤال إنما هو الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه «أَجَعَلْنا».
قوله: ﴿إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف جازَ أَنْ تُجاب» لَمَّا «ب» إذا «المفاجأة؟ قلت: لأنَّ فِعْلَ المفاجأةِ معها مقدَّرٌ، وهو عاملُ النصبِ في مَحَلِّها، كأنه قيل: فلمَّا جاءهم بآياتنا فاجَؤُوا وقتَ ضَحِكهم». قال الشيخ: «ولا نعلَمُ نحوَ ما ذهب إلى ما ذَهَب إليه مِنْ أنَّ» إذا «الفجائيةَ تكونُ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ تقديره: فاجأ، بل المذاهبُ ثلاثةٌ: إمَّا حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ، أو ظرفُ مكانٍ، أو ظرفُ زمانِ. فإنْ ذُكِرَ بعد الاسمِ الواقع بعدها خبرٌ كانت منصوبةً على الظرفِ، والعاملُ فيها ذلك الخبرُ نحوَ:» خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ «تقديره: خرجتُ ففي المكان الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ، أو ففي الوقتِ الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ، وإنْ لم يُذْكَرْ بعد الاسمِ خبرٌ، أو/ ذُكِرَ اسمٌ منصوبٌ على الحالِ: فإنْ كان الاسمُ جثةً وقُلنا: إنها ظرفُ مكانٍ كان الأمرُ واضحاً نحو: خرجْتُ فإذا الأسدُ أي: فبالحضرةِ الأسدُ، أو فإذا الأسدُ رابضاً. وإنْ قلنا: إنها ظرفُ زمانٍ كان على حذفِ مضافٍ لئلا يُخْبَرَ بالزمانِ عن الجثةِ نحو:» خَرَجْتُ فإذا الأسدُ «أي: ففي الزمانِ حضورُ الأسدِ، وإن كان الاسمُ حَدَثاً جازَ أن يكونَ مكاناً أو زماناً. ولا حاجةَ إلى تقديرِ مضافٍ نحو:» خرجْتُ فإذا القتالُ «إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ فبالحضرة القتالُ، أو ففي الزمانِ القتالُ». وفيه تلخيصٌ وزيادةٌ كبيرةٌ في الأمثلةِ رأيْتُ تَرْكَها مُخِلاًّ.
قوله: ﴿إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ﴾ : جملةٌ واقعةٌ صفةً لقولِه: «مِنْ آية» فيُحْكَمُ على موضِعها بالجَرِّ اعتباراً باللفظِ، وبالنصبِ اعتباراً بالمحلِّ،
594
وفي معنى قولِه: ﴿أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ أوجهٌ، أحدها: - قاله ابنُ عطية - وهو أنهم يَسْتَعْظِمون الآيةَ التي تأتي، لجِدَّةِ أَمْرِها وحُدوثِه؛ لأنهم أَنِسُوا بتلك الآيةِ السابقةِ فيَعْظُم أَمْرُ الثانيةِ ويَكْبرُ، وهذا كما قال:
٣٩٩٩ - على أنَّها تَعْفُو الكُلُوم، وإنما نُوَكَّلُ بالأَدْنى وإنْ جَلَّ ما يَمْضي
الثاني: ما ذكرَه بعضُهم: مِنْ أنَّ المعنى: إلاَّ هي أكبرُ من أختها السابقةِ، فحذَفَ الصفةَ للعِلْمِ بها. الثالث: قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هو كلامٌ متناقضٌ؛ لأنَّ معناه: ما مِنْ آيةٍ من التسعِ إلاَّ وهي أكبرُ مِنْ كلِّ واحدةٍ منها، فتكونُ كلُّ واحدةٍ منها فاضلةً ومفضولةً في حالةٍ واحدة. قلت: الغرضُ بهذا الكلامِ وَصْفُهُنَّ بالكبرِ لا يَكَدْنَ يتفاوَتْنَ فيه، وكذلك العادةُ في الأشياء التي تتقارَبُ في الفضلِ التقاربَ اليسيرَ، تختلفُ آراءُ الناس في تفضيلِها، فبعضُهم يفضِّل هذا، وبعضُهم يفضِّل هذا، وربما اختلفَتْ آراءُ الواحدِ فيها، كقول الحماسيِّ:
595
٤٠٠٠ - مَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ مثلَ النجومِ التي يَهْدِي بها السَّاري
وقالت الأنمارية في الجُمْلة من أبنائها: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كنتُ أعلمُ أيُّهم أفضلُ، هم كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لا يُدْرى أين طرفاها» انتهى كلامُه. وأولُه فظيعٌ جداً كأن العباراتِ ضاقَتْ عليه حتى قال ما قال، وإنْ كان جوابُه حَسَناً فسؤالُه فظيعٌ. وقد تقدَّم الخلافُ في ﴿ياأيها الساحر﴾ في النور.
596
وقرأ أبو حيوةَ «يَنْكِثُوْن» بكسرِ الكافِ. وهي لغةٌ.
قوله: ﴿وهذه الأنهار﴾ : يجوزُ في «وهذه» وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ مبتدأةً، والواوُ للحالِ. والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ، أو عطفُ بيانٍ. و «تجري» الخبرُ. والجملةُ حالٌ مِنْ ياء «لي». والثاني: أنَّ «هذه» معطوفةٌ على «مُلْك مِصْرَ»، و «تَجْري» على هذا حالٌ أي: أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي: الشيئان.
قوله: «تُبْصِرونَ» العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه. وقرأ عيسى بكسر النون أي: تُبْصِروني. وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي: تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي. وقرأ فهد بن الصقر «يُبْصِرون» بياء الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى.
قوله: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ﴾ : في «أم» أقوالٌ، أحدها: أنها منقطعةٌ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال، وبالهمزة التي للإِنكار. والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله:
٤٠٠١ - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ
أي: بل أنتِ. الثالث: أنها منقطعةٌ لفظاً، متصلةٌ معنىً. قال أبو البقاء: «أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى: أنا خيرٌ منه أم لا، وأيُّنا خيرٌ» وهذه عبارةٌ غريبةٌ: أن تكونَ منقطعةً لفظاً، متصلةً معنى، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً: إمَّا إبطالاً، وإمّا انتقالاً. الرابع: أنها متصلةٌ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره: أم تُبْصِرون. وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت «لا» بعد أم نحو: أتقومُ أم لا؟ أي: أم لا تقوم. وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي: أم لا هو عندك. أمَّا حَذْفُه دون «لا» فلا يجوزُ، وقد جاء حَذْفُ «أم» مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً. قال الشاعر:
٤٠٠٢ - دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي: أم غَيٌّ. وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي «أم»
597
المعادِلَةُ أي: أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى. قال: «وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال:» أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى: أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه: «أنا خيرٌ» موضعَ «تُبْصِرون» ؛ لأنهم إذا قالوا: أنت خيرٌ، فهم عنده بُصَراءُ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب «. قال الشيخ:» وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ. فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ، كقوله: ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣] لأنَّ معناه: أم صَمَتُّم، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ﴾ ليس مقابلاً لقولِه: «أفلا تُبْصِرون». وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه:
٤٠٠٣ - أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ... ف «أتمَّت» معادِلٌ للاسم، فالتقديرُ: أم مُتِمًّا «قلت: وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به، وكذا قولُه أيضاً: إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد» أم «إلاَّ وبعدها» لا «فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون» لا «فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً.
598
[قوله: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً]. والعامَّة على» يُبين «مِنْ أبان، والباقر» يَبين «بفتحِها مِنْ بان أي: ظهر.
599
قوله: ﴿أَسْوِرَةٌ﴾ : قرأ حفص «أَسْوِرَة» كأَحْمِرَة. والباقون «أساوِرَة». فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة، وهو جمعُ قلةٍ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار. يقال: سِوارُ المرأة وإسْوارُها، والأصل: أساوير بالياء، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة. وقيل: بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ. وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - «أساوِر» دونَ تاءٍ. ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير. وقرأ الضحاك «أَلْقَى» مبنياً للفاعلِ أي الله. و «وأساوِرة» نصباً على المفعولية. و «مِنْ ذَهَبٍ» صفةٌ ل أَساورة. ويجوزُ أَنْ تكون «مِنْ» الداخلةَ على التمييز.
قوله: ﴿آسَفُونَا﴾ : منقولٌ بهمزةِ التعديةِ مِنْ أسِفَ بمعنى غَضِبَ، والمعنى: أَغْضَبونا بمخالَفَتِهم أمرَنا. وفي التفسيرِ: أحزنوا أولياءَنا يعني السَّحَرةَ.
قوله: ﴿سَلَفاً﴾ : قرأ الأخَوان بضمتين، والباقون
599
بفتحتين. فأمَّا الأُولى فتحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أنها جمعُ سَليف كرَغيف ورُغُف. وسمع القاسمُ بنُ مَعَن من العرب: «مضى سَليفٌ من الناس». والسَّليفُ من الناس كالفريقِ منهم. والثاني: أنها جمعُ سالِف كصابِر وصُبُر. والثالث: أنها جمعُ سَلَف كأَسَد وأُسُد. والثانية تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ جمعاً لسالِف كحارس وحَرَس، وخادِم وخَدَم. وهذا في الحقيقة اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ إذ ليس في أبنيةِ التكسير صيغةُ فَعَل. والثاني: أنه مصدرٌ يُطْلق على الجماعة تقول: سَلَفَ الرجلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي: تقدَّم. وسلَفُ الرجلِ آباؤه المتقدِّمون، والجمع أَسْلافٌ وسُلاف. وقال طفيل:
٤٠٠٤ - مَضَوْا سَلَفاً قَصْدُ السَّبيلِ عليهمُ صُروفُ المنايا بالرجالِ تَقَلَّبُ
وقرأ عليٌّ كَرَّم اللَّهُ وجهَه ومجاهد «سُلَفاً» بضم السين وفتح اللام. وفيها وجهان، أشهرُهما: أنه جمعُ سُلْفَة كغُرْفَة وغُرَف، والسُّلْفَةُ الأمة. وقيل: الأصل «سُلُفاً» بضمتين، وإنما أَبْدل من الضمة فتحةً.
600
قوله: ﴿مَثَلاً﴾ : إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كانت بمعنى صَيَّر، وإلاَّ حالاً.
قوله: «يَصِدُّون» قرأ نافع وابن عامر والكسائي «يَصُدُّون» بضمِ الصادِ. والباقون بكسرِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو الصحيحُ، واللفظُ يُقال: صَدَّ يَصِدُّ ويَصُدُّ كعَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ، ويَعْرُشُ ويَعْرِشُ. وقيل: الضمُّ
600
مِن الصُّدود، وهو الإِعراضُ. وقد أنكر ابنُ عباسٍ الضمَّ، وقد رُوِي له عن علي رضي الله عنهما - والله أعلم - قبل بلوغِه تواتُرُه.
601
قوله: ﴿وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ﴾ : قرأ أهلُ الكوفة بتحقيق الهمزةِ الثانيةِ، والباقون بتسهيلِها بينَ بينَ، ولم يُدْخِلْ أحدٌ مِنْ القرَّاء الذين مِنْ قاعدتِهم الفصلُ بين الهمزتين بألفٍ، ألفاً، كراهةً لتوالي أربعةِ مُتشابهات، وأَبْدل الجميعُ الهمزةَ الثالثة ألفاً. ولا بُدَّ/ مِنْ زيادةِ بيان: وذلك أن «آلِهة» جمعُ إله كعِماد وأَعْمِدَة، فالأصلُ أَأْلِهَة بهمزتين: الأولى زائدةٌ، والثانيةُ فاء الكلمة وقعتِ الثانيةُ ساكنةً بعد مفتوحةٍ وَجَبَ قلْبُها ألفاً كأَمِن وبابِه، ثم دَخَلَتْ همزةُ الاستفهامُ على الكلمةِ، فالتقى همزتان في اللفظ: الأولى للاستفهامِ والثانيةُ همزةُ أَفْعِلة. والكوفيون لم يَعْتَدُّوا باجتماعِهما فأبْقَوْهما على حالِهما. وغيرُهم استثقَل فخفَّفَ الثانيةَ بالتسهيلِ بينَ بينَ، والثالثةُ بألفٍ محضةٍ لم تُغَيَّرْ البتةَ. وأكثرُ أهلِ العصرِ يُقرُّونَ هذا الحرفَ بهمزةٍ واحدة بعدها ألفٌ على لفظِ الخبرِ ولم يقرأْ به أحدٌ من السبعة فيما قَرَأْتُ به، إلاَّ أنَّه رُوِي أنَّ وَرْشاً قرأ كذلك في روايةِ أبي الأَزْهر، وهي تحتملُ الاستفهامَ كالعامَّةِ، وإنما حَذَفَ أداةَ الاستفهامِ لدلالة «أم» عليها وهو كثيرٌ، وتَحْتمل أنَّه قرأه خبراً مَحْضاً وحينئذٍ تكون «أم» منقطعةً فتُقَدَّرُ ب بل والهمزة.
601
وأمَّا الجماعةُ فهي عندهم متصلةٌ. فقوله: «أم هو» على قراءةِ العامة عطفٌ على «آلهتنا» وهو من عطفِ المفرداتِ. التقدير: أآلهتُنا أم هو خيرٌ أي: أيُّهما خيرٌ. وعلى قراءةِ ورشٍ يكونُ «هو» مبتدأً، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: بل أهو خيرٌ، وليست «أم» حينئذٍ عاطفةً.
قوله: «جَدَلاً» مفعولٌ مِنْ أجله أي: لأجلِ الجدلِ والمِراءِ لا لإِظهارِ الحقِّ. وقيل: هو مصدرٌ في موضعِ الحال أي: إلاَّ مُجادِلين.
وقرأ ابنُ مقسم «جِدالاً» والوجهان جاريان فيه. والظاهر أنَّ «هو» لعيسى كغيره من الضمائر. وقيل: هو للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
602
قوله: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ : في «مِنْ» هذه أقوالٌ، أحدها: أنها بمعنى بَدَل أي: لَجَعَلْنا بَدَلكم. ومنه أيضاً ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨] أي بَدَلَها. وأنشد:
٤٠٠٥ - أخَذُوا المَخاضَ من الفَصيل غُلُبَّةً ظُلْماً ويُكْتَبُ للأمير إفالا
وقال آخر:
٤٠٠٦ - جارِيَةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقَا ولم تَذُقْ من البُقولِ الفُسْتقا
والثاني: - وهو المشهورُ - أنها تبعيضِيَّةٌ. وتأويلُ الآية عندهم: لَوَلَّدْنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفونكم كما يَخْلُفكم أولادُكم، كما وَلَّدْنا
602
عيسى مِنْ أنثى دونَ ذكرٍ، ذكره الزمخشري. والثالث: أنها تبعيضيَّةٌ. قال أبو البقاء: «وقيل: المعنى: لَحَوَّلْنا بعضَكم ملائكةً». وقال ابن عطية: «لَجَعَلْنا بَدَلاً مِنْكم».
603
قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ﴾ : المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى، يعني نزولَه آخر الزمان. وقيل الضميرُ للقرآن أي: فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها، أو هو علامةٌ على قُرْبها. وفيه ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١]. وقيل: للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. ومنه «بُعِثْت أنا والساعةُ كهاتَيْن».
والعامَّةُ على «عِلْم» مصدراً، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ العِلْمُ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم. وابن عباس وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي «لَعَلَمٌ» بفتح الفاءِ والعينِ أي: لَشَرْطُ وعَلامةٌ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك، إلاَّ أنهما عَرَّفا باللام، فقرآ «للعَلَمُ» أي: لَلْعلامَةُ المعروفةُ.
قوله: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ﴾ : مبتدأ، وخبرُه «عَدُوٌّ». والتنوين في «يومئذٍ» عِوَضٌ عن جملة تقديرُه: يومَ إذْ تَأْتيهم الساعةُ. والعامل في «يَوْمئذ» لفظُ «عَدُوٌّ» أي: عداوتُهم في ذلك اليوم.
قوله: ﴿ياعبادي﴾ : قرا أبو بكرٍ عن عاصمٍ «يا عبادِيَ، لا خَوْفٌ» بفتح الياء. والأخوانَ وابن كثير وحفصٌ بحَذْفِها وصلاً ووقفاً. والباقون بإثباتها ساكنةً. وقرأ العامَّة «لا خوفٌ» بالرفع والتنوينِ: إمَّا مبتدأً، وإمَّا اسماً لها، وهو قليلٌ. وابن محيصن دونَ تنوينٍ على حَذْفِ مضافٍ وانتظارِه: لا خوفُ شيءٍ. والحسنُ وابن أبي إسحاق بالفتح على «لا» التبرئةِ، وهي عندهم أَبْلَغُ.
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل «عبادي» أو بدلاً منه، أو عطف بيانٍ له، أو مقطوعاً منصوباً أو مرفوعاً.
قوله: ﴿يُطَافُ﴾ : قبلَه محذوفٌ أي: يَدْخُلونُ يُطاف. والصِّحافُ: جمعُ صَحْفَة كجَفْنَة وجِفان. قال الجوهري: «الصَّحْفَةُ كالقَصْعَةِ. وقال الكسائيُّ: أعظمُ القَصاعِ الجَفْنةُ، ثم القَصْعَةُ تُشْبِع العَشَرة، ثم الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الخمسةَ، ثم المِئْكَلَة تُشْبِعُ/ الرجلين والثلاثة». والصَّحيفة: الكتابُ، والجمعُ: صُحُف وصَحَائف. وأمال الكسائيُّ في
604
روايةٍ «بِصحاف». والأَكْواب جمعٌ. فقيل: هو كالإِبْريق إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له. وقيل: إلاَّ أنه لا خُرْطومَ له. وقيل: إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له ولا خُرْطومَ معاً. قال الجواليقي: «ليتمكَّنَ الشاربُ مِنْ أين شاءَ، فإنَّ العُرْوَةَ تمنعُ من ذلك».
وقال عَدِيّ:
٤٠٠٧ - مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبْوابُه يَسْعَى عليه العبدُ بالكُوبِ
والتقدير: وأكواب مِنْ ذَهَب أو لم يُرِدْ تَقْييدَها.
قوله: ﴿مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس﴾ قرأ نافعٌ وابن عامرٍ وحفصٍ «تَشْتهيه» بإثباتِ العائدِ على الموصول كقوله: ﴿الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان﴾ [البقرة: ٢٧٥] والباقون بحَذْفِه كقوله: ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١] وهذه القراءةُ شبيهةٌ بقوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ [يس: ٣٥] وتقدَّم ذلك في يس،
وهذه الهاءُ في هذه السورةِ رُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام، وحُذِفَتْ مِنْ غيرِها. وقد وقع لأبي عبد الله الفاسيِّ شارحِ القصيدِ وَهَمٌ فسَبَقَ قلمُه فكتب: «والهاءُ منه محذوفةٌ في مصاحفِ المدينةِ والشامِ ثابتةٌ في
605
غيرِهما». أراد أن يكتبَ «ثابتةٌ في مصاحف المدينة والشام محذوفةٌ من غيرِهما» فعكَسَ. وفي مصحفِ عبد الله ﴿تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين﴾ بالهاء فيهما.
606
قوله: ﴿مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ :«مِنْ» تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ، وقُدِّم الجارُّ لأجلِ الفاصلةِ.
قوله: ﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ : جملةٌ حاليةٌ، وكذلك ﴿وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ : وقرأ عبد الله «وهُمْ فيها» أي: في النار لدلالةِ العذاب عليها.
قوله: ﴿ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين﴾ : العامَّةُ على الياء خبراً ل «كان»، و «هم» إمَّا فَصْلٌ وإمَّا توكيدٌ. وقرأ عبد الله وأبو زيدٍ النحويان «الظالمون» على أنَّ «هو» مبتدأٌ. و «الظالمون» خبرُه. والجملةُ خبر كان، وهي لغةُ تميم. قال أبو زيد: «سَمِعْتُهم يَقْرؤون» تَجِدُوْه عند الله هو خيرٌ وأعظمُ أجراً «بالرفعِ. وقال قيس بن ذُرَيح:
٤٠٠٨ - تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تَرَكْتَها وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أقدرُ
برفع»
أقدرُ «و» أنت «فصلٌ أو توكيدٌ. قال سيبويه:» بَلَغَنا أنَّ رؤبةَ كان يقولُ: أظنُّ زيداً هو خيرٌ منك «يعني بالرفع.
قوله: ﴿يامالك﴾ : العامَّةُ مِنْ غير ترخيمٍ. وعلي بن أبي طالب وعبدُ الله وابنُ وثَّاب والأعمش «يا مالِ» مرخماً على لغة مَنْ ينتظر. وأبو السِّوار الغَنَويُّ «يا مالُ» مبنياً على الضم على لغةِ مَنْ لا يَنْوي.
قوله: ﴿أَمْ أبرموا﴾ : أم منقطعةٌ. والإِبرام: الإِتقانُ، وأصلُه في الفَتْلِ. يقال: أَبْرَمَ الحَبْلَ أي: أتقن فَتْلَه، وهو الفَتْلُ الثاني، والأولُ يُقال له: سَحِيل. قال زهير:
قوله: ﴿إِن كَانَ للرحمن﴾ : قيل: هي شرطيةٌ على بابِها. واخْتُلِفَ في تأويلِه فقيل: إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ البتةَ بالدليلِ القاطعِ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ، وهي مُحالٌ في نفسِها، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها، ذكره الزمخشريُّ. وقيل: إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم. وقيل: العابدين بمعنى: الآنفين. مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ. ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني «العَبِدين» دون ألفٍ. وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي «العَبْدِيْن» بسكون الباءِ، وهي تخفيفُ قراءةِ
607
السُّلَمي فأصلها الكسرُ. قال ابنُ عرفة: «يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد، وقلَّما يقال: عابِد، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ». قلتُ: يعني فتخريج مَنْ قال: إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق:
٤٠٠٩ - لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدان وُجِدْتُما على كل حالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبرَمِ
٤٠١٠ - أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ
أي: آنَفُ. وقال آخر:
٤٠١١ - متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما
وقال أبو عبيدة: «معناه الجاحِدين». يقال: عَبَدَني حَقِّي أي: جَحَدنيه. وقال أبو حاتم: «العَبِدُ بكسر الباءِ: الشديدُ الغَضَبِ»، وهو معنى حسنٌ أي: إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك.
وقيل: «إنْ» نافيةٌ أي: ما كان، ثم أَخْبَرَ بقولِه: ﴿فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾
608
وتكونُ الفاءُ سببيةً. ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال: «لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ، وهذا مُحالٌ».
وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ، وقالوا: كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] إلى ما لا يُحْصَى، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ: أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ، والقائلُ بذلك يقولُ: ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ. وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ: وَلَد ووُلْد في مريم.
609
قوله: ﴿يُلاَقُواْ﴾ : العامَّةُ من المُلاقاةِ. وابنُ محيصن - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - «يَلْقَوا» مِنْ لَقِيَ.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله﴾ :«في السماء» متعلِّقٌ ب «إله» لأنه بمعنى معبودٌ أي: معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض، وحينئذٍ فيقال: الصلة لا تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه، ولا شيءَ منها هنا. والجوابُ: أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه، وذلك المحذوفُ هو العائدُ تقديرُه: وهو الذي في السماءِ إلهٌ، وهو في الأرض إلهٌ، وإنما/ حُذِف لطولِ الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله. ومثلُه «ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً».
وقال الشيخ: «وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه، كما حَسَّنَ في قولِهم: قائل [
609
لك] شيئاً طولُه بالمعمولِ». قلت: حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين الحَذْفِ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً، و «إله» مبتدأٌ مؤخرٌ لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ، إذ يصيرُ نظيرَ «جاء الذي في الدار زيد». فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ «إله» بدلاً منه. قال أبو البقاء: «جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ لا كونُه في السماء والأرض، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه: ﴿وَفِي الأرض إله﴾ لأنه معطوفٌ على ما قبلَه، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار منقطعاً عنه وكان المعنى: أنَّ في الأرض إلهاً» انتهى. وقال الشيخ: «ويجوزُ أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ، والمعنى: أنه فيهما بألوهِيَّتِه وربُوبِيَّتِه، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار».
وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء الله﴾ ضُمِّن العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ، فيتعلَّقُ به الجارُّ. ومثله «هو حاتمٌ في طَيِّئ» أي: الجوادُ فيهم. ومثلُه: فرعون العذاب.
610
قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ : الأخَوان وابن كثير بالياء مِنْ تحتُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وهو في كلَيْهما مبني للمفعول. وقُرئ بالخطاب مبنياً للفاعل.
610
وقرأ العامَّةُ أيضاً «يَدْعُوْنَ» بياء الغَيْبة والضميرُ للموصل. والسلمي وابنُ وثابٍ بتاء الخطاب، والأسود بن يزيد بتشديد الدالِ، ونُقِل عنه القراءةُ مع ذلك بالتاء والياء.
611
قوله: ﴿إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق﴾ : فيه قولان، أحدهما: أنه متصلٌ والمعنى: إلاَّ مَنْ شهد بالحقِّ كعُزَيْرٍ والملائكةِ، فإنهم يملكون الشفاعةَ بتمليك اللَّهِ إياهم لها. وقيل: هو منقطعٌ بمعنى: أنَّ هؤلاءِ لا يَشْفَعُون إلاَّ فيمَنْ شَهِد بالحقِّ، أي: لكن مَنْ شَهِدَ بالحق يَشْفَعُ فيه هؤلاء، كذا قَدَّروه. وهذا التقديرُ يجوزُ فيه أَنْ يكونَ الاستثناءُ متصلاً على حَذْفِ المفعولِ، تقديرُه: ولا يملكون الذين يَدْعُون مِنْ دونه الشفاعةَ في أحدٍ إلاَّ فيمَنْ شَهِدَ.
وقرأ العامَّة «فأنَّى يُؤْفَكون» بالغَيْبة. ورُوي عن أبي عمروٍ بالخطاب.
قوله: ﴿وَقِيلِهِ﴾ : قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ. والباقون بالنصب. فأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن، أحدهما: أنَّه عطفٌ على «الساعة» أي: عنده عِلْمُ قيلِه، أي: قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام. والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ. والثاني: أنَّ الواوَ
611
للقَسم. والجوابُ: إمَّا محذوفٌ تقديرُه: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد، وإمَّا مذكورٌ وهو قولُه: ﴿إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ ذكره الزمخشريُّ.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ على محلِّ «الساعة». كأنَّه قيل: إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا. الثاني: أنَّه معطوفٌ على «سِرَّهم ونجواهم» أي: لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ قِيْلَه. الثالث: عطفٌ على مفعولِ «يكتُبون» المحذوفِ أي: يكتبون ذلك ويكتبون قيلَه كذا أيضاً. الرابع: أنَّه معطوفٌ على مفعولِ «يعلمون» المحذوفِ أي: يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه. الخامس: أنه مصدرٌ أي: قالَ قيلَه. السادس: أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي: اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. السابع: أَنْ ينتصِبَ على محلِّ «بالحق» أي: شَهِدَ بالحقِّ وبِقيْلِه. الثامن: أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله:
٤٠١٢ -..................... فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ
وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع، وفيه أوجه [أحدها:] الرفعُ عطفاً على «علمُ الساعةِ» بتقديرِ مضافٍ أي: وعنده عِلْمُ قِيْلِه، ثم حُذِفَ وأُقيم هذا مُقامَه. الثاني: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، والجملةُ مِنْ قولِه: «يا رب» إلى آخره هي الخبر. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه: وقيلُه كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ. الرابع: أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم: «ايمُنُ الله» و «لَعَمْرُ الله» فيكونُ خبرُه محذوفاً. والجوابُ كما تقدَّم، ذَكرَه الزمخشري أيضاً.
612
واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ. قال النحاس: «القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن، إحداهما: أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه. والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب». قلت: وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال: «إنما هي في التفسيرِ: أم يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب. ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً في القراءاتِ الثلاثِ، وتقدَّم تحقيقُها.
وقرأ أبو قلابة»
يا رَبَّ «بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه:
٤٠١٣ -....................... بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ.................
والأخفشُ يَطَّرِدُها.
613
قوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ : قرأ نافعٌ وابنُ عامر «تَعْلمون» بالخطاب التفاتاً، والباقون بالغَيْبة نظراً لِما تقدَّم.
Icon